الخميس، 3 مايو 2018

5 الروض الانف


[ ص 349 ] ذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ مَعْدِي كَرِبَ أَعَبّاسُ لَوْ كَانَتْ شِيَارًا جِيَادُنَا . الْبَيْتُ شِيَارًا مِنْ الشّارَةِ الْحَسَنَةِ يَعْنِي : سِمَانًا حِسَانًا وَبَعْدَ الْبَيْتِ وَلَكِنّهَا قِيدَتْ بِصَعْدَةِ مَرّةً فَأَصْبَحْنَ مَا يَمْشِينَ إلّا تَكَارُسَا
وَأَنْشَدَ أَيْضًا:أَجْذِمْ إلَيْك إنّهَا بَنُو عَبَسْ أَجْذِمْ زَجْرٌ مَعْرُوفٌ لِلْخَيْلِ وَكَذَلِكَ أَرْحِبْ وَهَبْ وَهِقِطْ وَهِقَطْ وَهِقَبْ .
وَأَنْشَدَنِي لِلَقِيطِ بْنِ زُرَارَةَ الدّارِمِيّ فِي يَوْمِ جَبَلَةَ :
أَجْذِمْ إلَيْك إنّهَا بَنُو عَبَسْ ... الْمُعْشِرُ الْجِلّةَ فِي الْقَوْمِ الْحَمَسْ
لِأَنّ بَنِي عَبَسٍ كَانُوا يَوْمَ جَبَلَةَ حُلَفَاءَ فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ . وَيَوْمُ جَبَلَةَ : يَوْمٌ كَانَ بَيْنَ بَنِي حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَبَيْنَ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَكَانَ الظّفَرُ فِيهِ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَلَى بَنِي حَنْظَلَةَ وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ لَقِيطُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدُسٍ وَأُسِرَ حَاجِبُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدُسٍ وَانْهَزَمَ عَمْرُو بْنُ عَمْرِو بْنِ [ ص 350 ] عُدُسُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ . فَفِيهِ يَقُولُ جَرِيرٌ لِلْفَرَزْدَقِ
كَأَنّك لَمْ تَشْهَدْ لَقِيطًا وَحَاجِبًا ... وَعَمْرَ بْنَ عَمْرٍو إذْ دَعَوْا : يَا لَدَارِمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ ثُمّ الْتَقَوْا يَوْمَ ذِي نَجَبٍ فَكَانَ الظّفَرُ لِحَنْظَلَةَ عَلَى بَنِي عَامِرٍ وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ حَسّانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيّ ، وَهُوَ أَبُو كَبْشَةَ . وَأُسِرَ يَزِيدُ بْنُ الصّعْقِ الْكِلَابِيّ وَانْهَزَمَ الطّفَيْلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ ، أَبُو عَامِرِ بْنُ الطّفَيْلِ . فَفِيهِ يَقُولُ الْفَرَزْدَقُ : وَمِنْهُنّ إذْ نَجّى طُفَيْلُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى قُرْزُلٍ رَجُلًا رَكُوضَ الْهَزَائِمِ
وَنَحْنُ ضَرَبْنَا هَامَةَ ابْنِ خُوَيْلِدٍ يَزِيدَ عَلَى أُمّ الْفِرَاخِ الْجَوَاثِمِ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . فَقَالَ جَرِيرٌ وَنَحْنُ خَضَبْنَا لَابْنِ كَبْشَةَ تَاجَه ُ وَلَاقَى امْرِئِ فِي ضَمّةِ الْخَيْلِ مُصْقِعَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَحَدِيثُ يَوْمِ جَبَلَةَ ، وَيَوْمُ ذِي نَجَبٍ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرْنَا . وَإِنّمَا مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ مَا ذَكَرْت فِي حَدِيثِ يَوْمِ الْفِجَارِ .
Sيَوْمُ جَبَلَةَ
وَذَكَرَ يَوْمَ جَبَلَةَ . وَجَبَلَةُ هَضْبَةٌ عَالِيَةٌ كَانُوا قَدْ أَحْرَزُوا فِيهَا عِيَالَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَكَانَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رَئِيسُ نَجْرَانَ ، وَهُوَ ابْنُ الْجَوْنِ الْكِنْدِيّ وَأَخٌ لِلنّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَحْسَبُ اسْمُهُ حَسّانُ بْنُ وَبَرَةَ وَهُوَ أَخُو النّعْمَانِ لِأُمّهِ وَفِي أَيّامِ جَبَلَةَ كَانَ مَوْلِدُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلِثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ مُلْكِ أَنُوشِرْوَانَ بْنِ قُبَاذٍ وَكَانَ مَوْلِدُ أَبِيهِ عَبْدِ اللّهِ لِأَرْبَعِ وَعِشْرِينَ مَضَتْ مِنْ مُلْكِ أَنُوشِرْوَانَ الْمَذْكُورِ فَبَيْنَهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَبَيْنَ أَبِيهِ عَبْدِ اللّهِ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً .
عُدُسٌ وَالْحِلّةُ وَالطّلْسُ
[ ص 350 ] وَذَكَرَ زُرَارَةُ بْنُ عُدُسِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ عُدُسٌ بِضَمّ الدّالِ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ إلّا أَبَا عُبَيْدَةَ فَإِنّهُ كَانَ يَفْتَحُ الدّالَ مِنْهُ وَكُلّ عُدُسٍ فِي الْعَرَبِ سِوَاهُ فَإِنّهُ مَفْتُوحُ الدّالِ . وَذَكَرَ الْحِلّةَ وَهُمْ مَا عَدَا الْحُمْسَ وَأَنّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً إنْ لَمْ يَجِدُوا ثِيَابَ أَحْمَسَ وَكَانُوا يَقْصِدُونَ فِي ذَلِكَ طَرْحَ الثّيَابِ الّتِي اقْتَرَفُوا فِيهَا الذّنُوبَ عَنْهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ الطّلْسَ مِنْ الْعَرَبِ ، وَهُمْ صِنْفٌ ثَالِثٌ [ ص 351 ] الْحِلّةِ ، وَالْحُمْسُ كَانُوا يَأْتُونَ مِنْ أَقْصَى الْيَمَنِ طُلْسًا مِنْ الْغُبَارِ فَيَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ فِي تِلْكَ الثّيَابِ الطّلْسِ فَسُمّوا بِذَلِكَ . ذَكَرَهُ مُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ ابْتَدَعُوا فِي ذَلِكَ أُمُورًا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ حَتّى قَالُوا : لَا يَنْبَغِي لِلْحُمْسِ أَنْ يَأْتَقِطُوا الْأَقِطَ وَلَا يَسْأَلُوا السّمْنَ وَهُمْ حُرُمٌ وَلَا يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ شَعْرٍ وَلَا يَسْتَظِلّوا - إنْ اسْتَظَلّوا - إلّا فِي بُيُوتِ الْأَدَمِ مَا كَانُوا حُرُمًا ، ثُمّ رَفَعُوا فِي ذَلِكَ فَقَالُوا : لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْحِلّ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ طَعَامٍ جَاءُوا بِهِ مَعَهُمْ مِنْ الْحِلّ إلَى الْحَرَمِ إذَا جَاءُوا حُجّاجًا أَوْ عُمّارًا ، وَلَا يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ إذَا قَدِمُوا أَوّلَ طَوَافِهِمْ إلّا فِي ثِيَابِ الْحُمْسِ . [ ص 351 ] طَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَإِنْ تَكَرّمَ مِنْكُمْ مُتَكَرّمٌ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ وَلَمْ يَجِدْ ثِيَابَ الْحُمْسِ . فَطَافَ فِي ثِيَابِهِ الّتِي جَاءَ بِهَا مِنْ الْحِلّ أَلْقَاهَا إذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ ثُمّ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا ، وَلَمْ يَمَسّهَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ غَيْرُهُ أَبَدًا . وَكَانَتْ الْعَرَبُ تُسَمّي تِلْكَ الثّيَابَ اللّقَى ، فَحَمَلُوا عَلَى ذَلِكَ الْعَرَبَ . فَدَانَتْ بِهِ وَوَقَفُوا عَلَى عَرَفَاتٍ ، وَأَفَاضُوا مِنْهَا ، وَطَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً أَمّا الرّجَالُ فَيَطُوفُونَ عُرَاةً . وَأَمّا النّسَاءُ فَتَضَعُ إحْدَاهُنّ ثِيَابَهَا كُلّهَا إلّا دِرْعًا مُفَرّجًا عَلَيْهَا ، ثُمّ تَطُوفُ فِيهِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ ، وَهِيَ كَذَلِكَ تَطُوفُ الْبَيْتَ
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلّهُ
وَمَنْ طَافَ مِنْهُمْ فِي ثِيَابِهِ الّتِي جَاءَ فِيهَا مِنْ الْحِلّ أَلْقَاهَا ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الْعَرَبِ يَذْكُرُ شَيْئًا تَرَكَهُ مِنْ ثِيَابِهِ فَلَا يَقْرَبُهُ - وَهُوَ يُحِبّهُ - كَفَى حَزَنًا كَرّي عَلَيْهَا كَأَنّهَا لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطّائِفِينَ حَرِيمُ
يَقُولُ لَا تَمَسّ . [ ص 352 ] فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتّى بَعَثَ اللّهُ تَعَالَى مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ حِينَ أَحْكَمَ لَهُ دِينَهُ . وَشَرَعَ لَهُ سُنَنَ حَجّهِ { ثُمّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الْبَقَرَةُ 199 ] . يَعْنِي قُرَيْشًا ، وَالنّاسُ الْعَرَبُ ، فَرَفَعَهُمْ فِي سُنّةِ الْحَجّ إلَى عَرَفَاتٍ ، وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا وَالْإِفَاضَةِ مِنْهَا . [ ص 353 ] وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِ فِيمَا كَانُوا حَرّمُوا عَلَى النّاسِ مِنْ طَعَامِهِمْ وَلُبُوسِهِمْ عِنْدَ الْبَيْتِ . حِينَ طَافُوا عُرَاةً وَحَرّمُوا مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْحِلّ مِنْ الطّعَامِ { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنّهُ لَا يُحِبّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ قُلْ هِيَ لِلّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ الْأَعْرَافُ 31 - 33 ] . فَوَضَعَ اللّهُ تَعَالَى أَمْرَ الْحُمْسِ وَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ ابْتَدَعَتْ مِنْهُ عَنْ النّاسِ بِالْإِسْلَامِ حِينَ بَعَثَ اللّهُ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 354 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ عُثْمَانَ بْن أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ عَمّهِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ . قَالَ لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَإِنّهُ لَوَاقِفٌ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ بِعَرَفَاتِ مَعَ النّاسِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ حَتّى يَدْفَعَ مَعَهُمْ تَوْفِيقًا مِنْ اللّهِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
Sاللّقَى
فَصْلٌ
وَذَكَرَ اللّقَى وَهُوَ الثّوْبُ الّذِي كَانَ يُطْرَحُ بَعْدَ الطّوَافِ فَلَا يَأْخُذُهُ أَحَدٌ ، وَأَنْشَدَ
كَفَى حَزَنًا كَرّي عَلَيْهِ كَأَنّهُ ... لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطّائِفِينَ حَرِيمُ
حَرِيمٌ أَيْ مُحْرِمٌ لَا يُؤْخَذُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَكُلّ شَيْءٍ مُطّرَحٌ ، فَهُوَ لَقًى قَالَ الشّاعِرُ يَصِفُ فَرْخَ قَطًا :
تَرْوِي لَقًى أُلْقِيَ فِي صَفْصَفٍ ... تَصْهَرُهُ الشّمْسُ فَمَا يَنْصَهِرْ
تُرْوَى بِفَتْحِ التّاءِ أَيْ تَسْتَقِي لَهُ وَمِنْ اللّقَى : حَدِيثُ فَاخِتَةَ أُمّ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، وَكَانَتْ دَخَلَتْ الْكَعْبَةَ وَهِيَ حَامِلٌ مُتِمّ بِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ فَلَمْ تَسْتَطِعْ الْخُرُوجَ مِنْ الْكَعْبَةِ ، فَوَضَعَتْهُ فِيهَا ، فَلُفّتْ فِي الْأَنْطَاعِ هِيَ وَجَنِينُهَا ، وَطُرِحَ مَثْبِرُهَا وَثِيَابُهَا الّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا ، فَجُعِلْت لَقًى لَا تُقْرَبُ .
رِجْزُ الْمَرْأَةِ الطّائِفَةِ
فَصْلٌ
[ ص 352 ] وَذَكَرَ قَوْلَ الْمَرْأَةِ الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلّهُ الْبَيْتَيْنِ وَيَذْكُرُ أَنّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ هِيَ ضُبَاعَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ثُمّ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ بْنِ قُشَيْرٍ ، وَذَكَرَ مُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَطَبَهَا ، فَذُكِرَتْ لَهُ عَنْهَا كِبْرَةٌ فَتَرَكَهَا ، فَقِيلَ إنّهَا مَاتَتْ كَمَدًا وَحُزْنًا عَلَى ذَلِكَ قَالَ الْمُؤَلّفُ إنْ كَانَ صَحّ هَذَا ، فَمَا أَخّرَهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ أُمّا لِلْمُؤْمِنِينَ وَزَوْجًا لِرَسُولِ رَبّ الْعَالَمِينَ إلّا قَوْلُهَا : الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلّهُ
. تَكْرِمَةً مِنْ اللّهِ لِنَبِيّهِ وَعِلْمًا مِنْهُ بِغَيْرَتِهِ وَاَللّهُ أَغْيَرُ مِنْهُ .
أُسْطُورَةٌ
وَمِمّا ذُكِرَ مِنْ تَعَرّيهمْ فِي الطّوَافِ أَنّ رَجُلًا وَامْرَأَةً طَافَا كَذَلِكَ فَانْضَمّ الرّجُلُ إلَى الْمَرْأَةِ تَلَذّذًا وَاسْتِمْتَاعًا ، فَلَصَقَ عَضُدَهُ بِعَضُدِهَا ، فَفَزِعَا عِنْدَ ذَلِكَ وَخَرَجَا مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُمَا مُلْتَصِقَانِ وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى فَكّ عَضُدِهِ مِنْ عَضُدِهَا ، حَتّى قَالَ لَهُمَا قَائِلٌ تُوبَا مِمّا كَانَ فِي ضَمِيرِكُمَا ، وَأَخْلِصَا لِلّهِ التّوْبَةَ فَفَعَلَا ، فَانْحَلّ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخِرِ .
قُرْزُلٌ وَطُفَيْلٌ
وَأَنْشَدَ لِلْفَرَزْدَقِ
وَمِنْهُنّ إذْ نَجّى طُفَيْلُ بْنُ مَالِكٍ ... عَلَى قُرْزُلٍ رَجُلًا رَكُوضَ الْهَزَائِمِ
قُرْزُلٌ اسْمُ فَرَسِهِ وَكَانَ طُفَيْلٌ يُسَمّى : فَارِسَ قُرْزُلٍ وَقُرْزُلٌ الْقَيْدُ سَمّى الْفَرَسَ بِهِ كَأَنّهُ يُقَيّدُ مَا يُسَابِقُهُ كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ : بِمُنْجَرِدِ قَيْدِ الْأَوَابِدِ هَيْكَلِ
وَطُفَيْلٌ هَذَا هُوَ وَالِدُ عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ ، عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّ رَسُولِهِ وَأَخُو طُفَيْلٍ هَذَا : [ ص 353 ] سُمّيَ مُلَاعِبًا ، وَنَذْكُرُ إخْوَتَهُ وَأَلْقَابَهُمْ فِي الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللّهُ .
الْهَامَةُ
وَقَوْلُهُ عَلَى أُمّ الْفِرَاخِ الْجَوَاثِمِ . يَعْنِي : الْهَامَةَ وَهِيَ الْبُومُ وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنّ الرّجُلَ إذَا قُتِلَ خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِهِ هَامَةٌ تَصِيحُ اسْقُونِي اسْقُونِي ، حَتّى يُؤْخَذَ بِثَأْرِهِ . قَالَ ذُو الْإِصْبَعِ الْعَدْوَانِيّ أَضْرِبْك حَتّى تَقُولَ الْهَامَةُ اسْقُونِي
شَرْحُ بَيْتِ جَرِيرٍ
فَصْلٌ
وَأَنْشَدَ جَرِيرٌ
وَنَحْنُ خَضَبْنَا لَابْنِ كَبْشَةَ تَاجَهُ ... وَلَاقَى امْرِئِ فِي ضَمّةِ الْخَيْلِ مِصْقَعَا
وَجَدْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ هَذَا الْبَيْتَ الْمَعْرُوفَ فِي اللّغَةِ أَنّ - الْمِصْقَعَ الْخَطِيبُ الْبَلِيغُ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ لَكِنْ يُقَالُ فِي اللّغَةِ صَقَعَهُ إذَا ضَرَبَهُ عَلَى شَيْءٍ مُصْمِتٍ يَابِسٍ قَالَهُ الْأَصْمَعِيّ ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِصْقَعٌ فِي هَذَا الْبَيْتِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ، فَيُقَالُ مِنْهُ رَجُلٌ مِصْقَعٌ كَمَا يُقَالُ مِحْرَبٌ وَفِي الْحَدِيثِ إنّ سَعْدًا لَمِحْرَبٌ يَعْنِي [ ابْنَ ] أَبِي وَقّاصٍ .
مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي أَمْرِ الْحُمْسِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي أَمْرِ الْحُمْسِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } الْآيَةُ [ الْأَعْرَافُ 30ْ ] فَقَوْلُهُ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا إشَارَةٌ إلَى مَا كَانَتْ الْحُمْسُ حَرّمَتْهُ مِنْ طَعَامِ الْحَجّ إلّا طَعَامَ أَحْمَسَ وَخُذُوا زِينَتَكُمْ يَعْنِي اللّبَاسَ وَلَا تَتَعَرّوْا ، وَلَذَلِكَ افْتَتَحَ بِقَوْلِهِ يَا بَنِي آدَمَ بَعْدَ أَنْ قَصّ خَبَرَ آدَمَ وَزَوْجَهُ إذْ يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنّةِ أَيْ إنْ كُنْتُمْ تَحْتَجّونَ بِأَنّهُ دِينُ آبَائِكُمْ فَآدَمُ أَبُوكُمْ وَدِينُهُ سِتْرٌ [ ص 354 ] قَالَ مِلّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ أَيْ إنْ كَانَتْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ دِينَ آبَائِكُمْ فَإِبْرَاهِيمُ أَبُوكُمْ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَمِمّا نَزَلَ فِي ذَلِكَ { وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } [ الْأَنْفَالُ 35 ] . فَفِي التّفْسِيرِ أَنّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً وَيُصَفّقُونَ بِأَيْدِيهِمْ وَيُصَفّرُونَ فَالْمُكَاءُ الصّفِيرُ وَالتّصْدِيَةُ التّصْفِيقُ . قَالَ الرّاجِزُ وَأَنَا مِنْ غَرْوِ الْهَوَى أُصَدّي . وَمِمّا نَزَلَ مِنْ أَمْرِ الْحُمْسِ { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا } [ الْبَقَرَةُ 189 ] . لِأَنّ الْحُمْسَ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ سَقْفٍ وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السّمَاءِ عَتَبَةُ بَابٍ وَلَا غَيْرُهَا ، فَإِنْ احْتَاجَ أَحَدُهُمْ إلَى حَاجَةٍ فِي دَارِهِ تَسَنّمَ الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ مِنْ الْبَابِ فَقَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الْبَقَرَةُ 189 ] .
وُقُوفُ النّبِيّ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَالنّبُوّةِ
وَذَكَرَ وُقُوفَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِعَرَفَةَ مَعَ النّاسِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَقَبْلَ النّبُوّةِ تَوْفِيقًا مِنْ اللّهِ حَتّى لَا يَفُوتَهُ ثَوَابُ الْحَجّ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ حِينَ رَآهُ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ مَعَ النّاسِ هَذَا رَجُلٌ أَحْمَسُ فَمَا بَالُهُ لَا يَقِفُ مَعَ الْحُمْسِ حَيْثُ يَقِفُونَ ؟
أَخْبَارُ الْكُهّانِ مِنْ الْعَرَبِ وَالْأَحْبَارِ مِنْ يَهُودَ وَالرّهْبَانِ مِنْ النّصَارَى
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ الْأَحْبَارُ مِنْ الْيَهُودِ ، وَالرّهْبَانُ مِنْ النّصَارَى ، وَالْكُهّانُ مِنْ [ ص 355 ] الْعَرَبِ ، قَدْ تَحَدّثُوا بِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَبْلَ مَبْعَثِهِ لَمّا تَقَارَبَ مِنْ زَمَانِهِ . أَمّا الْأَحْبَارُ مِنْ يَهُودَ وَالرّهْبَانُ مِنْ النّصَارَى . فَعَمّا وَجَدُوا فِي كُتُبهمْ مِنْ صِفَتِهِ وَصِفَةِ زَمَانِهِ وَمَا كَانَ مِنْ عَهْدِ أَنْبِيَائِهِمْ إلَيْهِمْ فِيهِ وَأَمّا الْكُهّانُ مِنْ الْعَرَبِ : فَأَتَتْهُمْ بِهِ الشّيَاطِينُ مِنْ الْجِنّ فِيمَا تَسْتَرِقُ مِنْ السّمْعِ إذْ كَانَتْ وَهِيَ لَا تُحْجَبُ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَذْفِ بِالنّجُومِ وَكَانَ الْكَاهِنُ وَالْكَاهِنَةُ لَا يَزَالُ يَقَعُ مِنْهُمَا ذِكْرُ بَعْضِ أُمُورِهِ لَا تُلْقِي الْعَرَبُ لِذَلِكَ فِيهِ بَالًا ، حَتّى بَعَثَهُ اللّهُ تَعَالَى ، وَوَقَعَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ الّتِي كَانُوا يَذْكُرُونَ . فَعَرَفُوهَا . فَلَمّا تَقَارَبَ أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَحَضَرَ مَبْعَثُهُ . حُجِبَتْ الشّيَاطِينُ عَنْ السّمْعِ وَحِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَقَاعِدِ الّتِي كَانَتْ تَقْعُدُ لِاسْتِرَاقِ السّمْعِ فِيهَا ، فَرُمُوا بِالنّجُومِ فَعَرَفَتْ الْجِنّ أَنّ ذَلِكَ لِأَمْرِ حَدَثَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ فِي الْعِبَادِ يَقُولُ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِيّهِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَعَثَهُ وَهُوَ يَقُصّ عَلَيْهِ خَبَرَ الْجِنّ إذْ حُجِبُوا عَنْ السّمْعِ فَعَرَفُوا مَا عَرَفُوا ، وَمَا أَنْكَرُوا مِنْ ذَلِكَ حِينَ رَأَوْا مَا رَأَوْا : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيّ أَنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنّ فَقَالُوا إِنّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبّنَا أَحَدًا وَأَنّهُ تَعَالَى جَدّ رَبّنَا مَا اتّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللّهِ شَطَطًا وَأَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَى اللّهِ كَذِبًا وَأَنّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [ ص 356 ] { وَأَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا وَأَنّا لَا نَدْرِي أَشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَدًا } [ الْجِنّ : 1 - 6 ثُمّ 9 ، 10 ] . فَلَمّا سَمِعَتْ الْجِنّ الْقُرْآنَ عَرَفَتْ أَنّهَا إنّمَا مُنِعَتْ مِنْ السّمْعِ قَبْلَ ذَلِكَ لِئَلّا يُشْكِلُ الْوَحْيُ بِشَيْءِ خَبَرَ السّمَاءِ فَيَلْتَبِسُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مَا جَاءَهُمْ مِنْ اللّهِ فِيهِ لِوُقُوعِ الْحُجّةِ وَقَطْعِ الشّبْهَةِ . فَآمَنُوا وَصَدّقُوا ، ثُمّ [ ص 357 ] { وَلّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } الْآيَةُ [ الْأَحْقَافُ : 30 ]
Sفَصْلٌ فِي الْكِهَانَةِ
رُوِيَ فِي مَأْثُورِ الْأَخْبَارِ أَنّ إبْلِيسَ كَانَ يَخْتَرِقُ السّمَوَاتِ قَبْلَ عِيسَى ، فَلَمّا بُعِثَ عِيسَى ، [ ص 355 ] الشّيَاطِينُ بِالنّجُومِ وَقَالَتْ قُرَيْشٌ حِينَ كَثُرَ الْقَذْفُ بِالنّجُومِ قَامَتْ السّاعَةُ فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ : اُنْظُرُوا إلَى الْعَيّوقِ فَإِنْ كَانَ رُمِيَ بِهِ فَقَدْ آنَ قِيَامُ السّاعَةِ وَإِلّا فَلَا . وَمِمّنْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ .
رَمْيُ الشّيَاطِينِ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا رُمِيَتْ بِهِ الشّيَاطِينُ حِينَ ظَهَرَ الْقَذْفُ بِالنّجُومِ لِئَلّا يَلْتَبِسَ بِالْوَحْيِ وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَظْهَرَ لِلْحُجّةِ وَأَقْطَعَ لِلشّبْهَةِ وَالَذَى قَالَهُ صَحِيحٌ وَلَكِنّ الْقَذْفَ بِالنّجُومِ قَدْ كَانَ قَدِيمًا ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي أَشْعَارِ الْقُدَمَاءِ مِنْ الْجَاهِلِيّةِ . مِنْهُمْ عَوْفُ بْنُ أَجْرِعَ وَأَوْسُ بْنُ حَجَرٍ وَبِشْرُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ وَكُلّهُمْ جَاهِلِيّ ، وَقَدْ وَصَفُوا الرّمْيَ بِالنّجُومِ وَأَبْيَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي مُشْكِلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْجِنّ ، وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ هَذَا الرّمْيِ بِالنّجُومِ أَكَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ ؟ قَالَ نَعَمْ وَلَكِنّهُ إذْ جَاءَ الْإِسْلَامُ غَلّظَ وَشَدّدَ وَفِي قَوْلِ اللّهِ سُبْحَانَهُ { وَأَنّا لَمَسْنَا السّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا } [ الْجِنّ : 8 ] الْآيَةُ وَلَمْ يَقُلْ حُرِسَتْ دَلِيلٌ عَلَى [ ص 356 ] كَانَ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَمّا بُعِثَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ، وَذَلِكَ لِيَنْحَسِمَ أَمْرُ الشّيَاطِينِ وَتَخْلِيطِهِمْ وَلِتَكُونَ الْآيَةُ أَبْيَنَ وَالْحُجّةُ أَقْطَعَ وَإِنْ وُجِدَ الْيَوْمَ كَاهِنٌ فَلَا يَدْفَعُ ذَلِكَ بِمَا أَخْبَرَ اللّهُ بِهِ مِنْ طَرْدِ الشّيَاطِينِ عَنْ اسْتِرَاقِ السّمْعِ فَإِنّ ذَلِكَ التّغْلِيظَ وَالتّشْدِيدَ كَانَ زَمَنَ النّبُوّةِ ثُمّ بَقِيَتْ مِنْهُ أَعْنِي مِنْ اسْتِرَاقِ السّمْعِ بَقَايَا يَسِيرَةٌ بِدَلِيلِ وُجُودِهِمْ عَلَى النّدُورِ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ وَفِي بَعْضِ الْبِلَادِ . وَقَدْ سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ الْكُهّانِ فَقَالَ لَيْسُوا بِشَيْءِ فَقِيلَ إنّهُمْ يَتَكَلّمُونَ بِالْكَلِمَةِ فَتَكُونُ كَمَا قَالُوا ، فَقَالَ تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْجِنّ يَحْفَظُهَا الْجِنّيّ ، فَيُقِرّهَا فِي أُذُنِ وَلِيّهِ قَرّ الزّجَاجَةِ فَيَخْلِطُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كِذْبَةٍ ، وَيُرْوَى : قَرّ الدّجَاجَةِ بِالدّالِ وَعَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ تَكَلّمَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ . وَالزّجَاجَةُ بِالزّايِ أَوْلَى ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصّحِيحِ فَيُقِرّهَا فِي أُذُنِ وَلِيّهِ كَمَا تُقَرّ الْقَارُورَةُ وَمَعْنَى يُقِرّهَا : يَصُبّهَا وَيُفْرِغُهَا ، قَالَ الرّاجِزُ
لَا تُفْرِغَنْ فِي أُذُنِي قَرّهَا ... مَا يَسْتَفِزّ فَأُرِيك فَقْرَهَا
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ سَلَامٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ إذَا رَمَى الشّهَابُ الْجِنّيّ لَمْ يُخْطِئْهُ وَيُحَرّقُ مَا أَصَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ فِي أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ الْعَيْنِ وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ سَلَامٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنّهُ كَانَ مَعَ قَوْمٍ فَرُمِيَ بِنَجْمِ فَقَالَ لَا تُتْبِعُوهُ أَبْصَارَكُمْ وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ حَفْصٍ أَنّهُ سَأَلَ الْحَسَنَ أَيُتْبِعُ بَصَرَهُ الْكَوْكَبَ . فَقَالَ قَالَ سُبْحَانَهُ { وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشّيَاطِينِ } [ الْمُلْكُ 5 ] . وَقَالَ { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الْأَعْرَافُ 185 ] . قَالَ كَيْفَ نَعْلَمُ إذَا لَمْ نَنْظُرْ إلَيْهِ لَأُتْبِعَنّهُ بَصَرِي .
الْجِنّ الّذِينَ ذَكَرَهُمْ الْقُرْآنُ
وَذَكَرَ النّفَرَ مِنْ الْجِنّ الّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ وَاَلّذِينَ [ ص 357 ] { وَلّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى } [ الْأَحْقَافُ : 30ْ ] . وَفِي الْحَدِيثِ أَنّهُمْ كَانُوا مِنْ جِنّ نَصِيبِينَ . وَفِي التّفْسِيرِ أَنّهُمْ كَانُوا يَهُودًا ؛ وَلِذَلِكَ قَالُوا : مِنْ بَعْدِ مُوسَى ، وَلَمْ يَقُولُوا مِنْ بَعْدِ عِيسَى ذَكَرَهُ ابْنُ سَلَامٍ . وَكَانُوا سَبْعَةً قَدْ ذُكِرُوا بِأَسْمَائِهِمْ فِي التّفَاسِيرِ وَالْمُسْنَدَاتِ وَهُمْ شَاصِرٌ وَمَاصِرٌ وَمُنْشَى ، وَلَاشَى ، وَالْأَحْقَابُ وَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ ذَكَرَهُمْ ابْنُ دُرَيْدٍ وَوَجَدْت فِي خَبَرٍ حَدّثَنِي بِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَاهِرٍ الْإِشْبِيلِيّ الْقَيْسِيّ عَنْ أَبِي عَلِيّ الْغَسّانِيّ فِي فَضْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَمْشِي فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ فَإِذَا حَيّةٌ مَيّتَةٌ فَكَفّنَهَا بِفَضْلَةِ مِنْ رِدَائِهِ وَدَفَنَهَا فَإِذَا قَائِلٌ يَقُولُ يَا سُرّقُ اشْهَدْ لَسَمِعْت رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَقُولُ لَك : " سَتَمُوتُ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَيُكَفّنُك وَيَدْفِنُك رَجُلٌ صَالِحٌ " ، فَقَالَ مَنْ أَنْتَ - يَرْحَمُك اللّهُ - فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ الّذِينَ تَسَمّعُوا الْقُرْآنَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إلّا أَنَا وَسُرّقٌ وَهَذَا سُرّقٌ قَدْ مَاتَ . وَذَكَرَ ابْنُ سَلَامٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إسْحَاقَ [ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَلِيّ ] السّبِيعِيّ عَنْ أَشْيَاخِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنّهُ كَانَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَمْشُونَ فَرُفِعَ لَهُمْ إعْصَارٌ ثُمّ جَاءَ إعْصَارٌ أَعْظَمُ مِنْهُ ثُمّ انْقَشَعَ فَإِذَا حَيّةٌ قَتِيلٌ فَعَمَدَ رَجُلٌ مِنّا إلَى رِدَائِهِ فَشَقّهُ وَكَفّنَ الْحَيّةَ بِبَعْضِهِ وَدَفَنَهَا . فَلَمّا جَنّ اللّيْلُ إذَا امْرَأَتَانِ تُتَسَاءَلَانِ أَيّكُمْ دَفَنَ عَمْرَو بْنَ جَابِرٍ ؟ فَقُلْنَا : مَا نَدْرِي مَنْ عَمْرُو بْنُ جَابِرٍ ؟ فَقَالَتَا : إنْ كُنْتُمْ ابْتَغَيْتُمْ الْأَجْرَ فَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ . إنّ فَسَقَةَ الْجِنّ اقْتَتَلُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فَقُتِلَ عَمْرٌو ، وَهُوَ الْحَيّةُ الّتِي رَأَيْتُمْ وَهُوَ مِنْ النّفَرِ الّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ وَلّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ
وَكَانَ قَوْلُ الْجِنّ : { وَأَنّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } أَنّهُ كَانَ الرّجُلُ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ إذَا سَافَرَ فَنَزَلَ بَطْنَ وَادٍ مِنْ الْأَرْضِ لِيَبِيتَ فِيهِ قَالَ إنّي أَعُوذُ بِعَزِيزِ هَذَا الْوَادِي مِنْ الْجِنّ اللّيْلَةَ مِنْ شَرّ مَا فِيهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الرّهَقُ الطّغْيَانُ وَالسّفَهُ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : إذْ تَسْتَبِي الْهَيّامَةُ الْمُرَهّقَا
[ بِمُقْلَتَيْ رِيمٍ وَحِيدٍ أَرْشَقَا ]
[ ص 358 ] قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ يَصِفُ حَمِيرَ وَحْشٍ بَصْبَصْنَ وَاقْشَعْرَرْنَ مِنْ خَوْفِ الرّهَقْ
[ يَمْصَعْنَ بِالْأَذْنَابِ مِنْ لَوْحٍ وَبَقْ ]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . وَالرّهَقُ أَيْضًا : مَصْدَرٌ لِقَوْلِ الرّجُلِ رَهِقْت الْإِثْمَ أَوْ الْعُسْرَ الّذِي أَرْهَقْتنِي رَهَقًا شَدِيدًا ، أَيْ حَمَلْت الْإِثْمَ أَوْ الْعُسْرَ الّذِي حَمّلْتنِي حِمْلًا شَدِيدًا ، وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى : { فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا } [ الْكَهْفُ : 80 ] وَقَوْلُهُ { وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا } [ الْكَهْفُ : 73 ] . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّهُ حَدّثَ أَنّ [ ص 359 ] فَزِعَ لِلرّمْيِ بِالنّجُومِ - حِينَ رُمِيَ بِهَا - هَذَا الْحَيّ مِنْ ثَقِيفٍ ، وَأَنّهُمْ جَاءُوا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ أَحَدُ بَنِي عِلَاجٍ - قَالَ وَكَانَ أَدْهَى الْعَرَبِ وَأَنْكَرَهَا رَأْيًا - فَقَالُوا لَهُ يَا عَمْرُو : أَلَمْ تَرَ مَا حَدّثَ فِي السّمَاءِ مِنْ الْقَذْفِ بِهَذِهِ النّجُومِ ؟ قَالَ بَلَى فَانْظُرُوا ، فَإِنْ كَانَتْ مَعَالِمُ النّجُومِ الّتِي يُهْتَدَى بِهَا فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَتُعْرَفُ بِهَا الْأَنْوَاءُ مِنْ الصّيْفِ وَالشّتَاءِ لِمَا يُصْلِحُ النّاسَ فِي مَعَايِشِهِمْ هِيَ الّتِي يُرْمَى بِهَا ، فَهُوَ وَاَللّهِ طَيّ الدّنْيَا ، وَهَلَاكُ هَذَا الْخَلْقِ الّذِي فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ نُجُومًا غَيْرَهَا ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ عَلَى حَالِهَا ، فَهَذَا لِأَمْرِ أَرَادَ اللّهُ بِهِ هَذَا الْخَلْقَ فَمَا هُوَ ؟
S[ ص 358 ]
ابْنُ عِلَاطٍ وَالْجِنّ
فَصْلٌ وَأَمّا مَا ذَكَرَهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَأَنّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنّ } الْآيَةُ [ الْجِنّ : 6 ] . فَقَدْ رُوِيَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ حَجّاجِ بْنِ عِلَاطٍ السّلَمِيّ وَهُوَ وَالِدُ نَصْرِ بْنِ حَجّاجٍ الّذِي قِيلَ فِيهِ أَمْ لَا سَبِيلَ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجّاجِ
أَنّهُ قَدِمَ مَكّةَ فِي رَكْبٍ فَأَجَنّهُمْ اللّيْلُ بِوَادٍ مَخُوفٍ مُوحِشٍ فَقَالَ لَهُ الرّكْبُ قُمْ خُذْ لِنَفْسِك أَمَانًا ، وَلِأَصْحَابِك ، فَجَعَلَ يَطُوفُ بِالرّكْبِ وَيَقُولُ أُعِيذُ نَفْسِي وَأُعِيذُ صَحْبِي
مِنْ كُلّ جِنّيّ بِهَذَا النّقْبِ
حَتّى أَءُوب سَالِمًا وَرَكْبِي
فَسَمِعَ قَارِئًا : { يَا مَعْشَرَ الْجِنّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلّا بِسُلْطَانٍ } الْآيَةُ [ الرّحْمَنُ 33 ] . فَلَمّا قَدِمَ مَكّةَ خَبّرَ كُفّارَ قُرَيْشٍ بِمَا سَمِعَ فَقَالُوا : أَصَبْت يَا أَبَا كِلَابٍ . إنّ هَذَا يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ سَمِعْته وَسَمِعَهُ هَؤُلَاءِ مَعِي ، ثُمّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَهَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا فَهُوَ يُعْرَفُ بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَذَكَرَ مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْعَبّاسِ عَنْ نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُمْ [ ص 360 ] مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي هَذَا النّجْمِ الّذِي يُرْمَى بِهِ ؟ قَالُوا : يَا نَبِيّ اللّهِ كُنّا نَقُولُ حِينَ رَأَيْنَاهَا يُرْمَى بِهَا : مَاتَ مَلِكٌ مُلّكَ مَلِكٌ وُلِدَ مَوْلُودٌ مَاتَ مَوْلُودٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَلَكِنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَانَ إذَا قَضَى فِي خَلْقِهِ أَمْرًا سَمِعَهُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ فَسَبّحُوا ، فَسَبّحَ مَنْ تَحْتَهُمْ فَسَبّحَ لِتَسْبِيحِهِمْ مَنْ تَحْتَ ذَلِكَ فَلَا يَزَالُ التّسْبِيحُ يَهْبِطُ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى السّمَاءِ الدّنْيَا ، فَيُسَبّحُوا ثُمّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ مِمّ سَبّحْتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ سَبّحَ مَنْ فَوْقَنَا فَسَبّحْنَا لِتَسْبِيحِهِمْ فَيَقُولُونَ أَلَا تَسْأَلُونَ مَنْ فَوْقَكُمْ مِمّ سَبّحُوا ؟ فَيَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ حَتّى يَنْتَهُوا إلَى حَمَلَةِ الْعَرْشِ فَيُقَالُ لَهُمْ مِمّ سَبّحْتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ قَضَى اللّهُ فِي خَلْقِهِ كَذَا وَكَذَا ، لِلْأَمْرِ الّذِي كَانَ فَيَهْبِطُ بِهِ الْخَبَرُ مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى السّمَاءِ الدّنْيَا ، فَيَتَحَدّثُوا بِهِ فَتَسْتَرِقُهُ الشّيَاطِينُ بِالسّمْعِ عَلَى تَوَهّمٍ وَاخْتِلَافٍ ثُمّ يَأْتُوا بِهِ الْكُهّانَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَيُحَدّثُوهُمْ بِهِ فَيُخْطِئُونَ وَيُصِيبُونَ فَيَتَحَدّثُ بِهِ الْكُهّانُ فَيُصِيبُونَ بَعْضًا وَيُخْطِئُونَ بَعْضًا . ثُمّ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ حَجَبَ الشّيَاطِينَ بِهَذِهِ النّجُومِ الّتِي يَقْذِفُونَ بِهَا ، فَانْقَطَعَتْ الْكِهَانَةُ الْيَوْمَ فَلَا كِهَانَةَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَمْرُو بْن أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْن أَبِي لَبِيبَةَ عَنْ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْهُ .S[ ص 359 ]
حَوْلَ انْقِطَاعِ الْكِهَانَةِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ وَفِيهِ كُنّا نَقُولُ إذَا رَأَيْنَاهُ يَمُوتُ عَظِيمٌ أَوْ يُولَدُ عَظِيمٌ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا قَدّمْنَاهُ مِنْ أَنّ الْقَذْفَ بِالنّجُومِ كَانَ قَدِيمًا ، وَلَكِنّهُ إذْ بُعِثَ الرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ وَغَلّظَ وَشَدّدَ - كَمَا قَالَ الزّهْرِيّ - وَمُلِئَتْ السّمَاءُ حَرَسًا . وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ الْكِهَانَةُ الْيَوْمَ فَلَا كِهَانَةَ يَدُلّ قَوْلُهُ الْيَوْمَ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ الزّمَانِ كَمَا قَدّمْنَاهُ وَاَلّذِي انْقَطَعَ الْيَوْمَ وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنْ تُدْرِكَ الشّيَاطِينُ مَا كَانَتْ تُدْرِكُهُ فِي الْجَاهِلِيّةِ الْجَهْلَاءِ وَعِنْدَ تَمَكّنِهَا مِنْ سَمَاعِ أَخْبَارِ السّمَاءِ وَمَا يُوجَدُ الْيَوْمَ مِنْ كَلَامِ الْجِنّ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَجَانِينِ إنّمَا هُوَ خَبَرٌ مِنْهُمْ عَمّا يَرَوْنَهُ فِي الْأَرْضِ مِمّا لَا نَرَاهُ نَحْنُ كَسَرِقَةِ سَارِقٍ أَوْ خَبِيئَتِهِ فِي مَكَانٍ خَفِيّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَإِنْ أَخْبَرُوا بِمَا سَيَكُونُ كَانَ تَخَرّصًا وَتَظَنّيًا ، فَيُصِيبُونَ قَلِيلًا ، وَيُخْطِئُونَ كَثِيرًا . [ ص 360 ] الْعَنَانِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيّ ، فَيُطْرَدُونَ بِالنّجُومِ فَيُضِيفُونَ إلَى الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كِذْبَةٍ - كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ - فِي الْحَدِيثِ الّذِي قَدّمْنَاهُ فَإِنْ قُلْت : فَقَدْ كَانَ صَافُ بْنُ صَيّادٍ وَكَانَ يَتَكَهّنُ وَيَدّعِي النّبُوّةَ وَخَبّأَ لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَبِيئًا ، فَعَلِمَهُ وَهُوَ الدّخّ فَأَيْنَ انْقِطَاعُ الْكِهَانَةِ فِي ذَلِكَ الزّمَانِ ؟ قُلْنَا : عَنْ هَذَا جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا ذَكَرَهُ الْخَطّابِيّ فِي أَعْلَامِ الْحَدِيثِ قَالَ الدّخّ نَبَاتٌ يَكُونُ مِنْ النّخِيلِ ، وَخَبّأَ لَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } [ الدّخّانُ 10 ] ، فَعَلَى هَذَا لَمْ يُصِبْ ابْنُ صَيّادٍ مَا خَبّأَ لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الثّانِي : أَنّ شَيْطَانَهُ كَانَ يَأْتِيهِ بِمَا خَفِيَ مِنْ أَخْبَارِ الْأَرْضِ وَلَا يَأْتِيهِ بِخَبَرِ السّمَاءِ لِمَكَانِ الْقَذْفِ وَالرّجْمِ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالدّخّ الدّخَانَ بِقُوّةِ جُعِلَتْ لَهُمْ فِي أَسْمَاعِهِمْ لَيْسَتْ لَنَا ، فَأَلْقَى الْكَلِمَةَ عَنْ لِسَانِ صِافٍ وَحْدَهَا ، إذْ لَمْ يُمْكِنْ سَمَاعُ سَائِرِ الْآيَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ النّبِيّ - عَلَيْهِ السّلَامُ - اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدَرَ اللّهِ فِيك أَيْ فَلَنْ تَعْدُوَ مَنْزِلَتَك مِنْ الْعَجْزِ عَنْ عِلْمِ الْغَيْبِ وَإِنّمَا الّذِي يُمْكِنُ فِي حَقّهِ هَذَا الْقَدَرُ دُونَ مَزِيدٍ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا النّحْوِ فَسّرَهُ الْخَطّابِيّ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَهْمٍ يُقَالُ لَهَا الْغَيْطَلَةَ ، كَانَتْ كَاهِنَةً فِي الْجَاهِلِيّةِ فَلَمّا جَاءَهَا صَاحِبُهَا فِي لَيْلَةٍ مِنْ اللّيَالِي ، فَأَنْقَضَ [ ص 361 ] قَالَ أَدْرِ مَا أَدْرِ يَوْمَ عَقْرٍ وَنَحْرِ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ حِينَ بَلَغَهَا ذَلِكَ مَا يُرِيدُ ؟ ثُمّ جَاءَهَا لَيْلَةً أُخْرَى ، فَأَنْقَضَ تَحْتَهَا ، ثُمّ قَالَ شُعُوبٌ مَا شُعُوبْ تُصْرَعُ فِيهِ كَعْبٌ لِجُنُوبْ فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ، قَالُوا : مَاذَا يُرِيدُ ؟ إنّ هَذَا لَأَمْرٌ هُوَ كَائِنٌ فَانْظُرُوا مَا هُوَ ؟ فَمَا عَرَفُوهُ حَتّى كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ وَأُحُدٍ بِالشّعْبِ فَعَرَفُوا أَنّهُ الّذِي كَانَ جَاءَ إلَى صَاحِبَتِهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْغَيْطَلَةُ مِنْ بَنِي مُرّةَ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ إخْوَةُ مُدْلِجِ بْنِ مُرّةَ وَهِيَ أُمّ الْغَيَاطِلِ الّذِينَ ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا ... بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالْغَيَاطِلِ
فَقِيلَ لِوَلَدِهَا : الْغَيَاطِلُ ، وَهُمْ مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصٍ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ نَافِعٍ الْجَرْشِيّ أَنّ جَنْبًا بَطْنٌ مِنْ الْيَمَنِ ، كَانَ لَهُمْ كَاهِنٌ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَلَمّا ذُكِرَ أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَانْتَشَرَ فِي الْعَرَبِ ، قَالَتْ لَهُ جَنْبٌ اُنْظُرْ لَنَا فِي أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ وَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي أَسْفَلِ جَبَلِهِ فَنَزَلَ عَلَيْهِمْ حِينَ طَلَعَتْ الشّمْسُ فَوَقَفَ لَهُمْ قَائِمًا مُتّكِئًا عَلَى قَوْسٍ لَهُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السّمَاءِ طَوِيلًا ، ثُمّ جَعَلَ يَنْزُو ، ثُمّ قَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّ اللّهَ أَكْرَمَ مُحَمّدًا وَاصْطَفَاهُ وَطَهّرَ قَلْبَهُ وَحَشَاهُ وَمُكْثُهُ فِيكُمْ أَيّهَا النّاسُ قَلِيلٌ ثُمّ اشْتَدّ فِي جَبَلِهِ رَاجِعًا مِنْ حَيْثُ جَاءَ [ ص 362 ] [ ص 363 ]
Sالْغَيْطَلَةُ الْكَاهِنَةُ وَكِهَانَتُهَا
فَصْلٌ
وَذَكَرَ حَدِيثَ الْغَيْطَلَةِ الْكَاهِنَةِ قَالَ وَهِيَ مِنْ بَنِي مُرّةَ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ أَخِي مُدْلِجٍ وَهِيَ أُمّ الْغَيَاطِلِ الّذِي ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ وَسَنَذْكُرُ مَعْنَى الْغَيْطَلَةِ عِنْدَ شِعْرِ أَبِي طَالِبٍ إنْ شَاءَ اللّهُ . وَنَذْكُرُهَا هَاهُنَا مَا أَلْفِيّتِهِ فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . قَالَ الْغَيْطَلَةُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الصّعِقِ بْنِ شَنُوقِ بْنِ مُرّةَ وَشَنُوقٌ أَخُو مُدْلِجٍ وَهَكَذَا ذَكَرَ نَسَبَهَا الزّبَيْرُ . [ ص 361 ] وَذَكَرَ قَوْلَهَا : شُعُوبُ وَمَا شُعُوبْ تُصْرَعُ فِيهَا كَعْبٌ لِجُنُوبْ . كَعْبٌ هَاهُنَا هُوَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيّ ، وَاَلّذِينَ صُرِعُوا لِجُنُوبِهِمْ بِبَدْرِ وَأُحُدٍ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ ، مُعْظَمُهُمْ مِنْ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَشُعُوبٌ هَاهُنَا أَحْسَبُهُ بِضَمّ الشّينِ وَلَمْ أَجِدْهُ مُقَيّدًا ، وَكَأَنّهُ جَمْعُ شَعْبٍ وَقَوْلُ ابْنِ إسْحَاقَ يَدُلّ عَلَى هَذَا حِينَ قَالَ فَلَمْ يَدْرِ مَا قَالَتْ حَتّى قُتِلَ مَنْ قُتِلَ بِبَدْرِ وَأُحُدٍ بِالشّعْبِ . وَذَكَرَ قَوْلَ التّابِعِ أَدْرِ مَا أَدْرِ وَقَيّدَ عَنْ أَبِي عَلِيّ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى : وَمَا بَدْرٌ ؟ وَهِيَ أَبْيَنُ مِنْ هَذِهِ وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ النّعْمَانِ النّجّارِيّةَ كَانَ لَهَا تَابِعٌ مِنْ الْجِنّ ، وَكَانَ إذَا جَاءَهَا اقْتَحَمَ عَلَيْهَا فِي بَيْتِهَا ، فَلَمّا كَانَ فِي أَوّلِ الْبَعْثِ أَتَاهَا ، فَقَعَدَ عَلَى حَائِطِ الدّارِ وَلَمْ يَدْخُلْ فَقَالَتْ لَهُ لِمَ لَا تَدْخُلُ ؟ فَقَالَ قَدْ بُعِثَ نَبِيّ بِتَحْرِيمِ الزّنَا ، فَذَلِكَ أَوّلُ مَا ذُكِرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ [ ص 362 ]
ثَقِيفٌ وَلَهَبٌ وَالرّمْيُ بِالنّجُومِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ إنْكَارَ ثَقِيفٍ لِلرّمْيِ بِالنّجُومِ وَمَا قَالَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ أَحَدُ بَنِي عِلَاجٍ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحُ الْمَعْنَى ، لَكِنّ فِيهِ إبْهَامًا لِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ هَذِهِ النّجُومُ فَهُوَ لِأَمْرِ حَدَثَ فَمَا هُوَ وَقَدْ فَعَلَ مَا فَعَلَتْ ثَقِيفٌ بَنُو لِهْبٍ عِنْدَ فَزَعِهِمْ لِلرّمْيِ بِالنّجُومِ فَاجْتَمَعُوا إلَى كَاهِنٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ خَطَرُ فَبَيّنَ لَهُمْ الْخَبَرَ ، وَمَا حَدَثَ مِنْ أَمْرِ النّبُوّةِ . رَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الْعَقِيلِيّ فِي كِتَابِ الصّحَابَةِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي لِهْبٍ يُقَالُ لَهُ لِهْبٌ أَوْ لُهَيْبٌ . وَقَدْ تَكَلّمْنَا عَلَى نَسَبِ لِهْبٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ . قَالَ لُهَيْبٌ حَضَرْت مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرْت عِنْدَهُ الْكِهَانَةَ فَقُلْت : بِأَبِي وَأُمّي : نَحْنُ أَوّلُ مَنْ عَرَفَ حِرَاسَةَ السّمَاءِ وَزَجْرَ الشّيَاطِينِ وَمَنْعَهُمْ مِنْ اسْتِرَاقِ السّمْعِ عِنْدَ قَذْفِ النّجُومِ وَذَلِكَ أَنّا اجْتَمَعْنَا إلَى كَاهِنٍ لَنَا يُقَالُ لَهُ خَطَرُ بْنُ مَالِكٍ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا ، قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ مِائَتَا سَنَةٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ كُهّانِنَا ، فَقُلْنَا : يَا خَطَرُ هَلْ عِنْدَك عِلْمٌ مِنْ هَذِهِ النّجُومِ الّتِي يُرْمَى بِهَا ، فَإِنّا قَدْ فَزِعْنَا لَهَا ، وَخَشِينَا سُوءَ عَاقِبَتِهَا ؟ فَقَالَ ائْتُونِي بِسَحَرْ
أُخْبِرُكُمْ الْخَبَرْ
أَبِخَيْرِ أَمْ ضَرَرْ
أَوْ لِأَمْنِ أَوْ حَذَرْ
قَالَ فَانْصَرَفْنَا عَنْهُ يَوْمَنَا ، فَلَمّا كَانَ مِنْ غَد فِي وَجْهِ السّحَرِ أَتَيْنَاهُ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ عَلَى قَدَمَيْهِ شَاخِصٌ فِي السّمَاءِ بِعَيْنَيْهِ فَنَادَيْنَاهُ أَخَطَرٌ يَا خَطَرُ ؟ فَأَوْمَأَ إلَيْنَا : أَنْ أَمْسِكُوا ، فَانْقَضّ نَجْمٌ عَظِيمٌ مِنْ السّمَاءِ وَصَرَخَ الْكَاهِنُ رَافِعًا صَوْتَهُ
أَصَابَهُ إصَابَة ... خَامَرَهُ عِقَابُهْ
عَاجَلَهُ عَذَابُهْ ... أَحْرَقَهُ شِهَابُهْ
زَايَلَهُ جَوَابُهْ
يَا وَيْلَهُ مَا حَالُهْ ... بَلْبَلَهُ بَلْبَالُهْ
عَاوَدَهُ خَبَالُهْ ... تَقَطّعَتْ حِبَالُهْ
وَغُيّرَتْ أَحْوَالُهْ
[ ص 363 ] أَمْسَكَ طَوِيلًا وَهُوَ يَقُولُ
يَا مَعْشَرَ بَنِي قَحْطَانِ ... أُخْبِرُكُمْ بِالْحَقّ وَالْبَيَانِ
أَقْسَمْت بِالْكَعْبَةِ وَالْأَرْكَانِ ... وَالْبَلَدِ الْمُؤْتَمَنِ السّدّانِ
لَقَدْ مُنِعَ السّمْعَ عُتَاةُ الْجَانّ ... بِثَاقِبِ بِكَفّ ذِي سُلْطَانِ
مِنْ أَجْلِ مَبْعُوثٍ عَظِيمِ الشّانِ ... يُبْعَثُ بِالتّنْزِيلِ وَالْقُرْآنِ
وَبِالْهُدَى وَفَاصِلِ الْقُرْآنِ ... تَبْطُلُ بِهِ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ
قَالَ فَقُلْنَا : وَيْحَك يَا خَطَرُ إنّك لَتَذْكُرُ أَمْرًا عَظِيمًا ، فَمَاذَا تَرَى لِقَوْمِك ؟ فَقَالَ
أَرَى لِقَوْمِي مَا أَرَى لِنَفْسِي ... أَنْ يَتّبِعُوا خَيْرَ نَبِيّ الْإِنْسِ
بُرْهَانُهُ مِثْلُ شُعَاعِ الشّمْسِ ... يُبْعَثُ فِي مَكّةَ دَارِ الْحُمْسِ
بِمُحْكَمِ التّنْزِيلِ غَيْرِ اللّبْسِ
فَقُلْنَا لَهُ يَا خَطَرُ وَمِمّنْ هُوَ ؟ فَقَالَ وَالْحَيَاةِ وَالْعَيْشِ . إنّهُ لَمِنْ قُرَيْشٍ ، مَا فِي حِلْمِهِ طَيْشٌ وَلَا فِي خُلُقِهِ هَيْشٌ يَكُونُ فِي جَيْشٍ وَأَيّ جَيْشٍ مِنْ آلِ قَحْطَانَ وَآلِ أَيْشٍ فَقُلْت لَهُ بَيّنِ لَنَا : مِنْ أَيّ قُرَيْشٍ هُوَ ؟ فَقَالَ وَالْبَيْتِ ذِي الدّعَائِمِ وَالرّكْنِ وَالْأَحَائِمِ إنّهُ لَمِنْ نَجْلِ هَاشِمٍ مِنْ مَعْشَرٍ كَرَائِمٍ يُبْعَثُ بِالْمَلَاحِمِ وَقَتْلِ كُلّ ظَالِمٍ ثُمّ قَالَ هَذَا هُوَ الْبَيَانُ أَخْبَرَنِي بِهِ رَئِيسُ الْجَانّ ثُمّ قَالَ اللّهُ أَكْبَرُ جَاءَ الْحَقّ وَظَهَرَ وَانْقَطَعَ عَنْ الْجِنّ الْخَبَرُ - ثُمّ سَكَتَ وَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فَمَا أَفَاقَ إلّا بَعْدَ ثَلَاثَةٍ فَقَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَقَدْ نَطَقَ عَنْ مِثْلِ نُبُوّةٍ وَإِنّهُ لَيُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمّةً وَحْدَهُ
أَصْلُ أَلْفِ إصَابَةٍ
قَالَ الْمُؤَلّفُ فِي هَذَا الْخَبَرِ قَوْلُهُ أَصَابَهُ إصَابَةً هَكَذَا قَيّدْته بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ إصَابَةٍ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ طَاهِرٍ وَأَخْبَرَنِي بِهِ عَنْ أَبِي عَلِيّ الْغَسّانِيّ وَوَجْهُهُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ بَدَلًا مِنْ وَاوٍ مَكْسُورَةٍ مِثْلُ وِشَاحٍ وَإِشَاحٍ [ وَوِسَادَةٍ وَإِسَادَةٍ ] ، وَالْمَعْنَى : أَصَابَهُ وَصَابَهُ جَمْعُ : وَصَبٍ مِثْلُ جَمَلٍ وَجِمَالَةٍ . [ ص 364 ]
مَعْنَى كَلِمَةِ أَيْشٍ وَالْأَحَائِمِ
وَقَوْلُهُ مِنْ آلِ قَحْطَانَ وَآلِ أَيْشٍ يَعْنِي بِآلِ قَحْطَانَ الْأَنْصَارَ ؛ لِأَنّهُمْ مِنْ قَحْطَانَ وَأَمّا آلُ أَيْشٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ قَبِيلَةً مِنْ الْجِنّ الْمُؤْمِنِينَ يُنْسَبُونَ إلَى أَيْشٍ فَإِنْ يَكُنْ هَذَا ، وَإِلّا فَلَهُ مَعْنًى فِي الْمَدْحِ غَرِيبٌ تَقُولُ فُلَانٌ أَيْشٌ هُوَ وَابْنُ أَيْشٍ وَمَعْنَاهُ أَيّ شَيْءٍ أَيْ شَيْءٌ عَظِيمٌ فَكَأَنّهُ أَرَادَ مِنْ آلِ قَحْطَانَ ، وَمِنْ الْمُهَاجِرِينَ الّذِي يُقَالُ فِيهِمْ مِثْلُ هَذَا ، كَمَا تَقُولُ هُمْ وَمَا هُمْ ؟ وَزَيْدٌ مَا زَيْدٌ وَأَيّ شَيْءٍ زَيْدٌ وَأَيْشٌ فِي مَعْنَى : أَيّ شَيْءٍ كَمَا يُقَالُ وَيْلُمّهِ فِي مَعْنَى : وَيْلُ أُمّهِ عَلَى الْحَذْفِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَهَذَا كَمَا قَالَ هُوَ فِي جَيْشٍ أَيّمَا جَيْشٍ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَأَحْسَبُهُ أَرَادَ بِآلِ أَيْشٍ بَنِي أُقَيْشٍ وَهُمْ حُلَفَاءُ الْأَنْصَارِ مِنْ الْجِنّ ؛ فَحَذَفَ مِنْ الِاسْمِ حَرْفًا ، وَقَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ مِثْلَ هَذَا ، وَقَدْ وَقَعَ ذِكْرُ بَنِي أُقَيْشٍ فِي السّيرَةِ فِي حَدِيثِ الْبَيْعَةِ . وَذِكْرُ الرّكْنِ وَالْأَحَائِمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْأَحَاوِمَ بِالْوَاوِ فَهَمْزُ الْوَاوِ لِانْكِسَارِهَا ، وَالْأَحَاوِمُ جَمْعُ أَحْوَامٍ وَالْأَحْوَامُ جَمْعُ حَوْمٍ وَهُوَ الْمَاءُ فِي الْبِئْرِ فَكَأَنّهُ أَرَادَ مَاءَ زَمْزَمَ ، وَالْحَوْمُ أَيْضًا : إبِلٌ كَثِيرَةٌ تَرِدُ الْمَاءَ فَعَبّرَ بِالْأَحَائِمِ عَنْ وِرَادِ زَمْزَمَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا الطّيْرَ وَحَمَامَ مَكّةَ الّتِي تَحُومُ عَلَى الْمَاءِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْحَوَائِمِ وَقُلِبَ اللّفْظُ فَصَارَ بَعْدُ فَوَاعِلَ أَفَاعِلَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
حَيّ جَنْبٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ أَنّ جَنْبًا وَهُمْ حَيّ مِنْ الْيَمَنِ اجْتَمَعُوا إلَى كَاهِنٍ لَهُمْ فَسَأَلُوهُ عَنْ أَمْرِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ رَمَى بِالنّجُومِ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ جَنْبٌ هُمْ مِنْ مَذْحِجَ ، وَهُمْ عَيّذُ اللّهِ وَأَنَسُ اللّهِ وَزَيْدُ اللّهِ وَأَوْسُ اللّهِ وَجُعْفِيّ وَالْحَكَمُ وَجِرْوَةُ بَنُو سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ ، وَمَذْحِجُ هُوَ مَالِكُ بْنُ أُدَدٍ وَسُمّوا : جَنْبًا لِأَنّهُمْ جَانَبُوا بَنِي عَمّهِمْ صُدَاءً وَيَزِيدَ ابْنَيْ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ . قَالَهُ الدّارَقُطْنِيّ . وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ خِلَافًا فِي أَسْمَائِهِمْ وَذَكَرَ فِيهِمْ بَنِي غَلِيّ بِالْغَيْنِ وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِ غَلِيّ غَيْرُهُ قَالَ مُهَلْهِلٌ
أَنْكَحَهَا فَقْدُهَا الْأَرَاقِمَ فِي ... جَنْبٍ وَكَانَ الْحِبَاءُ مِنْ أَدَمْ
[ ص 364 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبٍ [ ص 365 ] عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ ، أَنّهُ حَدّثَ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ، إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ يُرِيدُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، فَلَمّا نَظَرَ إلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ إنّ هَذَا الرّجُلَ لَعَلَى شِرْكِهِ مَا فَارَقَهُ بَعْدُ أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيّةِ . فَسَلّمَ عَلَيْهِ الرّجُلُ ثُمّ جَلَسَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ هَلْ أَسْلَمْت ؟ قَالَ نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لَهُ فَهَلْ كُنْت كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيّةِ ؟ فَقَالَ الرّجُلُ سُبْحَانَ اللّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ خِلْت فِيّ وَاسْتَقْبَلْتنِي بِأَمْرِ مَا أَرَاك قُلْته لِأَحَدِ مِنْ رَعِيّتِك مُنْذُ وُلّيت مَا وُلّيت ، فَقَالَ عُمَرُ اللّهُمّ غَفْرًا ، قَدْ كُنّا فِي الْجَاهِلِيّةِ عَلَى شَرّ مِنْ هَذَا ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَعْتَنِقُ الْأَوْثَانَ حَتّى أَكْرَمْنَا اللّهُ بِرَسُولِهِ وَبِالْإِسْلَامِ قَالَ نَعَمْ وَاَللّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ كُنْت كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيّةِ قَالَ فَأَخْبِرْنِي مَا جَاءَك بِهِ صَاحِبُك ، قَالَ جَاءَنِي قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِشَهْرِ أَوْ شَيْعِهِ فَقَالَ أَلَمْ تَرَ إلَى الْجِنّ وَإِبْلَاسِهَا ، وَإِيَاسِهَا مِنْ دِينِهَا ، وَلُحُوقِهَا بِالْقِلَاصِ وَأَحْلَاسِهَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا الْكَلَامُ سَجْعٌ وَلَيْسَ بِشِعْرِ . قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ كَعْبٍ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ عِنْدَ ذَلِكَ يُحَدّثُ النّاسَ وَاَللّهِ إنّي لَعِنْدَ وَثَنٍ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيّةِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، قَدْ ذَبَحَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ عِجْلًا ، فَنَحْنُ نَنْتَظِرُ قَسْمَهُ لِيَقْسِمَ لَنَا مِنْهُ إذْ سَمِعْت مِنْ جَوْفِ الْعِجْلِ صَوْتًا مَا سَمِعْت صَوْتًا قَطّ أَنْفَذَ مِنْهُ وَذَلِكَ قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ بِشَهْرِ أَوْ شَيْعِهِ يَقُولُ يَا ذَرِيحُ أَمْرٌ نَجِيحٌ رَجُلٌ يَصِيحُ يَقُول : لَا إلَهَ إلّا اللّهُ [ ص 366 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ رَجُلٌ يَصِيحُ بِلِسَانِ فَصِيحٍ يَقُولُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ . وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ .
عَجِبْت لِلْجِنّ وَإِبْلَاسِهَا ... وَشَدّهَا الْعِيسَ بِأَحْلَاسِهَا
تَهْوِي إلَى مَكّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا مُؤْمِنُو الْجِنّ كَأَنْجَاسِهَا
[ ص 367 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَهَذَا مَا بَلَغَنَا مِنْ الْكُهّانِ مِنْ الْعَرَبِ .
Sمَعْنَى خَلَتْ فِي وَشِيعَةٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ وَقَوْلَهُ لِلرّجُلِ [ ص 365 ] أَكُنْت كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيّةِ ؟ فَقَالَ الرّجُلُ سُبْحَانَ اللّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ خِلْت فِيّ وَاسْتَقْبَلْتنِي بِأَمْرِ مَا أَرَاك اسْتَقْبَلْت بِهِ أَحَدًا مُنْذُ وُلّيت وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَوْلُهُ خِلْت فِيّ هُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ خِلْت وَظَنَنْت ، كَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ أَحَدِ الْمَفْعُولَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْآخَرِ لِأَنّ حُكْمَهُمَا حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ ، فَإِذَا حُذِفَتْ الْجُمْلَةُ كُلّهَا جَازَ لِأَنّ حُكْمَهُمَا حُكْمُ الْمَفْعُولِ وَالْمَفْعُولُ قَدْ يَجُوزُ حَذْفُهُ وَلَكِنْ لَا بُدّ مِنْ قَرِينَةٍ تَدُلّ عَلَى الْمُرَادِ فَفِي قَوْلِهِمْ مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ دَلِيلٌ يَدُلّ عَلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ يَسْمَعُ وَفِي قَوْلِهِ خِلْت فِيّ دَلِيلٌ أَيْضًا ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِيّ كَأَنّهُ قَالَ خِلْت الشّرّ فِيّ أَوْ نَحْوَ هَذَا ، وَقَوْلُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِشَهْرِ أَوْ شَيْعِهِ أَيْ دُونَهُ بِقَلِيلِ وَشَيْعُ كُلّ شَيْءٍ مَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ وَهُوَ مِنْ الشّيَاعِ وَهِيَ حَطَبٌ صِغَارٌ تُجْعَلُ مَعَ الْكِبَارِ تَبَعًا لَهَا ، وَمِنْهُ الْمُشَيّعَةُ وَهِيَ الشّاةُ تَتْبَعُ الْغَنَمَ لِأَنّهَا دُونَهَا مِنْ الْقُوّةِ . [ ص 366 ]
جُلَيْحٌ وَسَوَادُ بْنُ قَارِبٍ
وَالصّوْتُ الّذِي سَمِعَهُ عُمَرُ مِنْ الْعِجْلِ يَا جُلَيْحٌ سَمِعْت بَعْضَ أَشْيَاخِنَا يَقُولُ هُوَ اسْمُ شَيْطَانٍ وَالْجُلَيْحُ فِي اللّغَةِ مَا تَطَايَرَ مِنْ رُءُوسِ النّبَاتِ وَخَفّ نَحْوَ الْقُطْنِ وَشِبْهِهِ وَالْوَاحِدَةُ جُلَيْحَةٌ وَاَلّذِي وَقَعَ فِي السّيرَةِ يَا ذَرِيحُ وَكَأَنّهُ نِدَاءٌ لِلْعِجْلِ الْمَذْبُوحِ لِقَوْلِهِمْ أَحْمَرُ ذَرِيحِيّ ، أَيْ شَدِيدُ الْحُمْرَةِ فَصَارَ وَصْفًا لِلْعِجْلِ الذّبِيحِ مِنْ أَجْلِ الدّمِ وَمَنْ رَوَاهُ يَا جُلَيْحُ فَمَآلُهُ إلَى هَذَا الْمَعْنَى ؛ لِأَنّ الْعِجْلَ قَدْ جُلِحَ أَيْ كُشِفَ عَنْهُ الْجِلْدُ فَاَللّهُ أَعْلَمُ وَهَذَا الرّجُلُ الّذِي كَانَ كَاهِنًا هُوَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ الدّوْسِيّ فِي قَوْلِ ابْنِ الْكَلْبِيّ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ سَدُوسِيّ وَفِيهِ يَقُولُ الْقَائِلُ
أَلَا لِلّهِ عِلْمٌ لَا يُجَارَى ... إلَى الْغَايَاتِ فِي جَنْبَيْ سَوَادِ
أَتَيْنَاهُ نُسَائِلُهُ امْتِحَانًا ... فَلَمْ يَبْعَلْ وَأَخْبَرَ بِالسّدَادِ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي شِعْرٍ وَخَبَرٍ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ الْقَالِي فِي أَمَالِيهِ وَرَوَى غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ هَذَا الْخَبَرَ عَنْ عُمَرَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَأَنّ عُمَرَ مَازَحَهُ فَقَالَ مَا فَعَلَتْ كِهَانَتُك يَا سَوَادُ ؟ فَغَضِبَ وَقَالَ قَدْ كُنْت أَنَا وَأَنْت عَلَى شَرّ مِنْ هَذَا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَأَكْلِ الْمَيْتَاتِ أَفَتُعَيّرُنِي بِأَمْرِ تُبْت مِنْهُ ؟ فَقَالَ عُمَرُ حِينَئِذٍ اللّهُمّ غَفْرًا وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سِيَاقَةً حَسَنَةً وَزِيَادَةً مُفِيدَةً وَذَكَرَ أَنّهُ حَدّثَ عُمَرَ أَنّ رِئْيَهُ جَاءَ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ هُوَ فِيهَا كُلّهَا بَيْنَ النّائِمِ وَالْيَقْظَانِ فَقَالَ قُمْ يَا سَوَادُ وَاسْمَعْ مَقَالَتِي ، وَاعْقِلْ إنْ كُنْت تَعْقِلُ قَدْ بُعِثَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ يَدْعُو إلَى اللّهِ وَعِبَادَتِهِ وَأَنْشَدَهُ فِي كُلّ لَيْلَةٍ مِنْ الثّلَاثِ اللّيَالِي ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ وَقَافِيَتُهَا مُخْتَلِفَةٌ
عَجِبْت لِلْجِنّ وَتَطْلَابِهَا ... وَشَدّهَا الْعِيسَ بِأَقْتَابِهَا
تَهْوِي إلَى مَكّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا صَادِقُ الْجِنّ كَكَذّابِهَا
فَارْحَلْ إلَى الصّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ ... لَيْسَ قُدَامَاهَا كَأَذْنَابِهَا
وَقَالَ لَهُ فِي الثّانِيَةِ [ ص 367 ]
عَجِبْت لِلْجِنّ وَإِبْلَاسِهَا ... وَشَدّهَا الْعِيسَ بِأَحْلَاسِهَا
تَهْوِي إلَى مَكّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا طَاهِرُ الْجِنّ كَأَنْجَاسِهَا
فَارْحَلْ إلَى الصّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ ... لَيْسَ ذُنَابَى الطّيْرِ مِنْ رَأْسِهَا
وَقَالَ لَهُ فِي الثّالِثَةِ
عَجِبْت لِلْجِنّ وَتَنْفَارِهَا ... وَشَدّهَا الْعِيسَ بِأَكْوَارِهَا
تَهْوِي إلَى مَكّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا مُؤْمِنُ الْجِنّ كَكُفّارِهَا
فَارْحَلْ إلَى الْأَتْقَيْنِ مِنْ هَاشِمٍ ... لَيْسَ قُدَامَاهَا كَأَدْبَارِهَا
وَذَكَرَ تَمَامَ الْخَبَرِ ، وَفِي آخِرِ شِعْرِ سَوَادٍ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَنْشَدَهُ مَا كَانَ مِنْ الْجِنّيّ رِئْيَةَ ثَلَاثِ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ وَذَلِكَ قَوْلُهُ
أَتَانِي نَجِيّي بَعْدَ هَدْءٍ وَرَقْدَةٍ ... وَلَمْ يَكُ فِيمَا قَدْ بَلَوْت بِكَاذِبِ
ثَلَاثَ لَيَالٍ قَوْلُهُ كُلّ لَيْلَةٍ ... أَتَاك نَبِيّ مِنْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ
فَرَفّعْت أَذْيَالَ الْإِزَارِ وَشَمّرَتْ ... بِي الْعِرْمِسُ الْوَجْنَا هُجُولُ السّبَاسِبِ
فَأَشْهَدُ أَنّ اللّهَ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ... وَأَنّك مَأْمُونٌ عَلَى كُلّ غَائِبِ
وَأَنّك أَدْنَى الْمُرْسَلِينَ وَسِيلَةً ... إلَى اللّهِ يَا بْنَ الْأَكْرَمِينَ الْأَطَايِبِ
فَمُرْنَا بِمَا يَأْتِيك مِنْ وَحْيِ رَبّنَا ... وَإِنْ كَانَ فِيمَا جِئْت شَيْبُ الذّوَائِبِ
وَكُنْ لِي شَفِيعًا يَوْمَ لَا ذُو شَفَاعَةٍ ... بِمُغْنٍ فَتِيلًا عَنْ سَوَادِ بْنِ قَارِبِ
سَوَادٌ وَدَوْسٌ عِنْدَ وَفَاةِ الرّسُولِ " صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ "
وَلِسَوَادِ بْنِ قَارِبٍ هَذَا مَقَامٌ حَمِيدٌ فِي دَوْسٍ حِينَ بَلَغَهُمْ وَفَاةُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَامَ حِينَئِذٍ سَوَادٌ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْأَزْدِ ، إنّ مِنْ سَعَادَةِ الْقَوْمِ أَنْ يَتّعِظُوا بِغَيْرِهِمْ وَمِنْ شَقَائِهِمْ أَلّا يَتّعِظُوا إلّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَنْ لَمْ تَنْفَعْهُ التّجَارِبُ ضَرّتْهُ وَمَنْ لَمْ يَسَعْهُ الْحَقّ لَمْ يَسَعْهُ الْبَاطِلُ وَإِنّمَا تُسْلِمُونَ الْيَوْمَ بِمَا أَسْلَمْتُمْ بِهِ أَمْسِ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ تَنَاوَلَ قَوْمًا أَبْعَدَ [ ص 368 ] فَظَفِرَ بِهِمْ وَأَوْعَدَ قَوْمًا أَكْثَرَ مِنْكُمْ فَأَخَافَهُمْ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْكُمْ عِدّةٌ وَلَا عَدَدٌ وَكُلّ بَلَاءٍ مَنْسِيّ إلّا بَقِيَ أَثَرُهُ فِي النّاسِ وَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْبَلَاءِ إلّا أَنْ يَكُونُوا أَذْكَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَافِيَةِ لِلْعَافِيَةِ وَإِنّمَا كَفّ نَبِيّ اللّهِ عَنْكُمْ مَا كَفّكُمْ عَنْهُ فَلَمْ تَزَالُوا خَارِجِينَ مِمّا فِيهِ أَهْلُ الْبَلَاءِ دَاخِلِينَ مِمّا فِيهِ أَهْلُ الْعَافِيَةِ حَتّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَطِيبُكُمْ وَنَقِيبُكُمْ فَعَبّرَ الْخَطِيبُ عَنْ الشّاهِدِ وَنَقّبَ النّقِيبُ عَنْ الْغَائِبِ وَلَسْت أَدْرِي لَعَلّهُ تَكُونُ لِلنّاسِ جَوْلَةٌ فَإِنْ تَكُنْ فَالسّلَامَةُ مِنْهَا : الْأَنَاةُ وَاَللّهُ يُحِبّهَا ، فَأَحِبّوهَا ، فَأَجَابَهُ الْقَوْمُ وَسَمِعُوا قَوْلَهُ فَقَالَ فِي ذَلِكَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ
جَلّتْ مُصِيبَتُك الْغَدَاةَ سَوَادُ ... وَأَرَى الْمُصِيبَةَ بَعْدَهَا تَزْدَادُ
أَبْقَى لَنَا فَقْدُ النّبِيّ مُحَمّدٍ ... - صَلّى الْإِلَهُ عَلَيْهِ - مَا يُعْتَادُ
حُزْنًا لَعَمْرُك فِي الْفُؤَادِ مُخَامِرًا ... أَوْ هَلْ لِمَنْ فَقَدَ النّبِيّ فُؤَادُ ؟
كُنّا نَحُلّ بِهِ جَنَابًا مُمْرِعًا ... جَفّ الْجَنَابُ فَأَجْدَبَ الرّوّادُ
فَبَكَتْ عَلَيْهِ أَرْضُنَا وَسَمَاؤُنَا ... وَتَصَدّعَتْ وَجْدًا بِهِ الْأَكْبَادُ
قَلّ الْمَتَاعُ بِهِ وَكَانَ عِيَانُهُ ... حُلْمًا تَضَمّنَ سَكَرَتَيْهِ رُقَادُ
كَانَ الْعِيَانُ هُوَ الطّرِيفَ وَحُزْنُهُ ... بَاقٍ لَعَمْرُك فِي النّفُوسِ تِلَادُ
إنّ النّبِيّ وَفَاتُهُ كَحَيَاتِهِ ... الْحَقّ حَقّ وَالْجِهَادُ جِهَادُ
لَوْ قِيلَ تَفْدُونَ النّبِيّ مُحَمّدًا ... بُذِلَتْ لَهُ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ
وَتَسَارَعَتْ فِيهِ النّفُوسُ بِبَذْلِهَا ... هَذَا لَهُ الْأَغْيَابُ وَالْأَشْهَادُ
هَذَا ، وَهَذَا لَا يَرُدّ نَبِيّنَا ... لَوْ كَانَ يَفْدِيهِ فَدَاهُ سَوَادُ
أَنّى أُحَاذِرُ وَالْحَوَادِثُ جَمّةٌ ... أَمْرًا لِعَاصِفِ رِيحِهِ إرْعَادُ
إنْ حَلّ مِنْهُ مَا يُخَافُ فَأَنْتُمْ ... لِلْأَرْضِ - إنْ رَجَفَتْ بِنَا - أَوْتَادُ
لَوْ زَادَ قَوْمٌ فَوْقَ مُنْيَةِ صَاحِبٍ ... زِدْتُمْ وَلَيْسَ لِمُنْيَةِ مُزْدَادُ
[ ص 369 ]
كَاهِنَةُ قُرَيْشٍ
فَأَعْجَبَ الْقَوْمَ شِعْرُهُ وَقَوْلُهُ فَأَجَابُوا إلَى مَا أَحَبّ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ خَبَرُ سَوْدَاءَ بِنْتِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ ، وَذَلِكَ أَنّهَا حِينَ وُلِدَتْ وَرَآهَا أَبُوهَا زَرْقَاءَ شَيْمَاءَ أَمَرَ بِوَأْدِهَا ، وَكَانُوا يَئِدُونَ مِنْ الْبَنَاتِ مَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الصّفَةِ فَأَرْسَلَهَا إلَى الْحَجُونِ لِتُدْفَنَ هُنَاكَ فَلَمّا حَفَرَ لَهَا الْحَافِرُ وَأَرَادَ دَفْنَهَا سَمِعَ هَاتِفًا يَقُولُ لَا تَئِدَنّ الصّبِيّة ، وَخَلّهَا فِي الْبَرّيّة ، فَالْتَفَتَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا ، فَعَادَ لِدَفْنِهَا ، فَسَمِعَ الْهَاتِفَ يَهْتِفُ بِسَجْعِ آخَرَ فِي الْمَعْنَى ، فَرَجَعَ إلَى أَبِيهَا ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا سَمِعَ فَقَالَ إنّ لَهَا لَشَأْنًا ، وَتَرَكَهَا ، فَكَانَتْ كَاهِنَةَ قُرَيْشٍ ، فَقَالَتْ يَوْمًا لِبَنِي زُهْرَةَ إنّ فِيكُمْ نَذِيرَةً أَوْ تَلِدُ نَذِيرًا ، فَاعْرِضُوا عَلَيّ بَنَاتِكُمْ فَعُرِضْنَ عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ فِي كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ قَوْلًا ظَهَرَ بَعْدَ حِينٍ حَتّى عُرِضَتْ عَلَيْهَا آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ فَقَالَتْ هَذِهِ النّذِيرَةُ أَوْ تَلِدُ نَذِيرًا ، وَهُوَ خَبَرٌ طَوِيلٌ ذَكَرَ الزّبَيْرُ مِنْهُ يَسِيرًا ، وَأَوْرَدَهُ بِطُولِهِ أَبُو بَكْرٍ النّقّاشُ وَفِيهِ ذَكَرَ جَهَنّمَ - أَعَاذَنَا اللّهُ مِنْهَا - وَلَمْ يَكُنْ اسْمُ جَهَنّمَ مَسُوغًا بِهِ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا لَهَا : وَمَا جَهَنّمُ فَقَالَتْ سَيُخْبِرُكُمْ النّذِيرُ عَنْهَا .
إنْذَارُ يَهُودَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 368 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي [ ص 369 ] عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا : إنّ مِمّا دَعَانَا إلَى الْإِسْلَامِ ، مَعَ رَحْمَةِ اللّهِ تَعَالَى وَهُدَاهُ لَمّا كُنّا نَسْمَعُ مِنْ رِجَالِ يَهُودَ كُنّا أَهْلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ لَنَا ، وَكَانَتْ لَا تَزَالُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ شُرُورٌ فَإِذَا نِلْنَا مِنْهُمْ بَعْضَ مَا يَكْرَهُونَ قَالُوا لَنَا : إنّهُ تَقَارَبَ زَمَانُ نَبِيّ يُبْعَثُ الْآنَ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ ، فَكُنّا كَثِيرًا مَا نَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَلَمّا بَعَثَ اللّهُ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَجَبْنَاهُ حِينَ دَعَانَا إلَى اللّهِ تَعَالَى ، وَعَرَفْنَا مَا كَانُوا يَتَوَعّدُونَنَا بِهِ فَبَادَرْنَاهُمْ إلَيْهِ فَآمَنّا بِهِ وَكَفَرُوا بِهِ فَفِينَا وَفِيهِمْ نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ مِنْ الْبَقَرَةِ { وَلَمّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ الْبَقَرَةُ 79 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يَسْتَفْتِحُونَ يَسْتَنْصِرُونَ وَيَسْتَفْتِحُونَ أَيْضًا : يَتَحَاكَمُونَ وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى : { رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [ الْأَعْرَافُ 89 ] . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقّشٍ - وَكَانَ سَلَمَةُ مِنْ [ ص 370 ] أَصْحَابُ بَدْرٍ - قَالَ كَانَ لَنَا جَارٌ مِنْ يَهُودَ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَ فَخَرَجَ عَلَيْنَا يَوْمًا مِنْ بَيْتِهِ حَتّى وَقَفَ عَلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ - قَالَ سَلَمَةُ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ أَحْدَثُ مَنْ فِيهِ سِنّا ، عَلَيّ بُرْدَةٍ لِي ، مُضْطَجِعٌ فِيهَا بِفِنَاءِ أَهْلِي - فَذَكَرَ الْقِيَامَةَ وَالْبَعْثَ وَالْحِسَابَ وَالْمِيزَانَ وَالْجَنّةَ وَالنّارَ قَالَ فَقَالَ ذَلِكَ لِقَوْمِ أَهْلِ شِرْكٍ أَصْحَابِ أَوْثَانٍ لَا يَرَوْنَ أَنّ بَعْثًا كَائِنٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَالُوا لَهُ وَيْحَك يَا فُلَانُ أَوَتَرَى هَذَا كَائِنًا ، أَنّ النّاس يُبْعَثْنَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إلَى دَارٍ فِيهَا جَنّةٌ وَنَارٌ يُجْزَوْنَ فِيهَا بِأَعْمَالِهِمْ ؟ قَالَ نَعَمْ وَاَلّذِي يَحْلِفُ بِهِ وَيَوَدّ أَنّ لَهُ بِحَظّهِ مِنْ تِلْكَ النّارِ أَعْظَمُ تَنّورٍ فِي الدّارِ يَحْمُونَهُ ثُمّ يُدْخِلُونَهُ إيّاهُ فَيُطِيعُونَهُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْجُوَ مِنْ تِلْكَ النّارِ غَدًا ، فَقَالُوا لَهُ وَيْحَك يَا فُلَانُ فَمَا آيَةُ ذَلِكَ ؟ قَالَ نَبِيّ مَبْعُوثٌ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْبِلَادِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى مَكّةَ وَالْيَمَنِ - فَقَالُوا : وَمَتَى تَرَاهُ ؟ قَالَ فَنَظَرَ إلَيّ وَأَنَا مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنّا ، فَقَالَ إنْ يَسْتَنْفِدْ هَذَا الْغُلَامُ عُمْرَهُ يُدْرِكْهُ . قَالَ سَلَمَةُ فَوَاَللّهِ مَا ذَهَبَ اللّيْلُ وَالنّهَارُ حَتّى بَعَثَ اللّهُ مُحَمّدًا رَسُولَهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ حَيّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، فَآمَنّا بِهِ وَكَفَرَ بِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا . قَالَ فَقُلْنَا لَهُ وَيْحَك يَا فُلَانُ أَلَسْت الّذِي قُلْت لَنَا فِيهِ مَا قُلْت ؟ قَالَ بَلَى . وَلَكِنْ لَيْسَ بِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ قَالَ لِي : هَلْ تَدْرِي عَمّ كَانَ إسْلَامُ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ وَأُسَيْدِ بْنِ سَعْيَةَ وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ نَفَرٌ مِنْ بَنِي هَدَلْ إخْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي جَاهِلِيّتِهِمْ ثُمّ كَانُوا سَادَاتِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ . قَالَ قُلْت : لَا ، قَالَ فَإِنّ رَجُلًا مِنْ يَهُودَ مِنْ أَهْلِ الشّامِ ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْهَيْبَانِ قَدِمَ عَلَيْنَا قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ بِسِنِينَ فَحَلّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، لَا وَاَللّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا قَطّ لَا يُصَلّي الْخَمْسَ [ ص 371 ] أَفْضَلَ مِنْهُ فَأَقَامَ عِنْدَنَا فَكُنّا إذَا قَحَطَ عَنّا الْمَطَرُ قُلْنَا لَهُ اُخْرُجْ يَا بْنَ الْهَيّبَانِ فَاسْتَسْقِ لَنَا ، فَيَقُولُ لَا وَاَللّهِ حَتّى تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيْ مَخْرَجِكُمْ صَدَقَةً فَنَقُولُ لَهُ كَمْ ؟ فَيَقُولُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ مُدّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ . قَالَ فَنُخْرِجُهَا ، ثُمّ يَخْرُجُ بِنَا إلَى ظَاهِرِ حَرّتِنَا ، فَيَسْتَسْقِي اللّهَ لَنَا . فَوَاَللّهِ مَا يَبْرَحُ مَجْلِسَهُ حَتّى تَمُرّ السّحَابَةُ وَنُسْقَى ، قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرّةٍ وَلَا مَرّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ . قَالَ ثُمّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ عِنْدَنَا . فَلَمّا عَرَفَ أَنّهُ مَيّتٌ قَالَ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ مَا تَرَوْنَهُ أَخْرَجَنِي مِنْ أَرْضِ الْخَمْرِ وَالْخَمِيرِ إلَى أَرْضِ الْبُؤْسِ وَالْجُوعِ ؟ قَالَ قُلْنَا : إنّك أَعْلَمُ قَالَ فَإِنّي إنّمَا قَدِمْت هَذِهِ الْبَلْدَةَ أَتَوَكّفُ خُرُوجَ نَبِيّ قَدْ أَظَلّ زَمَانُهُ وَهَذِهِ الْبَلْدَةُ مُهَاجَرُهُ فَكُنْت أَرْجُو أَنْ يُبْعَثَ فَأَتّبِعُهُ وَقَدْ أَظَلّكُمْ زَمَانُهُ فَلَا تُسْبَقُنّ إلَيْهِ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ فَإِنّهُ يُبْعَثُ بِسَفْكِ الدّمَاءِ وَسَبْيِ الذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ مِمّنْ خَالَفَهُ فَلَا يَمْنَعُكُمْ ذَلِكَ مِنْهُ . فَلَمّا بُعِثَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَحَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ وَكَانُوا شَبَابًا أَحْدَاثًا : يَا بَنِي قُرَيْظَةَ وَاَللّهِ إنّهُ لَلنّبِيّ الّذِي كَانَ عَهِدَ إلَيْكُمْ فِيهِ ابْنُ الْهَيّبَانِ قَالُوا : لَيْسَ بِهِ [ ص 372 ] قَالُوا : بَلَى وَاَللّهِ إنّهُ لَهُوَ بِصِفَتِهِ فَنَزَلُوا وَأَسْلَمُوا ، وَأَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَبِهَذَا مَا بَلَغَنَا عَنْ أَخْبَارِ يَهُودَ .
Sحَدِيثُ سَلَمَةَ فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقّشٍ ، وَمَا سَمِعَ مِنْ الْيَهُودِيّ حِينَ ذَكَرَ الْجَنّةَ وَالنّارَ وَقَالَ آيَةُ ذَلِكَ نَبِيّ : مَبْعُوثٌ قَدْ أَظَلّ زَمَانُهُ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ فِيهِ إشْكَالٌ وَابْنُ وَقّشٍ يُقَالُ فِيهِ وَقَشٌ بِتَحْرِيكِ الْقَافِ وَتَسْكِينِهَا ، وَالْوَقْشُ الْحَرَكَةُ . [ ص 370 ]
حَدِيثُ ابْنِ الْهَيّبَانِ وَبَنُو سَعْيَةَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ الْهَيّبَانِ وَمَا بَشّرَ بِهِ مِنْ أَمْرِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَنّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبَ إسْلَامِ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ وَأُسَيْدِ بْنِ سَعْيَةَ وَأَسَدِ بْنِ سَعْيَةَ ، وَهُمْ مِنْ بَنِي هَدَلْ وَالْهَيْبَانُ مِنْ الْمُسَمّيْنَ بِالصّفَاتِ يُقَالُ قُطْنٌ هَيّبَانُ أَيْ مُنْتَفِشٌ وَأَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ
تُطِيرُ اللّغَامَ الْهَيّبَانَ كَأَنّهُ ... جَنَى عُشَرٍ تَنْفِيهِ أَشْدَاقُهَا الْهُدْلِ
وَالْهَيّبَانُ أَيْضًا : الْجَبَانُ وَقَدْ قَدّمْنَا الِاخْتِلَافَ فِي هَدَلْ وَأَمّا أُسَيْدُ بْنُ سَعْيَةَ ، فَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الْمَدَنِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَهُوَ أَحَدُ [ ص 371 ] أُسَيْدُ بْنُ سَعْيَةَ بِضَمّ الْأَلِفِ وَقَالَ يُونُسُ بْن بُكَيْرٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَهُوَ قَوْلُ الْوَاقِدِيّ وَغَيْرِهِ أَسِيدٌ بِفَتْحِهَا قَالَ الدّارَقُطْنِيّ : وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ وَلَا يَصِحّ مَا قَالَهُ إبْرَاهِيمُ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَبَنُو سَعْيَةَ هَؤُلَاءِ فِيهِمْ أَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمّةٌ قَائِمَةٌ } [ آلُ عِمْرَانَ : 113 ] الْآيَةُ وَسَعْيَةُ أَبُوهُمْ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَرِيضِ ، وَهُوَ بِالسّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِاثْنَيْنِ .
سُعْنَةُ الْحَبْرِ وَإِسْلَامُهُ
وَأَمّا سُعْنَةُ بِالنّونِ فَزَيْدُ بْنُ سُعْنَةَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ كَانَ قَدْ دَايَنَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ قَبْلَ الْأَجَلِ فَقَالَ أَلَا تَقْضِينِي يَا مُحَمّدُ فَإِنّكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ مُطْلٌ وَمَا أَرَدْت إلّا أَنْ أَعْلَمَ عِلْمَكُمْ فَارْتَعَدَ عُمَرُ وَدَارَ كَأَنّهُ فِي فَلَكٍ وَجَعَلَ يَلْحَظُ يَمِينًا وَشِمَالًا ، وَقَالَ تَقُولُ هَذَا لِرَسُولِ اللّهِ يَا عَدُوّ اللّهِ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّا إلَى غَيْرِ هَذَا مِنْك أَحْوَجُ يَا عُمَرُ أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الْأَدَاءِ وَتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التّبِعَةِ قُمْ فَاقْضِهِ عَنّي ، فَوَاَللّهِ مَا حَلّ الْأَجَلُ وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعًا بِمَا رَوّعْته وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّهُ قَالَ دَعْهُ فَإِنّ لِصَاحِبِ الْحَقّ مَقَالًا وَيُذْكَرُ أَنّهُ أَسْلَمَ لَمّا رَأَى مِنْ مُوَافَقَةِ وَصْفِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لِمَا كَانَ عِنْدَهُ فِي التّوْرَاةِ ، وَكَانَ يَجِدُهُ مَوْصُوفًا بِالْحِلْمِ فَلَمّا رَأَى مِنْ حِلْمِهِ مَا رَأَى أَسْلَمَ ، وَتُوُفّيَ غَازِيًا مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَيُقَالُ فِي اسْمِهِ سَعْيَةُ بِالْيَاءِ كَمَا فِي الْأَوّلِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الدّارَقُطْنِيّ إلّا بِالنّونِ .
حَدِيثُ إسْلَامِ سَلْمَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ حَدّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيّ مِنْ فِيهِ قَالَ كُنْت رَجُلًا فَارِسِيّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا : جَيّ ، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ وَكُنْت أَحَبّ خَلْقِ اللّهِ إلَيْهِ لَمْ يَزَلْ بِهِ حُبّهُ إيّايَ حَتّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ وَاجْتَهَدْت فِي الْمَجُوسِيّةِ حَتّى كُنْت قَطَنَ النّارِ الّذِي يُوقِدُهَا ، لَا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً . قَالَ وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ قَالَ فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا ، فَقَالَ لِي : يَا بُنَيّ إنّي قَدْ شُغِلْت فِي بُنْيَانِي هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي ، فَاذْهَبْ إلَيْهَا ، فَاطّلِعْهَا - وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ - ثُمّ قَالَ لِي : وَلَا تَحْتَبِسْ عَنّي ؛ فَإِنّك إنْ احْتَبَسْت عَنّي كُنْت أَهَمّ إلَيّ مِنْ ضَيْعَتِي ، وَشَغَلْتنِي عَنْ كُلّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِي . قَالَ فَخَرَجْت أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ الّتِي بَعَثَنِي إلَيْهَا ، فَمَرَرْت بِكَنِيسَةِ مِنْ كَنَائِسِ النّصَارَى ، فَسَمِعْت أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلّونَ وَكُنْت لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إيّايَ فِي بَيْتِهِ فَلَمّا سَمِعْت أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْت عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ فَلَمّا رَأَيْتهمْ أَعْجَبَتْنِي صَلَاتُهُمْ وَرَغِبْت فِي أَمْرِهِمْ وَقُلْت : هَذَا وَاَللّهِ خَيْرٌ مِنْ الدّينِ الّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ فَوَاَللّهِ مَا بَرِحْتُهُمْ حَتّى غَرَبَتْ الشّمْسُ وَتَرَكْت ضَيْعَةَ أَبِي فَلَمْ آتِهَا ، ثُمّ قُلْت لَهُمْ أَيْنَ أَصِلُ هَذَا الدّينَ ؟ قَالُوا : بِالشّامِ . فَرَجَعْت إلَى أَبِي ، وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي ، وَشَغَلْته عَنْ عَمَلِهِ كُلّهِ فَلَمّا جِئْته قَالَ أَيْ بُنَيّ أَيْنَ كُنْت ؟ أَوَلَمْ أَكُنْ عَهِدْت إلَيْك مَا عَهِدْت ؟ قَالَ قُلْت لَهُ يَا أَبَتْ مَرَرْت بِأُنَاسِ يُصَلّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْت مِنْ دِينِهِمْ فَوَاَللّهِ مَا زِلْت عِنْدَهُمْ حَتّى غَرَبَتْ الشّمْسُ قَالَ أَيْ بُنَيّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدّينِ خَيْرٌ دِينُك ، وَدِينُ آبَائِك خَيْرٌ مِنْهُ قَالَ قُلْت لَهُ كَلّا وَاَللّهِ إنّهُ لَخَيْرٌ مِنْ دِينِنَا . قَالَ فَخَافَنِي ، فَجَعَلَ فِي رِجْلِي قَيْدًا ، ثُمّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ . [ ص 373 ] قَالَ وَبَعَثْت إلَى النّصَارَى فَقُلْت لَهُمْ إذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنْ الشّامِ فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ . قَالَ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنْ الشّامِ تُجّارٌ مِنْ النّصَارَى ، فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ فَقُلْت لَهُمْ إذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرّجْعَةَ إلَى بِلَادِهِمْ فَآذِنُونِي بِهِمْ قَالَ فَلَمّا أَرَادُوا الرّجْعَةَ إلَى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ فَأَلْقَيْت الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلِي ، ثُمّ خَرَجْت مَعَهُمْ حَتّى قَدِمْت الشّامَ فَلَمّا قَدِمْتهَا قُلْت : مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدّينِ عِلْمًا ؟ قَالُوا : الْأُسْقُفُ فِي الْكَنِيسَةِ . قَالَ فَجِئْته ، فَقُلْت لَهُ إنّي قَدْ رَغِبْت فِي هَذَا الدّينِ فَأَحْبَبْت أَنْ أَكُونَ مَعَك ، وَأَخْدُمَك فِي كَنِيسَتِك ، فَأَتَعَلّمُ مِنْك ، وَأُصَلّي مَعَك ، قَالَ اُدْخُلْ فَدَخَلْت مَعَهُ . قَالَ وَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُهُمْ بِالصّدَقَةِ وَيُرَغّبُهُمْ فِيهَا ، فَإِذَا جَمَعُوا إلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ حَتّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ . قَالَ فَأَبْغَضْته بُغْضًا شَدِيدًا ، لِمَا رَأَيْته يَصْنَعُ ثُمّ مَاتَ فَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ النّصَارَى ، لِيَدْفِنُوهُ فَقُلْت لَهُمْ إنّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصّدَقَةِ وَيُرَغّبُكُمْ فِيهَا ، فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا ، اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا . قَالَ فَقَالُوا لِي : وَمَا عِلْمُك بِذَلِكَ ؟ قَالَ قُلْت لَهُمْ أَنَا أَدُلّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ قَالُوا : فَدُلّنَا عَلَيْهِ قَالَ فَأَرَيْتهمْ مَوْضِعَهُ فَاسْتَخْرَجُوا سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا ، قَالَ فَلَمّا رَأَوْهَا قَالُوا : وَاَللّهِ لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا . قَالَ فَصَلَبُوهُ وَرَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ وَجَاءُوا بِرَجُلِ آخَرَ فَجَعَلُوهُ مَكَانَهُ . قَالَ يَقُولُ سَلْمَانُ فَمَا رَأَيْت رَجُلًا لَا يُصَلّي الْخَمْسَ أَرَى أَنّهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَأَزْهَدَ فِي الدّنْيَا ، وَلَا أَرْغَبَ فِي الْآخِرَةِ وَلَا أَدْأَبَ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا مِنْهُ . قَالَ فَأَحْبَبْته حُبّا لَمْ أُحِبّهُ قَبْلَهُ مِثْلَهُ . قَالَ فَأَقَمْت مَعَهُ زَمَانًا ، ثُمّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَقُلْت لَهُ يَا فُلَانُ إنّي قَدْ كُنْت مَعَك ، وَأَحْبَبْتُك حُبّا لَمْ أُحِبّهُ شَيْئًا قَبْلَك ، وَقَدْ حَضَرَك مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللّهِ تَعَالَى ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي ؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ أَيْ بُنَيّ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ أَحَدًا عَلَى مَا كُنْت عَلَيْهِ فَقَدْ هَلَكَ النّاسُ وَبَدّلُوا وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ إلّا رَجُلًا بِالْمَوْصِلِ وَهُوَ فُلَانٌ وَهُوَ عَلَى مَا كُنْت عَلَيْهِ فَالْحَقْ بِهِ . [ ص 374 ] الْمَوْصِلِ ، فَقُلْت لَهُ يَا فُلَانُ إنّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِك ، وَأَخْبَرَنِي أَنّك عَلَى أَمْرِهِ قَالَ فَقَالَ لِي : أَقِمْ عِنْدِي ، فَأَقَمْت عِنْدَهُ فَوَجَدْته خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ فَلَمّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْت لَهُ يَا فُلَانُ إنّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إلَيْك ، وَأَمَرَنِي بِاللّحُوقِ بِك ، وَقَدْ حَضَرَك مِنْ أَمْرِ اللّهِ مَا تَرَى ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي ؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ يَا بُنَيّ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنّا عَلَيْهِ إلّا رَجُلًا بِنَصِيبِينَ وَهُوَ فُلَانٌ فَالْحَقْ بِهِ . فَلَمّا مَاتَ وَغُيّبَ لَحِقْت بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ فَأَخْبَرْته خَبَرِي ، وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبَايَ فَقَالَ أَقِمْ عِنْدِي ، فَأَقَمْت عِنْدَهُ فَوَجَدْته عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ . فَأَقَمْت مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ فَوَاَللّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَلَمّا حَضَرَ قُلْت لَهُ يَا فُلَانُ إنّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إلَى فُلَانٍ ثُمّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلَيْك ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي ؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ يَا بُنَيّ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُهُ بَقِيَ أَحَدٌ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُك أَنْ تَأْتِيَهُ إلّا رَجُلًا بِعَمّورِيَةَ مِنْ أَرْضِ الرّومِ ، فَإِنّهُ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ فَإِنْ أَحْبَبْت فَأْتِهِ فَإِنّهُ عَلَى أَمْرِنَا . فَلَمّا مَاتَ وَغُيّبَ لَحِقْت بِصَاحِبِ عَمّورِيَةَ ، فَأَخْبَرْته خَبَرِي ، فَقَالَ أَقِمْ عِنْدِي ، فَأَقَمْت عِنْدَ خَيْرِ رَجُلٍ عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ . قَالَ وَاكْتَسَبْت حَتّى كَانَتْ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ . قَالَ ثُمّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللّهِ فَلَمّا حَضَرَ قُلْت لَهُ يَا فُلَانُ إنّي كُنْت مَعَ فُلَانٍ فَأَوْصَى بِي إلَى فُلَانٍ ثُمّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلَى فُلَانٍ ثُمّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلَيْك ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِهِ ؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ أَيْ بُنَيّ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ الْيَوْمَ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِ مَا كُنّا عَلَيْهِ مِنْ النّاسِ آمُرُك بِهِ أَنْ تَأْتِيَهُ وَلَكِنّهُ قَدْ أَظَلّ زَمَانُ نَبِيّ وَهُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُهَاجَرُهُ إلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى ، يَأْكُلُ الْهَدِيّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصّدَقَةَ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النّبُوّةِ فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ فَافْعَلْ . قَالَ ثُمّ مَاتَ وَغُيّبَ وَمَكَثْت بِعَمّورِيَةَ مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ أَمْكُثَ ثُمّ مَرّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجّارٌ فَقُلْت لَهُمْ احْمِلُونِي إلَى أَرْضِ الْعَرَبِ ، وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي [ ص 375 ] قَالُوا : نَعَمْ . فَأعْطَيْتُهُموهَا ، وَحَمَلُونِي مَعَهُمْ حَتّى إذَا بَلَغُوا وَادِيَ الْقُرَى ظَلَمُونِي ، فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ يَهُودِيّ عَبْدًا ، فَكُنْت عِنْدَهُ وَرَأَيْت النّخْلَ فَرَجَوْت أَنْ يَكُونَ الْبَلَدَ الّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي ، وَلَمْ يَحُقْ فِي نَفْسِي ، فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إذْ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمّ لَهُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ الْمَدِينَةِ ، فَابْتَاعَنِي مِنْهُ فَاحْتَمَلَنِي إلَى الْمَدِينَةِ ، فَوَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ رَأَيْتهَا ، فَعَرَفْتهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي ، فَأَقَمْت بِهَا ، وَبُعِثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَقَامَ بِمَكّةَ مَا أَقَامَ لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرِ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرّقّ ثُمّ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَوَاَللّهِ إنّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيّدِي أَعْمَلُ لَهُ فِي بَعْضِ الْعَمَلِ وَسَيّدِي جَالِسٌ تَحْتِي ، إذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمّ لَهُ حَتّى وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا فُلَانُ قَاتَلَ اللّهُ بَنِي قَيْلَةَ وَاَللّهِ إنّهُمْ الْآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكّةَ الْيَوْمَ يَزْعُمُونَ أَنّهُ نَبِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَيْلَةُ بِنْتُ كَاهِلِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سَوْدِ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ ، أُمّ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ . قَالَ النّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيّ يَمْدَحُ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ :
بِهَا لَيْلُ مِنْ أَوْلَادِ قَيْلَةَ لَمْ يَجِدْ ... عَلَيْهِمْ خَلِيطٌ فِي مُخَالَطَةٍ عَتْبَا
مَسَامِيحُ أَبْطَالٌ يُرَاحُونَ لِلنّدَى ... يَرَوْنَ عَلَيْهِمْ فِعْلَ آبَائِهِمْ نَحْبَا
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ قَالَ سَلْمَانُ فَلَمّا سَمِعْتهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْعُرَوَاءُ الرّعْدَةُ مِنْ الْبَرْدِ وَالِانْتِفَاضُ فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ عَرَقٌ فَهِيَ الرّحَضَاءُ وَكِلَاهُمَا مَمْدُودٌ - حَتّى ظَنَنْت أَنّي سَأَسْقُطُ عَلَى سَيّدِي ، فَنَزَلْت عَنْ النّخْلَةِ فَجَعَلْت أَقُولُ لَابْن عَمّهِ ذَلِكَ مَاذَا تَقُولُ ؟ مَاذَا تَقُولُ ؟ فَغَضِبَ سَيّدِي ، فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً ثُمّ قَالَ مَا لَك وَلِهَذَا ؟ أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِك ، قَالَ قُلْت : لَا شَيْءَ إنّمَا أَرَدْت أَنْ أَسْتَثْبِتَهُ عَمّا قَالَ . قَالَ وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْته ، فَلَمّا أَمْسَيْت أَخَذْته ، ثُمّ ذَهَبْت بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ بِقُبَاءَ فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقُلْت لَهُ إنّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنّك رَجُلٌ صَالِحٌ [ ص 376 ] كَانَ عِنْدِي لِلصّدَقَةِ فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ قَالَ فَقَرّبْته إلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأَصْحَابِهِ كُلُوا ، وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ . قَالَ فَقُلْت فِي نَفْسِي : هَذِهِ وَاحِدَةٌ . قَالَ ثُمّ انْصَرَفْت عَنْهُ فَجَمَعْت شَيْئًا ، وَتَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ ، ثُمّ جِئْته بِهِ فَقُلْت لَهُ إنّي قَدْ رَأَيْتُك لَا تَأْكُلُ الصّدَقَةَ فَهَذِهِ هَدِيّةٌ أَكْرَمْتُك بِهَا . قَالَ فَأَكَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْهَا ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ . قَالَ فَقُلْت فِي نَفْسِي : هَاتَانِ ثِنْتَانِ قَالَ ثُمّ جِئْت رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ قَدْ تَبِعَ جِنَازَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيّ شَمْلَتَانِ لِي ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ فَسَلّمْت عَلَيْهِ ثُمّ اسْتَدَرْت أَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهِ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي ، فَلَمّا رَآنِي رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - اسْتَدْبَرْته ، عَرَفَ أَنّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي ، فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ فَنَظَرْت إلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْته ، فَأَكْبَبْت عَلَيْهِ أُقَبّلُهُ وَأَبْكِي . فَقَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحَوّلْ فَتَحَوّلْت فَجَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَصَصْت عَلَيْهِ حَدِيثِي ، كَمَا حَدّثْتُك يَا بْنَ عَبّاسٍ فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلّمَ - أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ . ثُمّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرّقّ حَتّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَدْرٌ وَأُحُدٌ . [ ص 377 ] قَالَ سَلْمَانُ ثُمّ قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ فَكَاتَبْت صَاحِبِي عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ وَأَرْبَعِينَ أُوقِيّةً . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأَصْحَابِهِ أَعِينُوا أَخَاكُمْ فَأَعَانُونِي بِالنّخْلِ الرّجُلُ بِثَلَاثِينَ وَدِيّةٍ وَالرّجُلُ بِعِشْرِينَ وَدِيّةً وَالرّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ وَدِيّةً وَالرّجُلُ بِعَشْرِ يُعِينُ الرّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ حَتّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُمِائَةِ وَدِيّةٍ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقّرْ لَهَا ، فَإِذَا فَرَغْت فَأْتِنِي ، أَكُنْ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدِي . قَالَ فَفَقّرْت ، وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي ، حَتّى إذَا فَرَغْت جِئْته ، فَأَخْبَرْته ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَعِي إلَيْهَا ، فَجَعَلْنَا نُقَرّبُ إلَيْهِ الْوَدِيّ وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِيَدِهِ حَتّى فَرَغْنَا . فَوَاَلّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيّةٌ وَاحِدَةٌ . قَالَ فَأَدّيْت النّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيّ الْمَالُ . فَأُتِيَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَعَادِنِ فَقَالَ مَا فَعَلَ الْفَارِسِيّ الْمُكَاتِبُ ؟ قَالَ فَدُعِيت لَهُ فَقَالَ خُذْ هَذِهِ فَأَدّهَا مِمّا عَلَيْك يَا سَلْمَانُ . قَالَ قُلْت : وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مِمّا عَلَيّ ؟ فَقَالَ خُذْهَا ، فَإِنّ اللّهَ سَيُؤَدّي بِهَا عَنْك . قَالَ فَأَخَذْتهَا ، فَوَزَنْت لَهُمْ مِنْهَا - وَاَلّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ - أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً فَأَوْفَيْتهمْ حَقّهُمْ مِنْهَا ، وَعَتَقَ سَلْمَانُ . فَشَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - الْخَنْدَقَ حُرّا ، ثُمّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ عَنْ سَلْمَانَ أَنّهُ قَالَ لَمّا قُلْت : وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ مِنْ الّذِي عَلَيّ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ أَخَذَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَلّبَهَا عَلَى لِسَانِهِ ثُمّ قَالَ خُذْهَا فَأَوْفِهِمْ مِنْهَا . فَأَخَذْتهَا ، فَأَوْفَيْتهمْ مِنْهَا حَقّهُمْ كُلّهُ أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً
S[ ص 372 ]
حَدِيثُ سَلْمَانَ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ حَدِيثَ سَلْمَانَ بِطُولِهِ وَقَالَ كُنْت مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ هَكَذَا قَيّدَهُ الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ الْمُعْجَمِ بِالْكَسْرِ فِي الْهَمْزَةِ وَإِصْبَهُ بِالْعَرَبِيّةِ فَرَسٌ وَقِيلَ هُوَ الْعَسْكَرُ فَمَعْنَى الْكَلِمَةِ مَوْضِعُ الْعَسْكَرِ أَوْ الْخَيْلِ أَوْ نَحْوَ هَذَا . وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ عَلَى طُولِهِ إشْكَالٌ وَوَقَعَ فِي الْأَصْلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمّا رَآنِي رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - اسْتَدْبَرْته ، وَرَأَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ أَسْتَدِيرُ بِهِ وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِيهِ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ وَفِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ الْوَجْهُ التّفْقِيرُ . [ ص 373 ]
أَسْمَاءُ النّخْلَةِ
وَالْفَقِيرُ لِلنّخْلَةِ . يُقَالُ لَهَا فِي الْكَرْمَةِ حَيِيّةُ وَجَمْعُهَا : حَيَايَا ، وَهِيَ الْحَفِيرَةُ وَإِذَا خَرَجَتْ النّخْلَةُ مِنْ النّوَاةِ فَهِيَ عَرِيسَةٌ ثُمّ يُقَالُ لَهَا : وَدِيّةٌ ثُمّ فَسِيلَةٌ ثُمّ أَشَاءَةٌ فَإِذَا فَاتَتْ الْيَدَ فَهِيَ جَبّارَةٌ وَهِيَ الْعَضِيدُ وَالْكَتِيلَةُ وَيُقَالُ لِلّتِي لَمْ تَخْرُجْ مِنْ النّوَاةِ لَكِنّهَا اُجْتُثّتْ مِنْ جَنْبِ أُمّهَا : قَلْعَةٌ وَجَثِيثَةٌ وَهِيَ الْجَثَائِثُ وَالْهِرَاءُ وَيُقَالُ لِلنّخْلَةِ الطّوِيلَةِ عَوَانَةٌ بِلُغَةِ عَمّان ، وَعَيْدَانَةٌ بِلُغَةِ غَيْرِهِمْ وَهِيَ فَيْعَالَةٌ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ وَاخْتَلَفَ فِيهَا قَوْلُ صَاحِبِ كِتَابِ الْعَيْنِ فَجَعَلَهَا تَارَةً فَيْعَالَةً مِنْ عَدَنَ ، ثُمّ جَعَلَهَا فِي بَابِ الْمُعْتَلّ الْعَيْنِ فَعْلَانَةً . [ ص 374 ] أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ إنْ قَامَتْ السّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَغْرِسَهَا قَبْلَ أَنْ تَقُومَ السّاعَةُ فَلْيَغْرِسْهَا مِنْ مُصَنّفِ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ . وَاَلّذِينَ صَحِبُوا سَلْمَانَ مِنْ النّصَارَى كَانُوا عَلَى الْحَقّ عَلَى دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وَكَانُوا ثَلَاثِينَ يُدَاوِلُونَهُ سَيّدًا بَعْدَ سَيّدٍ . [ ص 375 ]
مِنْ فِقْهِ حَدِيثِ سَلْمَانَ
وَذَكَرَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ أَنّهُ جَمَعَ شَيْئًا ، فَجَاءَ بِهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِيَخْتَبِرَهُ أَيَأْكُلُ الصّدَقَةَ أَمْ لَا ، فَلَمْ يَسْأَلْهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَحُرّ أَنْتَ أَمْ عَبْدٌ وَلَا : مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا ، فَفِي هَذَا مِنْ الْفِقْهِ قَبُولُ الْهَدِيّةِ وَتَرْكُ سُؤَالِ الْمُهْدِي ، وَكَذَلِكَ الصّدَقَةُ . [ ص 376 ]
حُكْمُ الصّدَقَةِ لِلنّبِيّ وَمَصْدَرُ مَالِ سَلْمَانَ
وَفِي الْحَدِيثِ مَنْ قُدّمَ إلَيْهِ طَعَامٌ فَلْيَأْكُلْ وَلَا يَسْأَلْ وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ حَدِيثَ سَلْمَانَ حُجّةً عَلَى مَنْ قَالَ إنّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ وَقَالَ لَوْ كَانَ لَا يَمْلِكُ مَا قَبِلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - صَدَقَتَهُ وَلَا قَالَ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا صَدَقَتَهُ ذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ الْوَجْهَ الّذِي جَمَعَ مِنْهُ سَلْمَانُ مَا أَهْدَى لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ قَالَ سَلْمَانُ كُنْت عَبْدًا لِامْرَأَةِ فَسَأَلْت سَيّدَتِي أَنْ تَهَبَ لِي يَوْمًا ، فَعَمِلْت فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى صَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ وَجِئْت بِهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَمّا رَأَيْته لَا يَأْكُلُ الصّدَقَةَ سَأَلْت سَيّدَتِي أَنْ تَهَبَ لِي يَوْمًا آخَرَ فَعَمِلْت فِيهِ عَلَى ذَلِكَ ثُمّ جِئْت بِهِ هَدِيّةً لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَبِلَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ فَبَيّنَ فِي هَذِهِ الرّوَايَةِ الْوَجْهَ الّذِي جَمَعَ مِنْهُ سَلْمَانُ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَالصّدَقَةُ الّتِي قَالَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا تَحِلّ لِمُحَمّدِ وَلَا لِآلِ مُحَمّدٍ هِيَ الْمَفْرُوضَةُ دُونَ التّطَوّعِ قَالَهُ الشّافِعِيّ ، غَيْرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَمْ يَكُنْ تَحِلّ لَهُ صَدَقَةُ الْفَرْضِ وَلَا التّطَوّعِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ . وَقَالَ الثّوْرِيّ : لَا تَحِلّ الصّدَقَةُ لِآلِ مُحَمّدٍ فَرْضُهَا وَلَا نَفْلُهَا وَلَا لِمَوَالِيهِمْ لِأَنّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ جَاءَ الْحَدِيثُ . وَقَالَ مَالِكٌ تَحِلّ لِمَوَالِيهِمْ وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ : لَا تَحِلّ لِآلِ مُحَمّدٍ صَدَقَةُ غَيْرِهِمْ وَتَحِلّ لَهُمْ صَدَقَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو عَبْدِ الْمُطّلِبِ . [ ص 377 ]
أَوّلُ مَنْ مَاتَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ
وَقَوْلُ سَلْمَانَ فَأَتَيْت رَسُولَ اللّهِ وَهُوَ فِي جِنَازَةِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ . صَاحِبُهُ الّذِي مَاتَ فِي تِلْكَ الْأَيّامِ كُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ الّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ الطّبَرِيّ : أَوّلُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ بِأَيّامِ قَلِيلَةٍ كُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ ، ثُمّ مَاتَ بَعْدَهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ . فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي مُكَاتَبَةِ سَلْمَانَ أَنّهُ فَقّرَ لِثَلَاثِمِائَةِ وَدِيّةٍ أَيْ حَفَرَ وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَضَعَهَا كُلّهَا بِيَدِهِ فَلَمْ تَمُتْ مِنْهَا وَدِيّةٌ وَاحِدَةٌ وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ حَدِيثَ سَلْمَانَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ غَيْرَ أَنّهُ ذَكَرَ أَنّ سَلْمَانَ غَرَسَ بِيَدِهِ وَدِيّةً وَاحِدَةً وَغَرَسَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَائِرَهَا ، فَعَاشَتْ كُلّهَا إلّا الّتِي غَرَسَ سَلْمَانُ . هَذَا مَعْنَى حَدِيثِ الْبُخَارِيّ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 378 ] عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، قَالَ حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ ، قَالَ حُدّثْت عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيّ : أَنّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ أَخْبَرَهُ خَبَرَهُ إنّ صَاحِبَ عَمّورِيَةَ قَالَ لَهُ ائْتِ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، فَإِنّ بِهَا رَجُلًا بَيْنَ غَيْضَتَيْنِ يَخْرُجُ فِي كُلّ سَنَةٍ مِنْ هَذِهِ الْغَيْضَةِ إلَى هَذِهِ الْغَيْضَةِ مُسْتَجِيزًا ، يَعْتَرِضُهُ ذَوُو الْأَسْقَامِ فَلَا يَدْعُو لِأَحَدِ مِنْهُمْ إلّا شُفِيَ فَاسْأَلْهُ عَنْ هَذَا الدّينِ الّذِي تَبْتَغِي ، فَهُوَ يُخْبِرُك عَنْهُ قَالَ سَلْمَانُ فَخَرَجْت حَتّى أَتَيْت حَيْثُ وَصَفَ لِي ، فَوَجَدْت النّاسَ قَدْ اجْتَمَعُوا بِمَرْضَاهُمْ هُنَالِكَ حَتّى خَرَجَ لَهُمْ تِلْكَ اللّيْلَةَ مُسْتَجِيزًا مِنْ إحْدَى الْغَيْضَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى ، فَغَشِيَهُ النّاسُ بِمَرْضَاهُمْ لَا يَدْعُو لِمَرِيضِ إلّا شُفِيَ وَغَلَبُونِي عَلَيْهِ فَلَمْ أَخْلُصْ إلَيْهِ حَتّى دَخَلَ الْغَيْضَةَ الّتِي يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ إلّا مَنْكِبَهُ . قَالَ فَتَنَاوَلْته : فَقَالَ مَنْ هَذَا ؟ وَالْتَفَتَ إلَيّ فَقُلْت : يَرْحَمُك اللّهُ ، أَخْبِرْنِي عَنْ الْحَنِيفِيّةِ دِينِ إبْرَاهِيمَ . قَالَ إنّك لَتَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ النّاسُ الْيَوْمَ قَدْ أَظَلّك زَمَانُ نَبِيّ يُبْعَثُ بِهَذَا الدّينِ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ ، فَأْتِهِ فَهُوَ يَحْمِلُك عَلَيْهِ . قَالَ ثُمّ دَخَلَ . قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِسَلْمَانَ لَئِنْ كُنْت صَدَقْتنِي يَا سَلْمَانُ ، لَقَدْ لَقِيت عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَى نَبِيّنَا وَعَلَيْهِ السّلَامُSأُسْطُورَةُ نُزُولِ عِيسَى قَبْلَ بَعْثَةِ النّبِيّ
[ ص 378 ] دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ قَالَ سَلْمَانُ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَذَكَرَ خَبَرَ الرّجُلِ الّذِي كَانَ يَخْرُجُ مُسْتَجِيزًا مِنْ غَيْضَةٍ إلَى غَيْضَةٍ وَيَلْقَاهُ النّاسُ بِمَرْضَاهُمْ فَلَا يَدْعُو لِمَرِيضِ إلّا شُفِيَ وَأَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ إنْ كُنْت صَدَقْتنِي يَا سَلْمَانُ فَقَدْ رَأَيْت عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ . إسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ مَقْطُوعٌ وَفِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ وَيُقَالُ إنّ ذَلِكَ الرّجُلَ هُوَ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِإِجْمَاعِ مِنْهُمْ فَإِنْ صَحّ الْحَدِيثُ فَلَا نَكَارَةَ فِي مَتْنِهِ فَقَدْ ذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السّلَامُ نَزَلَ بَعْدَمَا رُفِعَ وَأُمّهُ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْجِذْعِ الّذِي فِيهِ الصّلِيبُ يَتّكِئَانِ فَكَلّمَهُمَا ، وَأَخْبَرَهُمَا أَنّهُ لَمْ يُقْتَلْ وَأَنّ اللّهَ رَفَعَهُ وَأَرْسَلَ إلَى الْحَوَارِيّينَ وَوَجّهَهُمْ إلَى الْبِلَادِ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَنْزِلَ مَرّةً جَازَ أَنْ يَنْزِلَ مِرَارًا ، وَلَكِنْ لَا يُعْلَمُ أَنّهُ هُوَ حَتّى يَنْزِلَ النّزُولَ الظّاهِرَ فَيَكْسِرُ الصّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ [ ص 379 ] أَعْلَمُ وَيُرْوَى أَنّهُ إذَا نَزَلَ تَزَوّجَ امْرَأَةً مِنْ جُذَامٍ ، وَيُدْفَنُ إذَا مَاتَ فِي الرّوْضَةِ الّتِي فِيهَا النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ .
ذِكْرُ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ الْعُزّى
وَعُبَيْدَ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ وَعُثْمَانَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ
وَزَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 379 ] عِنْدَ صَنَمٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ كَانُوا يُعَظّمُونَهُ وَيَنْحَرُونَ لَهُ وَيَعْكُفُونَ عِنْدَهُ وَيُدِيرُونَ بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ عِيدًا لَهُمْ فِي كُلّ سَنَةٍ يَوْمًا ، فَخَلَصَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ نَجِيّا ، ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ تَصَادَقُوا ، وَلْيَكْتُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ قَالُوا : أَجَلْ وَهُمْ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَعُبَيْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ صَبْرَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَبِيرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانِ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ ، وَكَانَتْ أُمّهُ أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ . وَعُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ ، وَزَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِيَاحِ بْنِ رِزَاحِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ تَعْلَمُوا وَاَللّهِ مَا قَوْمُكُمْ عَلَى شَيْءٍ لَقَدْ أَخْطَئُوا دِينَ أَبِيهِمْ إبْرَاهِيمَ مَا حَجَرٌ نُطِيفُ بِهِ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَضُرّ وَلَا يَنْفَعُ ؟ يَا قَوْمُ الْتَمِسُوا لِأَنْفُسِكُمْ فَإِنّكُمْ وَاَللّهِ مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ فَتَفَرّقُوا فِي الْبُلْدَانِ يَلْتَمِسُونَ الْحَنِيفِيّةَ دِينَ إبْرَاهِيمَ . [ ص 380 ] وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فَاسْتَحْكَمَ فِي النّصْرَانِيّةِ ، وَاتّبَعَ الْكُتُبَ مِنْ أَهْلِهَا ، حَتّى عَلِمَ عِلْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَمّا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ ، فَأَقَامَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الِالْتِبَاسِ حَتّى أَسْلَمَ ، ثُمّ هَاجَرَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْحَبَشَةِ ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ مُسْلِمَةٌ فَلَمّا قَدِمَهَا تَنَصّرَ وَفَارَقَ الْإِسْلَامَ حَتّى هَلَكَ هُنَالِكَ نَصْرَانِيّا . [ ص 381 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ؛ قَالَ كَانَ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ - حِينَ تَنَصّرَ - يَمُرّ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ هُنَالِكَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فَيَقُولُ فَقّحْنَا وَصَأْصَأْتُمْ أَيْ أَبْصَرْنَا وَأَنْتُمْ تَلْتَمِسُونَ الْبَصَرَ وَلَمْ تُبْصِرُوا بَعْدُ وَذَلِكَ أَنّ وَلَدَ الْكَلْبِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ عَيْنَيْهِ لِيَنْظُرَ صَأْصَأَ لِيَنْظُرَ . وَقَوْلُهُ فَقّحَ فَتَحَ عَيْنَيْهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَخَلّفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَهُ عَلَى امْرَأَتِهِ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ فِيهَا إلَى النّجَاشِيّ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ . فَخَطَبَهَا عَلَيْهِ النّجَاشِيّ ؛ فَزَوّجَهُ إيّاهَا ، وَأَصْدَقَهَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ : مَا نَرَى عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ وَقَفَ صَدَاقَ النّسَاءِ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ إلّا عَنْ ذَلِكَ . وَكَانَ الّذِي أَمْلَكَهَا لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا عُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ ، فَقَدِمَ عَلَى قَيْصَرٍ مَلِكِ الرّومِ فَتَنَصّرَ وَحَسُنَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلِعُثْمَانِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عِنْدَ قَيْصَرٍ حَدِيثٌ مَنَعَنِي مِنْ ذِكْرِهِ مَا ذَكَرْت فِي حَدِيثِ حَرْبِ الْفِجَارِ .
Sذِكْرُ حَدِيثِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، وَعُبَيْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ ، وَعُثْمَانَ بْنِ الْحُوَيْرِثِ ، وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَمَا تَنَاجَوْا بِهِ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ إلَى آخِرِ النّسَبِ وَالْمَعْرُوفُ فِي نَسَبِهِ وَنَسَبِ ابْنِ عَمّهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ : نُفَيْلُ بْنُ رِيَاحِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِزَاحٍ بِتَقْدِيمِ رِيَاحِ عَلَى عَبْدِ اللّهِ وَرِزَاحٌ بِكَسْرِ الرّاءِ قَيّدَهُ الشّيْخُ أَبُو بَحْرٍ وَزَعَمَ الدّارَقُطْنِيّ أَنّهُ رَزَاحٌ بِالْفَتْحِ وَإِنّمَا رِزَاحٍ بِالْكَسْرِ رِزَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُو قُصَيّ لِأُمّهِ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ .
الزّوَاجُ مِنْ امْرَأَةِ الْأَبِ فِي الْجَاهِلِيّةِ
وَأُمّ زَيْدٍ هِيَ الْحَيْدَاءُ بِنْتُ خَالِدٍ الْفَهْمِيّةُ وَهِيَ امْرَأَةُ جَدّهِ نُفَيْلٍ وَلَدَتْ لَهُ الْخَطّابَ فَهُوَ [ ص 380 ] أَخُو الْخَطّابِ لِأُمّهِ وَابْنُ أَخِيهِ وَكَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا فِي الْجَاهِلِيّةِ بِشِرْعِ مُتَقَدّمٍ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ الْحُرُمَاتِ الّتِي انْتَهَكُوهَا ، وَلَا مِنْ الْعَظَائِمِ الّتِي ابْتَدَعُوهَا ، لِأَنّهُ أَمْرٌ كَانَ فِي عَمُودِ نَسَبِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَكِنَانَةُ تَزَوّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ خُزَيْمَةَ ، وَهِيَ بَرّةُ بِنْتُ مُرّ فَوَلَدَتْ لَهُ النّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ ، وَهَاشِمٌ أَيْضًا قَدْ تَزَوّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ وَافِدَةً فَوَلَدَتْ لَهُ ضَعِيفَةَ وَلَكِنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ عَمُودِ نَسَبِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأَنّهَا لَمْ تَلِدْ جَدّا لَهُ أَعْنِي : وَاقِدَةَ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنَا مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا قَدْ سَلَفَ } [ النّسَاءُ 22 ] . أَيْ إلّا مَا سَلَفَ مِنْ تَحْلِيلِ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَفَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَلّا يُعَابَ نَسَبُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلِيُعْلَمَ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ فِي أَجْدَادِهِ مَنْ كَانَ لِغَيّةِ وَلَا مِنْ سِفَاحٍ . أَلَا تَرَى أَنّهُ لَمْ يَقُلْ فِي شَيْءٍ نَهَى عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ { إِلّا مَا قَدْ سَلَفَ } نَحْوَ قَوْلِهِ { وَلَا تَقْرَبُوا الزّنَا } وَلَمْ يَقُلْ إلّا مَا قَدْ سَلَفَ : { وَلَا تَقْتُلُوا النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ } [ الْإِسْرَاءُ 30ْ ] وَلَمْ يَقُلْ إلّا مَا قَدْ سَلَفَ ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي الّتِي نَهَى عَنْهَا إلّا فِي هَذِهِ وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ لِأَنّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ قَدْ كَانَ مُبَاحًا أَيْضًا فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا ، وَقَدْ جَمَعَ يَعْقُوبُ بَيْنَ رَاحِيلَ وَأُخْتِهَا لِيَا فَقَوْلُهُ { إِلّا مَا قَدْ سَلَفَ } الْتِفَاتَةٌ إلَى هَذَا الْمَعْنَى ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى هَذَا الْمَغْزَى ، وَهَذِهِ النّكْتَةُ لُقّنْتهَا مِنْ شَيْخِنَا الْإِمَامِ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمّدِ بْنِ الْعَرَبِيّ - رَحِمَهُ اللّهُ - وَزَيْدٌ هَذَا هُوَ وَالِدُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَحَدِ الْعَشْرَةِ الّذِينَ شُهِدَ لَهُمْ بِالْجَنّةِ وَأُمّ سَعِيدٍ فَاطِمَةُ بِنْتُ نَعْجَةَ بْنِ خَلَفٍ الْخُزَاعِيّ [ عِنْدَ الزّبَيْرِ بَعْجَةُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ اليمعر بْنِ خُزَاعَةَ ] .
تَفْسِيرُ بَعْضِ قَوْلِ ابْنِ جَحْشٍ
وَذَكَرَ قَوْلَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ حِينَ تَنَصّرَ بِالْحَبَشَةِ فَقّحْنَا وَصَأْصَأْتُمْ وَشَرَحَ فَقّحْنَا بِقَوْلِهِ فَقّحَ الْجُرْوُ إذَا فَتَحَ عَيْنَيْهِ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَزَادَ جَصّصَ أَيْضًا ، وَذَكَرَ [ ص 381 ] عُبَيْدٍ : بَصّصَ بِالْبَاءِ حَكَاهَا عَنْ أَبِي زَيْدٍ وَقَالَ الْقَالِيّ إنّمَا رَوَاهُ الْبَصْرِيّونَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ بِيَاءِ مَنْقُوطَةٍ بِاثْنَتَيْنِ لِأَنّ الْيَاءَ تُبْدَلُ مِنْ الْجِيمِ كَثِيرًا كَمَا تَقُولُ أَيَلٌ وَأَجَلٌ وَلِرِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ وَجْهٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَصّصَ مِنْ الْبَصِيصِ وَهُوَ الْبَرِيقُ .
بَعْضُ الّذِينَ تَنَصّرُوا
فَصْلٌ وَذَكَرَ عُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ مَعَ زَيْدٍ وَوَرَقَةَ وَعُبَيْدَ اللّهِ بْنَ جَحْشٍ ، ثُمّ قَالَ وَأَمّا عُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فَإِنّهُ ذَهَبَ إلَى الشّامِ ، وَلَهُ فِيهَا مَعَ قَيْصَرٍ خَبَرٌ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ الْخَبَرَ ، وَذَكَرَ الْبَرْقِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ قَدِمَ عَلَى قَيْصَرٍ فَقَالَ لَهُ إنّي أَجْعَلُ لَك خَرْجًا عَلَى قُرَيْشٍ إنْ جَاءُوا الشّامَ لِتِجَارَتِهِمْ وَإِلّا مَنَعْتهمْ فَأَرَادَ قَيْصَرٌ أَنْ يَفْعَلَ فَخَرَجَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِي بْنِ أُمَيّةَ وَأَبُو ذِئْبٍ وَهُوَ هِشَامُ بْنُ شُعْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ إلَى الشّامِ ، فَأُخِذَا فَحُبِسَا ، فَمَاتَ أَبُو ذِئْبٍ فِي الْحَبْسِ وَأَمّا سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِي ، فَإِنّهُ خَرَجَ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَةَ ، وَهُوَ أُمَيّةُ فَتَخَلّصُوهُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ رَوَاهُ ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ وَأَبُو ذِئْبٍ الّذِي ذُكِرَ هُوَ جَدّ الْفَقِيهِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ يُكَنّى : أَبَا الْحَارِثِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ ، وَأُمّهُ بُرَيْهَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَأَمّا الزّبَيْرُ فَذَكَرَ أَنّ [ ص 382 ] كَانَ قَدْ تَوّجَ عُثْمَانَ وَوَلّاهُ أَمْرَ مَكّةَ ، فَلَمّا جَاءَهُمْ بِذَلِكَ أَنِفُوا مِنْ أَنْ يَدِينُوا لِمَلِكِ وَصَاحَ الْأَسْوَدُ بْنُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى : أَلَا إنّ مَكّةَ حَيّ لَقَاحٌ لَا تَدِينُ لِمَلِكِ فَلَمْ يَتِمّ لَهُ مُرَادُهُ قَالَ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْبِطْرِيقُ وَلَا عَقِبَ لَهُ وَمَاتَ بِالشّامِ مَسْمُومًا ، سَمّهُ عَمْرُو بْنُ جَفْنَةَ الْغَسّانِيّ الْمَلِكُ .
[ ص 382 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَوَقَفَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي يَهُودِيّةٍ وَلَا نَصْرَانِيّةٍ وَفَارَقَ دِينَ قَوْمِهِ فَاعْتَزَلَ الْأَوْثَانَ وَالْمَيْتَةَ وَالدّمَ وَالذّبَائِحَ الّتِي تُذْبَحُ عَلَى الْأَوْثَانِ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ الْمَوْءُودَةِ وَقَالَ أَعْبُدُ رَبّ إبْرَاهِيمَ وَبَادَى قَوْمَهُ بِعَيْبِ مَا هُمْ عَلَيْهِ . [ ص 383 ] [ ص 384 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ لَقَدْ رَأَيْت زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ شَيْخًا كَبِيرًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَهُوَ يَقُولُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَاَلّذِي نَفْسُ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو بِيَدِهِ مَا أَصْبَحَ مِنْكُمْ أَحَدٌ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ غَيْرِي ، ثُمّ يَقُولُ اللّهُمّ لَوْ أَنّي أَعْلَمُ أَيّ الْوُجُوهِ أَحَبّ إلَيْك عَبَدْتُك بِهِ وَلَكِنّي لَا أَعْلَمُهُ ثُمّ يَسْجُدُ عَلَى رَاحَتِهِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحُدّثْت أَنّ ابْنَهُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، وَهُوَ ابْنُ عَمّهِ قَالَا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنَسْتَغْفِرُ لِزَيْدِ بْنِ عَمْرٍو ؟ قَالَ نَعَمْ فَإِنّهُ يُبْعَثُ أُمّةً وَحْدَهُSاعْتِزَالُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْأَوْثَانَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ اعْتِزَالَ زَيْدٍ الْأَوْثَانَ وَتَرْكَهُ طَوَاغِيتَهُمْ وَتَرْكَهُ أَكْلَ مَا نُحِرَ [ عَلَى الْأَوْثَانِ ] وَالنّصُبِ . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَ أَخْبَرَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ أَخْبَرَنَا مُوسَى ، قَالَ حَدّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلَ بَلْدَحَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النّبِيّ - عَلَيْهِ السّلَامُ - الْوَحْيُ فَقُدّمَتْ إلَى النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سُفْرَةٌ أَوْ قَدّمَهَا إلَيْهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ، ثُمّ قَالَ زَيْدٌ إنّي لَسْت آكُلُ مَا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلَا آكُلُ إلّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَأَنّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ وَيَقُولُ الشّاةُ خَلَقَهَا اللّهُ وَأَنْزَلَ لَهَا مِنْ السّمَاءِ الْمَاءَ وَأَنْبَتَ لَهَا مِنْ الْأَرْضِ الْكَلَأَ ثُمّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللّهِ ؟ إنْكَارًا لِذَلِك ، وَإِعْظَامًا لَهُ قَالَ مُوسَى بْنُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ : وَلَا أَعْلَمُ إلّا مَا تَحَدّثَ بِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إلَى الشّامِ يَسْأَلُ عَنْ الدّينِ وَيَتّبِعُهُ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ وَقَالَ لَهُ إنّي لَعَلّي أَنْ أَدِينَ بِدِينِكُمْ فَأَخْبِرُونِي ، فَقَالَ لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا ، حَتّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِك مِنْ غَضَبِ اللّهِ قَالَ زَيْدٌ مَا أَفِرّ إلّا مِنْ غَضَبِ اللّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللّهِ شَيْئًا أَبَدًا ، وَأَنّى أَسْتَطِيعُهُ فَهَلْ تَدُلّنِي عَلَى غَيْرِهِ ؟ قَالَ مَا أَعْلَمُهُ إلّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا ، قَالَ وَمَا الْحَنِيفُ ؟ قَالَ دِينُ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا ، وَلَا يَعْبُدُ إلّا اللّهَ فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النّصَارَى ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَقَالَ لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا ، حَتّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِك مِنْ لَعْنَةِ اللّهِ قَالَ مَا أَفِرّ إلّا مِنْ لَعْنَةِ اللّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللّهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا ، وَأَنّى أَسْتَطِيعُ فَهَلْ تَدُلّنِي عَلَى غَيْرِهِ ؟ قَالَ مَا أَعْلَمُهُ إلّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا ، قَالَ وَمَا الْحَنِيفُ ؟ [ ص 383 ] قَالَ دِينُ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا ، وَلَا يَعْبُدُ إلّا اللّهَ فَلَمّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إبْرَاهِيمَ خَرَجَ فَلَمّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ اللّهُمّ إنّي أُشْهِدُك أَنّي عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ . وَقَالَ اللّيْثُ كَتَبَ إلَيّ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - قَالَتْ رَأَيْت زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلَى الْكَعْبَةِ ، يَقُولُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَاَللّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ غَيْرِي ، وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ يَقُولُ لِلرّجُلِ إذَا أَرَادَ أَنّ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ لَا تَقْتُلْهَا ، أَكَفّيْك مُؤْنَتَهَا ، فَيَأْخُذُهَا ، فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا : إنْ شِئْت دَفَعْتهَا إلَيْك ، وَإِنْ شِئْت كَفَيْتُك مُؤْنَتَهَا إلَى هَاهُنَا انْتَهَى حَدِيثُ الْبُخَارِيّ . وَفِيهِ سُؤَالٌ يُقَالُ كَيْفَ وَفّقَ اللّهُ زَيْدًا إلَى تَرْكِ أَكْلِ مَا ذُبِحَ عَلَى النّصُبِ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ أَوْلَى بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ فِي الْجَاهِلِيّةِ لِمَا ثَبّتَ اللّهُ ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حِينَ لَقِيَهُ بِبَلْدَحَ فَقُدّمَتْ إلَيْهِ السّفْرَةُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَكَلَ مِنْهَا ، وَإِنّمَا فِي الْحَدِيثِ أَنّ زَيْدًا قَالَ حِينَ قُدّمَتْ السّفْرَةُ لَا آكُلُ مِمّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ الْجَوَابُ الثّانِي : أَنّ زَيْدًا إنّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِرَأْيِ رَآهُ لَا بِشِرْعِ مُتَقَدّمٍ وَإِنّمَا تَقَدّمَ شَرْعُ إبْرَاهِيمَ بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ لَا بِتَحْرِيمِ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللّهِ وَإِنّمَا نَزَلَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ وَبَعْضُ الْأُصُولِيّينَ يَقُولُونَ الْأَشْيَاءُ قَبْلَ وُرُودِ الشّرْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَإِنْ قُلْنَا بِهَذَا ، وَقُلْنَا إنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ يَأْكُلُ مِمّا ذُبِحَ عَلَى النّصُبِ فَإِنّمَا فَعَلَ أَمْرًا مُبَاحًا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَأْكُلُ مِنْهَا فَلَا إشْكَالَ وَإِنْ قُلْنَا أَيْضًا : إنّهَا لَيْسَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَلَا عَلَى التّحْرِيمِ وَهُوَ الصّحِيحُ فَالذّبَائِحُ خَاصّةٌ لَهَا أَصْلٌ فِي تَحْلِيلِ الشّرْعِ الْمُتَقَدّمِ كَالشّاةِ وَالْبَعِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمّا أَحَلّهُ اللّهُ تَعَالَى فِي دِينِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا ، وَلَمْ يَقْدَحْ فِي ذَلِكَ التّحْلِيلِ الْمُتَقَدّمِ مَا ابْتَدَعُوهُ حَتّى جَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَنْزَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَلَا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ } [ الْأَنْعَامُ 121 ] . أَلَا تَرَى كَيْفَ بَقِيَتْ ذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ عِنْدَنَا عَلَى أَصْلِ التّحْلِيلِ بِالشّرْعِ الْمُتَقَدّمِ وَلَمْ يَقْدَحْ فِي التّحْلِيلِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْكُفْرِ وَعِبَادَةِ الصّلْبَانِ فَكَذَلِكَ كَانَ مَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْأَوْثَانِ مُحَلّا بِالشّرْعِ الْمُتَقَدّمِ حَتّى خَصّهُ الْقُرْآنُ بِالتّحْرِيمِ . [ ص 384 ]
زَيْدٌ وَصَعْصَعَةُ وَالْمَوْءُودَةُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ خَبَرَ الْمَوْءُودَةِ وَمَا كَانَ زَيْدٌ يَفْعَلُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ صَعْصَعَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ جَدّ الْفَرَزْدَقِ رَحِمَهُ اللّهِ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ وَلَمّا أَسْلَمَ سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلْ لِي فِي ذَلِكَ مِنْ أَجْرٍ ؟ فَقَالَ فِي أَصَحّ الرّوَايَتَيْنِ لَك أَجْرُهُ إذَا مَنّ اللّهُ عَلَيْك بِالْإِسْلَامِ وَقَالَ الْمُبَرّدُ فِي الْكَامِلِ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَلَامًا لَمْ يَصِحّ لَفْظُهُ وَلَا مَعْنَاهُ وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ . وَالْأُصُولُ تَشْهَدُ لَهُ بِهَذِهِ الرّوَايَةِ الّتِي ذَكَرْنَاهَا ؛ لِمَا ثَبَتَ أَنّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ ، وَحَسُنَ إسْلَامُهُ كُتِبَ لَهُ كُلّ حَسَنَةٍ كَانَ زَلَفَهَا ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ كُلّ حَسَنَةٍ كَانَ زَلَفَهَا ، وَذَكَرهَا الدّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُ ثُمّ يَكُونُ الْقِصَاصُ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، وَالْمَوْءُودَةُ مَفْعُولَةٌ مِنْ وَأَدَهُ إذَا أَثْقَلَهُ قَالَ الْفَرَزْدَقُ :
وَمِنّا الّذِي مَنَعَ الْوَائِدَا ... تِ وَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ يُوأَدِ
يَعْنِي : جَدّهُ صَعْصَعَةَ بْنَ مُعَاوِيَةَ بْنِ نَاجِيَةَ بْنِ عِقَالِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ . وَقَدْ قِيلَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ غَيْرَةً عَلَى الْبَنَاتِ وَمَا قَالَهُ اللّهُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْحَقّ مِنْ قَوْلِهِ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ وَذَكَرَ النّقّاشُ فِي التّفْسِيرِ أَنّهُمْ كَانُوا يَئِدُونَ مِنْ الْبَنَاتِ مَا كَانَ مِنْهُنّ زَرْقَاءَ أَوْ بَرْشَاءَ أَوْ شَيْمَاءَ أَوْ كَشْحَاءَ تَشَاؤُمًا مِنْهُمْ بِهَذِهِ الصّفَاتِ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } [ التّكْوِيرُ 8 - 9 ] .
[ ص 385 ] وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي فِرَاقِ دِينِ قَوْمِهِ وَمَا كَانَ لَقِيَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ [ ص 386 ]
أَرَبّا وَاحِدًا ، أَمْ أَلْفُ رَبّ ... أَدِينُ إذَا تَقَسّمَتْ الْأُمُورُ
عَزَلْت اللّاتَ وَالْعُزّى جَمِيعًا ... كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْجَلْدُ الصّبُورُ
فَلَا الْعُزّى ، أَدِينُ وَلَا ابْنَتَيْهَا ... وَلَا صَنَمَيْ بَنِي عَمْرٍو أَزُورُ
وَلَا هُبَلًا أَدِينُ وَكَانَ رَبّا ... لَنَا فِي الدّهْرِ إذْ حِلْمِي يَسِيرُ
عَجِبْت . وَفِي اللّيَالِي مُعْجَبَاتٌ ... وَفِي الْأَيّامِ يَعْرِفُهَا الْبَصِيرُ
بِأَنّ اللّهَ قَدْ أَفْنَى رِجَالًا ... كَثِيرًا كَانَ شَأْنُهُمْ الْفُجُورُ
وَأَبْقَى آخَرِينَ بِبَرّ قَوْمٍ ... فَيَرْبُلُ مِنْهُمْ الطّفْلُ الصّغِيرُ
وَبَيْنَا الْمَرْءُ يَعْثُرُ ثَابَ يَوْمًا ... كَمَا يَتَرَوّحُ الْغُصْنُ الْمَطِيرُ
وَلَكِنْ أَعْبُدُ الرّحْمَنَ رَبّي ... لِيَغْفِرَ ذَنْبِي الرّبّ الْغَفُورُ
فَتَقْوَى اللّهِ رَبّكُمْ احْفَظُوهَا ... مَتَى مَا تَحْفَظُوهَا . لَا تَبُورُوا
تَرَى الْأَبْرَارَ . دَارَهُمْ جِنَانٌ ... وَلِلْكُفّارِ حَامِيَةٌ سَعِيرُ
وَخِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ وَإِنْ يَمُوتُوا ... يُلَاقُوا مَا تَضِيقُ بِهِ الصّدُورُ
S[ ص 385 ]
الْعُزّى
فَصْلٌ وَذَكَرَ شِعْرَ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو وَفِيهِ عَزَلْت اللّاتَ وَالْعُزّى جَمِيعًا . فَأَمّا اللّاتُ فَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُهَا ، وَأَمّا الْعُزّى ، فَكَانَتْ نَخَلَاتٍ مُجْتَمِعَةً وَكَانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيّ قَدْ أَخْبَرَهُمْ - فِيمَا ذُكِرَ - أَنّ الرّبّ يُشْتِي بِالطّائِفِ عِنْدَ اللّاتِ ، وَيُصَيّفُ بِالْعُزّى ، فَعَظّمُوهَا وَبَنَوْا لَهَا بَيْتًا ، وَكَانُوا يَهْدُونَ إلَيْهِ كَمَا يَهْدُونَ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَهِيَ الّتِي بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لِيَكْسِرَهَا ، فَقَالَ لَهُ سَادَتُهَا : يَا خَالِدُ احْذَرْهَا ؛ فَإِنّهَا تَجْدَعُ وَتُكَنّعُ فَهَدَمَهَا خَالِدُ وَتَرَكَ مِنْهَا جَذْمَهَا وَأَسَاسَهَا ، فَقَالَ قَيّمُهَا : وَاَللّهِ لِتَعُودُنّ وَلَتَنْتَقِمُنّ مِمّنْ فَعَلَ بِهَا هَذَا ، فَذَكَرَ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِخَالِدِ " هَلْ رَأَيْت فِيهَا شَيْئًا " ؟ فَقَالَ لَا ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَيَسْتَأْصِلَ بَقِيّتَهَا بِالْهَدْمِ فَرَجَعَ خَالِدٌ فَأَخْرَجَ أَسَاسَهَا ، فَوَجَدَ فِيهَا امْرَأَةً سَوْدَاءَ مُنْتَفِشَةَ الشّعْرِ تَخْدِشُ وَجْهَهَا ، فَقَتَلَهَا ، وَهَرَبَ الْقَيّمُ وَهُوَ يَقُولُ لَا تُعْبَدُ الْعُزّى بَعْدُ الْيَوْمَ . هَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ النّيْسَابُورِيّ فِي الْمَبْعَثِ . وَذَكَرَهُ الْأَزْرَقِيّ أَيْضًا وَرَزِينٌ .
مَعْنَى يَرْبُلُ
وَقَوْلُهُ فَيَرْبُلُ مِنْهُمْ الطّفْلُ الصّغِيرُ . أَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ رَبَلَ الطّفْلُ يَرْبُلُ [ ص 386 ] شَبّ وَعَظُمَ . يَرْبَلُ بِفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ يَكْبَرُ وَيَنْبُتُ وَمِنْهُ أُخِذَ تَرْبِيلُ الْأَرْضِ . وَقَوْلُهُ كَمَا يَتَرَوّحُ الْغُصْنُ أَيْ يَنْبُتُ وَرَقُهُ بَعْدَ سُقُوطِهِ . إعْرَابُ نَعْتِ النّكِرَةِ الْمُتَقَدّمِ وَقَوْلُهُ وَلِلْكُفّارِ حَامِيَةً سَعِيرُ . نَصَبَ حَامِيَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ سَعِيرٍ لِأَنّ نَعْتَ النّكِرَةِ إذَا تَقَدّمَ عَلَيْهَا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ فِي مِثْلِهِ لِمَيّةَ مُوحِشًا طَلَلُ
وَأَنْشَدَ أَيْضًا [ لَذِي الرّمّةِ ] :
وَتَحْتَ الْعَوَالِي وَالْقَنَا مُسْتَكِنّةٌ ... ظِبَاءٌ أَعَارَتْهَا الْعُيُونُ الْجَآذِرُ
وَالْعَامِلُ فِي هَذَا الْحَالِ الِاسْتِقْرَارُ الّذِي يَعْمَلُ فِي الظّرْفِ وَيَتَعَلّقُ بِهِ حَرْفُ الْجَرّ وَهَذَا الْحَالُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ لَا اعْتِرَاضَ فِيهَا ؛ لِأَنّهُ يَجْعَلُ النّكِرَةَ الّتِي بَعْدَهَا مُرْتَفِعَةً بِالظّرْفِ ارْتِفَاعَ الْفَاعِلِ وَأَمّا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ ، فَالْمَسْأَلَةُ عَسِيرَةٌ جِدّا ؛ لِأَنّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَهَا حَالًا مِنْ الْمُضْمَرِ فِي الِاسْتِقْرَارِ لِأَنّهُ مَعْرِفَةٌ فَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ نَكِرَةٍ فَإِنْ قُدّرَ الِاسْتِقْرَارُ آخِرَ الْكَلَامِ وَبَعْدَ الْمَرْفُوعِ كَانَ ذَلِكَ فَاسِدًا ؛ لِتَقَدّمِ الْحَالِ عَلَى الْعَامِلِ الْمَعْنَوِيّ وَلِلِاحْتِجَاجِ لَهُ وَعَلَيْهِ مَوْضِعٌ غَيْرَ هَذَا .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَيْضًا - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هِيَ لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . إلّا الْبَيْتَيْنِ الْأَوّلَيْنِ وَالْبَيْتَ الْخَامِسَ وَآخِرُهَا بَيْتًا . وَعَجُزُ الْبَيْتِ الْأَوّلِ عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ : [ ص 387 ]
إلَى اللّهِ أَهْدِي مِدْحَتِي وَثَنَائِيَا ... وَقَوْلًا رَصِينًا لَا يَنِي الدّهْرَ بَاقِيَا
إلَى الْمَلِكِ الْأَعْلَى الّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ ... إلَهٌ وَلَا رَبّ يَكُونُ مُدَانِيَا
أَلَا أَيّهَا الْإِنْسَانُ إيّاكَ وَالرّدَى ... فَإِنّك لَا تُخْفِي مِنْ اللّهِ خَافِيَا
وَإِيّاكَ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ غَيْرَهُ ... فَإِنّ سَبِيلَ الرّشْدِ أَصْبَحَ بَادِيَا
حَنَانَيْكَ إنّ الْجِنّ كَانَتْ رَجَاءَهُمْ ... وَأَنْتَ إلَهِي رَبّنَا وَرَجَائِيَا
رَضِيت بِك - اللّهُمّ - رَبّا فَلَنْ أَرَى ... أَدِينُ إلَهًا غَيْرَك اللّهُ ثَانِيَا
وَأَنْتَ الّذِي مِنْ فَضْلِ مَنّ وَرَحْمَةٍ ... بَعَثْت إلَى مُوسَى رَسُولًا مُنَادِيَا
فَقُلْت لَهُ يَا اذْهَبْ وَهَارُونَ فَادْعُوَا ... إلَى اللّهِ فِرْعَوْنَ الّذِي كَانَ طَاغِيَا
وَقُولَا لَهُ آأَنْتَ سَوّيْت هَذِهِ ... بِلَا وَتَدٍ حَتّى اطْمَأَنّتْ كَمَا هِيَا
وَقُولَا لَهُ آأَنْتَ رَفّعْت هَذِهِ ... بِلَا عَمَدٍ أَرْفِقْ - إذًا - بِك بَانِيَا
وَقُولَا لَهُ آأَنْتَ سَوّيْت وَسَطهَا ... مُنِيرًا ، إذَا مَا جَنّهُ اللّيْلُ هَادِيَا
وَقُولَا لَهُ مَنْ يُرْسِلُ الشّمْسَ غَدْوَةً ... فَيُصْبِحُ مَا مَسّتْ مِنْ الْأَرْضِ ضَاحِيَا
وَقُولَا لَهُ مَنْ يُنْبِتُ الْحَبّ فِي الثّرَى ... فَيُصْبِحُ مِنْهُ الْبَقْلُ يَهْتَزّ رَابِيَا
وَيَخْرُجُ مِنْهُ حَبّهُ فِي رُءُوسِهِ ... وَفِي ذَاكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ وَاعِيَا
وَأَنْتَ بِفَضْلِ مِنْك نَجّيْت يُونُسًا ... وَقَدْ بَاتَ فِي أَضْعَافِ حُوتٍ لَيَالِيَا
وَإِنّيَ لَوْ سَبّحْت بِاسْمِك رَبّنَا ... لَأُكْثِرُ - إلّا مَا غَفَرْت - خَطَائِيَا
فَرَبّ الْعِبَادِ أَلْقِ سَيْبًا وَرَحْمَةً ... عَلَيّ وَبَارِكْ فِي بَنِيّ وَمَالِيَا
Sمِنْ مَعَانِي شِعْرِ زَيْدٍ
[ ص 387 ] أَهْدِي مِدْحَتِي وَثَنَائِيَا . وَفِيهِ أَلَا أَيّهَا الْإِنْسَانُ إيّاكَ [ ص 388 ] قَالَ فَإِنّك لَا تُخْفِي مِنْ اللّهِ خَافِيَا . وَفِيهِ
وَإِنّي وَإِنْ سَبّحْت بِاسْمِك رَبّنَا ... لَأُكْثِرُ إلّا مَا غَفَرْت خَطَائِيَا
مَعْنَى الْبَيْتِ إنّي لَأُكْثِرُ مِنْ هَذَا الدّعَاءِ الّذِي هُوَ بِاسْمِك رَبّنَا إلّا مَا غَفَرْت " وَمَا " بَعْدَ إلّا زَائِدَةٌ وَإِنْ سَبّحْت : اعْتِرَاضٌ بَيْنَ اسْمِ إنّ وَخَبَرِهَا ، كَمَا تَقُولُ إنّي لَأُكْثِرُ مِنْ هَذَا الدّعَاءِ الّذِي هُوَ بِاسْمِك رَبّنَا إلّا وَاَللّهِ يَغْفِرُ لِي لَأَفْعَلُ كَذَا ، وَالتّسْبِيحُ هُنَا بِمَعْنَى الصّلَاةِ أَيْ لَا أَعْتَمِدُ وَإِنْ صَلّيْت إلّا عَلَى دُعَائِك وَاسْتِغْفَارِك مِنْ خَطَايَايَ .
تَفْسِيرُ حَنَانَيْكَ
وَقَوْلُهُ حَنَانَيْكَ بِلَفْظِ التّثْنِيَةِ قَالَ النّحْوِيّونَ يُرِيدُ حَنَانًا بَعْدَ حَنَانٍ كَأَنّهُمْ ذَهَبُوا إلَى التّضْعِيفِ وَالتّكْرَارِ لَا إلَى الْقَصْرِ عَلَى اثْنَيْنِ خَاصّةً دُونَ مَزِيدٍ . قَالَ الْمُؤَلّفُ رَحِمَهُ اللّهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ حَنَانًا فِي الدّنْيَا ، وَحَنَانًا فِي الْآخِرَةِ وَإِذَا قِيلَ هَذَا لِمَخْلُوقِ نَحْوَ قَوْلِ طَرَفَةَ
أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْت فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا ... حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشّرّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضٍ
فَإِنّمَا يُرِيدُ حَنَانَ دَفْعٍ وَحَنَانَ نَفْعٍ لِأَنّ كُلّ مَنْ أَمّلَ مَلِكًا ، فَإِنّمَا يُؤَمّلُهُ لِيَدْفَعَ عَنْهُ ضَيْرًا ، أَوْ لِيَجْلِبَ إلَيْهِ خَيْرًا .
شَرِيعَةُ أَدِينُ
وَقَوْلُهُ فَلَنْ أَرَى أَدِينُ إلَهًا . أَيْ أَدِينُ لِإِلَهِ وَحَذَفَ اللّامَ وَعَدّى الْفِعْلَ لِأَنّهُ فِي مَعْنَى : أَعْبُدُ إلَهًا .
حَوْلَ اسْمِ اللّهِ
وَقَوْلُهُ غَيْرَك اللّهُ بِرَفْعِ الْهَاءِ أَرَادَ يَا أَللّهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِيمَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللّامُ إلّا أَنّ حُكْمَ الْأَلِفِ وَاللّامِ فِي هَذَا اللّفْظِ الْمُعَظّمِ يُخَالِفُ حُكْمَهَا فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ أَلَا تَرَى أَنّك تَقُولُ يَا أَيّهَا الرّجُلُ وَلَا يُنَادَى اسْمُ اللّهِ بِيَا أَيّهَا ، وَتُقْطَعُ هَمْزَتُهُ فِي النّدَاءِ فَتَقُولُ يَا أَللّهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي اسْمِ غَيْرِهِ إلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ يُخَالِفُ فِيهَا هَذَا الِاسْمُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُعَرّفَةِ [ ص 389 ] شَاءَ اللّهُ - وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَفِيهِ بَيْتٌ حَسَنٌ لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ فِي أَخْبَارِ زَيْدٍ وَهُوَ
أَدِينُ إلَهًا يُسْتَجَارُ وَلَا أَرَى ... أَدِينُ لِمَنْ لَمْ يَسْمَعْ الدّهْرَ دَاعِيَا
حَذَفَ الْمُنَادَى مَعَ بَقَاءِ الْيَاءِ
وَفِيهِ فَقُلْت : أَلَا يَا اذْهَبْ عَلَى حَذْفِ الْمُنَادَى ، كَأَنّهُ قَالَ أَلَا يَا هَذَا اذْهَبْ كَمَا قُرِئَ أَلَا يَا اُسْجُدُوا ، يُرِيدُ يَا قَوْمُ اُسْجُدُوا ، وَكَمَا قَالَ غَيْلَانُ أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيّ عَلَى الْبِلَى
وَفِيهِ اذْهَبْ وَهَارُونَ عَطْفًا عَلَى الضّمِيرِ فِي اذْهَبْ وَهُوَ قَبِيحٌ إذَا لَمْ يُؤَكّدْ وَلَوْ نَصَبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ لَكَانَ جَيّدًا .
تَصْرِيفُ اطْمَأَنّتْ وَأَشْيَاءَ
وَقَوْلُهُ اطْمَأَنّتْ كَمَا هِيَا ، وَزْنُهُ افْلَعَلّتْ لِأَنّ الْمِيمَ أَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ بَعْدَ الْأَلِفِ لِأَنّهُ مِنْ تَطَأْمَنَ أَيْ تَطَأْطَأَ وَإِنّمَا قَدّمُوهَا لِتَبَاعُدِ الْهَمْزَةِ الّتِي هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ مِنْ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فَتَكُونُ أَخَفّ عَلَيْهِمْ فِي اللّفْظِ كَمَا فَعَلُوا فِي أَشْيَاءَ حِينَ قَلَبُوهَا فِي قَوْلِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ فِرَارًا مِنْ تَقَارُبِ الْهَمْزَتَيْنِ . كَمَا هِيَا . مَا : زَائِدَةٌ لِتَكُفّ الْكَافَ عَنْ الْعَمَلِ وَتُهَيّئُهَا لِلدّخُولِ عَلَى الْجُمَلِ وَهِيَ اسْمٌ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ التّقْدِيرُ كَمَا هِيَ عَلَيْهِ وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ الْمَصْدَرِ الّذِي دَلّ عَلَيْهِ اطْمَأَنّ كَمَا تَقُولُ سِرْت مِثْلَ سَيْرِ زَيْدٍ فَمِثْلُ حَالٌ مِنْ سَيْرِك الّذِي سِرْته ، وَفِيهِ أَرْفِقْ إذًا بِك بَانِيَا . أَرْفِقْ تَعَجّبٌ وَبِك فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِأَنّ الْمَعْنَى : رَفَقْت ، وَبَانِيًا تَمْيِيزٌ لِأَنّهُ يَصْلُحُ أَنْ يُجَرّ بِمِنْ كَمَا تَقُولُ أَحْسِنْ بِزَيْدِ مِنْ رَجُلٍ وَحَرْفُ الْجَرّ مُتَعَلّقٌ بِمَعْنَى التّعَجّبِ إذْ قَدْ عُلِمَ أَنّك مُتَعَجّبٌ مِنْهُ وَلِبَسْطِ هَذَا الْمَعْنَى وَكَشْفِهِ مَوْضِعٌ غَيْرَ هَذَا - إنْ شَاءَ اللّهُ - وَبَعْدَ قَوْلِهِ وَقَدْ بَاتَ فِي أَضْعَافِ حُوتٍ لَيَالِيَا
بَيْتٌ لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَوَقَعَ فِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ وَهُوَ
وَأَنْبَتَ يَقْطِينًا عَلَيْهِ بِرَحْمَةِ ... مِنْ اللّهِ لَوْلَا ذَاكَ أَصْبَحَ ضَاحِيَا
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو يُعَاتِبُ امْرَأَتَهُ صَفِيّةَ بِنْتَ الْحَضْرَمِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْم الْحَضْرَمِيّ عَبْدُ اللّهِ أَحَدُ الصّدِفِ ، وَاسْمُ الصّدِفِ عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ أَحَدُ السّكُونِ بْنِ أَشْرَسَ بْنِ كِنْدِيّ وَيُقَالُ كِنْدَةُ بْنُ ثَوْرِ بْنِ مُرَتّعِ بْنِ عُفَيْرِ بْنِ عَدِيّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُرّةَ بْنِ أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مِهْسَعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ مُرْتِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ . [ ص 388 ] [ ص 389 ] [ ص 390 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ أَجْمَعَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكّةَ ، لِيَضْرِبَ فِي الْأَرْضِ يَطْلُبُ الْحَنِيفِيّةَ دِينَ إبْرَاهِيمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَانَتْ صَفِيّةُ بِنْتُ الْحَضْرَمِيّ كُلّمَا رَأَتْهُ قَدْ تَهَيّأَ لِلْخُرُوجِ وَأَرَادَهُ آذَنَتْ بِهِ الْخَطّابَ بْنَ نُفَيْلٍ ، وَكَانَ الْخَطّابُ بْنُ نُفَيْلٍ عَمّهُ وَأَخَاهُ لِأُمّهِ وَكَانَ يُعَاتِبُهُ عَلَى فِرَاقِ دِينِ قَوْمِهِ وَكَانَ الْخَطّابُ قَدْ وَكّلَ صَفِيّةَ بِهِ وَقَالَ إذَا رَأَيْتِيهِ قَدْ هَمّ بِأَمْرِ فَآذِنِينِي بِهِ - فَقَالَ زَيْدٌ
لَا تَحْبِسِينِي فِي الْهَوَا ... نِ صَفِيّ مَا دَابِي وَدَابُهْ
إنّي إذَا خِفْت الْهَوَا ... نَ مُشَيّعٌ ذُلُلٌ رِكَابُهُ
دُعْمُوصُ أَبْوَابِ الْمُلُوّ ... كِ وَجَائِبٌ لِلْخَرْقِ نَابُهْ
قَطّاعُ أَسْبَابٍ تَذِلّ ... بِغَيْرِ أَقْرَانٍ صِعَابُهْ
وَإِنّمَا أَخَذَ الْهَوَا ... نَ الْعِيرُ إذْ يُوهَى إهَابُهْ
وَيَقُولُ إنّي لَا أَذِلّ ... بِصَكّ جَنْبَيْهِ صِلَابُهْ
وَأَخِي ابْنُ أُمّي ، ثُمّ عَمّ ... يَ لَا يُوَاتِينِي خِطَابُهْ
وَإِذَا يُعَاتِبُنِي بِسُو ... ءٍ قُلْت : أَعْيَانِي جَوَابُهْ
وَلَوْ أَشَاءُ لَقُلْت : مَا ... عِنْدِي مَفَاتِحُهُ وَبَابُهْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحُدّثْت عَنْ بَعْضِ أَهْلِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ : أَنّ زَيْدًا إذَا كَانَ اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ قَالَ لَبّيْكَ حَقّا حَقّا ، تَعَبّدًا وَرِقّا . [ ص 391 ] قَالَ
أَنْفِي لَك اللّهُمّ عَانٍ رَاغِمُ ... مَهْمَا تُجَشّمُنِي فَإِنّي جَاشِمُ
الْبِرّ أَبْغِي لَا الْخَالَ ... لَيْسَ مُهَجّرٌ كَمِنْ قَالَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ
الْبِرّ أَبْقَى لَا الْخَالُ ... لَيْسَ مُهَجّرٌ كَمَنْ قَالَ
قَالَ وَقَوْلُهُ " مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ " عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ :
وَأَسْلَمْت وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالَا
دَحَاهَا فَلَمّا اسْتَوَتْ ... عَلَى الْمَاءِ أَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا
وَأَسْلَمْت وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالَا
إذَا هِيَ سِيقَتْ إلَى بَلْدَةٍ ... أَطَاعَتْ فَصَبّتْ عَلَيْهَا سِجَالَا
[ ص 392 ] وَكَانَ الْخَطّابُ قَدْ آذَى زَيْدًا ، حَتّى أَخْرَجَهُ إلَى أَعْلَى مَكّةَ ، فَنَزَلَ حِرَاءَ مُقَابِلَ مَكّةَ ، وَوَكّلَ بِهِ الْخَطّابُ شَبَابًا مِنْ شَبَابِ قُرَيْشٍ وَسُفَهَاءَ مِنْ سُفَهَائِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ لَا تَتْرُكُوهُ يَدْخُلُ مَكّةَ ، فَكَانَ لَا يَدْخُلُهَا إلّا سِرّا مِنْهُمْ فَإِذَا عَلِمُوا بِذَلِكَ آذَنُوا بِهِ الْخَطّابَ فَأَخْرَجُوهُ وَآذَوْهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَأَنْ يُتَابِعَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى فِرَاقِهِ . فَقَالَ وَهُوَ يُعَظّمُ حُرْمَتَهُ عَلَى مَنْ اسْتَحَلّ مِنْهُ مَا اسْتَحَلّ مِنْ قَوْمِهِ
لَاهُمّ إنّي مُحْرِمٌ لَا حِلّهْ ... وَإِنّ بَيْتِي أَوْسَطُ الْمَحَلّهْ
عِنْدَ الصّفَا لَيْسَ بِذِي مَضَلّهْ
ثُمّ خَرَجَ يَطْلُبُ دِينَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَيَسْأَلُ الرّهْبَانَ وَالْأَحْبَارَ حَتّى بَلَغَ الْمَوْصِلَ وَالْجَزِيرَةَ كُلّهَا ، ثُمّ أَقْبَلَ فَجَالَ الشّامَ كُلّهُ حَتّى انْتَهَى إلَى رَاهِبٍ بِمَيْفَعَةَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ ، كَانَ يَنْتَهِي إلَيْهِ عِلْمُ أَهْلِ النّصْرَانِيّةِ فِيمَا يَزْعُمُونَ فَسَأَلَهُ عَنْ الْحَنِيفِيّةِ دِينِ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ إنّك لَتَطْلُبُ دِينًا مَا أَنْتَ بِوَاجِدِ مَنْ يَحْمِلُك عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَلَكِنْ قَدْ أَظَلّ زَمَانُ نَبِيّ يَخْرُجُ مِنْ بِلَادِك الّتِي خَرَجْت مِنْهَا ، يُبْعَثُ بِدِينِ إبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيّةِ فَالْحَقْ بِهَا ، فَإِنّهُ مَبْعُوثٌ الْآنَ هَذَا زَمَانُهُ وَقَدْ كَانَ شَامَ الْيَهُودِيّةَ والنصرانية ، فَلَمْ يَرْضَ شَيْئًا مِنْهُمَا ، فَخَرَجَ سَرِيعًا ، حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ الرّاهِبُ مَا قَالَ يُرِيدُ مَكّةَ ، حَتّى إذَا تَوَسّطَ بِلَادَ لَخْمٍ ، عَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ - فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ يَبْكِيهِ
رَشَدْت ، وَأَنْعَمْت ابْنَ عَمْرٍو ، وَإِنّمَا ... تَجَنّبْت تَنّورًا مِنْ النّارِ حَامِيَا
بِدِينِك رَبّا لَيْسَ رَبّ كَمِثْلِهِ ... وَتَرْكِك أَوْثَانَ الطّوَاغِي كَمَا هِيَا
وَإِدْرَاكِك الدّينَ الّذِي قَدْ طَلَبْته ... وَلَمْ تَكُ عَنْ تَوْحِيدِ رَبّك سَاهِيَا
فَأَصْبَحْت فِي دَارٍ كَرِيمٍ مُقَامُهَا ... تُعَلّلُ فِيهَا بِالْكَرَامَةِ لَاهِيَا
تُلَاقِي خَلِيلَ اللّهِ فِيهَا ، وَلَمْ تَكُنْ ... مِنْ النّاسِ جَبّارًا إلَى النّارِ هَاوِيَا
وَقَدْ تُدْرِكُ الْإِنْسَانَ رَحْمَةُ رَبّهِ ... وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الْأَرْضِ سَبْعِينَ وَادِيَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يُرْوَى لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ الْبَيْتَانِ الْأَوّلَانِ مِنْهَا ، وَآخِرُهَا بَيْتًا فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَوْلُهُ " أَوْثَانَ الطّوَاغِي " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . [ ص 393 ]
Sصَفِيّةُ بِنْتُ الْحَضْرَمِيّ
وَذَكَرَ صَفِيّةَ بِنْتَ الْحَضْرَمِيّ وَاسْمُ الْحَضْرَمِيّ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمّارٍ وَسَيَأْتِي [ ص 390 ] أَخِيهَا بَعْدَ . الدّعْمُوصِ وَالْخَرْمُ فِي الشّعْرِ وَقَوْلُهُ دُعْمُوصُ أَبْوَابِ الْمُلُوكِ . يُرِيدُ وَلّاجًا فِي أَبْوَابِ الْمُلُوكِ وَأَصْلُ الدّعْمُوصِ سَمَكَةٌ صَغِيرَةٌ كَحَيّةِ الْمَاءِ فَاسْتَعَارَهُ هُنَا ، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ صِغَارُكُمْ دَعَامِيصُ الْجَنّةِ وَكَمَا اسْتَعَارَتْ عَائِشَةُ الْعُصْفُورَ حِينَ نَظَرَتْ إلَى طِفْلٍ صَغِيرٍ قَدْ مَاتَ [ ص 391 ] فَقَالَتْ طُوبَى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنّةِ لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا ، فَقَالَ لَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " وَمَا يُدْرِيك ؟ إنّ اللّهَ خَلَقَ الْجَنّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا ، وَخَلَقَ النّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَفِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ خَرْمٌ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا قَوْله :
وَلَوْ أَشَاءُ لَقُلْت مَا ... عِنْدِي مَفَاتِحُهُ وَبَابُهْ
وَالْآخَرُ قَوْلُهُ
وَإِنّمَا أَخَذَ الْهَوَانَ الْ ... عِيرُ إذْ يُوهَى إهَابُهْ
وَقَدْ تَقَدّمَ مِثْلُ هَذَا فِي شِعْرِ ابْنِ الزّبَعْرَى ، وَتَكَلّمْنَا عَلَيْهِ هُنَالِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ . وَقَوْلُهُ وَيَقُولُ إنّي لَا أَذِلّ أَيْ يَقُولُ الْعِيرُ ذَلِكَ بِصَكّ جَنْبَيْهِ صِلَابُهْ أَيْ صِلَابُ مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ وَأَضَافَهَا إلَى الْعِيرِ لِأَنّهَا عَبْؤُهُ وَحَمْلُهُ .
لُغَوِيّاتٌ وَنَحْوِيّاتٌ
وَذَكَرَ قَوْلَهُ الْبِرّ أَبْغِي لَا الْخَالَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْبِرّ أَبْغِي : بِالنّصْبِ وَالْخَالُ [ ص 392 ] قَالَ أَيْ لَيْسَ مَنْ هَجَرَ وَتَكَيّسَ كَمَنْ آثَرَ الْقَائِلَةَ وَالنّوْمَ فَهُوَ مِنْ قَالَ يَقِيلُ وَهُوَ ثُلَاثِيّ ، وَلَكِنْ لَا يُتَعَجّبُ مِنْهُ . لَا يُقَالُ مَا [ ص 393 ] قَالَ أَهْلُ النّحْوِ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِمَا أَنْوَمَهُ وَلِذِكْرِ السّرّ فِي امْتِنَاعِ التّعَجّبِ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ مَوْضِعٌ غَيْرَ هَذَا . وَقَوْلُ زَيْدٍ إنّي مُحْرِمٌ لَا حِلّهْ . مُحْرِمٌ أَيْ سَاكِنٌ بِالْحَرَمِ وَالْحِلّةُ : أَهْلُ الْحِلّ . يُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمِيعِ حِلّةٌ . ذَكَرَ لِقَاءَ زَيْدٍ الرّاهِبَ بِمَيْفَعَةَ هَكَذَا تَقَيّدَ فِي الْأَصْلِ بِكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ مَيْفَعَةَ وَالْقِيَاسُ فِيهَا : الْفَتْحُ لِأَنّهُ اسْمٌ لِمَوْضِعِ أُخِدَ مِنْ الْيَفَاعُ وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنْ الْأَرْضِ . وَقَوْلُهُ شَامَ الْيَهُودِيّةَ والنصرانية ، هُوَ فَاعِلٌ مِنْ الشّمّ كَمَا قَالَ يَزِيدُ بْنُ شَيْبَانَ حِينَ سَأَلَ النّسّابَةَ مَنْ قُضَاعَةُ ، ثُمّ انْصَرَفَ فَقَالَ لَهُ النّسّابَةُ شَامَمْتَنَا مُشَامّةُ الذّئْبِ الْغَنَمَ ثُمّ تَنْصَرِفُ . فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ فِي النّوَادِرِ وَمَعْنَاهُ اسْتَخْبَرَ فَاسْتَعَارَهُ مِنْ الشّمّ فَنَصَبَ الْيَهُودِيّةَ والنصرانية نَصْبَ الْمَفْعُولِ وَمَنْ خَفَضَ جَعَلَ شَامّ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ شَمَمْت ، وَالْفِعْلُ أَوْلَى بِهَذَا الْمَوْضِعِ كَمَا تَقَدّمَ وَقَوْلُ وَرَقَةَ رَشَدْت وَأَنْعَمْت ابْنَ عَمْرٍو ، أَيْ رَشَدْت وَبَالَغْت فِي الرّشَدِ كَمَا يُقَالُ أَمْعَنْت النّظَرَ وَأَنْعَمْته ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الْأَرْضِ سَبْعِينَ وَادِيًا بِالنّصْبِ . نَصَبَ سَبْعِينَ عَلَى الْحَالِ لِأَنّهُ قَدْ يَكُونُ صِفَةً لِلنّكِرَةِ كَمَا قَالَ فَلَوْ كُنْت فِي جُبّ ثَمَانِينَ قَامَةً وَمَا [ يَكُونُ ] صِفَةً لِلنّكِرَةِ يَكُونُ حَالًا مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ هُنَا حَالٌ مِنْ الْبُعْدِ كَأَنّهُ قَالَ وَلَوْ بَعُدَ تَحْتَ الْأَرْضِ سَبْعِينَ . كَمَا تَقُولُ بَعُدَ طَوِيلًا ، أَيْ بُعْدًا طَوِيلًا ، وَإِذَا حَذَفْت الْمَصْدَرَ وَأَقَمْت الصّفَةَ مَقَامَهُ لَمْ تَكُنْ إلّا حَالًا ، وَقَدْ تَقَدّمَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ فِي ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ سَارُوا رُوَيْدًا وَنَحْوِ هَذَا : دَارِي خَلْفَ دَارِك فَرْسَخًا ، أَيْ تَقْرُبُ مِنْهَا فَرْسَخًا إنْ أَرَدْت الْقُرْبَ وَكَذَلِكَ إنْ أَرَدْت الْبُعْدَ فَالْبُعْدُ وَالْقُرْبُ مُقَدّرَانِ بِالْفَرْسَخِ فَلَوْ قُلْت : دَارِي تَقْرُبُ مِنْك قُرْبًا مُقَدّرًا بِفَرْسَخِ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ قُرْبًا كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا ، فَالْفَرْسَخُ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ كَثِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ فَإِعْرَابُهُ كَإِعْرَابِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ
لَا تَعْجَبُوا فَلَوْ انّ طُولَ قَنَاتِهِ ... مِيلٌ إذَا نَظَمَ الْفَوَارِسَ مِيلًا
أَيْ نَظَمَهُمْ نَظْمًا مُسْتَطِيلًا ، وَوَضَعَ مِيلًا مَوْضِعَ مُسْتَطِيلًا ، فَإِعْرَابُهُ كَإِعْرَابِهِ فَهُوَ وَصْفٌ لِلْمَصْدَرِ وَإِذَا أُقِيمَ الْوَصْفُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ فِي هَذَا الْبَابِ لَمْ يَكُنْ حَالًا مِنْ الْفَاعِلِ لَكِنْ مِنْ الْمَصْدَرِ الّذِي يَدُلّ الْفِعْلُ عَلَيْهِ بِلَفْظِهِ نَحْوَ سَارُوا طَوِيلًا ، وَسَقَيْتهَا أَحْسَنَ مِنْ سَقْيِ إبِلِك ، وَنَحْوَ ذَلِكَ .
صِفَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْإِنْجِيل
[ ص 394 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ - فِيمَا بَلَغَنِي عَمّا كَانَ وَضَعَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فِيمَا جَاءَهُ مِنْ اللّهِ فِي الْإِنْجِيلِ لِأَهْلِ الْإِنْجِيلِ - مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِمّا أَثْبَتَ يُحَنّسُ الْحَوَارِيّ لَهُمْ حِينَ نَسَخَ لَهُمْ الْإِنْجِيلَ عَنْ عَهْدِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَيْهِمْ أَنّهُ قَالَ مَنْ أَبْغَضَنِي فَقَدْ أَبْغَضَ الرّبّ ، وَلَوْلَا أَنّي صَنَعْت بِحَضْرَتِهِمْ صَنَائِعَ لَمْ يَصْنَعْهَا أَحَدٌ قَبْلِي ، مَا كَانَتْ لَهُمْ خَطِيئَةٌ وَلَكِنْ مِنْ الْآنَ بَطِرُوا وَظَنّوا أَنّهُمْ يَعُزّونَنِي ، وَأَيْضًا لِلرّبّ وَلَكِنْ لَا بُدّ مِنْ أَنْ تَتِمّ الْكَلِمَةُ الّتِي فِي النّامُوسِ أَنّهُمْ أَبْغَضُونِي مَجّانًا ، أَيْ بَاطِلًا . فَلَوْ قَدْ جَاءَ الْمُنْحَمَنّا هَذَا الّذِي يُرْسِلُهُ اللّهُ إلَيْكُمْ مِنْ عِنْدِ الرّبّ وَرُوحُ الْقُدْسِ هَذَا الّذِي مِنْ عِنْدِ الرّبّ خَرَجَ فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَيّ وَأَنْتُمْ أَيْضًا ؛ لِأَنّكُمْ قَدِيمًا كُنْتُمْ مَعِي فِي هَذَا ، قُلْت لَكُمْ لِكَيْمَا لَا تَشُكّوا [ ص 395 ]
Sيُحَنّسُ الْحَوَارِيّ
[ ص 394 ] الْعَوْجَاءَ ، فَيَفْتَحَ بِهِ عُيُونًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمّا ، وَقُلُوبًا غُلْفًا ؛ بِأَنْ يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلّا اللّهُ .
مِنْ صِفَاتِ النّبِيّ عِنْدَ الْأَحْبَارِ
وَمِمّا وُجِدَ مِنْ صِفَتِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عِنْدَ الْأَحْبَارِ مَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيّ مِنْ حَدِيثِ النّعْمَانِ [ ص 395 ] التّيْمِيّ . قَالَ وَكَانَ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْيَمَنِ فَلَمّا سَمِعَ بِذَلِكَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدِمَ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ ثُمّ قَالَ إنّ أَبِي كَانَ يَخْتِمُ عَلَى سِفْرٍ وَيَقُولُ [ لَا تَقْرَأْهُ ] عَلَى يَهُودَ حَتّى تَسْمَعَ بِنَبِيّ قَدْ خَرَجَ بِيَثْرِبَ فَإِذَا سَمِعْت بِهِ فَافْتَحْهُ . قَالَ نُعْمَانُ فَلَمّا سَمِعْت بِك فَتَحْت السّفْرَ فَإِذَا فِيهِ صِفَتُك كَمَا أَرَاك السّاعَةَ وَإِذَا فِيهِ مَا تُحِلّ وَمَا تُحَرّمُ وَإِذَا فِيهِ إنّك خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمّتُك خَيْرُ الْأُمَمِ وَاسْمُك : أَحْمَدُ وَأُمّتُك الْحَامِدُونَ . قُرْبَانُهُمْ دِمَاؤُهُمْ وَأَنَاجِيلُهُمْ صُدُورُهُمْ وَهُمْ لَا يَحْضُرُونَ قِتَالًا إلّا وَجِبْرِيلُ مَعَهُمْ يَتَحَنّنُ اللّهَ عَلَيْهِمْ كَتَحَنّنِ النّسْرِ عَلَى فِرَاخِهِ ثُمّ قَالَ لِي : إذَا سَمِعْت بِهِ فَاخْرُجْ إلَيْهِ وَآمِنْ بِهِ وَصَدّقْ بِهِ فَكَانَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يُحِبّ أَنْ يَسْمَعَ أَصْحَابُهُ حَدِيثَهُ فَأَتَاهُ يَوْمًا ، فَقَالَ لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَا نُعْمَانُ حَدّثْنَا " ، فَابْتَدَأَ النّعْمَانُ الْحَدِيثَ مِنْ أَوّلِهِ فَرُئِيَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَوْمَئِذٍ يَتَبَسّمُ ثُمّ قَالَ " أَشْهَدُ أَنّي رَسُولُ اللّهِ وَهُوَ الّذِي قَتَلَهُ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيّ ، وَقَطّعَهُ عُضْوًا عُضْوًا ، وَهُوَ يَقُولُ إنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ وَإِنّك كَذّابٌ مُفْتَرٍ عَلَى اللّهِ ثُمّ حَرّقَهُ بِالنّارِ " .
مَبْعَثُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ تَسْلِيمًا
[ ص 396 ] قَالَ حَدّثَنَا أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ فَلَمّا بَلَغَ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَرْبَعِينَ سَنَةً بَعَثَهُ اللّهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَكَافّةً لِلنّاسِ بَشِيرًا ، وَكَانَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى كُلّ نَبِيّ بَعَثَهُ قَبْلَهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالتّصْدِيقِ لَهُ وَالنّصْرِ لَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدّوا ذَلِكَ إلَى كُلّ مَنْ آمَنَ بِهِمْ وَصَدّقَهُمْ فَأَدّوْا مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْحَقّ فِيهِ . يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى لِمُحَمّدِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلّمَ [ ص 397 ] { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي } أَيْ ثِقَلَ مَا حَمّلْتُكُمْ مِنْ عَهْدِي : { قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ } [ آلُ عِمْرَانَ 81 ] فَأَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ جَمِيعًا بِالتّصْدِيقِ لَهُ وَالنّصْرِ لَهُ مِمّنْ خَالَفَهُ وَأَدّوْا ذَلِكَ إلَى مَنْ آمَنَ بِهِمْ وَصَدّقَهُمْ مِنْ أَهْلِ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ .
Sكِتَابُ الْمَبْعَثِ
[ ص 396 ] ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاق َ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ مِنْ مَوْلِدِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ وَهَذَا مَرْوِيّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَقَبَاثِ بْنِ أَشْيَمَ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ السّيَرِ وَالْعِلْمِ بِالْأَثَرِ وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ نُبّئَ لِأَرْبَعِينَ وَشَهْرَيْنِ مِنْ مَوْلِدِهِ وَقِيلَ لِقَبَاثِ بْنِ أَشْيَمَ مَنْ أَكْبَرُ أَنْتَ أَمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ أَكْبَرُ مِنّي ، وَأَنَا أَسَنّ مِنْهُ وَوُلِدَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَامَ الْفِيلِ وَوَقَفَتْ بِي أُمّي عَلَى رَوْثِ الْفِيلِ وَيُرْوَى : خَزْقِ الطّيْرِ فَرَأَيْته أَخْضَرَ مُحِيلًا ، أَيْ قَدْ أَتَى عَلَيْهِ حَوْلٌ وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِبِلَالِ لَا يَفُتْك صِيَامُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَإِنّي قَدْ وُلِدْت فِيهِ وَبُعِثْت فِيهِ وَأَمُوتُ فِيهِ
إعْرَابُ لَمَا آتَيْتُكُمْ
[ ص 397 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } الْآيَةُ . وَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْمٌ مُبْتَدَأٌ بِمَعْنَى : الّذِي ، وَالتّقْدِيرُ لَلّذِي آتَيْنَاكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ وَلَا يَصِحّ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إضْمَارِ فِعْلٍ كَمَا يَنْتَصِبُ مَا يَشْتَغِلُ عَنْهُ الْفِعْلُ بِضَمِيرِهِ لِأَنّ مَا بَعْدَ اللّامِ الثّانِيَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيمَا قَبْلَهَا ، وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مَا قَبْلَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِمَا يَعْمَلُ فِيهِ وَقَدْ قِيلَ إنّ مَا هَذِهِ شَرْطٌ . وَالتّقْدِيرُ لَمَهْمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ لِأَنّهُ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ إنّ وَقَوْلُ الْخَلِيلِ إنّهَا بِمَنْزِلَةِ الّذِي ، أَيْ إنّهَا اسْمٌ لَا حَرْفٌ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا عَلَى هَذَا ، فَتَكُونُ اسْمًا ، وَتَكُونُ شَرْطًا ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ عَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ خَبَرِيّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَيَكُونَ الْخَبَرُ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ وَإِنْ كَانَ الضّمِيرَانِ عَائِدَيْنِ عَلَى الرّسُولِ لَا عَلَى الّذِي ، وَلَكِنْ لَمّا قَالَ رَسُولُ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ارْتَبَطَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ بِبَعْضِ وَاسْتَغْنَى بِالضّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الرّسُولِ عَنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَلَهُ نَظِيرٌ فِي التّنْزِيلِ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنْكُمْ } [ الْبَقَرَةُ 234 ] خَبَرُهُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ وَلَمْ يَعُدْ عَلَى الْمُبْتَدَإِ شَيْءٌ لِتَشَبّثِ الْكَلَامِ بَعْضُهُ بِبَعْضِ وَقَدْ لَاحَ لِي بَعْدَ نَظَرِي الْكِتَابَ أَنّ الّذِي قَالَهُ الْخَلِيلُ وَقَوْلَ سِيبَوَيْهِ قَوْلٌ وَاحِدٌ غَيْرَ أَنّهُ قَالَ وَدُخُولُ اللّامِ عَلَى مَا ، كَدُخُولِهَا عَلَى إنّ يَعْنِي : فِي الْجَزَاءِ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يُعْمِلَ مَا جَزَاءً وَإِنّمَا تَكَلّمَ عَلَى اللّامِ خَاصّةً وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
النّبُوءَةُ وَأُولُو الْعَزْمِ
[ ص 398 ] وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ إسْحَاق َ وَالنّبُوءَةُ أَثْقَالٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يَحْمِلُهَا وَلَا يَسْتَطِيعُهَا إلّا أَهْلُ الْقُوّةِ وَالْعَزْمِ مِنْ الرّسُلِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالَ سَمِعْت وَهْبَ بْنَ مُنَبّهٍ وَهُوَ فِي مَسْجِدِ مِنًى - وَذَكَرَ لَهُ يُونُسَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا ، وَكَانَ فِي خُلُقِهِ ضِيقٌ فَلَمّا حُمّلَتْ عَلَيْهِ أَثْقَالُ النّبُوءَةِ وَلَهَا أَثْقَالٌ تَفَسّخَ تَحْتَهَا تَفَسّخَ الرّبُعِ تَحْتَ الْحِمْلِ الثّقِيلِ فَأَلْقَاهَا عَنْهُ وَخَرَجَ هَارِبًا ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاق َ إنّ أُولِي الْعَزْمِ مِنْ الرّسُلِ مِنْهُمْ نُوحٌ وَهُودٌ وَإِبْرَاهِيمُ أَمّا نُوحٌ فَلِقَوْلِهِ { يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ } [ يُونُسُ 71 ] وَأَمّا هُودٌ فَلِقَوْلِهِ { إِنّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُوا أَنّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ } [ هُودٌ 54 ] وَأَمّا إبْرَاهِيمُ فَلِقَوْلِهِ هُوَ وَاَلّذِينَ مَعَهُ { إِنّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } وَأَمَرَ اللّهُ نَبِيّنَا أَنْ يَصْبِرَ كَمَا صَبَرَ هَؤُلَاءِ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَذَكَرَ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا حَدّثَتْهُ أَنّ أَوّلَ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ النّبُوّةِ حِينَ أَرَادَ اللّهُ كَرَامَتَهُ وَرَحْمَةَ الْعِبَادِ بِهِ الرّؤْيَا الصّادِقَةُ لَا يَرَى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - رُؤْيَا فِي نَوْمِهِ إلّا جَاءَتْ كَفَلَقِ الصّبْحِ قَالَتْ وَحَبّبَ اللّهُ تَعَالَى إلَيْهِ الْخَلْوَةَ فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَخْلُوَ وَحْدَهُ . [ ص 398 ] ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْعَلَاءِ ابْنِ جَارِيَةَ الثّقَفِيّ ، وَكَانَ وَاعِيَةً عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ أَرَادَهُ اللّهُ بِكَرَامَتِهِ وَابْتَدَأَهُ بِالنّبُوّةِ كَانَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَبْعَدَ حَتّى تُحْسَرَ عَنْهُ الْبُيُوتُ وَيُفْضِي إلَى شِعَابِ مَكّةَ وَبُطُونِ أَوْدِيَتِهَا ، فَلَا يَمُرّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِحَجَرِ وَلَا شَجَرٍ إلّا قَالَ السّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ فَيَلْتَفِتُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَوْلَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَخَلْفَهُ فَلَا يَرَى إلّا الشّجَرَ وَالْحِجَارَةَ . فَمَكَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَذَلِكَ يَرَى وَيَسْمَعُ مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَمْكُثَ ثُمّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِمَا جَاءَهُ مِنْ كَرَامَةِ اللّهِ وَهُوَ بِحِرَاءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ . [ ص 399 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى آلِ الزّبَيْرِ . قَالَ سَمِعْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ الزّبَيْرِ وَهُوَ يَقُولُ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ اللّيْثِيّ حَدّثْنَا يَا عُبَيْدُ ، كَيْفَ كَانَ بَدْءُ مَا اُبْتُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ النّبُوّةِ حِينَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ؟ قَالَ فَقَالَ عُبَيْدٌ - وَأَنَا حَاضِرٌ يُحَدّثُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الزّبَيْرِ ، وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ النّاسِ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُجَاوِرُ فِي حِرَاءٍ مِنْ كُلّ سَنَةٍ شَهْرًا ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمّا تَحَنّثُ بِهِ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيّةِ . وَالتّحَنّثُ التّبَرّزُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ ... وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءٍ وَنَازِلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَقُولُ الْعَرَبُ : التّحَنّثُ وَالتّحَنّفُ يُرِيدُونَ الْحَنِيفِيّةَ فَيُبْدِلُونَ الْفَاءَ مِنْ الثّاءِ كَمَا قَالُوا : جَدَفٌ وَجَدَثٌ يُرِيدُونَ الْقَبْرَ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : لَوْ كَانَ أَحْجَارِي مَعَ الْأَجْدَافِ
يُرِيدُ الْأَجْدَاثَ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . وَبَيْتُ أَبِي طَالِبٍ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللّهُ فِي مَوْضِعِهَا . [ ص 400 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ الْعَرَبَ تَقُولُ فُمّ فِي مَوْضِعِ ثُمّ يُبْدِلُونَ الْفَاءَ مِنْ الثّاءِ .
Sأَوّلُ مَا بُدِئَ بِهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ النّبُوءَةِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ : مَا بُدِئَ بِهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ النّبُوءَةِ إذْ كَانَ لَا يَمُرّ بِحَجَرِ وَلَا شَجَرٍ إلّا قَالَ السّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللّه وَفِي مُصَنّفِ التّرْمِذِيّ وَمُسْلِمٍ أَيْضًا أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ إنّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكّةَ كَانَ يُسَلّمُ عَلَيّ قَبْلَ أَنْ يُنَزّلَ عَلَي وَفِي بَعْضِ الْمُسْنَدَاتِ زِيَادَةُ أَنّ هَذَا الْحَجَرَ الّذِي كَانَ يُسَلّمُ عَلَيْهِ هُوَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ ، وَهَذَا التّسْلِيمُ [ ص 399 ] يَكُونَ حَقِيقَةً وَأَنْ يَكُونَ اللّهُ أَنْطَقَهُ إنْطَاقًا كَمَا خَلَقَ الْحَنِينَ فِي الْجِذْعِ وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْكَلَامِ الّذِي هُوَ صَوْتٌ وَحَرْفٌ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ لِأَنّهُ صَوْتٌ كَسَائِرِ الْأَصْوَاتِ وَالصّوْتُ عَرَضٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إلّا النّظّامُ فَإِنّهُ زَعَمَ أَنّهُ جِسْمٌ وَجَعَلَهُ الْأَشْعَرِيّ اصْطِكَاكًا فِي الْجَوَاهِرِ بَعْضُهَا لِبَعْضِ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الطّيّبِ لَيْسَ الصّوْتُ نَفْسَ الِاصْطِكَاكِ وَلَكِنّهُ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَيْهِ وَلِلِاحْتِجَاجِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَلَهُمَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا ، وَلَوْ قَدّرْت الْكَلَامَ صِفَةً قَائِمَةً بِنَفْسِ الْحَجَرِ وَالشّجَرِ وَالصّوْتُ عِبَارَةً عَنْهُ لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ اشْتِرَاطِ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ مَعَ الْكَلَامِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ أَكَانَ كَلَامًا مَقْرُونًا بِحَيَاةِ وَعِلْمٍ فَيَكُونُ الْحَجَرُ بِهِ مُؤْمِنًا ، أَوْ كَانَ صَوْتًا مُجَرّدًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِحَيَاةِ ؟ وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ هُوَ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النّبُوءَةِ وَأَمّا حَنِينُ الْجِذْعِ فَقَدْ سُمّيَ حَنِينًا ، وَحَقِيقَةُ الْحَنِينِ يَقْتَضِي شَرْطَ الْحَيَاةِ وَقَدْ يَحْتَمِلُ تَسْلِيمَ الْحِجَارَةِ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَى مَلَائِكَةٍ يَسْكُنُونَ تِلْكَ الْأَمَاكِنَ يُعَمّرُونَهَا ، فَيَكُونُ مَجَازًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } وَالْأَوّلُ أَظْهَرُ وَإِنْ كَانَتْ كُلّ صُورَةٍ مِنْ هَذِهِ الصّوَرِ الّتِي ذَكَرْنَاهَا فِيهَا عَلَمٌ عَلَى نُبُوّتِهِ - عَلَيْهِ السّلَامُ - غَيْرَ أَنّهُ لَا يُسَمّى مُعْجِزَةً فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلّمِينَ إلّا مَا تَحَدّى بِهِ الْخَلْقَ فَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ .
مَدْلُولُ تَفَعّلَ
[ ص 400 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ يُجَاوِرُ بِغَارِ حِرَاءٍ وَيَتَحَنّثُ فِيهِ قَالَ وَالتّحَنّثُ التّبَرّزُ . تَفَعّلٌ مِنْ الْبِرّ وَتَفَعّلَ يَقْتَضِي الدّخُولَ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِيهَا مِثْلُ تَفَقّهَ وَتَعَبّدَ وَتَنَسّكَ وَقَدْ جَاءَتْ فِي أَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ تُعْطِي الْخُرُوجَ عَنْ الشّيْءِ وَاطّرَاحِهِ كَالتّأَثّمِ وَالتّحَرّجِ . وَالتّحَنّثُ بِالثّاءِ الْمُثَلّثَةِ لِأَنّهُ مِنْ الْحِنْثِ وَهُوَ الْحِمْلُ الثّقِيلُ وَكَذَلِكَ التّقَذّرُ إنّمَا هُوَ تَبَاعُدٌ عَنْ الْقَذَرِ وَأَمّا التّحَنّفُ بِالْفَاءِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التّبَرّرِ لِأَنّهُ مِنْ الْحَنِيفِيّةِ دِينِ إبْرَاهِيمَ وَإِنْ كَانَ الْفَاءُ مُبْدَلَةً مِنْ الثّاءِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التّقَذّرِ وَالتّأَثّمِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ ، وَاحْتَجّ بِجَدَفٍ وَجَدَثٍ وَأَنْشَدَ قَوْلَ رُؤْبَةَ لَوْ كَانَ أَحْجَارِي مَعَ الْأَجْدَافِ وَفِي بَيْتِ رُؤْبَةَ هَذَا شَاهِدٌ وَرَدّ عَلَى ابْنِ جِنّي حَيْثُ زَعَمَ فِي سِرّ الصّنَاعَةِ أَنّ جَدَفَ بِالْفَاءِ لَا يُجْمَعُ عَلَى أَجْدَافٍ وَاحْتَجّ بِهَذَا لِمَذْهَبِهِ فِي أَنّ الثّاءَ هِيَ الْأَصْلُ وَقَوْلُ رُؤْبَةَ رَدّ عَلَيْهِ وَاَلّذِي نَذْهَبُ إلَيْهِ أَنّ الْفَاءَ هِيَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْحَرْفِ لِأَنّهُ مِنْ الْجَدْفِ وَهُوَ الْقَطْعُ وَمِنْهُ مِجْدَافُ السّفِينَةِ وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي وَصْفِ الْجِنّ : شَرَابُهُمْ الْجَدَفُ وَهِيَ الرّغْوَةُ لِأَنّهَا تُجْدَفُ عَنْ الْمَاءِ وَقِيلَ هِيَ نَبَاتٌ يُقْطَعُ وَيُؤْكَلُ . وَقِيلَ كُلّ إنَاءٍ كُشِفَ عَنْهُ غِطَاؤُهُ جَدَفٌ وَالْجَدَفُ الْقَبْرُ مِنْ هَذَا ، فَلَهُ مَادّةٌ وَأَصْلٌ فِي الِاشْتِقَاقِ فَأَجْدَرُ بِأَنْ تَكُونَ الْفَاءُ هِيَ الْأَصْلَ وَالِثَاءُ دَاخِلَةً عَلَيْهَا .
حَوْلَ مُجَاوَرَتِهِ فِي حِرَاءٍ
وَقَوْلُهُ يُجَاوِرُ فِي حِرَاءٍ إلَى آخِرِ الْكَلَامِ . الْجِوَارُ بِالْكَسْرِ فِي مَعْنَى الْمُجَاوَرَةِ وَهِيَ الِاعْتِكَافُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجِوَارِ وَالِاعْتِكَافِ إلّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنّ الِاعْتِكَافَ لَا يَكُونُ إلّا دَاخِلَ الْمَسْجِدِ وَالْجِوَارَ قَدْ يَكُونُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُسَمّ جِوَارُهُ بِحِرَاءِ اعْتِكَافًا ، لِأَنّ حِرَاءَ لَيْسَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَلَكِنّهُ مِنْ جِبَالِ الْحَرَمِ ، وَهُوَ الْجَبَلُ الّذِي نَادَى رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ قَالَ لَهُ ثَبِيرٌ وَهُوَ عَلَى ظَهْرِهِ اهْبِطْ عَنّي ؛ فَإِنّي أَخَافُ أَنْ تُقْتَلَ عَلَى ظَهْرِي فَأُعَذّبُ فَنَادَاهُ حِرَاءٌ : إلَيّ إلَيّ يَا رَسُولَ اللّهِ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ قَالَ قَالَ عُبَيْدُ [ بْنُ عُمَيْرٍ ] : فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُجَاوِرُ ذَاتَ الشّهْرِ مِنْ كُلّ سَنَةٍ يُطْعِمُ مَنْ جَاءَهُ مِنْ الْمَسَاكِينِ فَإِذَا قَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جِوَارَهُ مِنْ شَهْرِهِ ذَلِكَ كَانَ أَوّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ - إذَا انْصَرَفَ مِنْ جِوَارِهِ - الْكَعْبَةُ ، [ ص 401 ] شَاءَ اللّهُ مِنْ ذَلِك ، ثُمّ يَرْجِعُ إلَى بَيْتِهِ حَتّى إذَا كَانَ الشّهْرُ الّذِي أَرَادَ اللّهُ تَعَالَى بَهْ فِيهِ مَا أَرَادَ مِنْ كَرَامَتِهِ مِنْ السّنَةِ الّتِي بَعَثَهُ اللّهُ تَعَالَى فِيهَا ، وَذَلِكَ الشّهْرُ شَهْرُ رَمَضَانَ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى حِرَاءٍ ، كَمَا كَانَ يَخْرُجُ لِجِوَارِهِ وَمَعَهُ أَهْلُهُ حَتّى إذَا كَانَتْ اللّيْلَةُ الّتِي أَكْرَمَهُ اللّهُ فِيهَا بِرِسَالَتِهِ وَرَحِمَ الْعِبَادَ بِهَا ، جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِأَمْرِ اللّهِ تَعَالَى . قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ وَأَنَا نَائِمٌ [ ص 402 ] [ ص 403 ] فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ قُلْت : مَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ فَغَتّنِي بِهِ حَتّى ظَنَنْت [ ص 404 ] أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ قُلْت : مَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ فَغَتّنِي بِهِ حَتّى ظَنَنْت أَنّهُ الْمَوْتُ . ثُمّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ قُلْت : مَاذَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ فَغَتّنِي بِهِ حَتّى ظَنَنْت أَنّهُ الْمَوْتُ ثُمّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ فَقُلْت : مَاذَا أَقْرَأُ ؟ مَا أَقُولُ ذَلِكَ إلّا افْتِدَاءً مِنْهُ أَنْ يَعُودَ لِي بِمِثْلِ مَا صَنَعَ بِي ، فَقَالَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبّكَ الْأَكْرَمُ الّذِي عَلّمَ بِالْقَلَمِ عَلّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } قَالَ فَقَرَأَتْهَا ، ثُمّ انْتَهَى ، فَانْصَرَفَ عَنّي ، وَهَبَبْت مِنْ نَوْمِي ، فَكَأَنّمَا كَتَبْت فِي قَلْبِي كِتَابًا . قَالَ فَخَرَجْت حَتّى إذَا كُنْت فِي وَسَطٍ مِنْ الْجَبَلِ سَمِعْت صَوْتًا مِنْ السّمَاءِ يَقُولُ يَا مُحَمّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللّهِ وَأَنَا [ ص 405 ] [ ص 406 ] مَكّةَ ، وَرَجَعُوا إلَيْهَا ، وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مَكَانِي ذَلِكَ ثُمّ انْصَرَفَ عَنّي . وَانْصَرَفْت رَاجِعًا إلَى أَهْلِي ، حَتّى أَتَيْت خَدِيجَةَ فَجَلَسْت إلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا إلَيْهَا ، فَقَالَتْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَيْنَ كُنْت ؟ فَوَاَللّهِ لَقَدْ بَعَثْت رُسُلِي فِي طَلَبِك ، حَتّى بَلَغُوا مَكّةَ وَرَجَعُوا لِي ، ثُمّ حَدّثْتهَا بِاَلّذِي رَأَيْت ، فَقَالَتْ أَبْشِرْ يَا بْنَ عَمّ وَاثْبُتْ فَوَاَلّذِي نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ [ ص 407 ] قَامَتْ فَجَمَعَتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا ، ثُمّ انْطَلَقَتْ إلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ ، وَهُوَ ابْنُ عَمّهَا ، وَكَانَ وَرَقَةُ قَدْ تَنَصّرَ وَقَرَأَ الْكُتُبَ وَسَمِعَ مِنْ أَهْلِ التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ رَأَى وَسَمِعَ فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ : قُدّوسٌ قُدّوسٌ وَاَلّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ لَئِنْ كُنْت صَدّقْتِينِي يَا خَدِيجَةُ لَقَدْ جَاءَهُ النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى . وَإِنّهُ لَنَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ فَقَوْلِي لَهُ فَلْيَثْبُتْ . فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَتْهُ بِقَوْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، فَلَمّا قَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جِوَارَهُ وَانْصَرَفَ صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ بَدَأَ بِالْكَعْبَةِ ، فَطَافَ بِهَا ، فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ ، فَقَالَ يَا بْنَ أَخِي أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْت وَسَمِعْت ، [ ص 408 ] فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّك لَنَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ وَلَقَدْ جَاءَك النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي جَاءَ مُوسَى ، وَلَتُكَذّبَنّهْ وَلَتُؤْذَيَنّهْ وَلَتُخْرَجَنّهْ وَلَتُقَاتَلَهْ وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْت ذَلِكَ الْيَوْمَ لَأَنْصُرَنّ اللّهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ ثُمّ أَدْنَى رَأْسَهُ مِنْهُ فَقَبّلَ يَافُوخَهُ ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مَنْزِلِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ مَوْلَى آلِ الزّبَيْرِ : أَنّهُ حَدّثَ عَنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيْ ابْنَ عَمّ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِك هَذَا الّذِي يَأْتِيك إذَا جَاءَك ؟ قَالَ " نَعَمْ " . قَالَتْ فَإِذَا جَاءَك فَأَخْبِرْنِي بِهِ . فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِخَدِيجَةَ " يَا خَدِيجَةُ هَذَا جِبْرِيلُ قَدْ جَاءَنِي " ، قَالَتْ قُمْ يَا ابْنَ عَمّ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُسْرَى ، قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَلَسَ عَلَيْهَا ، قَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ " نَعَمْ " ، قَالَتْ فَتَحَوّلْ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُمْنَى ، قَالَتْ فَتَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَلَسَ عَلَى فَخِذِهَا الْيُمْنَى ، فَقَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ " نَعَمْ " ، قَالَتْ فَتَحَوّلْ فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي ، قَالَتْ فَتَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَلَسَ فِي حِجْرِهَا ، قَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ " نَعَمْ " ، قَالَ فَتَحَسّرَتْ وَأَلْقَتْ خِمَارَهَا - وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا - ثُمّ قَالَتْ لَهُ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ " لَا " ، قَالَتْ يَا ابْنَ عَمّ اُثْبُتْ وَأَبْشِرْ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَمَلَكٌ وَمَا هَذَا بِشَيْطَانِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ حَسَنٍ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ قَدْ سَمِعْت أُمّيّ فَاطِمَةَ بِنْتَ حُسَيْنِ تُحَدّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ خَدِيجَةَ إلّا أَنّي سَمِعْتهَا تَقُولُ أَدَخَلْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِرْعِهَا ، فَذَهَبَ عِنْدَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ فَقَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ هَذَا لَمَلَكٌ وَمَا هُوَ بِشَيْطَان [ ص 409 ] [ ص 410 ] [ ص 411 ]Sكَيْفِيّةُ الْوَحْيِ
[ ص 401 ] وَذَكَرَ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ فِي الْحَدِيثِ فَأَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ وَقَالَ فِي آخِرِهِ فَهَبَبْت مِنْ نَوْمِي ، فَكَأَنّمَا كَتَبْت فِي قَلْبِي كِتَابًا ، وَلَيْسَ ذِكْرُ النّوْمِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَلَا غَيْرِهَا ، بَلْ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مَا يَدُلّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنّ نُزُولَ جِبْرِيلَ حِينَ نَزَلَ بِسُورَةِ اقْرَأْ كَانَ فِي الْيَقِظَةِ لِأَنّهَا قَالَتْ فِي أَوّلِ الْحَدِيثِ أَوّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الرّؤْيَا الصّادِقَةُ كَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصّبْحِ ثُمّ حَبّبَ اللّهُ إلَيْهِ الْخَلَاءَ - إلَى قَوْلِهَا - حَتّى جَاءَهُ الْحَقّ ، وَهُوَ بِغَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ . فَذَكَرَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنّ الرّؤْيَا كَانَتْ قَبْلَ نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَى النّبِيّ - عَلَيْهِ السّلَامُ - بِالْقُرْآنِ وَقَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - جَاءَهُ جِبْرِيلُ فِي الْمَنَامِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ فِي الْيَقِظَةِ تَوْطِئَةً وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِ وَرِفْقًا بَهْ لِأَنّ أَمْرَ النّبُوءَةِ عَظِيمٌ وَعِبْؤُهَا ثَقِيلٌ وَالْبَشَرُ ضَعِيفٌ وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ مَقَالَةِ الْعُلَمَاءِ مَا يُؤَكّدُ هَذَا وَيُصَحّحُهُ وَقَدْ ثَبَتَ بِالطّرُقِ الصّحَاحِ عَنْ عَامِرٍ الشّعْبِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وُكّلَ بَهْ إسْرَافِيلُ فَكَانَ يَتَرَاءَى لَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَيَأْتِيهِ بِالْكَلِمَةِ مِنْ الْوَحْيِ وَالشّيْءِ ثُمّ وُكّلَ بَهْ جِبْرِيلُ فَجَاءَهُ بِالْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ فَعَلَى هَذَا كَانَ نُزُولُ الْوَحْيِ عَلَيْهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فَمِنْهَا : النّوْمُ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَكَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ أَيْضًا : أَوّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الرّؤْيَا الصّادِقَةُ وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السّلَامُ { إِنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ { افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } [ الصّافّاتُ 102 ] ، فَدَلّ عَلَى أَنّ الْوَحْيَ كَانَ يَأْتِيهِمْ فِي الْمَنَامِ كَمَا يَأْتِيهِمْ فِي الْيَقَظَةِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَنْفُثَ فِي رَوْعِهِ الْكَلَامَ نَفْثًا ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ إنّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَرِزْقَهَا ، فَاتّقُوا اللّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطّلَبِ [ ص 402 ] مُجَاهِدٌ ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسّرِينَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَمَا كَانَ لِبَشَرِ أَنْ يُكَلّمَهُ اللّهُ إلّا وَحْيًا } [ الشّورَى : 51 ] . قَالَ هُوَ أَنْ يَنْفُثَ فِي رَوْعِهِ بِالْوَحْيِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَأْتِيَهُ الْوَحْيُ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدّهُ عَلَيْهِ وَقِيلَ إنّ ذَلِكَ لَيَسْتَجْمِعُ قَلْبُهُ عِنْدَ تِلْكَ الصّلْصَلَةَ ، فَيَكُونُ أَوْعَى لِمَا يَسْمَعُ وَأَلْقَنِ لِمَا يَلْقَى . وَمِنْهَا : أَنْ يَتَمَثّلَ لَهُ الْمَلَكُ رَجُلًا ، فَقَدْ كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ دِحْيَةِ بْنِ خَلِيفَةَ وَيُرْوَى أَنّ دِحْيَةَ إذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَمْ تَبْقَ مُعْصِرٌ إلّا خَرَجَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ لِفَرْطِ جَمَالِهِ . وَقَالَ ابْنُ سَلّامٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا } [ الْجُمُعَةُ 11 ] . قَالَ كَانَ اللّهْوُ نَظَرَهُمْ إلَى وَجْهِ دِحْيَةَ لِجَمَالِهِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَتَرَاءَى لَهُ جِبْرِيلُ فِي صُورَتِهِ الّتِي خَلَقَهُ اللّهُ فِيهَا ، لَهُ سِتّمِائَةِ جَنَاحٍ يَنْتَشِرُ مِنْهَا اللّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ . وَمِنْهَا : أَنْ يُكَلّمَهُ اللّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ إمّا فِي الْيَقَظَةِ كَمَا كَلّمَهُ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَإِمّا فِي النّوْمِ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ الّذِي رَوَاهُ التّرْمِذِيّ ، قَالَ أَتَانِي رَبّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ، فَقُلْت : لَا أَدْرِي . فَوَضَعَ كَفّهُ بَيْنَ كَتِفَيْ فَوَجَدَتْ بَرْدَهَا بَيْنَ ثُنْدُوَتَيّ وَتَجَلّى لِي عَلَمُ كُلّ شَيْءٍ وَقَالَ يَا مُحَمّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ، فَقُلْت : فِي الْكَفّارَاتِ فَقَالَ وَمَا هُنّ ؟ فَقُلْت : الْوُضُوءُ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ وَنَقْلُ الْأَقْدَامِ إلَى الْحَسَنَاتِ وَانْتِظَارُ الصّلَوَاتِ بَعْدَ الصّلَوَاتِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ حَمِيدًا ، وَمَاتَ حَمِيدًا ، وَكَانَ مِنْ ذَنْبِهِ كَمَنْ وَلَدَتْهُ أُمّهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . فَهَذِهِ سِتّةُ أَحْوَالٍ وَحَالَةُ سَابِعَةٌ قَدْ قَدّمْنَا ذِكْرَهَا ، وَهِيَ نُزُولُ إسْرَافِيلَ عَلَيْهِ بِكَلِمَاتِ مِنْ الْوَحْيِ قِيلَ جِبْرِيلُ فَهَذِهِ سَبْعُ صُوَرٍ فِي كَيْفِيّةِ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَمْ أَرَ أَحَدًا جَمَعَهَا كَهَذَا الْجَمْعِ وَقَدْ اسْتَشْهَدْنَا عَلَى صِحّتهَا بِمَا فِيهِ غنية ، وَقَدْ أَمْلَيْنَا أَيْضًا فِي حَقِيقَةِ رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ رَبّهُ فِي الْمَنَامِ عَلَى أَحْسَنِ صُورَةٍ وَيُرْوَى : عَلَى صُورَةِ شَابّ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ كَاشِفَةٌ لِقِنَاعِ اللّبْسِ فَلْتُنْظَرْ هُنَالِكَ .
مِنْ تَفْسِيرِ حَدِيثِ الْوَحْيِ
[ ص 403 ] وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ بِنَمَطِ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ كِتَابٌ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسّرِينَ فِي قَوْلِهِ وَقَالَ ابْنُ سَلّامٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رِيبَ فِيه } إنّهَا إشَارَةٌ إلَى الْكِتَابِ الّذِي جَاءَهُ بِهِ جِبْرِيلُ حِينَ قَالَ اقْرَأْ وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذِهِ مِنْهَا : أَنّهَا إشَارَةٌ إلَى مَا تَضَمّنَهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ الم ؛ لِأَنّ هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمُقَطّعَةُ تَضَمّنَتْ مَعَانِيَ الْكِتَابِ كُلّهِ فَهِيَ كَالتّرْجَمَةِ لَهُ .
مَعْنَى { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ }
وَقَوْلِهِ مَا أَنَا بِقَارِئِ أَيْ إنّي أُمّيّ ، فَلَا أَقْرَأُ الْكُتُبَ قَالَهَا ثَلَاثًا فَقِيلَ لَهُ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ } أَيْ إنّك لَا تَقْرَؤُهُ بِحَوْلِك ، وَلَا بِصِفّةِ نَفْسِك ، وَلَا بِمَعْرِفَتِك ، وَلَكِنْ اقْرَأْ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبّك مُسْتَعِينًا بِهِ فَهُوَ يُعَلّمُك كَمَا خَلَقَك وَكَمَا نَزَعَ عَنْك عَلَقَ الدّمِ وَمَغْمَزَ الشّيْطَانِ بَعْدَمَا خَلَقه فِيك ، كَمَا خَلَقَهُ فِي كُلّ إنْسَانٍ . وَالْآيَتَانِ المتقدمتان لِمُحَمّدِ وَالْآخِرَتَانِ لِأُمّتِهِ وَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى : الّذِي عَلّمَ بِالْقَلَمِ عَلّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ لِأَنّهَا كَانَتْ أُمّةٌ أُمّيّةٌ لَا تَكْتُبُ فَصَارُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَأَصْحَابَ قَلَمٍ فَتَعَلّمُوا الْقُرْآنَ بِالْقَلَمِ وَتَعَلّمَهُ نَبِيّهُمْ تَلْقِينًا مِنْ جِبْرِيلَ نَزّلَهُ عَلَى قَلْبِهِ بِإِذْنِ اللّهِ لِيَكُونَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ .
حَوْلَ بِسْمِ اللّهِ
فَصْلٌ وَفِي قَوْلِهِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ } مِنْ الْفِقْهِ وُجُوبُ اسْتِفْتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِبَسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ غَيْرَ أَنّهُ أَمْرٌ مُبْهَمٌ لَمْ يُبَيّنْ لَهُ بِأَيّ اسْمٍ مِنْ أَسَمَاء رَبّهِ يَفْتَتِحُ حَتّى جَاءَ الْبَيَانُ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ { بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا } [ هُود : 41 ] ثُمّ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنّهُ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ } [ النّمْلُ 30 ] . ثُمّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْزِلُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ بِبَسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مَعَ كُلّ سُورَةٍ وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي سَوَادِ الْمُصْحَفِ بِإِجْمَاعِ مِنْ الصّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ وَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ مِنْ مُصْحَفِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيّ ، فَشُذُوذٌ فَهِيَ عَلَى هَذَا مِنْ الْقُرْآنِ إذْ لَا يُكْتَبُ فِي الْمُصْحَفِ مَا لَيْسَ بِقُرْآنِ وَلَا يَلْتَزِمُ قَوْلُ الشّافِعِيّ أَنّهَا آيَةٌ مِنْ كُلّ سُورَةٍ وَلَا أَنّهَا آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ بَلْ نَقُولُ إنّهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى ، مُقْتَرِنَةٌ مَعَ السّورَةِ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ [ ص 404 ] فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : سَحَرَ مُحَمّدٌ الْجِبَالَ ذَكَرَهُ النّقّاشُ وَإِنْ صَحّ مَا ذَكَرَهُ فَلِمَعْنَى مَا سَبّحَتْ عِنْدَ نُزُولِهَا خَاصّةً وَذَلِكَ أَنّهَا آيَةٌ أُنْزِلَتْ عَلَى آلِ دَاوُد ، وَقَدْ كَانَتْ الْجِبَالُ تُسَبّحُ مَعَ دَاوُد ، كَمَا قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { إِنّا سَخّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بِالْعَشِيّ وَالْإِشْرَاقِ } [ ص : 18 ] وَقَالَ { إِنّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنّهُ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ } [ النّمْلُ 30 ] . وَفِي الْحَدِيثِ ذَكَرَ نَمَطَ الدّيبَاجِ مِنْ الْكِتَابِ وَفِيهِ دَلِيلٌ وَإِشَارَةٌ إلَى أَنّ هَذَا الْكِتَابَ يُفْتَحُ عَلَى أُمّتِهِ مُلْكَ الْأَعَاجِمِ ، وَيَسْلُبُونَهُمْ الدّيبَاجَ وَالْحَرِيرَ الّذِي كَانَ زَيّهُمْ وَزِينَتَهُمْ وَبَهْ أَيْضًا يُنَالُ مُلْكُ الْآخِرَةِ وَلِبَاسُ الْجَنّةِ وَهُوَ الْحَرِيرُ وَالدّيبَاجُ وَفِي سِيَرِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ، وَسِيَرِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُعْتَمِرِ زِيَادَةٌ وَهُوَ أَنّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ بدرنوك مِنْ دِيبَاجٍ مَنْسُوجٍ بِالدّرّ وَالْيَاقُوتِ فَأَجْلَسَهُ عَلَيْهِ غَيْرَ أَنّ مُوسَى بْنَ عُقْبَةَ قَالَ بِبِسَاطِ وَلَمْ يَقُلْ دَرِنُوك ، وَقَالَ فِي سِيَرِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ إنّ اللّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِ { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } الْآيَاتِ كَأَنّهُ يُشِيرُ بِهِ فَمَسَحَ جِبْرِيلُ صَدْرَهُ وَقَالَ اللّهُمّ اشْرَحْ صَدْرَهُ وَارْفَعْ ذِكْرَهُ وَضَعْ عَنْهُ وِزْرَهُ وَيُصَحّحُ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ أَنّ اللّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِ { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } الْآيَاتِ كَأَنّهُ يُشِيرُ إلَى ذَلِكَ الدّعَاءِ الّذِي كَانَ مِنْ جِبْرِيلَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
الْغَطّ
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ فَغَطّنِي ، وَيُرْوَى : فَسَأَبَنِي ، وَيُرْوَى : سأتني ، وَأَحْسَبُهُ أَيْضًا يُرْوَى : فَذَعَتَنِي وَكُلّهَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَهُوَ الْخَنْقُ وَالْغَمّ ، وَمِنْ الذّعْتِ حَدِيثُهُ الْآخَرُ أَنّ الشّيْطَانَ عَرَضَ لَهُ وَهُوَ يُصَلّي قَالَ فَذَعْتهُ حَتّى وَجَدْت بَرْدَ لِسَانِهِ عَلَى يَدَيْ ثُمّ ذَكَرْت قَوْلَ أَخِي [ ص 405 ] وَقَالَ ابْنُ سَلّامٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : رَبّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ مِنْ بَعْدِي الْحَدِيثُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ إظْهَارٌ لِلشّدّةِ وَالْجَدّ فِي الْأَمْرِ وَأَنْ يَأْخُذَ الْكِتَابَ بِقُوّةِ وَيَتْرُكُ الْأَنَاةَ فَإِنّهُ أَمْرٌ لَيْسَ بِالْهُوَيْنَى ، وَقَدْ انْتَزَعَ بَعْضُ التّابِعِينَ وَهُوَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي مِنْ هَذَا : أَلّا يُضْرَبَ الصّبِيّ عَلَى الْقُرْآنِ إلّا ثَلَاثًا كَمَا غَطّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثَلَاثًا ، وَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ ذَلِكَ فِي نَوْمِهِ كَانَ يَكُونُ فِي تِلْكَ الْغَطّاتِ الثّلَاثِ مِنْ التّأْوِيلِ ثَلَاثُ شَدَائِدَ يُبْتَلَى بِهَا أَوّلًا ، ثُمّ يَأْتِي الْفَرَجُ وَالرّوحُ وَكَذَلِك كَانَ لَقِيَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ شِدّةً مِنْ الْجُوعِ فِي شِعْبِ الْخَيْفِ ، حِينَ تَعَاقَدَتْ قُرَيْشٌ أَلّا يَبِيعُوا مِنْهُمْ وَلَا يَتْرُكُوا مِيرَةً تَصِلُ إلَيْهِمْ وَشِدّةٌ أُخْرَى مِنْ الْخَوْفِ وَالْإِيعَادِ بِالْقَتْلِ وَشِدّةٌ أُخْرَى مِنْ الْإِجْلَاءِ عَنْ أَحَبّ الْأَوْطَانِ إلَيْهِ ثُمّ كَانَتْ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ .
مَا أَنَا بِقَارِئِ
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ : اقْرَأْ قَالَ مَا أَقْرَأُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا ، يُرِيدُ أَيّ شَيْءٍ أَقْرَأُ ؟ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ نَفْيًا ، وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِمٍ تَدُلّ عَلَى أَنّهُ أَرَادَ النّفْيَ أَيْ مَا أُحْسِنُ أَنْ أَقْرَأَ كَمَا تَقَدّمَ مِنْ قَوْلِهِ مَا أَنَا بِقَارِئِ .
رُؤْيَةُ جِبْرِيلَ وَمَعْنَى اسْمِهِ
[ ص 406 ] وَذَكَرَ رُؤْيَتَهُ لِجِبْرِيلَ وَهُوَ صَافّ قَدَمَيْهِ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنّهُ رَآهُ عَلَى رَفْرَفٍ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَيُرْوَى : عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيّ الّذِي ذَكَرَهُ فِي آخِرِ الْجَامِعِ أَنّهُ حِينَ فَتَرَ عَنْهُ الْوَحْيُ كَانَ يَأْتِي شَوَاهِقَ الْجِبَالِ يُهِمّ بِأَنْ يُلْقِي نَفْسَهُ مِنْهَا ، فَكَانَ جِبْرِيلُ يَتَرَاءَى لَهُ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَقُولُ لَهُ أَنْتَ رَسُولُ اللّهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ . وَاسْمُ جِبْرِيلَ سُرْيَانِيّ ، وَمَعْنَاهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ أَوْ عَبْدُ الْعَزِيزِ . هَكَذَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا أَيْضًا ، وَالْوَقْفُ أَصْلُهُ . وَأَكْثَرُ النّاسِ عَلَى أَنّ آخِرَ الِاسْمِ مِنْهُ هُوَ اسْمُ اللّهِ وَهُوَ إيّلُ وَكَانَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللّهُ يَذْهَبُ مَذْهَبِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إضَافَتُهَا مَقْلُوبَةٌ وَكَذَلِكَ الْإِضَافَةُ فِي كَلَامِ الْعَجَمِ ، يَقُولُونَ فِي غُلَامِ زَيْدٍ زَيْدٌ غُلَامٌ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إيل عَبّارَةً عَنْ الْعَبْدِ وَيَكُونُ أَوّلَ الِاسْمِ عَبّارَةً عَنْ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللّهِ تَعَالَى ، أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ : جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ كَمَا تَقُولُ عَبْدُ اللّهِ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ أَلَا تَرَى أَنّ لَفْظَ عَبْدٍ يَتَكَرّرُ بِلَفْظِ وَاحِدٍ وَالْأَسْمَاءُ أَلْفَاظُهَا مُخْتَلِفَةٌ . حَوْلَ مَعْنَى إلْ وَخَرَافَةُ الرّهْبَانِ وَأَمّا إلْ بِالتّشْدِيدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِلّا وَلَا ذِمّةً } [ التّوْبَةُ 10 ] فَحَذَارِ حَذَارِ مِنْ أَنْ تَقُولَ فِيهِ هُوَ اسْمُ اللّهِ فَتُسَمّي اللّهَ بِاسْمِ لَمْ يُسَمّ بِهِ نَفْسَهُ أَلَا تَرَى أَنّ جَمِيعَ أَسْمَاءِ اللّهِ تَعَالَى [ ص 407 ] نَكِرَةٌ وَحَاشَا لِلّهِ أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ نَكِرَةً وَإِنّمَا الْأَلّ كُلّ مَا لَهُ حُرْمَةٌ وَحَقّ ، فَمِمّا لَهُ حَقّ وَيَجِبُ تَعْظِيمُهُ الْقَرَابَةُ وَالرّحِمُ وَالْجِوَارُ وَالْعَهْدُ وَهُوَ مِنْ أَلَلْت : إذَا اجْتَهَدْت فِي الشّيْءِ وَحَافَظْت عَلَيْهِ وَلَمْ تُضَيّعْهُ وَمِنْهُ الْأَلّ فِي السّيْرِ وَهُوَ الْجَدّ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ [ يَصِفُ رَجُلًا ] :
وَأَنْتَ مَا أَنْتَ فِي غَبْرَاءَ مُجْدِبَةٍ ... إذَا دَعَتْ أَلَلَيْهَا الْكَاعِبُ الْفُضُلُ
يُرِيدُ اجْتَهَدْت فِي الدّعَاءِ وَإِذَا كَانَ الْأَلّ بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرَ فَالْإِلّ بِالْكَسْرِ الِاسْمُ كَالذّبْحِ فِي الذّبْحِ فَهُوَ إذًا الشّيْءُ الْمُحَافَظُ عَلَيْهِ وَقَوْلُ الصّدّيقِ [ عَنْ كَلَامِ مُسَيْلِمَةَ ] : هَذَا كَلَامٌ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إلّ وَلَا بِرّ أَيْ لَمْ يَصْدُرْ عَنْ رُبُوبِيّةٍ لِأَنّ الرّبُوبِيّةَ حَقّهَا وَاجِبٌ مُعَظّمٌ وَكَذَلِكَ فَسّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَاتّفِقَ فِي اسْمِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنّهُ مُوَافِقٌ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيّةِ لِمَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيّا ، فَإِنّ الْجَبْرَ هُوَ إصْلَاحُ مَا وَهَى ، وَجِبْرِيلُ مُوَكّلٌ بِالْوَحْيِ وَفِي الْوَحْيِ إصْلَاحُ مَا فَسَدَ وَجَبْرُ مَا وَهَى مِنْ الدّينِ وَلَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِمَكّةَ وَلَا بِأَرْضِ الْعَرَبِ فَلَمّا أَخْبَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَدِيجَةَ بِهِ انْطَلَقَتْ تَسْأَلُ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ كَعَدّاسِ وَنَسْطُور الرّاهِبِ فَقَالَ لَهَا : قُدّوسٌ قُدّوسٌ أَنّى لِهَذَا الِاسْمِ أَنْ يُذْكَرَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ وَقَدْ قَدّمْنَا هَذَا الْخَبَرَ عَنْهَا ، وَهُوَ فِي سِيَرِ التيمي لَمّا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ وَفِي كِتَابِ الْمُعَيّطِي عَنْ أَشْهَبَ قَالَ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ التّسَمّي بِجِبْرِيلَ أَوْ مَنْ يُسَمّي بِهِ وَلَدَهُ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَلَمْ يُعْجِبْهُ .
مَعْنَى النّامُوسِ
[ ص 408 ] كَانَ يَأْتِي مُوسَى . النّامُوسُ صَاحِبُ سِرّ الْمَلَكِ قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ صَاحِبُ سِرّ الْخَيْرِ وَالْجَاسُوسُ هُوَ صَاحِبُ سِرّ الشّرّ وَقَدْ فَسّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَنْشَدَ
فَأَبْلِغْ يَزِيدَ إنْ عَرَضْت وَمُنْذِرًا ... عَمّهُمَا وَالْمُسْتَشِزّ الْمُنَامِسَا
لِمَ ذُكِرَ مُوسَى وَلَمْ يُذْكَرْ عِيسَى
[ ص 409 ] ذَكَرَ وَرَقَةُ مُوسَى وَلَمْ يَذْكُرْ عِيسَى ، وَهُوَ أَقْرَبُ لِأَنّ وَرَقَةَ كَانَ قَدْ تَنَصّرَ وَالنّصَارَى لَا يَقُولُونَ فِي عِيسَى : إنّهُ نَبِيّ يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ إنّمَا يَقُولُونَ فِيهِ إنّ أُقْنُومًا مِنْ الْأَقَانِيمِ الثّلَاثَةِ اللّاهُوتِيّةِ حَلّ بِنَاسُوتِ الْمَسِيحِ وَاتّحَدَ بِهِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحُلُولِ وَهُوَ أُقْنُومُ الْكَلِمَةِ وَالْكَلِمَةُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِلْمِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَيُخْبِرُ بِمَا فِي غَدٍ فَلَمّا كَانَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِ النّصَارَى الْكَذَبَةِ عَلَى اللّهِ الْمُدّعِينَ الْمُحَالِ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ عِيسَى إلَى ذِكْرِ مُوسَى لِعِلْمِهِ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى ، لَكِنْ وَرَقَةُ قَدْ ثَبَتَ إيمَانُهُ بِمُحَمّدِ عَلَيْهِ السّلَامُ وَقَدْ قَدّمْنَا حَدِيثَ التّرْمِذِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - رَآهُ فِي الْمَنَامِ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ .
حَوْلَ هَاءِ السّكْتِ وَالْفِعْلِ تُدْرِكُ
وَقَوْلُ وَرَقَةَ لَتُكَذّبَنّهْ وَلَتُؤْذَيَنّهْ وَلَا يُنْطَقُ بِهَذِهِ الْهَاءِ إلّا سَاكِنَةً لِأَنّهَا هَاءُ السّكْتِ وَلَيْسَتْ بِهَاءِ إضْمَارٍ . وَقَوْلُهُ إنْ أُدْرِكْ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزّرًا ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ إنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنّ وَرَقَةَ سَابِقٌ بِالْوُجُودِ وَالسّابِقُ هُوَ الّذِي يُدْرِكُهُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَشْقَى النّاسِ مَنْ أَدْرَكَتْهُ السّاعَةُ وَهُوَ حَيّ ، وَرِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ أَيْضًا لَهَا وَجْهٌ لِأَنّ الْمَعْنَى : أَتَرَى ذَلِكَ الْيَوْمَ فَسَمّى رُؤْيَتَهُ إدْرَاكًا ، وَفِي التّنْزِيلِ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أَيْ لَا تَرَاهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَقَوْلُهُ مُؤَزّرًا مِنْ الْأَزْرِ وَهُوَ الْقُوّةُ وَالْعَوْنُ .
شَرْحُ أَوَمُخْرِجِيّ ؟
فَصْلٌ وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِوَرَقَةِ أَوَمُخْرِجِيّ هُمْ لَا بُدّ مِنْ تَشْدِيدِ الْيَاءِ فِي مُخْرِجِيّ لِأَنّهُ جَمْعٌ ، وَالْأَصْلُ مُخْرِجُوِيَ فَأُدْغِمَتْ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ وَهُوَ خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مُقَدّمٌ وَلَوْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ اسْمًا ظَاهِرًا لَجَازَ تَخْفِيفُ الْيَاءِ وَيَكُونُ الِاسْمُ الظّاهِرُ فَاعِلًا لَا مُبْتَدَأً كَمَا تَقُولُ أَضَارِبٌ قَوْمُك ، أَخَارِجٌ إخْوَتُك فَتَفَرّدَ لِأَنّك رَفَعْت بِهِ فَاعِلًا ، وَهُوَ حَسَنٌ فِي مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ وَلَوْلَا الِاسْتِفْهَامُ مَا جَازَ الْإِفْرَادُ إلّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ فَإِنّهُ يَقُولُ قَائِمٌ الزّيْدُون دُونَ اسْتِفْهَامٍ فَإِنْ كَانَ الِاسْمُ الْمُبْتَدَأُ مِنْ الْمُضَمّرَاتِ نَحْوُ أَخَارِجٌ أَنْتَ [ ص 401 ] وَأَقَائِمٌ هُوَ ؟ لَمْ يَصِحّ فِيهِ إلّا الِابْتِدَاءُ لِأَنّ الْفَاعِلَ إذَا كَانَ مُضْمَرًا لَمْ يَكُنْ مُنْفَصِلًا لَا تَقُولُ قَامَ أَنَا ، وَلَا ذَهَبَ أَنْتَ وَكَذَلِكَ لَا تَقُولُ أَذَاهِبٌ أَنْتَ عَلَى حَدّ الْفَاعِلِ وَلَكِنْ عَلَى الْمُبْتَدَإِ وَإِذَا كَانَ عَلَى حَدّ الْمُبْتَدَإِ فَلَا بُدّ مِنْ جَمْعِ الْخَبَرِ ، فَعَلَى هَذَا تَقُولُ أَمُخْرِجِيّ هُمْ تُرِيدُ مُخْرِجُونَ ثُمّ أُضِيفَ إلَى الْيَاءِ وَحُذِفَتْ النّونُ وَأُدْغِمَتْ الْوَاوُ كَمَا يَقْتَضِي الْقِيَاسُ .
حَوْلَ الْيَافُوخِ وَالذّهَابِ إلَى وَرَقَةَ
فَصْلٌ وَذُكِرَ أَنّ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ لَقِيَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَبّلَ يَافُوخَهُ قَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ الْيَافُوخِ وَأَنّهُ يَفْعُولُ مَهْمُوزٌ وَأَنّهُ لَا يُقَالُ فِي رَأْسِ الطّفْلِ يَافُوخٌ حَتّى يَشْتَدّ وَإِنّمَا يُقَالُ لَهُ الْغَاذِيَةُ وَذَكَرْنَا قَوْلَ الْعَجّاجِ ضَرْبٌ إذَا أَصَابَ الْيَآفِيخَ حَفَرٌ . وَلَوْ كَانَ يَافُوخٌ فَاعُولًا ، كَمَا ظَنّ بَعْضُهُمْ لَمْ يَجُزْ هَمْزُهُ فِي الْوَاحِدِ . وَلَا فِي الْجَمْعِ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ بِسَنَدِهِ إلَى أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ لِخَدِيجَةَ إنّي إذَا خَلَوْت وَحْدِي سَمِعْت نِدَاءً وَقَدْ خَشِيت وَاَللّهِ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا أَمْرٌ " . قَالَتْ مَعَاذَ اللّهِ مَا كَانَ اللّهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِك . فَوَاَللّهِ إنّك لَتُؤَدّي الْأَمَانَةَ وَتَصِلُ الرّحِمَ . وَتُصَدّقُ الْحَدِيثَ فَلَمّا دَخَلَ أَبُو بَكْر ، وَلَيْسَ [ عِنْدَهَا ] رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ ذَكَرَتْ خَدِيجَةُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَتْ يَا عَتِيقُ اذْهَبْ مَعَ مُحَمّدٍ إلَى وَرَقَةَ فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَخَذَ أَبُو بَكْر بِيَدِهِ . فَقَالَ انْطَلِقْ بِنَا إلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ . فَقَالَ " وَمَنْ أَخْبَرَك " ؟ قَالَ خَدِيجَةُ فَانْطَلَقَا إلَيْهِ فَقَصّا عَلَيْهِ فَقَالَ إنّي إذَا خَلَوْت وَحْدِي سَمِعْت نِدَاءً خَلْفِي : يَا مُحَمّدُ يَا مُحَمّدُ فَأَنْطَلِقُ هَارِبًا فِي الْأَرْضِ فَقَالَ لَهُ لَا تَفْعَلْ إذَا أَتَاك فَاثْبُتْ حَتّى تَسْمَعَ مَا يَقُولُ لَك . ثُمّ ائْتِنِي ، فَأَخْبَرَنِي ، فَلَمّا خَلَا نَادَاهُ يَا مُحَمّدُ قُلْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ . الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . حَتّى بَلَغَ وَلَا الضّالّينَ . قُلْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ . فَأَتَى وَرَقَةَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ أَبْشِرْ ثُمّ أَبْشِرْ فَأَنَا أَشْهَدُ أَنّك الّذِي بَشّرَ بِهِ ابْنُ مَرْيَمَ ، وَأَنّك عَلَى مِثْلِ نَامُوسِ مُوسَى ، وَأَنّك نَبِيّ مُرْسَلٌ وَأَنّك سَتُؤْمَرُ بِالْجِهَادِ بَعْدَ يَوْمِك هَذَا . وَلَئِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ لَأُجَاهِدَنّ مَعَك . فَلَمّا تُوُفّيَ وَرَقَةُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَقَدْ رَأَيْت الْقَسّ فِي الْجَنّةِ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ الْحَرِيرِ لِأَنّهُ آمَنْ بِي وَصَدّقَنِي يَعْنِي : وَرَقَةَ وَفِي رِوَايَةٍ [ ص 411 ] قَالَ لِرَجُلِ سَبّ وَرَقَةَ أَمَا عَلِمَتْ أَنّي رَأَيْت لِوَرَقَةِ جَنّةً أَوْ جَنّتَيْنِ وَهَذَا الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ قَدْ أَسْنَدَهُ الْبَزّارُ .
لَقَدْ خَشِيت عَلَى نَفْسِي
فَصْلٌ وَفِي الصّحِيحِ أَنّهُ قَالَ لِخَدِيجَةَ لَقَدْ خَشِيت عَلَى نَفْسِي وَتَكَلّمَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْخَشْيَةِ بِأَقْوَالِ كَثِيرَةٍ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيّ إلَى أَنّ هَذِهِ الْخَشْيَةَ كَانَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنّ الّذِي جَاءَهُ مَلَكٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَكَانَ أَشَقّ شَيْءٍ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ مَجْنُونٌ وَلَمْ يَرَ الْإِسْمَاعِيلِيّ أَنّ هَذَا مُحَالٌ فِي مَبْدَإِ الْأَمْرِ لِأَنّ الْعِلْمَ الضّرُورِيّ قَدْ لَا يَحْصُلُ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَضَرَبَ مَثَلًا بِالْبَيْتِ مِنْ الشّعْرِ تَسْمَعُ أَوّلَهُ فَلَا تَدْرِي أَنَظْمٌ هُوَ أَمْ نَثْرٌ فَإِذَا اسْتَمَرّ الْإِنْشَادُ عَلِمْت قَطْعًا أَنّهُ قَصَدَ بِهِ قَصْدَ الشّعْرِ كَذَلِكَ لَمّا اسْتَمَرّ الْوَحْيُ وَاقْتَرَنَتْ بِهِ الْقَرَائِنُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيّ حَصَلَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيّ ، وَقَدْ أَثْنَى اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِهَذَا الْعِلْمِ فَقَالَ { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } إلَى قَوْلِهِ { وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } فَإِيمَانُهُ بِاَللّهِ وَبِمَلَائِكَتِهِ إيمَانٌ كَسْبِيّ مَوْعُودٌ عَلَيْهِ بِالثّوَابِ الْجَزِيلِ كَمَا وَعَدَ عَلَى سَائِرِ أَفْعَالِهِ الْمُكْتَسِبَةِ كَانَتْ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ أَوْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ لَقَدْ خَشِيت عَلَى نَفْسِي أَيْ خَشِيت أَلّا أَنْهَضَ بِأَعْبَاءِ النّبُوّةِ وَأَنْ أَضْعُفَ عَنْهَا ، ثُمّ أَزَالَ اللّهُ خَشْيَتَهُ وَرَزَقَهُ الْأَيْدَ وَالْقُوّةَ وَالثّبَاتَ وَالْعِصْمَةَ وَقَدْ قِيلَ إنّ خَشْيَتَهُ كَانَتْ مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَقْتُلُوهُ وَلَا غَرْوَ فَإِنّهُ بَشَرٌ يَخْشَى مِنْ الْقَتْلِ وَالْإِذَايَةِ الشّدِيدَةِ مَا يَخْشَاهُ الْبَشَرُ ثُمّ يُهَوّنُ عَلَيْهِ الصّبْرُ فِي ذَاتِ اللّهِ كُلّ خَشْيَةٍ وَيَجْلِبُ إلَى قَلْبِهِ كُلّ شَجَاعَةٍ وَقُوّةٍ وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى الْخَشْيَةِ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذِهِ رَغِبْت عَنْ التّطْوِيلِ بِذِكْرِهَا .
ابْتِدَاءُ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ
[ ص 412 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَابْتُدِئَ رَسُولُ اللّهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُنّ بِالتّنْزِيلِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِقَوْلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ { شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [ الْبَقَرَةُ 185 ] . وَقَالَ اللّهُ تَعَالَى : { إِنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ مِنْ كُلّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } الْقَدْرُ . وَقَالَ اللّهُ تَعَالَى : { حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ } [ الدّخَانُ 1 - 5 ] . وَقَالَ تَعَالَى : { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } [ الْأَنْفَالُ 41 ] . وَذَلِكَ مُلْتَقَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُشْرِكِينَ بِبَدْرِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ حُسَيْنٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ بِبَدْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشَرَةَ مِنْ رَمَضَانَ [ ص 413 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ تَتَامّ الْوَحْيُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاَللّهِ مُصَدّقٌ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ قَدْ قَبِلَهُ بِقَبُولِهِ وَتَحَمّلَ مِنْهُ مَا حَمّلَهُ عَلَى رِضَا الْعِبَادِ وَسَخَطِهِمْ وَالنّبُوّةُ أَثْقَالٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يَحْمِلُهَا ، وَلَا يَسْتَطِيعُ بِهَا إلّا أَهْلُ الْقُوّةِ وَالْعَزْمِ مِنْ الرّسُلِ بِعَوْنِ اللّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ لِمَا يَلْقَوْنَ مِنْ النّاسِ وَمَا يَرُدّ عَلَيْهِمْ مِمّا جَاءُوا بِهِ عَنْ اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . قَالَ فَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَمْرِ اللّهِ عَلَى مَا يَلْقَى مِنْ قَوْمِهِ مِنْ الْخِلَافِ وَالْأَذَى
Sمَتَى نَزَلَ الْقُرْآنُ ؟
[ ص 412 ] وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } [ الْبَقَرَةُ 185 ] . إلَى آخِرِ الْآيَةِ مُسْتَشْهِدًا بِذَلِكَ عَلَى أَنّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ رَمَضَانَ وَهَذَا يَحْمِلُ تَأْوِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بَدْءَ النّزُولِ وَأَوّلَهُ لِأَنّ الْقُرْآنَ نَزَلَ فِي أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ وَالثّانِي : مَا قَالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ : أَنّهُ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً إلَى سَمَاءِ الدّنْيَا ، فَجَعَلَ فِي بَيْتِ الْعِزّةِ مَكْنُونًا فِي الصّحُفِ الْمُكَرّمَةِ الْمَرْفُوعَةِ الْمُطَهّرَةِ ثُمّ نَزَلَتْ مِنْهُ الْآيَةُ بَعْدَ الْآيَةِ وَالسّورَةُ بَعْدَ السّورَةِ فِي أَجْوِبَةِ السّائِلِينَ وَالنّوَازِلِ الْحَادِثَةِ إلَى أَنْ تُوُفّيَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهَذَا التّأْوِيلُ أَشْبَهُ بِالظّاهِرِ وَأَصَحّ فِي النّقْلِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
حَوْلُ إضَافَةِ شَهْرٍ إلَى رَمَضَانَ
[ ص 413 ] { شَهْرُ رَمَضَانَ } فَذَكَرَ الشّهْرَ مُضَافًا إلَى رَمَضَانَ وَاخْتَارَ الْكُتّابُ وَالْمُوَثّقُونَ النّطْقَ بِهِ بِهَذَا اللّفْظِ دُونَ أَنْ يَقُولُوا : كُتِبَ فِي رَمَضَانَ وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيّ وَالنّسَوِيّ عَلَى جَوَازِ اللّفْظَيْنِ جَمِيعًا وَأَوْرَدَا حَدِيثَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ " ، وَلَمْ يَقُلْ شَهْرَ رَمَضَانَ وَقَدْ بَيّنْت أَنّ لِكُلّ مَقَامٍ مَقَامُهُ وَلَا بُدّ مِنْ ذِكْرِ شَهْرٍ فِي مَقَامٍ وَمَنْ حَذَفَهُ فِي مَقَامٍ آخَرَ وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِهِ إذَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةُ أَيْضًا فِي حَذْفِهِ إذَا حُذِفَ مِنْ اللّفْظِ وَأَيْنَ يَصْلُحُ الْحَذْفُ وَيَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ الذّكْرِ كُلّ هَذَا مُبَيّنٌ فِي كِتَابِ " نَتَائِجِ الْفِكْرِ " ، فَهُنَاكَ أَوْرَدْنَا فِيهِ فَوَائِدَ تَعْجِزُ عَنْهَا هِمَمُ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ . أَدْنَاهَا تُسَاوِي رِخْلَةً عِنْدَ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهَا ، غَيْرَ أَنّا نُشِيرُ إلَى بَعْضِهَا ، فَنَقُولُ قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَمِمّا لَا يَكُونُ الْعَمَلُ إلّا فِيهِ كُلّهِ الْمُحَرّمُ وَصَفَرٌ يُرِيدُ أَنّ الِاسْمَ الْعَلَمَ يَتَنَاوَلُ اللّفْظَ كُلّهُ وَذَلِكَ إذَا قُلْت : الْأَحَدُ أَوْ الِاثْنَيْنِ فَإِنْ قُلْت يَوْمَ الْأَحَدِ أَوْ شَهْرُ الْمُحَرّمِ كَانَ ظَرْفًا ، وَلَمْ يَجْرِ مَجْرَى الْمَفْعُولَاتِ وَزَالَ الْعُمُومُ مِنْ اللّفْظِ لِأَنّك تُرِيدُ فِي الشّهْرِ وَفِي الْيَوْمِ وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَلَمْ يَقُلْ شَهْرَ رَمَضَانَ لِيَكُونَ الْعَمَلُ فِيهِ كُلّهِ وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى بَعْضِ تِلْكَ الْفَوَائِدِ الّتِي أَحَكَمْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ .
حُبّ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَطَنَهُ
بَقِيّةٌ مِنْ حَدِيثِ وَرَقَةَ وَذَلِكَ أَنّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَتُكَذّبَنّهْ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَيْئًا ، ثُمّ قَالَ وَلَتُؤْذَيَنّهْ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا ، ثُمّ قَالَ وَلَتُخْرَجَنّهْ فَقَالَ أَوَمُخْرَجِيّ هُمْ ؟ فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُبّ الْوَطَنِ وَشِدّةِ مُفَارَقَتِهِ عَلَى النّفْسِ وَأَيْضًا فَإِنّهُ حَرَمُ اللّهِ وَجِوَارُ بَيْتِهِ [ ص 414 ] أَبِيهِ إسْمَاعِيلَ فَلِذَلِكَ تَحَرّكَتْ نَفْسُهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْخُرُوجِ مِنْهُ مَا لَمْ تَتَحَرّكْ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ أَوَمُخْرَجِيّ هُمْ ؟ وَالْمَوْضِعُ الدّالّ عَلَى تَحَرّكِ النّفْسِ وَتَحَرّقِهَا إدْخَالُ الْوَاوِ بَعْدَ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ اخْتِصَاصِ الْإِخْرَاجِ بِالسّؤَالِ عَنْهُ وَذَلِكَ أَنّ الْوَاوَ تُرَدّ إلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدّمِ وَتُشْعِرُ الْمُخَاطَبَ بِأَنّ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ أَوْ التّفَجّعِ لِكَلَامِهِ أَوْ التّأَلّمِ مِنْهُ .
ذِكْرُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حَسَنٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَقَوْلُهُ حَدّثَتْنِي أُمّي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ أَنّ خَدِيجَةَ أَدَخَلَتْهُ بَيْنَ ثَوْبِهَا . الْحَدِيثَ عَبْدُ اللّهِ هَذَا هُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَأُمّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ أُخْتُ سُكَيْنَةَ وَاسْمُهَا : آمِنَةُ وَسُكَيْنَةُ لَقَبٌ لَهَا الّتِي كَانَتْ ذَاتَ دُعَابَةٍ وَمَزْحٍ وَفِي سُكَيْنَةَ وَأُمّهَا الرّبَابِ يَقُولُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ
كَأَنّ اللّيْلَ مَوْصُولٌ بِلَيْلِ ... إذَا زَارَتْ سُكَيْنَةُ وَالرّبَابُ
أَيْ زَادَتْ قَوْمُهَا ، وَهُمْ بَنُو عُلَيْمِ بْنِ جَنَابٍ مِنْ كَلْبٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ عُلَيْمٍ وَيُعْرَفُ بَنُو كَعْبِ بْنِ عُلَيْمٍ بِبَنِي زَيْدَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ لِأَنّهُ اسْمُ أُمّهِمْ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ حَسَنٍ هُوَ وَالِدُ الطّالِبِيّيْنِ الْقَائِمَيْنِ عَلَى بَنِي الْعَبّاسِ وَهُمْ مُحَمّدٌ وَيَحْيَى وَإِدْرِيسُ مَاتَ إدْرِيسُ بِإِفْرِيقِيّةَ فَارّا مِنْ الرّشِيدِ وَمَاتَ مَسْمُومًا فِي دُلَاعَةٍ أَكَلَهَا ، وَوَقَعَ فِي كِتَابِ الزّبَيْرِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : قَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السّلَامُ مِمّا فَضَلّ بِهِ عَلِيّ ابْنَيْ صَاحِبِ الْبَعِيرِ أَنّ زَوْجَهُ كَانَتْ عَوْنًا لَهُ عَلَى تَبْلِيغِ أَمْرِ اللّهِ وَأَنّ زَوْجِي كَانَتْ عَوْنًا لِي عَلَى الْمَعْصِيَةِ .
إسْلَامُ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ
وَآمَنَتْ [ ص 414 ] خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَصَدّقَتْ بِمَا جَاءَهُ مِنْ اللّهِ وَوَازَرَتْهُ عَلَى أَمْرِهِ وَكَانَتْ أَوّلَ مَنْ آمَنَ بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَصَدّقَ بِمَا جَاءَ مِنْهُ فَخَفّفَ اللّهُ بِذَلِكَ عَنْ نَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا مِمّا يَكْرَهُهُ مِنْ رَدّ عَلَيْهِ وَتَكْذِيبٍ لَهُ فَيَحْزُنُهُ ذَلِكَ إلّا فَرّجَ اللّهُ عَنْهُ بِهِ إذَا رَجَعَ إلَيْهَا ، تُثَبّتُهُ وَتُخَفّفُ عَلَيْهِ وَتُصَدّقُهُ وَتُهَوّنُ عَلَيْهِ أَمْرَ النّاسِ رَحِمَهَا اللّهُ تَعَالَى [ ص 415 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرْت أَنْ أُبَشّرَ خَدِيجَةَ بِبَيْتِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبٌ فِيهِ وَلَا نَصَبٌ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْقَصَبُ هَاهُنَا : اللّؤْلُؤُ الْمُجَوّفُ [ ص 416 ] [ ص 417 ] [ ص 418 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَقْرِئْ خَدِيجَةَ السّلَامَ مِنْ رَبّهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا خَدِيجَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُك السّلَامَ مِنْ رَبّك [ ص 419 ] فَقَالَتْ خَدِيجَةُ اللّهُ السّلَامُ وَمِنْهُ السّلَامُ وَعَلَى جِبْرِيلَ السّلَام
Sحَدِيثُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ خَدِيجَةَ
فَصْلٌ وَذِكْرُ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَمَرَ أَنّ [ ص 415 ] خَدِيجَةَ بِبَيْتِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبٍ فِيهِ وَلَا نَصَبٍ . هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُتّصِلًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا غِرْت عَلَى أَحَدٍ مَا غِرْت عَلَى خَدِيجَةَ وَلَقَدْ هَلَكْت قَبْلَ أَنْ يَتَزَوّجَنِي رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِثَلَاثِ سِنِينَ وَلَقَدْ أَمَرَ أَنْ يُبَشّرُهَا بِبَيْتِ مِنْ قَصَبٍ فِي الْجَنّةِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ حَمْرَاءَ الشّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدّهْرِ قَدْ أَبْدَلَك اللّهُ خَيْرًا مِنْهَا ، فَغَضِبَ وَقَالَ " وَاَللّهِ مَا أَبْدَلَنِي اللّهُ خَيْرًا مِنْهَا ؛ آمَنَتْ بِي حِينَ كَذّبَنِي النّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا حِينَ حَرَمَنِي النّاسُ وَرُزِقْت الْوَلَدَ مِنْهَا ، وَحُرِمْته مِنْ غَيْرِهَا وَرَوَى يُونُسُ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ الْمَخْزُومِيّ قَالَ حَدّثَنَا أَبُو نَجِيحٍ قَالَ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَزُورٌ أَوْ لَحْمٌ فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَظْمًا مِنْهَا ، فَنَاوَلَهُ الرّسُولُ بِيَدِهِ فَقَالَ اذْهَبْ بِهَذَا إلَى فُلَانَةَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَ غَمَرْت يَدَك ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مُغْضَبًا : " إنّ خَدِيجَةَ أَوْصَتْنِي بِهَا " ، فَغَارَتْ عَائِشَةُ وَقَالَتْ لَكَأَنّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ امْرَأَةٌ إلّا خَدِيجَةَ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مُغْضَبًا ، فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللّهُ ثُمّ رَجَعَ فَإِذَا أُمّ رُومَانَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا لَك وَلِعَائِشَةَ ؟ إنّهَا حَدَثَةٌ وَإِنّك أَحَقّ مَنْ تَجَاوَزَ عَنْهَا ، فَأَخَذَ بِشِدْقِ عَائِشَةَ وَقَالَ أَلَسْت الْقَائِلَةَ " كَأَنّمَا لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ امْرَأَةٌ إلّا خَدِيجَةُ وَاَللّهِ لَقَدْ آمَنَتْ بِي إذْ كَفَرَ قَوْمُك ، وَرُزِقْت مِنّي الْوَلَدُ وَحُرِمْتُمُوهُ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ خَيْرُ نِسَائِهَا : مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا : خَدِيجَةُ وَالْهَاءُ فِي نِسَائِهَا حِينَ ذَكَرَ مَرْيَمَ عَائِدَةً عَلَى السّمَاءِ وَالْهَاءُ فِي نِسَائِهَا حِينَ ذَكَرَ خَدِيجَةَ عَائِدَةٌ عَلَى الْأَرْضِ وَذَلِكَ أَنّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ وَكِيعٌ وَأَبُو أُسَامَةَ وَابْنُ نُمَيْرٍ فِي آخَرَيْنِ وَأَشَارَ وَكِيعٌ مِنْ بَيْنَهُمْ حِينَ حَدّثَ بِالْحَدِيثِ بِإِصْبَعِهِ إلَى السّمَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ مَرْيَمَ ، وَإِلَى الْأَرْضِ عِنْدَ ذِكْرِ [ ص 416 ] خَدِيجَةَ ، وَهَذِهِ إشَارَةٌ لَيْسَتْ مِنْ رَأْيِهِ وَإِنّمَا هِيَ زِيَادَةٌ مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى إشَارَتِهِ إلَى السّمَاءِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ ذِكْرِهِمَا ، أَيْ هُمَا خَيْرُ نِسَاءٍ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا أَثْبَتُ عِنْدِي بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ . وَلَعَلّنَا أَنْ نَذْكُرَ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي التّفْضِيلِ بَيْنَ مَرْيَمَ وَخَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُنّ - وَأَزْوَاجِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَا نَزَعَ بِهِ كُلّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ .
حَوْلَ مَا بُشّرَتْ بِهِ خَدِيجَةُ
وَأَمّا قَوْلُهُ بِبَيْتِ مِنْ قَصَبٍ فَقَدْ رَوَاهُ الْخَطّابِيّ مُفَسّرًا ، وَقَالَ فِيهِ قَالَتْ خَدِيجَةُ : يَا رَسُولَ اللّهِ هَلْ فِي الْجَنّةِ قَصَبٌ ؟ فَقَالَ " إنّهُ قَصَبٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ مُجَبّى قَالَ الْخَطّابِيّ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مُجَوّبًا مِنْ قَوْلِك : جُبْت الثّوْبَ إذَا خَرَقْته ، فَيَكُونُ مِنْ الْمَقْلُوبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مُجَبّبًا بِبَاءَيْنِ مِنْ الْجُبّ وَهُوَ الْقَطْعُ أَيْ قُطِعَ دَاخِلُهُ وَقُلِبَتْ الْبَاءُ يَاءً كَمَا قَالُوا : تَظَنّيْتُ مِنْ الظّنّ وَتَقَصّيْت أَظْفَارِي ، وَتَكَلّمَ أَصْحَابُ الْمَعَانِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالُوا : كَيْفَ لَمْ يُبَشّرْهَا إلّا بِبَيْتِ وَأَدْنَى أَهْلِ الْجَنّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يُعْطَى مَسِيرَةَ أَلْفِ عَامٍ فِي الْجَنّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ ، وَكَيْفَ لَمْ يُنْعِتْ هَذَا الْبَيْتَ بِشَيْءِ مِنْ أَوْصَافِ النّعِيمِ وَالْبَهْجَةِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْيِ الصّخَبِ وَهُوَ رَفْعُ الصّوْتِ فَأَمّا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ فَقَالَ فِي كِتَابِ فَوَائِدِ الْأَخْبَارِ لَهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنّهُ بُشّرَتْ بِبَيْتِ زَائِدٍ عَلَى مَا أَعَدّ اللّهُ لَهَا مِمّا هُوَ ثَوَابٌ لِإِيمَانِهَا وَعَمَلِهَا ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ أَيْ لَمْ تَنْصِبْ فِيهِ وَلَمْ تَصْخَبْ . أَيْ إنّمَا أَعْطَيْته زِيَادَةً عَلَى جَمِيعِ الْعَمَلِ الّذِي نَصَبَتْ فِيهِ . قَالَ الْمُؤَلّفُ رَحِمَهُ اللّهُ لَا أَدْرِي مَا هَذَا التّأْوِيلُ وَلَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَلَا يُوجَدُ شَاهِدٌ يُعَضّدُهُ وَأَمّا الْخَطّابِيّ ، فَقَالَ الْبَيْتُ هَاهُنَا عِبَارَةٌ عَنْ قَصْرٍ وَقَدْ يُقَالُ لِمَنْزِلِ الرّجُلِ بَيْتُهُ وَاَلّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ يُقَالُ فِي الْقَوْمِ هُمْ أَهْلُ بَيْتِ شَرَفٍ وَبَيْتِ عِزّ وَفِي التّنْزِيلِ غَيْرُ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ لِذِكْرِ الْبَيْتِ هَاهُنَا بِهَذَا اللّفْظِ وَلِقَوْلِهِ بِبَيْتِ وَلَمْ يَقُلْ بِقِصَرِ مَعْنًى لَائِقٍ بِصُورَةِ الْحَالِ وَذَلِكَ أَنّهَا كَانَتْ رَبّةَ بَيْتِ إسْلَامٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَرْضِ بَيْتُ إسْلَامٍ إلّا بَيْتَهَا حِينَ آمَنَتْ وَأَيْضًا فَإِنّهَا أَوّلُ مَنْ بَنَى بَيْتًا فِي الْإِسْلَامِ بِتَزْوِيجِهَا رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَرَغْبَتِهَا فِيهِ وَجَزَاءُ الْفِعْلِ يُذْكَرُ بِلَفْظِ الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ أَشْرَفَ مِنْهُ لِمَا جَاءَ مَنْ كَسَا مُسْلِمًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللّهُ مِنْ حُلَلِ الْجَنّةِ وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَإِ سَقَاهُ اللّهُ مِنْ الرّحِيق وَمِنْ [ ص 417 ] مَنْ بَنَى لِلّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنّةِ لَمْ يَرِدْ مِثْلُهُ فِي كَوْنِهِ مَسْجِدًا ، وَلَا فِي صِفّتِهِ وَلَكِنْ قَابِلٌ الْبُنْيَانِ بِالْبُنْيَانِ أَيْ كَمَا بَنَى يُبْنَى لَهُ كَمَا قَابِلُ الْكِسْوَةِ بِالْكِسْوَةِ وَالسّقْيَا بِالسّقْيَا ، فَهَاهُنَا وَقَعَتْ الْمُمَاثَلَةُ لَا فِي ذَاتِ الْمَبْنِيّ أَوْ الْمَكْسُوّ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَمِنْ هَاهُنَا اقْتَضَتْ الْفَصَاحَةُ أَنْ يُعَبّرَ لَهَا عَمّا بُشّرَتْ بِهِ بِلَفْظِ الْبَيْتِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا لَا عَيْنَ رَأَتْهُ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْهُ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ وَمِنْ تَسْمِيَةِ الْجَزَاءِ عَلَى الْفِعْلِ بِالْفِعْلِ فِي عَكْسِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ } { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّهُ } وَأَمّا قَوْلُهُ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ فَإِنّهُ أَيْضًا مِنْ بَابِ مَا كُنّا بِسَبِيلِهِ لِأَنّهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - دَعَاهَا إلَى الْإِيمَانِ فَأَجَابَتْهُ عَفْوًا ، لَمْ تُحْوِجْهُ إلَى أَنْ يَصْخَبَ كَمَا يَصْخَبُ الْبَعْلُ إذَا تَعَصّتْ عَلَيْهِ حَلِيلَتُهُ وَلَا أَنْ يَنْصِبَ بَلْ أَزَالَتْ عَنْهُ كُلّ نَصَبٍ وَآنَسَتْهُ مِنْ كُلّ وَحْشَةٍ وَهَوّنَتْ عَلَيْهِ كُلّ مَكْرُوهٍ وَأَرَاحَتْهُ بِمَا لَهَا مِنْ كُلّ كَدّ وَنَصَبٍ فَوَصَفَ مَنْزِلَهَا الّذِي بُشّرَتْ بِهِ بِالصّفّةِ الْمُقَابِلَةِ لِفَعَالِهَا وَصُورَتِهِ . وَأَمّا قَوْلُهُ مِنْ قَصَبٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا ، وَلَكِنْ فِي اخْتِصَاصِهِ هَذَا اللّفْظِ مِنْ الْمُشَاكَلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْمُقَابِلَةِ بِلَفْظِ الْجَزَاءِ لِلَفْظِ الْعَمَلِ أَنّهَا - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - كَانَتْ قَدْ أَحْرَزَتْ قَصَبَ السّبْقِ إلَى الْإِيمَانِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الرّجَالِ وَالنّسْوَانِ . وَالْعَرَبُ تُسَمّي السّابِقَ مُحْرِزًا لِلْقَصْبِ . قَالَ الشّاعِرُ
مَشَى ابْنُ الزّبَيْرِ الْقَهْقَرَى ، وَتَقَدّمَتْ ... أُمَيّةُ حَتّى أَحْرَزُوا الْقَصَبَاتِ
فَاقْتَضَتْ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَعْبُرَ بِالْعِبَارَةِ الْمُشَاكِلَةِ لِعَمَلِهَا فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ فَتَأَمّلْهُ .
الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ خَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ
[ ص 418 ] وَذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِخَدِيجَةَ : " هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُك السّلَامَ مِنْ رَبّك الْحَدِيثُ يُذْكَرُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ داود أَنّهُ سُئِلَ أَعَائِشَةُ أَفَضْلُ أَمْ خَدِيجَةَ ؟ فَقَالَ " عَائِشَةُ أَقْرَأَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّلَامَ مِنْ جِبْرِيلَ وَخَدِيجَةُ أَقْرَأَهَا جِبْرِيلُ السّلَامَ مِنْ رَبّهَا عَلَى لِسَانِ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَهِيَ أَفَضْلُ " ، قِيلَ لَهُ فَمَنْ أَفْضَلُ أَخَدِيجَةُ أَمْ فَاطِمَةُ ؟ فَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ إنّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنّي فَلَا أَعْدِلُ بِبَضْعَةِ مِنْ رَسُولِ اللّهِ أَحَدًا وَهَذَا اسْتِقْرَاءٌ حَسَنٌ وَيَشْهَدُ لِصِحّةِ هَذَا الِاسْتِقْرَاءِ أَنّ أَبَا لُبَابَةَ حِينَ ارْتَبَطَ نَفْسُهُ وَحَلَفَ أَلّا يَحِلّهُ إلّا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ لِتَحِلّهُ فَأَبَى مِنْ أَجْلِ قَسَمِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " إنّمَا فَاطِمَةُ مُضْغَةٌ مِنّي فَحَلّتْهُ وَسَنَذْكُرُ الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ، وَيَدُلّ أَيْضًا عَلَى تَفْضِيلِ فَاطِمَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - لَهَا : أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنّةِ إلّا مَرْيَمَ ؟ فَدَخَلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أُمّهَا وَأَخَوَاتُهَا ، وَقَدْ تَكَلّمَ النّاسُ فِي الْمَعْنَى الّذِي سَادَتْ بِهِ فَاطِمَةُ غَيْرَهَا دُونَ أَخَوَاتِهَا ، فَقِيلَ إنّهَا وَلَدَتْ سَيّدَ هَذِهِ الْأُمّةِ وَهُوَ الْحَسَنُ الّذِي يَقُولُ فِيهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إنّ ابْنِي هَذَا سَيّدٌ وَهُوَ خَلِيفَةٌ بَعْلُهَا خَلِيفَةٌ أَيْضًا ، وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ سَادَتْ أَخَوَاتُهَا وَأُمّهَا ، لِأَنّهُنّ مُتْنَ فِي حَيَاةِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَكُنّ فِي صَحِيفَتِهِ وَمَاتَ أَبُوهَا وَهُوَ سَيّدُ الْعَالَمِينَ فَكَانَ رُزْؤُهُ فِي صَحِيفَتِهَا وَمِيزَانِهَا ، وَقَدْ رَوَى الْبَزّارُ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أَنّهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِفَاطِمَةَ هِيَ خَيْرُ بَنَاتِي ، إنّهَا أُصِيبَتْ بِي فَحَقّ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ أَنْ يَسُودَ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَنّةِ وَهَذَا حَسَنٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَمِنْ سُؤْدُدِهَا أَيْضًا أَنّ الْمَهْدِيّ الْمُبَشّرَ بِهِ آخِرَ الزّمَانِ مِنْ ذُرّيّتِهَا ، فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ بِهَذَا كُلّهِ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي أَمْرِ الْمَهْدِيّ كَثِيرَةٌ وَقَدْ جَمَعَهَا أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ فَأَكْثَرَ وَمِنْ أَغْرَبِهَا إسْنَادًا مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ فِي فَوَائِدِ الْأَخْبَارِ مُسْنَدًا إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 419 ] مَنْ كَذّبَ بِالدّجّالِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ كَذّبَ بِالْمَهْدِيّ فَقَدْ كَفَرَ وَقَالَ فِي طُلُوعِ الشّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا مِثْلَ ذَلِكَ فِيمَا أَحْسَبُ .
اللّهُ السّلَامُ
وَقَوْلُ خَدِيجَةَ : اللّهُ السّلَامُ وَمِنْهُ السّلَامُ وَعَلَى جِبْرِيلَ السّلَامُ عَلِمَتْ بِفِقْهِهَا أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ السّلَامُ كَمَا يَرِدُ عَلَى الْمَخْلُوقِ لِأَنّ السّلَامَ دُعَاءٌ بِالسّلَامَةِ فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهَا : اللّهُ السّلَامُ فَكَيْفَ أَقُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ وَالسّلَامُ مِنْهُ يُسْأَلُ وَمِنْهُ يَأْتِي ؟ وَلَكِنْ عَلَى جِبْرِيلَ السّلَامُ فَاَلّذِي يَحْصُلُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْفِقْهِ أَنّهُ لَا يَلِيقُ بِاَللّهِ سُبْحَانَهُ إلّا الثّنَاءُ عَلَيْهِ فَجَعَلَتْ مَكَانَ رَدّ التّحِيّةِ عَلَى اللّهِ ثَنَاءً عَلَيْهِ كَمَا عَمِلُوا فِي التّشَهّدِ حِينَ قَالُوا : السّلَامُ عَلَى اللّهِ مِنْ عِبَادِهِ السّلَامُ عَلَى فُلَانٍ فَقِيلَ لَهُمْ لَا تَقُولُوا هَذَا ، وَلَكِنْ قُولُوا : التّحِيّاتُ لِلّهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ فَوَائِدَ جَمّةً فِي مَعْنَى التّحِيّاتِ إلَى آخِرِ التّشَهّدِ . وَقَوْلُهَا : وَمِنْهُ السّلَامُ إنْ كَانَتْ أَرَادَتْ السّلَامَ التّحِيّةَ فَهُوَ خَبَرٌ يُرَادُ بِهِ التّشَكّرُ كَمَا تَقُولُ هَذِهِ النّعْمَةُ مِنْ اللّهِ وَإِنْ كَانَتْ أَرَادَتْ السّلَامَ بِالسّلَامَةِ مِنْ سُوءٍ فَهُوَ خَبَرٌ يُرَادُ بِهِ الْمَسْأَلَةُ كَمَا تَقُولُ مِنْهُ يُسْأَلُ الْخَيْرُ . وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ اللّغَةِ إلَى أَنّ السّلَامَ وَالسّلَامَةَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ كَالرّضَاعِ وَالرّضَاعَةِ وَلَوْ تَأَمّلُوا كَلَامَ الْعَرَبِ وَمَا تُعْطِيهِ هَاءُ التّأْنِيثِ مِنْ التّحْدِيدِ لَرَأَوْا أَنّ بَيْنَهُمَا فُرْقَانًا عَظِيمًا ، وَأَنّ الْجَلَالَ أَعَمّ مِنْ الْجَلَالَةِ بِكَثِيرِ وَأَنّ اللّذَاذَ أَبْلَغُ مِنْ اللّذَاذَةِ وَأَنّ الرّضَاعَةَ تَقَعُ عَلَى الرّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَالرّضَاعُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ السّلَامُ وَالسّلَامَةُ وَقِسْ عَلَى هَذَا : تَمْرَةً وَتَمْرًا ، وَلَقَاةً وَلَقًى ، وَضَرْبَةً وَضَرْبًا ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَتَسَمّى سُبْحَانَهُ بِالسّلَامِ لِمَا شَمِلَ جَمِيعَ الْخَلِيقَةِ ، وَعَمّهُمْ مِنْ السّلَامَةِ مِنْ الِاخْتِلَالِ وَالتّفَاوُتِ إذْ الْكُلّ جَارٍ عَلَى نِظَامِ الْحِكْمَةِ كَذَلِكَ سَلِمَ الثّقَلَانِ مِنْ جَوْرٍ وَظُلْمٍ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مِنْ قِبَلِهِ سُبْحَانَهُ فَإِنّمَا الْكُلّ مُدَبّرٌ بِفَضْلِ أَوْ عَدْلٍ أَمّا الْكَافِرُ فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ إلّا عَدْلُهُ وَأَمّا الْمُؤْمِنُ فَيَغْمُرُهُ فَضْلُهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ سَلَامٌ لَا حَيْفَ وَلَا ظُلْمَ وَلَا تَفَاوُتَ وَلَا اخْتِلَالَ وَمَنْ زَعَمَ مِنْ الْمُفَسّرِينَ لِهَذَا الِاسْمِ أَنّهُ تَسَمّى بِهِ لِسَلَامَتِهِ مِنْ الْآفَاتِ وَالْعُيُوبِ فَقَدْ أَتَى بِشَنِيعِ مِنْ الْقَوْلِ إنّمَا السّلَامُ مَنْ سُلِمَ مِنْهُ وَالسّالِمُ مَنْ سَلِمَ مِنْ غَيْرِهِ وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا } [ ص 420 ] { سَلَامٌ هِيَ } وَلَا يُقَالُ فِي الْحَائِطِ : سَالِمٌ مِنْ الْعَمَى ، وَلَا فِي الْحَجَرِ أَنّهُ سَالِمٌ مِنْ الزّكَامِ أَوْ مِنْ السّعَالِ إنّمَا يُقَالُ سَالِمٌ فِيمَنْ تَجُوزُ عَلَيْهِ الْآفَةُ وَيَتَوَقّعُهَا ثُمّ يَسْلَمُ مِنْهَا ، وَالْقُدّوسُ سُبْحَانَهُ مُتَعَالٍ عَنْ تَوَقّعِ الْآفَاتِ مُتَنَزّهٍ عَنْ جَوَازِ النّقَائِصِ وَمِنْ هَذِهِ صِفّتُهُ لَا يُقَالُ سَلِمَ وَلَا يَتَسَمّى بِسَالِمِ وَهُمْ قَدْ جَعَلُوا سَلَامًا بِمَعْنَى سَالِمٍ وَاَلّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوّلَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَكْثَرِ السّلَفِ وَالسّلَامَةُ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ خِصَالِ السّلَامِ .
[ ص 420 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَتْرَةً مِنْ ذَلِكَ حَتّى شَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَأَحْزَنَهُ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ الضّحَى ، يَقْسِمُ لَهُ رَبّهُ وَهُوَ الّذِي أَكْرَمَهُ بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ مَا وَدّعَهُ وَمَا قَلَاهُ فَقَالَ تَعَالَى : { وَالضّحَى وَاللّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدّعَكَ رَبّكَ وَمَا قَلَى } يَقُولُ مَا صَرَمَكَ فَتَرَكَك ، وَمَا أَبْغَضَك مُنْذُ أَحَبّك . { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى } أَيْ لِمَا عِنْدِي مِنْ مَرْجِعِك إلَيّ خَيْرٌ لَك مِمّا عَجّلْت لَك مِنْ الْكَرَامَةِ فِي الدّنْيَا . { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبّكَ فَتَرْضَى } مِنْ الْفَلْجِ فِي الدّنْيَا ، وَالثّوَابِ فِي الْآخِرَةِ { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى } يُعَرّفُهُ اللّهُ مَا ابْتَدَأَهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ فِي عَاجِلِ أَمْرِهِ وَمَنّهِ عَلَيْهِ فِي يُتْمِهِ وَضَلَالَتِهِ وَاسْتِنْقَاذِهِ مِنْ ذَلِكَ كُلّهِ بِرَحْمَتِهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَجَى : سَكَنَ . قَالَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ الثّقَفِيّ :
إذْ أَتَى مَوْهِنًا وَقَدْ نَامَ صَحْبِي ... وَسَجَا اللّيْلُ بِالظّلّامِ الْبَهِيمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَيُقَالُ لِلْعَيْنِ إذَا سَكَنَ طَرْفُهَا : سَاجِيَةً وَسَجَا طَرْفُهَا [ ص 421 ] قَالَ جَرِيرُ بْنُ الْخَطَفِيّ
وَلَقَدْ رَمَيْنَك - حِينَ رُحْنَ - بِأَعْيُنِ ... يَقْتُلْنَ مِنْ خَلَلِ السّتُورِ سَوَاجِي
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْعَائِلُ الْفَقِيرُ قَالَ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيّ
إلَى بَيْتِهِ يَأْوِي الضّرِيكُ إذَا شَتَا ... وَمُسْتَنْبَحٌ بَالِي الدّرِيسَيْنِ عَائِلُ
وَجَمْعُهُ عَالَةٌ وَعَيْلٌ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا - إنْ شَاءَ اللّهُ وَالْعَائِلُ أَيْضًا : الّذِي يَعُولُ الْعِيَالَ . وَالْعَائِلُ أَيْضًا : الْخَائِفُ . وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلّا تَعُولُوا } [ النّسَاءُ 3 ] . وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يُخِسّ شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا - إنْ شَاءَ اللّهُ - فِي مَوْضِعِهَا . وَالْعَائِلُ أَيْضًا : الشّيْءُ الْمُثْقَلُ الْمُعْيِي . يَقُولُ الرّجُلُ قَدْ عَالَنِي هَذَا الْأَمْرُ أَيْ أَثْقَلَنِي وَأَعْيَانِي ، قَالَ الْفَرَزْدَقُ :
تَرَى الْغُرّ الْجَحَاجِحَ مِنْ قُرَيْشٍ ... إذَا مَا الْأَمْرُ فِي الْحَدَثَانِ عَالَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص 422 ] { فَأَمّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمّا السّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } أَيْ لَا تَكُنْ جَبّارًا وَلَا مُتَكَبّرًا ، وَلَا فَحّاشًا فَظّا عَلَى الضّعَفَاءِ مِنْ عِبَادِ اللّهِ . { وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ } أَيْ بِمَا جَاءَك مِنْ اللّهِ مِنْ نِعْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ مِنْ النّبُوّةِ فَحَدّثْ أَيْ اُذْكُرْهَا ، وَادْعُ إلَيْهَا ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَذْكُرُ مَا أَنْعَمَ اللّهُ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعِبَادِ بِهِ مِنْ النّبُوّةِ سِرّا إلَى مَنْ يَطْمَئِنّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ .
Sفَتْرَةَ الْوَحْيِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ فَتْرَةَ الْوَحْيِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلَمْ يَذْكُرْ مِقْدَارَ مُدّةِ الْفَتْرَةِ وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمُسْنَدَةِ أَنّهَا كَانَتْ سَنَتَيْنِ وَنِصْفِ سَنَةٍ فَمِنْ هُنَا يَتّفِقُ مَا قَالَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنّ مُكْثَهُ بِمَكّةَ كَانَ عَشَرَ سِنِينَ وَقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ : ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَ قَدْ اُبْتُدِئَ بِالرّؤْيَا الصّادِقَةِ سِتّةَ أَشْهُرٍ فَمَنْ عَدّ مُدّةَ الْفَتْرَةِ وَأَضَافَ إلَيْهَا الْأَشْهُرَ السّتّةَ كَانَتْ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ ، وَمَنْ عَدّهَا مِنْ حِينِ حَمِيَ الْوَحْيِ وَتَتَابَعَ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ كَانَتْ عَشْرَ سِنِينَ . وَوَجْهٌ آخَرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا ، وَهُوَ أَنّ الشّعْبِيّ قَالَ وَكّلَ إسْرَافِيلَ بِنُبُوّةِ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثَلَاثَ سِنِينَ ثُمّ جَاءَهُ بِالْقُرْآنِ جِبْرِيلُ وَقَدْ قَدّمْنَا هَذَا الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ الِاسْتِيعَابِ وَإِذَا صَحّ فَهُوَ أَيْضًا وَجْهٌ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 421 ]
شَرْحُ شِعْرِ الْهُذَلِيّ وَالْفَرَزْدَقِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ أَبِي خِرَاشٍ خُوَيْلِدِ بْنِ مُرّةَ الْهُذَلِيّ
إلَى بَيْتِهِ يَأْوِي الضّرِيكُ إذَا شَتَا ... وَمُسْتَنْبَحٌ بَالِي الدّرِيسَيْنِ عَائِلُ
الضّرِيكُ الضّعِيفُ الْمُضْطَرّ وَالْمُسْتَنْبَحُ الّذِي يَضِلّ عَنْ الطّرِيقِ فِي ظُلْمَةِ اللّيْلِ فَيَنْبَحُ لِيَسْمَعَ نُبَاحَ كَلْبٍ وَالدّرِيسُ الثّوْبُ الْخَلَقُ وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ :
تَرَى الْغُرّ الْجَحَاجِحَ مِنْ قُرَيْشٍ ... إذَا مَا الْأَمْرُ فِي الْحَدَثَانِ عَالَا
قِيَامًا يَنْظُرُونَ إلَى سَعِيدٍ ... كَأَنّهُمْ يَرَوْنَ بِهِ هِلَالًا
يَعْنِي : سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِي بْنِ أُمَيّةَ ، وَيُقَال : إنّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ حِينَ سَمِعَ الْفَرَزْدَقَ يُنْشِدُ هَذَا الْبَيْتَ حَسَدَهُ فَقَالَ لَهُ قُلْ قُعُودًا يَنْظُرُونَ إلَى سَعِيدٍ يَا أَبَا فِرَاسٍ . فَقَالَ لَهُ الْفَرَزْدَقُ : وَاَللّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ إلّا قِيَامًا عَلَى الْأَقْدَامِ . وَذَكَرَ سَبَبَ نُزُولِ سُورَةِ الضّحَى ، وَأَنّ ذَلِكَ لِفَتْرَةِ الْوَحْيِ عَنْهُ وَخَرّجَ الْبُخَارِيّ مِنْ طَرِيقِ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ أَنْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 422 ] فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ إنّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُك قَدْ تَرَكَك ، فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى سُورَةَ الضّحَى .
ابْتِدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الصّلَاةِ وَأَوْقَاتِهَا
[ ص 423 ] فَصَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَالسّلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ اُفْتُرِضَتْ الصّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوّلَ مَا اُفْتُرِضَتْ عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ كُلّ صَلَاةٍ ثُمّ إنّ اللّهَ تَعَالَى أَتَمّهَا فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا ، وَأَقَرّهَا فِي السّفَرِ عَلَى فَرْضِهَا الْأَوّلِ رَكْعَتَيْنِ [ ص 424 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ الصّلَاةَ حِينَ اُفْتُرِضَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكّةَ ، فَهَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ عَيْنٌ فَتَوَضّأَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ الطّهُورُ لِلصّلَاةِ ثُمّ تَوَضّأَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا رَأَى جِبْرِيلُ تَوَضّأَ ثُمّ قَامَ بِهِ جِبْرِيلُ فَصَلّى بِهِ وَصَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِصَلَاتِهِ ثُمّ انْصَرَفَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَجَاءَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَدِيجَةَ فَتَوَضّأَ لَهَا لِيُرِيَهَا كَيْفَ الطّهُورُ لِلصّلَاةِ كَمَا أَرَاهُ جِبْرِيلُ فَتَوَضّأَتْ كَمَا تَوَضّأَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ ثُمّ صَلّى بِهَا رَسُولُ اللّهِ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ كَمَا صَلّى بِهِ جِبْرِيلُ فَصَلّتْ بِصَلَاتِهِ [ ص 425 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ مَوْلَى بَنِي تَمِيمٍ ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - وَكَانَ نَافِعٌ كَثِيرُ الرّوَايَةِ - عَنْ ابْنِ عَبّاسَ قَالَ لَمّا اُفْتُرِضَتْ الصّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، فَصَلّى بِهِ الظّهْرَ حِينَ مَالَتْ الشّمْسُ ثُمّ صَلّى بِهِ الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلّهُ مِثْلَهُ ثُمّ صَلّى بِهِ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتْ الشّمْسُ ثُمّ صَلّى بِهِ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ الشّفَقُ ثُمّ صَلّى بِهِ الصّبْحَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ ثُمّ جَاءَهُ فَصَلّى بِهِ الظّهْرَ مِنْ غَد حِينَ كَانَ ظِلّهُ مِثْلَهُ ثُمّ صَلّى بِهِ الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلّهُ مِثْلِيّهُ ثُمّ صَلّى بِهِ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتْ الشّمْسُ لِوَقْتِهَا بِالْأَمْسِ ثُمّ صَلّى بِهِ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللّيْلِ الْأَوّلُ ثُمّ صَلّى بِهِ الصّبْحَ مُسْفِرًا غَيْرَ مُشْرِقٍ ثُمّ قَالَ يَا مُحَمّدُ الصّلَاةُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاتِك الْيَوْمَ ، وَصَلَاتُك بِالْأَمْسِ [ ص 426 ]
Sفَرْضُ الصّلَاةِ
[ ص 423 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ فُرِضَتْ الصّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرّتْ صَلَاةُ السّفَرِ وَذَكَرَ الْمُزَنِيّ أَنّ الصّلَاةَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ كَانَتْ صَلَاةً قَبْلَ غُرُوبِ الشّمْسِ وَصَلَاةً قَبْلَ طُلُوعِهَا ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بِالْعَشِيّ وَالْإِبْكَارِ } [ غَافِر : 55 ] . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلّامٍ مِثْلَهُ وَقَالَ كَانَ الْإِسْرَاءُ وَفُرِضَ الصّلَوَاتُ الْخَمْسُ قَبْلَ الْهُجْرِ بِعَامِ فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ قَوْلُ عَائِشَةَ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ أَيْ زِيدَ فِيهَا حِينَ أُكْمِلَتْ خَمْسًا ، فَتَكُونُ الزّيَادَةُ فِي الرّكَعَاتِ وَفِي عَدَدِ الصّلَوَاتِ وَيَكُونُ قَوْلُهَا : فُرِضَتْ الصّلَاةُ رَكْعَتَيْن أَيْ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ وَقَدْ قَالَ بِهَذَا طَائِفَةٌ مِنْ السّلَفِ مِنْهُمْ ابْنُ عَبّاسٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهَا : فُرِضَتْ الصّلَاةُ أَيْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ حِينَ فُرِضَتْ الْخَمْسُ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيّ عَنْ [ ص 424 ] عَائِشَةَ وَمَنْ رَوَاهُ هَكَذَا الْحَسَنُ وَالشّعْبِيّ أَنّ الزّيَادَةَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ كَانَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِعَامِ أَوْ نَحْوِهِ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ مِنْ رِوَايَةِ مُعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ فُرِضَتْ الصّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ هَاجَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا هَكَذَا لَفْظُ حَدِيثِهِ وَهَاهُنَا سُؤَالٌ يُقَالُ هَلْ هَذِهِ الزّيَادَةُ فِي الصّلَاةِ نُسِخَ أَمْ لَا ؟ فَيُقَالُ أَمّا زِيَادَةُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ رَكْعَةٍ إلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ الرّكُوعِ حَتّى تَكُونَ صَلَاةً وَاحِدَةً فَنُسِخَ لِأَنّ النّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ وَقَدْ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْإِجْزَاءِ مِنْ الرّكْعَتَيْنِ وَصَارَ مَنْ سَلّمَ مِنْهُمَا عَامِدًا أَفْسَدَهُمَا ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمّ صَلَاتَهُ بَعْدَمَا سَلّمَ وَتَحَدّثَ عَامِدًا لَمْ يَجُزْهُ إلّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الصّلَاةَ مِنْ أَوّلِهَا ، فَقَدْ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْإِجْزَاءِ بِالنّسْخِ وَأَمّا الزّيَادَةُ فِي عَدَدِ الصّلَوَاتِ حِينَ أُكْمِلَتْ خَمْسًا بَعْدَمَا كَانَتْ اثْنَتَيْنِ فَيُسَمّى نَسْخًا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنّ الزّيَادَةَ عِنْدَهُ عَلَى النّصّ نَسْخٌ وَجُمْهُورُ الْمُتَكَلّمِينَ عَلَى أَنّهُ لَيْسَ بِنَسْخِ وَلِاحْتِجَاجِ الْفَرِيقَيْنِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا .
الْوُضُوءُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ بِأَعْلَى مَكّةَ حِينَ هَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فَأَنْبَعَ الْمَاءَ وَعَلّمَهُ الْوُضُوءَ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَقْطُوعٌ فِي السّيرَةِ وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ أَصْلًا فِي الْأَحْكَامِ الشّرْعِيّةِ وَلَكِنّهُ قَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ - يَرْفَعُهُ - غَيْرَ أَنّ هَذَا الْحَدِيثَ الْمُسْنَدَ يَدُورُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ لَهِيعَةَ وَقَدْ ضَعُفَ وَلَمْ يُخَرّجْ عَنْهُ مُسْلِمٌ وَلَا الْبُخَارِيّ ؛ لِأَنّهُ يُقَالُ إنّ كُتُبَهُ احْتَرَقَتْ فَكَانَ يُحَدّثُ مِنْ حِفْظِهِ وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يُحْسِنُ فِيهِ الْقَوْلَ وَيُقَالُ إنّهُ [ ص 425 ] عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، فَيُقَالُ إنّ الثّقَةَ هَاهُنَا ابْنُ لَهِيعَةَ وَيُقَالُ إنّ ابْنَ وَهْبٍ حَدّثَ بِهِ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ وَحَدِيثُ ابْنِ لَهِيعَةَ هَذَا ، أَخْبَرَنَا بِهِ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ مُحَمّدُ بْنُ الْعَرَبِيّ قَالَ نا أَبُو الْمُطّهِرِ سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي الرّجَاءِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْحَافِظُ قَالَ نا أَبُو بَكْرٍ أَحَمْدُ بْنُ يُوسُفَ الْعَطّارُ قَالَ نا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ ، قَالَ نا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ حَدّثَنِي أَبِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي أَوّلِ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، فَعَلّمَهُ الْوُضُوءَ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ الْوُضُوءِ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَنَضَحَ بِهَا فَرْجَهُ وَحَدّثَنَا بِهِ أَيْضًا أَبُو بَكْرٍ مُحَمّدُ بْنُ طَاهِرٍ ، عَنْ أَبِي عَلِيّ الْغَسّانِيّ عَنْ أَبِي عُمَرَ النّمَرِيّ عَنْ أَحَمْدَ بْنِ قَاسِمٍ عَنْ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّمِ فَالْوُضُوءُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مَكّيّ بِالْفَرْضِ مَدَنِيّ بِالتّلَاوَةِ لِأَنّ آيَةَ الْوُضُوءِ مَدَنِيّةٌ وَإِنّمَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى آيَةَ التّيَمّمِ وَلَمْ تَقُلْ آيَةَ الْوُضُوءِ وَهِيَ هِيَ لِأَنّ الْوُضُوءَ قَدْ كَانَ مَفْرُوضًا قَبْلَ غَيْرَ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا يُتْلَى ، حَتّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ .
إمَامَةُ جِبْرِيلَ
وَذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ فِي إمَامَةِ جِبْرِيلَ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَتَعْلِيمِهِ إيّاهُ أَوْقَاتَ الصّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْيَوْمَيْنِ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَذْكُرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ [ ص 426 ] كَانَتْ فِي الْغَدِ مِنْ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا نُبّئَ بِخَمْسَةِ أَعْوَامٍ وَقَدْ قِيلَ إنّ الْإِسْرَاءَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِعَامِ وَنِصْفٍ وَقِيلَ بِعَامِ فَذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي بَدْءِ نُزُولِ الْوَحْيِ وَأَوّلِ أَحْوَالِ الصّلَاةِ .
ذَكَرَ أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
أَوّلُ ذَكَرٍ أَسْلَمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ كَانَ أَوّلَ ذَكَرٍ مِنْ النّاسِ آمَنَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَصَلّى مَعَهُ وَصَدّقَ بِمَا جَاءَهُ مِنْ اللّهِ تَعَالَى : عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ - رِضْوَانُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - وَهُوَ يَوْمئِذٍ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ . وَكَانَ مِمّا أَنْعَمَ اللّهُ عَلَى عَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرِ بْنِ أَبِي الْحَجّاجِ قَالَ كَانَ مِنْ نِعْمَةِ اللّهِ عَلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَمِمّا صَنَعَ اللّهُ لَهُ وَأَرَادَهُ بِهِ مِنْ الْخَيْرِ أَنّ قُرَيْشًا أَصَابَتْهُمْ أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ ذَا عِيَالٍ كَثِيرٍ فَقَالَ رَسُولُ [ ص 427 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِلْعَبّاسِ عَمّهِ وَكَانَ مِنْ أَيْسَرِ بَنِي هَاشِمٍ : يَا عَبّاسُ إنّ أَخَاك أَبَا طَالِبٍ كَثِيرُ الْعِيَالِ وَقَدْ أَصَابَ النّاسُ مَا تَرَى مِنْ هَذِهِ الْأَزِمّةِ فَانْطَلِقْ بِنَا إلَيْهِ فَلْنُخَفّفْ عَنْهُ مِنْ عِيَالِهِ آخُذُ مِنْ بَنِيهِ رَجُلًا ، وَتَأْخُذُ أَنْتَ رَجُلًا ، فَنَكِلُهُمَا عَنْهُ فَقَالَ الْعَبّاسُ نَعَمْ فَانْطَلَقَا ، حَتّى أَتَيَا أَبَا طَالِبٍ فَقَالَا لَهُ إنّا نُرِيدُ أَنْ نُخَفّفَ عَنْك مِنْ عِيَالِك حَتّى يَنْكَشِفَ عَنْ النّاسِ مَا هُمْ فِيهِ فَقَالَ لَهُمَا أَبُو طَالِبٍ إذَا تَرَكْتُمَا لِي عَقِيلًا ، فَاصْنَعَا مَا شِئْتُمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ عَقِيلًا وَطَالِبًا . فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّا ، فَضَمّهُ إلَيْهِ وَأَخَذَ الْعَبّاسُ جَعْفَرًا فَضَمّهُ إلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ عَلِيّ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى بَعَثَهُ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَبِيّا ، فَاتّبَعَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَآمَنَ بِهِ وَصَدّقَهُ وَلَمْ يَزَلْ جَعْفَرٌ عِنْدَ الْعَبّاسِ حَتّى أَسْلَمَ وَاسْتَغْنَى عَنْهُ .
أَبُو طَالِبٍ يَكْتَشِفُ إيمَانَ عَلِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا حَضَرَتْ الصّلَاةُ خَرَجَ إلَى شِعَابِ مَكّةَ ، وَخَرَجَ مَعَهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ مُسْتَخْفِيًا مِنْ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ وَمِنْ جَمِيعِ أَعْمَامِهِ وَسَائِرِ قَوْمِهِ فَيُصَلّيَانِ الصّلَوَاتِ فِيهَا ، فَإِذَا أَمْسَيَا رَجَعَا ، فَمَكَثَا كَذَلِكَ إلَى مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَمْكُثَا . ثُمّ إنّ أَبَا طَالِبٍ عَثَرَ عَلَيْهِمَا يَوْمًا وَهُمَا يُصَلّيَانِ فَقَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا بْنَ أَخِي مَا هَذَا الدّينُ الّذِي أَرَاك تَدِينُ بِهِ ؟ قَالَ أَيْ عَمّ هَذَا دِينُ اللّهِ ، وَدِينُ مَلَائِكَتِهِ وَدِينُ رُسُلِهِ وَدِينُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ " - أَوْ كَمَا قَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " بَعَثَنِي اللّهُ بِهِ رَسُولًا إلَى الْعِبَادِ وَأَنْتَ أَيْ عَمّ أَحَقّ مَنْ بَذَلْت لَهُ النّصِيحَةَ وَدَعَوْته إلَى الْهُدَى ، وَأَحَقّ مَنْ أَجَابَنِي إلَيْهِ وَأَعَانَنِي عَلَيْهِ أَوْ كَمَا قَالَ . فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ أَيْ ابْنَ أَخِي ، إنّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُفَارِقَ دِينَ آبَائِي ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَلَكِنْ وَاَللّهِ لَا يَخْلُصُ إلَيْك بِشَيْءِ تَكْرَهُهُ مَا بَقِيت . وَذَكَرُوا أَنّهُ قَالَ لِعَلِيّ أَيْ بُنَيّ مَا هَذَا الدّينُ الّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ يَا أَبَتْ آمَنْت بِاَللّهِ وَبِرَسُولِ اللّهِ وَصَدّقْته بِمَا جَاءَ بِهِ وَصَلّيْت مَعَهُ لِلّهِ وَاتّبَعْته . فَزَعَمُوا أَنّهُ قَالَ لَهُ أَمّا إنّهُ لَمْ يَدَعْك إلّا إلَى خَيْرٍ فَالْزَمْهُ .
Sأَوّلُ مَنْ آمَنَ
وَذَكَرَ أَنّ أَوّلَ ذَكَرٍ آمَنَ بِاَللّهِ عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَسَيَأْتِي قَوْلُ مَنْ قَالَ أَوّلُ مَنْ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنْ ذَلِكَ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - مِنْ الرّجَالِ لِأَنّ عَلِيّا كَانَ حِينَ أَسْلَمَ صَبِيّا لَمْ يُدْرِكْ وَلَا يَخْتَلِفُ أَنّ خَدِيجَةَ هِيَ أَوّلُ مَنْ آمَنَ بِاَللّهِ وَصَدّقَ رَسُولَهُ وَكَانَ عَلِيّ أَصْغَرَ مِنْ جَعْفَرٍ بِعَشْرِ سِنِينَ وَجَعْفَرٌ أَصْغَرُ مِنْ عَقِيلٍ بِعَشْرِ سِنِينَ وَعَقِيلٌ أَصْغَرُ مِنْ طَالِبٍ بِعَشْرِ سِنِينَ وَكُلّهُمْ أَسْلَمَ إلّا طَالِبًا اخْتَطَفَتْهُ الْجِنّ ، فَذَهَبَ وَلَمْ يُعْلَمْ بِإِسْلَامِهِ وَأُمّ عَلِيّ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ وَقَدْ أَسْلَمَتْ وَهِيَ إحْدَى الْفَوَاطِمِ الّتِي قَالَ فِيهِنّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ اقْسِمْهُ بَيْنَ الْفَوَاطِمِ الثّلَاثِ يَعْنِي ثَوْبَ حَرِيرٍ قَالَ الْقُتَبِيّ . يَعْنِي : [ ص 427 ] فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدٍ ، وَلَا أَدْرِي مَنْ الثّالِثَةُ وَرَوَاهُ عَبْدُ الْغَنِيّ بْنُ سَعِيدٍ اقْسِمْهُ بَيْنَ الْفَوَاطِمِ الْأَرْبَعِ وَذَكَرَ فَاطِمَةَ بِنْتَ حَمْزَةَ مَعَ اللّتَيْنِ تَقَدّمَتَا ، وَقَالَ لَا أَدْرِي مَنْ الرّابِعَةُ قَالَهُ فِي كِتَابِ الْغَوَامِضِ وَالْمُبْهَمَاتِ .
إسْلَامُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ثَانِيًا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 428 ] ثُمّ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ امْرِئِ الْقِيسِ الْكَلْبِيّ ، مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ أَوّلَ ذَكَرٍ أَسْلَمَ ، وَصَلّى بَعْدَ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ امْرِئِ الْقِيسِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ عَوْفِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ زَيْدِ اللّاتِ بْنِ رُفَيْدَة بْنِ ثَوْرِ بْنِ كَلْبِ بْنِ وَبْرَةَ . وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ قَدِمَ مِنْ الشّامِ بِرَقِيقِ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَصِيفٌ . فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ عَمّتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَهِيَ يَوْمئِذٍ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهَا : اخْتَارِي يَا عَمّةُ أَيّ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانِ شِئْت فَهُوَ لَك ، فَاخْتَارَتْ زَيْدًا فَأَخَذَتْهُ فَرَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَهَا ، فَاسْتَوْهَبَهُ مِنْهَا ، فَوَهَبَتْهُ لَهُ فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَبَنّاهُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ . وَكَانَ أَبُوهُ حَارِثَةُ قَدْ جَزَعَ عَلَيْهِ جَزَعًا شَدِيدًا ، وَبَكَى عَلَيْهِ حِينَ فَقَدَهُ فَقَالَ [ ص 429 ]
بَكَيْت عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلَ ... أَحَيّ ، فَيُرْجَى أَمْ أَتَى دُونَهُ الْأَجَلْ
فَوَاَللّهِ مَا أَدْرِي ، وَإِنّي لَسَائِلٌ ... أَغَالَك بَعْدِي السّهْلُ أَمْ غَالَك الْجَبَلْ
وَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ لَك الدّهْرُ أَوْبَةٌ ... فَحَسْبِي مِنْ الدّنْيَا رُجُوعُك لِي بَجَلْ
تُذَكّرُنِيهِ الشّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا ... وَتَعْرِضُ ذِكْرَاه إذَا غَرْبهَا أَفَلْ
وَإِنْ هَبّتْ الْأَرْوَاحُ هَيّجْنَ ذِكْرَهُ ... فَيَا طُولُ مَا حُزْنِي عَلَيْهِ وَمَا وَجَلْ
سَأُعْمِلُ نَصّ الْعِيسِ فِي الْأَرْضِ جَاهِدًا ... وَلَا أَسْأَمُ التّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمُ الْإِبِلْ
حَيَاتِي أَوْ تَأْتِي عَلَيّ مَنِيّتِي ... فَكُلّ امْرِئِ فَانٍ وَإِنْ غَرّهُ الْأَمَلْ
ثُمّ قَدِمَ عَلَيْهِ - وَهُوَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إنْ شِئْت فَأَقِمْ عِنْدِي ، وَإِنْ شِئْت فَانْطَلِقْ مَعَ أَبِيك فَقَالَ بَلْ أُقِيمُ عِنْدَك فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَتّى بَعَثَهُ اللّهُ فَصَدّقَهُ وَأَسْلَمَ ، وَصَلّى مَعَهُ فَلَمّا أَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } [ الْأَحْزَابُ : 5 ] قَالَ أَنَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ .
Sإسْلَامُ زَيْدٍ
فَصْلٌ
[ ص 428 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ، وَقَالَ فِيهِ حَارِثَةُ بْنُ شُرَحْبِيلَ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ شَرَاحِيلُ قَالَ أَصْحَابُ النّسَبِ كَمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ ، وَرُفِعَ نَسَبُهُ إلَى كَلْبِ بْنِ وَبْرَةَ وَوَبْرَةُ هُوَ ابْنُ ثَعْلَبِ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ ، وَأُمّ زَيْدٍ سُعْدَى بِنْتُ ثَعْلَبَةَ [ بْنِ عَبْدِ عَامِرٍ ] مِنْ بَنِي مَعْنٍ مِنْ طَيّءٍ ، وَكَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ بِزَيْدِ لِتُزِيرَهُ أَهْلَهَا ، فَأَصَابَتْهُ خَيْلٌ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ بْنِ جِسْرٍ ، فَبَاعُوهُ بِسُوقِ حُبَاشَةَ وَهُوَ مِنْ أَسْوَاقِ الْعَرَبِ ، وَزَيْدٌ يَوْمُئِذٍ ابْنُ ثَمَانِيّةِ أَعْوَامٍ ثُمّ كَانَ مِنْ حَدِيثِهِ مَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَلَمّا بَلَغَ زَيْدًا قَوْلُ أَبِيهِ بَكَيْت عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلْ . الْأَبْيَاتَ . قَالَ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ الرّكْبَانُ
أَحِنّ إلَى أَهْلِي ، وَإِنْ كُنّ نَائِيًا ... بِأَنّي قَعِيدُ الْبَيْتِ عِنْدَ الْمَشَاعِرِ
فَكُفّوا مِنْ الْوَجْدِ الّذِي قَدْ شَجَاكُمْ ... وَلَا تُعْمِلُوا فِي الْأَرْضِ نَصّ الْأَبَاعِرِ
فَإِنّي بِحَمْدِ اللّهِ فِي خَيْرِ أُسْرَةٍ ... كِرَامِ مَعَدّ كَابِرًا بَعْدَ كَابِرِ
[ ص 429 ] أَبَاهُ قَوْلُهُ فَجَاءَ هُوَ وَعَمّهُ كَعْبٌ حَتّى وَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَكّةَ وَذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَقَالَا لَهُ يَا بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، يَا بْنَ سَيّدِ قَوْمِهِ أَنْتُمْ جِيرَانُ اللّهِ وَتَفُكّونَ الْعَانِيَ وَتُطْعِمُونَ الْجَائِعَ وَقَدْ جِئْنَاكُمْ فِي ابْنِنَا عَبْدِك ، لِتُحْسِنَ إلَيْنَا فِي فِدَائِهِ فَقَالَ " أَوَغَيْرُ ذَلِكَ " ؟ فَقَالَا : وَمَا هُوَ ؟ فَقَالَ اُدْعُوهُ وَأُخَيّرُهُ فَإِنْ اخْتَارَكُمَا فَذَاكَ وَإِنْ اخْتَارَنِي فَوَاَللّهِ مَا أَنَا بِاَلّذِي أَخْتَارُ عَلَى مَنْ اخْتَارَنِي أَحَدًا " ، فَقَالَا لَهُ قَدْ زِدْت عَلَى النّصْفِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَمّا جَاءَ قَالَ " مِنْ هَذَانِ " ؟ فَقَالَ هَذَا أَبِي حَارِثَةُ بْنُ شَرَاحِيلَ وَهَذَا عَمّي : كَعْبُ بْنُ شَرَاحِيلَ ، فَقَالَ " قَدْ خَيّرْتُك إنْ شِئْت ذَهَبْت مَعَهُمَا ، وَإِنْ شِئْت أَقَمْت مَعِي " ، فَقَالَ بَلْ أُقِيمُ مَعَك ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ يَا زَيْدُ أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيّةَ [ عَلَى الْحُرّيّةِ وَ ] عَلَى أَبِيك وَأُمّك وَبَلَدِك وَقَوْمِك ؟ فَقَالَ إنّي قَدْ رَأَيْت مِنْ هَذَا الرّجُلِ شَيْئًا ، وَمَا أَنَا بِاَلّذِي أُفَارِقُهُ أَبَدًا فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِيَدِهِ وَقَامَ بِهِ إلَى الْمَلَإِ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقَالَ " اشْهَدُوا أَنّ هَذَا ابْنِي ، وَارِثًا وَمَوْرُوثًا فَطَابَتْ نَفْسُ أَبِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ وَكَانَ يُدْعَى : زَيْدَ بْنِ مُحَمّدٍ حَتّى أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } [ الْأَحْزَابُ : 5 ] . وَفِي الشّعْرِ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ لِحَارِثَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ
حَيَاتِي وَإِنْ تَأْتِي عَلَيّ مُنْيَتِي ... فَكُلّ امْرِئِ فَانٍ وَإِنْ غَرّهُ الْأَمَلْ
سَأُوصِي بِهِ قَيْسًا وَعَمْرًا كِلَيْهِمَا ... وَأُوصِي يَزِيدَ ثُمّ أُوصِي بِهِ جَبَلْ
يَعْنِي : يَزِيدَ بْنَ كَعْبِ [ بْنِ شَرَاحِيلَ ] وَهُوَ ابْنُ عَمّ زَيْدٍ وَأَخُوهُ [ لِأُمّهِ ] وَيَعْنِي بِجَبَلِ جَبَلَةَ بْنَ حَارِثَةَ أَخَا زَيْدٍ وَكَانَ أَسَنّ مِنْهُ . سُئِلَ جَبَلَةُ : مَنْ أَكْبَرُ أَنْتَ أَمْ زَيْدٌ ؟ فَقَالَ زَيْدًا أَكْبَرُ مِنّي ، وَأَنَا وُلِدْت قَبْلَهُ يُرِيدُ أَنّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ بِسَبْقِهِ لِلْإِسْلَامِ .
إسْلَامُ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
[ ص 430 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ ، وَاسْمُهُ عَتِيقٌ وَاسْمُ أَبِي قُحَافَةَ عُثْمَانُ بْنُ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدُ اللّهِ وَعَتِيقٌ لَقَبٌ لِحُسْنِ وَجْهِهِ وَعِتْقِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَظْهَرَ إسْلَامَهُ وَدَعَا إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ . وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مُؤَلّفًا لِقَوْمِهِ مُحَبّبًا سَهْلًا ، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشِ وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِهَا ، وَبِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرّ وَكَانَ رَجُلًا تَاجِرًا ، ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ وَيَأْلَفُونَهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرِ لِعِلْمِهِ وَتِجَارَتِهِ وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ فَجَعَلَ يَدْعُو إلَى اللّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ مِمّنْ يَغْشَاهُ وَيَجْلِسُ إلَيْهِ [ ص 430 ]
Sإسْلَامُ أَبِي بَكْرٍ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ إسْلَامَ أَبِي بَكْرٍ وَنَسَبَهُ قَالَ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ وَسُمّيَ عَتِيقًا لِعَتَاقَةِ وَجْهِهِ وَالْعَتِيقُ : الْحَسَنُ كَأَنّهُ أُعْتِقَ مِنْ الذّمّ وَالْعَيْبِ - وَقِيلَ سُمّيَ عَتِيقًا ؛ لِأَنّ أُمّهُ كَانَتْ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ فَنَذَرَتْ إنْ وُلِدَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُسَمّيَهُ عَبْدَ الْكَعْبَةِ ، وَتَتَصَدّقُ بِهِ عَلَيْهَا ، فَلَمّا عَاشَ وَشَبّ سُمّيَ عَتِيقًا ، كَأَنّهُ أُعْتِقَ مِنْ الْمَوْتِ وَكَانَ يُسْمَى أَيْضًا : عَبْدَ الْكَعْبَةِ إلَى أَنْ أَسْلَمَ ، فَسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَبْدَ اللّهِ وَقِيلَ سُمّيَ عَتِيقًا ؛ لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لَهُ حِينَ أَسْلَمَ : أَنْتَ عَتِيقٌ مِنْ النّارِ وَقِيلَ كَانَ لِأَبِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ مُعْتَقٌ وَمُعَيْتِقٌ وَعَتِيقٌ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ وَسُئِلَ ابْنُ مَعِينٍ عَنْ أُمّ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أُمّ الْخَيْرِ عِنْدَ اسْمِهَا ، وَهِيَ أُمّ الْخَيْرِ بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَمْرِو بِنْتِ عَمّ أَبِي قُحَافَةَ وَاسْمُهَا : سَلْمَى ، وَتُكَنّى : أُمّ الْخَيْرِ وَهِيَ مِنْ الْمُبَايَعَاتِ وَأَمّا أَبُوهُ عُثْمَانُ أَبُو قُحَافَةَ فَأُمّهُ قَيْلَةُ - بِيَاءِ بِاثْنَتَيْنِ مَنْقُوطَةٍ مِنْ أَسْفَلَ - بِنْتُ أَذَاةَ بْنُ رِيَاحِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رَزَاحِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ . وَامْرَأَةُ أَبِي بَكْرٍ أُمّ ابْنِهِ [ ص 431 ] قَتْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزّى بِتَاءِ مَنْقُوطَةٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقٍ وَقِيلَ فِيهَا : بِنْتُ عَبْدِ أَسْعَدَ بْنِ نَصْرِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ وَهُوَ قَوْلُ الزّبَيْرِ وَذَكَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَمَا عَكَمَ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْ مَا تَرَدّدَ وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ تَوْفِيقِ اللّهِ إيّاهُ - فِيمَا ذَكَرَ - رُؤْيَا رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنّهُ رَأَى الْقَمَرَ يَنْزِلُ إلَى مَكّةَ ، ثُمّ رَآهُ قَدْ تَفَرّقَ عَلَى جَمِيعِ مَنَازِلِ مَكّةَ وَبُيُوتِهَا ، فَدَخَلَ فِي كُلّ بَيْتٍ مِنْهُ شُعْبَةٌ ، ثُمّ كَأَنّهُ جُمِعَ فِي حِجْرِهِ فَقَصّهَا عَلَى بَعْضِ الْكِتَابِيّينَ فَعَبَرَهَا لَهُ بِأَنّ النّبِيّ الْمُنْتَظَرَ الّذِي قَدْ أَظَلّ زَمَانُهُ تَتْبَعُهُ وَتَكُونُ أَسْعَدَ النّاسِ بِهِ فَلَمّا دَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَتَوَقّفْ وَفِي مَدْحِ حَسّانَ الّذِي قَالَهُ فِيهِ وَسَمِعَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ أَوّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الرّجَالِ وَفِيهِ
خَيْرُ الْبَرّيّةِ أَتْقَاهَا ، وَأَفْضَلَهَا ... بَعْدَ النّبِيّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا
وَالثّانِي التّالِي الْمَحْمُودُ مَشْهَدُهُ ... وَأَوّلُ النّاسِ قَدَمَا صَدّقَ الرّسُلَا
الّذِينَ أَسْلَمُوا بِدَعْوَةِ أَبِي بَكْرٍ
فَأَسْلَمَ [ ص 431 ] عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِب ِ ، وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَسَعْدُ بْنِ أَبِي وَقَاصّ ، وَاسْمُ أَبِي وَقَاصّ مَالِكُ بْنُ أُهَيْب بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، فَجَاءَ بِهِمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ اسْتَجَابُوا لَهُ فَأَسْلَمُوا وَصَلّوْا ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَقُولُ فِيمَا بَلَغَنِي : مَا دَعَوْت أَحَدًا إلَى الْإِسْلَامِ إلّا كَانَتْ فِيهِ عِنْدَهُ كَبْوَةٌ وَنَظَرٌ وَتَرَدّدٌ إلّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ مَا عَكَمَ عَنْهُ حِينَ ذَكَرْته لَهُ وَمَا تَرَدّدَ فِيهِ [ ص 432 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " بِدُعَائِهِ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ عَكَمَ تَلَبّثَ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : وَانْظَاع وَثّابٌ بِهَا وَمَا عَكَمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَكَانَ هَؤُلَاءِ النّفَرُ الثّمَانِيّةُ الّذِينَ سَبَقُوا النّاسَ بِالْإِسْلَامِ فَصَلّوْا وَصَدّقُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا جَاءَهُ مِنْ اللّهِ . ثُمّ أَسْلَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْجَرّاحِ بْنِ هِلَالِ بْنِ أُهَيْب بْنِ ضَبّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ . وَأَبُو سَلَمَةَ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَالْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ . وَاسْمُ أَبِي الْأَرْقَمِ عَبْدُ مَنَافِ بْنِ أَسَدٍ - وَكَانَ أَسَدٌ يُكَنّى : أَبَا جُنْدُبِ - بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَأَخَوَاهُ قُدَامَة وَعَبْدُ اللّهِ ابْنَا مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبٍ . وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْل بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِيَاحِ بْنِ رَزَاحِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطّابِ بْنِ نُفَيْل بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِيَاحِ بْنِ رَزَاحِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، أُخْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ . وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ . وَعَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ، وَهِيَ يَوْمئِذٍ صَغِيرَةٌ . وَخَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : خَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، وَيُقَالُ هُوَ مِنْ خُزَاعَةَ [ ص 433 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ ، أَخُو سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ . وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شَمْخِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلَةَ بْنِ كَاهِلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ وَمَسْعُودُ بْنُ الْقَارّيّ وَهُوَ مَسْعُودُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حَمَالَةَ بْنِ غَالِبِ بْنِ مُحَلّمِ بْنِ عَائِذَةَ بْنِ سُبَيْعِ بْنِ الْهَوْنِ بْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ الْقَارّةِ [ ص 434 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَالْقَارَةُ : لَقَبٌ وَلَهُمْ يُقَالُ قَدْ أَنْصَفَ الْقَارَةَ مَنْ رَامَاهَا
وَكَانُوا قَوْمًا رُمَاةً . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَسَلِيطُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَة بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَامْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ سَلّامَةَ بْنِ مُخَرّبَةَ التّمِيمِيّةُ . وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَنْزِ بْنِ وَائِلِ ، حَلِيفُ آلِ الْخَطّابِ بْنِ نُفَيْل بْنِ عَبْدِ الْعُزّى . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَنْزُ بْنُ وَائِلٍ أَخُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ، مِنْ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمَرِ بْنِ صَبِرَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَبِيرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ . وَأَخُوهُ أَبُو أَحَمْدَ بْنُ جَحْشٍ ، حَلِيفَا بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ . وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَامْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قُحَافَةَ ، مِنْ خَثْعَمٍ ، وَحَاطِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُجَلّلِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . وَأَخُوهُ خَطّابُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَامْرَأَتُهُ فُكَيْهَةُ بِنْتُ يَسَارٍ . وَمَعْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَالسّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ . وَالْمُطّلِبُ بْنُ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَامْرَأَتُهُ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي عَوْفِ بْنِ صُبَيْرَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَالنّحّامُ ، وَاسْمُهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَسِيدٍ أَخُو بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ [ ص 435 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَسِيدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَإِنّمَا سُمّيَ النّحّامَ ، لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لَقَدْ سَمِعْت نَحْمَةً فِي الْجَنّةِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : نَحْمُهُ صَوْتُهُ وَحِسّهُ [ ص 436 ]
Sإسْلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ
وَذَكَرَ إسْلَامَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ وَاسْمَهُ وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ فَقِيلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرٍ [ ص 432 ] وَقِيلَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ . وَأُمّهُ أُمَيْمَةُ بِنْتُ غَنْمِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عَامِرَةَ بْنِ وَدِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ ، قَالَهُ الزّبَيْرُ . وَذَكَرَ إسْلَامَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى ، وَذَكَرْنَا أُمّهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ بَعْجَةَ بْنِ خَلَفٍ الْخُزَاعِيّةَ وَمَا وَقَعَ فِي نَسَبِهِ مِنْ التّقْدِيمِ وَالتّأْخِيرِ وَمِنْ الْفَتْحِ فِي رَزَاحِ بْنِ عَدِيّ وَالْكَسْرِ وَأَنّ رَزَاحَ بْنَ رَبِيعَةَ هُوَ الّذِي لَمْ يُخْتَلَفْ فِي كَسْرِ الرّاءِ مِنْهُ وَيُكَنّى سَعِيدًا : أَبَا الْأَعْوَرِ تُوُفّيَ بِأَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ وَدُفِنَ بِالْمَدِينَةِ فِي أَيّامِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ خَمْسِينَ أَوْ إحْدَى [ ص 433 ] وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ ، وَأَبُو الطّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ التّابِعِينَ وَلَمْ يَرْوِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلّا حَدِيثَيْنِ . أَحَدُهُمَا : مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِالْجَنّةِ وَأَحَدُ الّذِينَ رَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اُثْبُتْ حِرَاءُ ؛ فَإِنّمَا عَلَيْك نَبِيّ أَوْ صِدّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ . وَيُرْوَى : " اُثْبُتْ أُحُدُ " ، وَأَنّ الْقِصّةَ كَانَتْ فِي جَبَلِ أُحُدٍ ، وَيُرْوَى أَنّهَا كَانَتْ فِي جَبَلِ ثَبِيرٍ ذَكَرَهُ التّرْمِذِيّ ، وَأَنّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةً مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَلَعَلّ هَذَا أَنْ يَكُونَ مِرَارًا ، فَتَصِحّ الْأَحَادِيثُ كُلّهَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
إسْلَامُ سَعْدٍ وَابْنُ عَوْفٍ وَالنّحّامِ
وَذَكَرَ فِيمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ ، وَاسْمُ أَبِي وَقّاصٍ مَالِكُ بْنُ أُهَيْب ، وَأُهَيْبٌ هُوَ عَمّ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ أُمّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَالْوَقّاصُ فِي اللّغَةِ هُوَ وَاحِدُ الْوَقَاقِيصِ وَهِيَ شِبَاكٌ يَصْطَادُ بِهَا الطّيْرُ وَهُوَ أَيْضًا فَعَالٍ مِنْ وُقِصَ إذَا انْكَسَرَ عُنُقُهُ وَأُمّ سَعْدٍ حَمْنَةُ بِنْتُ سُفْيَانَ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، يُكَنّى : أَبَا إسْحَاقَ وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ دَعَا لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ يُسَدّدَ اللّهُ سَهْمَهُ وَأَنْ يُجِيبَ دَعْوَتَهُ فَكَانَ دُعَاؤُهُ أَسْرَعَ الدّعَاءِ إجَابَةً . وَفِي الْحَدِيثِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ احْذَرُوا دَعْوَةَ سَعْدٍ مَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ . [ ص 434 ] وَذَكَرَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ ، وَهُوَ أَيْضًا أَحَدُ الْعَشَرَةِ يُكَنّى : أَبَا مُحَمّدٍ أُمّهُ الشّفَاءُ بِنْتُ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ وَهِيَ بِنْتُ عَمّ عَوْفٍ وَالِدِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، فَأَبُوهَا : عَوْفٌ عَمّ عَوْفٍ وَأَخُو عَبْدِ عَوْفٍ . [ ص 435 ] وَذَكَرَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ النّحّامُ ، وَقَوْلُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَمِعْت نِحْمَةً فِي الْجَنّةِ وَلَمْ يُفَسّرْ النّحْمَ مَا هُوَ وَهِيَ سُعْلَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ وَيُقَال لِلْبَخِيلِ نَحّامٌ لِأَنّهُ يَسْعَلُ إذَا سُئِلَ يَتَشَاغَلُ بِذَلِكَ وَأَنْشَدَ الزّبَيْرُ
مَا لَك لَا تَنْحِمُ يَا رَواحَهْ ... إنّ النّحِيمَ لِلسّقَاةِ رَاحَهْ
قَالَ وَيُقَالُ لِلنّحْمَةِ نَحْطَةٌ وَقَالَ غَيْرُهُ النّحْطَةُ فِي الصّدْرِ وَالنّحْمَةُ فِي الْحَلْقِ وَالنّحّامُ أَيْضًا طَائِرٌ أَحْمَرُ فِي عَظْمِ الْإِوَزّ .
عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْعُودٌ الْقَارِيّ
وَذَكَرَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ شَمْخِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلَةَ بْنِ كَاهِلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ ، وَقَالَ فِي نَسَبِهِ كَاهِلٌ وَقَيّدَهُ الْوَقَشِيّ بِفَتْحِ الْهَاءِ مِنْ كَاهِلٍ كَأَنّهُ سُمّيَ بِالْفِعْلِ مِنْ كَاهَلَ يُكَاهِلُ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السّلَامُ لِرَجُلِ اسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ - وَاسْمُهُ جَاهِمَةُ - فَقَالَ هَلْ فِي أَهْلِك مِنْ كَاهِلٍ أَيْ مِنْ قَوِيّ عَلَى التّصَرّفِ وَالِاكْتِهَالُ الْقُوّةُ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : كَاهَلَ أَيْ أَسَنّ وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيّ : إنّمَا لَفْظُ الْحَدِيثِ هَلْ فِي أَهْلِك مِنْ كَاهِنٍ وَغَيّرَهُ الرّاوِي لَهُ فَقَالَ مِنْ كَاهِلٍ قَالَ وَكَاهِنُ الرّجَالِ هُوَ الّذِي يَخْلُفُ الرّجُلَ فِي أَهْلِهِ يَقُومُ بِأَمْرِهِمْ بَعْدُ يُقَالُ مِنْهُ كَهُنَ يَكْهُنُ كَهَانَةً . وَذَكَرَ فِي نَسَبِهِ أَيْضًا شَمْخًا وَهُوَ مَنْ شَمَخَ بِأَنْفِهِ إذَا رَفَعَهُ عِزّةً . وَأُمّ عَبْدِ اللّهِ هِيَ أُمّ عَبْدِ بِنْتِ سَوْدِ بْنِ قَدِيمِ بْنِ صَاهِلَةَ هُذَلَيّة . وَذَكَرَ مَسْعُودًا الْقَارِيّ وَهُوَ مَسْعُودُ بْنُ رَبِيعَةَ وَرَفَعَ نَسَبَهُ إلَى الْهُونِ بْنِ خُزَيْمَةَ ، وَهُمْ الْقَارَةُ وَفِيهِمْ جَرَى الْمَثَلُ الْمَثَلُ قَدْ أَنْصَفَ الْقَارَةَ مَنْ رَامَاهَا . قَالَ الرّاجِزُ
قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى ، وَمَنْ وَالَاهَا ... أَنّا نَرُدّ الْخَيْلَ عَنْ هَوَاهَا
نَرُدّهَا دَامِيَةً كُلَاهَا ... قَدْ أَنْصَفَ الْقَارَةَ مَنْ رَامَاهَا
إنّا إذَا مَا فِئَةٌ نَلْقَاهَا ... نَرُدّ أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا
وَسُمّيَ بَنُو الْهُونِ بْنِ خُزَيْمَةَ قَارَةً لِقَوْلِ الشّاعِرِ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْحُرُوبِ
دَعُونَا قَارَةً لَا تُذْعِرُونَا ... فَنُجْفِلُ مِثْلَ إجْفَالِ الظّلِيمِ
[ ص 436 ] عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَنْسَابِ وَأَنْشَدَهُ قَاسِمٌ فِي الدّلَائِلِ
دَعُونَا قَارَةً لَا تُذْعِرُونَا ... فَتَنْبَتِكَ الْقَرَابَةُ وَالذّمَامُ
وَكَانُوا رُمَاةَ الْحَدَقِ فَمَنْ رَامَاهُمْ فَقَدْ أَنْصَفَهُمْ وَالْقَارَةُ : أَرْضٌ كَثِيرَةُ الْحِجَارَةِ وَجَمْعُهَا قُورٌ فَكَأَنّ مَعْنَى الْمَثَلِ عِنْدَهُمْ أَنّ الْقَارَةَ لَا تَنْفَدُ حِجَارَتُهَا إذَا رُمِيَ بِهَا ، فَمَنْ رَامَاهَا فَقَدْ أَنْصَفَ .
وَهُمْ فِي نَسَبِ أَبِي حُذَيْفَةَ
وَذَكَرَ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُهُ مُهَشّمٌ وَهُوَ وَهْمٌ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ فَإِنّ مُهَشّمًا إنّمَا هُوَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَخُو هَاشِمٍ وَهِشَامٌ ابْنَيْ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَأَمّا أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ فَاسْمُهُ قَيْسٌ فِيمَا ذَكَرُوا .
عُمَيْسٌ
وَذَكَرَ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ امْرَأَةَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَعُمَيْس أَبُوهَا هُوَ ابْنُ مَعَدّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ تَيْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قُحَافَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَسْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ شَهْرَانِ بْنِ عِقْرِسِ بْنِ حُلْفِ بْنِ أَفْتَلَ وَهُوَ جَمَاعَةُ خَثْعَمِ بْنِ أَنْمَارٍ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي أَنْمَارِ هَذَا ، وَقَدْ تَقَدّمَ . وَأُمّهَا : هِنْدُ بِنْتُ عَوْفِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ كِنَانَةَ وَهِيَ أُخْت مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الْهِلَالِيّةِ زَوْجِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أُمّهُمَا وَاحِدَةٌ وَأُخْتُ لُبَابَةَ أُمّ الْفَضْلِ امْرَأَةُ الْعَبّاسِ وَكُنّ تِسْعَ أَخَوَاتٍ فِيهِنّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْأَخَوَاتُ مُؤْمِنَات وَكَانَتْ قَبْلَ جَعْفَرٍ عِنْدَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَمَةَ اللّهِ ثُمّ كَانَتْ عِنْدَ شَدّادِ بْنِ الْهَادِ ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللّهِ وَعَبْدَ الرّحْمَنِ وَقَدْ قِيلَ بَلْ الّتِي كَانَتْ عِنْدَ حَمْزَةَ ثُمّ عِنْدَ شَدّادٍ هِيَ أُخْتُهَا : سَلْمَى ، لَا أَسْمَاءَ وَتَزَوّجَهَا بَعْدَ حَمْزَةَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ، وَتَزَوّجَهَا بَعْدَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَوَلَدَتْ لَهُ يَحْيَى . قَالَ الْكَلْبِيّ : وَلَدَتْ لَهُ مَعَ يَحْيَى عَوْنَ بْنَ عَلِيّ وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَنّهَا وَلَدَتْ لِجَعْفَرِ ابْنًا اسْمُهُ عَوْنٌ وَوَلَدَتْ لَهُ أَيْضًا عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ، وَكَانَ جَوَادَ الْعَرَبِ فِي الْإِسْلَامِ وَبَنَاتُ عُمَيْسٍ أَسْمَاءُ وَسَلَامَةَ وَسَلْمَى ، وَهُنّ أَخَوَاتُ مَيْمُونَةَ وَسَائِرُ أَخَوَاتِهَا لِأُمّ .
تَصْوِيبٌ فِي نَسَبِ بَنِي عَدِيّ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي السّابِقِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ بَنِي سَهْمٍ : [ ص 437 ] قَيْسِ بْنِالْحَارِثُ بْنُ عَدِيّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمٍ وَحَيْثُمَا تَكَرّرَ نَسَبُ بَنِي عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ يَقُولُ فِيهِ ابْنُ إسْحَاقَ : سُعَيْد ، وَالنّاسُ عَلَى خِلَافِهِ وَإِنّمَا هُوَ سَعْدٌ وَسَيَأْتِي فِي شِعْرِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قَيْسِ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِنّمَا سُعَيْد بْنُ سَهْمٍ أَخُو سَعْدٍ وَهُوَ جَدّ آلِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ سُعَيْد بْنِ سَهْمٍ وَفِي سَهْمٍ سَعِيدٌ آخَرَ وَهُوَ ابْنُ سَعْدٍ الْمَذْكُورُ وَهُوَ جَدّ الْمُطّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ ، وَاسْمُ أَبِي وَدَاعَةَ عَوْفُ بْنُ صُبَيْرَةَ ابْنُ سُعَيْد بْنُ سَعْدٍ وَقَدْ قِيلَ فِي صُبَيْرَةَ ضُبَيْرَةَ بِالضّادِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الّذِي كَانَ شَابّا جَمِيلًا يَلْبَسُ حُلّةً وَيَقُولُ لِلنّاسِ هَلْ تَرَوْنَ بِي بَأْسًا إعْجَابًا بِنَفْسِهِ فَأَصَابَتْهُ الْمَنِيّةُ بَغْتَةً فَقَالَ الشّاعِرُ فِيهِ
مَنْ يَأْمَنُ الْحَدَثَانِ بَعْدَ صُبَ ... يْرَةَ الْقُرَشِيّ مَاتَا
سَبَقَتْ مُنْيَتُهُ الْمَشِي ... بَ وَكَانَ مَنِيّتُهُ افْتِلَاتَا
عَنْزٌ
وَذَكَرَ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَقَالَ هُوَ مِنْ عَنْزِ بْنِ وَائِلٍ . عَنْزٌ بِسُكُونِ النّونِ وَيَذْكُرُ عَنْ عَلِيّ بْنِ الْمَدِينِيّ أَنّهُ قَالَ فِيهِ عَنَزٌ بِفَتْحِ النّونِ وَالسّكُونُ أَعْرَفُ . ذَكَرَ أَهْلُ النّسَبِ أَنّ وَائِلًا [ بْنَ قَاسِطٍ ] كَانَ إذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ خَرَجَ مِنْ خِبَائِهِ فَمَا وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَيْهِ سَمّاهُ بِهِ فَلَمّا وُلِدَ لَهُ بَكْرٌ وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى بَكْرٍ مِنْ الْإِبِلِ فَسَمّاهُ بِهِ فَلَمّا وُلِدَ لَهُ تَغْلِبُ رَأَى نَفْسَيْنِ يَتَغَالَبَانِ فَسَمّاهُ تَغْلِبَ ، فَلَمّا وُلِدَ لَهُ عَنْزٌ ، رَأَى عَنْزًا - وَهِيَ الْأُنْثَى مِنْ الْمَعْزِ - فَسَمّاهُ عَنْزًا ، فَلَمّا وُلِدَ لَهُ الشّخَيْصِ خَرَجَ فَرَأَى شَخْصًا عَلَى بُعْدٍ صَغِيرًا ، فَسَمّاهُ الشّخَيْصَ بِهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ هُمْ قَبَائِلُ وَائِلٍ وَهُمْ مُعْظَمُ رَبِيعَةَ ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَنْزِيّ الْعَدَوِيّ حَلِيفٌ لَهُمْ وَيُقَالُ هُوَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ رُفَيْدَة بْنِ عَنْزِ بْنِ وَائِلِ بْنِ قَاسِطٍ ، وَقِيلَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حُجَيْرِ بْنِ سَلَامَانِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفْضَى بْنِ دُعْمِيّ بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَانَ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 437 ] وَعَامِرُ بْنُ فَهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ [ ص 438 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مُوَلّدٌ مِنْ مُوَلّدِي الْأَسْدِ أَسْوَدَ اشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِنْهُمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَامْرَأَتُهُ أَمِينَةُ بِنْتُ خَلَفِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ بْنِ سُبَيْعِ بْنِ جِعْثِمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو ، مِنْ خُزَاعَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ هُمَيْنَةُ بِنْتُ خَلَفٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَاطِبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . وَأَبُو حُذَيْفَةَ وَاسْمُهُ مِهْشَمٍ - فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَرِينِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : جَاءَتْ بِهِ بَاهِلَةُ ، فَبَاعُوهُ مِنْ الْخَطّابِ بْنِ نُفَيْل ، فَتَبَنّاهُ فَلَمّا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } [ الْأَحْزَابُ : 5 ] قَالَ أَنَا وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ ، فِيمَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَخَالِدٌ وَعَامِرٌ وَعَاقِلٌ وَإِيَاسٌ بَنُو الْبُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ يَالَيلَ بْنِ نَاشِبِ بْنِ غِيرَةَ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ حُلَفَاءُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ . وَعَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ عَنْسِيّ مِنْ مَذْحِجٍ [ ص 439 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ ، أَحَدُ النّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ ، حَلِيفُ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : النّمِرُ بْنُ قَاسِطِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفْصَى بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ ، وَيُقَالُ أَفَصَى بْنُ دُعْمِيّ بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدٍ ، وَيُقَالُ صُهَيْبٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ [ ص 440 ] وَيُقَالُ إنّهُ رُومِيّ . فَقَالَ بَعْضُ مَنْ ذَكَرَ أَنّهُ مِنْ النّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ : إنّمَا كَانَ أَسِيرًا فِي أَرْضِ الرّومِ ، فَاشْتُرِيَ مِنْهُمْ وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صُهَيْبٌ سَابِقُ الرّومِSإسْلَامُ عَامِرِ بْنِ فَهَيْرَةَ
وَذَكَرَ عَامِرَ ابْنَ فَهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ وَفُهَيْرَةَ أُمّهُ هِيَ تَصْغِيرُ فِهْرٍ ، لِأَنّ الْفِهْرَ مُؤَنّثَةٌ وَكَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ لِلطّفَيْلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ صَخْرَةَ اشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْتَقَهُ وَأَسْلَمَ قَبْل دُخُولِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - دَارَ الْأَرْقَمِ ، وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ نُبَذٌ مِنْ أَخْبَارِهِ مِنْهَا : أَنّهُ قَتَلَهُ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ [ ص 438 ] بِئْرِ مَعُونَةَ ، فَلَمّا طَعَنَهُ خَرَجَ مِنْ الطّعْنَةِ نُورٌ وَكَانَ عَامِرٌ يَقُولُ مَنْ رَجُلٌ لَمّا طَعَنْته رُفِعَ حَتّى حَالَتْ السّمَاءُ دُونَهُ هَذِهِ رِوَايَةُ الْبَكّائِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ عَامِرًا سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمّدُ مَنْ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِك لَمَا طَعَنْته رُفِعَ إلَى السّمَاءِ ؟ فَقَالَ " هُوَ عَامِرُ ابْنُ فُهَيْرَةَ " ، وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنّ عَامِرًا اُلْتُمِسَ فِي الْقَتْلَى يَوْمئِذٍ فَلَمْ يُوجَدْ فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنّ الْمَلَائِكَةَ رَفَعَتْهُ أَوْ دَفَنَتْهُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ . [ ص 439 ]
اصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَمَا الْمَصْدَرِيّةُ وَاَلّذِي
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } [ الْحِجْرُ : 94 ] . وَالْمَعْنَى : اصْدَعْ بِاَلّذِي تُؤْمَرُ بِهِ وَلَكِنّهُ لَمّا عَدّى الْفِعْلَ إلَى الْهَاءِ حَسُنَ حَذْفُهَا ، وَكَانَ الْحَذْفُ هَاهُنَا أَحْسَنَ مِنْ ذِكْرِهَا ؛ لِأَنّ مَا فِيهَا مِنْ الْإِبْهَامِ أَكْثَرُ مِمّا تَقْتَضِيهِ الّذِي ، وَقَوْلُهُمْ مَا مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ رَاجِعٌ إلَى مَعْنَى الّذِي إذَا تَأَمّلْته ، وَذَلِكَ أَنّ الّذِي تَصْلُحُ فِي كُلّ مَوْضِعٍ تَصْلُحُ فِيهِ مَا الّتِي يُسَمّونَهَا الْمَصْدَرِيّةَ نَحْوُ قَوْلِ الشّاعِرِ
عَسَى الْأَيّامُ أَنْ يَرْجِعْ ... نْ يَوْمًا كَاَلّذِي كَانُوا
أَيْ كَمَا كَانُوا ، فَقَوْلُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ إذًا : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } إمّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بِاَلّذِي تُؤْمَرُ بِهِ مِنْ التّبْلِيغِ وَنَحْوِهِ وَإِمّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اصْدَعْ بِالْأَمْرِ الّذِي تُؤْمَرُهُ كَمَا تَقُولُ عَجِبْت مِنْ الضّرْبِ الّذِي تَضْرِبُهُ فَتَكُونُ مَا هَاهُنَا عِبَارَةٌ عَنْ الْأَمْرِ الّذِي هُوَ أَمْرُ اللّهِ تَعَالَى ، وَلَا يَكُونُ لِلْبَاءِ فِيهِ دُخُولٌ وَلَا تَقْدِيرٌ وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوّلِ تَكُونُ مَا مَعَ صِلَتِهَا عِبَارَةٌ عَمّا هُوَ فِعْلٌ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَالْأَظْهُرُ أَنّهَا مَعَ صِلَتِهَا عِبَارَةٌ عَنْ الْأَمْرِ الّذِي هُوَ قَوْلُ اللّهِ وَوَحْيُهُ بِدَلِيلِ حَذْفِ الْهَاءِ الرّاجِعَةِ إلَى : مَا ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الّذِي فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، إلّا أَنّك إذَا أَرَدْت مَعْنَى الْأَمْرِ لَمْ تَحْذِفْ إلّا الْهَاءُ وَحْدَهَا ، وَإِذَا أَرَدْت مَعْنَى الْمَأْمُورِ بِهِ حُذِفَتْ بَاءٌ وَهَاءٌ فَحَذْفُ وَاحِدٍ أَيْسَرُ مِنْ حَذْفَيْنِ مَعَ أَنّ صَدْعَهُ وَبَيَانَهُ إذَا عَلّقْته بِأَمْرِ اللّهِ وَوَحْيِهِ كَانَ حَقِيقَةً وَإِذَا عَلّقْته بِالْفِعْلِ الّذِي أَمَرَ بِهِ كَانَ مَجَازًا ، وَإِذَا صَرّحْت بِلَفْظِ الّذِي ، لَمْ يَكُنْ حَذْفُهَا بِذَلِكَ الْحَسَنِ وَتَأَمّلْهُ فِي الْقُرْآنِ تَجِدْهُ كَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ الْبَقَرَةُ 33 ] { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [ التّغَابُنُ 4 ] . و { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ } [ ص : 75 ] . و { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [ الْكَافِرُونَ ] . وَلَمْ يَقُلْ خَلَقْته ، وَحَذَفَ الْهَاءَ فِي ذَلِكَ كُلّهِ وَقَالَ فِي الّذِي : { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } [ الْبَقَرَةُ 121 ] و { الّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنّاسِ سَوَاءً } [ الْحَجّ : 25 ] وَمَا أَشَبَهُ ذَلِكَ وَإِنّمَا كَانَ الْحَذْفُ مَعَ مَا أَحْسَنَ لِمَا قَدّمْنَاهُ مِنْ [ ص 440 ] تَرَى أَنّ مَا إذَا كَانَتْ شَرْطًا تَقُولُ فِيهَا : مَا تَصْنَعْ أَصْنَعَ مِثْلَهُ وَلَا تَقُولُ مَا تَصْنَعُهُ لِأَنّ الْفِعْلَ قَدْ عَمِلَ فِيهَا ، فَلَمّا ضَارَعَتْهَا هَذِهِ الّتِي هِيَ مَوْصُولَةٌ وَهِيَ بِمَعْنَى الّذِي أُجْرِيَتْ فِي حَذْفِ الْهَاءِ مَجْرَاهَا فِي أَكْثَرِ الْكَلَامِ وَهَذِهِ تَفْرِقَةٌ فِي عَوْدِ الضّمِيرِ عَلَى مَا ، وَعَلَى " الّذِي " يَشْهَدُ لَهَا التّنْزِيلُ وَالْقِيَاسُ الّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِبْهَامِ وَمَعَ هَذَا لَمْ نَرَ أَحَدًا نَبّهَ عَلَى هَذِهِ التّفْرِقَةِ وَلَا أَشَارَ إلَيْهَا ، وَقَارِئُ الْقُرْآنِ مُحْتَاجٌ إلَى هَذِهِ التّفْرِقَةِ . وَقَدْ يَحْسُنُ حَذْفُ الضّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الّذِي ؛ لِأَنّهُ أَوْجَزُ وَلَكِنّهُ لَيْسَ كَحَسَنِهِ مَعَ مَنْ وَمَا ، فَفِي التّنْزِيلِ { وَالنّورِ الّذِي أَنْزَلْنَا } [ التّغَابُنُ 8 ] فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدّيًا إلَى اثْنَيْنِ كَانَ إبْرَازُ الضّمِيرِ أَحْسَنَ مِنْ حَذْفِهِ لِئَلّا يُتَوَهّمُ أَنّ الْفِعْلَ وَاقِعٌ إلَى الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ وَأَنّهُ مُقْتَصَرٌ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنّاسِ سَوَاءً } [ الْحَجّ : 25 ] { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } [ الْبَقَرَةُ 121 ] وَشَرَحَ ابْنُ هِشَامٍ مَعْنَى قَوْلِهِ اصْدَعْ شَرْحًا صَحِيحًا ، وَتَتِمّتُهُ أَنّهُ صَدْعٌ عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ وَتَشْبِيهٌ لِظُلْمَةِ الشّكّ وَالْجَهْلِ بِظُلْمَةِ اللّيْلِ . وَالْقُرْآنُ نُورٌ فَصَدَعَ بِهِ تِلْكَ الظّلْمَةَ وَمِنْهُ سُمّيَ الْفَجْرُ صَدِيعًا ، لِأَنّهُ يَصْدَعُ ظُلْمَةَ اللّيْلِ وَقَالَ الشّمّاخُ
تَرَى السّرْحَانَ مُفْتَرِشًا يَدَيْهِ ... كَأَنّ بَيَاضَ لَبّتِهِ صَدِيعُ
عَلَى هَذَا تَأَوّلَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَعَانِي ، وَقَالَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ الصّدِيعُ فِي هَذَا الْبَيْتِ ثَوْبٌ أَسْوَدُ تَلْبَسُهُ النّوّاحَةُ تَحْتَهُ ثَوْبٌ أَبْيَضُ وَتَصْدَعُ الْأَسْوَدَ عِنْدَ صَدْرِهَا فَيَبْدُو الْأَبْيَضُ وَأَنْشَدَ
كَأَنّهُنّ إذْ وَرَدْنَ لِيعَا ... نَوّاحَةٌ مُجْتَابَةٌ صَدِيعًا
.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
مُبَادَأَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَوْمَهُ
[ ص 3 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ دَخَلَ النّاسُ فِي الْإِسْلَامِ أَرْسَالًا مِنْ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ حَتّى فَشَا ذِكْرُ الْإِسْلَامِ بِمَكّةَ وَتُحُدّثَ بِهِ . ثُمّ إنّ اللّهَ - عَزّ وَجَلّ - أَمَرَ رَسُولَهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ يَصْدَعَ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ وَأَنْ يُبَادِيَ النّاسَ بِأَمْرِهِ وَأَنْ يَدْعُوَ إلَيْهِ وَكَانَ بَيْنَ مَا أَخْفَى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَمْرَهُ وَاسْتَتَرَ بِهِ إلَى أَنْ أَمَرَهُ اللّهُ تَعَالَى بِإِظْهَارِ دِينِهِ ثَلَاثُ سِنِينَ - فِيمَا بَلَغَنِي - مِنْ مَبْعَثِهِ ثُمّ قَالَ اللّهُ تَعَالَى لَهُ { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [ الْحِجْرِ : 94 ] . وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { وَقُلْ إِنّي أَنَا النّذِيرُ الْمُبِينُ } [ الحجر : 89 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَاصْدَعْ اُفْرُقْ بَيْنَ الْحَقّ وَالْبَاطِلِ . قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيّ ، وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ خَالِدٍ يَصِفُ أُتُنَ وَحْشٍ وَفَحْلَهَا :
وَكَأَنّهُنّ رِبَابَةٌ وَكَأَنّهُ ... يَسَرٌ يَفِيضُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيَصْدَعُ
[ ص 4 ] قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ :
أَنْتَ الْحَلِيمُ وَالْأَمِيرُ الْمُنْتَقِمْ ... تَصْدَعُ بِالْحَقّ وَتَنْفِي مَنْ ظَلَمْ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ .
صَلَاةُ الرّسُولِ وَأَصْحَابِهِ فِي الشّعَابِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا صَلّوْا ، ذَهَبُوا فِي الشّعَابِ فَاسْتَخْفَوْا بِصَلَاتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ فَبَيْنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ مَكّةَ ، إذْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ نَفَرٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ - وَهُمْ يُصَلّونَ - فَنَاكَرُوهُمْ وَعَابُوا عَلَيْهِمْ مَا يَصْنَعُونَ حَتّى قَاتَلُوهُمْ فَضَرَبَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ يَوْمَئِذٍ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِلَحْيِ بَعِيرٍ فَشَجّهُ فَكَانَ أَوّلَ دَمٍ هُرِيقَ فِي الْإِسْلَامِ .
عَدَاوَةُ الشّرْكِ لِلرّسُولِ وَمُسَاوَمَتُهُ لِعَمّهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا بَادَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ قَوْمَهُ بِالْإِسْلَامِ وَصَدَعَ بِهِ كَمَا أَمَرَهُ اللّهُ لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ قَوْمُهُ وَلَمْ يَرُدّوا عَلَيْهِ - فِيمَا بَلَغَنِي - حَتّى ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ وَعَابَهَا ، فَلَمّا فَعَلَ ذَلِك أَعْظَمُوهُ وَنَاكَرُوهُ وَأَجْمَعُوا خِلَافَهُ وَعَدَاوَتَهُ إلّا مَنْ عَصَمَ اللّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ قَلِيلٌ مُسْتَخْفُونَ وَحَدِبَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمّهُ أَبُو طَالِبٍ ، وَمَنَعَهُ وَقَامَ دُونَهُ وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى أَمْرِ اللّهِ مُظْهِرًا لِأَمْرِهِ لَا يَرُدّهُ [ ص 5 ]
Sمُبَادَأَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَوْمَهُ
أَصْلُ الصّلَاةِ لُغَةً
[ ص 3 ] أَبَا طَالِبٍ حَدِبَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقَامَ دُونَهُ أَصْلُ الْحَدَبِ انْحِنَاءٌ فِي الظّهْرِ ثُمّ اُسْتُعِيرَ فِيمَنْ عَطَفَ عَلَى غَيْرِهِ وَرَقّ لَهُ كَمَا قَالَ النّابِغَةُ
حَدِبَتْ عَلَيّ بُطُونُ ضَبّةَ كُلّهَا ... إنْ ظَالِمًا فِيهِمْ وَإِنْ مَظْلُومَا
[ ص 4 ] قَالُوا : صَلّى عَلَيْهِ أَيْ انْحَنَى عَلَيْهِ ثُمّ سَمّوْا الرّحْمَةَ حُنُوّا وَصَلَاةً إذَا أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِيهَا ، فَقَوْلُك : صَلّى اللّهُ عَلَى مُحَمّدٍ هُوَ أَرَقّ وَأَبْلَغُ مِنْ قَوْلِك : رَحِمَ اللّهُ مُحَمّدًا فِي الْحُنُوّ وَالْعَطْفِ . وَالصّلَاةُ أَصْلُهَا فِي الْمَحْسُوسَاتِ عُبّرَ بِهَا عَنْ هَذَا الْمَعْنَى مُبَالَغَةً وَتَأْكِيدًا كَمَا قَالَ الشّاعِرُ
فَمَا زِلْت فِي لِينِي [ لَهُ ] وَتَعَطّفِي ... عَلَيْهِ كَمَا تَحْنُو عَلَى الْوَلَدِ الْأُمّ
وَمِنْهُ قِيلَ صَلّيْت عَلَى الْمَيّتِ أَيْ دَعَوْت لَهُ دُعَاءَ مَنْ يَحْنُو عَلَيْهِ وَيَتَعَطّفُ عَلَيْهِ . وَلِذَلِكَ لَا تَكُونُ الصّلَاةُ بِمَعْنَى الدّعَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا تَقُولُ صَلّيْت عَلَى الْعَدُوّ أَيْ دَعَوْت عَلَيْهِ . إنّمَا يُقَالُ . صَلّيْت عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الْحُنُوّ وَالرّحْمَةِ وَالْعَطْفِ لِأَنّهَا فِي الْأَصْلِ [ ص 5 ] أَجْلِ ذَلِكَ عُدّيَتْ فِي اللّفْظِ بِعَلَى ، فَتَقُولُ صَلّيْت عَلَيْهِ أَيْ حَنَوْت عَلَيْهِ وَلَا تَقُولُ فِي الدّعَاءِ إلّا : دَعَوْت لَهُ فَتُعَدّي الْفِعْلَ بِاللّامِ إلّا أَنْ تُرِيدَ الشّرّ وَالدّعَاءَ عَلَى الْعَدُوّ فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الصّلَاةِ وَالدّعَاءِ وَأَهْلُ اللّغَةِ لَمْ يُفَرّقُوا ، وَلَكِنْ قَالُوا : الصّلَاةُ بِمَعْنَى الدّعَاءِ إطْلَاقًا ، وَلَمْ يُفَرّقُوا بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ وَلَا ذَكَرُوا التّعَدّيَ بِاللّامِ وَلَا بِعَلَى ، وَلَا بُدّ مِنْ تَقْيِيدِ الْعِبَارَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ يَكُونُ الْحَدَبُ أَيْضًا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْمُخَالَفَةِ إذَا قُرِنَ بِالْقَعْسِ كَقَوْلِ الشّاعِرِ
وَإِنْ حَدِبُوا ، فَاقْعَسْ وَإِنْ هُمْ تَقَاعَسُوا ... لِيَنْتَزِعُوا مَا خَلْفَ ظَهْرِك فَاحْدَبْ
وَكَقَوْلِ الْآخَرِ
وَلَنْ يُنَهْنِهَ قَوْمًا أَنْتَ خَائِفُهُمْ ... كَمِثْلِ وَقْمِك جُهّالًا بِجُهّالِ
فَاقْعَسْ إذَا حَدِبُوا ، وَاحْدَبْ إذَا قَعِسُوا ... وَوَازِنِ الشّرّ مِثْقَالًا بِمِثْقَالِ
أَنْشَدَهُ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْحَيَوَانِ لَهُ .
فَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَعْتِبُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ مِنْ فِرَاقِهِمْ وَعَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَرَأَوْا أَنّ عَمّهُ أَبَا طَالِبٍ قَدْ حَدِبَ عَلَيْهِ وَقَامَ دُونَهُ فَلَمْ يُسْلِمْهُ لَهُمْ مَشَى رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ إلَى أَبِي طَالِبٍ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ . وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرٌ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ ، وَاسْمُهُ الْعَاصُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . [ ص 6 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَبُو الْبَخْتَرِيّ الْعَاصُ بْنُ هَاشِمٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَأَبُو جَهْلٍ - وَاسْمُهُ عَمْرٌو ، وَكَانَ يُكَنّى أَبَا الْحَكَمِ - ابْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَنَبِيهٌ وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجّاجِ بْنِ عَامِرِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْعَاصُ بْنُ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : أَوْ مَنْ مَشَى مِنْهُمْ . فَقَالُوا : يَا أَبَا طَالِبٍ إنّ ابْنَ أَخِيك قَدْ سَبّ آلِهَتَنَا ، وَعَابَ دِينَنَا ، وَسَفّهَ أَحْلَامَنَا ، وَضَلّلَ آبَاءَنَا ، فَإِمّا أَنْ تَكُفّهُ عَنّا ، وَإِمّا أَنْ تُخَلّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَإِنّك عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ فَنَكْفِيكَهُ فَقَالَ لَهُمْ أَبُو طَالِبٍ قَوْلًا رَفِيقًا ، وَرَدّهُمْ رَدّا جَمِيلًا ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ . وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ يُظْهِرُ دِينَ اللّهِ وَيَدْعُو إلَيْهِ ثُمّ شَرِيَ الْأَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حَتّى تَبَاعَدَ الرّجَالُ وَتَضَاغَنُوا ، وَأَكْثَرَتْ قُرَيْشٌ ذِكْرَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَيْنَهَا ، فَتَذَامَرُوا فِيهِ وَحَضّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ ثُمّ إنّهُمْ مَشَوْا إلَى أَبِي طَالِبٍ مَرّةً أُخْرَى ، فَقَالُوا لَهُ يَا أَبَا طَالِبٍ إنّ لَك سِنّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِينَا ، وَإِنّا قَدْ اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنْ ابْنِ أَخِيك فَلَمْ تَنْهَهُ عَنّا ، وَإِنّا وَاَللّهِ لَا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا مِنْ شَتْمِ آبَائِنَا ، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا ، وَعَيْبِ آلِهَتِنَا ، حَتّى تَكُفّهُ عَنّا ، أَوْ نُنَازِلَهُ وَإِيّاكَ فِي ذَلِكَ حَتّى يَهْلَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُ . ثُمّ انْصَرَفُوا عَنْهُ فَعَظُمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ فِرَاقُ قَوْمِهِ وَعَدَاوَتُهُمْ وَلَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِإِسْلَامِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَهُمْ وَلَا خِذْلَانِهِ .Sأَبُو الْبَخْتَرِيّ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ مَجِيءَ النّفَرِ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى أَبِي طَالِبٍ فِي أَمْرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَكَرَ أَنْسَابَهُمْ [ ص 6 ] وَذَكَرَ فِيهِمْ أَبَا الْبَخْتَرِيّ بْنَ هِشَامٍ قَالَ وَاسْمُهُ الْعَاصِي بْنُ هِشَامٍ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ الْعَاصِي بْنُ هَاشِمٍ وَاَلّذِي قَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ هُوَ قَوْلُ ابْنِ الْكَلْبِيّ وَاَلّذِي قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ هُوَ قَوْل الزّبَيْرِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَقَوْلُ مُصْعَبٍ وَهَكَذَا وَجَدْت فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ سُفْيَانَ بْنَ الْعَاصِي .
مُنَاصَرَةُ أَبِي طَالِبٍ لِلرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 7 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ قُرَيْشًا حِينَ قَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ لَهُ يَا ابْنَ أَخِي ، إنّ قَوْمَك قَدْ جَاءُونِي ، فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا ، لِلّذِي كَانُوا قَالُوا لَهُ فَأَبْقِ عَلَيّ وَعَلَى نَفْسِك ، وَلَا تُحَمّلْنِي مِنْ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ فَظَنّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَدْ بَدَا لِعَمّهِ فِيهِ أَنّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ وَأَنّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ . قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَا عَمّ وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْته [ ص 8 ] قَالَ ثُمّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَبَكَى ثُمّ قَامَ فَلَمّا وَلّى نَادَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ أَقْبِلْ يَا ابْنَ أَخِي ، قَالَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ اذْهَبْ يَا ابْنَ أَخِي ، فَقُلْ مَا أَحْبَبْت ، فَوَاَللّهِ لَا أُسْلِمْك لِشَيْءِ أَبَدًا .
Sلَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي
فَصْلٌ
[ ص 7 ] وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ أَدَعَ هَذَا الّذِي جِئْت بِهِ مَا تَرَكْته أَوْ كَمَا قَالَ . خَصّ الشّمْسَ بِالْيَمِينِ لِأَنّهَا الْآيَةُ الْمُبْصِرَةُ وَخَصّ الْقَمَرَ بِالشّمَالِ لِأَنّهَا الْآيَةُ الْمَمْحُوّةُ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ - رَحِمَهُ اللّهُ - لِرَجُلِ قَالَ لَهُ إنّي رَأَيْت فِي الْمَنَامِ كَأَنّ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ يَقْتَتِلَانِ وَمَعَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نُجُومٌ فَقَالَ عُمَرُ مَعَ أَيّهِمَا كُنْت ؟ فَقَالَ مَعَ الْقَمَرِ قَالَ كُنْت مَعَ الْآيَةِ الْمَمْحُوّةِ اذْهَبْ فَلَا تَعْمَلْ لِي عَمَلًا ، وَكَانَ عَامِلًا لَهُ فَعَزَلَهُ فَقُتِلَ الرّجُلُ فِي صِفّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَاسْمُهُ حَابِسُ بْنُ سَعْدٍ ، وَخَصّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - النّيّرَيْنِ حِينَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِهِمَا ؛ لِأَنّ نُورَهُمَا مَحْسُوسٌ وَالنّورُ الّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ - وَهُوَ الّذِي أَرَادُوهُ عَلَى تَرْكِهِ - هُوَ لَا مَحَالَةَ أَشْرَفُ مِنْ النّورِ الْمَخْلُوقِ قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَنْ يُتِمّ نُورَهُ } [ التّوْبَةِ 33 ] . فَاقْتَضَتْ بَلَاغَةُ النّبُوّةِ - لِمَا أَرَادُوهُ عَلَى تَرْكِ النّورِ الْأَعْلَى - أَنْ يُقَابِلَهُ بِالنّورِ الْأَدْنَى ، وَأَنْ يَخُصّ أَعْلَى النّيّرَيْنِ وَهِيَ الْآيَةُ الْمُبْصِرَةُ بِأَشْرَفِ الْيَدَيْنِ وَهِيَ الْيُمْنَى بَلَاغَةٌ لَا مِثْلُهَا ، وَحِكْمَةٌ لَا يَجْهَلُ اللّبِيبُ فَضْلَهَا .
الْبَدَاءُ
وَقَوْلُ ابْنِ إسْحَاقَ : ظَنّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ قَدْ بَدَا لِعَمّهِ بَدَاءٌ أَيْ ظَهَرَ لَهُ رَأْيٌ [ ص 8 ] بَدَاءً لِأَنّهُ شَيْءٌ يَبْدُو بَعْدَ مَا خَفِيَ وَالْمَصْدَرُ الْبَدْءُ وَالْبَدْوُ وَالِاسْمُ الْبَدَاءُ وَلَا يُقَالُ فِي الْمَصْدَرِ بَدَا لَهُ بُدُوّ ، كَمَا لَا يُقَالُ ظَهَرَ لَهُ ظُهُورٌ بِالرّفْعِ لِأَنّ الّذِي يَظْهَرُ وَيَبْدُو هَاهُنَا هُوَ الِاسْمُ نَحْوَ الْبَدَاءِ وَأَنْشَدَ أَبُو عَلِيّ لَعَلّك وَالْمَوْعُودُ حَق ّ وَفَاؤُهُ بَدَا لَك فِي تِلْكَ الْقُلُوصِ بَدَاءُ
وَمِنْ أَجْلِ أَنّ الْبُدُوّ هُوَ الظّهُورُ كَانَ الْبَدَاءُ فِي وَصْفِ الْبَارِي - سُبْحَانَهُ - مُحَالًا ؛ لِأَنّهُ لَا يَبْدُو لَهُ شَيْءٌ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ وَالنّسْخُ لِلْحُكْمِ لَيْسَ بِبَدَاءِ كَمَا تَوَهّمَتْ الْجَهَلَةُ مِنْ الرّافِضَةِ وَالْيَهُودِ ، إنّمَا هُوَ تَبْدِيلُ حُكْمٍ بِحُكْمِ بِقَدَرِ قَدّرَهُ وَعِلْمٍ عَلِمَهُ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بَدَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَرَادَ . وَهَذَا مِنْ الْمَجَازِ الّذِي لَا سَبِيلَ إلَى إطْلَاقِهِ إلّا بِإِذْنِ مِنْ صَاحِبِ الشّرْعِ وَقَدْ صَحّ فِي ذَلِكَ مَا خَرّجَهُ الْبُخَارِيّ فِي حَدِيثِ الثّلَاثَةِ الْأَعْمَى وَالْأَقْرَعِ وَالْأَبْرَصِ وَأَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ قَالَ بَدَا لِلّهِ أَنْ يَبْتِلَهُمْ فَبَدَا هُنَا بِمَعْنَى : أَرَادَ وَذَكَرْنَا الرّافِضَةَ ، لِأَنّ ابْنَ أَعْيَنَ وَمَنْ اتّبَعَهُ مِنْهُمْ يُجِيزُونَ الْبَدَاءَ عَلَى اللّهِ تَعَالَى ، وَيَجْعَلُونَهُ وَالنّسْخَ شَيْئًا وَاحِدًا ، وَالْيَهُودُ لَا تُجِيزُ النّسْخَ يَحْسَبُونَهُ بَدَاءً وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ الْبَدَاءَ كَالرّافِضَةِ وَيُرْوَى أَنّ عَلِيّا - رَحِمَهُ اللّهُ - صَلّى يَوْمًا ، ثُمّ ضَحِكَ فَسُئِلَ عَنْ ضَحِكِهِ فَقَالَ تَذَكّرْت أَبَا طَالِبٍ حِينَ فُرِضَتْ الصّلَاةُ وَرَآنِي أُصَلّي مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِنَخْلَةَ فَقَالَ " مَا هَذَا الْفِعْلُ الّذِي أَرَى " ؟ فَلَمّا أَخْبَرْنَاهُ قَالَ " ذَا حَسَنٌ وَلَكِنْ لَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا ، لَا أُحِبّ أَنْ تَعْلُوَنِي اسْتِي " فَتَذَكّرْت الْآنَ قَوْلَهُ فَضَحِكْت .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ قُرَيْشًا حِينَ عَرَفُوا أَنّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ أَبَى خِذْلَانَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَإِسْلَامَهُ وَإِجْمَاعَهُ لِفِرَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ وَعَدَاوَتِهِمْ مَشَوْا إلَيْهِ [ ص 9 ] بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، قَالُوا لَهُ - فِيمَا بَلَغَنِي - يَا أَبَا طَالِبٍ هَذَا عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنْهَدُ فَتًى فِي قُرَيْشٍ وَأَجْمَلُهُ فَخُذْهُ فَلَك عَقْلُهُ وَنَصْرُهُ وَاِتّخِذْهُ وَلَدًا فَهُوَ لَك ، وَأَسْلِمْ إلَيْنَا ابْنَ أَخِيك هَذَا ، الّذِي قَدْ خَالَفَ دِينَك وَدِينَ آبَائِك ، وَفَرّقَ جَمَاعَةَ قَوْمِك ، وَسَفّهَ أَحْلَامَهُمْ فَنَقْتُلُهُ فَإِنّمَا هُوَ رَجُلٌ بِرَجُلِ فَقَالَ وَاَللّهِ لَبِئْسَ مَا تَسُومُونَنِي أَتُعْطُونَنِي ابْنَكُمْ أَغْذُوهُ لَكُمْ وَأُعْطِيكُمْ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ هَذَا وَاَللّهِ مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا . قَالَ فَقَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ : وَاَللّهِ يَا أَبَا طَالِبٍ لَقَدْ أَنْصَفَك قَوْمُك ، وَجَهَدُوا عَلَى التّخَلّصِ مِمّا تَكْرَهُهُ فَمَا أَرَاك تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِلْمُطْعِمِ وَاَللّهِ مَا أَنْصَفُونِي ، وَلَكِنّك قَدْ أَجْمَعْت خِذْلَانِي وَمُظَاهَرَةَ الْقَوْمِ عَلَيّ فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك أَوْ كَمَا قَالَ . قَالَ فَحَقِبَ الْأَمْرُ وَحَمِيَتْ الْحَرْبُ وَتَنَابَذَ الْقَوْمُ وَبَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا . فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ عِنْدَ ذَلِكَ - يُعَرّضُ بِالْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ - وَيَعُمّ مَنْ خَذَلَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَمَنْ عَادَاهُ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ ، وَيَذْكُرُ مَا سَأَلُوهُ وَمَا تَبَاعَدَ مِنْ أَمْرِهِمْ [ ص 10 ] [ ص 11 ]
أَلَا قُلْ لِعَمْرِو وَالْوَلِيدِ وَمُطْعِمٍ ... أَلَا لَيْتَ حَظّي مِنْ حِيَاطَتِكُمْ بَكْرُ
مِنْ الْخُورِ حَبْحَابٌ كَثِيرٌ رُغَاؤُهُ ... يُرَشّ عَلَى السّاقَيْنِ مِنْ بَوْلِهِ قَطْرُ
تَخَلّفَ خَلْفَ الْوِرْدِ لَيْسَ بِلَاحِقِ ... إذَا مَا عَلَا الْفَيْفَاءَ قِيلَ لَهُ وَبْرُ
أَرَى أَخَوَيْنَا مِنْ أَبِينَا وَأُمّنَا ... إذَا سُئِلَا قَالَا : إلَى غَيْرِنَا الْأَمْرُ
بَلَى لَهُمَا أَمْرٌ وَلَكِنْ تَجَرْجُمَا ... كَمَا جَرْجَمَتْ مِنْ رَأْسِ ذِي عَلَقَ صَخْرُ
أَخُصّ خُصُوصًا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... هُمَا نَبَذَانَا مِثْلَ مَا يُنْبَذُ الْجَمْرُ
هُمَا أَغْمَزَا لِلْقَوْمِ فِي أَخَوَيْهِمَا ... فَقَدْ أَصْبَحَا مِنْهُمْ أَكُفّهُمَا صِفْرُ
وَتَيْمٌ وَمَخْزُومٌ وَزُهْرَةُ مِنْهُمْ ... وَكَانُوا لَنَا مَوْلًى إذَا بُغِيَ النّصْرُ
فَوَاَللّهِ لَا تَنْفَكّ مِنّا عَدَاوَةٌ ... لَا مِنْهُمْ مَا كَانَ مِنْ نَسْلِنَا شَفْرُ
فَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُهُمْ وَعُقُولُهُمْ ... وَكَانُوا كَجَفْرِ بِئْسَ مَا صَنَعَتْ جَفْرُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتَيْنِ أَقْذَعَ فِيهِمَا .
Sعَرْضُ قُرَيْشٍ عَلَى أَبِي طَالِبٍ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ الْمَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي طَالِبٍ هَذَا عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنْهَدُ فَتًى فِي قُرَيْشٍ ، وَأَجْمَلُهُ فَخُذْهُ مَكَانَ ابْنِ أَخِيك . أَنْهَدُ . أَيْ أَقْوَى وَأَجْلَدُ وَيُقَالُ فَرَسٌ نَهْدٌ لِلّذِي يَتَقَدّمُ الْخَيْلَ وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ التّقَدّمُ وَمِنْهُ يُقَالُ نَهَدَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ أَيْ بَرَزَ قُدُمًا . [ ص 9 ] وَعُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ هَذَا الْمَذْكُورُ هُوَ الّذِي أَرْسَلَتْهُ قُرَيْشٌ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَسُحِرَ هُنَاكَ وَجُنّ وَسَنَزِيدُ فِي خَبَرِهِ شَيْئًا بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللّهُ . وَذَكَرُوا أَنّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ أَنْ يَأْخُذَ عُمَارَةَ بَدَلًا مِنْ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرَأَيْتُمْ نَاقَةً تَحِنّ إلَى غَيْرِ فَصِيلِهَا وَتَرْأَمُهُ لَا أُعْطِيكُمْ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ أَبَدًا ، وَآخُذُ ابْنَكُمْ أَكْفُلُهُ وَأَغْذُوهُ وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فَحَقِبَ الْأَمْرُ عِنْدَ ذَلِكَ يُرِيدُ اشْتَدّ وَهُوَ مِنْ قَوْلِك : حَقِبَ الْبَعِيرُ إذَا رَاغَ عَنْهُ الْحَقَبُ مِنْ شِدّةِ الْجَهْدِ وَالنّصَبِ وَإِذَا عَسُرَ عَلَيْهِ الْبَوْلُ أَيْضًا لِشَدّ الْحَقَبِ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيُقَالُ مِنْهُ حَقِبَ الْبَعِيرُ ثُمّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمْرِ إذَا عَسُرَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فَشَرِيَ الْأَمْرُ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْ انْتَشَرَ الشّرّ ، وَمِنْهُ الشّرَى ، وَهِيَ قُرُوحٌ تَنْتَشِرُ عَلَى الْبَدَنِ يُقَالُ مِنْهُ شَرِيَ جِلْدُ الرّجُلِ يَشْرَى شَرًى .
شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ شِعْرَ أَبِي طَالِبٍ [ ص 10 ] أَلَا لَيْتَ حَظّي مِنْ حِيَاطَتِكُمْ بَكْرُ
أَيْ إنّ بَكْرًا مِنْ الْإِبِلِ أَنْفَعُ لِي مِنْكُمْ فَلَيْتَهُ لِي بَدَلًا مِنْ حِيَاطَتِكُمْ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ فِي عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ :
فَلَيْتَ لَنَا مَكَانَ الْمَلْكِ عَمْرٍو ... رَغُوثًا حَوْلَ قُبّتِنَا تَخُورُ
وَقَوْلُهُ مِنْ الْخُورِ حَبْحَابٌ . الْخُورُ الضّعَافُ وَالْحَبْحَابُ بِالْحَاءِ الصّغِيرُ . وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ جِبْجَابٌ بِالْجِيمِ وَفَسّرَهُ فَقَالَ هُوَ الْكَثِيرُ الْهَدْرِ وَفِي الشّعْرِ إذَا مَا عَلَا الْفَيْفَاءَ قِيلَ لَهُ وَبْرُ
أَيْ يُشَبّهُ بِالْوَبْرِ لِصِغَرِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ يَصْغُرُ فِي الْعَيْنِ لِعُلُوّ الْمَكَانِ وَبُعْدِهِ وَالْفَيْفَاءُ فَعْلَاءُ وَلَوْلَا قَوْلُهُمْ الْفَيْفُ لَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى بَابِ الْقَضْقَاضِ وَالْجَرْجَارِ أَوْلَى ، وَلَكِنْ سُمِعَ الْفَيْفُ فَعُلِمَ أَنّ الْأَلِفَيْنِ زَائِدَتَانِ وَأَنّهُ مِنْ بَابِ قَلِقَ وَسَلِسَ الّذِي ضُوعِفَتْ فِيهِ فَاءُ الْفِعْلِ دُونَ عَيْنِهِ وَهِيَ أَلْفَاظٌ يَسِيرَةٌ نَحْوَ قَلِقَ وَسَلِسَ وَثُلُثٌ وَسُدُسٌ وَقَدْ اعْتَنَيْنَا بِجَمْعِهَا مِنْ الْكَلَامِ وَلَعَلّ لَهَا مَوْضِعًا تُذْكَرُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ، وَلَا تَكُونُ أَلِفُ فَيْفَاءَ لِلْإِلْحَاقِ فَيُصْرَفُ لِأَنّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فَعْلَالٌ فَإِنْ قِيلَ يَكُونُ مُلْحَقًا بِقَضْقَاضٍ وَبَابِهِ قُلْنَا : قَضْقَاضٌ ثُنَائِيّ مُضَاعَفٌ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ الثّلَاثِيّ ، كَمَا لَا يُلْحَقُ الرّبَاعِيّ بِالثّلَاثِيّ وَلَا الْأَكْبَرُ بِالْأَقَلّ وَقَدْ حُكِيَ فَيْفَاةٌ بِالْقَصْرِ وَلَيْسَتْ أَلِفُهَا لِلتّأْنِيثِ إذْ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ عَلَامَتَيْ تَأْنِيثٍ فَهِيَ إذًا مِنْ بَابِ أَرْطَاةَ وَنَحْوِهَا ، كَأَنّهَا مُلْحَقَةٌ بِسَلْهَبَةَ . وَفِي الشّعْرِ كَمَا جَرْجَمَتْ مِنْ رَأْسِ ذِي عَلَقَ صَخْرُ
[ ص 11 ] وَتُرِكَ صَرْفُ عَلَقَ إمّا لِأَنّهُ جَعَلَهُ اسْمَ بُقْعَةٍ وَإِمّا لِأَنّهُ اسْمُ عَلَمٍ وَتَرْكُ صَرْفِ الِاسْمِ الْعَلَمِ سَائِغٌ فِي الشّعْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَنّثًا وَلَا عَجَمِيّا نَحْوَ قَوْلِ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَنَحْوَ قَوْلِ الْآخَرِ
يَا مَنْ جَفَانِي وَمَلّا ... نَسِيت أَهْلًا وَسَهْلَا
وَمَاتَ مَرْحَبُ لَمّا ... رَأَيْت مَا لِي قَلّا
فَلَمْ يَصْرِفْ مَرْحَبَا ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ عَلَى هَذَا ، وَنَشْرَحُ الْعِلّةَ فِيهِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ، وَلَوْ رُوِيَ مِنْ رَأْسِ ذِي عَلَقَ الصّخْرُ بِحَذْفِ التّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ السّاكِنِينَ لَكَانَ حَسَنًا ، كَمَا قُرِئَ { قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ اللّهُ الصّمَدُ } بِحَذْفِ التّنْوِينِ مِنْ " أَحَدُ " ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَقَالَ الشّاعِرُ حُمَيْدُ الّذِي أَمُجّ دَارَهُ
[ ص 12 ] وَقَالَ آخَرُ وَلَا ذَاكِرُ اللّهِ إلّا قَلِيلَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ قُرَيْشًا تَذَامَرُوا بَيْنَهُمْ عَلَى مَنْ فِي الْقَبَائِلِ مِنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الّذِينَ أَسْلَمُوا مَعَهُ فَوَثَبَتْ كُلّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُعَذّبُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَمَنَعَ اللّهُ رَسُولَهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْهُمْ بِعَمّهِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ قَامَ أَبُو طَالِبٍ ، حِينَ رَأَى قُرَيْشًا يَصْنَعُونَ مَا يَصْنَعُونَ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ ، فَدَعَاهُمْ إلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَالْقِيَامِ دُونَهُ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ وَقَامُوا مَعَهُ وَأَجَابُوهُ إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ إلّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي لَهَبٍ عَدُوّ اللّهِ الْمَلْعُونِ . [ ص 12 ] سَرّهُ فِي جَهْدِهِمْ مَعَهُ وَحَدَبِهِمْ عَلَيْهِ جَعَلَ يَمْدَحُهُمْ وَيَذْكُرُ قَدِيمَهُمْ وَيَذْكُرُ فَضْلَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيهِمْ وَمَكَانَهُ مِنْهُمْ لِيَشُدّ لَهُمْ رَأْيَهُمْ وَلِيَحْدَبُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ فَقَالَ
إذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ ... لِمَفْخَرِ فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرّهَا وَصَمِيمُهَا
فَإِنْ حُصّلَتْ أَشْرَافُ عَبْدِ مَنَافِهَا ... فَفِي هَاشِمٍ أَشْرَافُهَا وَقَدِيمُهَا
تَدَاعَتْ قُرَيْشٌ غَثّهَا وَسَمِينُهَا ... عَلَيْنَا فَلَمْ تَظْفَرْ وَطَاشَتْ حُلُومُهَا
وَكُنّا قَدِيمًا لَا نُقِرّ ظُلَامَةً ... إذَا مَا ثَنَوْا صُعْرَ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا
وَنَحْمِي حِمَاهَا كُلّ يَوْمٍ كَرِيهَةً ... وَنَضْرِبُ عَنْ أَجْحَارِهَا مَنْ يَرُومُهَا
بِنَا انْتَعَشَ الْعُودُ الذّوَاءُ وَإِنّمَا ... بِأَكْنَافِنَا تَنْدِي وَتَنْمِي أُرُومُهَا
Sوَأَنْشَدَ قَوْلَ أَبِي طَالِبٍ
إذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ لِمَفْخَرِ ... فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرّهَا وَصَمِيمُهَا
قَوْلُهُ سِرّهَا ، أَيْ وَسَطُهَا ، وَسِرّ الْوَادِي وَسَرَارَتُهُ وَسَطُهُ وَقَدْ تَقَدّمَ مَتَى يَكُونُ الْوَسَطُ مَدْحًا ، وَأَنّ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي وَصْفِ الشّهُودِ وَفِي النّسَبِ وَبَيّنّا السّرّ فِي ذَلِكَ . وَقَالَ فِي الْقَصِيدَةِ وَنَضْرِبُ عَنْ أَحْجَارِهَا مَنْ يَرُومُهَا . أَيْ نَدْفَعُ عَنْ حُصُونِهَا وَمَعَاقِلِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ الرّوَايَةُ أَجْحَارُهَا بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ فَهُوَ جَمْعُ جُحْرٍ وَالْجُحْرُ هُنَا مُسْتَعَارٌ وَإِنّمَا يُرِيدُ عَنْ بُيُوتِهَا وَمَسَاكِنِهَا .
مَوْقِفُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مِنْ الْقُرْآنِ
ثُمّ إنّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ - وَكَانَ ذَا سِنّ فِيهِمْ وَقَدْ حَضَرَ [ ص 13 ] فَقَالَ لَهُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ وَإِنّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا ، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا ، وَلَا تَخْتَلِفُوا ، فَيُكَذّبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وَيَرُدّ قَوْلُكُمْ بَعْضُهُ بَعْضًا ، قَالُوا : فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ ، فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُولُ بِهِ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ فَقُولُوا أَسْمَعُ قَالُوا : نَقُولُ كَاهِنٌ قَالَ لَا وَاَللّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنِ لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ وَلَا سَجْعِهِ قَالُوا : فَنَقُولُ مَجْنُونٌ قَالَ مَا هُوَ بِمَجْنُونِ لَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ وَعَرَفْنَاهُ فَمَا هُوَ بِخَنِقِهِ وَلَا تَخَالُجِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ قَالُوا : فَنَقُولُ شَاعِرٌ قَالَ مَا هُوَ بِشَاعِرِ لَقَدْ عَرَفْنَا الشّعْرَ كُلّهُ رَجَزَهُ وَهَزَجَهُ وَقَرِيضَهُ وَمَقْبُوضَهُ وَمَبْسُوطَهُ فَمَا هُوَ بِالشّعْرِ قَالُوا : فَنَقُولُ سَاحِرٌ قَالَ مَا هُوَ بِسَاحِرِ لَقَدْ رَأَيْنَا السّحّارَ وَسِحْرَهُمْ فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِمْ وَلَا عَقْدِهِمْ قَالُوا : فَمَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ ؟ قَالَ وَاَللّهِ إنّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً ، وَإِنّ أَصْلَهُ لَعَذْقٌ وَإِنّ فَرْعَهُ لَجَنَاةٌ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ لَغَدَقٌ - وَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إلّا عُرِفَ أَنّهُ بَاطِلٌ وَإِنّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ [ ص 14 ] وَأَبِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجَتِهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ . فَتَفْرُقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ بِسُبُلِ النّاسِ حِينَ قَدِمُوا الْمَوْسِمَ لَا يَمُرّ بِهِمْ أَحَدٌ إلّا حَذّرُوهُ إيّاهُ وَذَكَرُوا لَهُمْ أَمْرَهُ .
Sمَوْقِفُ الْوَلِيدِ مِنْ الْقُرْآنِ
وَذَكَرَ خَبَرَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَقَوْلَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الْوَحْيِ وَالْقُرْآنِ قَدْ سَمِعْنَا الشّعْرَ فَمَا هُوَ بِهَزَجِهِ وَلَا رَجَزِهِ . وَالْهَزَجُ مِنْ أَعَارِيضِ الشّعْرِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ [ ص 13 ] يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي وَصْفِ الذّبَابِ هَزِجٌ أَيْ مُتَرَنّمٌ وَأَمّا الرّجَزُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَجَزْت الْحَمْلَ إذَا عَدَلْته بِالرّجَازَةِ وَهُوَ شَيْءٌ يُعْدَلُ بِهِ الْحَمْلُ وَكَذَلِكَ الرّجَزُ فِي الشّعْرِ أَشْطَارٌ مُعَدّلَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَجَزَتْ النّاقَةُ إذَا أَصَابَتْهَا رِعْدَةٌ عِنْدَ قِيَامِهَا ، كَمَا قَالَ الشّاعِرُ حَتّى تَقُومَ تَكَلّفَ الرّجْزَاءِ فَالْمُرْتَجِزُ كَأَنّهُ مُرْتَعِدٌ عِنْدَ إنْشَادِهِ لِقِصَرِ الْأَبْيَاتِ . وَقَوْلُهُ قَدْ سَمِعْنَا الْكُهّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ وَلَا سَجْعِهِ الزّمْزَمَةُ صَوْتٌ ضَعِيفٌ كَنَحْوِ مَا كَانَتْ الْفُرْسُ تَفْعَلُهُ عِنْدَ شُرْبِهَا الْمَاءَ وَيُقَالُ أَيْضًا : زَمْزَمَ الرّعْدُ وَهُوَ صَوْتٌ لَهُ قَبْلَ الْهَدْرِ وَكَذَلِكَ الْكُهّانُ كَانَتْ لَهُمْ زَمْزَمَةٌ اللّهُ أَعْلَمُ بِكَيْفِيّتِهَا ، وَأَمّا زَمْزَمَةُ الْفُرْسِ ، فَكَانَتْ مِنْ أُنُوفِهِمْ . وَقَوْلُ الْوَلِيدِ إنّ أَصْلَهُ لَعَذْقٌ وَإِنّ فَرْعَهُ لَجَنَاةٌ . اسْتِعَارَةٌ مِنْ النّخْلَةِ الّتِي ثَبَتَ أَصْلُهَا ، [ ص 14 ] وَطَابَ فَرْعُهَا إذَا جَنَى ، وَالنّخْلَةُ هِيَ الْعَذْقُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَرِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ أَفْصَحُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ ؛ لِأَنّهَا اسْتِعَارَةٌ تَامّةٌ يُشْبِهُ آخِرُ الْكَلَامِ أَوّلَهُ وَرِوَايَةُ ابْنِ هِشَامٍ : إنّ أَصْلَهُ لَغَدْقٌ وَهُوَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ وَمِنْهُ يُقَالُ غَيْدَقَ الرّجُلُ إذَا كَثُرَ بُصَاقُهُ وَأَحَدُ أَعْمَامِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ يُسَمّى : الْغَيْدَاقُ لِكَثْرَةِ عَطَائِهِ وَالْغَيْدَقُ أَيْضًا وَلَدُ الضّبّ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ الْحِسْلِ قَالَهُ قُطْرُبٌ فِي كِتَابِ الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ لَهُ .
مَا نَزَلَ فِي حَقّ الْوَلِيدِ مِنْ الْقُرْآنِ
فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلّا إِنّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا } [ الْمُدّثّرِ 11 - 16 ] أَيْ خَصِيمًا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَنِيدًا : مُعَانِدٌ مُخَالِفٌ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : وَنَحْنُ ضَرّابُونَ رَأْسَ الْعُنّدِ [ ص 15 ] { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنّهُ فَكّرَ وَقَدّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ ثُمّ قُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ ثُمّ نَظَرَ ثُمّ عَبَسَ وَبَسَرَ } [ الْمُدّثّرِ 17 - 22 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بَسَرَ كَرِهَ وَجْهَهُ . قَالَ الْعَجّاجُ مُضَبّرُ اللّحْيَيْنِ بَسْرًا مِنْهَا يَصِفُ كَرَاهِيَةَ وَجْهِهِ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ { ثُمّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلّا قَوْلُ الْبَشَرِ } [ الْمُدّثّرِ 23 - 25 ] . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : فِي رَسُولِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللّهِ تَعَالَى ، وَفِي النّفَرِ الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ يُصَنّفُونَ الْقَوْلَ فِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللّهِ تَعَالَى : { كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الْحِجْرِ : 90 - 93 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاحِدَةُ الْعِضِينَ عِضَةٌ يَقُولُ عَضّوْهُ فَرّقُوهُ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : وَلَيْسَ دِينُ اللّهِ بِالْمُعَضّى [ ص 16 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَجَعَلَ أُولَئِكَ النّفَرُ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِمَنْ لَقُوا مِنْ النّاسِ وَصَدَرَتْ الْعَرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْسِمِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَانْتَشَرَ ذِكْرُهُ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ كُلّهَا .
S{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا }
فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } الْآيَاتِ الّتِي نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ وَفِيهَا لَهُ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِأَنّ مَعْنَى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ } أَيْ دَعْنِي وَإِيّاهُ فَسَتَرَى مَا أَصْنَعُ بِهِ كَمَا قَالَ { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ } [ الْقَلَمِ 44ْ ] وَهِيَ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْمُغْتَاظُ إذَا اشْتَدّ غَيْظُهُ وَغَضَبُهُ وَكَرِهَ أَنْ يَشْفَعَ لِمَنْ اغْتَاظَ عَلَيْهِ فَمَعْنَى الْكَلَامِ أَيْ لَا شَفَاعَةَ تَنْفَعُ لِهَذَا الْكَافِرِ وَلَا اسْتِغْفَارَ يَا مُحَمّدٌ مِنْك ، وَلَا مِنْ غَيْرِك وَقَوْلُهُ { وَبَنِينَ شُهُودًا } أَيْ مُقِيمِينَ مَعَهُ غَيْرَ مُحْتَاجِينَ إلَى الْأَسْفَارِ وَالْغَيْبَةِ عَنْهُ لِأَنّ مَالَهُ مَمْدُودٌ وَالْمَالُ الْمَمْدُودُ عِنْدَهُمْ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَصَاعِدًا { وَمَهّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا } أَيْ هَيّأْت لَهُ وَقَدّمْت لَهُ مُقَدّمَاتٍ اسْتِدْرَاجًا لَهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا } هِيَ عَقَبَةٌ فِي جَهَنّمَ يُقَالُ لَهَا : الصّعُودُ مَسِيرُهَا سَبْعُونَ سَنَةً يُكَلّفُ الْكَافِرُ أَنْ يَصْعَدَهَا ، فَإِذَا صَعِدَهَا بَعْدَ [ ص 15 ] صُبّ مِنْ أَعْلَاهَا ، وَلَا يَتَنَفّسُ ثُمّ لَا يَزَالُ كَذَلِكَ أَبَدًا ، كَذَلِكَ جَاءَ فِي التّفْسِيرِ . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ } أَيْ لُعِنَ كَيْفَمَا كَانَ تَقْدِيرُهُ فَكَيْفَ هَاهُنَا مِنْ حُرُوفِ الشّرْطِ وَقِيلَ مَعْنَى قُتِلَ أَيْ هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُدْعَى عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ وَقَدْ فَسّرَ ابْنُ هِشَامٍ : بَسَرَ وَالْبَسْرُ أَيْضًا : الْقَهْرُ وَالْبَسْرُ حَمْلُ الْفَحْلِ عَلَى النّاقَةِ قَبْلَ وَقْتِ الضّرَابِ . وَفَسّرَ عِضِينَ [ ص 16 ] وَجَعَلَهُ مِنْ عَضّيْت أَيْ فَرّقْت ، وَفِي الْحَدِيثِ " لَا تَعْضِيَةَ فِي مِيرَاثٍ إلّا مَا احْتَمَلَهُ الْقَسْمُ " وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَرَأْيِهِ فِي كُلّ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إذَا قُسِمَ أَوْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الشّرِيكَيْنِ أَلّا يُقْسَمَ وَهُوَ خِلَافُ رَأْيِ مَالِكٍ ، وَحُجّةُ مَالِكٍ قَوْلُ اللّهِ تَعَالَى : { مِمّا قَلّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } [ النّسَاءِ 7 ] . وَقَدْ قِيلَ فِي عِضِينَ إنّهُ جَمْعُ عِضَةٍ وَهِيَ السّحْرُ وَأَنْشَدُوا :
أَعُوذُ بِرَبّي مِنْ النّافِثَيْا ... ت فِي الْعُقَدِ الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ يَا لِلْعَضِيهَةِ وَيَا لِلْأَفِيكَةِ [ وَيَا لِلْبَهِيتَةِ ]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق