الجمعة، 4 مايو 2018

فصل في غزوة بني قريظة البداية والنهاية لابن كثير الحافظ


فصل في غزوة بني قريظة
وما أحل الله تعالى بهم من البأس الشديد، مع ما أعد الله لهم في الآخرة من العذاب الأليم، وذلك لكفرهم ونقضهم العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله ، وممالأتهم الأحزاب عليه، فما أجدى ذلك عنهم شيئا، وباؤا بغضب من الله ورسوله، والصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة.
وقد قال الله تعالى: { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّا عَزِيزا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرا } [الأحزاب: 25-27] .
قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا عبد الله، حدثنا موسى بن عقبة، عن سالم ونافع عن عبد الله أن رسول الله كان إذا قفل من الغزو والحج والعمرة، يبدأ فيكبر ثم يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده».
قال محمد بن إسحاق رحمه الله: ولما أصبح رسول الله انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة و المسلمون، ووضعوا السلاح، فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله ، كما حدثني الزهري معتجرا بعمامة من استبرق، على بغلة عليها رحالة، عليها قطيفة من ديباج فقال: أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟
قال: «نعم» فقال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم.
فأمر رسول الله مؤذنا فأذن في الناس: «من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة».
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
وقال البخاري: حدثني عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا ابن نمير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما رجع النبي من الخندق، ووضع السلاح، واغتسل، أتاه جبريل فقال: قد وضعت السلاح والله ما وضعناه! فاخرج إليهم.
قال: «فإلى أين؟» قال: ها هنا، وأشار إلى بني قريظة. فخرج النبي .
وقال أحمد: وحدثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله لما فرغ من الأحزاب دخل المغتسل ليغتسل، وجاء جبريل فرأيته من خلل البيت قد عصب رأسه الغبار، فقال: يا محمد أوضعتم أسلحتكم؟
فقال: «وضعنا أسلحتنا» فقال: إنا لم نضع أسلحتنا بعد، انهد إلى بني قريظة.
ثم قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جرير بن حازم، عن حميد بن هلال، عن أنس بن مالك قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل، حين سار رسول الله إلى بني قريظة.
ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، حدثنا جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله يوم الأحزاب: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي العصر حتى نأتيها.
وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي فلم يعنف واحدا منهم.
وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد بن أسماء به.
وقال الحافظ البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن خالد بن علي، حدثنا بشر بن حرب، عن أبيه، حدثنا الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عمه عبيد الله أخبره:
أن رسول الله لما رجع من طلب الأحزاب، وضع عنه اللأمة واغتسل واستحم، فتبدى له جبريل عليه السلام فقال: عذيرك من محارب إلا أراك قد وضعت اللأمة، وما وضعناها بعد.
قال: فوثب النبي فزعا، فعزم على الناس أن لا يصلوا صلاة العصر إلا في بني قريظة، قال: فلبس الناس السلاح، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس، فاختصم الناس عند غروب الشمس.
فقال بعضهم: إن رسول الله عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتي بني قريظة، فإنما نحن في عزيمة رسول الله ، فليس علينا إثم. وصلى طائفة من الناس احتسابا، وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس، فصلوها حين جاؤوا بني قريظة احتسابا فلم يعنف رسول الله واحدا من الفريقين.
ثم روى البيهقي من طريق عبد الله العمري، عن أخيه عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول الله كان عندها فسلم علينا رجل ونحن في البيت، فقام رسول الله فزعا، وقمت في أثره فإذا بدحية الكلبي.
فقال: «هذا جبريل أمرني أن أذهب إلى بني قريظة» وقال: «قد وضعتم السلاح، لكنا لم نضع، طلبنا المشركين حتى بلغنا حمراء الأسد» وذلك حين رجع رسول الله من الخندق.
فقام رسول الله فزعا، وقال لأصحابه: «عزمت عليكم أن لا تصلوا صلاة العصر حتى تأتوا بني قريظة» فغربت الشمس قبل أن يأتوهم، فقالت طائفة من المسلمين:
إن رسول الله لم يرد أن تدعوا الصلاة فصلوا، وقالت طائفة: والله إنا لفي عزيمة رسول الله وما علينا من إثم، فصلت طائفة إيمانا واحتسابا، وتركت طائفة إيمانا واحتسابا، ولم يعنف رسول الله واحدا من الفريقين.
وخرج رسول الله فمر بمجالس بينه وبين بني قريظة، فقال: «هل مر بكم أحد؟» فقالوا: مر علينا دحية الكلبي، على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج، فقال: «ذلك جبريل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم، ويقذف في قلوبهم الرعب».
فحاصرهم النبي ، وأمر أصحابه أن يستروه بالجحف حتى يسمع كلامهم فناداهم: يا إخوة القردة والخنازير.
فقالوا: يا أبا القاسم لم تكن فحاشا، فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ.
وكانوا حلفاءه فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم.
ولهذا الحديث طرق جيدة عن عائشة وغيرها.
وقد اختلف العلماء في المصيب من الصحابة يومئذ من هو؟ بل الإجماع على أن كلا من الفريقين مأجور ومعذور غير معنف، فقالت طائفة من العلماء: الذين أخروا الصلاة يومئذ عن وقتها المقدر لها حتى صلوها في بني قريظة هم المصيبون، لأن أمرهم يومئذ تأخير الصلاة خاص فيقدم على عموم الأمر بها في وقتها المقدر لها شرعا.
قال أبو محمد بن حزم الظاهري في كتاب (السيرة): وعلم الله أنا لو كنا هناك، لم نصل العصر إلا في بني قريظة، ولو بعد أيام.
وهذا القول منه ماش على قاعدته الأصلية في الأخذ بالظاهر.
وقالت طائفة أخرى من العلماء: بل الذين صلوا الصلاة في وقتها، لما أدركتهم وهم في مسيرهم هم المصيبون، لأنهم فهموا أن المراد إنما هو تعجيل السير إلى بني قريظة، لا تأخير الصلاة، فعملوا بمقتضى الأدلة الدالة على أفضلية الصلاة في أول وقتها، مع فهمهم عن الشارع ما أراد، ولهذا لم يعنفهم، ولم يأمرهم بإعادة الصلاة في وقتها التي حولت إليه يومئذ كما يدعيه أولئك.
وأما أولئك الذين أخروا فعذروا بحسب ما فهموا، وأكثر ما كانوا يؤمرون بالقضاء، وقد فعلوه.
وأما على قول من يجوز تأخير الصلاة لعذر القتال، كما فهمه البخاري، حيث احتج على ذلك بحديث ابن عمر المتقدم في هذا، فلا إشكال على من أخر، ولا على من قدم أيضا، والله أعلم.
ثم قال ابن إسحاق: وقدم رسول الله علي بن أبي طالب، ومعه رايته، وابتدرها الناس.
وقال موسى بن عقبة في (مغازيه) عن الزهري: فبينما رسول الله في مغتسله كما يزعمون، قد رجل أحد شقيه، أتاه جبريل على فرس، عليه لأمته، حتى وقف بباب المسجد، عند موضع الجنائز، فخرج إليه رسول الله فقال له جبريل: غفر الله لك، أو قد وضعت السلاح؟
قال: «نعم» فقال جبريل: لكنا لم نضعه منذ نزل بك العدو، وما زلت في طلبهم حتى هزمهم الله - ويقولون إن على وجه جبريل لأثر الغبار - فقال له جبريل: إن الله قد أمرك بقتال بني قريظة، فأنا عامد إليهم بمن معي من الملائكة نزلزل بهم الحصون، فاخرج بالناس.
فخرج رسول الله في أثر جبريل، فمر على مجلس بني غنم وهم ينتظرون رسول الله فسألهم فقال: «مر عليكم فارس آنفا؟» قالوا: مر علينا دحية الكلبي على فرس أبيض، تحته نمط أو قطيفة ديباج، عليه اللأمة.
فذكروا أن رسول الله قال: «ذاك جبريل».
وكان رسول الله يشبه دحية الكلبي بجبريل، فقال: «ألحقوني ببني قريظة، فصلوا فيهم العصر» فقاموا وما شاء الله من المسلمين، فانطلقوا إلى بني قريظة، فحانت صلاة العصر وهم بالطريق، فذكروا الصلاة فقال بعضهم لبعض: ألم تعلموا أن رسول الله أمركم أن تصلوا العصر في بني قريظة.
وقال آخرون: هي الصلاة، فصلى منهم قوم، وأخرت طائفة الصلاة حتى صلوها في بني قريظة بعد أن غابت الشمس، فذكروا لرسول الله من عجل منهم الصلاة، ومن أخرها، فذكروا أن رسول الله لم يعنف واحدا من الفريقين.
قال: فلما رأى علي بن أبي طالب رسول الله مقبلا، تلقاه وقال: ارجع يا رسول الله فإن الله كافيك اليهود.
وكان علي قد سمع منهم قولا سيئا لرسول الله وأزواجه رضي الله عنهن، فكره أن يسمع ذلك رسول الله ، فقال رسول الله : «لمَ تأمرني بالرجوع؟» فكتمه ما سمع منهم.
فقال: «أظنك سمعت فيَّ منهم أذى، فامض فإن أعداء الله لو رأوني لم يقولوا شيئا مما سمعت».
فلما نزل رسول الله بحصنهم، وكانوا في أعلاه نادى بأعلى صوته نفرا من أشرافهم حتى أسمعهم فقال: «أجيبوا يا معشر يهود، يا إخوة القردة، قد نزل بكم خزي الله عز وجل»
فحاصرهم رسول الله بكتائب المسلمين بضع عشرة ليلة، ورد الله حيي بن أخطب حتى دخل حصن بني قريظة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، واشتد عليهم الحصار، فصرخوا بأبي لبابة بن عبد المنذر - وكانوا حلفاء الأنصار - فقال أبو لبابة: لا آتيهم حتى يأذن لي رسول الله .
فقال له رسول الله : «قد أذنت لك» فأتاهم أبو لبابة فبكوا إليه، وقالوا: يا أبا لبابة ماذا ترى، وماذا تأمرنا، فإنه لا طاقة لنا بالقتال.
فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه، وأمر عليه أصابعه، يريهم إنما يراد بهم القتل.
فلما انصرف أبو لبابة سقط في يده، ورأى أنه قد أصابته فتنة عظيمة، فقال: والله لا أنظر في وجه رسول الله ، حتى أحدث لله توبة نصوحا يعلمها الله من نفسي.
فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جذع من جذوع المسجد، وزعموا أنه ارتبط قريبا من عشرين ليلة.
فقال رسول الله حين غاب عليه أبو لبابة: «أما فرغ أبو لبابة من حلفائه؟» فذكر له ما فعل. فقال: «لقد أصابته بعدي فتنة، ولو جاءني لاستغفرت له، وإذ قد فعل هذا فلن أحركه من مكانه، حتى يقضي الله فيه ما يشاء.
وهكذا رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة.
وكذا ذكره محمد بن إسحاق في (مغازيه) في مثل سياق موسى بن عقبة، عن الزهري، ومثل رواية أبي الأسود عن عروة.
قال ابن إسحاق: ونزل رسول الله على بئر من آبار بني قريظة، من ناحية أموالهم، يقال لها بئر أنى، فحصرهم خمسا وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب.
وقد كان حيي بن أخطب دخل معهم حصنهم، حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاءً لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه.
فلما أيقنوا أن رسول الله غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر، ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا بما شئتم منها.
قالوا: وما هن؟
قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي تجدونه في كتابكم، فتُأمنون به على دمائكم، وأموالكم، وأبنائكم، ونسائكم قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره.
قال: فإذا أبيتم عليَّ هذه فهلم، فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه، رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك، ولم نترك نسلا نخشى عليه، وإن نظهر، فلعمري لنجدن النساء والأبناء.
قالوا: أنقتل هؤلاء المساكين؟ فما خير العيش بعدهم؟
قال: فإن أبيتم علي هذه، فالليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة.
قالوا: أنفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عنك، من المسخ فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازما.
ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم وقالوا يا أبا لبابة: أترى أن ننزل على حكم محمد؟
قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح.
قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني حتى يتوب الله على ما صنعت، وعاهد الله أن لا أطأ بني قريظة أبدا، ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.
قال ابن هشام: وأنزل الله فيما قال سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي قتادة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [الأنفال: 27] .
قال ابن هشام: أقام مرتبطا ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة، فتحله حتى يتوضأ ويصلي، ثم يرتبط حتى نزلت توبته في قوله تعالى: { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحا وَآخَرَ سَيِّئا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 102] .
وقول موسى بن عقبة: إنه مكث عشرين ليلة مرتبطا به، والله أعلم.
وذكر ابن إسحاق: أن الله أنزل توبته على رسوله من آخر الليل وهو في بيت أم سلمة، فجعل يبتسم، فسألته أم سلمة فأخبرها بتوبة الله على أبي لبابة، فاستأذنته أن تبشره فأذن لها، فخرجت فبشرته، فثار الناس إليه يبشرونه، وأرادوا أن يحلوه من رباطه، فقال: والله لا يحلني إلا رسول الله ، فلما خرج رسول الله إلى صلاة الفجر حله من رباطه، رضي الله عنه وأرضاه.
قال ابن إسحاق: ثم إن ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، وهم نفر من بني هدل ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك، هم بنو عم القوم أسلموا في تلك الليلة التي أنزلت فيها قريظة على حكم رسول الله ، وخرج في تلك عمرو بن سُعدى القرظي فمر بحرس رسول الله وعليهم محمد بن مسلمة تلك الليلة، فلما رآه قال: من هذا؟
قال: أنا عمرو بن سعدى - وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله وقال: لا أغدر بمحمد أبدا - فقال محمد بن مسلمة حين عرفه:
اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام، ثم خلى سبيله فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله بالمدينة تلك الليلة، ثم ذهب لم يدر أين توجه من الأرض إلى يومه هذا، فذكر شأنه لرسول الله فقال: «ذاك رجل نجاه الله بوفائه».
قال: وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة، فأصبحت رمته ملقاة ولم يدر أين ذهب، فقال رسول الله فيه تلك المقالة، والله أعلم أي ذلك كان.
قال ابن إسحاق: فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله ، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت، يعنون عفوه عن بني قينقاع، حين سأله فيهم عبد الله ابن أبيّ كما تقدم.
قال ابن إسحاق: فلما كلمته الأوس قال رسول الله : «يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟».
قالوا: بلى.
قال: «فذلك إلى سعد بن معاذ».
وكان رسول الله قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده، وكانت تداوي الجرحى، فلما حكمه في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما جميلا.
ثم أقبلوا معه إلى رسول الله وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه، فلما انتهى سعد إلى رسول الله والمسلمين، قال رسول الله : «قوموا إلى سيدكم».
فأما المهاجرون من قريش فيقولون: إنما أراد الأنصار، وأما الأنصار فيقولون: قد عم رسول الله المسلمين، فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمر إن رسول الله قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم.
فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، إن الحكم فيهم لما حكمت؟
قالوا: نعم.
قال: وعلي من ها هنا في الناحية التي فيها رسول الله ، وهو معرض عن رسول الله إجلالا له، فقال رسول الله : «نعم».
قال سعد: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي قال: قال رسول الله لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة».
وقال ابن هشام: حدثني من أثق به من أهل العلم: إن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة: يا كتيبة الإيمان، وتقدم هو والزبير بن العوام وقال: والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو أقتحم حصنهم.
فقالوا: يا محمد ننزل على حكم سعد بن معاذ.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، سمعت أبا أمامة بن سهل، سمعت أبا سعيد الخدري قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ قال: فأرسل رسول الله إلى سعد فأتاه على حمار، فلما دنا قريبا من المسجد قال:
قال رسول الله : «قوموا لسيدكم أو خيركم» ثم قال: إن هؤلاء نزلوا على حكمك.
قال: نقتل مقاتلتهم ونسبي ذريتهم.
قال: فقال رسول الله : «قضيت بحكم الله» وربما قال: «قضيت بحكم الملك» وفي رواية «الملك» أخرجاه في الصحيحين من طرق عن شعبة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجين، ويونس قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله أنه قال: رمى يوم الأحزاب سعد بن معاذ فقطعوا أكحله، فحسمه رسول الله بالنار، فانتفخت يده فنزفه فحسمه أخرى، فانتفخت يده فنزفه.
فلما رأى ذلك قال: اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة، فاستمسك عرقه فما قطر قطرة حتى نزلوا على حكم سعد، فأرسل إليه فحكم أن تقتل رجالهم، وتسبى نساؤهم وذراريهم، يستعين بهم المسلمون.
فقال رسول الله : «أصبت حكم الله فيهم» وكانوا أربعمائة، فلما فرغ من قتلهم انفتق عرقه فمات.
وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة، عن الليث به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير، عن هشام، أخبرني أبي عن عائشة قالت: لما رجع رسول الله من الخندق ووضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل وعلى رأسه الغبار فقال: قد وضعت السلاح، فوالله ما وضعتها، أُخرج إليهم.
قال رسول الله : «فأين؟» قال: ها هنا، وأشار إلى بني قريظة، فخرج رسول الله إليهم.
قال هشام: فأخبرني أبي أنهم نزلوا على حكم النبي ، فرد الحكم فيهم إلى سعد، قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وتسبى النساء والذرية وتقسم أموالهم.
قال هشام: قال أبي: فأخبرت أن رسول الله قال: «لقد حكمت فيهم بحكم الله».
وقال البخاري: حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له: حِبَّان بن العرقة، رماه في الأكحل، فضرب النبي خيمة في المسجد ليعوده من قريب.
فلما رجع رسول الله من الخندق وضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل وهو ينفض رأسه من الغبار فقال: قد وضعت السلاح، والله ما وضعته، أُخرج إليهم.
قال النبي : «فأين؟» فأشار إلى بني قريظة، فأتاهم رسول الله ، فنزلوا على حكمه، فرد الحكم إلى سعد، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم.
قال هشام: فأخبرني أبي عن عائشة: أن سعدا قال: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليَّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء، فأبقني له حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتي فيها.
فانفجرت من لبته، فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا هو سعد يغدو جرحه دما فمات منها.
وهذا رواه مسلم من حديث عبد الله بن نمير به.
قلت: كان دعا أولا بهذا الدعاء قبل أن يحكم في بني قريظة ولهذا قال فيه: ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة فاستجاب الله له، فلما حكم فيهم وأقر الله عينه أيَّ قرار، دعا ثانيا بهذا الدعاء، فجعلها الله له شهادة رضي الله عنه وأرضاه. وسيأتي ذكر وفاته قريبا إن شاء الله.
وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر عن عائشة مطولا جدا وفيه فوائد فقال: حدثنا يزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبيه، عن جده علقمة بن وقاص قال: أخبرتني عائشة قالت: خرجت يوم الخندق أقفو الناس، فسمعت وئيد الأرض ورائي، فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة.
قالت: فجلست إلى الأرض، فمر سعد وعليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه، فأنا أتخوف على أطراف سعد، قالت: وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم، فمر وهو يرتجز ويقول:
لبث قليلا يدركَ الهيجا جملٌ * ما أحسنَ الموت إذا حانَ الأجل
قالت: فقمت فاقتحمت حديقة فإذا نفر من المسلمين، فإذا فيها عمر بن الخطاب، وفيهم رجل عليه سبغة له - تعني المغفر - فقال عمر: ما جاء بك والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوّز، فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض فتحت ساعتئذ فدخلت فيها.
فرفع الرجل السبغة عن وجهه، فإذا هو طلحة بن عبيد الله فقال: يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم، وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله عز وجل.
قالت: ويرمي سعدا رجل من قريش يقال له: ابن العرقة وقال: خذها، وأنا ابن العرقة، فأصاب أكحله فقطعه، فدعا الله سعد فقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
قالت: وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية، قالت: فرقأ كلمة، وبعث الله الريح على المشركين، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا.
فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله إلى المدينة، وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد في المسجد.
قالت: فجاء جبريل وإن على ثناياه لنقع الغبار، فقال: أقد وضعت السلاح لا والله ما وضعت الملائكة السلاح بعد، أخرج إلى بني قريظة فقاتلهم.
قالت: فلبس رسول الله لأمته، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا، فمر على بني غنم وهم جيران المسجد حوله فقال: «من مر بكم؟».
قالوا: مر بنا دحية الكلبي - وكان دحية الكلبي تشبه لحيته وسنه ووجهه جبريل عليه السلام - فأتاهم رسول الله فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة.
فلما اشتد حصرهم، واشتد البلاء قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله ، فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم أنه الذبح قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فقال رسول الله : «انزلوا على حكم سعد بن معاذ».
فأُتي به على حمار عليه أكاف من ليف قد حمل عليه، وحف به قومه فقالوا: يا أبا عمرو حلفاؤك ومواليك وأهل النكاية ومن قد علمت، قالت: ولا يرجع إليهم شيئا، ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه فقال: قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم.
قالت: قال أبو سعيد: فلما طلع قال رسول الله : «قوموا إلى سيدكم فأنزلوه» قال عمر: سيدنا الله، قال: «أنزلوه» فأنزلوه.
قال رسول الله : «اُحكم فيهم» فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم.
فقال رسول الله : «لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله».
ثم دعا سعد فقال: اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئا فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك.
قالت: فانفجر كلمه، وكان قد برئ حتى لا يرى منه إلا مثل الخرص، ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله .
قالت عائشة: فحضره رسول الله ، وأبو بكر، وعمر قالت: فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر، من بكاء أبي بكر، وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله: { رحماء بينهم } .
قال علقمة: فقلت: يا أمة فكيف كان رسول الله يصنع؟
قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد، ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته.
وهذا الحديث إسناده جيد، وله شواهد من وجوه كثيرة، وفيه التصريح بدعاء سعد مرتين مرة قبل حكمه في بني قريظة، ومرة بعد ذلك كما قلناه أولا، ولله الحمد والمنة، وسنذكر كيفية وفاته ودفنه وفضله في ذلك رضي الله عنه وأرضاه، بعد فراغنا من القصة.
قال ابن إسحاق: ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله بالمدينة في دار بنت الحارث، امرأة من بني النجار قلت: هي نسيبة ابنة الحارث بن كرز بن حبيب بن عبد شمس، وكانت تحت مسيلمة الكذاب، ثم خلف عليها عبد الله بن عامر بن كريز.
ثم خرج إلى سوق المدينة، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، فخرج بهم إليه أرسالا وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد، رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة. والمكثر لهم يقول: كانوا ما بين الثمانمائة والتسعمائة.
قلت: وقد تقدم فيما رواه الليث عن أبى الزبير عن جابر: أنهم كانوا أربعمائة، فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: وقد قالوا لكعب بن أسد، وهم يُذهب بهم إلى رسول الله أرسالا: يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون، ألا ترون الداعي لا ينزع، ومن ذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل.
فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم، وأُتي بحيي بن أخطب وعليه حلة له فقاحية، قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل.
فلما نظر إلى رسول الله قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل.
ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه، فقال جبل بن جوال الثعلبي:
لعمرك ما لام ابن أخطبَ نفسه * ولكنه مَنْ يخذلِ الله يخُذل
لجاهدَ حتى أبلغَ النفس عُذرها * وقلقل يبغي العزّ كل مقلقل
وذكر ابن إسحاق قصة الزبير بن باطا، وكان شيخا كبيرا قد عمي، وكان قد منَّ يوم بعاث على ثابت بن قيس بن شماس، وجزَّ ناصيته، فلما كان هذا اليوم أراد أن يكافئه فجاءه فقال: هل تعرفني يا أبا عبد الرحمن؟ قال: وهل يجهل مثلي مثلك؟ فقال له ثابت: أريد أن أكافئك فقال: إن الكريم يجزي الكريم.
فذهب ثابت إلى رسول الله فاستطلقه فأطلقه له، ثم جاءه فأخبره فقال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد، فما يصنع بالحياة؟ فذهب إلى رسول الله فاستطلق له امرأته وولده، فأطلقهم له ثم جاءه فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك؟
فأتى ثابت إلى رسول الله فاستطلق مال الزبير بن باطا فأطلقه له، ثم جاءه فأخبره فقال له: يا ثابت ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى حي كعب بن أسد؟
قال: قتل.
قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب؟
قال: قتل.
قال: قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا: عزال بن شموال؟
قال: قتل.
قال: فما فعل المجلسان؟ - يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة - قال: ذهبوا قتلوا.
قال: فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر لله فيلة دلو ناضح، حتى ألقى الأحبة. فقدمه ثابت فضربت عنقه.
فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله: ألقى الأحبة، قال: يلقاهم والله في نار جهنم خالدا فيها مخلدا.
قال ابن إسحاق: فيلة بالفاء والياء المثناة من أسفل.
وقال ابن هشام: بالقاف والباء الموحدة.
وقال ابن هشام: الناضح البعير الذي يستقي عليه الماء لسقي النخل.
وقال أبو عبيدة: معناه إفراغه دلو.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله قد أمر كل بقتل من أنبت منهم.
فحدثني شعبة بن الحجاج عن عبد الملك بن عُمير، عن عطية القرظي قال: كان رسول الله قد أمر أن يقتل من بني قريظة كل من أنبت منهم، وكنت غلاما فوجدوني لم أنبت، فخلوا سبيلي.
ورواه أهل السنن الأربعة من حديث عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي نحوه.
وقد استدل به من ذهب من العلماء إلى أن إنبات الشعر الخشن حول الفرج دليل على البلوغ، بل هو بلوغ في أصح قولي الشافعي، ومن العلماء من يقرن بين صبيان أهل الذمة يكون بلوغا في حقهم دون غيرهم، لأن المسلم قد يتأذى بذلك لمقصد.
وقد روى ابن إسحاق عن أيوب بن عبد الرحمن، أن سلمى بنت قيس، أم المنذر استطلقت من رسول الله رفاعة بن شموال، وكان قد بلغ، فلاذ بها، وكان يعرفهم قبل ذلك فأطلقه لها، وكانت قالت: يا رسول الله إن رفاعة يزعم أنه سيصلى ويأكل لحمل الجمل، فأجابها إلى ذلك فأطلقه.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، قالت: والله إنها لعندي تحدث معي، تضحك ظهرا وبطنا، ورسول الله يقتل رجالها في السوق، إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟
قالت: أنا والله، قالت: قلت لها: ويلك مالك؟ قالت: أقتل! قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته، قالت: فانطلق بها فضربت عنقها.
وكانت عائشة تقول: فوالله ما أنسى عجبا منها طيب نفسها، وكثرة ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل.
وهكذا رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه عن محمد بن إسحاق به.
قال ابن إسحاق: هي التي طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته، يعني: فقتلها رسول الله به.
قال ابن إسحاق في موضع آخر: وسماها نباتة امرأة الحكم القرظي.
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله قسَّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، بعد ما أخرج الخمس، وقسَّم للفارس ثلاثة أسهم، سهمين للفرس، وسهما لراكبه، وسهما للراجل، وكانت الخيل يومئذ ستا وثلاثين.
قال: وكان أول فيء وقعت فيه السهمان وخمس.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله سعيد بن زيد بسبايا من بني قريظة إلى نجد، فابتاع بها خيلا وسلاحا.
وكان رسول الله قد اصطفى من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة، إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، وكان عليها حتى توفي عنها، وهي في ملكه، وقد كان رسول الله عرض عليها الإسلام فامتنعت، ثم أسلمت بعد ذلك.
فسُر رسول الله بإسلامها، وقد عرض عليها أن يعتقها ويتزوجها، فاختارت أن تستمر على الرق ليكون أسهل عليها، فلم تزل عنده حتى توفي عليه الصلاة والسلام.
ثم تكلم ابن إسحاق على ما نزل من الآيات في قصة الخندق من أول سورة الأحزاب، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في تفسيرها، ولله الحمد والمنة.
وقد قال ابن إسحاق: واستشهد من المسلمين يوم بني قريظة: خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو الخزرجي، طرحت عليه رحا فشدخته شدخا شديدا، فزعموا أن رسول الله قال: «إن له لأجر شهيدين» قلت: كان الذي ألقى عليه الرحى تلك المرأة التي لم يقتل من بني قريظة امرأة غيرها كما تقدم، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: ومات أبو سنان بن محصن بن حُرثان، من بني أسد بن خزيمة، ورسول الله محاصر بني قريظة فدفن في مقبرتهم اليوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق