الباب التاسع والثلاثون في :
|
إبطال القول بالعلل في
جميع أحكام الدين
قال أبو محمد علي بن أحمد، رضي الله عنه: ذهب القائلون بالقياس من المتحذلقين المتأخرين إلى القول بالعلل، واختلف المبطلون للقياس، فقالت طائفة منهم: إذا نص الله تعالى على أنه جعل شيئا ما سببا لحكم ما، فحيث ما وجد ذلك السبب وجد ذلك الحكم، وقالوا: مثال ذلك قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، إذ نهى عن الذبح بالسن: وأما السن فإنه عظم. قالوا: فكل عظم لا يجوز الذبح به أصلا، قالوا: ومن ذلك قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في السمن تقع فيه الفأرة: فإن كان مائعا فلا تقربوه قالوا: فالميعان سبب أن لا يقرب، فحيث ما وجد مائع حلت فيه نجاسة فالواجب ألا يقرب. قال أبو محمد: وهذا ليس يقول به أبو سليمان رحمه الله، ولا أحد من أصحابنا، وإنما هو قول لقوم لا يعتد بهم في جملتنا كالقاساني وضربائه. وقال هؤلاء: وأما ما لا نص فيه فلا يجوز أن يقال فيه: إن هذا لسبب كذا. وقال أبو سليمان، وجميع أصحابه رضي الله عنهم: لا يفعل الله شيئا من الاحكام وغيرها لعلة أصلا بوجه من الوجوه، فإذا نص الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم على أن أمر كذا لسبب كذا أو من أجل كذا، ولان كان كذا أو لكذا، فإن ذلك كله ندري أنه جعله الله أسبابا لتلك الاشياء في تلك المواضع التي جاء النص بها فيها. ولا توجب تلك الاسباب شيئا من تلك الاحكام في غير تلك المواضع البتة، قال أبو محمد: وهذا هو ديننا الذي ندين به، وندعو عباد الله تعالى إليه، ونقطع على أنه الحق عند الله تعالى. فأما الحديث الذي ذكروا في السن أنه عظم، فكل عظم ما عدا السن فالتذكية به جائزة، لان النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكن عاجزا عما قدر عليه هؤلاء المتخرصون، ولو كانت الذكاة بالعظام حراما لما اقتصر (صلى الله عليه وسلم) على ذكر السن وحده، ولما رضي بهذا العي من ذكر شئ وهو يريد غيره، ولقال: ما أنهر الدم وفرى الاوداج فكلوا ما لم يكن عظما أو ظفرا، وصح ضرورة أنه لو كانت العظمة مانعة من الذبح لما هي فيه، لما كان لذكر السن معنى، ولكان تلبيسا لا بيانا، فوضح يقينا أن العظمة ليست ما من الذبح بالجرم الذي هي فيه، إلا أن يكون في سن فقط، وكذلك القول في الحديث الآخر ولا فرق. والقائلون بخلاف قولنا قد تناقضوا في الحديث المذكور نفسه، ولم يعنونا في طلب تناقضهم إلى مكان بعيد، لكن أتوا إلى قوله (صلى الله عليه وسلم) في ذلك الحديث نفسه: وأما الظفر فإنه مدى الحبشة فكان يلزمهم - إذا جعلوا قوله (صلى الله عليه وسلم) فإنه عظم سببا مانعا من الذبح بكل عظم - أن يجعلوا قوله عليه السلام: وأما الظفر فإنه مدى الحبشة مانعا من التذكية بكل مدية كانت لحبشي، وهذا ما لا يقولونه، بل اقتصروا على المنع من الذبح بالظفر فقط. فلو فعلوا كذلك في السن فمنعوا من الذبح به ولم يتعدوه إلى سائر العظام لكان اهدى لهم، ولكن هكذا يتناقض أهل الخطأ. وأما أصحاب مالك وأبي حنيفة، وهم المغلبون للقياس على نصوص القرآن والحديث في كثير من أقوالهم، فإنهم تركوا القياس ههنا جملة، فأجازوا الذبح بكل عظيم، لم يقنعوا بهذا إلا حتى تجاوزوا ذلك إلى تخصيص النص بلا دليل، فأجازوا الذبح بكل سن نزعت، واقتصروا على المنع من الذبح بالسن التي لم تنزع، وأجازوا الذكاة بكل ظفر قلع وهذا خطأ منهم. والناقص من الدين كالزائد فيه ولا فرق. * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) * فلو كان التعليل صوابا لكان ما له نص الله تعالى عليه ورسوله (صلى الله عليه وسلم) بأن جعله سببا للحكم أولى، عند كل من له مسكة عقل ودين، من علة يتكهنون في استخراجها بلا دليل فهم قد قلبوا ذلك كما ترى. قال أبو محمد: وأما الصواب الذي لا يجوز غيره فهو أن السن والظفر لا يحل الذبح بهما ولا النحر، منزوعين كانا أو غير منزوعين، فأما ما عداهما، من عظم ومن مدي الحبشة أو غير ذلك مما يفري، فحلال الذبح به والنحر والتذكية. فإن قالوا: إن الاجماع منعنا أن يطرد التعليل في مدي الحبشة في الحديث المذكور، قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: قد ثبت الاجماع على صحة قولنا، وعلى إبطال التعليل، وإلا نتعدى السبب المنصوص عليه إلى ما لم ينص عليه، ولو كان التعليل حقا ما جاز وجود الاجماع بخلافه. قال أبو محمد: وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، ثنا إبراهيم بن أحمد، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا عبد الله بن الصباح، ثنا أبو علي الحنفي، ثنا قرة بن خالد قال انتظرنا الحسن فجاء فقال: دعانا جيراننا هؤلاء، ثم قال: قال أنس بن مالك نظرنا النبي (صلى الله عليه وسلم) ذات ليلة حتى إذا كان شطر الليل يبلغه جاء فصلى لنا ثم خطبنا فقال: ألا إن الناس قد صلوا رقدوا، وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة. قال أبو محمد: فقد جعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الاسباب التي يختار لها تأخير العتمة انتظار الصلاة، فيكون المنتظر لها في صلاة ما انتظرها، ولم يكن هذا علة عند القائلين بالعلل في اختيار تأخير العصر والمغرب، فإذا كان ما نص النبي (صلى الله عليه وسلم) عندهم ليس علة يبنى عليها، فالتي ولدوها بآراهم الكاذبة أولى أن لا يبنى عليها. وقد تعدى بعضهم ممن لم يتق الله عزوجل إلى أطم من هذا. فقال: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) يأمر بالامر ويقول بالقول مما لا يجوز، لكن لعلة شئ آخر أراده. قال: وذلك مثل قوله (صلى الله عليه وسلم): لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم ذكر أن يحرق بيوت المتخلفين عن الصلوات في الجماعات فقالوا هذا لا يجوز، وإنما قاله (صلى الله عليه وسلم) تغليظا، لا أنه أراد ذلك. وقالوا: إن أمره (صلى الله عليه وسلم) بغسل الاناء من ولوغ الكلب سبعا ليس على إيجاب ذلك، وإنما فعله ليزدجر الناس عن اتخاذها، لانها كانت تؤذي المهاجرين. قالوا: ومن ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) للذي دخل المسجد بهيئة بذة ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يخطب يوم الجمعة فقال: قم فاركع ركعتين قالوا: والركوع حينئذ لا يجوز، وإنما أمره بذلك ليفطن له الناس فيتصدقوا عليه. وقالوا: من ذلك أيضا أمره (صلى الله عليه وسلم) بفسح الحج، إنما أمر به، وهو لا يجوز، ليريهم جواز العمرة في أشهر الحج ولهم من هذا التخليط المهلك كثير. قال أبو محمد: وقائل هذا لولا أنه يعذر بشدة ظلمة الجهل، وضعف العقل لما كان أحد أحق بالتفكير منه، وبضرب العنق وباستيفاء المال، لانهم ينسبون إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه يأمر بالباطل وبما لا يجوز، ويصفونه بالكذب. وليت شعري أعجز النبي (صلى الله عليه وسلم) عن أن يأمر بقتل الكلاب، كما فعل إذ أمره الله تعالى، حتى يحلق هذا التحليق السخيف ؟ الذي يشبه عقول المعللين لأمره بغسل الاناء من ولوغها سبعا ؟. أما من كان لهم عقل يعلمون به أنه أن من عصى أمره بألا تتخذ الكلاب، وأن من اتخذ كلبا لم يبح له اتخاذه نقص من عمله كل يوم قيراطان، فهو لامره بغسل الاناء سبعا، أعصى وأترك ؟ تعالى الله عن هذا، وتنزه نبيه (صلى الله عليه وسلم) عن هذا الوصف الساقط، والصحابة رضي الله عنهم أطوع وأجل لله تعالى ولرسوله (صلى الله عليه وسلم) من أن تكون هذه صفتهم، أو تراه (صلى الله عليه وسلم) عجز عن أن يأمر أصحابه بالصدقة كما صرح لهم بذلك غير مرة حتى يأمر بركوع لا يجوز ؟. أترى الصحابة لم يعقلوا أن العمرة في أشهر الحج جائزة، وقد اعتمد بهم النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل ذلك في أشهر الحج عمرتين متصلتين بعد ثالثة لم تتم، عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، بعدها، وعمرته من الجعرانة بعد فتح مكة، كلهن في أشهر الحج قبل حجة الوداع: أما اكتفوا بهذا وبأمره (صلى الله عليه وسلم) لهم في حجة الوداع: فمن شاء منكم أن يهل بعمرة فليفعل فأهل بالعمرة نساؤه وكثير من أصحابه أما يكفي هذا من البيان بأن العمرة في أشهر الحج جائزة ؟ حتى يحتاج إلى أمرهم بما لا يحل ؟ بزعم من لا زعم له من فسخ الحج. أما لمن نسب هذا إلى الصحابة رضي الله عنهم عقل أو حس يردعه عن هذا السخف والجنون ؟. إن من ظن هذا بهم لفي الغاية القصوى من الاستخفاف بأقدارهم، أو في غاية الشبه بالانعام، بل هو أضل سبيلا. وتراه (صلى الله عليه وسلم) لو لم يكن يريد إحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة حقا ؟ أما كان يكتفى بأن يأمر بهجرهم، كما فعل بالمتخلفين عن تبوك ؟ أو بطردهم، كما طرد الحكم وهيثا المخنث، أو بأدبهم كما أدب في الخمر قبل استقرار الحد فيها بالاربعين ؟ حتى يتعد إلى الكذب والاخبار بما لا يحل ؟ اللهم إنا نبرأ إليك من هذا القول الفاحش المهلك. حدثنا حمام بن أحمد، ثنا ابن مفرج، ثنا ابن الاعرابي، ثنا الدبري، ثنا عبد الرزاق، عن معمر قال: قلت لعبيد الله بن عمر: أعلمت أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أفاد بالقسامة ؟ قال: لا. قلت: فأبو بكر ؟ قال: لا. قلت: فعمر ؟ قال: لا. قلت: فيم تجترئون على ذلك، فسكت، قال: فقلت: ذلك لمالك ؟ فقال: لا تضع أمر رسول الله (ص) على الحيل ثم ذكر باقي الكلام. قال أبو محمد: وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه، وهذا مذهب الائمة وكل من في قلبه إسلام، ثم يقع لهم الخطأ والوهلات التي لم يعصم منها بشر، فأتى هؤلاء الاوباش المقلدون فقلدوهم في خطئهم الذي لم ينتبهوا له، وعصوهم في الحقيقة التي ذكرنا من أن لا يحمل أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) على الحيل. قال أبو محمد: فإن ذكروا في ذلك مواصلة النبي (صلى الله عليه وسلم) بهم، وقد نهاهم عن الوصال ؟ فليعلموا. أن ذلك كان منه عليه السلام صياما مقبولا، لان الوصال له مباح بالنص من قوله (ص): لست كأحد منكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني وكان منهم عقوبة لهم لا صياما، وهكذا في نص الحديث، أنه كان كالتنكيل بهم، وجائز للامام أن يمنع المرء الطعام اليوم والليلة، ومقدارا يدري أنه لا يبلغ به الموت على سبيل النكال، كما فعل (صلى الله عليه وسلم). وبالله تعالى التوفيق. ونحن إن شاء الله تعالى موردون مشاغب أصحاب العلل، على حسب ما التزمنا لجميع خصومنا، ومبينون، بحول الله واهب القوة لا إله إلا هو وعونه لنا إن شاء الله تعالى، تمويههم بها وحل شغبهم الفاسد، ثم موردون البراهين الضرورية الصادقة عن إبطال العلل جملة، إن شاء الله تعالى وبه نعتصم. احتج القائلون بالعلل بآيات ظاهرها كون بعض الاحكام من أجل بعض الاحوال، فمن ذلك قول الله عزوجل وقد ذكر قتل أحد ابني آدم عليه السلام لاخيه: * (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا) *. قال أبو محمد: فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق. هذا أعظم حجة عليكم، لان الله تعالى لم يلزم هذا الاصر غير بني إسرائيل فقط، ولو أن ذلك علة مطردة كما يدعوا للزم جميع الناس. فإن قالوا: هو لازم لجميع الناس، سألناهم ما تقولون في جميع الكبائر أهي فساد في الارض أم ليست فسادا في الارض إلا ما سمي فسادا في الارض وليس هذا واقعا إلا على المحاربة فقط ؟ ولا بد من أحد الجوابين. فإن قالوا: الكبائر كلها فساد في الارض، أريناهم شارب الخمر والسارق، والمرابي وآكل أموال اليتامى، والزاني غير المحصن، وآكل لحم الخنزير والدم والميتة، والغاصب والقاذف، مفسدين في الارض ولا يحل قتلهم، بل من قتلهم قتل بهم قودا، فقد نقضوا قولهم إن حكم الآية المذكورة جار علينا، لان في نص تلك الآية إباحة قتل كل مفسد في الارض. فإن قالوا: ليس شئ من الكبائر فسادا في الارض حاشا المحاربة. أريناهم الزاني المحصن يقتل، وليس مفسدا في الارض، فانتفضت العلة التي ادعوها علة لان في الآية المذكورة ألا تقتل نفس بغير نفس أو فساد في الارض، الزاني المحصن لم يقتل نفسا، ولا أفسد في الارض، وهو يقتل ولا بد، ولا يكون قاتله كأنه قتل الناس جميعا. فإن قالوا: إن زنى المحصن وحده ووطئ امرأة الاب، وردة المرتد، وشرب المحدود ثلاث مرات في الخمر مرة رابعة، فساد في الارض وما عدا هذا فليس فسادا في الارض كابروا وتحكموا بلا دليل، وقد جعل النبي (صلى الله عليه وسلم) الزاني وهو شيخ أو بامرأة جاره أو بامرأة المجاهد في سبيل الله أعظم جرما من سائر الزناة، وسواء كانوا محصنين أو غير محصنين، إلا أن غير المحصن على كل حال لا يقتل وإن كان أعظم جرما من المحصن في بعض الاحوال التي ذكرنا، والمحصن على كل حال يقتل، وإن كان غير المحصن أعظم جرما منه في بعض الاحوال التي ذكرنا. وأيضا: فإن هذا القول الذي قالوه ناقض لاصولهم في العلل، وموجب أن لا يكون الشئ علة إلا حيث نص الله عزوجل على أنه علة لانهم يقولون إن الكبيرة لا تكون فسادا إلا حيث نص على أنها فساد، وحيث أمر الله تعالى بقتل فاعلها، وبطل إجراؤهم العلة حيث وجدت، وهذا قولنا نفسه حاشا التسمية بعلة أو سبب، فإنا لا نطلقه، لان النص لم يأت به، وإذ ليس بيننا إلا التسمية فقط فقد ارتفع الخلاف إذ إنما تضايق في تصحيح المعنى المسمى أو إبطاله، ولا معنى للاسم ولا للمضايقة فيه إذا حققنا المعنى، وإنما نمنع منه خوف التشكيك به والتلبيس، وتسمية الباطل باسم الحق، فهذا توقف على فساد عمله، ونبين له قبح مغبته وبالله تعالى التوفيق. واحتج بعضهم بقول الله عزوجل حكاية عن المنافقين أنهم قالوا: * (لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا) *. قال أبو محمد: وهذه الآية كافية في إبطال العلل، لان الله تعالى أخبر أن جهنم ذات حر وأن الدنيا ذات حر ثم فرق تعالى بين حكميها وأمرهم بالصبر على حر الدنيا وأنكر عليهم الفرار عنه وأمرهم الفرار عن حر جهنم، وألا يصبروا عليها أصلا نعوذ بالله منها. واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (لئلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم) *. قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لانه نص على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) إذ تزوج امرأة زيد وهو قد كان استلحقه، ونحن مأمورون باتباعه (صلى الله عليه وسلم) في تحليل ما أحل وتحريم ما حرم، فنكاحه (صلى الله عليه وسلم) إياها موجب علينا تحليل أزواج المستلحقين في الجاهلية غير استلحاق الولادة، لكن الاستلحاق المنسوخ فقط، وهذا الذي قلنا هو نص الآية، ولو كان علة كما ادعوا للزم كل أحد أن ينكح امرأة دعيه ولا بد، فلما لم يكن ذلك بلا خلاف، سقط ظنهم أن إنكاحه عز وجل لرسوله (ص) زينب أم المؤمنين علة لما راموا تعليله بذلك. وصح قولنا: أنه نص على إيجاب تحليل ما أحل الله تعالى لرسوله عليه السلام فقط، وبالله تعالى التوفيق. واحتجوا بقوله تعالى: * (مآ أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم) *. قال أبو محمد: وهذا أيضا لا حجة لهم فيه والقول في هذه الآية كالقول في الآية التي ذكرنا آنفا ولا فرق، لاننا قد وجدنا أموالا كثيرة لم تقسم هذه القسمة بل قسمت على رتبة أخرى فلو كان عليه قسمة هذا الذي أفاء الله تعالى على رسوله (صلى الله عليه وسلم) إنما هي ألا يكون دولة بين الاغنياء لكان ذلك أيضا علة في قسمة سائر الاموال من الغنائم وغيرها كذلك فبطل ما توهموا وصح أن الله تعالى أراد فيما أفاء الله تعالى على رسوله (صلى الله عليه وسلم)، من أهل القرى مما لو يوجف عليه بخيل ولا ركاب خاصة، ألا يكون دولة بين الاغنياء منهم فلا يتعدى بهذا الحكم هذا الموضع، وإلا حيث نص الله تعالى عليه أيضا في قسمة خمس الغنائم ولا مزيد، وهذا قولنا لا قولهم في إجراء العلل وبالله تعالى نتأيد واحتجوا بقوله تعالى: * (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) *. قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لانه لم يكن لاحد على الله تعالى قط حجة لا قبل الرسل ولا بعدهم، بل لله الحجة البالغة: * (لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون) * وقد أخبر تعالى أنه لم ينذر آباء هم وإن لم ينذروا فلا حجة لهم على الله عزوجل، ولكن الله تعالى أراد الاحسان إلى من آمن من المنذرين بالرسل، وأراد الاعذار إلى من لم يؤمن منهم، فهذا غرض الله عزوجل فيهم ومراده، وليس هذا علة وسنبين بعد انقضاء ذكر حجاجهم إن شاء الله تعالى فرق ما بين العلة والسبب والغرض، ببيان جلي لا يحيل على من له أدنى فهم وبالله تعالى التوفيق. واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (كذلك جزيناهم ببغيهم) *. قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه بل هي حجة عليهم لانه تعالى نص على أنه جزى أولئك ببغيهم بأنواع العذاب المعجل في الدنيا من السخف والصيحة وعذاب الظلة والرجم وغير ذلك. فلو كان البغي علة في إيجاب الجزاء بذلك لكان ذلك واجبا أن يجزى به البغاة منا ومن غيرنا فلما رأينا كفار زماننا بغاة كأولئك، وفينا نحن أيضا أهل بغي كبغي أولئك نفسه ففينا تطفيف الميزان. وفينا فعل قوم لوط، وفينا الكفر الصريح كما كان في أولئك في المؤمنين منا وفي الكافرين من الحربيين والكتابيين ولم نجاز ولا جوزوا بشئ بما جوزي به أولئك - علمنا أن البغي ليس علة للجزاء بما جوزي به أولئك، لان العلة مطردة في معلوماتها أبدا، لا تجوز أصلا، وصح أن البغي من أولئك كان سببا لجزائهم بما جوزوا به، وليس سببا في غيرهم، لان يجازوا بمثل ذلك، فصح قولنا إن الاسباب لا يتعدى بها المواضع التي نص الله تعالى ورسوله عليه السلام عليها، ولا يوجب في كل مكان الحكم الذي وجب من أجلها في بعض الامكنة، وسقط قولهم سقوطا لا إشكال فيه. والحمد لله رب العالمين. وهذا قد ظهر كما ترى في الاسباب الصحيحة، فما الظن بالاسباب الكاذبة التي يدعونها في الاحكام، ويضعونها وضعا مختلفا متخاذلا بلا برهان، إلا المجاهرة بالقربة، وما لا يصح بوجه من الوجوه ؟ وبالله تعالى التوفيق. واحتجوا أيضا بقول الله تعالى: * (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يأولي الابصار) * الآيات إلى قوله: * (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله) * الى قوله (شديد العقاب). قال أبو محمد: وهذه حجة عليهم لا لهم، لان المحاربين فيما بيننا وأهل الالحاد منا فهم مشاقون لله عزوجل ورسوله (صلى الله عليه وسلم) وأهل الكتاب منا، كذلك وهم يخربون بيوتهم بأيديهم وبأيدي المؤمنين، ولا يهدمون بل يبنونها فصح يقينا أن المشاقة لله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ليست علة لخراب البيت وأصلا، ولا سببا في خراب بيوت المشاقين ما عدا أولئك الذين نص الله تعالى على أنه عاقبهم بإخرابهم بيوتهم من أجل مشاقهم، وهذا هو نفس قولنا: إن الشئ إذا نص الله تعالى عليه بلفظ يدل على أنه سبب لحكم ما في مكان ما، فلا يكون سببا البتة في غير ذلك الموضع لمثل ذلك الحكم أصلا. وبالله تعالى التوفيق. واحتجوا بقوله تعالى: * (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) * قالوا: فكانت هذه علل في وجوب تحريمها، أو الانتهاء عنها، قال أبو محمد: وهذه حجة عليهم لا لهم من وجوه: أحدها: أن كسب المال والجاه في الدنيا أصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وأوقع العداوة والبغضاء فيما بيننا من الخمر والميسر وليس ذلك محرما إذا بغى على وجهه، وقد أخبر النبي (ص) أصحابه رضي الله عنهم بنص قولنا إذ قال (صلى الله عليه وسلم): والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوا فيها فتهلككم كما أهلكت من كان من قبلكم أو كما قال (صلى الله عليه وسلم) مما هذا حقيقة معناه فلا يظن جاهل أننا نقول شيئا من عند أنفسنا أو برأينا أو بغير ما أتى به النبي (صلى الله عليه وسلم). وأيضا فالميسر ما عهد منه قبل أن يحرم إيقاع عداوة بذاته ولا فقد عقل، ولا كان إلا وافقا للناس ونافعا لهم، وكذلك قليل الخمر ليس فيه مما ذكر في الآية، ولا في كل من يشربها تفسد أخلاقهم، بل نجد كثيرا من الناس يبكون إذا سكروا ويكثرون ذكر الآخرة والموت والاشفاق من جهنم وتعظيم الله تعالى والدعاء في التوبة والمغفرة، ونجدهم يكرمون حينئذ ويحلمون، ويزول عنهم كثير من سفههم وتؤمن غوائلهم. فصح بكل ما ذكرنا أن الله تعالى لم يجعل إرادة الشيطان لما ذكر تعالى في الآية سببا إلى تحريمها قط، لكن شاء تعالى أن يحرمها إذ حرمها، وقد كانت حلالا مدة ستة عشرة عاما في الاسلام، وقد كان كل ذلك موجودا من الشيطان فينا وفي كثير الخمر وهي، حلال يشربها الصالحون بعلم النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا ينكر ذلك. فلو كان ما وصفها الله تعالى به من الصد عن الصلاة، وعن ذكر الله تعالى، وإيقاع الشيطان العداوة والبغضاء بها علة للتحريم، لما وجدت قط إلا محرمة، لانها لم تكن قط إلا مسكرة، ولم يكن الشيطان قط إلا مريدا لالقاء العداوة والبغضاء بيننا فيها، وكانت حلالا وهي بهذه الصفة فبطل أن يكون إسكارها علة لتحريمها، أو سبب، لا في الوقت الذي نص الله عزوجل على تحريمها فيه ولا قبله البتة، لان قوله عز وجل: * (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) * إنما هو إخبار عن سوء معتقد الشيطان فينا، ولم يقل قط تعالى إن إرادة الشيطان لذلك هو علة تحريمها، ولا أنه سبب تحريمها، ولا يحل لاحد أن يخبر عن الله تعالى بما لم يخبر به عزوجل عن نفسه، ولا أخبر به عنه رسوله (صلى الله عليه وسلم) وهذا هو قولنا: إن المراعى هو النص لا ما عداه أصلا. وبالله تعالى التوفيق. وقد قال بعض أصحابنا: إن إرادة الشيطان إيقاع العداوة والبغضاء بيننا في الخمر، إنما كان بعد تحريمها، لان شاربها بعد التحريم صاد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، مبغض من الصالحين ومعاد لهم. قال أبو محمد: وهذا أيضا قد اقتضاه الذي ذكرناه، وزاد عليه وبالله تعالى نتأيد، وقد أدى تعليلهم، هذا الفاسد المفترى، جماعة من الجهال إلى الضلال المبين، فإذا رأوا سكرانا معربدا متلوثا في أقذاره وأهذاره، جعلوا يقولون في مثل هؤلاء حرمت الخمر نعوذ بالله من هذا القول، ومما سببه من التعليل الملعون. واحتجوا بقوله تعالى: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) *. قال أبو محمد: وهذه حجة عليهم لا لهم، لاننا نحن نظلم من بكرة إلى المساء، ولم يحرم علينا طيبات أحلت لنا، فصح أن الظلم ليس علة في تحريم الطيبات، ولا سببا له إلا حيث جعله الله تعالى بالنص سببا له فقط، لا فيما عدا ذلك المكان البتة. واحتجوا بقوله تعالى: * (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا) *. قال أبو محمد: وهذا عليهم لان الحكم المذكور لم يوجب استيقان جميع أهل الكتاب، بل فيهم غير مستيقن، وفيهم من تمادى على شكه وإفكه وشركه، ولو كان علة لاستيقانهم لما وجد فيهم أحد غير مستيقن، فبطل ظنهم والحمد لله رب العالمين. واحتجوا بقوله تعالى لموسى عليه السلام: * (اخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) *. قال أبو محمد: وهذا حجة عليهم لان الكون بالواد المقدس طوى لو كان علة لخلع النعال أو سببا له، لوجب علينا خلع نعالنا بالوادي المقدس وبالحرم وبطوى، فلما لم يلزم ذلك بلا خوف صح قولنا: إن الشئ إذا جعله الله سببا لحكم ما، في مكان ما، فلا يكون سببا إلا فيه وحده لا في غيره، فهذا كل ما راموا تبديله من وجهه من آيات القرآن، وقد أريناهم بعون الله تعالى، أنه كله حجة عليهم مبطل لقولهم بالتعليل الموجب عندهم للقياس، والحمد لله رب العالمين واحتجوا بقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في نهيه عن إدخار لحوم الاضاحي أكثر من ثلاث: إنما فعلت ذلك من أجل الدابة. قال أبو محمد: أحق الناس أن يستحي من الله تعالى عند ذكر هذا الحديث فأصحاب القياس القائلون بالعلل لانهم يبطلون هذا السبب الذي يعدونه علة في المكان الذي ورد فيه، ولا يقيسون عليه شيئا أصلا نعم، ولا يأخذون بذلك الحكم بعينه، بل يعصونه ويجيزونه ادخار لحوم الاضاحي ما شاء المرء من الدهور، وإن دفت الدواف أفلا يستحي من يبطل قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في نهيه إذا دفت دافة أن يدخر لحوم الاضاحي، أكثر من ثلاث ويستجيز خلافه في ذلك، من أن يحتج بذلك القول المطرح عنده في إثبات العلل الكاذبة لو أن الجوز باللوز إلى أجل لا يحل ؟ إن هذا لخلق فاسد، منتج من رذائل جمة منها الجهل وقلة الحياء وقلة الورع وشدة العصبية، وقلة المبالاة بالصدق، وشدة الجور وقلة النصيحة والضعف والعقل، ونعوذ بالله من كل ذلك. وأما نحن فنقول: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) جعل السبب في النهي عن إدخار لحوم الاضاحي أكثر من ثلاث ليال أن دافة دفت بحضرة الاضحى، فإذا كان ذلك أبد الابد حرم إدخار لحومها أكثر من ثلاث ليال، فإن لم تدف دافة بحضرة الاضحى فليدخل الناس لحومها ما شاؤوا، وانقيادا لامر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي لم يأت ما ينسخه، وهذا الذي قلنا به هو قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم): إنما جعل الاذان من أجل البصر. قال أبو محمد: وهذا موافق لقولنا لا لقولهم، لاننا لم ننكر وجود النص حاكما بأحكام ما لاسباب منصوصة، لكنا أنكرنا تعدي تلك الحدود إلى غيرها، ووضع تلك الاحكام في غير ما نصت فيه، واخترع أسباب لم يأذن بها الله تعالى. وأيضا فهذا الحديث حجة عليهم، لانهم أول عاص له أكثر أهل القياس، مخالفون لما في هذا الحديث، من أن من اطلع على آخر ففقأ المطلع عليه عين المطلع فلا شئ عليه. وقالوا: إن قول المظاهر لامرأته: أنت علي كظهر أمي، لما كان منكرا من القول وزورا كان ذلك علة لوجوب الكفارة. قال أبو محمد: وقد أبطلوا تعليلهم هذا فكفوا مؤنة أنفسهم، فأقروا أن قول المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أمي، منكر من القول وزورا، ولم يوجب ذلك عليها الكفارة، وقال تعالى: * (ما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبنائكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق) * فسوى الله تعالى بين قول الرجل لامرأته، أنت علي كظهر أمي، وبين ادعائه ولد غيره، ولم يجعل في أحد الوجهين كفارة، وجعل في الآخرة الكفارة، فصح أن المساواة في الشبه لا توجب المساواة في الحكم، وبطل قولهم في التعليل إذا وجب في أحد المنكرين كفارة ولم يجب في الآخر. وقد قال غيره من الفقهاء: إيجاب الكفارة على المرأة المظاهرة من زوجها ككفارة المظاهر ولا فرق. فهذا كل ما موهوا به من الحديث لاح أنه حجة عليهم، وبالله تعالى التوفيق. وجملة القول: إن كل شئ نص الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) فهو حق، وكل ما أوردوه بآرائهم مما ليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) فهو باطل وإفك، وهم كمن قال: لما حرم الله تعالى وفرض ما شاء حرمت أنا أيضا وفرضت ما شئت، لانه تعالى حرم وفرض ولا فرق. وقد صح على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من طريق عمر بن عنبسة في نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها: إن تلك ساعة تطلع ومعها قرن الشيطان ويسجد لها الكفار حينئذ وعن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس: و: إن تلك الساعة تسجر فيها النار لو كان هذا على بادئ الرأي وظاهر الاحتياط لكانت الصلاة حينئذ أحرى وأولى، معارضة الكفار، فإذا سجدوا للشمس صلينا نحن لله تعالى، وإذا سجرت النار صلينا، ونعوذ بالله منها. هذه صفة عللهم المفتراة الكاذبة، وهذا ما جاء به النص فصح أنه لا يحل لاحد تعليل في الدين، ولا القول بأن هذا سبب هذا الحكم، إلا أن يأتي به نص فقط. فصل قال أبو محمد: واحتج بعضهم في إيجاب القول بالعلل، وأن الاحكام إنما وقعت العلل - بأن الاسماء مشتقة في اللغة. وهذا لو صح لما كان لهم فيه حجة، إذ لا سبب في الاشتقاق يتوصل به إلى إثبات العلل في الاحكام، فكيف وهو باطل. الاشتقاق الصحيح إنما هو اختراع اسم لشئ ما مأخوذ من صفة فيه، كتسمية الابيض من البياض، والمصلي من الصلاة، والفاسق من الفسق، وما أشبه ذلك. وليس في ذلك من هذا ما يوجب أن يسمى أبيض ما لا بياض فيه، ولا مصليا من لا يصلي، ولا فاسقا، من لا فسق فيه، فأي شئ في هذا مما يتوصل به إلى إيجاب القياس، والقول بأن البر إنما حرم أن يباع البر متفاضلا، لانه مأكول، أو لانه مكيل، أو لانه مدخر ؟ وهل يتشكل هذا الحمق في عقل ذي عقل ؟ وبالله تعالى التوفيق. وأما ما عدا هذا من الاشتقاق ففاسد البتة وهو كل اسم علم وكل اسم جنس أو نوع أو صفة، فإن الاشتقاق في كل ذلك مبطل ببرهان ضروري، وهو أننا نقول لمن قال: إنما سميت الخيل خيلا لاجل الخيلاء التي فيها، وإنما سمي البازي بازيا لارتفاعه، والقارورة قارورة لاستقرار الشئ فيها، والخابية خابية لانها تخبأ ما فيها، إنه يلزمك في هذا وجهان ضروريان لا انفكاك لك منهما البتة. أحدهما: أن تسمي رأسك خابية، لان دماغك مخبوء فيها وأن تسمي الارض خابية، لانها تخبئ كل ما فيها، وأن تسمي أنفك بازيا لارتفاعه، وأن تسمي السماء والسحاب بازيا لارتفاعهما، وكذلك القصر والجبل، وأن تسمي بطنك قارورة لان مصيرك مستقر به، وأن تسمي البئر قارورة لان الماء مستقر فيها، وأن تسمي المستكبرين من الناس خيلا، للخيلاء التي فيهم، ومن فعل هذا لحق بالمجانين المتخذين لاضحاك سخفاء الملوك في مجالس الطرب، وصار ملهى وملعبا وضحكة يتطايب بخبره، وكان للحرمة ومداواة الدماغ أولى منه بغير ذلك، فإن أبى ترك اشتقاقه الفاسد. والوجه الثاني: أن يقال: إن اشتققت الخيل من الخيل أو القارورة من الاستقرار والخابية من الخب ء: فمن أي شئ اشتققت الخيلاء والاستقرار والخب ء، وهذا يقتقضي الدور الذي لا ينفك منه، وهو أن يكون كل واحد منهما اشتق من صاحبه، وهذا جنون، أو وجود أشياء لا أوائل لها ولا نهاية، وهذا مخرج إلى الكفر والقول بأزلية العالم، ومع أنه كفر فهو محال ممتنع. وأيضا: فإذا بطل الاشتقاق في بعض الاسماء كلف من قال به في بعضها أن يأتي ببرهان، وإلا فهو مبطل. وأيضا: فليس قول من قال: إن الخيل مشتقة من الخيلاء، أولى بالقبول من قول من قال: إن الخيلاء مشتقة من الخيل، وكلا القولين دعوى فاسدة زائفة لا دليل على صحتها، في البرهان الضروري قد قام على بطلانها، لانه لم توجد قط الخيلاء إلا والخيل موجودة، ولا وجدت الخيل إلا والخيلاء موجودة ولم يوجد قط أحدهما قبل الآخر، فبطل قولهم، وبالله تعالى نتأيد. ولو كان ما قالوا لكانت الاسد أولى أن تسمى خيلا، لانهم أكثر خيلاء من الخيل، ولكانت النسور أولى أن تسمى بزاة من الصقور، لانها أشد ارتفاعا منها، وإلا فما الذي جعل القوارير أولى بهذا الاسم من الرمان والعتائد والادراج والقلال. وقد عارضت بهذا وشبهه أذكر من لقينا من شيوخنا في اللغه وهو أبو عبيدة حسان بن مالك رحمه الله فما وجدت عنده مدفعا ولا اعتراضا وكان رحمه الله النهاية في علم اللغه، مع تحريه فيما يورده منها وتثبته وشدة إنصافه. وقالوا: لما وجدنا العصير حلو لا يسمى خمرا وهو حلال، ثم حدثت فيه الشدة فسمي خمرا فحرم، ثم ارتفعت الشدة فلم يسم خمرا، لكن سمي خلا، علمنا أن العلة المحرمة، والتي حرم من أجلها، والتي من أجلها سمي خمرا، هي الشدة. قال أبو محمد: هذا كلام فاسد في غاية الفساد. فأول ذلك أن يقال لهم: في أي عقل وجدتم أن كون الشدة فيه أوجبت أن يسمى بالخاء والميم والراء ؟ ولكن لا بد لكل عين فيها صفات مخالفة لصفات عين أخرى أن يوقع على كل واحد منها اسم غير اسم العين الاخرى، ليقع التفاهم فيها بين المخاطبين، فعلق على ما فيه الشدة اسم ما، وعلى ما لا شدة فيه اسم آخر، لا لشئ إلا ليفهم الناس مراد من كلمهم وخاطبهم، وكذلك موجود في العالم، إلا ما ضاقت اللغة عن تسميته، أو عجز أهلها عن ذلك، أو لم يرد الله تعالى أن يكون له في هذه اللغة اسم. وأيضا: فإن اللغة العربية أول من نطق بها إسماعيل، والخمر أقدم من كون إسماعيل في الارض، لانهما من الاشياء التي علم آدم أسماءها، قال تعالى * (وعلم آدم الاسماء كلها) * فعم تعالى ولم يخص فقد كانت الخمر على حالها من الاسكار والشدة وهى حلال وهى لا تسمى خمرا فظهر كذب هذا القائل وإثمه. وأيضا فإن الخمر تسمى خمرا في كل لغة بغير اسم الخمر عندنا فما وجدنا ألسنتهم تلتوى لذلك ولا أحكامهم تنطوى ولا الخمر حلت لهم لأجل أن اسمها عندهم غير اسمها في اللغة العربية ولم نجد قط تلك العين المسماة خمرا إلا وهى مسكرة في كل وقت وفى كل أمة وفى كل مكان حاشا خمر الجنة فقط فبطل قولهم في العلل وبالله تعالى التوفيق. وأيضا: فإن العرب تسمي الخمر بخمسة وستين اسما ما وجدناها تضطر إلى ترك شئ منها، ولا اضطرت إلى وضعه، وقد بينا الكلام في كيفية أصل اللغات في باب مفرد من كتابنا هذا ولله الحمد. وكذلك قالوا إن كون البر مطعوما محرما متفاضلا هو علة تسمية ذلك ربا والقول عليهم في ذلك كالقول في الخمر ولا فرق وبالله لا إله إلا هو التوفيق. وقالوا العلة في الوجوب كون الرقبة في الظهار مؤمنة هي وجوب كونها سليمة الاعضاء كرقبة القتل. قال أبو محمد وهذا تحكم فاسد واحتجاج للخطأ بالخطأ والدعوى بالدعوى ومثلهم في هذا القول كإنسان قال لي على زيد درهم فقيل له ألك بينة ؟ فقال نعم فقيل وما هي ؟ قال إن لى على عمرو درهما فقيل له: وما بينتك على أن لك على عمرو درهما ؟ فقال بينتي على ذلك أن لى على زيد درهما فهو يريد يجعل دعواه صحة لدعوى له أخرى وكلتاهما ساقطة إذ لا دليل عليها وليس هذا الفعل من أفعال أهل العقول ودعواهم أن الرقبة في كلا الموضعين لا تجزى إلا أن تكون سليمة دعوى زائفة لا تصح فكيف أن يقاس عليها أن تكون إلا مؤمنة ؟ وقال بعضهم العلة في ذلك أنها كفارة عن ذنب. قال أبو محمد وليس على قاتل الخطأ ذنب أصلا فبطل تعليلهم الفاسد وأيضا فهذه دعوى كالاولى لا دليل عليها وما الفرق بينهم وبين من قال إنما وجبت في القتل أن تكون الرقبة مؤمنة لانها كفارة عن قتل فما عدا القتل فلا تجب فيه مؤمنة وهذا لا انفكاك منه فكل هذه دعوى لا دليل عليها ولا ينفكون ممن يبطل ما أثبتوا ويثبت ما أبطلوا واعلم أنه لا يمكن أحدا منهم أن يدعى علة في شئ من الاحكام الا أمكن لخصمه ان ياتي بعلة أخرى يدعى أن الحكم انما وجب لها وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى نعتصم. فصل قال أبو محمد هذا كل ما شغبوا به قد بينا عواره ولاح اضمحلاله والحمد لله رب العالمين ونحن الآن بعون الله تعال وقوته لا إله إلا هو شارعون في إبطال القول بالعلل في شئ من الشرائع وبالله تعالى التوفيق. فيقال لمن قال ان أحكام الشريعة انما هي لعلل. أخبرونا عن هذه العلل التى تذكرون أهى من فعل الله تعالى وحكمه أم من فعل غيره وحكم غيره ؟ أم لا من فعله تعالى ولا من فعل غيره ؟ ولا سبيل الى قسم رابع أصلا. فإن قالوا من فعل غير الله ومن غير حكمه جعلوا ههنا خالقا غيره وفاعلا للحكم غيره وجعلوا فعل ذلك الفاعل موجبا عل الله تعالى أن يفعل ما فعل وأن يحكم بما حكم به وهذا شرك مجرد وكفر صريح وهم لا يقولون ذلك فإن قالوا ليست من فعله ولا من فعل غيره أوجبوا ان في العالم أشياء لا فاعل لها أو أنهم هم الحاكمون على الله تعالى بها وهم الذين يحللون ويحرمون ويقضون عل الباري عز وجل وهذا كفر مجرد ومذهب أهل الدهر وهم لا يقولون ذلك. فإن قالوا: بل هي من فعل الله عز وجل وحكمه قلنا لهم أخبرونا عنكم أفعلها الله تعالى لعلة أم فعلها لغير علة فإن قالوا فعلها تعالى لغير علة تركوا اصلهم وأقروا أنه تعالى يفعل الاشياء لا لعلة أو قيل لهم أيضا ما الذى أوجب أن تكون الاحكام الثواني لعلل وتكون الافعال الاول التى هي علل هذه الاحكام لا لعلل ؟ وهذا تحكم بلا دليل ودعوى ساقطة لا برهان عليها وإن قالوا بل فعلها تعالى لعلل اخر سئلوا في هذه العلل أيضا كما سئلوا في التى قبلها وهكذا أبدا فلا بد لهم ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما إما ان يقفوا في أفعال ما فيقولون إنه فعلها لغير علة فيكونون بذلك تاركين لقولهم الفاسد إنه تعالى لا يفعل شيئا إلا لعلة أو يقولون بمفعولات لا نهاية لها وبأشياء موجودة لا أوائل لها وهذا كفر وخروج عن الشريعة بإجماع الأمة. وقبح الله قولا لا يضطر قائله الى مثل هذه المواقف فبطل قولهم في العلل وصح قولنا إن الله تعالى يفعل ما يشاء لا لعلة أصلا بوجه من الوجوه بهذا البرهان الضرورى الذى لا انفكاك عنه وبالله تعالى التوفيق. قال أبو محمد: ويكفى من هذا كله أن جميع الصحابة رضى الله عنهم أولهم عن آخرهم وجميع التابعين أولهم عن آخرهم وجميع تابعي التابعين ولهم عن وإنما ابتدع هذا القول متأخروا القائلين بالقياس. وأيضا فدعواهم إن هذا الحكم به الله تعالى لعلة كذا فرية ودعوى لا دليل عليها ولو كان هذا الكذب على أحد من الناس لسقط قائله فكيف على الله عز وجل. ولسنا ننكر وجود اسباب لبعض أحكام الشريعة بل نثبتها ونقول بها لكنا نقول إنها لا تكون أسبابا إلا حيث جعلها الله تعالى أسبابا ولا يحل أن يتعدى بها المواضع التى نص فيها عل أنها أسباب لما جعلت أسبابا له وقد بينا أكثيرا من ذلك في اول هذا الباب. قال أبو محمد ومن عجائب هؤلاء القوم أنهم لو قيل لهم تعمدوا الباطل ما قدروا على أكثر مما فعلوا ومن ذلك أنهم أتوا الى حكم لم ينص الله تعالى ولا رسوله (صلى الله عليه وسلم) على ان له سببا وهو تحريم البر بالبر متفاضلا فجعلوا له سببا وعلة وحرموا من أجله الحديد بالحديد متفاضلا وبيع الارز بالارز متفاضلا وبيع السقمونيا بالسقمونية متفاضلا ثم أتوا الى حكم جعل له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سببا، وأخبر أنه حكم بذلك من أجله، فعصوه وأطرحوه وهو قوله عليه السلام أنه نهى عن ادخار لحوم الاضاحي فوق ثلاث لاجل الدافة فقالوا ليست الدافة سببا ولا يجب من أجلها ترك ادخار لحوم الاضاحي وهكذا يكون عكس الحقائق وبالله تعالى نعوذ من الخذلان. قال أبو محمد فإن قال قائل أنتم تنكرون القول بالعلل وتقولون بالاسباب فما الفرق بين الامرين ؟. فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن الفرق بين العلة وبين السبب وبين العلامة وبين الغرض فروق ظاهرة لائحة واضحة وكلها صحيح في بابه وكلها لا يوجب تعليلا في الشريعة ولا حكما بالقياس أصلا، فنقول وبالله تعالى التوفيق. إن العلة هي اسم لكل صفة توجب أمرا ما إيجابا ضروريا، والعلة لا تفارق المعلول البتة، ككون النار علة الاحراق، والثلج علة التبريد الذي لا يوجد أحدهما دون الثاني أصلا، وليس أحدهما قبل الثاني أصلا ولا بعده. وأما السبب فهو كل أمر فعل المختار فعلا من أجله لو شاء لم يفعله، كغضب أدى إلى انتصار، فالغضب سبب الانتصار، ولو شاء المنتصر ألا ينتصر لم ينتصر، وليس السبب موجبا للشئ المسبب منه ضرورة، وهو قيل الفعل المتسبب منه ولا بد، وأما الغرض فهو الامر الذي يجري إليه مفاعل ويقصده ويفعله، وهو بعد الفعل ضرورة، فالغرض من الانتصار إطفاء الغضب وإزالته وإزالة الشئ هي شئ غير وجوده، وإزالة الغضب غير الغضب، والغضب هو السبب في الانتصار، وإزالة الغضب هو الغرض في الانتصار، فصح أن كل معنى مما ذكرنا غير المعنى الآخر فالانتصار بين الغضب وبين إزالته وهو مسبب للغضب وإذهاب الغضب هو الغرض منه. وأما العلامة فهي صفة يتفق عليها الانسانان، فإذا رآها أحدهما علم الامر الذي اتفقا عليه، ومثل قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لابن مسعود: إذنك على أن يرفع الحجاب وأن تستمع سوادي حتى أنهاك فكان رفع الحجاب واستماع حركة النبي (صلى الله عليه وسلم) علامة الاذن لابن مسعود، وكقوله (صلى الله عليه وسلم): إني لاعرف أصوات رفقة الاشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار فكانت أصوات الاشعريين بالقرآن علامة لموضع نزولهم، ومن هذا أخذت الاعلام الموضوعة في الفلوات لهداية الطريق، والاعلام في الجيوش لمعرفة موضع الرئيس. وقال أبو محمد: وهذا معنى رابع. وقد سمي أيضا العلل معاني، وهذا من عظيم شغبهم، وفاسد متعلقهم، وإنما المعنى تفسير اللفظ، مثل أن يقول قائل: معنى الحرام ؟ فتقول له هو كل ما لا يحل فعله، أو يقول: معنى الفرض، فنقول: هو كل ما لا يحل تركه، أو يقول: ما الميزان ؟. فنقول له: آلة يعرف بها تباين مقادير الاجرام، فهذا وما أشبه هو المعاني وهذا أيضا شئ خامس. وكل هذا لا يثبت علة الشرائع ولا يوجب قياسا، لان العلامة إذا كانت موضوعة لان يعرف بها شئ ما، فلا سبيل إلى أن يعرف بها شئ آخر بوجه من الوجوه، لانه لو كان ذلك لما كانت علامة لما جعلت له علامة، ولوقع الاشكال. قال أبو محمد: فلما كانت هذه المعاني المسماة الخمسة التي ذكرنا، مختلفة متغايرة كل واحد منها غير الآخر، وكانت كلها مختلفة الحدود والمراتب، وجب أن يطلق على كل واحد منها اسم غير الاسم الذي لغيره منها. ليقع الفهم واضحا، ولئلا تختلط فيسمى بعضها باسم آخر منها، فيوجب ذلك وضع معنى في غير موضعه، فتبطل الحقائق. والاصل في كل بلاء وزعماء تخليط وفساد، اختلاط أسماء ووقوع اسم واحد على معاني كثيرة، فيخبر المخبر بذلك الاسم، وهو يريد أحد المعاني التي تحته فيحمله السامع على غير ذلك المعنى الذي أراد المخبر، فيقع البلاء والاشكال، وهذا في الشريعة أضر شئ وأشده هلاكا لمن اعتقد الباطل، إلا من وفقه الله تعالى. فإذا قد بينا هذه الاسماء الاربعة، وهي: العلة والغرض والسبب والعلامة، وبينا أن معانيها مختلفة، وأن مسمياتها شتى، وحسمنا داء من أراد إيقاع اسم العلة في الشريعة على معنى السبب، فيخرج بذلك إلا ما لا يحل اعتقاده، من أن الشرائع شرعها الله تعالى لعلل أوجبت عليها أن يشرعها، أو إلى الفرية على الله تعالى في الادعاء أنه شرع عللا لم ينص عليها هو تعالى ولا رسوله (صلى الله عليه وسلم) ولا أذنا بها، ولا بد لاهل العلل من أحد هذين السبيلين. وكلاهما مهلك. ولسنا ننكر أن يكون الله تعالى جعل بعض الاشياء سببا لبعض ما شرع من الشرائع، بل نقر بذلك ونثبته حيث جاء به في النص، كقوله (صلى الله عليه وسلم): أعظم الناس جرما في الاسلام من سأل عن شئ لم يحرم فحرم من أجل مسألته وكما جعل تعالى كفر الكافر وموته كافرا سببا إلى خلوده في نار جهنم، والموت على الايمان سببا لدخول الجنة، وكما جعل السرقة بصفة ما سببا للقطع، والقذف بصفة ما سببا للجلد والوطئ بصفة ما للجلد والرجم، وكما نقر بهذه الاسباب المنصوص عليها، فكذلك ننكر أن يدعي أحد سببا حيث لم ينص عليه. ولسنا نقول: إن الشرائع كلها لاسباب، بل نقول: ليس منها شئ لسبب إلا ما نص منها أنه لسبب، وما عدا ذلك فإنما هو شئ أراده الله تعالى الذي يفعل ما شاء، ولا نحرم ولا نحلل، ولا نزيد ولا ننقص، ولا نقول إلا ما قال ربنا عزوجل، ونبينا (صلى الله عليه وسلم)، ولا نتعد ما قالا، ولا نترك شيئا منه، وهذا هو الدين المحض الذي لا يحل لاحد خلافه ولا اعتقاده سواء. وبالله تعالى التوفيق. وقد قال الله تعالى واصفا لنفسه: * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * فأخبر تعالى بالفرق بيننا وبينه وأن أفعاله لا يجزئ فيها لم...؟ وإذا لم يحل لنا أن نسأله عن شئ من أحكامه تعالى وأفعاله لم كان هذا فقد بطلت الاسباب جملة وسقطت العلل البتة إلا ما نص الله تعالى عليه أنه فعل أمرا كذا لاجل كذا. وهذا أيضا مما لا يسأل عنه فلا يحل لاحد أن يقول لم كان هذا السبب لهذا الحكم ولم يكن لغيره ؟ ولا أن يقول: لم جعل هذا الشئ سببا دون أن يكون غيره سببا أيضا، لان من فعل هذا السؤال فقد عصى الله عز وجل، وألحد في الدين وخالف قوله تعالى: * (لا يسأل عما يفعل) * فمن سأل عما يفعل فهو فاسق فوجب أن تكون العلة كلها منفية عن الله تعالى ضرورة، وفي قوله تعالى: * (وهم يسألون) * بيان جلي أنه لا يجوز لاحد منا أن يقول قولا لا يسأل عنه، ولزمنا فرضا سؤال كل قائل من أين قلت كذا ؟ فإن بين لنا أن قوله ذلك حكاية صحيحه من ربه تعالى وعن نبيه (صلى الله عليه وسلم)، لزمنا طاعته وحرم عليه التمادي في سؤاله، وإن لم يأت به مصححا عن ربه تعالى، ولا عن نبيه (صلى الله عليه وسلم)، ضرب برأيه عرض الحائط، ورد عليه أمره متروكا غير مقبول معه، ولا مرضي عنه. فهذا حكم السبب وفعله والعلامة والغرض والمعنى قد بينا كل ذلك غاية البيان ولم نقل إلا ما قاله الله ربنا عزوجل، وليست العبارة بالالفاظ المخالفة خلافا إذا حقق المعنى فلم يبعث محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى العرب فقط، بل إلى أهل كل لغة من الانس والجن، فلا بد ضرورة لكل أحد من عبارة يفهم بها كلام ربه تعالى، ومعنى مراده في الدين اللازم له، وإنما أوردنا هذا لئلا يتعلق جاهل فيقول: إن كلامك هذا ليس منصوصا في القرآن فأرينا، أن حقيقة مفهومه كلها، ومعناه الذي لا يتحمل كلامنا معنى غيره منصوص في القرآن نصا جليا ظاهرا وبالله تعالى التوفيق. فاعلم الآن أن العلل كلها منفية عن أفعال الله تعالى وعن جميع أحكامه البتة، لانه لا تكون العلة إلا في مضطر. واعلم أن الاسباب كلها منفية عن أفعال الله تعالى كلها، وعن أحكامه. حاشا ما نص تعالى عليه أو رسوله (صلى الله عليه وسلم). وأما الغرض في أفعاله تعالى وشرائعه فليس هو شيئا غير ما ظهر منها فقط، والغرض في بعضها أيضا أن يعتبر بها المعتبرون، وفي بعضها أن يدخل الجنة من شاء إدخاله فيها، وأن يدخل النار من شاء إدخاله فيها. وكل ما ذكرنا من غرضه تعالى في الاعتبار، ومن إدخاله الجنة من شاء ومن إدخاله النار من شاء، وتسبيبه ما شاء لما شاء، فكل ذلك أفعال من أفعاله، وأحكام من أحكامه لا سبب لها أصلا، ولا غرض له فيها البتة، غير ظهورها وتكوينها فقط * (لا يسأل عما يفعل) * لولا أنه تعالى نص على أنه أراد منا الاعتبار وأراد إدخال الجنة من شاء، ما قلنا به، ولكنا صدقنا ما قال ربنا تعالى، وقلنا ما علمنا ولم نقل ما لم نعلم. فهذه حقيقة الايمان الذي تعضده البراهين الحسية والعقلية. ودليل ذلك أن السبب والغرض لا يخلوان من أنهما مخلوقان لله تعالى، أو أنهما غير مخلوقين أصلا، أو أنهما مخلوقان لغيره، فمن جعلهما غير مخلوقين أصلا كفر، لانه يجعل في العالم شيئا لم يزل، ومن قال: إنهما مخلوقان لغير كفر، لانه يجعل خالقا غير الله تعالى، فثبت أنهما مخلوقان له تعالى وقد قام البرهان على أن كل ما دون الله تعالى فهو خلق الله، فإذا قد ثبت أن الغرض والسبب مخلوقان لله تعالى، فلا يخلو من أن يكون خلقهما لسبب أيضا، ولغرض أو لا لسبب ولا لغرض، فإن كان فعلها لسبب آخر، وغرض آخر، لزم أيضا فيهما مثل ذلك، حتى تنتهي بقائل هذا إلى إثبات معدودات ومخلوقات لا نهاية لها. وهذا كفر من قائله، وإن كان تعالى فعلهما لا لسبب ولا لغرض، فهذا هو قولنا إنه تعالى يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه، لا لسبب ولا لغرض، حاشا ما نص تعالى عليه فقط أنه فعله للغرض أراده، أو لسبب، وأما ما لم ينص ذلك فيه فإنا نقطع على أنه تعالى فعله كما شاء لا لغرض ولا لسبب، وأما ما لم ينص ذلك فيه فإنا نقطع على أنه تعالى فعله كما شاء لا لغرض ولا لسبب ولولا النصوص الواردة بذلك في بعض المواضع ما حل لمسلم أن يقول: إن الله تعالى فعل كذا لسبب كذا، ولا إن له عزوجل في فعل كذا إرادة كذا * (تلك حدود الله فلا تعتدوها) *. قال أبو محمد: ويقال لمن قال بالعلل وجعلها صفات في أشياء توجد فتشتبه بها، فيوجب ذلك أن يحكم لها بحكم واحد: إنك لا تعدم معارضا بصفات أخر توجب غير الاحكام التي أوجبتم، فإن أنتم أبطلتم حكم التشابه الذي يعارضكم به خصومكم فقد أقررتم أن الاتباع لا معنى له، ولا يوجب حكما، وليس قول خصومكم فيما أتوا به من ذلك بأولى بالسقوط من قولكم. ومثال ذلك: أن تقولوا: لما أشبه النبيذ الخمر في أنه شديد ملذ مسكر وجب له التحريم من أجل ذلك، فيعارضكم خصومكم فيقولون: لما أشبه النبيذ المسكر العصير في أنه لا يفكر مستحله، وجب له التخليل من أجل ذلك، فإن أبطلتم التشبيه الذي أتى به خصومنا فقد أقررتم أن التشبيه لا يوجب حكما، وهذا عائدا على تشبهكم الذي شبهتم ولا فرق. وقال بعضهم: علة تحريم البر بالبر متفاضلا أنه مطعوم. وقال بعضهم: العلة في ذلك أنه مكيل. وقال بعضهم: العلة في ذلك أنه مدخر. قال أبو محمد: وكل واحد من هذه الطوائف مبطلة لما عدت به الاخرى، فكلهم قد اتفق على إبطال التعليل بلا خلاف بينهم، فليس ما أثبتت هذه الطائفة من التعليل بأثبت مما أثبتت الاخرى، ولا بعض هذه العلل أولى بالسقوط من سائرها، بل كلها دعوى زائفة ساقطة لا برهان عليها، وهكذا جميع عللهم. وليت شعري كيف يسهل على من يخاف سؤال الله تعالى يوم القيامة أن يأتي بعلة لم يجدها قط لا لله تعالى ولا لرسوله (صلى الله عليه وسلم) فيثبتها في الدين، فإنما ينسبها إلى الله تعالى فيكذب عليه، أو إلى رسوله (صلى الله عليه وسلم) فيقوله ما لم يقل، أو لا ينسب ذلك إلى الله تعالى ولا إلى رسوله (صلى الله عليه وسلم) فيحصل في أن يحدث دينا من عنده نفسه، ولا بد من إحداهما، وهما خطتا خسف، نعوذ بالله منهما، وبالله تعالى التوفيق. قال أبو محمد: ومنهم طوائف يمنعون من تخصيص العلل، ثم يجعلون علة الربا في التمر بالرطب مخصوصة يحدث العرايا. فيقرون أن النص أبطل علتهم، ولو كانت حقا ما أبطلها، لان الحق لا يبطل الحق، وكذلك لا يمكن أن يبطل حديث صحيح حديثا صحيحا إلا على سبيل النسخ فقط، وأما على معنى أن لا يقبل فلا سبيل إلى ذلك البتة. والحق لا يكذب بعضه بعضا أبدا. قال أبو محمد: وقد سألهم من سلف من أصحابنا فقالوا: لو كانت العلة التي تدعون في الشرائع موجبة لما ادعيتم من تحليل أو تحريم، لكانت غير مختلفة أبدا، كما أن العلل العقلية لا تختلف أبدا. مثال ذلك: أن الشدة والاسكار لو كانا علة لتحريم لكانت الخمر حراما مذ خلقها الله تعالى، فالخمر لم تزل مذ خلقها الله تعالى شديدة مسكرة، وقد كانت حلال في الاسلام سنين، وهي على الصفة هي الآن لم تبدل، ولا حدثت لها حال لم تكن قبل ذلك فبطل بهذا أن تكون الشدة علة التحريم، كما أن الباري تعالى جعل النارية علة الاحراق وتصعيد الرطوبات، فلا تزال كذلك أبدا، حاشا ما خص عزوجل منها من نار إبراهيم الخليل عليه السلام، ولم تزل كذلك مذ خلقها تعالى حتى في جهنم، أعاذنا الله تعالى منها: قال الله تعالى: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) *. قال أبو محمد: فتفسخوا تحت هذا السؤال، وتضوروا منه، لانه صحيح لا مخرج منه البتة. فقال بعضهم: إنما تكون العلة علة إذا جعلها الله تعالى علة. قال أبو محمد: وهذا ترك منهم لقولهم في العلل جملة، وترك منهم للقياس ورجوع إلى النص، وإذ قد راجعوا إلى هذا فلم يبق بيننا وبينهم إلا تسميتهم الحكم علة فقط، فلو قالوا: لا يجب الحكم إلا إذا نصه الله عزوجل لوافقونا البتة، ولكنهم تعلقوا باسم العلة، لانه مشترك، ليرجعوا من قريب إلى تخليطهم، وليتعدوا النص إلى ما لا نص فيه، وهذا ما لا يسوغونه. وبالله تعالى التوفيق. وقال بعضهم: هذا خبر الواحد هو حجة في إيجاب العمل، وليس حجة في إيجاب العلم، فلا تنكروا علينا كون الشئ علة في مكان، وغير علة في مكان آخر. فيقال له وبالله تعالى التوفيق: هذا تمويه منكم، لا تتخلصون به مما ألزمناكم إياه لاننا لم ننكر نحن عليكم أن يكون الشئ حجة في مكانه وبابه، وغير حجة فيما ليس بمكانه ولا ببابه، وإنما أنكرنا عليكم أن يكون ما ادعيتموه علة حجة موجبة للحكم في بعض مكانها وبابها بغير نص، وغير حجة في سائر بابها، وبعض أماكنها من غير نص أيضا فهذا الذي أنكرنا عليكم لا ما سواه. وأما خبر الواحد المسند من طريق العدول فهو حجة في إيجاب العمل أبدا إذا كان عن النبي (صلى الله عليه وسلم) عند جميعنا، ثم اختلفنا، فقالت طائفة منهم: ومنه ما لا يضطر إلى العلم فهو غير موجب للعلم أبدا، وما كان منه يضطر إلى العلم بأسباب معروفة فيه فهو موجب للعلم أبدا. وقالت طائفة: هو موجب للعلم أبدا إذا كان عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فبطل تشبيههم للعلة بالخبر. قال أبو محمد: واحتج عليهم من سلف من أصحابنا فقالوا: ما تقولون في إنسان قال في حياته أو عند موته: أعتقوا عبدي ميمونا لانه أسود، وله عبيد سود كثير، أتعتقونهم لعلة السواد الجامعة لهم، والتي جعلها علة في عتق ميمون قياسا على ميمون ؟ أم لا تعتقون منهم أحدا حاشا ميمون وحده، فإن قلتم: نعتقهم، نقضتم فتاويكم، وخالفتم الاجماع، وإن قلتم. لا نعتقهم تركتم القول بإجراء العلل وبالقياس وعدتم إلى قولنا. قال أبو محمد: وهذا إلزام صحيح، ونحن نزيده بيانا فنقول، وبالله تعالى التوفيق: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لامراء سراياه: إذا نزلتم بأهل حصن أو مدينة فأرادوا أن تنزلوهم على حكم الله تعالى فلا تفعلوا، فإنكم لا تدرون أتوافقون حكم الله تعالى فيهم أم لا، ولكن أنزلوهم على حكمكم، ثم اقضوا فيهم ما شئتم، فإذا سألوكم أن تعطوهم ذمة الله عزوجل وذمة رسوله (صلى الله عليه وسلم) فلا تعطوهم ذمة الله ولا ذمة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ولكن أعطوهم ذمتكم، فإن تخفروا ذمتكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، أو كلاما هذا معناه، فهذا نص جلي من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أن الاقدام على نسبة شئ إلى الله تعالى بغير يقين لا يحل، وأن نسبة ذلك إلى الانسان أهون وإن كان كل ذلك باطلا، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إن كان كذبا علي ليس ككذب على أحد، فلو جاز أن يقال بالقياس وبالفعل لكان الاقدام به على كلام الناس، وأحكامهم أولى من الاقدام به على الله عزوجل ورسوله (صلى الله عليه وسلم) فلما اتفقوا على أن من قال: اعتقوا عبدي سالما لانه أسود، وله عبيد سود أنه لا يعتق غير سالم وحده الذي نص عليه، اتقاء أن يعتقه، وخوفا من تبديل أمر الموصي وكلامه، فإن الاولى بهم أن يتقوا الله عزوجل في قوله (صلى الله عليه وسلم) في النهي عن الذبح بالسن: فإنه عظم. وفي أمره (صلى الله عليه وسلم) بهرق السمن إذا مات فيه الفأر، فلا يتعدوا ذلك إلى كل عظم وكل زيت وكل دهن وكل كلب وكل سنور. وفي أمره (صلى الله عليه وسلم) البائل في الماء الراكد الذي لا يجزي أن لا يتوضأ منه ولا يغتسل، فلا يتعدوه إلى المحدث في الماء، ولا إلى ما لم يبل فيه أصلا، فإن الاوجب عليهم ألا ينسبوا إلى الله تعالى ولا إلى رسوله (صلى الله عليه وسلم) تعليلا لم ينصا عليه، وأحكاما لم يأذنا بها ولا ذكراها أصلا، ولا في كلامهما ما يوجبهما البتة، ولكنهم اتقوا أن ينسبوا إلى الناس ما لا يقولون، ولم يتقوا أن ينسبوا إلى الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ما لم يقولا، وحسبك بهذا عظيمة، نعوذ بالله منها. وقد شغب بعضهم في هذا السؤال بأن قال: كنا نعتق سائر عبيده السودان لو أن الموصي يقول لنا بعقب قوله: اعتقوا عبدي سالما لانه أسود واعتبروا - فكنا حينئذ نعتق كل عبد له أسود. قال أبو محمد: وهذا جواب فاسد من وجهين: أحدهما: أنه حتى لو قال ذلك ما جاز أن يعتق كل عبد له أسود، لانه ليس قوله اعتبروا أولى بأن يكون معناه قيسوا منه بأن يكون معناه واعتبروا بحالي التي أنا فيها فبادروا إلى طاعة ربكم ولا تخالفوا وصيتي. وأيضا فيلزم من أجاب بهذا الجواب الفاسد ألا يقيس على شئ من الاحكام إلا حتى يكون إلى جنب كل حديث فيه حكم أو كل آية فيها حكم، واعتبروا واعتبروا وهذا غير موجود في شئ من الاحكام ولا في الحديث ولا في صلة شئ من الآيات، فبطل القياس جملة بنص قوله هذا المجيب، ولله تعالى الحمد. قال أبو محمد: والسؤال باق بحسبه عليهم ونزيدهم فيه فنقول: حتى لو قال: فاعتبروا، ثم لما كان نهارا آخر قال: اذبحوا كبشي الفلاني، لانه أعرج وله كباش عرج، أيذبحون كل كبش له أعرج، من أجل قوله بالامس في أمر عتق عبد واعتبروا ؟. أم لا يقدمون على ذلك إلا حتى يكون عند وصيته به واعتبروا ؟. فإن قالوا: نكتفي بقوله: واعتبروا مرة واحدة، خرقوا الاجماع، وهذا أمر لا يقولونه، ولو قالوه لكانوا حاكمين بلا دليل، ومدعين بلا برهان، وإن لم يقولوا بذلك فقد تركوا القياس جملة، ولزمهم طلب هذه اللفظة إلى جنب كل آية وحديث وهذا لا يجدونه أبدا. قال أبو محمد: وقد قال بعضهم في جواب هذا السؤال، إذ تتبعنا عليهم إدخالهم في أحكام الله تعالى وحكم رسوله (صلى الله عليه وسلم) ما لم يأت به نص، لكن تعليلا منهم وقياسا ثم يتحرون تجنب مثل هذا في أقوال أبي حنيفة ومالك والشافعي، فلا يتعدون نصوص أقوالهم، فقالوا: خطاب الآدميين وقد يكون فاسدا ولا حكمة فيه، وخطاب الله تعالى حكمة. قال أبو محمد: وهذا تمويه لا ينفك به من السؤال المذكور، ويقال له: أي فساد في خطاب امرئ موص في ماله بما أباحه له الله تعالى والرسول (صلى الله عليه وسلم) وإجماع الامة، ولم يتعد إلى مكروه ؟ فلو جاز ألا يحمل كلامه على موجبه ومفهومه خوف فساده، لما جاز تنفيذ تلك الوصية جملة خوف فسادها فلما اتفقوا معنا على تجويز تلك الوصية وحملها على ظاهرها، صح أنها حق، وبطل تمويه من رام الفرق بين ما سألناهم عنه، من حملهم كلام الناس على ظاهره ومفهومه وحملهم كلام ربهم تعالى على الكهانات بالدعاوي والظنون، وما ليس فيه ولا مفهوما منه وقلنا لهم: فيم غلبتم ما لم يؤمن فساده وما لا حكمة فيه، من أقوال أبي حنيفة المتخاذلة، وأقوال مالك المتناقضة، وأقوال الشافعي المتعارضة، على المضمون فيه الحكمة من كلام الله تعالى وكلام رسوله (صلى الله عليه وسلم) ؟ حتى صرتم لا تأخذون من النصوص إلا ما وافق كلام أحد المذكورين، ولا تزالون تتحيلون في إبطال حكم ما خالف قولهم من القرآن السنة بأنواع الحيل الباردة الغثة ؟ والسؤال يعد لهم لازم لا انفكاك عنه أصلا، وبالله تعالى التوفيق. ومما احتج به عليهم أصحابنا في إبطال العلل والقياس نهي الله تعالى الناس عن سؤالهم النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأمرهم الاقتصار على ما يفهمون مما يأمرهم به فقط، فلو كان المراد من النص غير ما سمع منه لكان السؤال لهم لازما، ليتبينوا ويتعلموا، فلما منعوا من السؤال أيقنا أنهم إنما لزمهم ما أعلموا به فقط. فأجاب بعض أصحاب القياس فقال: إنما نهوا عن سؤال من سأل عن أبيه. قال أبو محمد: وهذا الكذب بعينه لان نص الآية يكذب هذا القائل في قوله تعالى بعقب النهي عن السؤال: * (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) وبين ذلك طلحة رضي الله عنه في قوله: كنا نهينا أن نسأل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن شئ فكان يعجبنا أن يأتي بالرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونسمع، وقال النواس بن سمعان: أقمت بالمدينة سنة لا أهاجر، يريد لا أبايع على الهجرة، لاننا كنا إذا هاجر أحدنا لم يجز له أن يسأل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن شئ أو كلاما هذا معناه. وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): أعظم الناس جرما في الاسلام من سأل عن شئ لم يحرم فحرم من أجل مسألته، وقد قال (صلى الله عليه وسلم): اتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، ولكن إذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم فبطل اعتراض هذا المعترض. فصل قال أبو محمد: ونحن موردون إن شاء الله تعالى ما في القرآن من النهي عن القول بالعلل في أحكام الله عزوجل وشرائعه، فكتاب الله تعالى هو الحق الذي يقذف بالحق عن الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ومن أبى ذلك ختمنا له الآية، وهو قوله تعالى: * (ولكم الويل مما تصفون) *. قال أبو محمد: قال الله تعالى: * (وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذآ أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشآء ويهدي من يشآء) * فأخبر تعالى أن البحث عن علة مراده تعالى ضلالا، لانه لا بد من هذا، أو من أن تكون الآية نهيا عن البحث عن المعنى المراد، وهذا خطأ لا يقوله مسلم، بل البحث عن المعنى الذي أراده الله تعالى فرض على كل طالب علم، وعلى كل مسلم فيما يخصه فصح القول الثاني ضرورة ولا بد. وقال الله تعالى: * (فعال لما يريد) *، وقال تعالى: * (لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون) *. قال أبو محمد: وهذه كافية في النهي عن التعليل جملة، فالمعلل بعد هذا عاص لله عزوجل، وبالله نعوذ من الخذلان. وقال تعالى: * (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ئ فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوأتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ئ وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ئ فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوأتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطآن لكما عدو مبين ئ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) *. قال أبو محمد: وقال الله تعالى حاكيا عن إبليس إذ عصى وأبى عن السجود أنه قال: * (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) *. فصح أن خطأ آدم عليه السلام إنما كان من وجهين: أحدهما: تركه حمل نهي ربه تعالى عن الوجوب. والثاني: قبوله قول إبليس أن نهي الله عن الشجرة إنما هو لعلة كذا. فصح يقينا بهذا النص البين أن تعليل أوامر الله تعالى معصية، وأن أول ما عصى الله تعالى به في عالمنا هذا القياس، وهو قياس إبليس على أن السجود لآدم ساقط عنه، لانه خير منه، إذ إبليس من نار وآدم من طين، ثم بالتعليل للاوامر كما ذكرنا، وصح أن أول من قاس في الدين وعلل في الشرائع فإبليس. فصح أن القياس وتعليل الاحكام دين إبليس، وأنه مخالف لدين الله تعالى، نعم ولرضاه، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القياس في الدين، ومن إثبات علة لشئ من الشريعة، وبالله تعالى التوفيق. وقال الله عزوجل حاكيا عن قوم من أهل الاستخفاف أنهم قالوا إذا أمروا بالصدقة: * (أنطعم من لو يشآء الله أطعمه) *. قال أبو محمد: فهذا إنكار منه تعالى للتعليل، لانهم قالوا: لو أراد الله تعالى إطعام هؤلاء لاطعمهم دون أن يكلفنا نحن إطعامهم. وهذا نص لا خفاء به، على أنه لا يجوز تعليل شئ من أوامره، وإنما يلزم فيها الانقياد فقط وقبولها على ظاهرها. وقال تعالى: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) * فهم ظلموا فحرمت عليهم، ونحن نظلم فلم تحرم علينا الطيبات التي أحلت لنا، وقال عليه السلام: إننا سنركب سنن أهل الكتاب لو دخلوا جحر ضب لدخلناه فصح أننا ظلمنا كظلمهم، ولم يحرم علينا ما حرم عليهم، فبطل التعليل جملة، إذ لو كان ظلمهم علة التحريم لوجب أن يكون ظلمنا علة فينا لمثل ذلك، فلما لم يكن هذا كذلك، علمنا أن الله تعالى جعل ظلمهم سببا لان حرم عليهم ما حرم، ولم يجعل ظلمنا سببا لان يحرم علينا مثل ذلك، فصح أنه يفعل ما يشاء في مكان ما من أجل شئ ما، ولا يفعل ذلك في مكان آخر من أجل مثل ذلك الشئ بعينه، وهذا بطلان ما ادعاه خصومنا من العلل القياس نصا، وقال تعالى لموسى عليه السلام: * (اخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) *. فكان كون موسى عليه السلام بالوادي المقدس سببا لخلع نعليه، ونحن نكون بذلك الوادي، وبكل مكان مقدس كمكة والمدينة وبيت المقدس، ولا يلزمنا خلع نعالنا، ولو كان دخول الوادي المقدس علة للخلع للزمنا ذلك. وقال تعالى: * (وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهذا مثلا) *. قال أبو محمد: هذه آية كافية إنه لا يحل التعليل في شئ من الدين، ولا أن يقول قائل: لم حرم هذا وأحل هذا ؟ فقد صح قولنا: إن قول القائل: حرم البر بالبر لانه مكيل، أو أنه مدخل، أو أنه مأكول، بدعة نعوذ بالله منها. فصل قال أبو محمد: ونحن نورد - إن شاء الله تعالى - طرفا يسيرا من تناقضهم في التعليل، لندل بذلك عن إفساد مذهبهم، فتناقضهم لو تتبع لدخل في أزيد من ألف ورقة، ولعل الله تعالى يعيننا على تقصى ذلك في كتاب الاعراب إن شاء الله تعالى. فمن ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا أثمانها فكان يلزمهم أيجعلوا ما حرم أكله محرما بيعه، لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل كثير منهم يبيحون بيع الزبول ولا خلاف أن أكل الحيوان حيا كما هو محرم ولا خلاف في جواز بيع أكثره. وكذلك فعلوا في قوله (صلى الله عليه وسلم) في الاستحاضة، فإنه عرق، فكان يلزمهم أن يجعلوا كل عرق يسيل من الجسد في مثل حكم المستحاضة، كما جعلوا الميعان في الزيت علة لتحريمه إن مات فيه فأر قياسا على السمن، لكنهم تناقضوا في ذلك. وهذا إجماع منهم على ترك الحكم بالعلل والقياس، وهكذا يكون الباطل مرة مصحوبا ومرة متروكا، وصح قولنا: إن ما كان سببا في مكان نص عليه لحكم ما فلا يكون سببا في مكان آخر لم ينص عليه لمثل ذلك الحكم. فقالوا: معنى التعليل هو إجراء صفة الاصل في فروعه. قال أبو محمد: وهذا قول فاسد، لان جميع أحكام الشريعة كلها أصول، فإن كانوا عنوا بذلك أن الصلاة جملة أصل جامع ثم النوازل فيها فروع فهذا سوء عبارة لان اسم الصلاة يقع على عملها كله فتلك النوازل إنما هي أجزاء من الصلاة، ولا تسمى أجزاء الشئ فروعا له، لان الفرع غير الاصل، والاجزاء ليست غير الكل. فبطل ما موهوا به من تقسيمهم الشريعة على فروع وأصول، وصح أن جميع أحكام الشريعة كلها سواء وأصول، ولا يوجد شئ منها إلا عن قرآن أو عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أو عن إجماع. ونص تعالى عن ألا يقرب المشركون المسجد الحرام، فقال بعضهم: إن علة ذلك تطهير المسجد الحرام منهم، فأجروا ذلك في كل مسجد، فكان يلزمهم وإذا لزم الحج إلى مكة، أن يلزم إلى المدينة لان مسجد المدينة والمدينة عند القائلين بما ذكرنا أفضل من مسجد مكة ومن مكة، وهذا إن طردوا فيه أصولهم كفروا، فإذا ادعوا الاجماع المانع لهم من ذلك قيل لهم: لا عليكم قيسوا إيجاب جزاء الصيد بالمدينة وحرمه، فقد قال بذلك بعض التابعين من الائمة. وقيسوا الجزاء فيما حرم قطعة من شجر الحرم على الجزاء فيما حرم صيده من صيد الحرم، فإن لم يفعلوا فقد تناقضوا وتركوا إجراء العمل، وتركوا القياس، وتركوا أن يتعدو ا النص، ولو فعلوا هذا في كل مسائلهم لاهتدوا ولنجوا من ضلال القياس وفتنته. وقالوا: إن علة الحدود الزجر والردع. قال أبو محمد: كذبوا في ذلك إذا كان ذلك لما جاز العفو في قتل النفس ولم يجز العفو في الزنى بالامة وفي السرقة، ولو كان ذلك لما كانت السرقة أولى بوجوب حد محدود فيها من الغضب، ولا كانت الخمر أولى بذلك من لحم الخنزير ومن الربا، ولا كان الزنى أولى بذلك من القذف بالكفر، أو بترك الصلاة، ولا كان الزنى بذلك أولى من ترك الصلاة، فظهر كذب دعواهم في ذلك، والحمد لله رب العالمين. وقالوا: إن علة القصر في الصلاة في السفر إنما هي المشقة، فلذلك حدت بيوم ويومين وثلاثة أيام، على اختلافهم في ذلك. قال أبو محمد: وهذا أمر كان ينبغي لاهل التقوى ألا يمروه على خواطرهم فكيف أن يحلوا به ويحرموا ويتركوا له قول ربهم تعالى ؟ فأول ذلك الكذب البحث أن أصل القصر المشقة. ولو كان ذلك لكان المريض المدنف المثبت العلة كالمبطون، والذي به ناقض الحمى والموم والسل ممن تثقل عليه الكلمة يسمعها ويصعب عليه رد الجواب بكلمة فما فوقها، أولى بالقصر لعظيم مشقة الصلاة عليه وتكلف القراءة فيها والايماءة والتشهد صرف ذهنه إليها، من المراكب في عمارية ومعه مائة عبد يتمشى في أيام الربيع على ضياعه من روضة إلى نهر، ومن نهر إلى صيد، ومن صيد إلى نزهة، ومن كل منظر بديع إلى منظر حسن ينزل إذا شاء ويرجل إذا شاء، إلا أنه من ذلك قاصد مسافة أكثر من ثلاثة أيام من وطنه. وهذا ما لا يحيل على صبي له أدنى فهم، فكيف على من يتعاطى التحريم والتحليل، ويستدرك على ربه تعالى أشياء لم يذكرها ربه تعالى ولا رسوله (صلى الله عليه وسلم)، إن هذا لهو الضلال المبين. هذا والمريض والمسافر قد سوى الله عزوجل بينهما في الفطر في رمضان، وفي إباحة متيمم، فهلا ساوى القياسيون المعللون بينهما في قصر الصلاة للذي المريض أحوج عليه من المسافر، لانه أكثر مشقة منه وأحوج إلى الراحة ؟ فأين قياسهم وعللهم ؟ ثم هلك، لو صح ما قالوه، إن العلة في قصر الصلاة مشقة السفر، وأعوذ بالله من ذلك فأي تمام للمشقة في ثمانية وأربعين ميلا في سهل وأمن وظلال أشجار، وفي أيام الربيع في آذار وفي نيسان، ولفارس مريح قوي، على سبعة وأربعين ميلا في أوعار وشعار، وفي حارة القيظ في تموز، وفي خوف شديد لراجل مكدود كبير السن ضعيف الجسم ؟ فأباحوا للفارس الذي ذكرنا أن يفطر في رمضان ويقصر الصلاة، ومنعوا الرجل المكدود في الوعر والحر من ذلك. وقالوا: لا بد له من الصيام والاتمام، أفترى الميل الواحد هو الذي حصلت فيه المشقة ؟ أو ترى نصف اليوم الذي به تمت الثلاثة هو الذي حصلت المشقة دون اليومين ونصف يوم ؟. هذا لا يحتمل مثله إلا من الله تعالى، الذي لا يسأل عما يفعل، وأما نحن فنسأل، أو من رسوله (صلى الله عليه وسلم) المبين مراد ربه تعالى، ثم لم يكفهم إلا أن ادعوا على العقل هذا البهتان، لانهم عند أنفسهم أهل الحكمة في الشريعة بما توجبه عقولهم. وقد موه بعضهم بأنه إنما تعلق في ذلك الحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم): لا تسافر امرأة يوما وليلة إلا مع ذي محرم. قال أبو محمد: إن احتجاجهم بهذا الحديث في إيجاب الفطر والقصر والقريب من تحديدهم المذكور، فليت شعري: أي شئ في منع المرأة من السفر يوما وليلة مما يوجب القصر في يوم وليلة ؟ ومشي يوم وليلة يختلف ؟ ففي أيام كانون الاول لا يكمل الراحل ثلاثين ميلا إلى الليل. وفي أيام صدر حزيران - في طيب الهواء وطول الايام والشمس في آخر الجوزاء وأول السرطان - يكمل أربعين ميلا والركبان كذلك، والسير يختلف، فمن أين لهم أن يجدوا اليوم والليلة بأربعة برد ؟. وقد علمنا أن بين مشي شيخ ضعيف وحمار أعرج، وبين مشي العساكر، وبين مشي الرفاق، وبين مشي المسافر الراكب دابة مطيقة، وبين مشي البريد في اختلاف الازمان، أشد الاختلاف وأعظم التباين، فكيف يستجيز ذو لب أن يجد ما يقصر فيه ويفطر بثلاثة أيام، أو باليوم التام ؟ ولا خلاف أن ما تمشيه العساكر في أربعة أيام الشتاء يمشيه البريد في يوم واحد في آخر الربيع وأول الصيف، وهذا معروف بالمشاهدة. وأيضا، فإن ذلك الحديث قد جاء بألفاظ شتى ففي بعضها أكثر من ثلاثة أيام وفي بعضها ثلاثة أيام وفي بعضها ليلتين وفي بعضها يوم وليلة وفي بعضها يوم وفي بعضها بريد وفي بعضها لا تسافر على الاطلاق دون تحديد شئ أصلا، فبطل احتجاجهم به. فإن تعلقوا بابن عمر وابن عباس، فقد خالفهم ابن مسعود وعائشة ودحية بن خليفة، وشرحبيل بن السمط وغيرهم من الصحابة، نعم، وابن عمر نفسه، فقد صح عنه القصر في الاميال اليسيرة جدا. وفي الميل وفي سفر ساعة. وعللوا الشفعة في الارضين والحكم على الشريك يعتق شقصه في العبد والامة يعتق الباقي: بأن ذلك الضرر بالشريك. وتناقضوا في ذلك في قولهم: لا شفعة في الجوهر ولا في العبيد ولا في الحيوان ولا في الثياب ولا في السيوف، وقد علم كل ذي عقل أن الضرر في ذلك بالشركة وانتقال الملك بالصدقة أو البيع أعظم من الضرر في الارضين. فهلا قاسوا ههنا كما قاس المالكيون الشفعة في التين والرطب على الشفعة في الارضين خوف الضرر الداخل على الشريك ؟. وهلا قاسوا هبة الشريك على بيعه ؟ فيقولوا: شريكه أولى بالهبة لئلا يدخل عليه ضرر ؟. فإن قالوا: لم يرد أن يهبه، قيل لهم: وكذلك لم يرد أن يبيع منه. فإن رجعوا إلى النص فقد امتدوا، ولزمهم ألا يقيسوا أصلا، ولا يتعدوا حدود الله في النصوص، ولا يقيسوا الشفعة في التين والثمار - دون سائر العروض على وجوبها في الارضين والاشجار عندهم. وهلا قاسوا من حبس شقصا له في أرض مشارعه على من أعتق شقصا له في عبد، لاجتماعهما في الضرر ؟ ولكن هكذا يفضح الباطل أهله. وكذلك يكون تناقض أهله. وهل قاسوا المعسر بعتق شقصه على الموسر بعتق شقصه، لان الضرر في ذلك واحد، وهم يقيسون عليه كل من أتلف شيئا فيوجبون عليه فيما عدا المكيلات والموزونات القيمة لا المثل، قالوا: نفعل ذلك قياسا على تقويم الشقص على المعتق، فهلا قوموا على المعسر إذا أعتق كما يقومون عليه فيما أتلف ويتبعه به دينا ؟. قال أبو محمد: وفيما ذكرنا كفاية، وقلما تخلو لهم مسألة من مثل ما أوردنا وبالله تعالى التوفيق. وقال بعض حذاقهم: قد تكون علة الخصم علة لخصمه عليه في إبطال قوله. مثال ذلك: أن يقول الحنفي والمالكي لما كان الوقوف بعرفة لا يصح إلا بمعنى آخر يقترن إليه وهو الاحرام، وجب ألا يصح الاعتكاف إلا بمعنى آخر يقترن إليه وهو الصيام، فيقول الشافعي: لما كان الوقوف بعرفة لا يقتضي الصيام، وجب أن يكون الاعتكاف لا يفتقر إلى الصيام، وعلتهم كلهم فيما ذكروا أن الوقوف بعرفة والاعتكاف لبث وإقامة في موضع مخصوص. قال أبو محمد: ومثل هذا لا يعجز أن يأتي به من استجاز الهذيان في حال صحته من البرسام ولو تتبعنا ترجيحاتهم العلل لاوردنا من ذلك مضاحك تغني عن كل ملهى وحسبنا الله ونعم الوكيل. ومن تأمل كتب متأخريهم ومناظراتهم، وتكلفهم إخراج العلل لكل حكم مختلف فيه أو مجتمع عليه في الشريعة، كان فيه نص يعرفونه أو لم يعرفوا فيه نصا، رأى كلاما لا يأتي بمثله سالم لدماغ أصلا، إلا أن يكون سالكا سبيل المجون والسخافة ونعوذ بالله من الخذلان. فصل قال أبو محمد: وقالوا: الحكيم بيننا لا يفعل إلا لعلة صحيحة، والسفيه هو الذي يفعل لا لعلة، فقاسوا ربهم تعالى على أنفسهم، وقالوا: إن الله تعالى لا يفعل شيئا إلا لمصالح عباده، وراموا بذلك إثبات العلل في الديات. قال أبو محمد: وتكاد هذه القضية الفاسدة - التي جعلوها عمدة لمذهبهم وعقدة تنحل عنها فتاويهم - تكون أصلا لكل كفر في الارض. وأما على التحقيق فهي أصل لقول الدهرية الذين جعلوا برهانهم في إبطال الخالق، لما رأوا الامور لا تجري على المعهود فيما يحسن في عقولهم، وأنه لا بد من علة للمفعولات، وإذ لا بد من علة فلا بد لتلك العلة من علة، وهكذا أبدا حتى يوجبوا كون أشياء لا أوائل لها. وهي أيضا أصل لقول من قال: إن الفاعل للعالم إنما هو النفس، وأما الله تعالى فيحل عن أن يحدث هذه الاقذار في العالم، وهذا الظلم الظاهر من استطالة بعض الحيوان على بعض. وهي أيضا أصل لقول من قال: إن للعالم لم يزل وخالقه تعالى لم يزل، لانهم جعلوا علة الخلق وجوده تعالى، ووجوده لم يزل، فخلقه لم يزل. وهي أيضا أصل لقول من قال: بأن العالم له خالقان، من المانية والديصانية لانهم قالوا: تعالى الله عن أن يفعل شيئا من غير الحكمة، ولغير مصالح عباده، فصح بذلك عندهم أن خالق السفه والشر ومضار العباد خالق آخر، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وهي أيضا أصل لقول من قال بالتناسخ، لانهم قالوا: محال أن يعذب الحكيم من لم يذنب، وأن يفعل شيئا إلا لعلة، ومحال أن يعذب أقواما ليعظ آخرين، أو ليجازي بذلك آخرين، أو ليجازيهم بذلك، وهو قادر على المجازاة بلا أذى، ذلك هذا عبث فيما بيننا، فلما رأيناه تعالى يعذب الاطفال بالجدري والقروح والجوع، ويسلط بعض الحيوان على بعض، علمنا أن ذلك لذنوب تقدمت لانفس ذلك الحيوان وأولئك الصبيان، وأنهم قد كانوا بالغين عصاه قبل أن تنسخ أرواحهم في أجسام الصبيان والحيوان. وهي أيضا أصل لقول من أبطل النبوات كالبراهمة ومن اتبعها، فإنهم قالوا: ليس من الحكمة أن يبعث الله تعالى نبيا إلى من يدري أنه لا يؤمن به. قال أبو محمد: ثم حسدتهم المعتزلة على هذه القضية فأخرجوا على حكم الله تعالى وعن خلقه وقدرته وجميع أفعال العباد، فضلوا ضلالا بعيدا، وأثبتوا خالقين كثيرا غير الله تعالى. وسلم الله تعالى من هذه البلية أهل الاثبات، فنفس عليهم إبليس اللعين عدو الله السلامة، فبغي لهم الغوائل، ونصب لهم الحبائل، ووسوس لهم القول بالعلل في الاحكام، فوقعوا في القضية الملعونة التي ذكرنا. وأصحب الله تعالى عصمته منها أصحاب الظاهر فثبتوا على الجادة المثلى، وتبرؤوا إلى الله تعالى من أن يتعقبوا عليه أحكامه أو أن يسألوه لم فعل كذا، أو أن يتعدوا حدوده، أو أن يحرموا غير ما حرم ربهم، أو أن يوجبوا غير ما أوجب تعالى، أو أن يحلوا غير ما أحل عزوجل، ولم يتجاوز ما أخبرهم به نبيهم (صلى الله عليه وسلم) فاهتدوا بنور الله التام، الذي هو العقل، الذي به تعرف الامور على ما هي عليه، ويمتاز الحق من الباطل، ثم بنص القرآن وبيان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للدين، إذ لا سبيل إلى السلامة في الآخرة إلا بهذين السبيلين. والحمد لله رب العالمين، وهو المسؤول أصحاب الهداية حتى نلقاه على أفضل أحوالنا، آمين. قال أبو محمد: وكل هذه المقالات الفاسدة التي ذكرنا قد بينا بطلانها بالبراهين الضرورية في كتابنا المرسوم بكتاب الفصل في الملل والنحل والحمد لله رب العالمين. ونقول في ذلك ههنا قولا كافيا، يليق بغرض كتابنا هذا إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى التوفيق. إن أول ضلال هذه المسألة قياسهم الله تعالى على أنفسهم في قولهم: إن الحكم بيننا لا يفعل شيئا إلا لعلة، فوجب أن يكون الحكيم عزوجل كذلك. قال أبو محمد: وهم متفقون على أن القياس هو تشبيه الشئ بالشئ، فوجب أنهم مشبهون الله تعالى بأنفسهم، وقد أكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله: * (ليس كمثله شئ) * ولو أن معارضا عارضهم فقال: لما كنا نحن لا نفعل إلا لعلة، وجب أن يكون تعالى بخلافنا، فوجب ألا يفعل شيئا لعلة لكان أصوب حكما وأشد اتباعا لقوله: * (ليس كمثله شئ) * وبالله تعالى التوفيق. وأيضا: فإنهم بهذه القضية الفاضحة قد أدخلوا ربهم وتحت الحدود والقوانين، وتحت رتب متى خالفها لزمه السفه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وهذا كفر مجرد دون تأويل، ولزمهم - إن طردوا هذا الاصل الفاسد - أن يقولوا: لما وجدنا الفعل منا لا يكون إلا جسما مركبا ذا ضمير وفكرة وجب أن يكون الفعال الاول جسما مركبا ذا ضمير وفكرة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. قال أبو محمد: فهذا يلزمهم كما ذكرنا. ثم نبين بالبرهان الضروري بطلان قضيتهم من غير طريق إلزامهم طردها فنقول بالله تعالى التوفيق: إن الحكيم منا إنما صار حكيما لانه انقاد لاوامر ربه تعالى، ولتركه نواهيه، فهذا هو السبب الموجب على الحكيم منا ألا يفعل شيئا إلا لمنفعة ينتفع بها في معاده أو لمضرة يستدفعها في معاده. وأما الباري تعالى فلم يزل وحده ولا شئ معه ولا مرتب قبله فلم يكن على الله تعالى رتبة توجب أن يقع الفعل منه على صفة ما دون غيرها، بل فعل ما فعل كما شاء، ولم يفعل ما لم يفعل كما لم يشأ فبطل تشبيههم أفعال الحكيم منا بأفعال الباري تعالى. وأيضا: فإنا لم نسم الله تعالى حكيما من طريق الاستدلال أصلا، ولا لان العقل أوجب أن يسمى تعالى حكيما، وإنما سميناه حكيما لانه سمى بذلك نفسه فقط، وهو اسم علم له تعالى لا مشتق، ويلزم من سمى ربه تعالى حكيما من طريق الاستدلال أن يسميه عاقلا من طريق الاستدلال، وقد بينا فساد هذه الطريقة وبطلانها وضلالها في كتاب الفصل فبطلت قضيتهم الفاسدة جملة، وصح أنها دعوة فاسدة منتقضة. وأما قولهم: إنه تعالى يفعل الاشياء لمصالح عباده فإن الله تعالى أكذبهم بقوله: * (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) * فليت شعري أي مصلحة للظالمين في إنزال ما لا يزيدهم إلا خسارا، بل ما عليهم في ذلك إلا أعظم الضرر وأشد المفسدة، ولقد كان أصلح لهم لو ينزل، وما أراد الله تعالى بهم مصلحة قط، ولكنهم من الذين قال تعالى فيهم: * (ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) *. قال أبو محمد: ويقال لهم المصلحة جميع عباده فعل تعالى ما فعل ؟ أم لمصلحة بعضهم. فإن قالوا لمنفعة جميعهم كابروا وأكذبهم العيان، لان الله تعالى لم يبعث قط موسى عليه السلام لمنفعة فرعون ولا لمصلحته، ولا بعث محمدا (صلى الله عليه وسلم) لمنفعة أبي جهل ولا لمصلحته، بل لمضرتهما ولفساد آخرتهما ودنياهما، وهكذا القول في كل كافر، لو لم يبعث الله من كذبوه من الانبياء لكان أصلح لدنياهم وآخرتهم. وأيضا فلا شئ في العالم فيه مصلحة لانسان إلا وفيه مضرة لآخر، فليت شعري ما الذي جعل الصلاح على زيد بفساد عمرو حكمه ؟ وكل من فعل هذا بيننا فهو سفيه، بل هو أسفه السفهاء، والله تعالى يفعل كل ذلك وهو أحكم الحكماء، فيلزمهم على قياسهم الفاسد. وأصلهم الفاضح أن يسفهوا ربهم تعالى، لانه عزوجل يفعل ما هو سفه بيننا لو فعلناه نحن، وقد وجدنا من أغرى بين الحيوانات بيننا حتى تتقابل كالديكة والكباش والقبج وقتلها لغير أكل أنه غاية السفه، والباري تعالى يفعل كل ذلك ويقتل الحيوانات لغير أكل، ويسلط بعضها دون مثوبة للقاتل منهما ولا المقتول، وهو أحكم الحاكمين. وهذا خلاف الرتبة بيننا فبطل قوله: إن الله تعالى لا يفعل شيئا إلا لمصالح عباده، وصح بالضرورة أنه يفعل ما يشاء لصلاح ما شاء، ولفساد ما شاء، ولنفع من شاء، ولضر من شاء، ليس ههنا شئ يوجب إصلاح من صلح، ولا إفساد من أفسد، ولا هدي من هدى ولا إضلال من أضل، ولا إحسان إلى من أحسن إليه. ولا الاساءة إلى من أساء إليه، لكن فعل ما شاء * (لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون) * وهم دائبا يسألون ربهم. لم فعلت كذا، كأنهم لم يقرؤوا هذه الآية نعوذ بالله من الخذلان. ونجده عزوجل قد حبب بين زوجين حتى أطاعاه وحبب بين آخرين حتى عصياه واشتغلا بما هما فيه عن الصلاة في أوقاتها وجذم صالحا وطالحا، وسلم صالحا وطالحا وابتلى قوما فصبروا وابتلى قوما فكفروا وعافى قوما فصبروا وشكروا، وعافى آخرين فبطروا وكفروا، وعمر صالحا وطالحا أقصى العمر، واخترم صالحا وطالحا في حداثة السن، وجعل عيسى عليه السلام نبيا حين سقوطه من بطن أمه، وآتى يحيى الحكم صبيا، وبسط لفرعون أنواع الغرور حتى قال: أنا ربكم الاعلى، وخلق قوما ألباء فهماء كفارا كالفيومي اليهودي، وأبي ريطة اليعقوبي، وقوما ألباء فهماء مسلمين، وقوما بلداء كفارا، وقوما بلداء مسلمين، فبأي شئ استحق عنده هؤلاء أن يرزقهم الفهم ؟ وهؤلاء أن يمنعهم إياه ؟. فإن قالوا: لو رزق بلداء الكفار الفهم لكانوا ضررا على المسلمين، أريناهم من ذكرنا ممن كان ضررا عليهم، فصح تناقضهم وأكذبهم الباري عز وجل بقوله: * (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما). بقوله تعالى * (أنما نمهدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات) * فأخبر تعالى أنه أنما أملى لهم لضررهم لا لنفعهم ولا لمصلحتهم وكذلك يكذبهم أيضا قوله تعالى * (إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) * وكذلك قال تعالى * (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) * فأبان الله تعالى كذبهم في قولهم: إن الله تعالى إنما يفعل الشرائع لمصالح عباده وأيضا فقد كان أصلح لهم أن يدخلهم الجنة دون تكليف عمل ولا مشقة واحتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى * (ما ننسخ من آية أو ننساأها فأنت بخير منها أو مثلها) *. قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه، لان الناسخة إنما صارت خيرا لنا معشر المؤمنين بها خاصة إذ جعلها الله تعالى خيرا لنا لا قبل ذلك ولم يكن قط هنا سبب يوجب أن تكون خيرا لنا إلا أنه تعالى شاء ذلك بلا سبب ولا علة أصلا ويقال لهم وبالله تعالى التوفيق متى كانت الناسخة خيرا لنا ؟ إذ نسخ بها ما تقدم أو قد كانت خيرا لنا قبل أن ينسخ ما تقدم ؟ فإن قالوا كانت خيرا قبل ان يخاطبنا بها نقضوا أصلهم وأثبتوا أنه تعالى قد منعنا ما هو خير لنا مدة طويلة وإن قالوا بل ما صارت خيرا لنا إلا إذ نسخ تعالى بها ما تقدم وإذ خاطبنا وأبطل بها الرتبة الاولى. قيل لهم: وما الذى أوجب ان تصير حينئذ خيرا لنا ؟ وما الذى أوجب أن تنتقل الرتبة الاولى عن كونها خيرا لنا ؟ أعلة متقدمة حكمت على الباري تعالى بذلك ؟ أم أنه شاء ذلك فقط ؟ فإن قالوا بل علة أوجبت ذلك على الباري عز وجل كفروا بإجماع الامة وجعلوا الله تعالى مدبرا مصرفا تعالى الله عن ذلك. فإن قالوا بل إنه شاء ذلك فقط، رجعوا إلى أنه تعالى شاء ما فعل بلا علة أصلا ولم يشأ ما لم يفعل وأنه تعال يريد ضلال من ضل ولم يرد به الهدى ولا المصلحة أصلا وبالله تعالى التوفيق. وقد بين تعالى ذلك بقوله نعوذ بالله من أن يريد منا ما أراد بهؤلاء. ونقول لمن قال إنه تعالى أراد صلاحهم أن يدعو ربه أن يريد به من الصلاح ما أراد بهم. ونجده تعال خلق الكلب مضروبا به المثل في الرذيلة والخنزير رجسا وخلق الخيل في نواصيها الخير فأى علة وأى سبب أوجب على هذه الحيوانات أن يرتبها هكذا ؟ وما الذى أوجب أن يخترع بعضها نجسا وبعضها مباركا وبأى شئ استحقت ذلك قبل أن تكون منها فعل أو قبل أن توجد وأى علة أوجبت ان يخلق من الاشياء على عدد ما دون ان يخلق أكثر من ذلك العدد أو أقل وأن يخلق الخلد أعمى والسرطان صارفا بصره أمام ووراء أي ذلك شاء والافعى أضر من الخلد ولها بصر حاد. فإن قالوا خلقها ليعتبر بها وعذب الاطفال بالامراض ليعوضهم أو ليأجر آباءهم فهذا كله فاسد لانه قد كان يعتبر ببعض ما خلق كالاعتبار بكله ولو زاد في الخلق لكان الاعتبار أكثر فلزم التقصير على قولهم تعالى الله عن ذلك ولا فساد فيما بيننا أعظم من فعل من عذب آخر ليعطيه على ذلك مالا أو من فعل من عذب إنسانا لا ذنب له ليعظ به آخر أو ليثيب على ذلك آخر وكل هذا يفعله الباري تعالى وهو أحكم الحاكمين فبطل قولهم إن الحكيم لا يفعل شيئا الا لعلة قياسا على ما بيننا. وأى فرق بين ذبح صغار الحيوان لمنافعنا وبين ذبح صغارنا لمنافعنا ؟ فيذبح ولد عمر ولمصلحة زيد ؟ الا أن الله تعالى شاء ذلك فأباحه ولم يشأ هذا فحرمه ولو أحل هذا وحرم ذلك لكان عدلا وحكمة واذ لم يفعله تعالى فهو سفه وجور ولا علة لكل ذلك أصلا. وقد أباح تعالى سبي نساء المشركين وأطفالهم واسترقاقهم قهرا وتملكنا رقابهم وأخذنا أموالهم غصبا لذنوب وقعت من آبائهم والدليل على ان ذلك لذنوب آبائهم ان آبائهم لو اسلموا لحرم علينا سبي اولادهم وتملكهم فما الذى جعل الابناء مؤاخذين بذنوب غيرهم ؟ أو ما الذى جعل مصلحة ابنائنا اولى من مصلحة ابنائهم وكل لا ذنب له ؟ وهل لو فعل ذلك فاعل بيننا لغير نص من الله تعالى أما كان يكون أظلم الظالمين وأسفه السفهاء ؟. وما الذى جعل ان يخص أجسامنا بالانفس الناطقة دون أجسام الاسد أو الحمير أو الخيل فإن قالوا في سبي اولادهم صلاح لهم لانهم يصيرون مسلمين قيل لهم فأبيحوا سبي أولاد الذمة ليصيروا مسلمين فذلك أصلح لهم فإن قالوا هم سكان بيننا قيل لهم فسكنوا أولاد أهل الحرب بينكم ولا تتملكوهم عبيدا محكوما فيهم وإلا فقد تركتم القياس ولم تجروا العلل فصح بكل ما قلنا ان الله تعالى يفعل ما شاء لا لعلة أصلا. ولا خلاف عن كل ذى عقل أنه لو خلقنا في الجنة وعرفنا قدر النعمة في ذلك وضاعف عقولنا في الزجاجة وإحساسنا في قبول اللذة كما فعل بالملائكة لكان أصلح لنا إلا ان يقولوا إنه تعالى غير قادر على غير ما فعل فيخرجون بذلك عن الاسلام. وعلى كل حال فقد سقطت العلل على كل وجه وبكل قول فقد رأيناه تعالى خلق قوما في عصر نبيه عليه السلام فشاهدوا آياته فآمنوا وخلق آخرين في أقاصى بلاد الزنج وأقاصي بلاد الروم حيث لم يسمعوا قط ذكر محمد صلى الله عليه وسلم. متبعا بأقبح الذكر وأسوا الوصف وكل هذا لا عله له إلا أنه شاء ذلك لا إله إلا هو وبه تعالى التوفيق. قال أبو محمد ثم حداهم هذا القول الفاسد إلى ان قال بعضهم بتضمين الصناع وقالوا في ذلك صلاح للمستصنعين. قال أبو محمد وليت شعرى ما الذى جعل المستصنعين أولى بالنظر لهم من الصناع إلا إن كان ذلك اتباعا لمصلحة الكثرة وعلى قول الفساق الذين يقولون قتل الثلث في صلاح الثلثين صلاح فهذه أقوال الشيطان الرجيم وأتباعه وما جعل الله تعالى قط جيمع عباده أولى بالنظر لهم من مسلم واحد يضيع من أجلهم ولو شاء الله تعالى أن يأمرنا بقتل الامة كلها في مصلحة واحد لكان ذلك حكمة وقد امر تعالى بقتل كل من خالف محمدا صلى الله عليه وسلم وهو رجل واحد أو إصغاره إن كان كتابيا بالجزية ومخالفوه كثير فخصه بهذه المرتبة دونهم كما شاء لا معقب لحكمه وقد أمرنا تعالى بأخذ الجزية من أهل التثليث القائلين بان الآلهة ثلاثة وهم النصارى وحرم علينا قتلهم وحرم علينا أموالهم وأجراهم في المحاكمة مجرانا وأمرنا أن نقرهم على كفرهم وهم مع ذلك يستحلون قتلنا وحرم علينا استبقاء الثنوية الذين لا يقولون إن الآلهة اثنان قتلنا وقتالنا وحرم علينا الكفر من التثنية والثنوية لا يستحلون أذانا ولا قتلنا ولا ظلمنا في أموالنا ولا أنفسنا فألزمنا تعالى قتلهم حيث ظفرنا بهم إن لم سيسلموا وأمرنا ان لا نقبل منهم شيئا غير الاسلام أو القتل.فإن قال مجنون لان المثلثة أصل دينهم حق قلنا له كذبت ما كان التثليث قط حقا وما هو إلا إفك مفترى كالتثنية ولا فرق إلا أن النص هو المفرق بين النصارى واليهود والمجوس وبين سائر فرق الكفر فقط ولا مزيد.ومن قال إن قبض أرواح المشركين مصلحة لهم لحق بمن لا يكلم وكفى بالمصير الى هذا القول ذلا وانقطاعا.فإن قال لو أبقاه لزاد كفرا قيل له أيما كان أصلح له ؟ أن يقبض روحه وهو صغير لم يكفر بعد ؟ أو وهو في أول كفره قبل أن يزداد ما ازداد ؟ أو تأخيره إلى الوقت الذى أخره تعالى إليه ؟.وفى هذا حسم لشعبهم وترك لقولهم بالمصالح جملة وقد أخبر تعالى فقال * (انما نملي لهم ليزدادوا اثما) * فأكذب قولهم في المصالح جملة وأخبر انه قصد بابقائهم ضد المصلحة لهم وهذا نص قولنا انه تعالى يفعل ما يشاء لا لعلة أصلا.وقال بعض أصحاب العلل ان الله تعالى انما حرم الخنزير لانه فاسد الغذاء قال أبو محمد فيقال لهذا البارد الجاهل المفترى أيما أفسد غذاء الخنزير أم التيس الهرم فلا بد له ان يقول أن التيس الهرم أفسد غذاء وقد أحله الله تعالى وحرم الخنزير وقد أباح تعالى الدجاجة وهى آكل للقذر من الخنزير وهذا كله فاسد من القول وتكلف بارد وتنطع محرم وبالله تعالى التوفيق.وموه بعضهم بأن قال قد اتفقتم معنا على وجوب شكر المنعم وعلى وجوب شكر الباري عز وجل وهذا موافقة منكم لنا على ان العقل يوجب به الشرع قال أبو محمد وهذا كذب منهم وما وافقناهم قط على إن شكر الله عز وجل واجب علينا الا بعد قوله تعالى * (أن اشكر لى ولوالديك) * وقوله تعالى * (انه يحب الشاكرين) * وقوله * (لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي شديد) * وكذلك نقول ان شكر المحسن فيما بيننا لا يلزم المحسن إليه الا حيث أوجبه الله تعالى وحيث جاء النص بايجابه وبعد ان قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من أسديت إليه نعمة فلشكرها ولولا هذه النصوص ما لزم الشكر أحدا إذ اللزوم يقتضى فاعلا له ملزما اياه علينا والعقل عرض محمول في النفس والعرض لا يفعل شيئا وانما يفعل الجسم الحامل له والنفس لا تشرع الشرائع قبل ان يرد بها السمع وتبلغ الى العاقل المميز فلا ينكر قول من قال من الخوارج ان النبي ساعة يبعث فإنه قد الزم أهل المشرق والمغرب التزام جميع ما بعث به ومعرفة الدين الذى جاء به من البيوع وانواعها والطلاق والنكاح والعبادات كلها وان من مات اثر مبعثه بساعة في أقطار الدنيا غير عالم بكل ما ذكرنا فقد مات كافرا الى النار. قال أبو محمد وهذا كما ترى من تكليف ما لا يطاق كقول من أراد الزام الشرائع بغير نص من الله تعالى.ثم نسألهم ما تقولون فيمن استنقذ صبيا حين الولادة ممن أراد وأده ثم استنقذه من سبع ثم من يد كافر سباه ثم رباه فأحشن تربيته ثم علمه الدين والعلم فلما بلغ الصبى مبلغ الرجال ولى الاحكام بين المسلمين فتعدى الذى أحسن إليه على رجل ففقأ عينه وقطع يديه ورجليه وجدع أنفه وأذنه وقلع جميع أسنانه وجب مذاكيره فقدمه المفعول به ذلك الى هذا الحاكم الذى أحسن إليه هذا المتعدى وطلب القصاص وهو عدو للحاكم وقد أساء إليه قديما وضربه ولطمه أتأمرون الحاكم ان يعفو عن المحسن إليه ؟ أم توجبون عليه ان يقطع يدى المحسن إليه ورجليه ويقلع أسنانه ويفقأ عينيه ويجدع أذنيه وأنفه ويجب مذاكيره انتصارا لعدوه الظالم له من وليه المحسن إليه ؟ فإن قالوا لا يفعل به شيئا من ذلك كفروا ان اعتقدوا صحة هذا الجواب وفسقوا ان قالوه غير معتقدين له وان قالوا بل يفعل به مثل ما فعل تقضوا أصلهم في وجوب شكر المنعم فإن قالوا أخذ القصاص منه إحسان إليه وشكر له قلنا إن كان هذا المحسن ذميا فما نراه عجل له قتله قصاصا إلا النار فأين الاحسان والشكر فإن قالوا قتل الكافر إحسانا إليه كابروا العيان لان التعجيل الى النار وأنقطاع الرجاء من الايمان ليس إحسانا بل هو غاية الاساءة قال أبو محمد فصح بكل ما ذكرنا أنه لا علة لشئ من أوامر الله تعالى ولا لشئ من أفعاله كلها أولها عن آخرها ولا يجوز ان يشبه حكم بحكم آخر لم يأذن الله تعالى في الجمع بينهما. وهذه المسألة أصل خطأ القوم وبعدهم عن الحقائق وهى بدعة محدثة حدثت في القرن الرابع لم ينطق بها قط صحابي ولا تابعي بوجه من الوجوه وهى مسألة ألقاها الشيطان بين المسلمين نعوذ بالله من الخذلان ونسأله ان يثبتنا على ما هدانا إليه من اتباع كلامه وكلام نبيه (صلى الله عليه وسلم) وإجماع أولى الامر منا والرد عند التنازع الى كلامه تعالى وكلام نبيه (صلى الله عليه وسلم) ونسأله لاخواننا ان يتوب عليهم من بدعة القياس والتقليد والاستدراك على ربهم تعالى وعلى نبيهم (صلى الله عليه وسلم) ما لم يأت عنهما ولا قالاه وسؤالهم لم فعل الله تعالى كذا وكذا ؟ وأن يفئ بهم الى ما أمروا به من طريق الحقائق آمين يا رب العالمين وصلى الله على محمد وحسبنا الله ونعم الوكيل. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق