غزوة أحد
وهي قبل غزوة بني النضير
من الألوكة
الحمد لله له ما في السماوات وما في الأرض
وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله
الذي جاهد في الله تعالى من غير توان ولا تقصير صلى الله عليه وعلى آله
وأصحابه الذين اتبعوه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم
المفلحون وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم يرجعون وسلم تسليماً.وفي شهر شوال من
السنة الثالثة من الهجرة كانت غزوة أحد وهو الجبل الذي حول المدينة والذي
قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: (أحد جبل يحبنا ونحبه)، وذلك أن المشركين
لما أصيبوا بفادحتهم الكبرى يوم بدر خرجوا ليأخذوا بالثأر من النبي - صلى
الله عليه وسلم - وأصحابه في ثلاثة آلاف رجل ومعهم مائتا فرس مجنبة فلما
علم بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استشار أصحابه في الخروج إليهم
فخرج بنحو ألف رجل فلما كانوا في أثناء الطريق انخزل عبد الله بن أبي رأس
المنافقين بمن اتبعه من أهل النفاق والريب وقالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم
فتعبأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقتال في سبع مئة رجل فقط ودفع
اللواء إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه وأمر على الرماة عبد الله بن جبير
وقال: انضحوا عنا الخيل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبتوا
مكانكم فأنزل الله نصره على المؤمنين وصدقهم وعده فكشفوا المشركين عن
المعسكر وكانت الهزيمة لا شك فيها ولكن الله قضى وحكم ولا معقب لحكمه وهو السميع العليم
فإن الرماة لما رأوا هزيمة الكفار ظنوا أنهم لا رجعة لهم فتركوا مركزهم
الذي أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلزومه فكر فرسان من المشركين
ودخلوا من ثغر الرماة ففاجئوا المسلمين من خلفهم واختلطوا بهم حتى وصلوا
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجرحوا وجهه وكسروا رباعيته اليمنى
السفلى وهشموا البيضة بيضة السلاح على رأسه ونشبت حلقتان من حلق المغفر في
وجهه فعض عليهما أبو عبيدة فنزعهما وسقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجه
النبي - صلى الله عليه وسلم - ونادى الشيطان بأعلى صوته أن محمداًً قد قتل
فوقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين وفر أكثرهم فبقي النبي - صلى الله عليه
وسلم - في سبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين فقال النبي - صلى الله عليه
وسلم -: (من يردهم عنا وله الجنة).
فتقدم الأنصار واحداً واحداً حتى قتلوا
وترس أبو دجانة في ظهره على النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبل يقع فيه
وهو لا يتحرك واستشهد في هذه الغزوة سبعون رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله
عليه وسلم - منهم أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب عم النبي - صلى
الله عليه وسلم - وسيد الشهداء ومنهم عبد الله بن جحش دفن هو وحمزة في قبر
واحد ومنهم مصعب بن عمير رضي الله عنه صاحب اللواء ومنهم سعد بن الربيع رضي
الله عنه بعث إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت يقرئه السلام
فوجده في آخر رمق وفيه سبعون ضربة فقال له: إن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يقرأ عليك السلام ويقول كيف تجدك قال: وعلى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - السلام قل له أجد ريح الجنة وقل لقومي الأنصار لا عذر لكم عند
الله إن خلص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيكم عين تطرف ثم فاضت
نفسه رضي الله عنه ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم
فقال ما تنتظرون قالوا: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ما
تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم لقي سعد بن معاذ فقال
يا سعد إني لأجد ريح الجنة من دون أحد فقاتل حتى قتل ووجد به نحوا من
سبعين ضربة فلما انقضت الحرب أشرف أبو سفيان وكان رئيس المشركين يومئذ ثم
أسلم بعد أشرف على الجبل يسأل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر
وعمر فلم يجيبوه إهانة له واحتقاراً قال أبو سفيان لأصحابه أما هؤلاء فقد
كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله إن الذين ذكرتهم
أحياء وقد أبقى الله لك ما يسوءك ثم قال أبو سفيان مفتخراً بصنمه اعل هبل
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قولوا الله مولانا ولا مولى لكم) ثم
انصرف أبو سفيان بأصحابه فلما كانوا في أثناء الطريق تلاوموا فيما بينهم
ليرجعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فيستأصلونهم فبلغ النبي -
صلى الله عليه وسلم - فنادى في الناس ليخرجوا إلى عدوهم وقال: (لا يخرج
معنا إلا من شهد القتال في أحد) فاستجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم
القرح والبلاء المبين حتى بلغوا حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة
فأنزل الله فيهم: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ
النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران:173،174].
من الألوكة
اليهود وغزوة أحد
(تحقيق تاريخي) [1]
من الثابت في وقائع السيرة النبوية
المطهرة أن من أوائل ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى
المدينة المنورة - كتابةَ صحيفة بين المهاجرين والأنصارِ، وادَع فيها
يهودَ، وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالِهم، وشرَط لهم واشترط عليهم،
وافتَتحها صلى الله عليه وسلم بقوله: ((بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ
من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلِمين من قريش ويثرب،
ومن تبِعَهم فلَحق بهم، وجاهَد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس))[2]، ثم بين الأحكامَ التي تنظم العلاقات فيما بينهم، وعرفهم حقوقَهم وواجباتهم.
وعُرِفَت هذه الصحيفة بين المؤرخين المعاصرين بوثيقة المدينة[3]، وكان محمد بن إسحاق - وهو علامة في المغازي والسيَر[4] - أولَ من أورَدها من كُتاب السيرة، ونقلها عنه ابنُ هشام في "سيرته"[5].
وما يهمني في هذه الصحيفة - على عظمةِ ما حوَت - ما يتعلق فيها باليهود، فقد نصت فيما نصت عليه:
"وأن على اليهود نفقَتَهم، وعلى المسلمين
نفقتهم، وأن بينهم النصر على مَن حارب أهلَ هذه الصحيفة، وأن اليهود ينفقون
مع المؤمنين ما داموا محاربين"[6]، "وأن بينهم النصر على مَن دَهِمَ يثرب"[7].
وهذه الجملة الأخيرة: "وأن
بينهم النصر على مَن دَهِمَ يثرب" هي التي سأقِف عليها، محاولًا كشفَ مدى
التِزام اليهود بها حين دَهِمَت قريشٌ المدينةَ أولَ مرة في غزوة أحد.
ذكر ابن عبدالبر في كتابه "التمهيد"
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه جمعُ أبي سفيان للخروج إليه في
أُحد، انطلَق إلى بني النضير، فقال لهم: ((إما قاتلتُم معنا، وإما أعرتمونا
سلاحًا[8]؟))، وهذا الطلَب من رسول الله صلى الله عليه وسلم متفقٌ مع صحيفة المدينة؛ فإعارة السلاح من النصرة.
فماذا كان رَد بني النضير؟ رفضوا
القتالَ معه أو إعارتَه السلاحَ، ويبدو أن الأنصار ظلوا يأملون بنُصرة
حلفائهم اليهود، برغم ما بدا منهم، وكأنهم رَغبوا في إعادة طلَب إعانتهم
مرة أخرى، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألَا نَستعين بحلفائنا
اليهود؟ فقال صلى الله عليه وسلم، وقد تحقق رفضهم: ((لا حاجة لنا فيهم))[9]،
بل إن بني النضير أوغلوا في نقض العهد، فلم يَقفوا محايدين - كما فعلَت
بنو قريظة، وهو أقل ما كان عليهم فعله - فحين نزل مشركو قريشٍ في أُحد
أرسلوا إليهم، فحرضوهم على القتال، ودلوهم على مواقع ضعف المسلمين[10]، وفي هذا إعلان للحرب ومُشاركة فيها، وهو أحد أَسباب إجلاء بَني النضير عن المدينة فيما بعد[11]،
صرح بذلك الصحابي الجليل عبدُالله بنُ عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فيما
أخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهما"؛ إذ قال: "إن يهود بني النضير وقُريظة
حاربوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى بَني النضير، وأقر قريظة،
ومنَّ عليهم، حتى حاربَت قريظةُ بعد ذلك؛ فقتَل رجالَهم، وقسم نساءهم
وأولادَهم وأموالَهم بين المسلمين"[12]،
فبنو النضير لم يَكتفوا بخِذلانه صلى الله عليه وسلم حين دَهِمَتْ قُريش
المدينة، بل أعانوا على قتاله؛ بالتحريض، ودَلِّهم على مواقع ضعف المسلمين،
أما بنو قريظة فلم يحاربوه، وإنما وقفوا على الحياد، فَقَبِلَ صلى الله
عليه وسلم منهم ذلك، ومنَّ عليهم، فعفا عنهم، حتى نقضوا عهدَه بعد نحو
سنتين في غزوة الخندق، وتَحالفوا مع الأحزاب على قِتاله[13]، فكان من أمرهم ما كان.
واحدٌ من أحبارهم ساءه تخاذُلُ اليهود عن
نصرته صلى الله عليه وسلم، وهو مُخَيريق، فوقف بينهم مذكرًا بما بينهم وبين
النبي صلى الله عليه وسلم من عهدٍ، قائلًا: يا معشر يهود، والله لقد علمتم
أن نصر محمدٍ عليكم لحقٌّ، قالوا: إن اليوم يوم السبت[14]،
فقال: لا سبت لكم، فأخذ سيفَه وعُدتَه، وقال: إن أُصبتُ فمالي لمحمدٍ يصنع
فيه ما شاء، ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتَل معه حتى
قُتِلَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلَغ ابن إسحاق -:
((مُخَيريق خيرُ يهود))، وقبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أموالَه،
فعامة صدَقاته صلى الله عليه وسلم بالمدينة منها[15].
••••
موقفُ اليهود هذا في غزوة أُحد؛ من تركهم
نُصرةَ المسلمين، وهم حلفاؤهم وجيرانهم، أثار عليهم سخط شاعرٍ كبير من
شعراء الجاهلية، هو الأسود بن يَعفُر النهشَلي، صاحبُ القصيدة المفضلية
الرائعة، التي مطلعها:
فلم يَكتم غيظَه واستشناعه لِما فعلوه،
حتى وهو يَمدح واحدًا من قريش ممن أثخنوا في المسلمين يوم أُحد، وهو
الحارثُ بن هشام بن المغيرة، أخو أبي جهل عمرو بن هشام، فقال:
إن الأكارمَ مِن قُرَيشٍ كلها
قامُوا فرامُوا الأمرَ كل مَرَامِ
حتى إذا كَثُرَ التحاولُ بينهم
فَصَلَ الأمورَ الحارثُ بنُ هشامِ
وسما ليثربَ لا يريدُ طعامَها
إلا ليُصلِحَ أهلَها بسُوَامِ
وغزا اليهودَ فأسلمُوا جيرانَهم
صَمِّي لما لقيَتْ يهودُ صَمَامِ
|
هذه الأبيات أوردها ابنُ سلام في كتابه "طبقات فحول الشعراء"[17]،
وشرحها العلامةُ محمود محمد شاكر بما عُهد عنه من دِقة فهمٍ وحُسن بيان،
فقال: "حتى إذا كثر التحاول بينهم؛ يعني: إذا كثر بَينهم التحاور والتنازع
والتخادع وطلب الغَلَبة بالحيلة، فَصَلَ الأمورَ الحارثُ بن هشام، وسما
ليثرب: يريد خروجَ قريش من مكة إلى أُحد لقتال المسلمين، إلا ليصلح أهلها
بسُوام: كأنه أراد بالسوام هنا العذاب والنكال".
أما البيتُ الأخير، فعليه مدارُ حديثي،
وهذه قراءتي له مما استظهرتُه من رواية ابن سلام، ومما جاء في "لسان العرب"
(صمم)، و(هود)، و"المخصص" (16/ 102)، وقد علق عليه العلامة محمود محمد
شاكر، ولي عودةٌ إلى تعليقه، وحسبي منه قوله هنا: "يعني بالجيران:
المهاجرين الذين نزلوا المدينة على الأنصار، وأسلَمَ فلانٌ صديقَه: خذله في
مكروه، وفر لِيَسلم هو، وصَمِّي صَمَام: كلمة تقال عند استفظاع أمرٍ بَشِع
قبيح، وكأنه يقول: اخرسي يا داهية؛ فإن الذي أرى أكبر منكِ، وصَمَام: اسم
الداهية الشديدة"[18].
ورواية ابن سلام لصَدر البيت، هي:
"وغزا اليهودَ فأَسلَموا أبناءهم"، وقوله: "وغزا اليهود"، ظاهره مُشكل؛
لأنه إنما غزا المُسلمين، بيد أن الأسودَ قال ما قال، وهو الجاهلي، لِمَا
كان عليه اليهودُ من قوةٍ يومئذٍ في يثرب، وكثرتهم ومَنَعتهم في حُصونهم[19]،
فكأن المسلمين - لأنهم حلفاء لهم وجيران - يَعيشون تحت حمايتهم؛ ولذلك عبر
عنهم بأبنائهم؛ فالحارث بغزوِه للمسلمين يكون قد غَزا اليهودَ كذلك، والله
أعلم.
فالأسود بن يَعفُر - وهو العربي الذي يقيم لحق الجِوَار كل حُرمة - راعَه خِذلانُ اليهود لجيرانهم المُسلمين، واستفظع فعلهم.
••••
موقفُ اليهود هذا، يَنقلب في روايةٍ شاعَت
بين المحدثين إلى موقفٍ مضاد، تبرئهم من تَخاذلهم، وتصورهم وقد حملوا
السلاح مبادرين إلى قتال قريش، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو مَن ردهم
عن مشاركة المسلمين في قتالهم.
وردَت هذه الرواية في مَصدرين؛ أولهما عند الواقدي في "مغازيه"،
وقد ساقها دون إسناد، فقال: "فلما ركب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خرج
السعدان أمامه يعدوان؛ سعد بن عُبادة وسعد بن معاذ، كل واحد منهما دارع،
والناس عن يمينه وعن شماله حتى سلَك على البدائع، ثم زقاق الحِسي حتى أتى
الشيخين - وهما أطمان[20]
كانا في الجاهلية، فيهما شيخٌ أعمى وعجوز عَمياء يتحدثان، فسُمي الأطمان
بالشيخين - حتى انتهى إلى رأس الثنية، التفت فنظر إلى كتيبة خشناء[21]، لها زَجَل[22]
خلفَه، فقال: ((ما هذه؟))، قالوا: يا رسولَ الله، هؤلاء حلفاءُ ابنِ أبيٍّ
من يهودَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يُستنصر بأهل الشرك
على أهل الشرك))[23]، وتابعه على هذه الرواية ابنُ سعد في "الطبقات"[24].
ثم إن ابنَ سعد ساق في "طبقاته"
روايةً أخرى بإسناده، فقال: "أخبرنا خالد بن خِداش، أخبرنا الفَضل بن موسى
السيناني، عن محمد بن عمرو، عن سَعد بن المنذر، عن أبي حُميد الساعدي: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم أُحد حتى إذا جاوزَ ثنيةَ الوداع إذا
هو بكتيبةٍ خشناء، فقال: ((مَن هؤلاء؟))، قالوا: هذا عبدُالله بن أبيٍّ
ابنُ سَلُولَ في ستمائةٍ من مواليه من اليهود من أهل قينقاع، وهم رهطُ
عبدِالله بن سلام، قال: ((وقد أسلموا؟))، قالوا: لا يا رسولَ الله، قال:
((قولوا لهم: فليرجعوا؛ فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين))[25].
أما رواية الواقدي فقد ساقها دون إسناد، ثم إنه متفَق على ضعفه عند المحدثين، وإن كان لا يُستغنى عنه في المغازي وأيامِ الصحابة وأخبارهم[26]، ما لم يَنفرد بما يرويه[27]،
وحَسبي رواية ابن سعد التي ساقَها بإسنادِه؛ ففيها نَكارةٌ في متنها، على
ضعفِ إسنادها، ومدارُه على سعد بن المنذر، وهو ابن أبي حُميد الساعدي - ومن
طريقه أورده بعضُ المحدثين كذلك[28]
- وهو مجهولُ الحال، فلم يَروِ عنه سوى اثنين، ولم يُؤثَر توثيقه عن غير
ابن حِبان، على عادته في توثيق المَجاهيل، ثم إن المنذر انفرد به، وهو ممن
لا يُحتمل تفرده، أما نَكارة المتن ففي قوله: مِن مواليه اليهود من أهل
قينقاع، والثابت أن يهود بني قينقاع أجلاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
عن المدينة بعد غَزوة بدر؛ لخيانتهم ونقضهم العهد[29]، ثم إنه سمى اليهودَ بالمشركين، وإنما هم أهلُ الكتاب، كما سماهم الله تعالى في مُحكم كتابه.
فكُتَّاب السيرة من قدماء ومُحدَثين
اعتمدوا على هذه الرواية في سياق حديثهم عن غزوة أُحد، وبعضهم آثَر السكوتَ
عن موقف اليهود، فغيبهم عن الوَقعة تمامًا، بل إن الغريب حقًّا أن العلامة
محمود محمد شاكر عَدَلَ عن رواية ابن سلام لبيت الأسود بن يَعفُر: "وغزا
اليهودَ فأسلموا أبناءهم"، ليَستقيم له الرد عليه، فقال في تعليقه: "رواية
ابن سلام غيرُ جيدة، وفي اللسان وغيره (صمم)، (هود)، والمخصص (16/ 102)،
"فرت يهودُ وأسلمَت جيرانها"، ويُروى "حلفاءها"، ثم قال: ويهود لم تفرَّ في
غزاة أُحد - وهم أهل الفرارِ والغدر - ولكن ردهم رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم لما خرجوا مع عبدالله بن أبيٍّ ابنِ سَلُولَ، وقال: ((لا نَستنصر
بأهل الشرك على أهل الشرك))[30].
فرواية البيت: "فرت يهود" لا تَستقيم
معنًى؛ لأن اليهود لم يَخرجوا للمعركة أبدًا، إلا إذا فسرنا فرارَهم
بتخاذلهم عن الخروج، ومن ثَم رجحت رواية البيت: "وغزا اليهودَ فأسلموا
جيرانهم"، أو "حلفاءهم"؛ جمعًا بين رواية ابن سلام ورواية "اللسان".
ثم إن مدار مَعنى البيت على قوله: "فأَسلَموا"، وفي "اللسان": أسلمَ الرجلَ: خذله[31]،
وهل وقع من اليهود إلا الخِذلان؟ فالبيتُ بدلالته التاريخية، وعلى قراءة
العلامة محمود شاكر له كذلك، قولٌ فصل من مُشرك معادٍ للمُسلمين بتَخاذل
اليهود عن نُصرة المُسلمين في غزوة أُحد، مع ما يؤيدُه من أخبار صَحيحة،
فلا يُرَد برواية ضعيفة في مَتنها نكارة، إلا إذا قلنا: إنه منحول، وهو ما
لم يَقل به أحد، وما أدري كيف تأتى للعلامة محمود محمد شاكر ردُّه، وهو
الذي عاش حياتَه مُنافحًا عن الشعر الجاهلي وصحته؟[32].
••••
نَعم، صح عن رسولِ الله صلى الله عليه
وسلم قوله: ((إنا لا نستعين بالمُشركين على المشركين))؛ ولكن في غزوة بدر،
وقد لحقه أحدُ مشركي المدينة للقِتال معه، فيما روَت أمنا عائشة رضي الله
عنها، فقالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر، فتبِعه رجلٌ
من المشركين، فلحقَه عند الجمرة، فقال: إني أردتُ أن أتبعك وأصيب معك، قال:
((أتؤمن بالله عز وجل ورسولِه؟))، قال: لا، قال: ((ارجع؛ فلن نَستعين
بمشرك))، قال: ثم لحقه عند الشجرة، ففرح بذلك أصحابُ رسولِ الله صلى الله
عليه وسلم، وكان له قوة وجَلَد، فقال: جئت لأتبعك وأصيب معك، قال: ((تؤمن
بالله ورسوله؟))، قال: لا، قال: ((ارجع؛ فلن أَستعين بمشرك))، قال: ثم لحقه
حين ظهر على البيداء، فقال له مثل ذلك، قال: ((تؤمن بالله ورسولِه؟))،
قال: نعم، قال: فخرج به"[33].
فهذه - كما ترى واقعةٌ أخرى - قيلَت في مشرك، لا في أهل كتابٍ بينهم وبين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عهودٌ ومواثيق.
وبعد، فهذه واحدة من القضايا التي شوش
الرؤيةَ فيها رواةٌ ضعفاء، حاجبين عن الأعين ما صح من أخبارها، وسواها في
تاريخنا كثير، تَنتظر من يُزيل عنها ما تَراكَمَ عليها عبر السنين من غبار
الأوهام.
••••
مصادر البحث:
• "أنساب الأشراف"؛ تصنيف أحمد بن يحيى المعروف بالبلاذري، تحقيق الدكتور محمد حميد الله، دار المعارف، مصر، 1959 م.
• "تاريخ الرسل والملوك"؛ لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر.
•
"التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد"؛ للإمام أبي عمر يوسف بن
عبدالله بن عبدالبر القرطبي، تحقيق مصطفى أحمد العلوي، ومحمد عبدالكبير
البكري، المملكة المغربية، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1387 ه -
1967 م.
•
"الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه
وأيامه؛ المعروف بصحيح البخاري"؛ للإمام الحافظ الكبير محمد بن إسماعيل بن
إبراهيم بن المغيرة البخاري، مطبوع مع فتح الباري؛ شرح الحافظ ابن حجر
العسقلاني، عناية عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، ترقيم فؤاد عبدالباقي،
المكتبة السلفية.
•
"دولة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة"؛ تأليف الدكتور صالح أحمد
العلي، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2001 م.
• "سير أعلام النبلاء"؛ للذهبي، تحقيق مجموعة من العلماء، بإشراف الشيخ شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1981 م.
• "السيرة النبوية"؛ لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبدالحفيظ شلبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
• "شرح مشكل الآثار"؛ للطحاوي، تحقيق الشيخ شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1994 م.
•
"صحيح مسلم"؛ للإمام مسلم بن الحجاج القشيري، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي،
دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، الطبعة الأولى 1955 م.
• "طبقات فحول الشعراء"؛ تأليف محمد بن سلام الجمحي، قرأه وشرحه محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، 1974 م.
•
"الطبقات الكبير"؛ لمحمد بن سعد بن منيع الزهري، تحقيق الدكتور علي محمد
عمر، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى 1421ه - 2001 م.
• "لسان العرب"؛ لجمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور، دار صادر، بيروت.
•
"محمد صلى الله عليه وسلم واليهود، نظرة جديدة"؛ تأليف الدكتور بركات أحمد،
ترجمة محمود علي مراد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1996 م.
• "المستدرك على الصحيحين"؛ لأبي عبدالله الحاكم النيسابوري، طبعة دائرة المعارف العثمانية، الهند.
•
"مسند الإمام أحمد بن حنبل"، تحقيق شعيب الأرنؤوط، ومحمد نعيم العرقسوسي،
وإبراهيم الزيبق، وعادل مرشد، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1429ه
- 2008 م.
• "المعجم الأوسط"؛ للطبراني، تحقيق طارق بن عوض الله، طبعة دار الحرمين، الرياض، سنة 1415 ه.
•
"مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة"؛ تأليف
الدكتور محمد حميد الله، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة،
1940 م.
• "المغازي"؛ لمحمد بن عمر الواقدي، تحقيق الدكتور مارسدن جونس، عالم الكتب، بيروت.
•
"المغازي"؛ لموسى بن عقبة، جمع ودراسة وتخريج محمد باقشيش، المملكة
المغربية، جامعة ابن زهر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، أكادير، 1414ه -
1994 م.
• "المفضليات"؛ للمفضل بن محمد بن يعلى الضبي، تحقيق أحمد محمد شاكر وعبدالسلام هارون، دار المعارف، القاهرة، الطبعة العاشرة، 1992 م.
[1] مقالة نشرت في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، المجلد الثامن والثمانون، الجزء الثالث، رمضان 1436هـ، تموز 2015 م.
[1] مقالة نشرت في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، المجلد الثامن والثمانون، الجزء الثالث، رمضان 1436هـ، تموز 2015 م.
[2] "سيرة ابن هشام"، (2/ 147).
[3]
ونشرها الدكتور محمد حميد الله في كتابه النفيس: "مجموعة الوثائق السياسية
في العهد النبوي والخلافة الراشدة" (1 - 7)، وبين الفروق في رواياتها.
[4] وصفه بذلك الإمامُ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (7 / 37).
[5] "سيرة ابن هشام" (2 / 147 - 150).
ووقت كِتابة هذه الصحيفة من سياق ابن
إسحاق لها كان في السنَة الأولى للهجرة، وتابعه على ذلك جمهور المؤرخين،
وخالفه بعضُ المؤرخين المعاصرين في زمن كتابتها؛ فذهب الدكتور صالح أحمد
العلي في كتابه "دولة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة" (112) إلى
أنها كتبت بعد غزوة بدر؛ أي: في السنة الثانية للهجرة، وأغرب الدكتور بركات
أحمد فجعلها في كتابه "محمد واليهود" (82 - 83، 88، 93) بعد غزوة بني
قريظة؛ أي: في أوائل السنة السادسة للهجرة، مستدلًّا على ذلك باستدلالات؛
منها: عدم التصريح فيها بأسماء القبائل اليهودية الثلاث؛ بني قينقاع وبني
النضير وبني قريظة، وأتساءل: ما معنى كتابة الصحيفة إذًا بعد تلاشي نُفوذ
اليهود في المدينة؟ وأي معنًى يبقى لما جاء فيها: "وأن بينهم النصر على مَن
دَهِمَ يثرب"، بعد يأس المشركين من غزوها عَقِيب انكفائهم عنها في غزوة
الخندق، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذٍ فيما رواه البخاري في
صحيحه برقمي (4109)، (4110): ((الآن نَغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير
إليهم))؟ ولعل اعتماد الدكتور بركات في كتابه على مصادر عربية قليلة ضيق
عليه سُبُلَ النظر والتحليل، ولستُ الآن بصدد مناقشته فيما ذهب إليه، ولي
عودةٌ لذلك في بحث آخر إن شاء الله تعالى.
[6] "سيرة ابن هشام" (2 / 149).
[7]
"سيرة ابن هشام" (2 / 150)، وأكد هذا القول كذلك موسى بن عقبة في "مغازيه"
(217)، والبلاذري في "أنساب الأشراف" (1 / 286)، والطبري في "تاريخه" (2 /
479).
[8] "التمهيد"؛ لابن عبدالبر، (12 / 36، 37).
[9] "سيرة ابن هشام" (3 / 68).
[10] "مغازي موسى بن عقبة" (210).
[11]
إلى أسباب أخرى؛ منها: محاولتهم قتله صلى الله عليه وسلم بعد أُحد حين
جاءهم مستعينًا في دِيَة العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري؛
ينظر: "سيرة ابن هشام" (3 / 199).
[12] صحيح البخاري (4028)، وصحيح مسلم (1766) (62).
[13] "سيرة ابن هشام" (3 / 231 - 233).
[14]
كانت معركة أُحُد يوم السبت 7 شوال من السنة الثالثة للهجرة فيما ذكر
الواقدي في مغازيه (1 / 199)، وابن سعد في الطبقات (2 / 33)، والطبري في
تاريخه (2 / 499)، وعند ابن إسحاق أنها كانت يوم السبت 15 شوال؛ ينظر "سيرة
ابن هشام" (3 / 106).
[15] "سيرة ابن هشام" (2 / 165)، (3 / 94)، وينظر في أمواله التي خلفها لرسول الله صلى الله عليه وسلم "مغازي الواقدي" (1 / 378).
[16] المفضليات (215 - 220).
[17] "طبقات فحول الشعراء" (1 / 148، 149).
[18] "طبقات فحول الشعراء" (1 / 149).
[19] ولمنعتهم هذه وقوتهم شبه الشاعر جبل بن جوال الثعلبي رسوخَهم في بلدتهم برسوخ الصخور، فقال:
وقد كانوا ببلدتهم ثِقالًا *** كما ثَقُلَت بمَيطانَ الصخورُ
وميطان: جبل بالمدينة؛ ينظر "سيرة ابن هشام" (3 / 285).
[20] الأُطُم: حصن مبني بحجارة، وقيل: هو كل بيت مربع مسطح؛ اللسان (أطم).
[21] خشناء: كثيرة السلاح؛ اللسان (خشن).
[22] الزجَل: الجلبة ورفع الصوت؛ اللسان (زجل).
[23] "مغازي الواقدي" (1 / 215، 216).
[24] "طبقات ابن سعد" (2 / 35، 36).
[25] "طبقات ابن سعد" (2 / 45).
[26] ينظر: "سير أعلام النبلاء" (9 / 454، 455).
[27] "فتح الباري"؛ لابن حجر (7 / 472).
[28]
منهم الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (6 / 416، 417)، برقم (2580)،
والطبراني في "المعجم الأوسط" (5 / 221)، برقم (5142)، والحاكم في المستدرك
(2 / 122).
[29] نبذ يهود بني قينقاع العهدَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عقب قدومه من غزوة بدر ظافرًا، فنزل قوله تعالى: ﴿ وَإِما تَخَافَن مِن قَومٍ خِيَانَةً فَانبِذ إِلَيهِم عَلَى سَوَاءٍ
﴾ [الأنفال: 58]، فلما فرغ جبريلُ من هذه الآية قال رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم: ((إني أخاف من بني قينقاع))، قال عروة بن الزبير: فسار إليهم
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية؛ ينظر "تاريخ الطبري" (2 / 480)،
وأما ما رواه الواقدي في كتابه "المغازي" (1 / 176، 177)، وساقه ابنُ هشام
في زياداته على السيرة (3 / 51) من قصة المرأة المسلمة التي جلسَت إلى
صائغ بِسوق بني قينقاع، فعقد الصائغُ إلى طرف ثوبها، فلما قامَت انكشفت
سوءتها، فضحك اليهودُ منها، فصاحَت، فقام إلى الصائغ رجلٌ من المسلمين
فقتله، فاجتمع بنو قينقاع فقتلوا الرجلَ، ونبذوا العهدَ، وكان ذلك سببًا
لإجلائهم عن المدينة - فهي روايةٌ لا تصح؛ لضعف إسنادها، ونكارتها، ولي
عودةٌ إليها في بحث آخر، إن شاء الله تعالى.
[30] "طبقات فحول الشعراء" (1 / 149).
[31] اللسان: (سلم).
[32]
أرجو ألا يسافر وهمُ بعض الناس إلى أنني أتنقص بذلك من علم هذا العالم
الجليل؛ حاشَا لله، وله في قلبي حب كبير، ولكن هل من شرط العالم ألا يخطئ؟
[33] أخرجه أحمد في المسند (25158)، بإسناد صحيح، واللفظ له، ومسلم في صحيحه (1817).
من الألوكة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق