وَقَدْ أجاب أصحاب المذهب الثاني عن هَذَا الْحَدِيْث ، بأنه قَدْ عارضه فعلها ، وأنها فعلت خلاف ما روت ، فَقَالَ الطحاوي : (( ثُمَّ لَوْ ثبت ما رووا من ذَلِكَ عن الزهري ، لكان قَدْ روي عن عَائِشَة – رضي الله عَنْهَا – ما يخالف ذَلِكَ )) ([1]) .
ثُمَّ رَوَى من طريق مالك ، أن عَبْد الرَّحْمَان بن القاسم أخبره ، عن أبيه ، عن عَائِشَة زوج النَّبِيّ أنها زوجت حفصة بنت عَبْد الرَّحْمَان ([2]) ، المنذر بن الزبير ([3]) ، وعبد الرَّحْمَان غائب بالشام .
فلما قدم عَبْد الرَّحْمَان قَالَ : أمثلي يصنع بِهِ هَذَا ، ويفتات([4]) عَلَيْهِ ؟ فَكُلِّمَتْ عَائِشَة عن المنذر ، فَقَالَ المنذر : إن ذَلِكَ بيد عَبْد الرَّحْمَان ، فَقَالَ عَبْد الرَّحْمَان : ما كنت أرد أمراً قضيته ، فقرت حفصة عنده ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طلاقاً )) ([5]) .
فلولا أنها كَانَتْ ترى عدم اشتراط الولي لصحة عقد النكاح، لما فعلته مع ابنة أخيها ، وهذا يدل عَلَى وجود ناسخ أو تأويل لما روته من اشتراطه .
ورد الجُمْهُوْر هَذَا الاستدلال : بأنه لَيْسَ في خبر عَائِشَة هَذَا التصريح بأنها باشرت العقد بنفسها ، فَقَدْ تَكُوْن مهدت لأسبابه ، فإذا جاء العقد أحالته إِلَى الولي بدليل ما روي عن عَبْد الرَّحْمَان بن القاسم ، قَالَ : (( كنت عِنْدَ عَائِشَة يخطب إليها المرأة من أهلها فتشهد ، فإذا بقيت عقدة النكاح، قالت لبعض أهلها: زَوّج فإن المرأة لا تلي عقد النكاح )) ([6]) .
فإذا علمنا أن مذهبها هَذَا الَّذِي رَوَاهُ عَبْد الرَّحْمَان بن القاسم عَنْهَا ، اتَّضح أن مراد الرَّاوِي بقوله : (( زوجت حفصة )) ، أي : هيأت الأسباب ، فانتفت المخالفة المظنونة ، لما روت عن رَسُوْل الله .
النموذج الثاني :
طهارة الإناء من ولوغ الكلب
اختلف الفقهاء في عدد الغسلات الَّتِي يحصل بِهَا التطهير من ولوغ الكلب عَلَى قولين :
الأول : ذهب جمهور الفقهاء إِلَى أنَّ الإناء يغسل سبع مرات من ولوغ الكلب ، واختلفوا في نجاسة سؤره واشتراط التتريب ، وهل الأمر بالغسل للنجاسة أم هُوَ للتعبد ؟ عَلَى النحو الآتي :
ذهب الشافعية إِلَى أن سؤر الكلب نجس ، ويغسل الإناء سبعاً أولاهن بالتراب ، والأمر بالغسل سبعاً للتعبد([7]).
ذهب مالك إِلَى أن الأمر بإراقة سؤر الكلب وغسل الإناء مِنْهُ ، عبادة غَيْر مدركة العلة ، والماء الَّذِي ولغ فِيْهِ لَيْسَ بنجس، وَلَمْ يرَ إراقة ما سوى الماء في أشهر الروايات عَنْهُ ([8]) .
قَالَ المازري([9]): ((اختلف في غسل الإناء من ولوغ الكلب، هَلْ هُوَ تعبد أو لنجاسته ؟ فعندنا أنَّهُ تعبد، واحتج أصحابنا بتحديد غسله سبع مرات: أنَّهُ لَوْ كَانَتْ العلة النجاسة لكان المطلوب الإنقاء، وَقَدْ يحصل في مرة واحدة))([10]) .
ذهب الحنابلة إِلَى أن سؤر الكلب نجس، ويجب غسل الإناء مِنْهُ سبعاً ، إحداهن بالتراب ، من غَيْر تحديد لمكانها من السبع ([11]) .
قَالَ الظاهرية : سؤر الكلب طاهر ، وغسل الإناء مِنْهُ سبعاً إذا ولغ فِيْهِ فرض ، وما في الإناء من طعام وشراب وماء فَهُوَ طاهر ([12]) .
قَالَ الزيدية : التسبيع في غسل الإناء وتتريبه واجب ، من غَيْر تعيين لغسل التراب ، وهذا الحكم يخالف غسل سائر النجاسات ؛ لحكمة مختصة غَيْر معقولة ([13]) .
الثاني : ذهب الحنفية إِلَى نجاسة الكلب ، وأن الإناء الَّذِي يلغ فِيْهِ يجب غسله مرتين أو ثلاثاً كسائر النجاسات من غَيْر حدٍّ ، وأن الأمر بالغسل للتنجيس لا للتعبد ؛ لأن الجمادات لا يلحقها حكم العبادات ، والزيادة في العدد والتعفير بالتراب دليل عَلَى غلظ النجاسة ([14]) .
وبنحو هَذَا القول : قَالَ الليث بن سعد وسفيان الثوري ؛ إلاَّ أنهما قيدا الغسل بطمأنينة القلب إِلَى زوال النجاسة ، سواء كَانَتْ الغسلات سبعاً أو أقل أو أكثر ([15]) .
وإليه ذهب الإمامية ، فقالوا : يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثاً ، تَكُوْن الثانية مِنْهَا بالتراب ، وإن الكلب نجس ، لا يجوز التطهر بِمَا أفضل ، ويجب إراقته ([16]) .
واستدل القائلون بالمذهب الأول بِمَا صح عن أبي هُرَيْرَةَ ، قال : قَالَ رَسُوْل الله : (( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات )) . وفي رِوَايَة : (( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثُمَّ يغسله سبع مرات )) . وفي رِوَايَة : (( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فِيْهِ الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب )) .
والحديث رَوَاهُ عَبْد الرزاق ([17]) والحميدي ([18]) وأحمد ([19]) والبخاري ([20]) ومسلم ([21]) وأبو داود ([22]) وابن ماجه ([23]) والترمذي ([24]) والنسائي ([25]) وابن خزيمة ([26]) .
واعترض القائلون بالمذهب الثاني عَلَى استدلال الجُمْهُوْر ، بأن أبا هُرَيْرَةَ – راوي الْحَدِيْث – أفتى بخلاف ما رَوَى، وَهُوَ الغسل ثلاثاً، فكان دليلاً عَلَى وجود النسخ ([27]). فروى الطحاوي ([28]) والدارقطني ([29]) من طريق عَبْد الملك بن أبي سليمان العرزمي، عن عطاء ، عن أبي هُرَيْرَةَ – في الإناء يلغ فِيْهِ الكلب أو الهر – قَالَ:(يغسل ثلاث مرات).
وأجاب الجُمْهُوْر عن اعتراضهم : بأن هَذِهِ الرِّوَايَة تفرد بِهَا العرزمي ، ونص الحفاظ عَلَى خطئه فِيْهَا ، ومخالفته للثقات .
إذا رَوَى الدارقطني ([30]) من طريق حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن مُحَمَّد بن سيرين ، عن أبي هُرَيْرَةَ – في الكلب يلغ في الإناء – قَالَ :(( يراق ويغسل سبع مرات )). قَالَ الدارقطني : (( صَحِيْح موقوف )) .
ومما يشد عضد هَذِهِ الرِّوَايَة أنها موافقة للمرفوع ، فظهر بِهَا أن عَبْد الملك بن أبي سليمان العرزمي أخطأ فِيْهَا ، وَقَدْ قَالَ عَنْهُ الإمام أحمد : (( ثقة يخطئ )) ([31]). وَقَالَ الحَافِظ ابن حجر : (( صدوق لَهُ أوهام )) ([32]) .
وَقَدْ رجّح الرِّوَايَة الموافقة للحديث المرفوع البيهقي ، فَقَالَ : (( تفرد بِهِ عَبْد الملك من أصحاب عطاء ، ثُمَّ من أصحاب أبي هُرَيْرَةَ ، والحفاظ الثقات من أصحاب عطاء وأصحاب أبي هُرَيْرَةَ يروون سبع مرات ، وفي ذَلِكَ دلالة عَلَى خطأ رِوَايَة عَبْد الملك بن أَبِي سليمان ، عن عطاء عن أبي هُرَيْرَةَ في الثلاث ، وعبد الملك لا يقبل مِنْهُ ما يخالف الثقات ، لمخالفته أهل الحفظ والثقة في بَعْض روايته ، تركه شعبة بن الحجاج ، وَلَمْ يحتج بِهِ البُخَارِيّ في صحيحه )) ([33]) .
وَقَالَ ابن حجر : (( ورواية من رَوَى عَنْهُ موافقة فتياه لروايته أرجح من رِوَايَة من رَوَى عَنْهُ مخالفتها من حَيْثُ الإسناد ومن حَيْثُ النظر ، أما النظر فظاهر ، وأما الإسناد فالموافقة وردت من رِوَايَة حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عَنْهُ ، وهذا من أصح الأسانيد ، وأما المخالفة فمن رِوَايَة عَبْد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، وَهُوَ دُوْنَ الأول في القوة بكثير )) ([34]) .
المبحث الخامس
مخالفة الْحَدِيْث للقياس
ذهب جمهور عُلَمَاء الأمة إِلَى القول بحجية القياس ، وأنه أحد أدلة الأحكام الشرعية ومصادرها في الفقه الإسلامي ([35]) .
والقياس هُوَ : حمل معلوم عَلَى معلوم في إثبات حكم لهما ، أو نفيه عنهما ، بأمرٍ جامع بَيْنَهُمَا من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنهما ([36]) .
لذا كَانَ مبتنى القياس النظر والإستنباط من تصرفات الشارع وربط الأحكام بعللها، فإذا عارض خبر الواحد القياس ، فأي مِنْهُمَا يقدم موجبه عَلَى الآخر ؟
اشتهر عن الحنفية اشتراط عدم مخالفة خبر الواحد للقياس حَتَّى يصح العمل بِهِ كدليل مستقل ، والحق أن هَذَا الموطن لَيْسَ محل اتفاق بَيْنَهُمْ ، بَلْ هناك تفصيل في مذهبهم عَلَى النحو الآتي :
إذا تعارض خبر الآحاد مَعَ القياس فأكثر المتقدمين من الحنفية عَلَى تقديم الخبر وافق القياس أو خالفه ؛ لأن القياس اجتهاد ولا اجتهاد في مورد النص .
وأما الَّذِيْنَ قالوا بتقديم القياس عَلَى خبر الواحد فهم بَعْض المتقدمين مِنْهُمْ ، وتابعهم عَلَيْهِ كَثِيْر من المتأخرين ، ولكنهم لَمْ يقولوا بالرد بإطلاق ، بل قسموا الرُّوَاة على قسمين :
الأول : الرُّوَاة المعروفون بالضبط والفقه والاجتهاد ، كالخلفاء الأربعة والعبادلة ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت – رضي الله عَنْهُمْ – فهؤلاء تقبل أخبارهم باتفاق .
الثاني : الرُّوَاة الَّذِيْنَ اشتهروا بالرواية ، وَلَمْ يعرفوا بالفقه والاجتهاد والفتيا ، فإذا جاءوا بخبر الآحاد ، فإن وافق القياس قبل ، وإن خالف القياس ووافق قياساً آخر قبل أيضاً ، وإن خالف جَمِيْع الأقيسة ، فَقَالَ عيسى بن أبان([37]) والقاضي أبو زيد الدبوسي([38]) وتابعهما أكثر المتأخرين من الحنفية أنَّهُ لا يقبل ([39]) . وَهُوَ قولٌ للمالكية ([40]) .
وفصّل أبو الْحُسَيْن البصري([41]) من المعتزلة تفصيلاً آخر ، فرأى أن القياس يقدّم عَلَى خبر الواحد في حالة ثبوت علة القياس بدليل قاطع ، وعلل ذَلِكَ بأن النص عَلَى العلة كالنص عَلَى حكمها ، فحينئذ القياس قطعي ، وخبر الآحاد ظني،والقطعي مقدم عَلَى الظني ([42]).
واستدلوا بأن عرض خبر الواحد عَلَى القياس كَانَ من ضمن المناهج الَّتِي اتبعها الصَّحَابَة في نقد المرويات وتمحيص الأخبار ، فهذا ابن عَبَّاسٍ يرد عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ عندما حدّث بحديث : (( توضؤوا مِمَّا مست النار )) ، قائلاً : أنتوضأ من الدُّهن ، أنتوضأ من الحميم ؟ فَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ : (( يا ابن أخي إذا سَمِعْت حديثاً عن رَسُوْل اللهr فَلاَ تضرب لَهُ الأمثال )) . ([43])
فابن عَبَّاسٍ قَدْ توقف في قبول خبر أبي هُرَيْرَةَ وعارضه بالقياس وأجاب الجُمْهُوْر : بأن دعوى أن مِثْل هَؤُلاَءِ من الصَّحَابَة – كأبي هُرَيْرَةَ وأنس – ليسوا من أهل الفقه ، أمر فِيْهِ نظر طويل ، ولوا أمعنا النظر في مروياته وآرائه لعلمنا رجاحة عقليته الفقهية ، وإجابته لابن عَبَّاسٍ تدل عَلَى هَذَا دلالة لايشوبها لبس أو غموض.
وأمَّا حديث الوضوء مِمَّا مست النار، فَلَمْ يَكُنْ رد ابن عَبَّاسٍ لَهُ مستنداً إِلَى مخالفة القياس ، وإنما كَانَ الْحَدِيْث عِنْدَ ابن عَبَّاسٍ منسوخاً بحديث : (( أن النَّبِيّ r أكل كتف شاة وصلى وَلَمْ يتوضأ )) ([44]).
عَلَى أن أبا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ منفرداً برواية حَدِيْث الوضوء مِمَّا مست النار ، إذ شاركه في روايته : أبو أيوب ([45]) ، وأبو طلحة ([46]) ، وزيد بن ثابت ([47]) ، وأم حبيبة ([48]) ، وعائشة ([49]) ، وأبو موسى الأشعري ([50]) ، وسهل([51]) بن الحنظلية ([52])، وأم سلمة ([53])، وأنس بن مالك ([54])، وعبد الله بن عمر ([55]) ومعاذ بن جبل ([56])، وعبد الله بن زيد ([57]) ، وغيرهم؛ حَتَّى عدّوه من المتواتر ([58]) .
فالراجح من ناحية النظر والدليل : ماذهب إِلَيْهِ جمهور الْعُلَمَاء ، لذا قَالَ ابن جَمَاعَة : (( والصحيح الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّة الْحَدِيْث أو جمهورهم ، أن خبر الواحدالعدل المتصل في جَمِيْع ذَلِكَ مقبول وراجح عَلَى القياس المعارض لَهُ ، وبه قَالَ الشَّافِعِيّ وأحمد ابن حنبل وغيرهما من أَئِمَّة الْحَدِيْث والفقه والأصول y ))([59]).
غَيْر أن هَذَا الاختلاف في المواقف بشأن مخالفة خبر الواحد للقياس تَرَكَ أثراً في الإستنباطات الفقهية نلمسها جلية في الأمثلة الآتية :
النموذج الأول : الانتفاع بالعين المرهونة
اختلف الْعُلَمَاء في العين المرهونة ، هَلْ يجوز الانتفاع بِهَا ؟ عَلَى قولين :
الأول : يجوز للمرتهن الانتفاع بالعين المرهونة إذا كَانَت مركوباً أو محلوباً ، أذِن الراهن أم لَمْ يأذن .
وبه قَالَ إسحاق ([60]) ، والحنابلة ([61]) ، والظاهرية ([62]) .
الثاني : لا يجوز الانتفاع بالعين المرهونة وبه قَالَ جمهور الفقهاء ، عَلَى تفصيل مختلف بَيْنَهُمْ عَلَى النحو الآتي :
قَالَ الحنفية : لَيْسَ للراهن ولا المرتهن الانتفاع بالمرهون مطلقاً ، لا بالسكنى ولا بالركوب ولا بغيرهما ، إلا بإذن كُلّ مِنْهُمَا للآخر . وفي قَوْل لَهُمْ: لا يجوز الانتفاع للمرتهن ولو أذن الراهن ؛ لأنَّهُ ربا . وَلَهمْ قَوْل آخر: إنْ شَرَطَهُ في العقد كَانَ رباً ، وإلا جاز للمرتهن الانتفاع بإذن الراهن ([63]) .
قَالَ المالكية : ما ينتج عن المرهون ملك للراهن ، والمرتهن نائب عَنْهُ في تحصيلها ، ويحق للمرتهن الانتفاع بِهَا بشروط هِيَ :
أن يشترط ذَلِكَ في صلب العقد .
أن تَكُوْن المدة معينة .
ألا يَكُوْن المرهون بِهِ دين قرض.
فإذا فاتهم الاشتراط في العقد ، ثُمَّ أذن الراهن للمرتهن بالانتفاع لَمْ يَجُزْ ([64]) .
3 – قَالَ الشافعية : لَيْسَ للمرتهن من المرهون إلا حقه في التوثق من دينه ، ويمنع من كُلّ تصرف أو انتفاع بالعين المرهونة ، وللراهن مِنْهَا كُلّ نفع لاينقص القيمة كالركوب والحلب والسكنى ونحوها ، وأما ما ينقص القيمة كالبناء في الأرض والغرس فِيْهَا فَلاَ يجوز إلا بإذن المرتهن ([65]) .
4- قَالَ الزيدية : لَيْسَ للمرتهن إلا حق الحبس ، وإن استعمله فعليه الأجرة للراهن([66]).
قَالَ الإمامية : لا يجوز تصرف كُلّ من الراهن والمرتهن بالعين المرهونة إلا بإذن من أحدهما للآخر ([67]) .
وَقَالَ أحمد في رِوَايَة : أن المرهون وإن كَانَ محلوباً أو مركوباً فَهُوَ متبرع بنفقته عَلَيْهِ، ولا يحل لَهُ الانتفاع مِنْهُ بشيء ([68]) .
واستدل القائلون بالجواز بِمَا رَوَى أبو هُرَيْرَةَ t أن رسول الله r قَالَ : (( الظهر يركب بنفقته إذا كَانَ مرهوناً ، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كَانَ مرهوناً ، وعلى الَّذِي يركب ويشرب النفقة )) .
أخرجه ابن أبي شيبة ([69]) ، وإسحاق بن راهويه ([70]) ، وأحمد ([71]) ، والبخاري ([72]) ، وأبو داود ([73]) ، وابن ماجه ([74]) ، والترمذي ([75]) ، وأبو يعلى ([76]) ، وابن الجارود ([77]) ، والطحاوي ([78]) ، وابن حبان ([79]) ، والدارقطني ([80]) ، والبيهقي ([81]) ، والبغوي ([82]) .
وأجاب الجُمْهُوْر عن هَذَا الْحَدِيْث : بأن الْحَدِيْث لَمْ ينص عَلَى تعيين المنتفع هَلْ هُوَ الراهن أَمْ المرتهن ، فإن الْحَدِيْث محتمل لكون المنفق هُوَ الراهن ، ويستخدم المرهون بحق ملكه لَهُ . ويحتمل أن يَكُوْن المرتهن ويكون انتفاعه عوضاً عن نفقته ([83]) .
واستدلوا أيضاً بِمَا رَوَاهُ سعيد بن المسيب عن أبي هُرَيْرَةَ ، أن رَسُوْل الله r قَالَ : (( لايغلق الرهن –(ثلاثاً) – لصاحبه غنمه وَعَلَيْهِ غرمه )) ([84])، ووجه الدلالة من الْحَدِيْث: أن المغنم والمغرم عَلَى الراهن، فدل هَذَا عَلَى أن النفقة عَلَى الرهن وكذا النتاج يَكُوْن لَهُ ، ووجب عَلَيْنا ان نؤول الْحَدِيْث الماضي .
وقالوا أيضاً إن هَذَا الْحَدِيْث مخالف للقياس من وَجْهَيْنِ :
الأول : أن فِيْهِ جواز الركب والشرب لغير مالك رقبة العين المرهونة من غَيْر إذن المالك .
الثاني : تضمين المرتهن المنتفع بالعين المرهونة عوض انتفاعه نفقة لا قيمة ([85]) .
وَقَالَ ابن عَبْد البر : (( هَذَا الْحَدِيْث عِنْدَ جمهور الفقهاء ترده أصول يجتمع عَلَيْهَا وآثار ثابتة لايختلف في صحتها ، وَقَدْ أجمعوا أن لَيْسَ الرهن وظهره للراهن ، ولا يخلو من أن يَكُوْن احتلاب المرتهن لَهُ بإذن الراهن ، أو بغير إذنه ، فإن كَانَ بغير إذنه ففي حَدِيْث ابن عمر عن النَّبِيّ r : (( لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه )) ([86]) ما يرده ويقضي بنسخه … الخ كلامه )) ([87]).
وادَّعى الطحاوي أن هَذِهِ الإباحة كَانَتْ قَبْلَ تحريم الربا ، ونسخت بتحريم الربا ، فَقَالَ : (( فلما حرم الربا ، حرمت أشكاله كلها ، وردت الأشياء المأخوذة إِلَى أبدالها المساوية لها ، وحرم بيع اللبن في الضروع، فدخل في ذَلِكَ النهي عن النفقة الَّتِي يملك بِهَا المنفق لبناً في الضروع ، وتلك النفقة فغير موقوف مقدارها ، واللبن كَذَلِكَ أيضاً .فارتفع بنسخ الربا أن تجب النفقة عَلَى المرتهن بالمنافع الَّتِي يجب لَهُ عوضاً مِنْهَا ، وباللبن الَّذِي يحتلبه فيشربه )) ([88]).
وأجاب القائلون بالمذهب الأول عن دعوى النسخ هَذِهِ ،بأن شرط النسخ مَعْرِفَة التاريخ ، حَتَّى يعلم المتقدم من المتأخر والناسخ من المنسوخ ، وهذا متعذرٌ هنا ، فكان القول بالنسخ قَوْلاً بالاحتمال ، والاحتمال لا تؤسس عَلَيْهِ الأحكام ([89])
ثُمَّ إن الجمع بَيْنَ هَذِهِ الأحاديث ممكن ، وذلك بالقول أن نفقة الرهن تجب عَلَى الراهن مقابل الملك ، فإذا امتنع عن النفقة كَانَ من حق المرتهن أن ينفق عَلَى الرهن حفظاً لَهُ من التلف ، الَّذِي هُوَ إضاعة للمال ، وَقَدْ نهى الشرع عَنْهُ ، وبما أن نفقة المرتهن مال لَهُ، فيستحق العوض عَنْهُ ، ومادام الراهن يمتنع عن النفقة ، فإن للمرتهن أخذ العوض من مال الراهن وَلَوْ بغير إذنه ، والركوب وشرب اللبن والمنافع الَّتِي لا تلحق نقصاً أو ضرراً بالعين المرهونة عوض ، يستحقه المرتهن بدلاً عن نفقته ([90]).
النموذج الثاني : رد الشاة المصراة
اختلف الفقهاء في جواز رد الشاة المصراة إذا اطلع الْمُشْتَرِي عَلَى هَذَا العيب بَعْدَ الشراء عَلَى قولين :
الأول : لا يجوز رد الشاة المصراة ، وإليه ذهب أبو حَنِيْفَةَ ومحمد ، و أبو يوسف في رِوَايَة عَنْهُ ([91]) .
الثاني : يجوز ردها بعيب التصرية ، وبه قَالَ جمهور الفقهاء ، ومنهم: الشافعية ([92])، والمالكية ([93]) ، والحنابلة ([94]) ، وجمهور أهل الْحَدِيْث ([95]) .
واختلفوا في تعيين وجوب رد الصاع ، أو ما ينوب عَنْهُ ([96]) .
واستدل القائلون بالجواز بحديث أبي هُرَيْرَةَ t ، أن النَّبِيّ r قَالَ : (( لا تصروا الإبل والغنم ، فمن ابتاعها بَعْد فإنه بخير النظرين بَعْدَ أن يحتلبها : إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعاً من تمر )) ([97]) .
وأجاب من قَالَ بعدم الجواز : بأن هَذَا الْحَدِيْث مخالف للقياس من وجوه :
إن رد المبيع بلا عيب ولا خلاف في صفة لا تقره أصول الشريعة ؛ وذلك لأن التصرية ليست من العيوب فإن البيع يقتضي سلامة المبيع ، وقلة اللبن لاتعدُّ من العيوب الَّتِي تعدم السلامة ؛ لأن اللبن ثمرة وبعدمه لا تنعدم صفة السلامة، فبقلته من باب أولى .
القاعدة أن الخراج بالضمان ، فاللبن الحادث عِنْدَ الْمُشْتَرِي غَيْر مضمون ، وَقَدْ نُصَّ عَلَى ضمانه .
إن الشيء المضمون ( اللبن ) مثلي ، والقاعدة أن المثليات تضمن بمثلها ، وَقَدْ ضمنه بغير المثل .
في الضمان إذا انتقل من المثل فإنه ينتقل إِلَى القيمة ، والتمر المذكور في الْحَدِيْث لَيْسَ قيمة ولا مثْلاً .
أن المال المضمون يقدر بقدره قلة وكثرة، والقدر منصوص عَلَيْهِ هنا وَهُوَ الصاع([98]).
وأجيب عن الأول بأنه لَيْسَ في أصول الشريعة ما يدل عَلَى انحصار أسباب الرد بهذين الأمرين ، بَلْ إن الخيار يثبت للمشتري بالتدليس ، وذلك لأن الْمُشْتَرِي رأى الضرع مملوءاً باللبن، فظن أن ذَلِكَ عادتها ، فكأن البائع قَدْ شرط لَهُ ذَلِكَ ، فإذا تبين لَهُ خلاف ذَلِكَ ثبت لَهُ الرد ، لفقد الشرط المعنوي الَّذِي نوهنا بهُ .
وعن الثاني : فإن الخراج اسم للغلة، مِثْل : كسب العبد وأجرة الدابة ونحو ذَلِكَ. أما الولد واللبن فَلاَ يسمى خراجاً، والعامل المشترك بَيْنَهُمَا كونهما من الفوائد ، وإلا فإن الكسب الحادث والغلة لَمْ يكونا موجودين حال البيع ، بَلْ حدثا بَعْدَ القبض. وأما اللبن هنا فإنه كَانَ موجوداً حال العقد ، فكان جزءاً من المعقود عَلَيْهِ ، والصاع لَمْ يقدره الشارع عوضاً عن اللبن الحادث ، وإنما هُوَ عوض عن اللبن الَّذِي كَانَ موجوداً وقت العقد في الضرع ، فكان ضمانه من تمام العدل .
وعن الثالث : فإنه لا يمكن تضمينه بالمثل البتة ، فإن اللبن في الضرع محفوظ وغير عرضة للفساد ، فإذا حلب صار معرضاً للحموضة والفساد .
وعن الرابع : بأنا لَوْ وكلنا تقديره إليهما أو إِلَى أحدهما لكثر النـزاع ، فحسم الشارع النـزاع وحده بقدر لا يتعد أنَّهُ قطعٌ للخصومة .
وعن الخامس فإن اللبن الحادث بَعْدَ العقد قَدْ اختلط بالموجود وقته ، ولا يعرف مقداره حَتَّى نوجب نظيره ، وَقَدْ يَكُوْن أكثر أو أقل ، فيفضي إِلَى الربا ([99]) .
المبحث السادس
مخالفة الْحَدِيْث لعمل أهل المدينة
من المعلوم أن المدينة النبوية كَانَتْ مهبط الوحي ومركز السلطة التشريعية والدنيوية في الحقبة الثانية من الدعوة النبوية، وَلَمْ يؤثر عن أحد من الصحابة سواء من المهاجرين أو الأنصار مِمَّنْ سكنها أنَّهُ نزح عَنْهَا في حياة رَسُوْل اللهr .
وكانوا في حياتهم العامة عَلَى تماس مَعَ التشريعات والأحكام، يعيشون ظروفها ، ويفقهون عللها ، ويقومون بمهمة نشرها وتعليمها ، وهكذا ظلت أجيال الناس فِيْهَا تتلقى الأحكام جيلاً عن جيل ، وَهُوَ مؤدٍ في نهاية المطاف إلى اعتبار إجماع أهلها نقلاً بالتواتر للحكم المعمول بِهِ ([100]) .
لذا اشترط جمهور المالكية للعمل بخبر الآحاد أن لا يَكُوْن مخالفاً لعمل أهل المدينة ([101]) وتعللوا بِمَا قدمنا ذكره .
والحق أن الْحَدِيْث إذا صَحَّ لَمْ يَكُنْ لقول أحدٍ كائناً من كَانَ أن يعارض بِهِ ، والحجة في نقل المعصوم فَقَطْ ، ثمَّ إن أهل المدينة جزء من الأمة لا كلها ، فَلاَ ينبني عَلَى موافقتهم جواز مخالفة الأحاديث المقبولة ([102]) .
وَقَدْ فند أدلتهم ابن حزم من وجوه حاصلها :
إن الخبر المسند الصَّحِيْح قَبْلَ العمل بِهِ ، أحق هُوَ أم باطل ؟ فإن قالوا: حق ، فسواء عمل بِهِ أهل المدينة أم لَمْ يعملوا ، لَمْ يزد الحقَ درجةً عملُهُم بِهِ وَلَمْ ينقصه إن لَمْ يعملوا بِهِ ، وإن قالوا باطل ، فإن الباطل لا ينقلب حقاً بعملهم بِهِ ، فثبت أن لا معنى لعمل أهل المدينة أو غيرهم .
العمل بالخبر الصَّحِيْح متى أثبت الله العمل بِهِ ، أقبل أن يعمل بِهِ أم بَعْدَ العمل بِهِ ؟ فإن قالوا : قَبْلَ أن يعمل بِهِ ، فَهُوَ كقولنا . وإن قالوا : بَعْدَ أن يعمل بِهِ ، لزمهم عَلَى هَذَا أن العاملين بِهِ هم الَّذِيْنَ شرعوا الشريعة ، وهذا باطل .
نقول : عمل من تريدون ؟ عمل أمة مُحَمَّد كافة ، أم عمل عصر دُوْنَ عصر ، أم عمل رسول الله ، أم أبي بكر ، أم عمر ، أم عمل صاحب من سكان المدينة مخصوصاً ؟ فإن قالوا: عمل الأمة كلها ، فَلاَ يصح ؛ لأن الخلاف بَيْنَ الأمة مشتهر، وهم دائمو الرد عَلَى من خالفهم، فلو كَانَتْ الأمة مجمعة عَلَى هَذَا القول فعلى من يردون ؟! وإن قالوا : عصر دُوْنَ عصر ، فباطل أيضاً ؛ لأنَّهُ ما من عصر إلا وقَدْ وجد فيه خلاف ، ولا سبيل إِلَى وجود مسألة متفق عَلَيْهَا بَيْنَ أهل عصر ([103]).
ونقول لَهُمْ: أهل المدينة الَّذِيْنَ جعلتم عملهم حجة رددتم بِهَا خبر المعصوم ، اختلفوا فِيْمَا بَيْنَهُمْ أم لا ؟ فإن قالوا : لا ، فإن الموطأ يشهد بخلاف هَذَا ، وإن قالوا : نعم ، قُلْنَا : فما الَّذِي جعل اتباع بعضهم أولى من بَعْض ([104]) .
النموذج الأول : خيار المجلس
يمكن تعريف خيار المجلس بأنه: حق العاقدين في إمضاء العقد أو رده ، منذ التعاقد إِلَى التفرق أو التخاير ([105]) .
والأكثرون عَلَى تسميته (( خيار المجلس )) ومنهم من يسميه (( خيار الْمُتَبَايِعَيْنِ ))([106]).
فإذا أتم العاقدان عقد البيع من غَيْر أن يتفرقا وَلَمْ يختر أحدٌ مِنْهُمَا اللزوم ، فهل يعتبر العقد لازماً بمجرد هَذَا التمام ، أَمْ أن لكلا العاقدين الحق في فسخ العقد ما داما في مجلس البيع ؟
اختلف الفقهاء في ثبوت هَذَا الحق عَلَى قولين :
الأول : لا يثبت خيار المجلس ، والعقد لازم بالإيجاب والقبول ، إلا إذا تشارطا أو أحدهما إثبات الخيار .
وبهذا قَالَ : إبراهيم النخعي وأهل الكوفة ، وربيعة الرأي وطائفة من أهل المدينة ، وَهُوَ قَوْل الثوري في رِوَايَة عَبْد الرزاق عَنْهُ ([107]) .
وإليه ذهب الحنفية ([108]) ، والمالكية ([109]) ، وأكثر الزيدية ([110]) .
الثاني : خيار المجلس ثابت للمتعاقدين ، ولكل مِنْهُمَا الحق في فسخه مادام المجلس قائماً ، ومالم يختر أحدهما اللزوم .
روي هَذَا عن : عمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وابن عَبَّاسٍ ، وأبي هُرَيْرَةَ ، وأبي برزة الأسلمي([111]) ، وبه قَالَ : سعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، وشريح ، والشعبي، وعطاء ، وطاووس ، والزهري ، والأوزاعي ، وابن أبي ذئب في طائفة من أهل المدينة ، والثوري في "جامعه " ، والليث بن سعد ، وعبيد الله بن الحسن ، وداود الظاهري ، وسوّار([112]) قاضي البصرة، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك ، وابن جريج ، ومعمر، ومسلم بن خالد الزنجي ([113])، والدراوردي ([114])، ويحيى القطان ، وعبد الرَّحْمَان بن مهدي ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ([115]) .
وإليه ذهب الشافعية ([116]) ، والحنابلة ([117]) ، والظاهرية ([118]) ، والإمامية ([119]) ، وبعض الزيدية ([120]) .
واستدل الجُمْهُوْر بأدلة متظافرة كثيرة مِنْهَا :
ما صَحَّ عن رَسُوْل الله أنَّهُ قَالَ : (( الْمُتَبَايِعَانِ كُلّ واحد مِنْهُمَا بالخيار عَلَى صاحبه ، ما لم يتفرقا ، إلا بيع الخيار )) ([121]) .
وجه الدلالة من هَذَا الْحَدِيْث :
أن الْحَدِيْث مصرح بأن العقد بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ غَيْر لازم ما لم يحصل التفرق عن مجلس العقد ، أو يختار واحد مِنْهُمَا اللزوم
وأجاب المالكية عن هَذَا الْحَدِيْث : بأنه مخالف لعمل أهل المدينة ، لذا قَالَ الإمام مالك عقب روايته لهذا الْحَدِيْث : (( وَلَيْسَ لهذا عندنا حد معروف ، ولا أمر معمول فِيْهِ )) ([122]).
وَهُوَ خبر آحاد فَلاَ يقوى عَلَى مخالفة عملهم ([123]) .
ونستطيع أن نرد قَوْل المالكية هَذَا ، من ثلاثة وجوه هِيَ :
أن اشتراط المالكية للعمل بخبر الآحاد : أن لا يَكُوْن مخالفاً لعمل أهل المدينة ، شرط تفردوا بِهِ ، فيكون لازماً لَهُمْ ولا يلزم غيرهم .
عَلَى فرض التسليم – جدلاً – بكون هَذَا الَّذِي اشترطوه شرطاً للعمل بخبر الآحاد، فما اشترطوه غَيْر متحقق في هَذِهِ المسألة ، فإنهم نصوا عَلَى أن إجماع أهل المدينة إذا عارضه خبر آحاد ، قدم الإجماع . ودعوى إجماع أهل المدينة هنا منقوضة ، فَقَدْ سبق أن نقلنا القول بثبوت خيار المجلس عن : عمر وعثمان وابن عمر وأبي هُرَيْرَةَ وسعيد بن المسيب والزهري وابن أبي ذئب والدراوردي ، وهؤلاء جميعاً من أهل المدينة ، فكيف تصح دعوى إجماعهم ؟
حَتَّى إن ابن أبي ذئب لما قِيْلَ لَهُ أن مالكاً لا يعمل بهذا الْحَدِيْث قَالَ : (( هَذَا خبرٌ موطأٌ في المدينة )) ([124])، يريد أنَّهُ منتشر .
3- وإذا أمعنا في التنـزل معهم، والتسليم بأن هَذَا الشرط الَّذِي اشترطوه صَحِيْح ، وأن إجماع أهل المدينة متحقق ، فإنه يخدش استدلالهم عدم كون الْحَدِيْث آحادياً ، وكيف يَكُوْن خبر آحاد وَقَدْ رَوَاهُ من الصَّحَابَة عدد غفير، وقفنا عَلَى رِوَايَة سبعة مِنْهُمْ،هم:
أ. سمرة بن جندب : وحديثه أخرجه : ابن أبي شيبة ([125])، وأحمد ([126]) ، وابن ماجه ([127]) ، والنسائي ([128]) ، والطحاوي ([129]) ، والبيهقي ([130]) .
ب. عَبْد الله بن عَمْرو بن العاص : وحديثه عِنْدَ : أحمد ([131]) ، وأبي داود ([132]) ، والترمذي([133])، والنسائي ([134])، والدارقطني ([135])، والبيهقي ([136])، وابن عَبْد البر([137]) .
ج. ابن عَبَّاسٍ : وأخرج حديثه ابن حبان ([138])، والبزار ([139]) ، وأبو بكر([140]) الإسماعيلي ([141])، والبيهقي ([142]) .
د. أبو هُرَيْرَةَ : حديثه عِنْدَ الطيالسي([143])، وابن أبي شيبة ([144])، وأحمد ([145])، والطحاوي([146])، والطبراني ([147]) ، وابن عدي ([148]) .
ه. عَبْد الله بن عمر : وَهُوَ أشهر طرق هَذَا الْحَدِيْث ، أخرجه : مالك ([149])، والشافعي([150])، وأحمد ([151])، والبخاري ([152])، ومسلم ([153])، وأبو داود ([154])، والترمذي ([155]) ، وابن ماجه ([156]) ، والنسائي ([157]) ، وغيرهم ([158]) .
و. حكيم بن حزام ([159]): عِنْدَ الشَّافِعِيّ ([160])، والطيالسي([161])، وأحمد ([162]) ، والبخاري([163])، ومسلم ([164]) ، وأبي داود ([165]) ، والترمذي ([166]) ، والنسائي([167]) ، وابن حبان ([168]) ، والطبراني ([169])، وغيرهم .
ز. أبو برزة الأسلمي : أخرجه الشَّافِعِيّ ([170])، والطيالسي ([171]) ، وابن أَبِي شيبة ([172]) ، وأحمد ([173])، وأبو داود ([174])، وابن ماجه ([175])، وبحشل ([176])، والبزار ([177]) ، وابن الجارود ([178])، والروياني ([179])، والطحاوي ([180])، والدارقطني ([181]) ، والبيهقي ([182]) ، والخطيب البغدادي ([183]) ، وابن عَبْد البر ([184]).
وبهذا فإن الْحَدِيْث في أقل أحواله : مشهور ([185]) ، والمشهور تختلف أحكامه عن الآحاد من حَيْثُ تخصيص الكِتَاب والزيادة عَلَيْهِ .
أما الحنفية فَقَدْ استدلوا بعمومات نصوص الكِتَاب العزيز مِنْهَا
قوله تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ([186]) .
وجه الدلالة : أن الله تَعَالَى أباح أكل المبيع إذا كَانَ عن رضى الطرفين ، والنص مطلق عن قيد التفرق عن مكان العقد .
قوله تَعَالَى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )) ([187]) .
وجه الدلالة : أن الشارع – تبارك وتعالى – أوجب الوفاء بالعقود ، وعقد البيع بَعْدَ الإيجاب والقبول وقبل مفارقة المجلس أو التخيير يسمى عقداً أيضاً ، فيكون داخلاً في عموم هَذَا النص ، والقول بخلافه إبطال للنص .
وأجابوا عن الْحَدِيْث بأنه :
خبر آحاد مخالف لظاهر الكِتَاب فيجب تأويله ، فيحمل التفرق الوارد في الْحَدِيْث عَلَى التفرق بالأقوال لا بالأبدان ، جمعاً بَيْنَ النصوص الواردة في هَذَا ([188]) .
ونجيب عَنْهُ بِمَا يأتي :
أما كون الْحَدِيْث آحادياً : فَقَدْ أبطلنا ذَلِكَ في ما مضى ، وبينا أن الْحَدِيْث في أقل أحواله مشهور ، وللمشهور عِنْدَ الحنفية حكم المتواتر في جواز تخصيص عمومات الكِتَاب بِهِ ([189])
وأما كون المراد التفرق بالأقوال : فَهُوَ خلاف المتبادر إِلَى الذهن من أن المراد التفرق بالأبدان ، ونضيف بأن من الْمُسلّمَات – إذا سرنا عَلَى أصول الحنفية – أن راوي الْحَدِيْث أعلم بتفسيره لذا ردوا – كَمَا سبق – حَدِيْث ولوغ الكلب ، وإذا حكّمنا هَذِهِ القاعدة هنا بانت الحجة عَلَيْهِمْ ، فهذا الْحَدِيْث من رِوَايَة ابن عمر –رضي الله عنهما–، وَقَدْ أخرج البُخَارِيّ ([190]) من طريق يَحْيَى بن سعيد، عن نافع قَالَ: (( وَكَانَ ابن عمر إذا اشترى شيئاً يعجبه فارق صاحبه )) . ورواه مُسْلِم ([191]) من طريق ابن جريج ، عن نافع بلفظ : (( فكان إذا بايع رجلاً فأراد أن لا يقبله ، قام فمشى هنية ، ثُمَّ رجع إِلَيْهِ )) .
كَمَا أن في بَعْض ألفاظ الْحَدِيْث من رِوَايَة ابن عمر وغيره من الصَّحَابَة y التصريح بِمَا يخالف تأويل الحنفية لهذا الْحَدِيْث .
لهذا ولغيره ، يبدو لنا رجاحة ما ذهب إِلَيْهِ الجُمْهُوْر .
المبحث السابع
مخالفة الْحَدِيْث للقواعد العامة في الفقه الإسلامي
لَمْ يشترط أحد من الأئمة المتقدمين للعمل بخبر الآحاد ، أن لا يخالف القواعد العامة، وذلك لأن القواعد العامة أصالة تؤسس عَلَى استقراء نصوص الشارع الحكيم ، ومن ثَمَّ تصاغ القاعدة بِمَا يتفق مَعَ مضامين النصوص .
إلا أننا وجدنا من خلال استقراء كتب الفقه أن المتأخرين من أصحاب مالك خرّجوا بَعْض المسائل عَلَى هَذَا الشرط ، وكأنهم فهموا من اجتهادات الإمام مالك أنَّهُ يشترط ذَلِكَ في خبر الآحاد لصحة العمل بمضمونه .
وعلى هَذَا فخبر الآحاد إذا خالف القواعد العامة فَلاَ يعمل بِهِ عندهم ، لأن القاعدة موطن اتفاق بَيْنَ الفقهاء من حَيْثُ المضمون الَّذِي يعبر عن فحوى عدد من النصوص عن الشارع ، فمخالفة خبر الآحاد لها مسقط للعمل بِهِ ، إذ يتضمن مخالفة تِلْكَ النصوص المتظافرة عَلَى إثبات ما تضمنته تِلْكَ القاعدة .
ويمكننا الإجابة عن هَذَا الشرط : بأن القاعدة مهما بلغت فَلاَ تعدو كونها تأسيساً عَلَى نصوص ، فَلاَ يمكن رد النص بِهَا ، والاحتكام حينئذٍ إِلَى النص ، والتعارض لا يَكُوْن مبطلاً للقاعدة ، بَلْ استثناء من مضمونها ([192]) .
أثر ذَلِكَ في اختلاف الفقهاء
حكم من أكل أو شرب ناسياً في نهار رَمَضَان
اختلف الفقهاء فيمن أكل أو شرب ناسياً في نهار رَمَضَان ، هَلْ يفسد صومه أم لا؟ عَلَى قولين :
الأول : لا يفسد صوم من أكل أو شرب ناسياً ، وَهُوَ قَوْل جمهور الفقهاء ، وإليه
ذهب الحنفية ([193])، والشافعية ([194])، والحنابلة ([195])، والظاهرية ([196])، والزيدية ([197])، والإمامية ([198]).
الثاني : يفسد صوم من أكل أو شرب ناسياً ، وَعَلَيْهِ القضاء ، وبه قَالَ ربيعة
الرأي ([199]) ، والمالكية ([200]) ، والقاسمية من الزيدية ([201]) .
الأدلة :
استدل القائلون بالمذهب الأول بأدلة عديدة ، مِنْهَا :
ما رَوَاهُ أبو هُرَيْرَةَ -t - أن رَسُوْل الله r قَالَ : (( إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه )) .
رَوَاهُ عَبْد الرزاق ([202])، وأحمد ([203])، والدارمي ([204])، والبخاري ([205]) ، ومسلم ([206])، وأبو داود ([207]) ، وابن ماجه ([208]) ، والترمذي ([209]) ، والنسائي ([210]) ، وابن الجارود ([211]) ،
وأبو يعلى ([212]) ، وابن خزيمة ([213]) ، وابن حبان ([214]) ، والطبراني ([215]) ، والدارقطني ([216]) ، والبيهقي ([217]) ، والبغوي ([218]) .
وجه الدلالة : أن النص ظاهر في أن الأكل والشرب بالنسبة للصائم ناسياً لا يؤثر في الصوم ، والنص مطلق من حَيْثُ عدم تقييد الصيام بكونه فرضاً أو نفلاً .
قَالَ ابن دَقِيْقِ العِيْدِ: (( عمدة من لَمْ يوجب القضاء هَذَا الْحَدِيْث وما في معناه أو ما يقاربه، فإنه أمرَ بالإتمام وسمى الَّذِي يتم صوماً، وظاهره حمله عَلَى الحقيقية الشرعية ، وإذا كَانَ صوماً وقع مجزئاً ، ويلزم من ذَلِكَ عدم وجوب القضاء )) ([219]) .
ثُمَّ قَالَ: (( وإذا دار اللفظ بَيْنَ حمله عَلَى المعنى اللغوي والشرعي ، كَانَ حمله عَلَى الشرعي أولى )) ([220]) .
وأجاب من قَالَ بالمذهب الثاني عن هَذَا الاستدلال بِمَا يأتي :
قالوا : هَذَا الْحَدِيْث خبر آحاد ، وَقَدْ عارض القاعدة العامة الَّتِي تقول : (( النسيان لا يؤثر في باب المأمورات )) ([221]) . أي لا يؤثر من ناحية براءة ذمة المكلف مِنْهُ.
قَالَ ابن العربي([222]) : (( أصل مالك في أن خبر الواحد إذا جاء بخلاف القواعد لَمْ يعمل بِهِ )) ([223])
فما يفسد الصوم بعدمه عَلَى وجه العمد، فإنه يفسده عَلَى وجه النسيان،كَمَا في النية ([224]) ، والصيام ركنه الإمساك ، فإذا فات الركن في العبادة وجب الإتيان بِهِ ، وَقَدْ تعذر هنا ، فاقتضى الحكم بفساد صومه .
قَالَ ابن دَقِيْقِ العِيْدِ : (( ذ هب مالك إِلَى إيجاب القضاء وَهُوَ القياس ، فإن الصوم قَدْ فات ركنه وَهُوَ من باب المأمورات ، والقاعدة تقتضي أن النسيان لايؤثر في باب المأمورات )) ([225]) ، وأفاض الْقَاضِي ابن العربي في تأييد مذهب مالك ، فَقَالَ : (( هَذَا الْحَدِيْث صَحِيْح مليح ينظر إِلَى مطلقه دُوْنَ تثبت جَمِيْع فقهاء الأمصار ، وقالوا : من أفطر ناسياً لا قضاء عَلَيْهِ ، تعلقاً بقول النَّبِيّ في الصَّحِيْح: (( إنّ الله أطعمك وسقاك )).
وتطلّع مالك إِلَى المسألة من طريقها ، فأشرف عَلَيْهَا فرأى في مطلعها : أن عَلَيْهِ القضاء ؛ لأن الصوم عبارة عن الإمساك عن الأكل ، فَلاَ يوجد مَعَ الأكل لأنَّهُ ضده ، وإذا لَمْ يبق ركنه وحقيقته لَمْ يوجد ، وَلَمْ يَكُنْ ممتثلاً ولا قاضياً ما عَلَيْهِ ، ألا ترى أن مناقض شرط الصَّلاَة وَهُوَ الوضوء: الحدث ، إذا وجد سهواً أو عمداً أبطل الصَّلاَة ؛ لأن الأضداد لا جماع مَعَ أضدادها شرعاً ولاحساً،وَلَيْسَ لهذا الأصل معارض إلا الكلام في الصَّلاَة )) ([226]).
حمل الْحَدِيْث عَلَى صوم التطوع دُوْنَ الفرض ، بحجة أن الْحَدِيْث لَمْ يقع فِيْهِ تعيين رَمَضَان ، فيصار إلى حمله عَلَى التطوع ([227]) .
حمل الْحَدِيْث عَلَى أمر الصائم الَّذِي تَكُوْن هَذِهِ حاله بإتمام صيام ذَلِكَ اليوم ، وسقوط الإثم عَنْهُ ، لَكِنْ يجب عَلَيْهِ قضاؤه ([228]) .
قَالَ ابن العربي : (( وهذا الْحَدِيْث يوافق القاعدة في رفع الإثم فقبل في ذَلِكَ ، ولا يوافقها في بقاء العبادة بَعْدَ ذهاب ركنها أشتاتاً فَلاَ يعمل بِهِ )) ([229]) .
وأجيب عَنْهُمْ :
أما أولاً: فالقياس المذكور قياس غَيْر صَحِيْح؛ لكونه في مقابلة النص، ولا اجتهاد في مورد النص، وَقَدْ ذَكَرَ البرماوي في شرح العمدة: أن شرط القياس عدم مخالفة النص([230]).
وكون الْحَدِيْث خبر واحد مخالف للقاعدة ، أمر فِيْهِ نظر ، وعلل هَذَا الحافظ ابن حجر فَقَالَ : (( لأنَّهُ – يعني : الْحَدِيْث المذكور – قاعدة مستقلة بالصيام فمن عارضه بالقياس عَلَى الصَّلاَة أدخل قاعدة في قاعدة ، وَلَوْ فتح باب رد الأحاديث الصَّحِيْحَة بمثل هَذَا لما بقي من الْحَدِيْث إلا القليل )) ([231]) .
وأما ثانياً: فَقَدْ ورد التصريح بتعيين رَمَضَان في بَعْض طرق الْحَدِيْث ، فأخرج ابن خزيمة ([232])، ومن طريقه ابن حبان ([233])، وأخرجه الطبراني ([234])،
والدارقطني ([235])، والحاكم ([236])، ومن طريقه البيهقي ([237]) ، كلهم من طريق مُحَمَّد
ابن عَبْد الله الأنصاري ، عن مُحَمَّد بن عَمْرو ([238]) ، عن أبي سلمة بن عَبْد الرَّحْمَان ،
عن أبي هُرَيْرَةَ ، مرفوعاً : (( من أفطر في شهر رَمَضَان ناسياً ، فَلاَ قضاء عَلَيْهِ ولا كفارة )) ([239]) .
وأما ثالثاً : فإن قوله في نهاية الْحَدِيْث : (( فإنما أطعمه الله وسقاه )) ، دليل عَلَى صحة صومه، فَهُوَ مشعر بأن الفعل الصادر مِنْهُ غَيْر مضاف إِلَيْهِ ، والحكم بكونه مفطراً يحتاج إِلَى إضافته إِلَيْهِ ([240]) .
لذا قَالَ الخطابي([241]): (( معناه أن النسيان ضرورة ، والأفعال الضرورية غَيْر مضافة
في الحكم إِلَى فاعلها وغير مؤاخذ بِهَا، والقياس مطرد إلا أن يكثر النسيان، فإنه إذا تتابع أخرج العبادة عن حد القربة ، وردها إِلَى حد العدم )) ([242]) .
ثُمَّ إن الحكم بصحة صوم الصائم الآكل أو الشارب ناسياً يتفق مَعَ ما عهدناه من مبادئ التشريع وأصول الاستنباط عن الشارع الحكيم ، في عدم مؤاخذة المكلف في أبواب حقوق الله تَعَالَى إلا بِمَا فعله عن قصد ، ومصداق هَذَا قوله تَعَالَى : ] وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [ ([243]) ، والنسيان لَيْسَ من كسب القلب ([244]) . وَقَدْ ثبت عن رَسُوْل الله أنَّهُ قَالَ : (( وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عَلَيْهِ )) .
رَوَاهُ الطحاوي([245])، وابن حبان ([246]) ، والدارقطني([247])، والحاكم ([248]) ، والبيهقي ([249]) .
والصوم داخل في عموم هَذَا الأصل .
ولهذا يبدو لي رجحان ما ذهب إِلَيْهِ جمهور الفقهاء
المبحث الثامن
اختلاف الْحَدِيْث بسبب الاختصار
و" تصفح الأدلة " ، مات سنة ( 436 ه ) .
عَمْرو بن عدي ، توفي في صدر خلافة معاوية .
--------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق