الجمعة، 1 يونيو 2018

ابطال القياس والاستحسان والاستنباط بالرأي وإبطال كل ذلك


الباب الخامس والثلاثون في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك ،قال أبو محمد رحمه الله: إنما جمعنا هذا كله في باب واحد، لانها كلها ألفاظ واقعة على معنى واحد، لا فرق بين شئ من المراد بها وإن اختلفت الالفاظ وهو الحكم بما رآه الحاكم أصلح في العاقبة وفي الحال، وهذا هو الاستحسان لما رأى برأيه من ذلك، وهو استخراج ذلك الحكم الذي رآه.
قال المالكيون بالاستحسان في كثير من مسائلهم، روى العتبي محمد بن أحمد قال: ثنا أصبغ بن الفرج قال: سمعت ابن القاسم يقول: قال مالك: تسعة أعشار العلم الاستحسان، قال أصبع بن الفرج الاستحسان في العلم يكون أغلب من القياس، ذكر ذلك في كتاب أمهات الاولاد من المستخرجة.
وأما الحنفيون فأكثروا فيه جدا، وأنكره الشافعيون، وأنكره من أصحاب مذهب أبي حنيفة أحمد بن محمد الطحاوي، فأما القائلون به فإننا نجدهم يقولون في كثير من مسائلهم إن القياس في هذه المسألة كذا، ولكنا نستحسن فنقول غير ذلك.
قال أبو محمد: واحتج القائلون بالاستحسان بقول الله عزوجل: * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الالباب(
 قال أبو محمد: وهذا الاحتجاج عليهم لا لهم، لان الله تعالى لم يقل فيتبعون ما استحسنوا وإنما قال عزوجل: * (فيتبعون أحسنه) * وأحسن الاقوال ما وافق القرآن وكلام الرسول (صلى الله عليه وسلم)، هذا هو الاجماع المتيقن من كل مسلم، ومن قال غير هذا فليس مسلما، وهو الذي بينه عزوجل إذ يقول: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * ولم يقل تعالى فردوه إلى ما تستحسنون. ومن المحال أن يكون الحق فيما استحسنا دون برهان، لانه لو كان ذلك لكان الله تعالى يكلفنا ما لا نطيق، ولبطلت الحقائق ولتضادت الدلائل، وتعارضت البراهين، ولكان تعالى يأمرنا بالاختلاف الذي قد نهانه عنه، وهذا محال لانه لا يجوز أصلا أن يتفق استحسان العلماء كلهم على قول واحد، على اختلاف هممهم وطبائعهم وأغراضهم، فطائفة طبعها الشدة، وطائفة طبعها اللين، وطائفة طبعها التصميم، وطائفة طبعها الاحتياط، ولا سبيل إلى الاتفاق على استحسان شئ واحد مع هذه الدواعي والخواطر المهيجة، واختلافها واختلاف نتائجها وموجباتها، ونحن نجد الحنفيين قد استحسنوا ما استقبحه المالكيون، ونجد المالكيين قد استحسنوا قولا قد استقبحه الحنفيون، فبطل أن يكون الحق في دين الله عزوجل مردودا إلى استحسان بعض الناس، وإنما كان يكون هذا،وأعوذ بالله - لو كان الدين ناقصا، فأما وهو تام لا مزيد فيه، مبين كله منصوص عليه، أو مجمع عليه فلا معنى لمن استحسن شيئا منه أو من غيره، ولا لمن استقبح أيضا شيئا منه أو من غيره. والحق حق وإن استقبحه الناس، والباطل باطل وإن استحسنه الناس، فصح أن الاستحسان شهوة واتباع للهوى وضلال، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان. وقد روى الفتيا بالرأي في مسائل عن الصحابة. فإن قال قائل: إذ قد ظهر الفتيا بالرأي في الصحابة فقد أجمعوا على الرضا به. قيل له وبالله تعالى التوفيق: ليس كما تقول، بل لو قال قائل: إنهم رضي الله عنهم أجمعوا على ذمه لكان مصيبا، لان الذين روى عنهم الفتيا منهم رضي الله عنهم مائة ونيف وثلاثون، لا يحفظ التكثير منهم من الفتيا إلا عن عشرين، ثم لا يحفظ عن أحد من هؤلاء المذكورين تصويب القول بالرأي، ولا أنه دين ولا أنه لازم، بل أكثرهم قد روي عنه ذم ما أخبر به من الرأي وعلى أي وجه أفتى به من أنه غير لازم. ثم تعكس عليهم السؤال فنسألهم: أعصم أحد من الخطأ بعد النبي (صلى الله عليه وسلم)، فمن قولهم وقول جميع المسلمين: إنه لم يعصم أحد من الخطأ بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) وإن كان من دونه يخطئ ويصيب، فإذ الامر كذلك أفيسوغ لاحد أن يقول: إنهم قد أجمعوا على الخطأ ؟ وأراد تصحيح الخطأ بذلك، وهذا ما لا يقوله أحد.
وإنما يكون الاجماع صحيحا إذا أجمعوا على صحة القول بشئ ما، ولم يصحح قط أحد منهم القول بالرأي، وأيضا فإنه ليس منهم أحد أفتى برأيه في مسألة إلا وقد أفتى غيره فيها بنص رواه، أو موافق لنص فإذ الامر كذلك، فإن الواجب عرض تلك الاقوال على القرآن والسنة، فالقرآن والسنة يشهدان بصحة قول من: وافق قوله النص، لا من قال برأيه، وبالله تعالى التوفيق. واحتجوا في الاستحسان بقول يجري على ألسنتهم وهو: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وهذا لا نعلمه ينسند إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من وجه أصلا، وأما الذي لا شك فيه، فإنه لا يوجد البتة في مسند صحيح وإنما نعرفه عن ابن مسعود، كما حدثنا المهلب التميمي عن محمد بن عيسى بن مناس، عن محمد بن مسرور، عن يونس بن عبد الاعلى، عن ابن وهب، أخبرني عبد الله بن يزيد، عن عبد الرحمن بن عبد الله عتبة، عن عاصم بن بهدلة، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود فذكر كلاما فيه، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.
قال أبو محمد: وهذا لو أتى من وجه صحيح لما كان لهم فيه متعلق، لانه إنما يكون إثبات إجماع المسلمين فقط، لانه لم يقل ما رآه بعض المسلمين حسنا فهو حسن وإنما فيه: ما رآه المسلمون، فهذا هو الاجماع الذي لا يجوز خلافه لو تيقن، وليس ما رآه بعض المسلمين بأولى بالاتباع مما غيرهم من المسلمين، ولو كان ذلك لكنا مأمورين بالشئ وضده، وبفعل شئ وتركه معا، وهذا محال لا سبيل إليه، ثم يقال لهم: ما معنى قولكم: الاستحسان في هذه المسألة وجه كذا ؟.
فجوابهم في ذلك أحد جوابين: أحدهما: ما كانوا عليه فيما قارب عصر أبي حنيفة ومالك، وهو الذي يرونه أحوط أو أخف أو أقرب من العادة والمعهود، أو أبعد من الشناعة، وهذا كله بالجملة راجع إلى ما طابت عليه أنفسهم، وهذا باطل بقوله تعالى: * (ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) * * (إن النفس لامارة بالسوء) * وبقوله تعالى: * (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم) * وقال تعالى: * (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله)
*وفي هذه الآي إبطال أن يتبع أحد ما استحسن بغير برهان من نص أو إجماع، ولا يكون أحد أحوط على العباد المؤمنين من الله خالقهم ورازقهم، وباعث الرسل إليهم، والاحتياط كله اتباع ما أمر الله تعالى به والشناعة كلها مخالفته، ولا مني لما نافرته قلوب لم تعتده، وهذا كله ظنون فاسدة لا تجوز إلا عند من لم يتمرن بمعرفة الحقائق، ولا حسن إلا ما أمر الله تعالى به رسوله (صلى الله عليه وسلم) أو أباحاه، ولا قبيح ولا شنيع إلا ما نهى عنه تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم).
وجواب لهم ثان: أجاب به الكرخي، وهو أن قال: هو أدق القياسين.
قال أبو محمد: وهذا القول يبطله كل ما نورده إن شاء الله في باب إبطال القياس من ديواننا هذا. وبالله تعالى التوفيق.
ويقال لهم: إن كان ههنا قياس يوجب ترك قياس آخر ويضاده ويبطله فقد صح بطلان دلالة القياس بإقراركم، وصح بالبرهان الضروري إبطال القياس كله جملة بهذا العمل، لان الحق لا يتضاد ولا يبطل بعضه بعضا، ولا يضاد برهان برهانا أبدا، لان معنى المضاد أن يبطل أحد المعنيين الآخر، والشئ إذا أبطله الحق فقد بطل، والباطل لا يكون حقا في حال كونه باطلا، وإذا أبطل بعض الشئ بعضا فواجب أن يكون كله باطلا، لما قلنا من أن الحق لا يبطل بعضه بعضا.
فإذا شهد بعض القياس عندكم بإبطال بعض قياس آخر، فنوع القياس كله متفاسد، مبطل بعضه بعضا، فهو كله باطل.
فإن قالوا: إن الحديث ينقض بعضه بعضا، وكذلك الآي على سبيل النسخ وكذلك النظر، وليس ذلك دليلا على بطلان جميع القرآن والحديث والنظر.
قال أبو محمد: فنقول لهم، وبالله تعالى التوفيق: هذا تمويه شديد، ولا يجوز أن تبطل آية آية أخرى، ولا حديث حديثا آخر، إلا من طريق النسخ، أو يكون أحد الحديثين ضعيف النقل، فليس داخلا حينئذ فيما أمرنا بطاعته وكذلك النظر، لان النظر الصحيح إنما هو البرهان، وإنما تأتي أغاليط وشبه بظن قوم أنها برهان، وليست برهانا فليس هذا داخلا في النظر، وليس ما قلتم في القياسين من هذا الباب في شئ، لان القياس ليس فيه ناسخ ولا منسوخ، ولا قلتم: إن أحد القياسين مموه ليس قياسا، بل قلتم: هما معا قياس، فاستحسنا أدقهما، فتركتم أحد القياسين وأبطلتموه، وأنتم تقرون أنه قياس وإذا كان بعض النوع باطلا فهو كله باطل، ولا يجوز أن يجمع الحق والباطل نوع واحد أبدا.
ولا يظن القائلون بإبطال الاستحسان، الهاربون إلى القول بترجيح العلل وتغليب كثرة الاشباه، أنهم يتخلصون من هذا الالزام بما فزعوا إليه، لانهم على كل حال قد أبطلوا العلة المرجح عليها الاخرى، وأبطلوا حكم الاشباه القليلة، ولم يوجبوا بها حكما، ولا صححوا بها قياسا بل حكموا بأن العلل يبطل بعضها بعضا، وأن بعض الاشباه لا يحكم به، ولا من أجله يحكم به، ولا من أجله بحكم واحد، ولا يوجب الاشتباه اتفاقا في الحكم بالتشابه وبالعلل، وبطل بذلك القول بالقياس جملة، لان كل طريق من الجدال أبطل بعضه بعضا، وكذب بعضه بعضا وتناقض وتفاسد - فهو كله فاسد باطل، والحق لا يعارض الحق أبدا، ولا يقوم دليل على صحة ضدين في معنى واحد أبدا.
وقد اعترف مالك رحمه الله بالحق في هذا، وبرئ ممن قلده، كما حدثنا رجل من أصحابنا اسمه عبد الرحمن بن سلمة قال: ثنا أحمد بن خليل، ثنا خالد بن سعد، ثنا عبد الله بن يونس المرادي من كتابه، نا بقي بن مخلد، نا سحنون والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك أنه كان يكثر أن يقول: إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين.
قال أبو محمد: ونحن نقول لمقال بالاستحسان: ما الفرق بين ما استحسنت أنت واستقبحه غيرك، وبين ما استحسنه غيرك واستقبحته أنت ؟ وما الذي جعل أحد السبيلين أولى بالحق من الآخر ؟ وهذا ما لا انفكاك منه، وبالله تعالى التوفيق.
وأما الاستنباط فإن أهل القياس ربما سموا قياسهم استنباطا، وهو مأخوذ من أنبطت الماء، وهو إخراجه من الارض والتراب والاحجار، وهو غيرها، فالاستنباط هو استخراج الحكم من لفظ هو خلاف لذلك الحكم، وهذا باطل، ومن العجب أنه احتجوا في ثباته بقول الله عزوجل: * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * وهذا من عظيم مجاهرتهم الدالة على رقة دين من احتج بهذا في إثبات الاستنباط غشا لمن اعتبر به، وتلبيسا على من أحسن الظن بكلامه.
وهذه الآية مبطلة الاستنباط بلا شك، لان (لو) في كلام العرب - الذي نزل به القرآن - حرف يدل على امتناع الشئ لا امتناع غيره، فنص تعالى على أن المستنبطين لو ردوه إلى الرسول وإلى أهل العلم الناقلين لسنن النبي (صلى الله عليه وسلم) لعلموا الحق فلم يردوه واتكلوا على استنباطهم، فلم يعلموا الحق، هذا شئ ظاهر لا يجوز أن يحتمل تأويلا غير ما ذكرنا، ولا حجة أعظم في إبطال الاستنباط من هذه الآية لو أنصفوا أنفسهم.
وقد قال بعضهم: إن الضمير في قوله تعالى: راجع إلى الرسول وإلى أولي الامر، لا إلى الضمير الذي في.
قال أبو محمد: وهذا ليس بمخرج للفظ الآية عن إبطال الاستنباط الذي يريدون نصره، لانه إن كان كما ذكروا فمعنى الآية حينئذ: إنهم لو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلم الحق الذين يستنبطونه أي يستخرجون علمه من عند الرسول وأولي الامر.
قال أبو محمد: وهذا قولنا لا قولهم، لان كل قول أخذ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعن الاجماع فهو حق بلا شك، وإنما ينكر عليهم أن يستخرجوا من كلام النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومن إجماع الامة معنى لا يفهم من مسموع ذلك الكلام، ولا يقتضيه موضوعه في اللغة العربية، فهذا الذي راموا نصره وخالفناهم فيه، لا ما أخذ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعن الائمة الناقلين للحكم عنه (صلى الله عليه وسلم)، ومن استجاز مثل هذا التمويه في دين الاسلام فلا يستجيزه من له دين أو حياء.
فإن تعلقوا بحديث رويناه عن عمر في سبب نزول هذه الآية وفيه: أن عمر قال: فكنت أنا الذي استنبطت ذلك الامر فلا حجة لهم فيه، بل هو عليهم لا لهم، وهو حديث حدثناه عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم، حدثني زهير بن حرب، نا عمر بن يونس الحنفي، ثنا عكرمة بن عمار، عن سماك أبي زميل قال حدثني عبد الله بن العباس، حدثني عمر بن الخطاب - فذكر حديث إيلاء النبي (صلى الله عليه وسلم) من أزواجه، وأن عمر قال: فقلت يا رسول الله، ما يشق عليك من شأن النساء فإن كنت طلقتهم فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلما تكلمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول، ونزلت الآية آية التخيير: * (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير) * قال عمر: فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي، لم يطلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نساءه، ونزلت هذه الآية: * (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * قال عمر: فكنت أنا الذي استنبطت ذلك الامر وأنزل الله عزوجل آية التخيير.
قال أبو محمد: وقبل كل شئ فهذا اللفظ إنما روي من هذه الطريق، وفيها عكرمة بن عمار وهو منكر الحديث جدا، وقد روينا من طريقه حديثا موضوعا مكذوبا من طريق هذا الاسناد نفسه، عكرمة بن عمار عن سماك أبي زميل، عن ابن عباس وهكذا لا شك فيه، ليس في سنده أحد متهم غيره.
وهذا الحديث الذي فيه أن أبا سفيان بن حرب بعد إسلامه كان المسلمون يجتنبونه، وأنه سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يتزوج ابنته أم حبيبة وأن يستكتب ابنه معاوية وأن يستعمله يعني نفسه - ويوليه.
قال أبو محمد: وهذا هو الكذب البحت، لان نكاح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أم حبيبة كان وهي بأرض الحبشة مهاجرة، وأبو سفيان كان بمكة قبل الفتح بمدة طويلة، ولم يسلم أبو سفيان إلا ليلة يوم الفتح.
ولان الصحيح عنه (صلى الله عليه وسلم) قوله: إنا لا نستعمل على عملنا من أراده روينا ذلك من طريق أبي موسى الاشعري، فظهر كذب رواية عكرمة بن عمار بيقين، لا إشكال فيه، ولا يخلو ضرورة هذا الخبر من أن عكرمة بن عمار وضعه، أو أخذه عن كذاب وضعه، فدلسه هو إلى أبي زميل وكلتاهما مسقطة لعدالته مبطلة لروايته.
ثم لو صح - وهو لا يصح - لكان حجة عليهم، لان فيه أن آية التخيير نزلت يومئذ، وهي مخالفة لرأي عمر واستنباطه، فليس فيه - صح - إلا أن الذي استنبطه عمر ليس فيه ذكر التخيير لهن، ولا أشار إليه.
ثم ليس فيه أيضا إلا أمر ظاهر منصوص عليه من قدرة الله تعالى أن يبدله خيرا منهن إن طلقهن وهذا أمر ظاهر لا يجهله مسلم، وأن الله تعالى معه والملائكة والمؤمنين، وهذا أيضا متيقن يدريه كل مسلم قبل أن يقوله عمر، وليس هذا هو الاستنباط الذي يشيرون إليه، ونمنعه نحن من إخراج حكم في شرع الدين ليس له نص في قرآن ولا سنة، فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة، والحمد لله رب العالمين.
وأما الرأي فإنهم احتجوا في تصويب القول به بقول الله عزوجل: * (وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله) * وبقوله تعالى: * (وأمرهم شورى بينهم) * ومن الحديث بالاثر الصحيح في مشاورة النبي (صلى الله عليه وسلم) المسلمين فيما يعملون به لوقت الصلاة قبل نزول الاذان فقال بعضهم: نار، وقال بعضهم: بوق وقال بعضهم: ناقوس.
وبما حدثناه أحمد بن عمر بن أنس، ثنا أبو داود، ثنا عبد الله بن أحمد السرخسني، ثنا إبراهيم بن خزيم، نا عبد بن حميد، نا عبد الرزاق، أنا معمر عن الزهري - وذكر حديث مشاورة النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه في القتال يوم الحديبية - قال الزهري فكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشاور لاصحابه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
حدثنا المهلب: ثنا ابن مناس بن مسرور، نا يونس بن عبد الاعلى، نا ابن وهب، ثنا إبراهيم بن نشيط، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن الحزم، فقال: تستشير الرجل ذا الرأي، ثم تمضي إلى ما أمرك به.
وبه إلى ابن وهب: أخبرني عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عيسى الواسطي يرفعه قال: ما شقي عبد بمشورة، ولا سعد عبد استغنى برأيه حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي، نا ابن مفرج، نا إبراهيم بن أحمد بن فراس، ثنا محمد بن علي بن زيد، نا سعيد بن منصور، نا فرج بن فضالة، نا محمد بن عبد الاعلى، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبيه قال: جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال لي: يا عمرو اقض بينهما، قلت: أولى بذلك مني يا نبي الله، قال: وإن كان، قلت: على ماذا أقضي ؟ قال: إن أصبت القضاء بينهما فلك عشر حسنات، وإن اجتهدت، فأخطأت فلك حسنة.
قال سعيد بن منصور: وحدثناه فرج بن فضاله، عن ربيعة بن يزيد، عن عقبة ابن عامر، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مثله، إلا أنه: إن أصبت فلك عشرة أجور وإن أخطأت فلك أجر واحد.
حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي، ثنا عبد الملك بن عمر الخولاني، نا محمد بن بكر البصري، نا أبو داود السجستاني، نا حفص بن عمر، نا شعبة عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي، عن الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة، عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك القضاء ؟ قال: أقضي بكتاب الله عز وجل، قال: فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال: فبسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله ؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي رسول الله.
قال أبو داود: وثناه مسدد قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، ثنا شعبة، ثنا أبو عون - هو محمد بن عبيد الله الثقفي، عن الحارث بن عمرو، عن ناس من أصحاب معاذ، عن معاذ أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعثه إلى اليمن فذكر معناه.
كتب إلى يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري قال: ثنا عبد الوارث بن سفيان، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال: ثنا إبراهيم بن أبي الفياض البرقي الشيخ الصالح، ثنا سليمان بن بزيغ الاسكندراني، ثنا مالك بن أنس، عن يحيى ابن سعيد الانصاري، عن سعيد بن المسيب، عن علي بن أبي طالب قال: قلت:
يا رسول الله، الامر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم يمض فيه منك سنة ؟ قال: اجمعوا له العالمين - أو قال العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الاسدي، ثنا أحمد بن خالد، ثنا عبد العزيز، ثنا الحجاج بن المنهال السلمي، ثنا عبد الحميد بن بهرام، ثنا شهر بن حوشب، حدثني ابن غنم: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما خرج إلى بني قريظة والنضير قال له أبو بكر وعمر: يا رسول الله إن الناس يزيدهم حرصا على الاسلام أن يروا عليك زيا حسنا من الدنيا، فانظر إلى الحلة التي أهداها لك سعد بن عبادة فالبسها فليرك اليوم المشركون أن عليك زيا حسنا، قال: أفعل، وأيم الله لو أنكما تتفقان لي على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبدا ولقد ضرب لي ربي لكما مثلا، فأمثالكما في الملائكة كمثل جبريل، وميكائيل فأما ابن الخطاب فمثله في الملائكة كمثل جبريل إن الله لم يدمر أمة قط إلا بجبريل، ومثله في الانبياء كمثل نوح إذ قال: * (وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا) * ومثل ابن أبي قحافة في الملائكة كمثل ميكائيل إذ يستغفر لمن في الارض، ومثله في الانبياء كمثل إبراهيم إذ قال: * (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) * ولو أنكما تتفقان لي على أمر واحد ما عصيتكما في مشاورة أبدا ولكن شأنكما في المشاورة شئ كمثل جبريل وميكائيل ونوح وإبراهيم.
قال أبو محمد: هذا كل ما موهوا به من الحديث، وقالوا: قد جاء النص بوجوب طاعة أولي الامر منا عموما فهو فيما قالوه برأيهم أيضا.
وقالوا قد اتفقنا على وجوب تقديم الامام إذا مات الامام، ولا نص على إمام بعينه فثبت أنه إنما يقدم بالرأي والامامة من قواعد الدين.
وذكروا عن الصحابة ما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي، حدثنا ابن مفرج، ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس، نا محمد بن علي، ثنا سعيد بن منصور، نا سفيان بن عيينة وأبو معاوية - هو محمد بن خازم الضرير - كلاهما عن الاعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: أكثر الناس على عبد الله بن مسعود يوما فقال:

إنه قد أتى علينا زمان لسنا نقضي، ولسنا هنالك إن الله تعالى قدر أن بلغنا من الامور ما ترون، فمن عرض قضاء منكم بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله تعالى، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله، فليقض بما قضى به نبيه (صلى الله عليه وسلم)، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله تعالى، وليس فيما يقضي به النبي (صلى الله عليه وسلم) فليقض بما قضى به الصالحون، فان جاء أمر ليس في كتاب الله تعالى ولم يقض به نبيه عليه السلام ولم يقض به الصالحون فاجتهد رأيه، وليقل إني أرى وأخاف، فإن الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور متشابهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
حدثنا حمام: ثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي، ثنا عبد الله بن يونس المرادي، ثنا بقي بن مخلد، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا بن أبي زائدة، عن الاعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود مثله بتمامه وزاد فيه: فإن أتاه أمر لا يعرفه فليقر ولا يستحي.
وبه إلى ابن أبي شيبة، ثنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس أنه كان إذا سئل عن أمر فكان في القرآن أخبر به، فإن لم يكن في القرآن فكان عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أخبر به، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر، فإن لم يكن قال برأيه، حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي، ثنا ابن المفرج، ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس، ثنا محمد بن علي بن زيد، ثنا سعيد بن منصور، ثنا سفيان بن عيينة، حدثني عبيد الله بن أبي يزيد قال: شهدت ابن عباس إذا سئل عن شئ فإن كان في كتاب الله تعالى قال به فإن لم يكن في كتاب الله عزوجل وحدث به عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال به، وإن لم يكن في كتاب الله ولا حدث به عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولا أخبر به عن أبي بكر، وعمر واجتهد وقال برأيه.
وبه إلى سعيد بن منصور: ثنا هشيم، أخبرنا سيار، عن الشعبي قال: لما بعث عمر شريحا على قضاء الكوفة قال: انظر ما تبين لك من كتاب الله فاتبع فيه السنة، وما لم يتبين في السنة فاجتهد فيه برأيك.

وبه إلى سعيد بن منصور: حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي إسحاق الشيباني، عن الشعبي قال: كتب عمر إلى شريح: إذا أتاك أمر في كتاب الله فاقض به ولا يلفتنك عنه الرجال، فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فإن لم يكن في كتاب الله ولا سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فاقض بما قضى به أئمة الهدى، فإن لم يكن في كتاب الله عزوجل، ولا في سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا فيما قضى به أئمة الهدى فأنت بالخيار: إن شئت أن تجتهد رأيك، وإن شئت أن تؤامرني، ولا أرى مؤامرتك إياي إلا خيرا لك.
حدثنا حمام، ثنا الباجي، ثنا عبد الله بن يونس، ثنا بقي بن مخلد، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا علي بن مسهر، عن أبي إسحاق الشيباني، عن الشعبي، عن شريح أن عمر ابن الخطاب كتب إليه: إذا جاءك شئ في كتاب الله فاقض به، ولا يلفتنك عنه الرجال، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاقض بها، فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاقض بما قضى به أئمة الهدى، فإن لم يكن في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله عليه السلام ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الامرين شئت: إن شئت أن تجتهد رأيك وتقدم فتقدم، وإن شئت أن تؤخر فتأخر، ولا أرى التأخير إلا خيرا لك.
قال أبو محمد: هذا كل ما موهوا به، ما نعلم لهم شيئا غيره، وكله لا حجة لهم في شئ منه.
أما قوله تعالى: * (وشاورهم في الامر) * وقوله عز وجل: * (وأمرهم شورى بينهم) * فإن كل مخالف ومؤلف لا يمتري أن ذلك ليس في شرع شئ من الدين، ولو أن أحدا يقول: إن الصلاة فرضت برأي ومشورة، أو قال ذلك في الصيام أو الحج، أو في شئ من الدين، لكان كاذبا آفكا كافرا مع ذلك.
وكيف يكون هذا مع قول الله تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب) * وقوله تعالى: * (قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ء آ لله أذن لكم أم على الله تفترون) * وقوله تعالى: * (اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون) * وقوله: * (تلك حدود الله فلا تعتدوها) *.
فصح يقينا أنه لم يجعل الله قط إلى الصحابة تحريما ولا تحليلا، فقد صح أنه لم يأمره الله تعالى قط بمشورتهم في شئ من الدين، لا سيما مع قوله تعالى: * (فإذا عزمت فتوكل على الله) * فصح أنه ليس في الآية التي شغبوا بها قبول رأيهم أصلا، بل رد تعالى الامر إلى نبيه (ص) فيما يعزم عليه مع التوكل على الله.
وكيف يسع مسلما أن يخطر هذا الجنون بباله مع قول الله عزوجل: * (وآعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم) * فكيف يجوز قبول رأي قوم لو أطاعهم لوقع العنت عليهم في أكثر الامر، أم كيف يدخل في عقل ذي عقل أن النبي (صلى الله عليه وسلم) تجب عليه طاعة أصحابه هذا هو الكفر المحض والسخف البين، بل طاعته هي الفرض عليهم التي لا يصح لهم إيمان إلا بها.
قال الله تعالى:
* (
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) *.
ثم إن وجوه الحمق في هذه المقالة جملة بادية، ليت شعري كيف كان يكون الامر لو اختلفوا عليه في الشرع فإن قيل: لا يلزم إلا باتفاقهم، خرجنا إلى الكلام في الاجماع، وبطل الكلام في الرأي، وقد كتبنا في دعوى الاجماع ما فيه كفاية، ولله تعالى الحمد.
وأيضا فلا فرق بين جواز شرع شريعة من إيجاب أو تحريم أإباحة بالرأي لم ينص تعالى عليه ولا رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وبين إبطال شريعة شرعها الله على لسان رسوله (صلى الله عليه وسلم) بالرأي، والمفرق بين هذين العملين متحكم بالباطل مفتر، وكلاهما كفر لا خفاء به.
فصح يقينا أن الذي أمره الله تعالى بمشاورتهم فيه، وغبطهم بأن يكون أمرهم فيه شورى بينهم، إنما هو ما أبيح لهم التصرف فيه كيف شاؤوا فقط فتشاورهم من يولي على بني فلان، وأي الطرق إلى من يغزو من القبائل أفضل وأسهل وآمن، وأين يكون النزول فقط.
وهذا كمشاورة المرء منا جاره إلى أي خياط أدفع ثوبي، وأي لون ترى لي أن أصبغه، ومثل هذا ولا مزيد، وقد يكون عند الصحابة من المعرفة بالطرق المسلوكة والمياه ما ليس عنده عليه السلام.

وأما ما لا يؤخذ من الدين إلا من الوحي فلا ولا كرامة لاحد بعده أن يكون لسواه حظ في ذلك معه ولا بعده، وبالله تعالى التوفيق.
فظهر فساد تمويههم بالآيتين.
وأما المشاورة التي كانت قبل نزول الاذان فأعظم حجة عليهم، أول ذلك أن الامر حينئذ كان مباحا كل ما قالوه، ولم ينزل في شئ منه إيجاب ولا تحريم، وهذا لا ننكر فيه المشاورة إلى اليوم.
ثم إنه لم يأخذ (صلى الله عليه وسلم) في ذلك بشئ من
آرائهم، بل بما صوبه الوحي مما أريه في منامه عبد الله بن زيد، ولولا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر بالاذان ما جاز الالتفات إلى رؤيا عبد الله بن زيد، ولا إلى رؤيا غيره، فصح أن آراءهم رضي الله عنهم لا يلزم قبولها، فكيف أراء من بعدهم ؟.
وأما الخبر عن أبي هريرة: ما رأيت أحدا كان أكثر مشورة لاصحابه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعقب ذكرى الزهري لمشاورته (صلى الله عليه وسلم) أصحابه في القتال يوم الحديبية، فهو نفس كلامنا هذا، على أن كلا الخبرين مرسل، لان الزهري لم يلق أبا هريرة قط، ولا سمع منه كلمة، ولم ينكر أن يشاورهم في مكايد الحروب وتعجيلها وتأخيرها.
وأما الخبر الذي فيه: ما الحزم ؟ فقال: أن تستشير الرجل ذا الرأي ثم تمضي لما أمرك به فمرسل، ثم هو بعيد عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، لانه قد يختلف عليك الرجلان ذوا الرأي فلايهما تمضي ؟ حاش الله أن ينطق رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الباطل.
وأما الخبر: ما شقي عبد بمشورة فمرسل، ولا حجة في مرسل، ونحن لا ننكر المشورة في غير الدين، كما أننا ننكر بل نكفر من يشاور أيصلي الخمس أم لا ؟ أيصوم رمضان أم لا ؟ ونقطع أن مسلما لا يخالفنا في هذا.
وأما حديث عمرو بن العاص فأعظم حجة عليهم، لان فيه أن الحاكم المجتهد يخطئ ويصيب، فإذ ذلك كذلك فحرام الحكم في الدين بالخطأ، وما أحل الله تعالى قط إمضاء الخطأ، فبطل تعلقهم به.
وأما خبر علي فموضوع مكذوب، ما كان قط من حديث علي، ولا من حديث سعيد بن المسيب، ولا من حديث يحيى بن سعيد، ولا من حديث مالك ولم يروه قط أحد عن مالك إلا سليمان بن يزيع الاسكندراني وهو مجهول ولا يخلو ضرورة من أنه وضعه أو دلسه عمن وضعه.
وهذا خبر لا يحل لاحد أن يرويه، والكذب لا يعجز عنه من لا يتقي الله تعالى، وبرهان كذب هذا الحديث ووضعه أنه لا يجوز البتة أن يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) كلاما يصح نزول حكم في الدين بالناس لا قرآن فيه، ولا بيان فيه من النبي (صلى الله عليه وسلم) مع قوله (صلى الله عليه وسلم: دعوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شئ فاتركوه ومع قول الله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * فقد أخرج (صلى الله عليه وسلم) ما لم ينص فيه بأمر أو بنهي عن الفرض والندب والتحريم والكراهة، وبأمره بترك ما لم يأمرنا أو ينهانا، وأبقاه في جملة المباح المطلق، فصار من المحال الممتنع وجود نازلة لا حكم لها في النصوص.
وأما حديث ابن غنم ففيه ثلاث بلايا: إحداها أنه مرسل، والثانية: عبد الحميد ابن بهرام وهو ضعيف، والثالثة: شهر بن حوشب وهو متروك، ثم لو صح لما كان لهم فيه متعلق، لانه ليس فيه إلا قبول رأي أبي بكر وعمر فقط لا قبول رأي غيرهما، وهذا خلاف عمل أهل الرأي كلهم اليوم، ثم فيه قبولهما إلا في لبس حلة، وهذا مباح لا يمنع من قبول رأي خادم أو عبد أو جار إن شاء الذي أشير عليه بذاك، ثم فيه اختلافهما فبطل التعلق برأي خالفه رأي آخر.
وأما احتجاجهم بوجوب طاعة أولي الامر منا، فقد قلنا في ذلك قبل بما أغنى وإنه لا يخلو رأيهم من أن يوجد فيه اختلاف بينهم أو لا يوجد، فإن وجد اختلاف منهم فليس بعضهم يقول رأيه أولى من بعض، وإن لم يوجد فيه اختلاف فقد قلنا: إن القطع بأنه إجماع أولي الامر باطل ممتنع لا سبيل إليه، مع أن قول الله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * مبطل لدعوى من ادعى أنه تعالى أمرنا بطاعتهم فيما ليس فيه نص، أو في خلاف النص، لانه شرع شريعة لم يشرعها الله تعالى، أو إبطال شريعة شرعها الله تعالى وكلا الامرين كفر
لا يجوز البتة إجماع العلماء عليه وقد يجوز الوهم في هذا على الطائفة فصح أننا إنما أمرنا بطاعتهم فيما بلغوه إلينا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقط.
وأما ما قالوه في الامامة فقد نص (صلى الله عليه وسلم) على أن الائمة من قريش، وأمرنا بأن نفي ببيعة الاول فالاول، وأن نتعاون على البر والتقوى، وأن نسمع ونطيع لمن قادنا، بكتاب الله عز وجل، فهذه صفة إذا وجدت في أي عين وجدت، فطاعته واجبة بالنص، لانه (صلى الله عليه وسلم) بعث إلى كل من يأتي إلى يوم القيامة، فلا معنى للاسماء المعلقة على أعيان الرجال في ذلك أصلا، وهذا كالعتق في الكفارات والصدقة على المساكين، وكالضحايا، وغير ذلك من سائر الشريعة، وكأمره تعالى في بني إسرائيل بذبح بقرة ولم يميز بقرة بعينها، وإنما نرد الاحكام في الانواع الجامعة للاشخاص.
ثم في أي شخص نفذ الحق فقد أجزأ، وهذا لا خلاف فيه من أحد، وكالنص على الماء، فبأي ماء تطهر أجزأ، وإنما يبطل الرأي في شرع الشريعة بما لا نص فيه، فظهر تمويههم بهذا في الرأي.
وأما خبر معاذ فإنه لا يحل الاحتجاج به لسقوطه، وذلك أنه لم يرو قط إلا من طريق الحارث بن عمرو وهو مجهول لا يدري أحد من هو، حدثني أحمد بن محمد العذري، ثنا أبو ذر الهروي، نا زاهر بن أحمد الفقيه، نا زنجويه بن محمد النيسابوري، ثنا محمد بن إسماعيل البخاري - هو مؤلف الصحيح - فذكر سند هذا الحديث، وقال: رفعه في اجتهاد الرأي، قال البخاري: ولا يعرف الحارث إلا بهذا ولا يصح.
هذا نص كلام البخاري رحمه الله في تاريخه الاوسط ثم هو عن رجال من أهل حمص لا يدري من هم.
ثم لا يعرف قط في عصر الصحابة، ولا ذكره أحد منهم، ثم لم يعرفه أحد قط في عصر التابعين حتى أخذه أبو عون وحده عمن لا يدري من هو، فلما وجده أصحاب الرأي عند شعبة طاروا به كل مطار، وأشاعوه في
الدنيا وهو باطل لا أصل له.
ثم قد رواه أيضا أبو إسحاق الشيباني، عن أبي عون فخالف فيه شعبة، وأبو إسحاق أيضا ثقة كما حدثنا حمام وأبو عمر الطلمنكي قال حمام: نا أبو محمد الباجي، نا عبد الله بن يونس، نا بقي، نا أبو بكر بن أبي شيبة، وقال الطلمنكي: نا ابن مفرج، نا إبراهيم بن أحمد بن فراس، نا محمد بن علي بن زيد، نا سعيد بن منصور، ثم اتفق ابن أبي شيبة وسعيد كلاهما عن أبي معاوية الضرير، نا أبو إسحاق الشيباني، عن محمد بن عبيد الله الثقفي - هو أبو عون - قال: لما بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) معاذا إلى اليمن قال: يا معاذ بما تقضي قال: أقضي بما في كتاب الله.
قال: فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله ؟ قال: أقضي بما قضي به نبيه (صلى الله عليه وسلم).

قال: فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه ؟ قال: أقضي بما قضى به الصالحون.
قال: فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه ولا قضى به الصالحون ؟ قال: أؤم الحق جهدي.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): الحمد لله الذي جعل رسول رسول الله يقضي بما يرضى به رسول الله فلم يذكر أجتهد رأيي أصلا، وقوله: أؤم الحق هو طلبه للحق حتى يجده حيث لا توجد الشريعة إلا منه، وهو القرآن وسنن النبي (صلى الله عليه وسلم).
على أننا قد حدثنا أحمد بن محمد الله الطلمنكي، نا أحمد بن عون الله، نا إبراهيم بن أحمد بن فراس، نا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري قال: نا إسحاق بن راهويه قال: قال سفيان بن عيينة: اجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم، لا أن يقول برأيه.
وأيضا فإنه مخالفون لما فيه، تاركون له، لان فيه أنه يقضي أولا بما في كتاب الله، فإن لم يجد في كتاب الله فحينئذ يقضي بسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهم كلهم على خلاف هذا، بل يتركون نص القرآن إما لسنة صحيحة، وإما لرواية فاسدة، كما تركوا مسح الرجلين، وهو نص القرآن لرواية جاء بالغسل، وكما تركوا الوصية للوالدين والاقربين لرواية جاءت: لا وصية لوارث وكما تركوا جلد المحصن، وهو نص القرآن لظن كاذب في تركه، ومثل هذا كثير، فكيف يجوز لذي دين أن يحتج بشئ هو أول مخالف له ؟.
وبرهان وضع هذا الخبر وبطلانه هو أن من الباطل الممتنع أن يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله وهو يسمع قول ربه تعالى: * (اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم) * وقوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * وقوله تعالى: * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) * مع الثابت عنه (صلى الله عليه وسلم) من تحريم القول بالرأي في الدين من قوله (صلى الله عليه وسلم): فاتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بالرأي فضلوا وأضلوا ثم لو صح لكان معنى قوله: أجتهد رأيي إنما معناه أستنفذ جهدي حتى أرى الحق في القرآن والسنة، ولا أزال أطلب ذلك أبدا.
وأيضا فلو صح لكان لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون ذلك لمعاذ وحده، فيلزمهم ألا يتبعوا رأي أحد إلا رأي معاذ، وهم لا يقولون بهذا.

أو يكون لمعاذ وغيره، فإن كان ذلك فكل من اجتهد رأيه فقد فعل ما أمر به، وإذ الامر كذلك فإن كل من فعل ما أمر به فهم كلهم محقون ليس أحد منهم أولى بالصواب من آخر، فصار الحق على هذا في المتضادات، وهذا خلاف قولهم، وخلاف المعقول، بل هذا المحال الظاهر، وليس حينئذ لاحد أن ينصر قوله بحجة، لان مخالفه أيضا قد اجتهد رأيه، وليس في الحديث الذي احتجوا به أكثر من اجتهاد الرأي ولا مزيد، فلا يجوز لهم أن يزيدوا فيه ترجيحا لم يذكر في الحديث وأيضا فليس أحد أولى من أحد مع هذا، فلكل واحد منا أن يجتهد
برأيه، فليس من اتبعوا أولى من غيره، ومن المحال البين أن يكون ما ظنه الجهال في حديث معاذ - لو صح - من أن يكون (صلى الله عليه وسلم) يبيح لمعاذ أن يحلل برأيه ويحرم برأيه، ويوجب الفرائض برأيه ويسقطها برأيه وهذا ما لا يظنه مسلم، وليس في الشريعة شئ غير ما ذكرنا البتة.
وقد بين لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما تقع فيه المشورة منه، وفرق بينه وبين الدين، كما حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي، نا أبو بكر بن مفرج القاضي، ثنا محمد بن أيوب الصموت الرقي، نا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، نا عمرو بن علي، نا عفان بن مسلم، نا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) سمع أصواتا فقال: ما هذه الاصوات ؟ قالوا: النخل يؤبرونه، فقال: لو لم يفعلوا لصلح فأمسكوا عنه فصار شيصا، فذكروا ذلك للنبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: إذا كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان شيئا من أمر دينكم فإلي.
وبه إلى البزاز: نا هدبة بن خالد، نا جهاد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سمع صوتا في النخل، فقال: ما هذا ؟ قال: يؤبرون النخل قال: لو تركوها أصلحت، فتركوها فصارت شيصا، فأخبروه بذلك فقال: أنتم أعلم بما يصلحكم في دنياكم، وأما آخرتكم فإلي.
قال أبو محمد: فهذه عائشة وأنس لم يدعا في روايتها إشكالا، وأخبرا أنه عليه السلام أعلمنا أننا أعلم بما يصلحنا في دنيانا منه، ففي هذا كان يشاور أصحابه، وأخبرا أنه (صلى الله عليه وسلم) جعل أمر آخرتنا إليه لا إلى غيره، وأمر الآخرة هو الدين والشريعة فقط، فلم يجعل ذلك (صلى الله عليه وسلم) إلى أحد سواه، وبطل بذلك رأي كل أحد، وحرم القول بالرأي جملة في الدين، وبالله تعالى التوفيق.
وهذا يبين معنى قول الله عزوجل: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * إنما هو في أمر الدين، فكل ما تكلم به النبي (صلى الله عليه وسلم) في شئ من تحريم أو تحليل أو إيجاب، فهو عن الله تعالى بيقين، وما كان من غير ذلك فكما قلنا، لقوله (صلى الله عليه وسلم) - إذ قيل له حاضت صفية - فقال: عقري حلقي وكقوله (صلى الله عليه وسلم): إني اتخذت عند الله عهدا، أيما امرئ سببته أو لعنته في غير كنهه أو جلدته فاجعلها له طهرة أو كما قال (صلى الله عليه وسلم)، ومثل قوله عليه السلام لذي اليدين: لم تقصر ولا نسيت، وهذا يبين فساد قول من اعترض بمثل هذا على سائر أوامره (صلى الله عليه وسلم) ليردها، ناطقا في ذلك بلسان أهل الالحاد المعترضين في الاسلام، ونعوذ بالله من الخذلان.
حدثنا أحمد بن عمرو العذري، ثنا أبو ذر الهروي، ثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي، ثنا إبراهيم بن خزيم الشاشي، ثنا عبد الرزاق، ثنا سفيان الثوري، عن عبد الاعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار.
قال عبد: وحدثناه أيضا عبيد الله بن موسى، وأبو نعيم، وأبو سفيان الثوري، عن عبد الاعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.
حدثنا حمام بن أحمد، ثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي، نا محمد بن عبد الملك بن أيمن، ثنا أحمد بن مسلم، نا أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، ثنا وكيع عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لا ينزع الله العلم من صدور الرجال، ولكن ينزع العلم بموت العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمذاني، نا أبو إسحاق البلخي، نا محمد بن يوسف الفربري، نا محمد بن إسماعيل البخاري، ثنا سعيد بن تليد، نا ابن وهب، حدثني عبد الرحمن بن شريح وغيره، وعن أبي الاسود، عن عروة قال: حج علينا عبد الله ابن عمرو بن العاص فسمعته يقول: سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه انتزاعا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون.
وأما ما رووه عن أبي مسعود من قوله، فليجتهد رأيه فهو خبر لا يصح، لان محمد بن سعيد بن نبات حدثناه قال: ثنا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن بشار، نا محمد بن أبي عدي، ثنا شعبة، ثنا الاعمش، عن عمارة بن عمير، عن حريث بن ظهير قال الاعمش: أحسبه قال.
قال ابن مسعود: لقد أتى علينا حين وما نسأل وما نحن هناك.
ثم ذكر بنصه، فصح أن الاعمش شك فيه أهو عن ابن مسعود أم لا.
ثم لو صح لكان معناه: فليجتهد رأيه، أي ليجهد نفسه حتى يرى السنة في ذلك، يبين هذا قوله في الخبر نفسه: ولا يقل إني أخاف وأرى، فنهاه عن أن يقول أرى، وهذا نهي عن الفتيا بالرأي وكذلك قوله فيه نفسه: فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وإن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات فإنما أمره بالتورع والطلب فقط.
وأما الرواية عن عمر فإن فيها نصا تخييره بين اجتهد رأيه أو الترك، ورأى الترك خيرا له فصح أنه لم ير القول بالرأي حقا، لان الحق لا خيار في تركه لاحد، ثم هم مخالفون لما فيه أيضا مما ذكرنا من أنهم لا يبدؤون بالطلب في القرآن - كما في ذلك الخبر - ثم بالسنن، بل يتركون القرآن لما يصح من السنن ولما لا يصح، وهذا خلاف أمر عمر في ذلك الخبر، فكيف يحتجون بشئ هم أول مخالف له، هذا مع أن ظاهر ذلك الخبر الانقطاع.
وأما خبر عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس، فليس فيه أن ابن عباس أخبر بذلك عن نفسه، ولا أنه أمر به، فإذا هو ظن من عبيد الله، والثابت عن ابن عباس النهي عن تقليد أبي بكر وعمر.

ثم قصة خالفوا فيها ابن مسعود وعمر وابن عباس، فلو صح هذا عنهم لكان كبعض ما خالفوهم فيه، فليس بعض حكمهم أولى بالتقليد من بعض، مثل ما صح عن عمر وابن مسعود وابن عباس من القول بأن من تسحر يرى أنه ليل، فإذا به نهار، فصومه تام، ومثل قضائهم ثلاثتهم في اليربوع جفرة، ومثل هذا كثير.
وأما ما رووه عن بعض الصحابة من الفتيا بالرأي، فإنما أفتى منهم من أفتى برأيهم على سبيل الاخبار بذلك أو الصلح، لا على أنه حكم بات، ولا على أنه لازم لاحد، فقال خصومنا: إنما ذموا الرأي الذي يحكم به على غير أصل، وأما الذي حكموا به فهو الرأي المردود إلى ما يشبه من قرآن أو سنة، فقلنا لهم: هذه دعوى منكم، فإن وجدتم عن أحد منهم تصحيحا فلكم مقال، وإلا فقد كذبتم عليهم، فنظرنا فلم نجد قط عن أحد من الصحابة كلمة تصح تدل على الفرق بين رأمأخوذ عن شبه لما في القرآن والسنة وبين غيره من الآراء، إلا في رسالة مكذوبة عن عمر، ووجدنا قولهم في ذمهم الرأي جملة، أنما حكموا به على ما قلنا.
كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن المثنى، نا عبد الرحمن بن مهدي، نا سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن حارثة بن مضرب قال: جاء ناس من أهل الشام إلى عمر بن الخطاب فقالوا: إنا أصبنا أموالا خيلا، ورقيقا، نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور، فقال عمر: ما فعله صاحباي قبل فأفعله، فاستشار أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم)، فقال له علي: هو حسن إن لم تكن جزية يؤخذون بها بعد راتبة.

قال أبو محمد: فهذا نص ما قلنا من أنهم لا يرون ما حكموا فيه برأيهم أمرا راتبا، وأيضا فقد روينا عنهما وعن غيرهما في إبطال الرأي آثارا أصح مما شغبوا به، ولسنا نوردها احتجاجا بها، إذ لا حجة في أحد إلا في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو في إجماع متيقن لا خلاف فيه، وإنما نوردها لتلزمهم ما أرادوا إلزامنا وهو لازم لهم، لانهم يحتجون بمثله، ومن جعل شيئا ما حجة في مكان ما لزمه أن يجعله حجة في كل مكان، وإلا فهو متناقض متحكم في الدين بلا دليل.
حدثنا أحمد بن عمر، ثنا أبو ذر الهروي، نا عبد الله بن أحمد السرخسي، نا إبراهيم بن خزيم، نا عبد بن حميد، ثنا أبو أسامة، عن نافع بن عمر الجمحي، عن بن أبي مليكة قال: قال أبو بكر الصديق: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد.
حدثنا محمد بن سعيد النباتي، نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن بشار، نا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الاعمش، عن عبد الله بن مرة، عن أبي معمر، عن أبي بكر الصديق قال: أية أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم.
حدثنا المهلب عن ابن مناس، نا محمد بن مسرور، نا يونس بن عبد الاعلى، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عمر بن الخطاب قال وهو على المنبر: يا أيها الناس إنما الرأي إنما كان من رسول الله مصيبا، لان الله عزوجل كان يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف.
وبه إلى ابن وهب: حدثنا عبد الله بن عياش، عن ابن عجلان، عن عبد الله ابن عمر بن الخطاب قال: اتقوا الرأي في دينكم.
كتب إلي النمري: حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي الباجي، وعبد الله بن محمد بن يوسف الازدي القاضي قال أحمد: نا أبي، وقال القاضي: نا سهل بن إبراهيم، قال عبد الله الباجي وسهل: ثنا أحمد بن فطيس، نا أحمد بن يحيى الاودي الصوفي، ثنا عبد الرحمن بن شريك، حدثني أبي عن مجالد، عن الشعبي، عن عمرو بن حريث قال: قال عمر بن الخطاب: إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم

الاحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا.
كتب إلي النمري: أخبرنا محمد بن خليفة، نا محمد بن الحسين البغدادي، نا أبو بكر بن أبي داود، نا محمد بن عبد الملك القزاز، نا أبو مريم، نا نافع بن يزيد، عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم قال: قال عمر بن الخطاب: إياكم والرأي فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الاحاديث أن يعوها، وتفلت منهم أن يحفظوه، فقالوا في الدين برأيهم.
حدثنا المهلب، عن ابن مناس، عن ابن مسرور، عن يونس بن عبد الاعلى، بن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم التيمي أن عمر بن الخطاب قال: أصبح أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يعوها وتفلتت أن يرووها، فاستقوها بالرأي.
حدثنا عبد الله بن ربيع، نا محمد بن إسحاق بن السليم، نا ابن الاعرابي، ثنا أبو داود السجستاني، ثنا أبو كريب محمد بن العلاء، ثنا حفص بن غياث، ثنا الاعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد خير، عن علي بن أبي طالب قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يمسح على ظاهر الخفين.
حدثنا عبد الله بن ربيع، عن عبد الله بن محمد بن عثمان، عن أحمد بن خالد، عن علي بن عبد العزيز، عن الحجاج بن المنهال، ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة قال: قال علي: القضاء ثلاثة: رجل حاف فهو في النار، ورجل اجتهد برأيه فأخطأ فهو في النار، ورجل أصاب فهو في الجنة.
حدثنا حمام بن أحمد، ثنا أبو محمد الباجي، ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا بقي بن مخلد، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا شبابة بن سوار، عن شعبة، عن قتادة قال: سمعت رفيعا أبا العالية يقول: قال علي بن أبي طالب: القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل جار متعمدا فهو في النار، ورجل أراد الحق فأخطأ فهو في النار، ورجل أراد الحق فأصاب فهو في الجنة، قال قتادة: قلت لابي العالية: أرأيت هذا الذي أراد الحق فأخطأ ؟ قال: كان حقه إذا لم يعلم القضاء أن يكون قاضيا.
حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي، ثنا ابن مفرج، ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس، ثنا محمد بن علي بن زيد، نا سعيد بن منصور، نا فرج بن فضالة، عن مالك بن زياد، قال: سمعت عراك بن مالك، وقال له عمر بن عبد العزيز: يا عراك ما قولك في القضاة ؟ فقال: يا أمير المؤمنين القضاة ثلاثة: رجل ولي القضاء ولا علم له بالقضاء، فأحل حراما وحرم حلالا فهو في النار على أم رأسه، ورجل ولي القضاء وله علم بالقضاء فاتبع الهوى وترك الحق فهو في النار على أم رأسه، ورجل ولي القضاء وله علم بالقضاء فاتبع الحق وترك الهوى فهو يستقام به ما استقام، وإن هو مال سلك مسلك أصحابه.
قال أبو محمد: وقد روي هذا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما روينا بالسند الصحيح المذكور إلى سعيد بن منصور: نا خلف بن خليفة، ثنا أبو هاشم قال: لولا حديث ابن بريدة عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة: رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى بين الناس بجهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فخار فهو في النار،
لقلنا: إن القاضي إذا اجتهد فليس عليه شئ.
نعم، وعن عمر بن الخطا ب كما روينا بالسند المذكور إلى سعيد بن منصور: ثنا يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، نا موسى بن عقبة، قال: خطب عمر بن الخطاب بالجابية، فذكر الخطبة وفيها أن عمر قال: ليس لهالك هلك معذرة في تعمد ضلالة حسبها هدى، ولا في ترك حق حسبه ضلالا.
قال أبو محمد: ليس هذا مخالفا لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر لان هذا فيمن لم يعرف بالحق، وسائر ما ذكرنا قيل فيمن عرف بالحق فلج مقدرا أنه على صواب، مغلبا لظنه الكاذب على يقين ما جاءه من الهدى والنور.
وبه إلى سعيد بن منصور: حدثنا خالد بن عبد الله، عن أبي سنان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: من أفتا فتيا يعمى بها فإنهما عليه يعني يخطئ فيها فيخطئ آخذها منه.

حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي، نا محمد بن أحمد بن مفرج، نا سعيد بن السكن، ثنا الفربري، نا البخاري، نا موسى بن إسماعيل، نا أبو عوانة، عن الاعمش، عن أبي وائل قال: قال سهل بن حنيف: يا أيها الناس اتهموا آراء على دينكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لرددته.
حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا أبو العلاء عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري، نا أبو أسامة، عن مالك بن مغول، عن أبي حصين، عن أبي وائل شقيق ابن سلمة قال: سمعت سهل بن حنيف بصفين يقول: اتهموا آراءكم على دينكم، فلقد رأيتني يوم أبي جندل، لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لرددته.
حدثنا أحمد بن عمر، ثنا أبو ذر، نا عبد الله بن أحمد، نا إبراهيم بن خزيم، ثنا عبد بن حميد حسن بن علي الجعفي، عن زائدة، عن ليث، عن بكر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من جهنم.
حدثنا المهلب، نا ابن مناس، نا ابن مسرور، نا يونس بن عبد الاعلى، نا ابن وهب، أخبرني بشر بن بكر، عن الاوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن ابن عباس قال: من أحدث رأيا ليس في كتاب الله عز وجل لم تمض به سنة من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل.
حدثنا يونس بن عبد الله القاضي، نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، نا أحمد بن خالد، نا محمد بن عبد الله الخشني، نا محمد بن بشار، نا يونس، نا عبيد العمري، ثنا مبارك بن فضالة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر، عن عمر أنه قال: يا أيها الناس اتهموا آراءكم على الدين، فلقد رأيتني وإني لارد أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) برأي أجتهد والله ما آلو، وذلك يوم أبي جندل والكتاب يكتب فقال اكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا: نكتب باسمك اللهم، فرضي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبيت، فقال: يا عمر تراني قد رضيت وتأبى.
قال أبو محمد: أما الرواية عن أبي بكر وعلي وسهل وابن عباس، والتي تورد بعد هذا عن عمر وابن مسعود -: فصحاح ولا سبيل لهم إلى أن يأتوا برواية عن صاحب يثبت فيها التصويب للفتيا بالرأي، فأن وجد يوما ما فتيا عن أحدهم برأي فلا بد من أن يوجد عنه التبرؤ من ذلك.
كما حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب، أنا علي بن حجر، نا علي بن مسهر، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود: أتا قوم فقالوا: إن
رجلا منا تزوج امرأة ولم يفرض صداقا ولم يجمعها إليه حتى مات ؟ فقال عبد الله: ما سئلت عن شئ مذ فارقت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أشد علي من هذا فأتوا غيري.
فاختلفوا إليه فيها شهرا، ثم قالوا له في آخر ذلك: من نسأل وأنت أخيه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بهذا البلد ولا نجد عندك ؟ قال: سأقول فيها بجهد رأيي، فإن كان صوابا فمن أتاه الله وحده لا شريك له، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله برئ فقد ذكر الحديث وفي آخره، أنه رضي الله عنه إذ أخبر بالسنة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في ذلك بوفاق ما أفتى به فما رئي عبد الله فرح فرحه يومئذ إلا بإسلامه.
وبه إلى أحمد بن شعيب: أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري، ثنا أبو سعيد عبد الرحمن بن عبد الله، عن زائدة عن منصور، عن إبراهيم عن علقمة والاسود قالا: أتى عبد الله بن مسعود في رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها، فتوفي قبل أن يدخل بها، فقال عبد الله: سلوا هل تجدون فيها أثرا ؟ وذكر باقي الحديث.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، عن عبد الله بن محمد بن قاسم القلعي، نا محمد بن أحمد الصواف، نا بشر بن موسى بن صالح الاسدي، نا عبد الله بن الزبير الحميدي، حدثنا سفيان بن عيينة عن الاعمش عن مسلم بن صبيح هو أبو الضحى، عن مسروق قال: قال ابن مسعود: يا أيها الناس من علم منكم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل لم لا يعلم: لا أعلم، فإن من علم المرء أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم وقد قال الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وسلم): * (قل مآ أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) *.

قال أبو محمد: هذا في غاية الصحة.
وكل ما رويناه الآن من ابن عمر وابن مسعود وابن عباس يبين مرادهم بقولهم: فليجتهد رأيه لو صح ذلك عنهم، وأنه ليس على القول في الدين بالرأي أصلا لكن بأن يجتهد حتى يرى الحق في القرآن والسنة.
حدثنا حمام، نا الباجي، نا عبد الله بن يونس، نا بقي بن مخلد، نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا يزيد بن هارون، نا حماد بن سلمة، عن قتادة أن أبا موسى الاشعري قال: لا ينبغي لقاض أن يقضى حتى يتبين له الحق كما يتبين له الليل عن النهار، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال: صدق.
قال أبو محمد: هذا يبين أنهم لم يجيزوا القول بالرأي الذي إنما هو ظن، يوبين أنهم كانوا يرون خبر الواحد يوجب العلم والقطع به ولا بد.
أخبرني محمد بن سعيد بن نبات، ثنا أحمد بن عبد البصير، نا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن المثنى، نا مؤمل بن إسماعيل الحميري، نا سفيان الثوري، نا أبو إسحاق الشيباني، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: كتب كاتب لعمر بن الخطاب: هذا ما رأى الله ورأى عمر، فقال عمر: بئس ما قلت، إن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر.
حدثنا يونس بن عبد الله، نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، نا أحمد بن خالد، حدثنا نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن بشار، نا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا مجالد عن الشعبي، عن مسروق قال: قال عبد الله بن مسعود: يذهب العلماء ويبقى قوم يقولون برأيهم، قال الشعبي: لعن الله أرأيت.
قال أبو محمد: والله ما أفتى قط أحد من الصحابة رضى الله عنهم باجتهاد رأيه إلا كما ترى، بعد أن يبحث عن السنة فتغيب عنه، وهي عند غيره بلا شك، ثم لا يجعل رأيه ذلك إلا مما يخاف الله تعالى فيه، ويشفق منه ويتبرأ من التزامه، وكذلك كان التابعون رحمهم الله، فأتى اليوم ناس يجعلونه دينا يبطلون به كلام
الله تعالى وكلام رسوله (صلى الله عليه وسلم).
نعوذ بالله من الخذلان.
وقد روينا أيضا عن ابن عمر، كما نا المهلب، نا ابن مناس، أنا ابن مسرور، حدثنا يونس بن عبد الاعلى، نا ابن وهب، أخبرني عمر بن الحارث أن عمرو بن

دينار أخبره: أن عبد الله بن عمر كان إذا لم يبلغه شئ في الامر يسأل عنه قال: إن شئتم أخبرتكم بالظن.
قال عمرو بن دينار: أخبرني بذلك طاوس عنه.
قال أبو محمد: وهذا سند في غاية الصحة، وحدثنا يونس بن عبد الله، نا يحيى بن مالك بن عائذ عبد الرحمن بن إسماعيل أبو عيسى الخشاب، نا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، نا يونس بن عبد الاعلى، أنا ابن وهب، أنا عمر ابن الحارث قال: قال لي عمرو بن دينار: أخبرني طاوس عن ابن عمر: أنه كان إذا سئل عن أمر لم يبلغه فيه شئ قال: إن شئتم أخبرتكم بالظن.
قال أبو محمد: كتب إلي يوسف بن عبد البر النمري قال: ذكر أبو يوسف يعقوب بن شيبة، نا محمد بن حاتم بن ميمون، حدثني يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري، نا أبي عن ابن إسحاق، حدثني يحيى بن عباد بن عباد بن عبد الله ابن الزبير، عن عبد الله ابن الزبير قال: أنا والله لمع عثمان بن عفان بالجحفة ومعه رهط من أهل الشام، منهم حبيب بن مسلمة الفهري إذ قال عثمان - وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج - أن أتموا الحج وخلصوه في أشهر الحج، فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل، فإن الله قد أوسع في الخير، فقال له علي: عمدت إلى سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ورخصة رخص الله للعباد بها في كتابه، تضيق عليهم فيها، وتنتهي عنها، وكانت لذي الحاجة ولنائي الدار.
ثم أهل بعمرة وحج معا فأقبل عثمان على الناس فقال: وهل نهيت عنها ؟ إني لم أنه عنها، إنما كان رأيا أشرت به، فمن شاء أخذه ومن شاء تركه.
كتب إلي النمري: حدثنا أحمد بن سعيد، نا ابن أبي دليم، نا ابن وضاح، نا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي، نا ضمرة بن ربيعة عن عثمان بن عطاء هو الخراساني، عن أبيه قال: أضعف العلم علم النظر، أن يقول الرجل: رأيت فلانا يفعل كذا، ولعله قد فعله ساهيا.
كتب إلي النمري قال: ذكر الحسن بن علي الحلواني، نا عامر، نا حماد بن زيد عن سعيد بن أبي صدقة، عن ابن سيرين قال: لم يكن أحد بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) أهيب لما لا يعلم مع أبي بكر، ولم يكن أحد أهيب لما لا يعلم بعد أبي بكر من عمر، وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله تعالى منها أصلا، ولا في السنة أثرا فاجتهد رأيه ثم قال: هذا رأيي فإن يكن صوابا فمن الله عزوجل، وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله تعالى.
كتب إلي النمري قال: قرأت على عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ أخبرهم قال: نا بكر بن حماد، نا مسدد بن مسرهد، نا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن جريج، حدثني سليمان بن عتيق، عن طلق بن حبيب، عن الاحنف بن قيس، عن عبد الله ابن مسعود، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون ألا هلك المتنطعون.
كتب إلي النمري: حدثنا عبد الله بن محمد، نا عبد الله بن محمد القاضي بالقلزم، ثنا محمد بن إبراهيم بن زياد بن عبد الله الرازي، نا الحارث بن عبد الله بهمدان، نا عثمان ابن عبد الرحمن الوقاص، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): تعمل هذه الامة برهة بكتاب الله وبرهة بسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم يعملون بالرأي، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا.
كتب إلي النمري: حدثنا محمد بن خليفة، نا محمد بن الحسين الآجري، نا محمد بن
الليث، نا جبارة بن المغلس، نا حماد بن يحيى الابح، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): تعمل هذه الامة برهة بكتاب الله ثم تعمل برهة بسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم تعمل بعد ذلك بالرأي فإذا أعملوا بالرأي ضلوا.
كتب إلي النمري: أنا أبو زيد العطار، نا علي بن محمد بن مسرور، نا أحمد بن داود، ثنا سحنون، نا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن عبد الله بن أبي جعفر قال: قال عمر ابن الخطاب: السنة ما سنه الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم)، لا تجعلونه خطا الرأي سنة للامة.
كتب إلي النمري: حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي الباجي، نا الحسن بن إسماعيل المهندس، ثنا عبد الملك بن بحر، نا محمد بن إسماعيل، نا سنيد داود، نا يحيى بن زكريا، هو ابن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر الشعبي، قال: أتى زيد بن ثابت قوم، فسألوه عن أشياء فأخبرهم بها فكتبوها ثم قالوا: لو أخبرناه قال: فأتوه فأخبروه، فقال: أغدرا لعل كل شئ حدثتكم خطأ، إنما أجتهد لكم رأيي.

وبه نصا إلى سنيد: نا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار قال: قال لجابر بن زيد: إنهم يكتبون ما يسمعون منك، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون يكتبون رأيا أرجع عنه غدا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، نا ابن مفرج، نا قاسم بن أصبغ، نا بن وضاح، نا ابن وهب، عن الليث بن سعد قال: إن ربيعة كتب إليه يقول: أرى أن كل محبوسة منتظرة زوجا في غيبة إن نفقتها لها، ورب من يكون لو حمل ذلك عليه لكانت فيه هلكة دنياه وذمته.
فالمرأة ذات الزوج في نفقتها حتى يقع ميراثها، ويتبين هلاك زوجها، وإن قائلا ليأثر عن بعض الناس بالمدينة غير ذلك، وهذا رأينا، والسنة أملك بذلك.
حدثنا يونس بن عبد الله، نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، نا أحمد، نا خالد، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن بشار بندار، نا يحيى بن سعيد القطان، نا صالح بن مسلم أن عامرا الشعبي قال له في مسألة من النكاح سأله عنها في حديث: إن أخبرتك برأيي فبل عليه.
كتب إلي النمري: حدثنا محمد بن خليفة، نا محمد بن الحسين الاجري، نا جعفر ابن محمد الفريابي، نا العباس بن الوليد بن مزيد، أنا أبي، سمعت الاوزاعي يقول: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول.
قال الفريابي: وحدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، سمعت عبد الرحمن ابن مهدي يقول: سمعت حماد بن زيد يقول: قيل لايوب السختياني، ما لك لا تنظر في الرأي ؟ فقال أيوب: قيل للحمار ما لك لا تجتر ؟ فقال: أكره مضغ الباطل.
كتب إلي النمري: حدثنا عبد الوارث بن سفيان، نا قاسم بن أصبغ، نا أحمد ابن زهير، نا الحوطي، نا إسماعيل بن عياش، عن سوادة بن زياد، وعمرو بن مهاجر، عن عمر بن عبد العزيز، أنه كتب إلى الناس، إنه لا رأي لاحد مع سنة سنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وبه إلى قاسم: حدثنا ابن وضاح، نا يوسف بن عدي، نا عبيدة بن حميد، عن عطاء بن السائب قال: قال الربيع بن خيثم: إياكم أن يقول الرجل لشئ: إن الله حرم هذا أو نهى عنه، فيقول الله عزوجل: كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه، أو يقول: إن الله تعالى أحل هذا وأمر به، فيقول الله تعالى: كذبت لم أحله ولم آمر به.
وكتب إلي النمري: حدثنا محمد بن خليفة، نا محمد بن الحسين الاجري، نا أبو بكر بن أبي داود السجستاني، نا أحمد بن سنان قال: سمعت الشافعي يقول:
مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه، مثل المجنون الذي قد عولج حتى برأ فأغفل ما يكون قد هاج به.
وبه إلى ابن أبي داود السجستاني قال: سمعت أبي يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا تكاد ترى أحدا نظر في هذا الرأي إلا وفي قلبه دغل.
كتب إلي النمري: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني، نا يوسف ابن يعقوب النجيرمي بالبصرة، أنا العباس بن الفضل، سمعت سلمة بن شبيب يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: رأي الشافعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة الآثار.
كتب إلي النمري قال: ذكر محمد بن حارث الخشني، أنا أبو عبد الله محمد بن عثمان النحاس، سمعت أبا عثمان سعيد بن محمد بن الحداد يقول: سمعت سحنون ابن سعيد يقول: ما أدري ما هذا الرأي ؟ سفكت به الدماء واستحلت به الفروج، واستحقت به الحقوق غير أنا رأيناه رجلا صالحا فقلدناه.
كتب إلي النمري: أنا عبد الرحمن بن يحيى، ثنا أحمد بن سعيد بن حزم، ثنا عبيد الله بن يحيى بن يحيى عن أبيه يحيى بن يحيى أنه كان يأتي بن وهب فيقول له: من أين فيقول له: من عند ابن القاسم.
فيقول له: اتق الله فإن أكثر هذه المسائل رأي.
قال أبو محمد: فقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفتوا برأيهم على سبيل الالزام، ولا على أنه حق، لكن على أنه ظن يستغفرون الله تعالى منه، أو على سبيل صلح بين الخصمين، فلا يحل لمسلم أن يحتج بشئ أتى عنهم على هذه السبيل، وأما التابعون فقد ذكرنا منهم طرفا صالحا.
وحدثنا أيضا يونس بن عبد الله القاضي قال: ثنا يحيى بن عائذ، ثنا هشام بن محمد ابن قرة، عن أبي جعفر أحمد بن سلامة الطحاوي، ثنا إبراهيم بن مرزوق، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا أبو عقيل، ثنا سعيد الجريري، عن أبي نضرة أنه قال: سمعت
أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يقول للحسن بن أبي الحسن البصري وقد قصدته أنا والحسن، فقال أبو سلمة للحسن: بلغني أنك تفتي برأيك، فلا تفتي برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو كتابا منزلا.
وبه إلى الطحاوي: حدثنا سليمان بن شعيب، ثنا خالد بن عبد الرحمن، ثنا مالك بن مغول، عن الشعبي قال: ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فخذوا به، وما كان من رأيهم فاطرحوه في الحش.
حدثنا أحمد بن عمر، ثنا أبو ذر، ثنا زاهر بن أحمد، نا زنجويه بن محمد، ثنا محمد ابن إسماعيل البخاري، نا محمد بن محبوب، نا عبد الواحد، نا الزبرقان بن عبد الله الاسدي، أن أبا وائل شقيق بن سلمة قال له: إياك ومجالسة من يقول: أرأيت أرأيت.
قال أبو محمد: وقد روينا عن الشعبي أنه قال: قد ترك هؤلاء الارأيتيون المسجد أبغض إلي من كناسة أهلي.
حدثنا عبد الرحمن بن سلمة صاحب لنا، ثنا أحمد بن خليل، نا خالد بن سعد، أخبرني محمد بن عمر بن لبابة، أخبرني أبان بن عيسى بن دينار - وكان فاضلا - عن أبيه، عن ابن القاسم، عن مالك، عن ابن شهاب قال: دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي، قال أبان: وكان أبي قد أجمع على ترك الفتيا بالرأي، وأحب الفتيا بما روي من الحديث، فأعجلته المنية عن ذلك.
حدثنا المهلب، ثنا بن مناس، نا ابن مسرور، نا يونس بن عبد الاعلى، ثنا ابن وهب، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن أبي الاسود - هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل يتيم عروة - قال: سمعت عروة بن الزبير يقول: ما زال أمر بني إسرائيل معتدلا حتى نشأ المولدون أبناء سبايا الامم، فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوهم.
وبه إلى ابن وهب: حدثني أبي لهيعة، أن رجلا سأل سالم بن عبد الله بن عمر عن شئ، فقال: لم أسمع في هذا شيئا، فقال له الرجل، فأخبرني أصلحك الله برأيك قال: لا، ثم عاد عليه فقال: إني أرضى برأيك، فقال له سالم، إني لعلي إن أخبرتك برأيي ثم تذهب فأوى بعد ذلك رأيا غيره فلا أجدك.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، ثنا عبد الله بن محمد القلعي، ثنا أبو علي محمد بن أحمد الصواف، عن بشر بن موسى الاسدي، ثنا عبد الله بن الزبير الحميدي قال: قال سفيان بن عيينة: ما زال أمر الناس معتدلا حتى غير ذلك أبو حنيفة بالكوفة، والبتي بالبصرة وربيعة بالمدينة.
قال أبو محمد: هؤلاء النفر - غفر الله لنا ولهم - أول من فتح باب الرأي وعول عليه، واعترض بالقياس على حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم): وتلك زلة عالم، ووهلة فاضل، سمح الله للجميع بمنه آمين.
كتب إلى النمري يوسف بن عبد الله: أنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن هو ابن الزيات، ثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد القاضي المالكي البصري، ثنا موسى ابن إسحاق، نا إبراهيم بن المنذر، نا معن بن عيسى قال: سمعت مالك بن أنس يقول: أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه.
أخبرني بعض أصحابنا محمد بن أبي نصر، عن أبي عمر وعثمان بن أبي بكر، حدثني أبو نعيم بأصبهان، ثنا عبد الله بن محمد بن عبد الكريم، ثنا الحسن بن منصور، ثنا الحنيني قال: قال مالك بن أنس: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن.
وحدثني ابن أبي نصر، نا عثمان بن أبي بكر، نا أبو نعيم إبراهيم بن عبد الله، ثنا محمد بن إسحاق قال: سمعت عثمان بن صالح يقول: جاء رجل إلى مالك فسأله عن مسألة فقال له: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كذا، فقال الرجل: أرأيت، فقال مالك: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) *.
حدثنا عبد الرحمن بن سلمة، ثنا أحمد بن خليل، ثنا خالد بن رسول، ثنا عبد الله بن يونس المرادي، نا بقي بن مخلد، نا سحنون والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك.
أنه كان يكثر أن يقول: * (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) *.
ويه إلى خالد قال: سمعت محمد بن عمر لبابة يقول: أخبرني أبو خالد مالك ابن علي القرشي القطني الزاهد وكان فاضلا خيرا مجتهدا في العبادة، قال: أخبرني القعنبي قال: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلمت ثم جلست فرأيته يبكي، فقلت: يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك ؟ فقال لي: يا ابن قعنب وما لي لا أبكي ومن أحق بالبكاء مني والله لوددت أني ضربت بكل مسألة أفتيت بها برأيي سوطا سوطا، وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي أو كما قال.
وبه إلى خالد: حدثنا أحمد بن خالد، أنا يحيى بن عمر، أنا الحارث بن مسكين، أنا ابن وهب قال قال لي مالك: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشئ فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء.
قال أبو محمد: أفيحل لاحد صح هذا عنده عن النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي عنه أخذنا ديننا، ثم يفتي بعد ذلك بغير ما أتاه به الوحي ويستعمل الرأي والقياس، معاذ الله من ذلك.
أخبرنا أحمد بن عمر، ثنا أحمد بن محمد بن عيسى، نا محمد بن غندر، نا خلف ابن قاسم، نا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي، نا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو، نا أبو مسهر، نا سعيد بن عبد العزيز قال: كان إذا سئل لا يجيب حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هذا رأيي والرأي يخطئ ويصيب.
قال أبو محمد: ويقال لمن يقضي بالرأي في الدين فحلل به وحرم وأوجب: أخبرنا عنك في قولك بالرأي، هذا حرام أو هذا واجب عمن تخبر بأنه حرم هذا أو أوجب هذا ؟ أعنك أم عن الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) لله ؟ فإن كنت تخبر بذلك عن الله تعالى أو عن رسوله (صلى الله عليه وسلم) كنت كاذبا عليهما، لانك تقول عنهما ما لم يقله الله تعالى، ولا نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وإن كنت تقول ذلك عن نفسك فقد صرت محللا ومحرما وشارعا، وفي هذا ما فيه نعوذ بالله منه.
وأيضا فإنك تصير قاضيا على الباري تعالى، ومتحكما عليه أن تلزم في دينه - الذي لم يشرعه سواه - أحكاما تشرعها أنت، وفي هذا البرهان كفاية.
وبالله تعالى نتأيد.
حدثنا أحمد بن عمر بن أنس، نا الحسين بن يعقوب، نا سعيد بن فحلون، نا يونس ابن يحيى المفامي، نا عبد الملك بن حبيب، أخبرني بن الماجشون أنه قال: قال مالك بن أنس: من أحدث في هذه الامة اليوم شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خان الرسالة، لان الله تعالى يقول: *( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) * فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا، وقد ذكر الطحاوي عن أبي حنيفة أنه قال: علمنا هذا رأي فمن أتانا بخير منه قبلناه.

حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، نا إسماعيل بن إسحاق البصري، نا خالد بن سعد، نا محمد بن إبراهيم بن حيون الحجاري، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: الحديث الضعيف أحد إلينا من الرأي.
حدثنا حمام، نا عباس بن أصبغ، نا محمد بن عبد الملك بن أيمن، نا عبد الله ابن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه، وأصحاب رأي، فتنزل به النازلة، من يسأل ؟ فقال أبي: يسأل صاحب الحديث ولا يسأل صاحب الرأي، ضعيف الحديث أقوى من رأي أبي حنيفة.
قال أبو محمد: صدق أحمد رحمه الله، لان من أخذ بما بلغه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو لا يدري ضعفه، فقد أجر يقينا على قصده إلى طاعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما أمره الله تعالى.
وأما من أخذ برأي أبي حنيفة أو رأي مالك أو غيرهما، فقد أخذ بما لم يأمره الله تعالى قط بالاخذ به، وهذه معصية لا طاعة.
وقد تبرأ كل من ترى من الصحابة والتابعين، ومن الفقهاء من الرأي، وندموا على ما قد قدموا منه، وتبرؤوا ممن قلدهم في شئ منه، فمن أضل ممن دان ربه تعالى برأي قد تمنى الذي رآه أن يضرب عن كل مسألة منه سوطا ولعلها أزيد من عشرة آلاف مسألة ومن أضل ممن دان ربه تعالى برأي من قال: من أتانا بخير من رأينا قبلناه ولا شك عند كل ذي مسكة عقل من المسلمين أن كلام الله تعالى وكلام محمد (صلى الله عليه وسلم) خير من رأي أبي حنيفة ومالك.
هذا مع ما قد أوردناه في هذا الباب من الاحاديث الصحاح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في تحريم الفتيا بالرأي، ومن البراهين القاطعة في ذلك.
وحسبنا الله ونعم الوكيل.

------------------------------

                            الباب السادس والثلاثون في:
إبطال التقليد

قال أبو محمد علي: علي بن أحمد: علي: اعتقاد المرء قولا من قولين فصاعدا ممن اختلف فيه أهل التمييز المتكلمون في أفانين العلوم، فإنه لا يخلو في اعتقاده ذلك من أحد وجهين: إما أن يكون اعتقده ببرهان صح عنده أو يكون اعتقده بغير برهان صح عنده، فإن كان اعتقده ببرهان صح عنده، يخلو أيضا من أحد وجهين: إما أن يكون اعتقده ببرهان حق صحيح في ذاته، وإما أن يكون اعتقده بشئ يظن أنه برهان وليس ببرهان، لكنه شغب وتمويه موضوع وضعا غير مستقيم.
وقد بينا كل برهان حق صحيح في ذاته في كتابنا الموسوم بالتقريب وبينا في كتابنا هذا أن البرهان في الديانة إنما هو نص القرآن، أو نص كلام صحيح النقل مسند إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، أو نتائج مأخوذة من مقدمات صحاح من هذين الوجهين.
وأما القسم الثاني الذي هو شغب يظن أنه برهان وليس برهانا، فمن أنواعه: القياس والاخذ بالمرسل، والمقطوع، والبلاغ، وما رواه الضعفاء والمنسوخ والمخصص وكل قضية فاسدة قدمت بالوجوه المموهة التي قد بيناها في كتاب التقريب.
وأما ما اعتقده المرء بغير برهان صح عنده، فإنه لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون اعتقده لشئ استحسنه بهواه، وفي هذا القسم يقع الرأي والاستحسان، ودعوى الالهام، وإما أن يكون اعتقده لان بعض من دون النبي (صلى الله عليه وسلم) قال، وهذا هو التقليد، وهو مأخوذ من قلدت فلانا الامر، أي جعلته كالقلادة في عنقه، وقد استحى قوم من أهل التقليد من فعلهم فيه، وهم يقرون ببطلان المعنى الذي يقع عليه هذا الاسم، فقالوا: نقلد بل نتبع.
قال أبو محمد: ولم يتخلصوا بهذا التمويه من قبيح فعلهم، لان الحرم إنما هو المعنى، فليسموه بأي اسم شاؤوا، فإنهم ما داموا آخذين بالقول، لان فلانا قاله دون النبي (صلى الله عليه وسلم)، فهم عاصون لله تعالى، لانهم اتبعوا من لم يأمرهم الله تعالى باتباعه.
ويكفي من بطلان التقليد أن يقال لمن قلد إنسانا بعينه: ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدته، بل قلد من هو بإقرارك أعلم منه وأفضل منه ؟ فإن قال بتقليد كل عالم كان قد جعل الدين هملا، وأوجب الضدين معا في الفتيا، هذا ما لا انفكاك منه، لكن شغبوا وأطالوا، فوجب تقصي شغبهم، إذ كتابنا هذا كتاب تقص
لا كتاب إيجاز وبالله تعالى نتأيد.
قال أبو محمد: ونحن ذاكرون - إن شاء الله - ما موه به المتأخرون لنصر قولهم في التقليد، ومبينون بطلان كل ذلك بحول الله وقوته، ثم نذكر البراهين الضرورية الصحاح على إبطال التقليد جملة، وبالله تعالى التوفيق.
فمما شغبوا به أن قال بعضهم: روي أن ابن مسعود كان يأخذ بقول عمر.
قال أبو محمد: وهذا باطل، لان خلاف ابن مسعود لعمر أشهر من أن يتكلف إيراده، وإنما وافقه كما يتوافق أهل الاستدلال فقط، وما نعرف رواية أن ابن مسعود رجع إلى قول عمر إلا رواية ضعيفة لا تصح في مسألة واحدة، وهي في مقاسمة الجد الاخوة مرة إلى الثلث ومرة إلى السدس، ولعل نظائر هذه الرواية لو تقصيت لم تبلغ أربع مسائل، وإنما جاء فيها أيضا أن ابن مسعود أنفذها بقول عمر، لان عمر كان الخليفة.
وابن مسعود أحد عماله فقط.
وأما اختلافهما فلو تقصي لبلغ أزيد من مائة مسألة، وقد ذكرنا بعد هذا بنحو ورقتين سند الحديث المذكور من اتباع ابن مسعود عمر، وبينا وهي تلك الرواية وسقوطها.
ومما حضرنا ذكره من خلاف ابن مسعود لعمل في أعظم قضاياه، وأشهرها ما حدثناه محمد بن سعيد النباتي، نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن بشار، نا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن زيد بن وهب قال: انطلقت أنا ورجل إلى عبد الله بن مسعود نسأله عن أم الولد، وإذا هو يصلي ورجلان قد اكتنفاه عن يمينه وعن يساره، فلما صلى سألاه الخطاب.
فقال لاحدهما: من أقرأك ؟ قال: أقرأنيها أبو عمرة أو أبو حكم المزني، وقال الآخر: أقرأنيها عمر بن الخطاب، فبكى حتى بل الحصا بدموعه وقال له: اقرأ كما أقرأك عمر، فإنه كان للاسلام حصنا حصينا يدخل الناس فيه

ولا يخرجون منه، فلما أصيب عمر انثلم الحصن فخرج الناس من الاسلام، قال: سألته عن أم الولد، فقال: تعتق من نصيب ولدها.
قال أبو محمد: فهذا ابن مسعود بهذا السند العجيب الذي لا مغمز فيه - بعد موت عمر على ما في نص هذا الحديث من ذكره موت عمر - يخالفه في أمهات الاولاد، فلا يراهن حرائر من رأس مال سادتهن، ولكن من نصيب أولادهن كما تعتق على كل أحد أمه إذا ملكها.
ومع ذلك أن ابن مسعود - إلى أن مات - كان يطبق في الصلاة، وعمر كان يضع اليدين على الركبتين وينهى عن التطبيق وكان ابن مسعود يضرب الايدي لوضعها على الركب، وابن مسعود يقول في الحرم هي يمين، وعمر يقول: هي طلقة واحدة.
وكان ابن مسعود يقول في رجل زنى بامرأة ثم تزوجها: لا يزالان زانيين ما اجتمعا، وعمر يأمر الزاني أن يتزوج التي زنى بها، وابن مسعود يقول بيع الامة طلاقها، وعمر لا يرى بيعها طلاقا ويخالفه في قضايا كثيرة جدا.
والعجب كله ممن يحتج بالكذب، من أن ابن مسعود كان يقلد عمر، وهم لا يرون تقليد عمر ولا ابن مسعود في كل أقوالهما، وإنما يقلدون من لم يقلده قط ابن مسعود ولا رآه، كأبي حنيفة ومالك والشافعي وحسبك بمقدار من يحتج بمثل هذا في الغباوة والجهل، وقوله مخالف لما احتج به.
وكيف يجوز أن يقلد ابن مسعود عمر ؟ وقد حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، حدثنا مسلم بن الحجاج، نا إسحاق بن راهويه، نا عبدة بن سليمان، نا الاعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة الاسدي، عن عبد الله بن مسعود قال: لقد علم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أني أعلمهم بكتاب الله عزوجل، ولو أعلم أن أحدا أعلم به مني لرحلت إليه، قال شقيق: فجلست في حلق أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) فما سمعت أحدا يرد ذلك عليه ولا يعيبه.
وبه إلى مسلم: نا أبو كريب، نا يحيى بن آدم، نا قطبة عن الاعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: والذي لا إله غيره ما من كتاب الله تعالى سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت، وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحدا هو أعلم بكتاب الله تعالى مني تبلغه الابل لركبت إليه.
قال أبو محمد: وكان ابن مسعود من الملازمة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) بحيث قال أبو موسى الاشعري: كنا حينا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) من كثرة دخولهم ولزومهم له.
وقال ابن مسعود البدري - وقد قام عبد الله بن مسعود - ما أعلم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ترك بعده أعلم بما أنزل الله تعالى من هذا القائم، فقال أبو موسى: لقد كان يشهد إذا غبنا، ويؤذن له إذا حججنا.
روينا هذا السند المذكور إلى مسلم قال: حدثناه أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني، نا يحيى بن آدم، نا قطبة، عن الاعمش، عن مالك بن الحارث، عن أبي الاحوص أنه سمع أبا مسعود وأبا موسى يقولان ذلك.
قال أبو محمد: فمن كانت هذه صفته وهو يخبر أنه ما من آية في القرآن إلا وهو يعلم فيما أنزلت، أيجوز أن يظن به ذو عقل أنه يقلد أحدا من الناس ؟ هذا محال ممتنع لا سبيل إليه، وإنما يقلد من يجهل الحكم في النازلة، فيأخذ بقول من يقدر أنه يعلمه، وكيف يمكن أن يقلد ابن مسعود عمر ؟ وقد كان كما حدثنا محمد بن سعيد، نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن بشار بندار، نا محمد بن عدي، وأبو داود الطيالسي كلاهما عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيد الله بن عبد الله بن مسعود، عن مسروق قال: ما شهدت أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا بالاخاذ فالاخاذة تكفي الواحد والاثنين والثلاثة، والاخاذة تكفي الفئام من الناس، وإني أتيت عبد الله بن مسعود وعمر وعثمان فوجدت عبد الله كفاني، فلزمت عبد الله.

قال أبو محمد: فقد بين مسروق أنه جربهم فوجد ابن مسعود لا يقصر عن عمر في العلم، بل كلام مسروق يدل على تقدم ابن مسعود عنده على عمر في العلم، ولذلك اكتفى به عنه، وقد ذكرنا في باب الاجماع من كتابنا هذا - في باب من ادعى أن الاجماع هو إجماع أهل المدينة - صفة منزلة ابن مسعود عند عمر في العلم في كتابه إلى أهل الكوفة.
واحتج بعضهم بأن قال: لا بد من التقليد، لانك تأتي الجزار فتقلده في أنه سمى الله عزوجل، وممكن أن يكون لم يسم، وهكذا في كل شئ.
قال أبو محمد: المحتج بهذا إما كان بمنزلة الحمير في الجهل، وإما كان رقيق الدين لا يستحي ولا يتقي الله عزوجل، فيقال له: إن كان ما ذكرت عندك تقليدا، فقلد كل فاسق وكل قائل، وقلد اليهود والنصارى فاتبع دينهم، لانا كذلك نبتاع اللحم منهم.
ونصدقهم أنهم سموا الله تعالى على ذبائحهم، كما نبتاعه من المسلم الفاضل، ولا فرق، ولا فضل بين ابتياعه من زاهد عابد، وبين ابتياعه من يهودي فاسق، ولا أثرة ولا فضيلة لذبيحة العالم الورع على ذبيحة الفاسق الفاجر، فقلد كل قائل على ظهر الارض وإن اختلفوا، كما نأكل ذبيحة كل جزار من مؤمن أو ذمي.
فإن قال بذلك خرج عن الاسلام وكفى مؤونته، ولزمه ضرورة ألا يقلد عالما بعينه دون من سواه، كما أنه لا يقلد جزارا بعينه دون من سواه، وإن أبى من ذلك فقد أبطل احتجاجه بتقليد الجزار وغيره، وسقط تمويهه.
ولكن ليعلم الجاهل أن هذا الذي شغب به هذا المموه - من تصديقنا الجزار والصانع وبائع سلعة بيده -: ليس تقليدا أصلا، وإنما صدقناهم لان النص أمر بتصديقهم، وقد سأل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن هذه بعينها فقالوا: يا رسول الله إنه يأتي قوم حديثو عهد بالكفر بذبائح لا ندري أسموا الله تعالى عليها فقال (صلى الله عليه وسلم): سموا الله أنتم وكلوا أو كما قال (صلى الله عليه وسلم).
وأمر تعالى بأكل طعام أهل الكتاب وذبائحهم فإن أتونا في تقليد رجل بعينه بنص على إيجاب تقليده أو بإجماع على إيجاب تقليده صرنا إليه واتبعناهم، ولم يكن ذلك تقليدا حينئد، لان البرهان كان يكون حينئذ قد قام على وجوب اتباعه.

واحتج بعضهم بأن قال: روي عن عمر أنه قال: إني لاستحي من الله عزوجل أن أخالف أبي بكر.
قال أبو محمد: وهذا يبطل من خمسة أوجه: أولها: أن هذا حديث مكذوب محذوف، لا يصح منفردا هذا اللفظ كما أوردوه، وإنما جاء بلفظ إذا حقق فهو حجة عليهم، وسنورده عند الفراغ بذكر حججهم، ثم الابتداء بالاحتجاج عليهم في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
والثاني: أن خلاف عمر لابي بكر أشهر من أن يجهله من له أقل علم بالروايات، فمن ذلك خلافه إياه في سبي أهل الردة، سباهم أبو بكر، وبلغ الخلاف عن عمر له أن نقض حكمه في ذلك، وردهن حرائر إلى أهليهن إلا من ولدت لسيدها منهن، ومن جملتهن كانت خولة الحنفية أم محمد بن علي.
وخالفه في قسمة الارض المفتتحة، فكان أبو بكر يرى قسمتها، وكان عمر يرى إيقافها ولم يقسمها.
وخالفه في المفاضلة أيضا في العطاء، فكان أبو بكر يرى التسوية، وكان عمر يرى المفاضلة وفاضل.
ومن أقرب ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع، ثنا عمر بن عبد الملك، ثنا محمد ابن بكر، ثنا سليمان بن الاشعث، حدثنا محمد بن داود بن سفيان، وسلمة بن شبيب قالا: ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: قال عمر: إني إن لا أستخلف فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يستخلف، وإن استخلف فإن أبا بكر قد استخلف.
قال ابن عمر: فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبا بكر فعلمت أنه لا يعدل برسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحدا.
وأنه غير مستخلف.
قال أبو محمد: فهذا نص خلاف عمر لابي بكر فيما ظن أنه فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) وقد خالفه في فرض الجد، وفي غير ذلك كثيرا بالاسانيد الصحاح، المبطلة لقول من قال: إنه كان لا يخالفه.
والثالث: أن هذا لو صح كما أوردوه وموهوا به - وهو لا يصح كذلك - لكان غير موجب لتقليد مالك وأبي حنيفة، ولا يتمثل في عقل ذي عقل، إن في تقليد عمر لابي بكر ما يوجب تقليد أهل زماننا لمالك وأبي حنيفة فبطل تمويههم بما ذكروا.
والرابع: أن المحتج بما ذكرنا عن عمر ينبغي أن يكون أوقح الناس، وأقلهم حياء، لانه احتج بما يخالفه، وانتصر بما يبطله، لانه لا يستحي مما استحى منه عمر، لان المحتجين بهذا يخالفون أبا بكر وعمر في أكثر أقوالهم، وقد ذكرنا خلاف المالكيين لما رووا في الموطأ عن أبي بكر وعمر فيما خلا من كتابنا، فأغنى عن ترداده، وبينا أنهم رووا عن أبي بكر ست قضايا خالفوه منها من خمس، وخالفوا عمر في نحو ثلاثين قضية مما رووا في الموطأ فقط.
فهلا استحيا من هذا المحتج مما استحيا منه عمر ويلزمه أن يقلد أبا بكر وعمر، وإلا فقد أقر على نفسه بترك الحق، إذ ترك قول عمر، وهو يحتج بقوله في إثبات التقليد.
والخامس: أنه لو صح أن عمر قلد - وقد أعاذه الله من ذلك - لكان هو وسائر من خالفه من الصحابة، وأبطلوا التقليد راجيا أن ترد أقوالهم إلى النص، فلايها شهد النص أخذ به، والنص يشهد لقول من أبطل التقليد.
واحتجوا بما حدثناه محمد بن سعيد، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا الخشني، ثنا بندار، ثنا غندر، ثنا شعبة، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن الشعبي، أن جندبا ذكر له قول في مسألة من الصلاة لابن مسعود، فقال جندب: إنه لرجل ما كنت لادع قوله لقول أحد من الناس.
وبه إلى الشعبي عن مسروق قال: كان ستة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) يفتون الناس: ابن مسعود، وعمر بن الخطاب، وعلي، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وأبو موسى الاشعري، وكان ثلاثة منهم يدعون قولهم لقول ثلاثة: كان عبد الله يدع قوله لقول عمر، وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي، وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لوجوه: أحدها: أن راوي هذين الخبرين جابر الجعفي وهو كذاب، فسقط الاحتجاج به.
وايضا فكذب هذا الحديث الاخير بين ظاهر، بما هو في الشهرة والصحة كالشمس، وهو أن خلاف ابن مسعود لعمر أشهر من أن يتكلف إيراده، وخلاف أبي موسى لعلي كذلك، ومن جملة خلافه إياه امتناعه من بيعته ومن حضور مشاهده، وليس في الخلاف أعظم من هذا، وكذلك خلاف زيد لابي - في القراءات والفرائض وغير ذلك - أشهر من كل مشتهر، فوضح كذب جابر في روايته هذه.
والثالث: أنه لو صح كل هذا لكان عليهم لا لهم، لان الذين كان هؤلاء المذكورون يقلدون بزعمهم، هم غير الذين يقلد هؤلاء المتأخرون اليوم، فلا حجة لمن قلد مالكا وأبا حنيفة والشافعي فيمن قلد عمر وعليا وأبيا، بل هو حجة عليهم لانه ان كان تقليد هؤلاء حقا فتقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة باطل، وإن كان تقليد من تقدم باطلا فتقليد من تأخر أبطل، فمن المحال الباطل أن يقلد ابن مسعود عمر أو غيره مع ما حدثناه المهلب، عن ابن مناس، عن ابن مسرور، عن يونس بن عبد الاعلى، عن ابن وهب قال: سمعت سليمان يحدث عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، أنه كان يقول: اغد عالما أو متعلما ولا تغدون إمعة، قال ابن وهب: فذكر لي سفيان، عن أبي الزعراء، عن أبي الاحوص، عن ابن مسعود: إنه الامعة فيكم الذي يحقب دينه الرجال.
واحتجوا أيضا بالاعمى يدل على القبلة وبالراكب في السفينة يدله الملاحون على القبلة، وعلى الوقت.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لانه من باب قبول الخبر، لا من باب قبول الفتيا في الدين بلا دليل، ولا من باب تحريم أمر كان مباحا، أو إيجاب فرض لم يكن واجبا أو إسقاط فرض قد وجب، وهذا الذي ذكروا ليس تقليدا، وإنما هو إخبار، والناس مجمعون على قبول خبر الواحد في أشياء كثيرة منها الهدية، وحال إدخال الزوج على الزوجة، وقبول قول المرأة الذمية والمسلمة إنها طاهر فيستباح وطؤها بعد تحريمه بالحيض وغير ذلك، فقبول الاعمى لخبر المخبر له عن الوقت والقبلة - إذ وقع به تصديقه - أمر قد قام الدليل على صحته، بل أكثر هذه الامور توجب العلم الضروري بالجبلة، وبطل أن يكون ما ذكروا تقليدا، واحتج بعضهم بقول الله تعالى: * (واتبع ملة إبراهيم حنيفا) *.
قال أبو محمد: وهذا من القحة ما هو ! لان الشئ الذي يأمر به الله ليس تقليدا، ولكنه برهان ضروري، والتقليد إنما هو اتباع من لم يأمرنا عزوجل باتباعه.
وإنما التقليد الذي نخالفهم فيه أخذ قول رجل ممن دون النبي صلى الله عليه وسلم، لم يأمرنا ربنا باتباعه، بلا دليل يصحح قوله، لكن فلانا قاله فقط، فهذا هو الذي يبطل، ولكن من لا يتقي الله عزوجل - ممن قد بهره الحق وعجز عن نصره الباطل، وأراد استدامة سوقه، ولا يبالي إلى ما أداه ذلك - أوقع على اعتقاد الحق الذي قد ثبت برهانه اسم التقليد، فسمى الانقياد لخبر الواحد تقليدا، وسمى الاجماع تقليدا وسمى اتباع النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما أمر باتباعه من ملة إبراهيم عليه السلام تقليدا.
فإن أرادوا منا تصحيح هذه المعاني فهي صحاح، لقيام النص بوجوبها، وإن أرادوا أن يتطرقوا بذلك إلى تقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة فذلك حرام وباطل، وليس في اتباع ملة إبراهيم ما يوجب اتباع مالك وأبي حنيفة والشافعي، لانهم غير إبراهيم المأمور باتباعه، ولم نؤمر قط باتباع هؤلاء المذكورين، وإنما هذا بمنزلة من سمى الخنزير كبشا، وسمى الكبش خنزيرا فليس ذلك مما يحل الخنزير ويحرم الكبش.
وكذلك إنما نحرم اتباع من دون النبي (صلى الله عليه وسلم) بغير دليل، ونوجب اتباع ما قام الدليل على وجوب اتباعه، ولا نلتفت إلى من مزج الاسماء، فسمى الحق تقليدا، وسمى الباطل اتباعا، وقد بينا قبل وبعد أن الآفة العظيمة إنما دخلت على الناس - وتمكن بهم أهل الشر والفسق والتخليط والسفسطة ولبسوا عليهم دينهم - فمن قبل اشتراك الاسماء واشتباكها على المعاني الواقعة تحتها.
ولذلك دعونا في كتبنا إلى تمييز المعاني، وتخصيصها بالاسماء المخلفة، فإن وجدنا في اللغة اسما مشتركا حققنا المعاني التي تقع تحته، وميزنا كل معنى منها بحدوده التي هي صفاته التي لا يشاركه فيها سائر المعاني، حتى يلوح البيان، فيهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، والله تعالى يلبس على من على الناس وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا الخشني، ثنا بندار، ثنا غندر ثشعبة، ثنا عمرو بن مرة، عن حصين، عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحابنا أنهم كانوا إذا صلوا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) فدخل الرجل أشاروا إليه فقضى ما سبق به، فكانوا من بين قائم وراكع وقاعد ومصل مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، حتى جاء معاذ فقال: لا أراه على حال إلا كنت معه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إن معاذا قد سن لكم سنة فكذلك فافعلوا.
قال أبو محمد: وهذا حديث كما ترى، لم يذكر ابن أبي ليلى من حدثه به، والضمير الذي في كانوا لا بيان فيه أنه راجع إلى المحدثين لابن أبي ليلى، بل لعله راجع إلى الصحابة غير المحدثين لابن أبي ليلى، ولا تؤخذ الحقائق بالشكوك.
وحتى لو صح هذا الحديث لما كانت فيه حجة لوجهين: أحدهما: أن الذين يقلدونهم غير معاذ، فلو صح تقليد معاذ ما كان ذلك إلا مبطلا لتقليد مالك وأبي حنيفة والشافعي.
والثاني: أن فعل معاذ لم يصر سنة إلا حيث أمر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وحين أمر به، لا بفعل معاذ، ويكون حينئذ معنى أن معاذا سن سنة، أي فعل فعلا جعله الله لكم سنة، فإنما صار سنة حين أمر به عليه السلام فقط، مع أنه حديث مرسل لا يحتج به.
وقد روينا عن معاذ ما يبطل ظن الظان في هذا الحديث، وما يبطل به التقليد، وهو ما حدثنا محمد بن سعيد النباتي، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن بشار بندار، ثناغندر، ثنا شعبة قال: أنبأني عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن سليمة يقول قال معاذ بن جبل: يا معشر العرب كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم، وزلة عالم، وجدال المنافق بالقرآن ؟ فسكتوا، فقال معاذ: أما العالم فإن اهتدى فتقلدوه دينكم، وإن افتتن فلا تقطعوا منه أناتكم، فإن المؤمن - أو قال المسلم - يفتتن ثم يتوب، وأما القرآن فإن له منارا كمنار الطريق لا يخفى على أحد، فما علمتم منه فلا تسألوا عنه أحدا، وما لم تعلموا فكلوه إلى عالمه، وأما الدنيا فمن جعل الله غناه في قلبه فقد أفلح، ومن لا فليست بنافعته دنياه.
قال أبو محمد: رحم الله معاذا، لقد صدع بالحق، ونهى عن التقليد في كل شئ، وأمر باتباع ظاهر القرآن، وألا يبالي من خالف فيه، وأمر بالتوقف فيما أشكل.
وهذا نص مذهبنا.
وبالله تعالى التوفيق.
ومن العجب احتجاجهم بهذا الخبر، ولا يدري أحد لماذا ؟ فإن كانوا أرادوا بذلك تقليد معاذ، وأنه كان يسن السنن، فقد جاء عنه أنه كان يورث المسلم من الكافر فيقلدوه، وإلا فقد لعبوا بدينهم، وإن كانوا يحتجون به في إيجاب تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي، فهذا حمق ما سمع بأظرف منه وأين تقليد معاذ من تقليد هؤلاء.
واحتج بعضهم بقوله تعالى: * (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) *.
وبقوله تعالى: * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) * وبقوله تعالى: * (وكلا وعد الله الحسنى) * وبقوله عزوجل: * (والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار) * فقالوا من أثنى الله تعالى عليه فقوله أبعد من الخطأ وأقرب من الصواب.
واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم): عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وبما روي عنه (صلى الله عليه وسلم) من الحديث الذي فيه: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وقالوا: إن الصحابة من رضي الله عنهم شهدوا الوحي فهم أعلم بما شهدوا وقال بعضهم،: قول الخلفاء من الصحابة حكم وحكمهم لا يجب أن ينقض واحتجوا بقوله تعالى: * (اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * وبما روى من: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.
قال أبو محمد: كل هذا لا حجة لهم فيه، بل الآيات التي ذكرنا حجة عليهم، أما قوله تعالى: * (محمد رسول الله والذين معه أشداء) * وقوله: * (لقد رضي الله عن المؤمنين) * الآية، وقوله تعالى: * (وكلا وعد الله الحسنى) * وقوله تعالى: * (والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار) * فإنما هذا كله ثناء عليهم، رضوان الله عليهم، ولم ننازع في الثناء عليهم ولله الحمد، بل نحن أشد توقيرا لهم، وأعلم بحقوقهم من هؤلاء المحتجين بهذه الآية في غير مواضعها.
لاننا نحن إنما تركنا أقوال الصحابة لقول محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي يجب من حقه (صلى الله عليه وسلم) عليهم، كالذي يجب من حقه علينا ولا فرق، والذي ألزموا طاعته كما ألزمناها سواء بسواء، وهم إنما تركوا أقوال الصحابة الذين احتجوا في فضلهم بما ذكرنا، لقول أبي حنيفة ومالك والشافعي.
وإنما قلنا نحن: ليس وجوب الثناء عليهم بموجب أن يقلدوا، إذ قد ذكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن أبا بكر وعمر - اللذين هما أفضل رجالهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - قد أخطأ.
كما حدثنا حمام بن أحمد، ثنا عبد الله بن إبراهيم، ثنا أبو زيد المروزي، نا الفربري، نا البخاري، نا إبراهيم بن موسى، نا هشام بن يوسف، أن ابن جريج أخبرهم، عن ابن أبي مليكة، أن عبد الله بن الزبير أخبرهم، أنه قدم ركب من بني تميم عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد بن زرارة، قال عمر: بل أمر الاقرع بن حابس.
فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، قال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك: * (يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) * حتى انقضت، يعني الآية.
قال البخاري: ثنا محمد بن مقاتل، ثنا وكيع، عن نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة قال: قال ابن الزبير: فكان عمر بعد إذ حدث النبي (صلى الله عليه وسلم) بحديث حدثه كأخي السرار، لم يسمعه حتى يستفهمه.
قال البخاري: نا بسرة بن صفوان ابن جميل، نا نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيران يهلكان: أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وكما حدثنا عبد الله بن ربيع، عن محمد بن إسحاق بن السليم، عن ابن الاعرابي، عن أبي داود، وقال: نا محمد بن يحيى بن فارس، نا عبد الرزاق - كتبته من كتابه - قال: أنا معمر، عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عبس قال: كان أبو هريرة يحدث أن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: إني رأيت الليلة رؤيا، فعبر لها أبو بكر، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) أصبت بعضا وأخطأت بعضا فقال: أقسمت يا رسول الله - بأبي أنت - لتحدثني بالذي أخطأت فيه، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): لا تقسم.
قال أبو محمد: فمن أخطأ فغير جائز أن يؤخذ قوله بغير برهان يصححه، والنبي (ص) إذا كان منه - على طريق إرادة الخبر - ما لا يوافق إرادة ربه تعالى، لم يقره تعالى على ذلك حتى يبين له، وأما أبو بكر رضي الله عنه فقد رام من النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يبين له وجه خطئه فيما عبر، فلم يفعل (صلى الله عليه وسلم).
وأما ما تعلقوا به بما روي عنه (صلى الله عليه وسلم) من قوله لابي بكر وعمر: لولا اختلافكما على ما خالفتكما فأول ذلك أن هذا خبر لا يصح، ولو صح لكان حجة في إبطال تقليدهما، لان الامر الموجود فيهما منع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الاخذ برأيهما في أمور الدنيا، ففرض علينا اتباعه (صلى الله عليه وسلم)، وألا نأخذ بقولهما في أمور الشريعة، وهذا بين.
وأما قوله (صلى الله عليه وسلم): عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين فقد علمنا أنه (صلى الله عليه وسلم) لا يأمر بما لا يقدر عليه، ووجدنا الخلفاء الراشدين بعده عليه السلام قد اختلفوا اختلافا شديدا، فلا بد من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها: إما أن نأخذ بكل ما اختلفوا فيه، وهذا ما لا سبيل إليه، ولا يقدر عليه، إذ فيه الشئ وضده ولا سبيل إلى أن يورث أحد الجد دون الاخوة بقول أبي بكر وعائشة، ويورثه الثلث فقط، وباقي ذلك للاخوة على قول عمر، ويورثه السدس وباقيه للاخوة على مذهب علي.
وهكذا في كل ما اختلفوا فيه، فبطل هذا الوجه، لانه ليس في استطاعة الناس أن يفعلوه فهذا وجه.
أو يكون مباحا لنا بأن نأخذ بأي ذلك شيئا، وهذا خروج عن الاسلام، لانه يوجب أن يكون دين الله تعالى موكولا إلى اختيارنا، فيحرم كل واحد منا ما يشاء، ويحل ما يشاء، ويحرم أحدنا ما يحله الآخر، وقول الله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * وقوله تعالى: * (تلك حدود الله فلا تعتدوها) * وقوله تعالى: * (ولا تنازعوا) * يبطل هذا الوجه الفاسد، ويوجب أن ما كان حراما حينئذ فهو حرام إلى يوم القيامة، وما كان واجبا يومئذ فهو واجب إلى يوم القيامة، وما كان حلالا يومئذ فهو حلال إلى يوم القيامة.
وأيضا فلو كان هذا لكنا إذا أخذنا بقول الواحد منهم فقد تركنا قول الآخر منهم، ولا بد من ذلك فلسنا حينئذ متبعين لسنتهم، فقد حصلنا في خلاف الحديث المذكور، وحصلوا فيه شاؤوا أو أبوا.
ولقد أذكرنا هذا مفتيا كان عندنا بالاندلس وكان جاهلا، فكانت عادته أن يتقدمه رجلان، كان مدار الفتيا عليهما في ذلك الوقت، فكان يكتب تحت فتياهما: أقول بما قاله الشيخان، فقضى أن ذينك الشيخين اختلفا، فلما كتب تحت فتياهما ما ذكرنا، قال له بعض من حضر: إن الشيخين اختلفنا ؟ فقال: وأنا أختلف باختلافهما.
قال أبو محمد: فإذ قد بطل هذان الوجهان فلم يبق إلا الوجه الثالث، وهو أخذ ما أجمعوا عليه، وليس ذلك إلا فيما أجمع عليه سائر الصحابة رضوان الله عليهم معهم، وفي تتبعهم سنن النبي (صلى الله عليه وسلم) والقول بها.
وأيضا فإن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إذا أمر باتباع سنن الخلفاء الراشدين لا يخلو ضرورة من أحد وجهين: إما أن يكون (صلى الله عليه وسلم) أباح أن يسنوا سننا غير سننه، فهذا ما لا يقوله مسلم، ومن أجاز هذا فقد كفر وارتد وحل دمه وماله لان الدين كله إما واجب أو غير واجب، وإما حرام وإما حلال، لا قسم في الديانة غير هذه الاقسام أصلا، فمن أباح أن يكون للخلفاء الراشدين سنة لم يسنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقد أباح أن يحرموا شيئا كان حلالا على عهده (صلى الله عليه وسلم) إلى أن مات، أو أن يحلوا شيئا حرمه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أو أن يوجبوا فريضة لم يوجبها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أو أن يسقطوا فريضة فرضها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولم يسقطها إلى أن مات، وكل هذه الوجوه من جوز منها شيئا فهو كافر مشرك بإجماع الامة كلها بلا خلاف، وبالله تعالى التوفيق، فهذا الوجه قد بطل ولله الحمد.
وأما أن يكون أمر باتباعهم في اقتدائهم بسنته (صلى الله عليه وسلم)، فهكذا نقول ليس يحتمل هذا الحديث وجها غير هذا أصلا.

وقال بعضهم: إنما نتبعهم فيما لا سنة فيه.
قال أبو محمد: وإذ لم يبق إلا هذا فقد سقط شغبهم، وليس في العالم شئ إلا وفيه سنة منصوصة، وقد بينا هذا في باب إبطال القياس من كتابنا هذا، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بما أخبرناه عبد الله بن ربيع قال: نا محمد بن معاوية، نا أحمد ابن شعيب، أنا محمد بن بشار، نا أبو عمر، نا سفيان - هو الثوري - عن الشيباني - هو أبو إسحاق - عن الشعبي، عن شريح أنه كتب إلى عمر يسأله فكتب إليه: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن في كتاب الله ولا سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولم يقض فيه الصالحون، فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرا لك، والسلام عليكم.
قال أبو محمد: وهذا عليهم لا لهم، لان عمر لم يقل بما قضى به بعض الصالحين وإنما قال: ما قضى به الصالحون فهذا هو إجماع جميع الصالحين، وفي هذا الحديث إباحة عمر ترك الحكم بالقياس واختياره لذلك.
ويقال لهم - في احتجاجهم بما روي من الامر بإلتزام سنة الخلفاء الراشدين المهديين - هذا حجة عليكم، لان سنة الخلفاء الراشدين المهديين كلهم - بلا خلاف منهم - ألا يقلدوا أحدا، وألا يقلد بعضهم بعضا، وأن يطلبوا سنن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيث وجدوها فينصرفوا إليها ويعملوا بها، وقد أنكر عمر رضي الله عنه أشد الانكار على رجل سأله عن مسألة في الحج، فلما أفتاه قال له الرجل، هكذا أفتاني رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فضربه عمر بالدرة وقال له: سألتني عن شئ قد أفتى فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعلي أخالفه.
رويناه من طريق عبد الرزاق، وقال عمر رضي الله عنه: إن الرأي منا هو التكليف، وإن الرأي من النبي (صلى الله عليه وسلم) كان حقا.
قال أبو محمد: فمن كان متبعا لهم فليتبعهم في هذا الذي اتفقوا فيه من ترك التقليد.
وفيما أجمعوا عليه من اتباع سنن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وفيما نهوا عنه من التكلف، فإنه يوافق بذلك الحق وقول الله تعالى، وقول رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وهؤلاء الخلفاء قد خالفهم من في عصرهم، فقد خالف عمر زيد وعلي وغيرهما وخالف عثمان عمر، وخالف عمر أبا بكر في قضايا كثيرة، فما منهم أحد قال لمن خالفه: لم خالفتني وأنا إمام ؟ فلو كان تقليدهم واجبا لما تركوا أحدا يعمل بغير الواجب، وأما تمويه من احتج بقوله تعالى: * (وأولي الامر منكم) * فهذه الآية مبطلة للتقليد إبطالا لا خفاء به، وهي أعظم الحجج عليهم، لانه تعالى إنما أمر بطاعتهم فيما نقلوه إلينا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا في غير ذلك، وإن قالوا: بل فيما قالوه باجتهادهم، قلنا: قد سلف منا إبطال هذا الظن، ثم لو سلم ذلك لما وجب ذلك إلا في جميعهم، لا في بعضهم، لان الله عزوجل لم يقل وبعض أولي الامر منكم، وإنما أمرنا باتباع أولي الامر منا، وهم أهل العلم كلهم فإذا أجمعوا على أمر ما فلا خلاف في وجوب اتباعهم، وقد بين تعالى ذلك في الآية نفسها، ولم يدعنا في لبس، فقال تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) * فأسقط تعالى عند التنازع الرد إلى أولي الامر، وأوجب الرد إلى القرآن والسنة فقط، وإنما أمر بطاعة أولي الامر منا ما لم يكن تنازع وهذا هو قولنا، ولله الحمد.
وأما الرواية: إن معاذا سن لكم فقد قلنا: إنه حديث لا يصح سنده، ولو صح لما كانت لهم فيه حجة، لان الدخول مع الامام كيد وجد ليس من قبل أن معاذا فعله، لكن من قبل أن النبي (صلى الله عليه وسلم) صوبه وأمر به فقوله عليه السلام: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وإلا فقد فعل معاذ في تطويل الصلاة أمرا غضب منه (صلى الله عليه وسلم) ونهاه عن العودة، فلو كان ما فعل معاذ سنة لكان تطويله الصلاة إذ أم الناس سنة، وهذا خطأ، فصح أنه ليس فعل معاذ ولا غيره سنة إلا حتى يأمر بها النبي (صلى الله عليه وسلم) ويصححها، وهذا قولنا لا قولهم.

وأما الرواية: اقتدوا باللذين من بعدي فحديث لا يصح، لانه مروي عن مولى لربعي مجهول وعن المفضل الضبي وليس بحجة، كما حدثنا أحمد بن محمد ابن الجسور، نا أحمد بن الفضل الدينوري، نا محمد بن جبير، نا عبد الرحمن بن الاسود الطفاوي، نا محمد بن كثير الملائي، نا المفضل الضبي، عن ضرار بن مرة، عن عبد الله بن أبي الهذيل العتري، عن جدته عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد.
وكما حدثناه أحمد بن قاسم قال: نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم بن أصبغ قال: حدثني قاسم بن أصبغ، نا إسماعيل بن إسحاق القاضي، نا محمد بن كثير، أنا سفيان الثوري، عن عبد الملك بن عمير، عن مولى الربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد.
وأخذناه أيضا عن بعض أصحابنا، عن القاضي أبي الوليد بن الفرضي، عن ابن الدخيل، عن العقيلي، نا محمد بن إسماعيل، نا محمد بن فضيل، نا وكيع، نا سالم المرادي، عن عمرو بن هرم، عن ربعي بن حراش، وأبي عبد الله رجل من أصحاب حذيفة عن حذيفة.
قال أبو محمد: سالم ضعيف، وقد سمى بعضهم المولى فقال: هلال مولى ربعي، وهو مجهول لا يعرف من هو أصلا، ولو صح لكان عليهم لا لهم، لانهم - نعني أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي - أترك الناس لابي بكر وعمر، وقد بينا أن أصحاب مالك خالفوا أبا بكر مما رووا في الموطأ خاصة في خمسة مواضع، وخالفوا عمر في نحو ثلاثين قضية مما رووا في الموطأ خاصة، وقد ذكرنا أيضا أن عمر وأبا بكر اختلفا، وأن اتباعهما فيما اختلفا فيه متعذر ممتنع لا يقدر عليه أحد.
وإنما الصحيح في هذا الباب ما ناولنيه بعض أصحابنا، وحدثنيه أيضا يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، كلاهما عن أبي الوليد عبد الله بن يوسف القاضي، عن ابن الدخيل، عن العقيلي، نا محمد بن إسماعيل، نا إسماعيل بن أبي أويس، عن عبد الله ابن أبي عبد الله البصري، وثور بن يزيد الديلي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): اعقلوا أيها الناس قولي، فقد بلغت، وقد تركت فيكم أيها الناس ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا: كتاب الله وسنة نبيه، وبه إلى العقيلي، ثنا موسى ابن إسحاق، ثنا محمد بن عبيد المحاربي، ثنا صالح بن موسى الطلحي، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إني قد خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما أبدا ما أخذتم بهما أو عملتم بهما: كتاب الله وسنتي، ولم يتفرقا حتى يردا علي الحوض.
وأما الرواية: أصحابي كالنجوم فرواية ساقطة، وهذا حديث حدثنيه أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس العذري قال: أنا أبو ذر عبد بن أحمد بن محمد الهروي الانصاري قال: أنا علي بن عمر بن أحمد الدارقطني، ثنا القاضي أحمد كامل بن كامل خلف، ثنا عبد الله بن روح، ثنا سلام بن سليمان، ثنا الحارث بن غصين، عن الاعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.
قال أبو محمد: أبو سفيان ضعيف، والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي، وسلام بن سليمان يروي الاحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا شك، فهذا رواية ساقطة من طريق ضعيف إسنادها.
وكتب إلي أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري أن هذا الحديث روي أيضا من طريق عبد الرحمن بن زيد العمي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، ومن طريق حمزة الجزري، عن نافع، عن ابن عمر قال: وعبد الرحيم بن زيد وأبوه متروكان، وحمزة الجزري مجهول.
وكتب إلي النمري، حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد، أن أبا عبد الرحمن بن مفرج حدثهم قال: ثنا محمد بن أيوب الصموت قال: قال لنا البزار: وأما ما يروى عن النبي (صلى الله عليه وسلم): أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فهذا كلام لا يصح عن النبي (صلى الله عليه وسلم).
قال أبو محمد: فقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلا، بلا شك أنها مكذوبة، لان الله تعالى يقول في صفة نبيه (صلى الله عليه وسلم): * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * فإذا كان كلامه عليه السلام في الشريعة حقا كله، فهو من الله تعالى بلا شك، وما كان من الله تعالى فلا اختلاف فيه، بقوله تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *.

وقد نهى تعالى عن التفرق والاختلاف بقوله: * (ولا تنازعوا) * فمن المحال أن يأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) باتباع كل قائل من الصحابة رضي الله عنهم، وفيهم من يحلل الشئ، وغيره منهم يحرمه، ولو كان ذلك لكان بيع الخمر حلالا اقتداء بسمرة بن جندب، ولكان أكل البرد للصائم حلالا اقتداء بأبي طلحة، وحراما اقتداء بغيره منهم، ولكان ترك الغسل من الاكسال واجبا اقتداء بعلي وعثمان وطلحة وأبي أيوب وأبي بن كعب، وحراما اقتداء بعائشة وابن عمر، ولكان بيع الثمر قبل ظهور الطيب فيها حلالا اقتداء بعمر، حراما اقتداء بغيره منهم، وكل هذا مروي عندنا بالاسانيد الصحيحة، تركناها خوف التطويل بها، وقد بينا آنفا إخباره عليه السلام أبا بكر بأنه أخطأ.
وقد كان الصحابة يقولون بآرائهم في عصره (صلى الله عليه وسلم)، فيبلغه ذلك فيصوب المصيب ويخطئ المخطئ، فذلك بعد موته (صلى الله عليه وسلم) أفشى وأكثر، فمن ذلك فتيا أبي السنابل لسبيعة الاسلمية بأن عليها في العدة آخر الاجلين، فأنكر عليه السلام ذلك، وأخبر أن فتياه باطل.
وقد أفتى بعض الصحابة - وهو (صلى الله عليه وسلم) حي - بأن على الزاني غير المحصن الرجم، حتى افتداه والده بمائة شاة ووليدة - فأبطل (صلى الله عليه وسلم) ذلك الصلح وفسخه، وذكر (صلى الله عليه وسلم) السبعين ألفا من أمته يدخلون الجنة وجوههم كالقمر ليلة البدر، فقال بعض الصحابة: هم قوم ولدوا على الاسلام فخطأ النبي (صلى الله عليه وسلم) قائل ذلك.
وقالوا - إذ نام النبي (صلى الله عليه وسلم) عن صلاة الصبح -: ما كفارة ما صنعنا ؟ فأنكر النبي (صلى الله عليه وسلم) قولهم ذلك، وأراد طلحة بحضرة عمر بيع الذهب بالفضة نسيئة، فأنكر ذلك عمر، وأخبر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) حرم ذلك.
وباع بلال صاعين من تمر بصاع من تمر، فأنكر النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك، وأمره بفسخ تلك البيعة، وأخبره أن هذا عين الربا، وباع بعض الصحابة بريرة واشترط الولاء، فأنكر النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك، ولام عليه، وقال عمر لاهل هجرة الحبشة: نحن أحق برسول الله (صلى الله عليه وسلم) منكم، فكذبه النبي صلى الله عليه وسلم) في ذلك.
وقال جابر: كنا نبيع أمهات الاولاد ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) حي بين أظهرنا، وأخبر أبو سعيد أنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر والنبي (صلى الله عليه وسلم) حي فذكر الاقط والزبيب، وإنما فرض (صلى الله عليه وسلم) التمر والشعير فقط، وأمر سمرة النساء بإعادة الصلاة أيام الحيض، وقال قوم من الصحابة بحضرة النبي (صلى الله عليه وسلم): أما أنا فأفيض على رأسي - يعنون في غسل الجنابة - كذا وكذا مرة فأنكر ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم) وكان علي يغتسل من المذي والنبي (صلى الله عليه وسلم) حي، فأنكر ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم).
وقال أسيد وغيره - إذ رجع سيف أبي عامر الاشعري عليه - بطل جهاده، وقالوا ذلك في عامر بن الاكوع، فكذبهم النبي (صلى الله عليه وسلم) في ذلك، وأفتى عمر المجنب في السفر ألا يصلي شهرا بالتيمم، ولكن يترك الصلاة حتى يجد الماء وقال عمر للنبي (صلى الله عليه وسلم) أن يناول القدح أبا بكر وهو عن يسار النبي (صلى الله عليه وسلم) فأبى ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم) وأخبر أن الواجب غير ذلك، وهو أن يناوله الايمن فالايمن، وكان عن يمينه أعرابي، وتمعك عمار في التراب كما تتمعك الدابة، فأنكر ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم).
وأنكر النبي (صلى الله عليه وسلم) على عمر نداءه إياه - إذ أخر (صلى الله عليه وسلم) العتمة وقال له: ما كان لكم أن تنذروا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال أسامة - إذ قتل الرجل بعد أن قال لا إله إلا الله -: يا رسول الله إنما قالها تعوذا، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): هلا شققت عن قلبه وأنكر عليه قتله إياه وخطأه في تأويله حتى قال أسامة: وددت أني لم أكن أسلمت إلا ذلك اليوم، وقال خالد: رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فأنكر ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأنكر فعله ببني جذيمة.
وتنزه قوم منهم عن أشياء فعلها (صلى الله عليه وسلم) فأنكر ذلك عليه السلام وغضب منه وتأول عمر أنه أخطأ إذ قبل وهو صائم، فخطأه عليه السلام في تأويله ذلك، وأخبر أنه لا شئ عليه فيه، وتأول الانصاري تقبيله عليه السلام وهو صائم وإصباحه جنبا وهو صائم، أن ذلك خصوص له عليه السلام، فخطأه (صلى الله عليه وسلم) في ذلك وغضب منه، وتأول عدي في الخيط الابيض أنه عقال أبيض، والنبي (صلى الله عليه وسلم) حي.
وأعظم من هذا كله تأخر أهل الحديبية عن الحلق والنحر والاحلال، إذ أمرهم بذلك (صلى الله عليه وسلم)، حتى غضب وشكاهم إلى أم سلمة أم المؤمنين وكل ما ذكرنا محفوظ عندنا بالاسانيد الصحاح الثابتة، وأخبرني أحمد بن عمر، ثنا أبو ذر، ثنا زاهر بن أحمد السرخسي، أنا أبو محمد بن زنجويه بن محمد النيسابوري، أنا محمد بن إسماعيل البخاري، نا أبو النعمان، نا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، قال سعيد - هو ابن المسيب -: قضى عمر في الابهام وفي التي تليها بخمس وعشرين، وقال سعيد: ووجد بعد ذلك في كتاب آل حزم في الاصابع عشرا عشرا، فأخذ بذلك.
أخبرني محمد بن سعيد: نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، نا الخشني، ثنا بندار، ثنا يحيى القطان، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن مسروق قال: سألت ابن عمر عن نقض الوتر، فقال: ليس أرويه عن أحد إنما هو شئ أقوله برأيي.
قال أبو محمد: فكيف يجوز تقليد قوم يخطئون ويصيبون ؟ أم كيف يحل لمسلم يتقي الله تعالى أن يقول - في فتيا الصاحب - مثل هذا لا يقال بالرأي، وكل ما ذكرناه فقد قالوه بآرائهم وأخطؤوا فيه.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، نا الخشني، ثنا بندار، نا شعبة قال: سمعت أبا إسحاق يحدث عن رجل من بني سليم قال: سمعت ابن عباس يقول في العزل: إن كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال فيه شيئا فهو كما قال، وأما أنا فأقول برأيي: هو زرعك إن شئت سقيته وإن شئت أعطشته.
وقال علي: في مسيره إلى صفين: هو رأي رأيته، ما عهد إلي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيه بشئ وقال عمر: الرأي منا هو التكلف، وقال معاوية في بيع الذهب بالذهب متفاضلا، هذا رأي، وقال ابن مسعود في قصة بروع بنت واشق: أقول فيها برأيي فإن كان حقا فمن الله، وإن كان باطلا فمني، والله ورسوله بريئان، وقال عمران ابن الحصين - وذكر متعة الحج - قال فيها رجل برأيه ما شاء، يعني عمر.
وقال عبيدة لعلي: رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة، وقال أبو هريرة في حديث النفقة - وزاد في آخره زيادة - فقيل له: هذا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ قال: لا هذا من كيس أبي هريرة، فها هم رضي الله عنهم يعترفون أنهم يقولون برأيهم، وأنهم قد يخطئون في ذلك، فصح بذلك بطلان قول من ذكرنا، وحدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد، بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، نا أبو كريب وإسحاق بن راهويه، قال إسحاق أنا عيسى بن يونس، وقال أبو كريب: نا أبو معاوية واللفظ له، قالا جميعا عن الاعمش عم مسلم - وهو أبو الضحى عن مسروق، عن عائشة قالت: ترخص رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في أمر استنزه عنه ناس من الناس، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم) فغضب حتى بان الغضب في وجهه، ثم قال: ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه فوالله لانا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية.
قال أبو محمد: ورواه مسلم أيضا عن زهير بن حرب، عن جرير، عن الاعمش بسنده فقال: بلغ ذلك ناسا من أصحابه.
حدثنا أحمد بن عمر، نا علي بن الحسين بن فهر، نا الحسن بن علي بن شعبان، وعمر ابن محمد بن عراك قالا: نا أحمد مروان، نا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي، ثنا حرملة عن ابن وهب: سئل مالك عمن أخذ بحديثين مختلفين، حدثه بهما ثقة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أتراه من ذلك في سعة ؟ قال: لا والله حتى يصيب الحق، وما الحق إلا في واحد، قولان مختلفان يكونان صوابا ما الحق وما الصواب إلا في واحد.
قال أبو محمد: وهذا حجة على المالكيين القائلين بتقليد من احتجوا به من الصحابة وقد اختلفوا.
فصح بكل ما ذكرنا أنه لا يحل اتباع فتيا صاحب ولا تابع، ولا أحد دونهم إلا أن يوجبا نص أو إجماع، ويبطل بذلك قول من قال، فيما رواه عن الصاحب بخلاف، ما صح عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، مثل هذا لا يقال بالرأي وصح أنه قد يخطئ المرء منهم فيقول برأيه ما يخالف ما صح عن النبي (صلى الله عليه وسلم).
واحتجوا بمنع عمر من بيع أمهات الاولاد بما روي من سنة وضع الايدي على الركب في الصلاة ومن قوله في جوابه لعمرو بن العاص، إذ قال له وقد احتلم: خذ ثوبا غير ثوبك، فقال: لو فعلتها لصارت سنة.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم في شئ منه.
أما بيع أمهات الاولاد فقد خالف في ذلك ابن مسعود، وعلي وزيد بن ثابت وابن عباس - عمر، فرأوا بيعهن، فما الذي جعل عمر أولى بالتقليد من هؤلاء ؟ وإنما منعنا من بيعهن لنص ثابت أوجب ذلك، فقد ذكرناه في كتاب الايصال إلى فهم الخصال.
وقال أصحابنا: إنما منعنا من ذلك لاجماع الامة على المنع من بيعهن إذا حملن من وسادتهن، ثم اختلفوا في بيعهن بعد الوضع، فقلنا نحن: لا نترك ما اتفقنا عليه إلا بنص أو إجماع آخر طردا لقولنا باستصحاب الحال.
وأما وضع الايدي على الركب، فقد صح من طريق أبي حميد الساعدي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) مسندا وضع الايدي على الركب في الركوع.
وأما قول عمر: لفعلتها لكانت سنة، فليس على ما ظن الجاهل المحتج بذلك في التقليد، ولكن معنى ذلك: لو فعلتها لاستن بذلك الجهال بعدي: فكره عمر أن يفعل شئ يلحقه أحد من الجهال بالسنن، كما قال طلحة، إذ رأى عليه ثوبا مصبوغا وهو محرم: إنكم قوم يقتدى بكم فربما رآك من يقول: رأيت على طلحة ثوبا مصبوغا وهو محرم، أو كلاما هذا معناه.
فعلى هذا الوجه قال عمر: لو فعلتها لكانت سنة، لا على أن يسن في الدين ما لم ينزل به وحي، وقد كانوا رضي الله عنهم يفتون بالفتيا فيبلغهم عن النبي (صلى الله عليه وسلم) خلافها، فيرجعون عن قولهم إلى الحق الذي بلغهم، وهذا لا يحل غيره.
وقد فعل أبو بكر نحو ذلك في الجدة، وبحث عن فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) في ذلك، وفعل ذلك عمر في الاستئذان ثلاثا حتى قال له أبي بن كعب: يا عمر لا تكن عذابا على أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم).
فقال عمر: سبحان الله إنما سمعت شيئا فأردت أن أتثبت.
ورجع عن إنكاره لقول أبي موسى، ولم يعرف حكم إملاص المرأة حتى سأل عنه فوجده عند المغيرة بن شعبة، وكذلك أمر المجوس، وباع معاوية سقاية من ذهب بأكثر من وزنها، حتى أنكر ذلك عليه عبادة بن الصامت، وبلغه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) نهى عن ذلك، وأراد عمر قسمة مال الكعبة، فقال له أبي: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يفعل ذلك فأمسك عمر.
وكان يرد الحيض حتى يطهرن ثم يطفن بالبيت حتى بلغه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) خلاف ذلك فرجع عن قوله، وكان يرد المفاضلة في دية الاصابع، حتى بلغه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) المساواة بينها، فرجع عن قوله إلى ذلك وترك قوله.
وكان لا يرى توريث المرأة في دية زوجها، حتى بلغه عن النبي (ص) خلاف ذلك، فترك قوله ورجع إلى ما بلغه، وكان ينهى عن متعة الحج، حتى وقف على أنه (صلى الله عليه وسلم) أمر بها، فترك قوله ورجع إلى ما بلغه، وأمر برجم مجنونة زنت، حتى أخبره علي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال كلاما معناه: إن المجنون قد رفع عنه القلم، فرجع عن رجمها.
ونهى عن التسمي بأسماء الانبياء، فأخبره طلحة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كناه أبا محمد فأمسك، ولم يتماد على النهي عن ذلك، وأراد ترك الرمل في الحج، ثم ذكر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) فعله، فرجع عما أراد من ذلك، ومثل هذا كثير.
وإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يخبر أن أصحابه قد يخطئون في فتياهم، فكيف يسوغ لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول إنه (صلى الله عليه وسلم) يأمر باتباعهم فيما قد خطأهم فيه ؟ وكيف يأمر بالاقتداء بهم في أقوال قد نهاهم عن القول بها، وكيف يوجب اتباع من يخطئ ؟ ولا ينسب مثل هذا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا فاسق أو جاهل، لا بد من إلحاق إحدى الصفتين به، وفي هذا هدم الديانة، وإيجاب اتباع الباطل، وتحريم الشئ وتحليله في وقت واحد، وهذا خارج عن المعقول وكذب على النبي (صلى الله عليه وسلم) ومن كذب عليه ولج في النار.
نعوذ بالله من ذلك.
وأما قولهم: إن الصحابة رضي الله عنهم شهدوا الوحي فهم أعلم به، فإنه يلزمهم على هذا أن التابعين شهدوا الصحابة فهم أعلم بهم، فيجب تقليد التابعين.
وهكذا قرنا فقرنا، حتى يبلغ الامن إلينا فيجب تقليدنا.
وهذه صفة دين النصارى في اتباعهم أساقفتهم، وليست صفة ديننا والحمد لله رب العالمين.
وقد قلنا ونقول: إن كل ما احتجوا به مما ذكرنا لو كان حقا لكان عليهم لا لهم، لانه ليس في تقليد الصحابة ما يوجب تقليد مالك وأبي حنيفة والشافعي، فمن العجب العجيب أنهم يقلدون مالكا وأبا حنيفة والشافعي، فإذا أنكر ذلك عليهم احتجوا بأشياء يرومون بها إيجاب تقليد الصحابة، وهم يخالفون الصحابة خلافا عظيما فهل يكون أعجب من هذا ونعوذ بالله من الخذلان.
وليس من هؤلاء الفقهاء المذكورين أحد إلا وهو يخالف كل واحد من الصحابة في مئين من القضايا، وفي عشرات منها، فقد بطل ما نصروا، وتركوا ما حققوا، وقد ذكرنا في باب الاجماع إبطال قول من قال باتباع الصاحب الذي لا مخالف له يعرف من الصحابة.
وبينا هنالك أنهم الناس لذلك، وأنهم قد
خالفوا أحكاما كثيرة لعمر، بحضرة المهاجرين والانصار، لم يرو عن واحد منهم إنكار لفعله ذلك كإضعافه الغرم على حاطب في ناقة المزني وغير ذلك، وهذا حكم مشتهر منتشر لم يعارضه فيه أحد من الصحابة، ولا روي عن أحد منهم إنكارا لذلك، فقد تركوه هم يشهدون أن حكم الصاحب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة هو الحق، فقد أقروا على أنفسهم أنهم تركوا الحق، وأنهم أصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
ويقال لهم أيضا: كيف كان حال حكم الصحابي الواحد الذي لا يعرف له مخالف قبل أن يشتهر وينتشر ؟ أكان لازما أن يؤخذ به ؟ أو كان غير لازم ؟ فإن قال: كان غير لازم، أوجب أن ذلك الحكم في الدين وجب بعد أن كان غير واجب، وهذا كفر وتكذيب لله عزوجل في قوله: * (اليوم أكملت لكم دينكم) *.
وإن قال: كان لازما، فقد أوجب لزومه قبل الانتشار، وسقط شرطهم الفاسد في الانتشار، وهذا القول الفاسد يوجب أن دين الله مترقب فإن انتشر لزم، وإن لم ينتشر لم يلزم، وهذا كفر بارد، وشرك وسخف.
وبالله تعالى التوفيق.
وهم يخالفون عمر وزيد بن ثابت في قضاء عمر في الضلع بحمل، وفي الترقوة بحمل، وفي قضاء زيد في العين القائمة بمائة دينار، ولا يعرف له من الصحابة مخالف، حتى تحكم بعضهم فلم يستحي من الكذب فقال: إنما كان ذلك منهما على وجه الحكومة.
قال أبو محمد: وهذه دعوى فاسدة لا دليل لهم على صحتها أصلا.
ولا يعجز عن مثلها أحد، ويقال لهم مثل ذلك في تقويم الدية بألف دينار وبعشرة آلاف درهم، أو باثني عشر ألف درهم ولا فرق.
وخالفوا ابن عمر وأبا برزة في قولهما: إن كل متبايعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا بأبدانهما عن مكان البيع، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة.

وخالف مالك ابن عمر وابن عباس في قولهما: إن استطاعة الحج ليست إلا الزاد والراحلة.
وخالفوا جابر بن عبد الله في نهيه عن بيع المصاحف، ولا يعرف لابن عمر ولا لابن عباس ولا لجابر في هاتين المسألتين، مخالف من الصحابة.
وخالف مالك والشافعي أم سلمة وعثمان بن أبي العاص في قولهما: إن أقصى أمد النفاس أربعون يوما ولا يعرف لهما في ذلك مخالف من الصحابة.
وخالف مالك ابن مسعود وأبا الدرداء والزبير وقدامة بن مظعون في إباحة نكاح المريض، وجواز ميراثه للمرأة، ولا يعلم لهم من الصحابة مخالف في ذلك.
وخالفوا أبا بكر وعمر وخالد بن الوليد وسويد بن مقرن في إقادتهم من اللطمة، ولا يعلم لهم في ذلك مخالف من الصحابة.
قال أبو محمد: وقد أبطلنا في باب الاجماع قول من قال باتباع الاكثر، وهذه فصول يوجب تكرارنا إياها أنها تقليد صحيح، فتدخل في باب التقليد وادعوا هم أنها إجماع، فوجب التنبيه عليها أيضا في باب الاجماع لذلك.
وقد بينا هنالك، وفي باب الاخبار من كتابنا هذا بطلان قول من قال: محال أن يغيب حكم النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الاكثر ويعلمه الاقل، وذكر حديث أبي هريرة: إن أخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالاسواق، وإن إخواني من الانصار كان يشغلهم القيام على أموالهم، وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول لله (صلى الله عليه وسلم).
وهذا الحديث وإن كان منقولا من طريق الآحاد، فإن البرهان يضطر إلى تصديقه، لانه لا شك عند كل ذي عقل ومعرفة بالاخبار، أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا في ضنك شديد من العيش.
وكانوا مكدودين في تجارة يضربون لها آفاق بلاد العرب على خشونتها وقلة أموالها، وفي نخل يعاونونه بالنص والكد الشديد، فإذا وجد أحدهم فرجة حصر وسمع.
فبطل قول من قال: إنه لا يجوز أن يغيب حكمه عليه السلام عن الاكثر ويعلمه الاقل.
وصح ضد ذلك لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فنقول لمن قال باتباع الاكثر: إنه يلزمك أن تعدهم كلهم، ثم تعرف من قال بأحد القولين، وتعرف عدد من قال بالقول الثاني، وهذا أمر لم يفعلوه قط في شئ من مسائلهم، وقد قال تعالى: * (يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) *.
ونقول لهم أيضا: هلا قلتم بالاكثر عددا في الشهود إذا اختلفوا ؟ على أن عليا يقول بذلك، فأين تقليدكم الامام الصحابي ؟ وأين قولكم باتباع الاكثر عددا ؟ فإن قالوا: النص منعنا من ذلك، وتركوا قولهم إن الصحابي أعلم منا، ولا شك أن عليا رضي الله عنه قد عرف من النص الوارد في الشهادات كالذي عرف مالك وأبو حنيفة والشافعي، مع أن النص لم يرد في عدد الشهود إلا في الزنى والطلاق والديون فقط.
وقد رجع الصحابة من قول إلى قول، وخالف كل إمام منهم الامام الذي كان قبله، فقد كانت الضوال أيام عمر مهملة لا تمس، ثم رأى عثمان بيعها، وقد ذكرنا ما خالف فيه عمر أبا بكر قبل هذا، وقد نهى عثمان عن القران، فلبى علي بهما معا قاصدا معلنا بخلافه، فلما قال له في ذلك، قال له علي: ما كنت لاترك سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) لقول أحد.
وحدثني أحمد بن عمر بن عمر، نا أبو ذر، نا زاهر بن أحمد، أنا زنجويه بن محمد، نا محمد بن إسماعيل البخاري، نا محمد بن يوسف، نا سفيان، عن أسلم المنقري، عن
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه قال: قلت لابي بن كعب لما وقع الناس في أمر عثمان: أبا المنذر، ما المخرج من هذا الامر ؟ قال كتاب الله تعالى ما استبان لك فاعمل به.
وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه.
قال أبو محمد: فليقلدوا عليا وأبيا في هذا، فإنهما على الحق المبين فيه الذي لا يحل خلافه أصلا.
وهؤلاء عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود، يرون رد فضلات المواريث على ذوي الارحام، وزيد بن ثابت وحده يرى رد الفضل على بيت المال دون ذوي الارحام، وإن كان خصمنا مالكيا أو شافعيا فقد ترك قول الائمة من الصحابة وقول الجمهور منهم، وأخذ بقول زيد وحده، وكذلك فعلوا في الاقراء فقالوا هي الاطهار، وجمهور الصحابة على أنه الحيض، والاقل على أنها الاطهار.

فإن قالوا: قد جاء النص: إن زيدا أفرضكم قيل هذا الحديث لا يصح ولو صح لكان عليكم، لان في ذلك الحديث: ومعاذ أفقهكم فقلدوا معاذا في الفتيا، وفي قتل المرتد دون أن يستتا ب، وفي توريث المؤمن من الكافر، وفي أشياء كثيرة خالفتموه فيها.
واحتج بعضهم بقوله تعالى: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) *.
وبقوله تعالى: * (لتكونوا شهداء على الناس) *.
قال أبو محمد: وهذا لا يوجب التقليد، لانه قد بينا أنهم لم يتفقوا إلا على ما لا خلاف فيه، وعلى الاخذ بسنن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وإنكار رأيهم إذا كان فيه خلاف للسنن، وعلى ما قد خالفه هؤلاء الحاضرون، كالمساقات إلى غير أجل.
لكن نقركم ما أقركم الله تعالى ونخرجكم إذا شئنا، وغير ذلك مما قد كتبناه في موضعه فقط، وقد وجدنا أبا أيوب ترك صلاة الركعتين بعد العصر طول مدة عمر،
فلما مات رجع يصليهما، فسأله عن ذلك سائل فقال: كان عمر يضرب الناس عليهما.
وقال ابن عباس قولا فقيل له: أين كنت عن هذا أيام عمر ؟.
فقال: هبته.
حدثنا بذلك يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود، ثنا ابن دحيم، ثنا إبراهيم بن حماد، ثنا إسماعيل بن إسحاق، ثنا علي بن عبد الله بن المديني، ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن مسلم بن الزهري، عن عبد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه كان عند ابن عباس فذكر عول الفرائض، فأنكره ابن عباس، فقال له زفر بن أوس: ما منعك يا ابن عباس أن تشير بهذا الرأي على عمر ؟.
قال هبته، وقد روينا عن ابن عباس من طرق صحيحة أنه هم أن يسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فبقي سنة كاملة لا يقدم على أن يسأله عن ذلك هيبة له.
وروينا عنه أنه قال: كنت أضرب الناس مع عمر على الركعتين بعد العصر، ثم روينا عنه القول بصلاتهما بعد عمر، كما حدثنا محمد بن سعيد النباتي، ثنا أحمد بن عبد البصير، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا الخشني، ثنا بندار، ثنا غندر، ثنا شعبة عن أبي حمزة قال: قال لي ابن عباس: لقد رأيت عمر يضرب الناس على الصلاة بعد العصر، وقال ابن عباس: صل إن شئت ما بينك وبين أن تغيب الشمس.
وقد ذكر أبو موسى حديث الاستئذان، فتهدده عمر بضرب ظهره وبطنه، فصح بهذا أن سكوتهم قد يكون تقبة للاسلام، أو لئلا يقع تنازع واختلاف.
وقد يكون تثبتا، أو لما شاء الله عزوجل، وليس قول أحد لا سكوته حجة إلا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإن قوله وسكوته حجة قائمة على ما أعلم.
واحتج بعضهم بأن حكم الامام لا ينقض، لان أبا بكر ساوى بين الناس وأن عمر فاضل بينهم، فلم يرد أحد ما أعطاه أبو بكر.
قال أبو محمد: وهذا خطأ لان ما ذكروا من مساواة أبي بكر ومفاضلة عمر ليس حكما، وإنما هي قسمة مال موكولة إلى اجتهاد الامام، مباح له أن يفاضل ومباح له أن يسوي وليس هذا شريعة تحليل ولا تحريم ولا إيجاب.
وقد دون عمر ولم يدون أبو بكر، وبالجملة فقد يخطئ الامام غيره، واتباع من يجوز أن يخطئ هو الحكم بالظن.
وقد نهى الله تعالى عن اتباع الظن.
وأما وجوب طاعة الائمة فذلك حق كل إمام عدل كان أو يكون إلى يوم القيامة وإنما ذلك فيما وافق طاعة الله عزوجل وكان حقا، وليس ذلك في أن يشرعوا لنا قولا لم يأتنا به نص ولا إجماع، وبالجملة فكل ما تكلموا به في هذا المكان، وموهوا به عن المسلمين، وسودوا كتبهم بما سيطول الندم عليه يوم القيامة، فهم أترك الناس وأشدهم خلافا للامة الذين أوجبوا تقليدهم فيه، وقد بينا ذلك في غير مكان من كتبنا.
وبالله تعالى التوفيق.
واحتج بعضهم بما حدثنا المهلب، ثنا ابن مناس، ثنا ابن مسرور، ثنا يوسف بن عبد الاعلى، ثنا ابن وهب، أخبرني من سمع الاوزاعي يقول: حدثني عبدة بن أبي لبابة أن ابن مسعود قال: ألا لا يقلدن رجل رجلا دينه، إن آمن آمن، وإن كفر كفر فإن كان مقلدا لا محالة، فليقلد الميت ويترك الحي فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة.
قال أبو محمد: وهذا باطل لان ابن وهب لم يسم من أخبره ولا لقي عبدة ابن أبي لبابة بن مسعود، مع أنه كلام فاسد، لان الميت أيضا لا تؤمن عليه الفتنة إذا أفتي بما أفتي، ولا فرق بينه وبين الحي في هذا، هذا على أن بعض من يخالفنا في التقليد عكس هذا الامر برأيه، وهو المعروف بالباقلاني قال: من قلد فلا يقلد إلا الحي، ولا يجوز تقليد الميت.
فكان هذا طريقا من الضلالة جدا، لانه دعوى فاسدة بلا برهان، وقول، مع سخفه، ما نعلم قاله قبله أحد.
أخبرني أحمد بن عمر العذري، ثنا أحمد بن محمد بن عيسى البلوي غندر، ثنا خلف بن قاسم، ثنا ابن الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي، ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النضري الدمشقي، ثنا أبو مسهر، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن السائب بن زيد بن أخت نمر أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: إن حديثكم شر الحديث.
إن كلامكم شر الكلام.
فإنكم قد حدثتم الناس حتى قيل: قال فلان وقال فلان، ويترك كتاب الله، من كان منكم قائما فليقم بكتاب الله وإلا فليجلس.
فهذا قول عمر لافضل قرن على ظهر الارض، فكيف لو أدرك ما نحن فيه من ترك القرآن وكلام محمد (صلى الله عليه وسلم)، والاقبال على ما قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وحسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
واحتج بعضهم في ذلك بقبول قول المقومين لاثمان المتلفات، والشهادة على أمثالها، وهذا من باب الشهادة والخبر لا من باب التقليد، لان الله عزوجل قد أمرنا بالانتصاف من المعتدي بمثل ما اعتدى فيه، فلم نأخذ عن الشاهد، بأن هذا الشئ مماثل لقيمة كذا، شريعة حرمها الله ولا أوجبها، ولكنا علمناه عالما بتلك السلعة أو تلك الجرحة، فقبلنا شهادته في ذلك على الظالم، وليس هذا من باب، قال مالك وأبو حنيفة: هذا حرام وهذا واجب وهذا مباح، فيما لا نص فيه ولا إجماع، وقد أمرنا بالشهادة على الحقوق، وبقبولها وبالحكم بها، وكل ما أمرنا به فليس تقليدا، فينبغي لمن اتقى الله عزوجل ألا يلبس على المؤمنين، فليس في كتمان العلم وتحريف الكلم عن مواضعه، أشد ولا أضر من أن يضل المرء جليسه، الذي أحسن الظن به، وقعد إليه ليعلمه دين الله عزوجل، يسمي له باسم التقليد المحرم شريعة حق، ثم يدس له معها التقليد المحرم، فيكون كمن دس السم في العسل، والبنج في الكعك، فيتحمل إثمه وإثم من اتبعه إلى يوم القيامة.

وقد قال بعض أهل الجهل: لو كلفنا النظر لضاعت أمورنا.
قال أبو محمد: وهذا كلام فاسد من وجوه: أحدها: أنه يقال له: بل لو كلفنا التقليد لضاعت أمورنا، لاننا لم نكن ندري من نقلد من الفقهاء المفتين، وهم دون الصحابة أزيد من مائتي رجل معروفة أسماؤهم.
وفي الحقيقة لا يدري عددهم إلا الله تعالى، إذ بالضرورة ندري أنه قد كان في كل قرية كبيرة للمسلمين مفت، وفي كل مدينة من مدائنهم عدة من المفتين، والمسلمون قد ملؤوا الارض من السند إلى آخر الاندلس وسواحل البربر، ومن سواحل اليمن إلى ثغور أذربيجان وإرمينية، فما بين ذلك، والحمد لله رب العالمين.
وأيضا فإن النظر به صلاح الامور لا ضياعها، وأيضا فإن كل امرئ منا مكلف أن يعرف ما يخصه من أمر دينه على ما بينا قبل، مما يجب على كل أحد من معرفة أحكام صلاته وصيامه، وما يلزمه وما يحرم عليه، وما هو مباح له وهذا هو النظر نفسه، ليس النظر شيئا غير تعريف ما أمر الله تعالى به ورسوله (صلى الله عليه وسلم) في هذه اللوازم لنا، ولو كلفنا الله تعالى إضاعة أمورنا للزمنا ذلك، كما لزم بني إسرائيل قتل أنفسهم إذا أمروا بذلك، وهذا أعظم من إضاعة الامور، وقد أمرنا بهرق الخمور، وطرح الجيف، ورمي السمن الذائب يموت فيه الفأر، وحرم علينا الربا، وفي هذا كله إضاعة أموال عظيمة لها قيم كثيرة لو أبيحت لكانت من أنفس المكاسب، وأوفرها، فكيف وليس في النظر إضاعة أمر بل فيه حفظ كل شئ وتوفية كل الامور حقها.
ولله الحمد.
وقد صح عن الصحابة أنهم قالوا بآرائهم، صح ذلك عن أبي بكر وابن مسعود وعمر وعلي وغيرهم، وكلهم يقول: أقول في هذا برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني، وزاد بعضهم، ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان، وفعل
ذلك أيضا من بعدهم، فإذا صح ذلك صح أنهم تبرؤوا من ذلك الرأي، ولم يروه على الناس دينا، فحرام على كل من بعدهم أن يأخذ من فتاويهم بشئ يتدين به، إلا أن يصح به نص عن الله تعالى، أو عن رسوله (صلى الله عليه وسلم).
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي، نا أحمد بن خالد، ثنا أبو علي الحسن بن أحمد قال: حدثني محمد بن عبيد بن حساب، نا حماد بن زيد عن المثنى بن سعيد رده إلى أبي العالية قال: قال العباس، ويل للاتباع من عثرات العالم.
قيل له: كيف ذلك ؟ قال: يقول العالم من قبل رأيه، ثم يبلغه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فيأخذ به، وتمضي الاتباع بما سمعت.
قال حماد بن زيد: حدثنا النعمان بن راشد قال: كان الزهري ربما أملى علي حتى إذا جاء الرأي ووقفته عليه فأكتبه فيقول: اكتب إنه رأي ابن شهاب، وإنه لعلك أن يبلغك الشئ فيقول ما قاله ابن شهاب إلا بأثر، فليعلم أنه رأيي.
قال أبو محمد: لم يدعا رضي الله عنهما من البيان شيئا إلا أتيا به، فأعلمك ابن عباس أن كاتب رأي العالم والآخذ به له الويل، وأن العالم يقول برأيه: وأنه يلزمه ترك ذلك الرأي إذا سمع عن النبي (صلى الله عليه وسلم) خلافه، وأعلمك الزهري أنه يقول برأيه، وينهاك عن أن تقول فيما أتاك عنه: إنه لم يقله إلا بأثر، وهكذا يفعل هؤلاء الجهال فإنهم يقولون: لم يقل هذا مالك وفلان وفلان إلا بعلم كان عندهم عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، فيكذبون على النبي (صلى الله عليه وسلم) ويحكمون بالظن ويتركون اليقين، نعوذ بالله من الخذلان.
واحتج بعضهم في إثبات التقليد بغريبة جروا فيها على عادتهم في الاحتجاج بكل ما جرى على أفواههم، وذلك الحديث الذي فيه: إن ابني كان عسيفا على هذا قالوا فقد كان الناس يفتون ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) حي.
قال أبو محمد: وهذا أعظم حجة عليهم في إبطال التقليد، لان المفتين اختلفوا في تلك المسألة ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) حي، فأفتى بعضهم على الزاني غير المحصن بالرجم، وأفتى بعضهم عليه بجلد مائة وتغريب عام، فكان هذا التنازع لما وقع قد وجب فيه الرد إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فرد الامر إليه فحكم بالحق وأبطل الباطل.
وهكذا الامر الآن، قد اختلف المفتون حتى الآن في تلك المسألة بعينها فقال أبو حنيفة: عليه الجلد ولا تغريب عليه حرا كان أو عبدا، وقال مالك: عليه الجلد والتغريب إلا أن يكون عبدا، وقلنا نحن وأصحاب الشافعي: عليه الجلد والتغريب على العموم، عبدا كان أو غير عبد، فوجب أن يرد هذا التنازع الذي بيننا إلى القرآن والسنة، فوجدنا نص السنة يشهد لقولنا فوجب الانقياد له، فهذا الحديث يبطل التقليد جملة، ونحن لم ننكر فتيا العلماء

للمستفتين، وإنما أنكرنا أن يؤخذ بها برهان يعضدها، ودون رد لها إلى نص القرآن والسنة، لان ذلك يوجب الاخذ بالخطأ، وإذا كان في عصره (صلى الله عليه وسلم) من يفتي بالباطل فهم من بعد موته (صلى الله عليه وسلم) أكثر وأفشى، فوجب بذلك ضرورة أن نتحفظ من فتيا كل مفت، ما لم تستند فتياه إلى القرآن والسنة والاجماع.
واحتجوا أيضا فقالوا: إن الصحابة رضي الله عنهم شهدوا أسباب الاوامر منه (صلى الله عليه وسلم)، وما خرج منها على رضا، وما خرج منها على غضب، فوجب اتباعهم في فتاويهم لذلك.
قال أبو محمد: فيقال لهم وبالله التوفيق: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنما بعث مبينا على كل من يأتي إلى يوم القيامة، لا على أصحابه وحدهم، فكل سبب من غضب أو رضى يوجب حكما فقد نقلوه إلينا، ولزمهم أن يبلغوه فرضا بقوله عليه السلام: ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع فقد نقلوا كل
ما شهدوه من ذلك إذا لم يكونوا في سعة من كتمانه، وقد أعاذهم الله من ذلك، ولو كتموا شيئا مما يوجب حكما في الشريعة، مما سمعوا أو مما شاهدوا، لاستحقوا أقبح الصفات، وقد أعاذهم الله من ذلك ونزههم عنه، فلم يقتصروا رضي الله عنهم على فتاويهم دون تبليغ منهم لما سمعوا منه (صلى الله عليه وسلم) وشاهدوه منه، كما نقلوا إلينا غضبه على الانصاري الذي أراد أن يقول بالخصوص في قبلة الصائم، وغضبه على معاذ في تطويله الصلاة إذا كان إماما، وغضبه على من تنزه عما فعل (صلى الله عليه وسلم)، وغضبه على اليهود إذ قال: والذي اصطفى موسى على البشر، وإعراضه عن عمار إذ تخلق، وعن عائشة وفاطمة إذ علقتا السترين المزينين، وسروره بقول مجزز المدلجي في أسامة بن زيد، وسروره باجتماع الصدقة بين يديه إذ أمر بالصدقة إذ أتاه القوم المجتابون للثمار، وإشاحته بوجهه المكرم، (صلى الله عليه وسلم) وأفضل التحيات، إذ ذكر النار، أورده مسلم في كتاب الزكاة، وحياءه (صلى الله عليه وسلم) من الانصارية المستفتية في غسل المحيض، ووصفه الجبة التي على البخيل إذا أراد أن يتصدق، وإشارته على كعب بن مالك بيده في إسقاط النصف من دينه على ابن أبي حدرد، وتعجبه بنظره وهيئة وجهه من العباس إذ احتمل المال الكثير دون أن يكون منه (صلى الله عليه وسلم) في ذلك كلام، وضربه (صلى الله عليه وسلم) بعود في يده بين الماء والطين في حديث أبي موسى، ومثل هذا كثير جدا.
فلم يكن له (صلى الله عليه وسلم) هيئة ولا حال يوجب حكما من كراهة أو نهي أو إباحة أو ندب أو أمر، إلا وقد نقلت إلينا، لان كل ذلك مما بين به (صلى الله عليه وسلم) مراد ربه تعالى، ولو كتموا ذلك عنا لما بلغوا كما لزمهم، ولو اقتصروا على تبليغ بعض ذلك دون بعض لدخلوا في جملة من يكتم العلم، ولسقطت عدالتهم بذلك، وقد نزههم الله تعالى عن هذا وحفظ دينه، وقضى بتبليغه إلينا جيلا بعد جيل إلى أن يأتي بعض آيات ربك: * (يوم لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) *.
وقد علموا رضي الله عنهم أن فتاويهم لا تلزمنا، وإنما يلزمنا قبول ما نقلوا إلينا عن نبينا (صلى الله عليه وسلم)، وقد خالف بعض التابعين الصحابة بحضرتهم، فما أنكر الصحابة عليهم ذلك، كما أنكروا عليهم مخالفة ما رووه، كفعل ابن عمر في ابنه، إذ روى حديث الخذف، وحديث النهي عن منع النساء إلى المساجد، فقال ابنه: لا تفعل ذلك، فأنكر ابن عمر ذلك إنكارا شديدا وكان لا ينكر على من خالفه في فتياه.

وكذلك سائر الصحابة رضي الله عنهم، كإنكار ابن عباس على عروة وغير معارضة حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) بأبي بكر وعمر، وكإنكار عمران بن الحصين، إذ ذكر حديث الحياء، على من عارضه بما كتب في الحكمة، وكقول أبي هريرة: إذا حدثتك عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فلا تضرب له الامثال، في حديث الوض ء مما مست النار.
ووجدنا ابن عباس لم ينكر على عكرمة مخالفته له في الذبيح، ولم ينكر أبو هريرة على من خالفه بحديث النبي (صلى الله عليه وسلم) في إفطار من أصبح جنبا، وجميعهم رضي الله عنهم على هذا السبيل، لا ينكر على من يخالفه في فتياه، وينكر على من خالف روايته عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أشد الانكار.
ولكن أصحابنا - يغفر الله لهم ويسددهم - أضربوا على الواجب عليهم من تدبر أحكام القرآن، ورواية أخبار النبي (صلى الله عليه وسلم) واختلاف العلماء، ومعرفة مراتب الاستدلال المفرق بين الحق والباطل، وأقبلوا على ظلمات بعضها فوق بعض من قراءة طروس معكمة مملوءة من، قلت: أرأيت ؟ فقنعوا بجوابات لا دلائل عليها وأفنوا في ذلك أعمارهم، فصفرت أيديهم من معرفة الحقائق، وظلموا من اغتر بهم، والاقل منهم شغلوا أنفسهم في أنواع القياس وتخصيص العلل، واستخراج علل لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله، ولا يقوم على صحتها برهان فقطعوا أيامهم بالترهات، ولو اعتنوا بما ألزمهم الله تعالى الاعتناء به، من تدبر القرآن، وتتبع سنن النبي (صلى الله عليه وسلم)، لاستناروا واهتدوا، ولاستحقوا بذلك الفوز والسبق، وما توفيقنا إلا بالله تعالى.
وقد قال بعض من قوي جهله وضعف عقله ورق دينه: إذا اختلف العالمان وتعلق أحدهما بحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أو آية، وأتى الآخر بقول يخالف ذلك الحديث وتلك الآية.
فواجب اتباع من خالف الحديث، لاننا مأمورون بتوقيرهم ونحن عالمون أن هذا العالم لو تعمد خلاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لكان كافرا أو فاسقا، وفي براءته من ذلك ما يوجب أنه كان عنده علم يوجب ترك ذلك الحديث، ورفع حكم تلك الآية، لم يكن عند القائل بهما، وبهذا يوصل إلى توقير جميعهم.
قال أبو محمد: وهذا القول في غاية الفساد من وجوه: أحدهما أن قائل هذا من أي المذاهب كان، أترك الناس لهذا الاصل، ويلزمه أن يبيح بيع الخمر تقليدا لسمرة، وألا يبيح التيمم للجنب في السفر أصلا تقليدا لعمر، وأن يبيح بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها تقليدا له، وأن يسقط الكفارة عن الواطئ في نهار رمضان تقليدا لابراهيم النخعي، ومحمد بن سيرين وسعيد بن جبير، وأن يتعمد بالجملة كل قولة خالف صاحبها الحديث والقرآن فيأخذ بها، وهذا ما لا يفعله مسلم وفيه ترك لمذاهب في الاكثر.
ومنها أنه لو صح ما ذكر هذا الجاهل لوجب تفسيق ذلك العالم ضرورة ولاستحق لعنة الله عزوجل، لانه كان يكون كاتما لعلم عنده عن رسول الله (ص) ومن فعل هذا فقد استحق اللعنة بقول الله تعالى: * (إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) *.
وأيضا فلو كان ما ذكر هذا الجاهل لكان ذلك النص، الذي توهمه عند ذلك العالم المخالف للحديث، قد ضاع ولم ينقل، وهذا باطل لان كلامه عليه السلام كله وحي، والوحي ذكر، والذكر محفوظ، قال الله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) *.
وأيضا، فيقال لهذا الجاهل: ولعل هذا العالم لم يبلغه هذا الحديث، أو بلغه فنسيه جملة، أو لم ينسه لكنه لم يخطر على باله إذا خالفه، كما نسي عمر أن بين يديه محمد بن مسلمة صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأبا أيوب الانصاري صاحب رحل النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأبا موسى الاشعري عامله (صلى الله عليه وسلم) على بعض اليمن، وهذان لا يعرفان إلا بكناهما، حتى إن أكثر الناس لا يعرف اسمهما البتة.
فنهى عن التسمي بأسماء الانبياء عليهم السلام، فإذا جاز كما ترى أن لا يمر بباله شئ وهو بين يديه وفي حفظه حتى ينهى عنه، فهو فيما يمكن مغيبة عنه أمكن وأحرى، وكما نسي عمر أيضا قوله تعالى: * (إنك ميت وإنهم ميتون) * حين موت النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: والله ما مات ولا يموت حتى يسوسنا كلنا.
حتى تليت عليه هذه الآية فخر مغشيا عليه، ثم قام وقال: والله كأني ما سمعتها قط قبل وقتي هذا.
وكما نهى عن المغالاة في صدقات النساء، حتى ذكرته المرأة بقول الله تعالى: * (وآتيتم إحداهن قنطارا) * فاعترف بالحق ورجع عن قوله، وقد كان حافظا لهذه الآية، ولكنه لم يذكرها في ذلك الوقت، وكما نسي عثمان رضي الله عنه - وهو أحفظ الناس للقرآن - قوله تعالى: * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * فأمر برجم التي ولدت لستة أشهر، وهو حافظ للآية المذكورة حتى ذكر بها، فذكرها وأمر ألا ترجم.
أو لعل ذلك العالم كان ذاكرا لتلك الآية وذلك الحديث ولكنه تأول تأويلا ما، من خصوص أو نسخ بما لا يصح وجهه، كما فعلوا رضي الله عنهم في نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن لحوم الحمر الاهلية.
فقال بعضهم: إنما نهى عنها لانها كانت حمولة الناس، وقال بعضهم: لانها لم تخمس، وقال بعضهم: لانها كانت تأكل القذر، وقال بعضهم: بل حرمت البتة، ومثل هذا كثير فهذا كله يخرج تارك الحديث، من العلماء السالفين، عن الفسق وعن المجاهرة بخلاف نص القرآن والحديث ومعصية النبي (صلى الله عليه وسلم) الموجبة سخط الله تعالى.
حدثنا محمد بن سعيد النباتي، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا الخشني، ثنا بندار، ثنا غندار، نا شعبة، عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة بن عبد الله ابن مسعود، عن أبيه: أشد الناس عذابا يوم القيامة إمام ضال يضل الناس بغير ما أنزل الله، ومصور، ورجل قتل نبيا أو قتله نبي.
قال أبو محمد: فنعيذ الله من سلف من القصد إلى هذه المرتبة، وإنما البلية على من تدين بما لم يؤده إليه اجتهاده، مما هو عالم مقر أنه لم ينزله الله تعالى، وكل من سلف من الائمة رضي الله عنهم، إنما أداهم إلى ما أفتوا به اجتهادهم، فالمخطئ منهم معذور مأجور أجرا واحدا، هذا لا يظن بهم مسلم سواه.
وإما أن يكون عندهم علم عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من أجله ترك الحديث المنقول، ولم يبلغوه ولا نقلوه - فهم مبرؤون من ذلك ومنزهون عنه، لان فاعل ذلك ملعون، وأما الخطأ فليس ذلك منفيا عنهم، بل هو ثابت عليهم وعلى كل بشر.
فصح بما ذكرنا أن التأويل الذي ذكره الجاهل الذي وصفنا قوله، ورام به إثبات التقليد هو الذي يوجب، لو صح، على العلماء الفسق ضرورة ويوجب لهم اللعنة، وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك، وأما نحن فننزههم عن ذلك.

ولكنا نقول: إنهم يصيبون ويخطئون، وكان كل ما قالوه مردود إلى القرآن والسنة، ومعروض عليهما فلايهما شهد القرآن والسنة فهو الصحيح، وغيره متروك، معذور صاحبه الذي قاله، ومأجور باجتهاده، وأما مقلده ومتبعه فملوم آثم عاص لله عزوجل، وبالله تعالى التوفيق.
وذكر بعضهم أن إبراهيم النخعي قال: لو رأيتهم يتوضؤون إلى الكوعين ما تجاوزتهما وأنا أقرؤها * (المرافق وامسحوا) *.
قال أبو محمد: هذا كذب على إبراهيم، ولو صح ما انتفعوا به، ولكان ذلك خطأ من إبراهيم عظيما، فما إبراهيم معصوم من الخطأ، فكيف ولا يصح عنه، لان راويه عنه أبو حمزة ميمون، وهو ساقط جدا غير ثقة، وإنما الصحيح عنه خلاف هذا من الطرق الصحاح.
كما حدثنا أحمد بن عمر بن أنس، ثنا أبو ذر الهروي، ثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي، ثنا إبراهيم بن خزيم، نا عبد ابن حميد الكسي، ثنا محمد بن بشر العبدي، عن الحسن بن صالح، عن أبي الصباح، عن إبراهيم النخعي قال: لا طاعة مفترضة إلا لنبي.
وكما حدثنا حمام بن أحمد، عن عبد الله بن إبراهيم الاصلي، عن أبي زيد المروزي، عن محمد بن يوسف الفربري، عن البخاري محمد بن إسماعيل، ثنا محمد بن يوسف، ثنا سفيان، هو الثوري، عن منصور، عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر يدهن بالزيت، قال: فذكرته لابراهيم النخعي فقال: ما تصنع بقوله ؟ حدثني الاسود عن عائشة قالت: كأني أنظر وبيص الطيب في مفارق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو محرم.
قال أبو محمد: فهذا الذي يليق بإبراهيم رحمه الله، وهو ألا يلتفت إلى قول ابن عمر إذا وجد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) خلافه، فكيف يظن من له مسكة عقل أن إبراهيم يترك قول ابن عمر لشئ رواه عن الاسود عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ويترك نص القرآن لقوم لم يسمعهم ما يظن هذا بإبراهيم وينسبه إليه وقاح سخيف جاهل، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان.

وأتى بعضهم بعظيمة فقال: إن عمر بن عبد العزيز قال: يحدث للناس أحكام بمقدار أحدثوا من الفجور.
قال أبو محمد: هذا من توليد من لا دين له، ولو قال عمر ذلك لكان مرتدا عن الاسلام، وقد أعاذه الله تعالى من ذلك وبرأه منه، فإنه لا يجيز تبديل أحكام الدين إلا كافر.
والصحيح عن عمر بن عبد العزيز ما حدثناه حمام بن أحمد، عن عبد الله بن إبراهيم، عن أبي أحمد الجرجاني، عن الفربري، عن البخاري، ثنا العلاء بن عبد الجبار، ثنا عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله بن دينار قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا يقبل إلا حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
قال أبو محمد: فهذا عمر بن عبد العزيز لا يأمر ولا يجيز إلا حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) وحده.
وروي أيضا أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه عدي بن عدي الكندي عامله على الموصل يقول: إن وجدتها أكثر البلاد سرقا ونقبا، أفآخذهم بالظنة أم أحكم بمر الحق ؟ فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: إن أخذتم بمر الحق، فمن لم يصلحه الحق فلا أصلحه الله.
قال: فما خرجت منها إلا وهي أصلح البلاد.
قال أبو محمد: والذي اخترع هذه الكذبة على عمر بن عبد العزيز لا يخلو من أحد وجهين: إما إن يكون كافرا أو زنديقا ينصب للاسلام الحبائل.
أو يكون جاهلا لم يدرك مقدار ما أخرج من رأسه، لان إحداث الاحكام لا يخلو من أحد أربعة أوجه: إما إسقاط فرض لازم، كإسقاط بعض الصلاة أو بعض الصيام أو بعض الزكاة أو بعض الحج أو بعد حد الزنى أو حد القذف، أو إسقاط جميع ذلك، وإما زيادة في شئ منها، أو إحداث فرض جديد، وإما إحلال محرم كتحليل لحم الخنزير والخمر والميتة، وإما تحريم محلل كتحريم لحم الكبش وما أشبه ذلك.
وأي هذه الوجوه كان، فالقائل به مشرك، لاحق باليهود والنصارى، والفرض على كل مسلم قتل من أجاز شيئا من هذا دون استتابة ولا قبول توبة إن تاب، واستصفاء ماله لبيت مال المسلمين، لانه مبدل لدينه، وقد قال عليه السلام: من بدل دينه فاقتلوه ومن الله تعالى نعوذ من غضبه لباطل أدت إلى مثل هذه المهالك، واحتجوا بكتابة أبي بكر المصحف بعد أن لم يكن مجموعا، وذكروا حديثا عن زيد بن ثابت أنه قال: افتقدت آية من سورة براء هي: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) * الآية.
فلم أجدها إلا عند رجل واحد، وذكروا في ذلك تكاذيب وخرافات، أنهم كانوا لا يثبتون الآية إلا حتى يشهد عليها رجلان، وهذا كله كذب بحت من توليد الزنادقة.
وأما جمع أبي بكر رضي الله عنه المصحف فنعم، ووجه ذلك بين، وهو أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان ينزل عليه القرآن مفرقا، فيأمر بضم الآية النازلة إلى آية كذا من سورة كذا، فلم يكن يمكن أن يكتب القرآن في مصحف جامع، لاجل ذلك، فلما مات (صلى الله عليه وسلم) واستقر الوحي، وعلم أنه لا مزيد فيه ولا تبديل، كتبه أبو بكر حينئذ وأثبته.
وأما افتقار زيد بن ثابت الآية، فليس ذلك على ما ظنه أهل الجهل، وإنما معناه أنه لم يجدها مكتوبة إلا عند ذلك الرجل، وهذا بين في حديث حدثناه عبد الرحمن ابن عبد الله، عن أبي إسحاق البلخي، عن الفربري، عن البخاري حدثنا أبو اليمان، أنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت: أن زيد بن ثابت قال: لما نسخنا المصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الاحزاب، كنت أسمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت، الذي جعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شهادته شهادة رجلين: * (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) *.
قال أبو محمد: بيان ما قلناه منصوص في هذا الحديث نفسه وذلك أن زيدا حكى أنه سمع هذه الآية من النبي (صلى الله عليه وسلم).
فقد كانت عند زيد أيضا، وقد يدخل هذا الحديث علة، وهي أن خارجة لم يحك أنه سمعه من أبيه.
وأيضا فقد حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال: ثنا محمد بن معاوية المرواني، ثنا أحمد بن شعيب، أنا محمد بن معمر، ثنا أبو داود، هو الطيالسي، حدثنا أبو عوانة، عن فراس، عن الشعبي، عن مسروق: عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حدثنيها أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سارها قبل وفاته فقال لها: إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني به العام مرتين، ولا أرى الاجل إلا قد اقترب وذكر باقي الحديث فهذا نص جلي على أن القرآن إنما هو جمعه وألفه الله تعالى، وأقرأه جبريل للنبي (صلى الله عليه وسلم) في عام موته مرتين كما هو، وإنه لم يجمعه أحد دون الله تعالى، فهو كما هو الآن على ذلك الجمع الاول.
وأيضا فقد حدثنا أحمد بن محمد الجسوري، ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا معاوية، عن الاعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: أي القراءتين تعدون أول ؟ قلنا: قراءة عبد الله، قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يعرض عليه القرآن في كل رمضان مرة إلا العام الذي قبض فيه، فإنه عرض عليه مرتين، فحضره عبد الله فشهد ما نسخ منه وما بدل.
قال أبو محمد: أبو ظبيان هو حصين بن جندب الجنبي، وقد ذكرنا من جمع القرآن على عهده (صلى الله عليه وسلم)، ولا شك أن هذه الآية في جملته عندهم، وليس عدم زيد وجودها إلا عند خزيمة بموجب أنها لم تكن إلا عند خزيمة، بل كل من قرأ على عثمان وأبي الدرداء وابن مسعود وعلي قد قرؤوا عليهم هذه الآية بلا شك، وفي هذا كفاية.
وقد روى قوم أن الآية التي افتقد زيد من سورة براءة وهي: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * وهذا كذب بحت لكل ما ذكرنا آنفا.
وأيضا فقد روي عن البراء: أن آخر سورة نزلت سورة براءة، وبعث بها النبي (ص) فقرأها على أهل الموسم علانية.

وقال بعض الصحابة، وأظنه جابر بن عبد الله ما كنا نسمي براءة إلا الفاضحة.
قال أبو محمد: فسورة قرئت على جميع العرب في الموسم، وتقرع بها كثير من أهل المدينة، ومنها يكون منها آية خفيت على الناس ؟ هذا ما لا يظنه من له رمق وبه حشاشة.
ويبين كذب هذه الاخبار ما رويناه بالاسانيد الصحيحة أنه (صلى الله عليه وسلم): كان لا يعرف فصل سورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم، وأنه عليه السلام كانت تنزل عليه الآية فيرتبها في مكانها، ولذلك تجد آية الكلالة - وهي آخر آية نزلت وهي في سورة النساء - في أول المصحف، وابتداء سورة * (اقرأ باسم ربك) * في آخر المصحف، وهما أول ما نزل، فصح بهذا أن رتبة الآي ورتبة السور مأخوذة عن الله عزوجل إلى جبريل، ثم إلى النبي عليه وسلم، لا كما يظنه أهل الجهل أنه ألف بعد موت النبي (صلى الله عليه وسلم) ولو كان ذلك ما كان القرآن منقولا نقل الكافة.
ولا خلاف بين المسلمين واليهود والنصارى والمجوس أنه منقول عن محمد عليه السلام نقل التواتر.
ويبين هذا أيضا: ما صح أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يعرض القرآن كل ليلة في رمضان على جبريل، فصح بهذا أنه كان مؤلفا كما هو عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وقوله (صلى الله عليه وسلم): تركت فيكم الثقلين: كتاب الله وأهل بيتي.
والاحاديث الصحاح أنه (صلى الله عليه وسلم) قرأ: المص والطور والمرسلات في صلاة المغرب، وأن معاذا قرأ في حياته (صلى الله عليه وسلم) البقرة في صلاة العتمة، وأنه (صلى الله عليه وسلم) خطب ب * (ق والقرآن المجيد) * وذكر (صلى الله عليه وسلم) خواتم آل عمران وسورة النساء، وأمره عليه السلام أن يؤخذ القرآن من أربعة: من أبي، وعبد الله بن مسعود، وزيد، ومعاذ.
وقول عبد الله بن عمرو بن العاص للنبي عليه السلام في قراءة القرآن كل ليلة: وأمره (صلى الله عليه وسلم) أن لا يقرأ في أقل من ثلاث، والذين جمعوا القرآن في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) جماعة ذلك منهم أبو زيد، وزيد، وأبي، ومعاذ، وسعيد بن عبيد، وأبو الدرداء، وأمر (صلى الله عليه وسلم) عبد الله بن عمرو بقراءة القرآن في أيام لا تكون أقل من ثلاث، فكيف يقرأ ويجمع وهو غير مؤلف، هذا محال لا يمكن البتة.

وهذا كلها أحاديث صحاح الاسانيد لا مطعن فيها، وبهذا يلوح كذب الاخبار المفتعلة بخلافها، لان تلك لا تصح من طريق النقل أصلا، فبطل ظنهم أن أحد جمع القرآن وألفه دون النبي (صلى الله عليه وسلم).
ومما يبين بطلان هذا القول ببرهان واضح، أن في بعض المصاحف التي وجه بها عثمان رضي الله عنه إلى الآفاق واوات زائدة على سائرها، وفي بعض المصاحف * (إن الله لهو الغني الحميد) * في سورة الحديد وفي بعضها بنقصان هو.
وأيضا فمن المحال أن يكون عثمان رضي الله عنه أقرأ الخلفاء، وأقدمهم صحبة، وكان يحفظ القرآن كله ظاهرا ويقوم به في ركعة، ويترك قراءته التي أخذها من فم النبي (صلى الله عليه وسلم)، ويرجع إلى قراءة زيد، وهو صبي من صبيانه، وهذا ما لا يظنه إلا جاهل غبي.
ومنها أن عاصما روى عن زر، وقرأ عليه، لم يقرأ على زيد، ولا على من قرأ على زيد شيئا، إلا أنه قد صح عنه أنه عرض على زيد فلم يخالف ابن مسعود، وهذا ابن عامر قارئ أهل الشام لم يقرأ على زيد شيئا، ولا على من قرأ على زيد، وإنما قرأ على أبي الدرداء، ومن طريق عثمان رضي الله عنهما، وكذلك حمزة لم يأخذ من طريق زيد شيئا.
وقد غلط قوم فسموا الاخذ بما قاله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبما اتفق عليه علماء الامة، تقليدا، وهذا هو فعل أهل السفسطة، والطالبين لتلبيس العلوم وإفسادها وإبطال الحقائق، وإيقاع الحيرة، فلا شئ أعون على ذلك من تخليط الاسماء الواقعة على المعنى ومزجها، حتى يوقعوا على الحق اسم الباطل، لينفروا عنه الناس، ويوقعوا على الباطل اسم الحق، ليوقعوا فيه من أحسن الظن بهم، وليجوزوه عند الناس.
كما يحكى عن فساق باعة الدواب أنهم يسمون أورايهم بأسماء البلاد، فإذا عرض الحمار للبيع أقسم بالله: إن البارحة نزل من بلد كذا وكذا، وهو يعني الآري الذي اعتلف فيه ويظن المبتاع أنه من جلب المذكور، فهذا فعل أهل الشر والفسق.
وفاعل هذا في الديانة أسوأ حالا وأعظم جرما من فاعله في سائر المعاملات، فاعلم الآن: أن قبول ما صح بالنقل عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وقبول ما أوجبه القرآن بنصه وظاهره، وقبول ما أجمعت عليه الامة، ليس تقليدا، ولا يحل لاحد أن يسميه تقليدا، لان ذلك تلبيس وإشكال، ومزج الحق بالباطل، لان التقليد على الحقيقة إنما هو قبول ما قاله قائل دون النبي (صلى الله عليه وسلم) بغير برهان.
فهذا هو الذي أجمعت الامة على تسميته تقليدا، وقام البرهان على بطلانه، وهو غير ما قام البرهان على صحته، فحرام أن يسمى الحق باسم الباطل، والباطل باسم الحق، وقد قال تعالى: * (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان) * وقد أنذر عليه السلام بقوم يستحلون الخمر يسمونها بغير اسمها.
وقد احتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى: * (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) * قالوا: وقد أوجب الله تعالى على الناس قبول نذارة المنذر لهم، قالوا وهذا أمر منه تعالى بتقليد العامي للعالم.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لان الله تعالى لم يأمر قط بقبول ما قال المنذر مطلقا، لكنه يقال: إنما أمر بقبول ما أخذ ذلك في تفقههم في الدين عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعن الله عزوجل، لا ما اخترع مخترع من عند نفسه، ولا ما زاد زائد في الدين من قبل رأيه، ومن تأول ذلك على الله عزوجل، وأجاز لاحد من المخلوقين أن يشرع شريعة غير منقولة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) - فقد كفر وحل دمه وماله، وقد سمى الله من فعل ذلك مفتريا فقال تعالى: * (آلله أذن لكم أم على الله تفترون) *.
قال أبو محمد: وظن قوم أنهم تخلصوا من التقليد بوجه به تحققوا بالدخول فيه، وتوسطوا عنصره، وهو أنهم يبطلون حجاجا تؤيد ما وجدوا أسلافهم عليه فقط، ثم لا يبالون أشغبا كانت الحجاج أم حقا، ويضربون عن كل حجة خالفت قولهم.
فإن كانت آية أو حديثا تأولوا فيها التأويلات البعيدة، وحرفوهما عن مواضعهما فدخلوا في قوله تعالى: * (يحرفون الكلم عن مواضعه) * فإن أعياهم ذلك قالوا: هذا خصوص، وهذا متروك وليس عليه العمل.
قال أبو محمد: وهذا أقبح ما يكون من التقليد وأفحشه، كالذي يفعل مقلدو مالك وأبي حنيفة والشافعي، فإنهم إنما يأخذون من الحجاج ما وافق مذهبهم وإن كان خبرا موضوعا أو شغبا فاسدا، ويتركون ما خالفه، وإن كان نص قرآن أو خبرا مسندا من نقل الثقات.
والعجب أنهم ينسون التقليد، ويقولون: إن المقلد عاص لله، ويقولون: لا يجوز أن يؤخذ من أحد ما قامت عليه حجة، ويقولون: ليس أحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا ويؤخذ من قوله ويترك، ثم إنهم مع هذا لا يفارقون قول صاحبهم بوجه من الوجوه.
وأما أهل بلادنا فليسوا ممن يتغنى بطلب دليل على مسائلهم وطالبه منهم، في الندرة، إنما يطلبه كما ذكرنا آنفا، فيعرضون كلام الله تعالى، وكلام الرسول عليه السلام على قول صاحبهم، وهو مخلوق مذنب يخطئ ويصيب، فإن وافق قول الله وقول رسوله (صلى الله عليه وسلم) قول صاحبهم أخذوا به، وإن خالفاه تركوا قول الله جانبا وقوله (صلى الله عليه وسلم) ظهريا، وثبتوا على قول صاحبهم، وما نعلم في المعاصي ولا في الكبائر، بعد الشرك المجرد، أعظم من هذه، وأنه لاشد من القتل والزنى.
لان فيما ذكرنا الاستخفاف بالله عزوجل، وبرسوله (صلى الله عليه وسلم) وبالدين، ولان من ذكرنا قد جاءته موعظة من ربه فلم ينته، وعاد إلى ما نهي عنه، وعرف أنه باطل، فتدين به واستحله وعلمه الناس، وأما القاتل والزاني فعالمان أن فعلهما خطأ، وأنهما مذنبان، فهما أحسن حالا ممن ذكرنا، وقد قال تعالى: * (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار فيها خالدون) *.
هذا وهم يقرون أن الفقهاء الذين قلدوا مبطلون للتقليد، وأنهم قد نهوا أصحابهم عن تقليدهم، وكان أشدهم في ذلك الشافعي، فإنه رحمه الله بلغ من التأكيد في اتباع صحاح الآثار، والاخذ بما أوجبته الحجة، حيث لم يبلغ غيره، وتبرأ من أن يقلد جملة، وأعلن بذلك نفعه الله به وأعظم أجره، فلقد كان سببا إلى خير كثير، فمن أسوأ حالا ممن يعتقد أن التقليد ضلال، وأن التقليد هو اعتقاد القول قبل اعتقاد دليله، ثم هم لا يفارقون في شئ من دينهم ؟ وهذا مع ما فيه من المخالفة لله عزوجل ففيه من نقص العقل والتمييز عظيم نعوذ بالله من الخذلان

ونسأله التوفيق والعصمة، فكل شئ بيده لا إله إلا هو.
وحدثت طائفة من الاشعرية، أبدعوا في قولهم بالتقليد قولا طريفا في السخف، وهو أن قالوا: الفرض على العامي إذا نزلت به النازلة أن يسأل عن أفقه من في ناحيته، فإذا دل عليه سأله، فإذا أفتاه لزمه الاخذ به، ولا يحل للعامي أن يأخذ بقول ميت من العلماء، قديما كان أو حديثا، صاحبا كان أو تابعا، أو من بعدهم، فإن نزلت بذلك العامي تلك النازلة بعينها مرة أخرى، لم يجز له أن يأخذ تلك الفتيا التي أفتاه الفقيه بها، ولكن يسأله مرة ثانية، أو يسأل غيره، فما أفتاه به أخذ به، سواء كانت تلك الفتيا الاولى غيرها، وقالوا: إن الفرض على كل أحد إنما هو ما أداه إليه اجتهاده فيما لا نص فيه فكل مجتهد في هذا الموضع فهو مصيب.
قال أبو محمد: ويكفي من بطلان هذا القول أنها كلها قضايا مفتراة، ودعاوى بلا برهان أصلا.
فإن قالوا: قال الله تعالى: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * قلنا: صدق الله تعالى، وكذب محرف قوله، أهل الذكر هم رواة السنن عن النبي (صلى الله عليه وسلم) والعلماء بأحكام القرآن، برهان ذلك قوله تعالى: * (انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون) * فصح أن الله تعالى إنما أمرنا بسؤالهم ليخبرونا بما عندهم من القرآن والسنن، لا لان يشرعوا لنا من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، بآرائهم الفاسدة وظنونهم الكاذبة، وفي هذا كفاية، وبالله تعالى التوفيق.
فصل قال أبو محمد: قد ذكرنا كل ما موه به القائلون بالتقليد، وبينا بطلانه وانتقاضه بعون الله تعالى لنا، ولله الحمد، ونحن الآن ذاكرون ما قاله الله تعالى في إبطال التقليد، ونبين وجه الحجاج في بيان سقوطه، وأنه لا يحل تصريفه في دين الله عزوجل أصلا.
فمن ذلك أن يقال لمن قلد: ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدت أنت ؟ فإن أخذ يحتج في فضل من قلد ووصف سعة علمه، سئل: أكان قبله أحد أفضل منه وأعلم ؟ أم لم يكن قبله أحدا أعلم منه ولا أفضل منه ؟.

فإن قال: لم يكن قبله أحد أفضل منه، كذب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في قوله: إننا لا ندرك بإنفاقنا مثل أحد ذهبا مد أحد من أصحابه ولا نصيفه، وبقوله (صلى الله عليه وسلم): إنه ما من عام إلا والذي بعده دونه وقائل هذا مخالف للاجماع، وخارج عن سبيل المؤمنين.
ولا شك عند كل مؤمن أن أبا بكر وعائشة وعليا وعمر ومعاذا وأبيا وزيدا وابن مسعود وابن عباس - أعلم بما شاهدوا من نزول القرآن وحكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأفضل من سفيان الثوري والاوزاعي ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي وابن القاسم وداود ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وأبي ثور.
وهؤلاء الفقهاء رحمهم الله هم الذين قلدتهم الطوائف بعدهم ما نعلم الآن على ظهر الارض أحدا يقلد غيرهم، لا سيما وقد حدثنا أحمد بن عمر العذري، ثنا علي بن الحسن بن فهر، ثنا القاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد الذهلي، ثنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني الهيثم بن جميل، قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، إن عندنا قوما وضعوا كتبا يقول أحدهم:
حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا، وحدثنا فلان عن إبراهيم بكذا، ونأخذ بقول إبراهيم.
قال مالك: صح عندهم قول عمر ؟ قلت: إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم.
فقال مالك: هؤلاء يستتابون.
قال أبو محمد: فإن قال: بلى، قد كان من ذكرتم وغيرهم مما كان بعد من ذكرتم، ومع هؤلاء المذكورين، وقبلهم أفضل منهم وأعلم بالدين.
قيل له: فلم تركت الافضل والاعلم، وقلدت الانقص فضلا وعلما ؟.
فإن قال: لانه أتى بعض الاولين متعقبا، قيل له: فقلد من أتى بعدهم أيضا متعقبا على هؤلاء.
فإن كان مالكيا، أو شافعيا، أو حنفيا، أو سفيانيا، أو أوزاعيا قيل له: فقلد أحمد بن حنبل، فإنه أتى هؤلاء ورأى علمهم وعلم غيرهم، وتعقب على جميعهم ولا خلاف بين أحد من علماء أهل السنة، أصحاب الحديث منهم وأصحاب الرأي، في سعة علمه وتبجحه في حديث النبي (صلى الله عليه وسلم)، وفتاوى الصحابة والتابعين، وفقهه وفضله وورعه وتحفظه في الفتيا، أو قلد إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، فقد كان كذلك مع دقة النظر وصحة الفهم، أو قلد أبا ثور، فقد كان غاية في ذلك كله.
وإن كان حنبليا فقيل له: قلد محمد بن نصر المروزي، فإنه أتى متعقبا بعد أحمد، ولقد لقي أحمد وأخذ عنه وحوى علمه، ولقي أصحاب مالك والشافعي وأصحاب أصحاب أبي حنيفة، وأخذ علمهم، وقد كان في الغاية التي لا وراء بعدها في سعة العلم بالقرآن والحديث والآثار والحجاج ودقة النظر، مع الورع العظيم والدين المتين، أو محمد بن جرير الطبري، فكان في علمه ودينه بحيث عرف، أو الطحاوي فقد كان من العلم، بالقرآن والحديث واختلاف الناس والآثار بحيث قد عرفه أهل العلم أو داود بن علي، فكان من سعة الرواية والعلم بالقرآن والحديث والآثار والاجماع والاختلاف ودقة النظر والورع بحيث لا مزيد، وقد أتى متأخرا متعقبا مشرفا على مذهب كل من تقدمه.
فإن قلد داود قيل له: قلد من أتى بعده متعقبا عليه ومخالفه، كولده، وابن سريج، وكالطبري، وكمحمد بن نصر المروزي، والطحاوي، وهكذا أبدا يقلد الآخر فالآخر وهذا خروج عن المعقول والقياس، وعن الدين جملة.
وحتى لو مالوا إلى تقليد الافضل لبطل عليهم بأن الافاضل على خلاف ذلك، فقد رجع عمر إلى قول المرأة من عرض النساء، إذ هم بالمنع من المغالاة في الصداق، وعمر أفضل منها بلا شك، وقد كان أبو بكر وعمر يجمعان الصحابة ويسألانهم، فلو كان قول الافضل واجبا أن يتبع، لما كان لجمعهما الصحابة معنى لانهما أفضل ممن جمعا ليعرفا ما عندهم، ولكانا في ذلك مخطئين.
وكل هذا أقوال فاسدة بلا برهان على صحة شئ منها، وليس طريق الفضل من طريق الاتباع في شئ، فقد يخطئ الفاضل فيحرم اتباعه على الخطأ ولا ينقص ذلك من فضله شيئا، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لابي الدرداء: سلمان أفقه منك إذ منعه سلمان من قيام جميع الليل ومن مواترة الصيام، فكان سلمان أفقه من أبي الدرداء...وكان أبو الدرداء أفضل من سلمان، فأبو الدرداء بدري عقبي، لا تجزأ سلمان منه، وأول مشاهد سلمان فالخندق، فقد شهد عليه السلام أن الانقص فضلا أتم فقها، وقد قال (صلى الله عليه وسلم): فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
وقد قال (صلى الله عليه وسلم): ورب مبلغ أوعى من سامع وإنما خاطب بذلك الصحابة، فغير منكر ما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق.
ويكفي من هذا أن كل ما ذكرنا من الفقهاء الذين قلدوا مبطلون التقليد ناهون عنه، مانعون منه، مخبرون أن فاعله على باطل، وقد حدثنا حمام، عن الباجي، عن أسلم القاضي، عن المازني، عن الشافعي: أنه نهى الناس عن تقليده وتقليد غيره.
وحدثنا عبد الرحمن بن سلمة، ثنا أحمد بن خليل، ثنا خالد بن سعد، ثنا أحمد بن خالد، أنا يحيى بن عمر، أنا الحارث بن مسكين، ثنا ابن وهب قال: سمعت مالكا وقال له ابن القاسم: ليس أحد بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر، قال له مالك: من أين علموا ذلك ؟ قال: منك يا أبا عبد الله، قال مالك: ما أعلمها أنا، فكيف يعلمونها هم ؟ قال أبو محمد: كيف وقد أغنانا الله تعالى عن قولهم في ذلك بما نص في كتابه من إبطال التقليد فمن قول الله عزوجل: * (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت) *، ثم قال الله تعالى على أثر هذه الآية: * (وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) *.
قال أبو محمد: فمن اتخذ رجلا إماما يعرض عليه قول ربه وقول نبيه عليه السلام، فما وافق فيه قول ذلك الرجل قبله، وما خالفه ترك قول ربه تعالى وقول نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وهو يقر أن هذا قول الله عزوجل وقول رسوله (صلى الله عليه وسلم)، والتزم قول إمامه فقد اتخذ دون الله تعالى وليا، ودخل في جملة الآية المذكورة.
اللهم إننا نبرأ إليك من هذه الفعلة، فلا كبيرة أعظم منها.
وقال تعالى: * (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) *.

قال أبو محمد: ولا وليجة أعظم ممن جعل رجلا بعينه عيارا من كلام الله تعالى وكلام رسوله (ص) وكلام سائر علماء الامة، وقال تعالى: * (يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يليتنآ أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا السبيلا) *، وقال تعالى: * (فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين) *، وقال تعالى: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) *.
قال أبو محمد: فمن لم يأت بكتاب الله تعالى شاهد لقوله، أو ببرهان على صدق قوله، وإلا فليس صادقا، لكنه كاذب آفك، مفتر على الله عزوجل، ومن أطاع سادته وكبراءه وترك ما جاءه عن الله تعالى وعن رسوله (صلى الله عليه وسلم) فقد ضل، بنص القرآن واستحق الوعيد بالنار، نعوذ بالله منها وما أدى إليها.
وقال تعالى حاكيا عن الجن الذين أسلموا مصدقا لهم ومثبتا عليهم * (وأنا ظننا أن لن تقول الانس والجن على الله كذبا) * فبطل ظن من ظن ذلك في رئيس قلده لم يأمر الله تعالى بأن يقلده.
وقال تعالى: * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب) *.
قال أبو محمد: هكذا والله يقول هؤلاء الفضلاء الذين قلدهم أقوام قد نهوهم عن تقليدهم، فإنهم رحمهم الله تبرؤوا في الدنيا والآخرة من كل من قلدهم، وفاز أولئك الافاضل الاخيار، وهلك المقلدون لهم بعد ما سمعوا من الوعيد الشديد، والنهي عن التقليد، وعلموا أن أسلافهم الذين قلدوا قد نهوهم عن تقليدهم، وتبرؤوا منهم إن فعلوا ذلك.
ومن ذلك ما حدثنا أحمد بن عمر، ثنا علي بن الحسن بن فهر، حدثنا أبو الطاهر محمد بن أحمد الذهلي، ثنا جعفر بن محمد الفريابي ثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الاويسي، ثنا مالك قال: كان ربيعة يقول لابن شهاب: إن حالي ليس يشبه حالك، أنا أقول برأيي، من شاء أخذه وعمل به، ومن شاء تركه.
وقد ذكرنا قول مالك وندامته على القول به.
وقال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي، من أتانا بخير منه قبلناه منه.
وقال عزوجل: * (وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) *.

قال أبو محمد: وهذا نص ما فعل خصومنا بلا تأويل ولا تدبر، بل تعرض عليهم الآية والحديث الصحيح، الذي يقرون بصحته، وكلاهما مخالف لمذاهب لهم فاسدة، فيأبون قبولها، لا بفارق ما وجدنا عليه آباءنا وكبراءنا، فقد أجابهم تعالى جوابا كافيا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وقال تعالى: * (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) * وقال تعالى: * (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون) *.
قال أبو محمد: هذه صفة ظاهرة من كل مقلد، يعرفها من نفسه ضرورة لانه هوى تقليد فلان فقلده بغير علم، ووجدناه لا ينتفع بسمعه فيما يسمع من الآي والسنن المخالفة لمذهبه.
ولا انتفع بصره فيما أري من ذلك، ولا بعقله فيما علم من ذلك، ووجدناه ترك طلب الهدى من كتاب الله تعالى، وكتاب نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وطلب الهدى ممن دون الله تعالى، فضل ضلالا بعيدا فوا حسرتاه عليهم وواأسفاه لهم.
وقال تعالى: * (قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الارض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين) *.
قال أبو محمد: وهذا نص فعل المقلد، لانه التزم اتباع من لا ينفعه ولا يضره ولا يشفع له يوم القيامة، ولا ينيله من حسناته حسنة، ولا يحط عنه من سيئاته سيئة، وكذلك دعاه أصحابه إلى الهدى بزعمهم فأكذبهم تعالى وقال:
* (
إن هدى الله هو الهدى) * فلم يجعل هدى إلا ما جاء من عنده تعالى.
وقال تعالى: * (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها) *.
وهكذا فعل المقلدون فإنهم أباحوا لحوم السباع والحمر الاهلية، وقد جاء أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بتحريمها، وآخذوا الناسي، وألزموا شريعة الكفارة المخطئ، وقد جاء نص القرآن والسنة بإسقاط ذلك كله، فلما أخبروا أن ذلك كله فواحش قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها.
وقال تعالى ذاما لقوم قلدوا أسلافهم، وحاكيا عنهم أنهم قالوا: * (إنا وجدنا آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك مآ أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آبآءكم) *.
وقال تعالى: * (وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنآ أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) * وقال تعالى: * (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ئ إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ئ وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) *.
ومن قلد فقد قال على الله ما لا يعلم، وهذا نص كلام رب العالمين، الذي إليه معادنا، وبين يديه موقفنا، وهو سائلنا عما أمرنا به من ذلك، ومجازينا بحسب ما أطعنا أو عصينا، فليتق الله على نفسه أمرؤ يعلم أن وعد الله حق، وأن هذه عهود ربه إليه، وليتب عن التقليد وليفتش حاله، فإن رأى فيها هذه الصفات التي ذمها الله تعالى، فليتدارك نفسه بالتوبة من ذلك، وليرجع إلى بشرى قبول قول ربه تعالى إذ يقول: * (فبشر عبادئ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الالباب) * فالمحروم من حرم هذه البشرى، وخرج عن هذه الصفة المحمودة، نسأل الله أن يكتبنا في عداد أهلها، وأن يثبتنا في جملتهم آمين فقد فاز من وصفه الله تعالى بأنه هداه، وبأنه مبشر، وبأنه من أولي الالباب، وهذه صفة من استمع الاقوال فلم يقلد، واختار أحسنها، والاحسن هو ما شهد الله عزوجل ورسوله (صلى الله عليه وسلم) بالحسنى، مما وافق القرآن والسنة، وبالله تعالى التوفيق.
فقد صح بنص كلام الله تعالى بطلان تقليد الرجال والنساء جملة، وتحريم اتباع الآباء والرؤساء البتة، وعلى هذا كله السلف الصالح.
أخبرنا محمد بن سعيد النباتي، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر غندر، ثنا شعبة، عن عاصم الاحول، عن الشعبي: أن أبا بكر قال في الكلالة: أقضي فيها، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله منه برئ وهو ما دون الولد والوالد، فقال عمر بن الخطاب: إني لاستحي من الله أن أخالف أبا بكر.
قال أبو محمد: هذا هو الحديث الذي موهوا به، واستحلوا الكذب بإبراء مفردا مما قبله، وإنما استحى عمر من مخالفة أبي بكر رضي الله عنهما في اعترافه بالخطأ، وأنه ليس كلامه كله صوابا، لا في قوله في الكلالة.
وبرهان ذلك أن عمر أقر عند موته أنه لم يقض في الكلالة بشئ، وقد اعترف أنه لم يفهمها قط، وحتى لو صح أنه وافق أبا بكر في الكلالة في الحديث المذكور لما كانت فيه حجة، لان الشعبي راوي الحديث لم يدرك عمر، وأبعد روايته، فعن علي على اختلاف في رؤيته أيضا.
وأما الاضطراب عن عمر في الجد، فإن محمد بن سعيد أخبرني، عن أحمد بن عون الله،
عن قاسم بن أصبغ، عن الخشني، عن بندار، عن ابن أبي عدي شعبة، عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر بن الخطاب حين طعن: إني لم أقض في الجد شيئا.
وأما الاختلاف عنه رضي الله عنه في الكلالة، فهو أن حماما حدثني قال: ثنا ابن مفرج، عن عبد الاعلى بن محمد بن الحسن قاضي صنعاء، عن الديري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب كتب في الجد والكلالة كتابا، فمكث يستخير الله يقول: اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه، حتى إذا طعن دعا بالكتاب فمحي، فلم يدر أحد ما كان فيه فقال: إني كنت كتبت في الجد والكلالة كتابا وكنت أستخير الله فيه فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه.
قال عبد الرزاق: وحدثنا ابن جريج، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب أوصى عند الموت فقال: الكلالة كما قلت، قال ابن عباس: وما قلت ؟ قال: من لا ولد له.
قال أبو محمد: هذا أصح سند يرد في هذا الباب عن عمر، لاتصاله وعدالة ناقليه وإمامتهم وصحة سماع بعضهم من بعض، وهو كما ترى مخالف لرأي أبي بكر في الكلالة، لان أبا بكر كان يقول: الكلالة من لا ولد له ولا والد، وعمر عند الموت يقول: الكلالة من لا ولد له فقط بالسند الذي لا داخلة فيه، فبطل بهذا ما رواه الشعبي الذي أبعد ذكره رؤيته عليا رضي الله عنه بالكوفة يتوضأ في الرحبة، هذا إن صح أنه رآه أيضا، أخبرنا محمد بن سعيد النباتي، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر غندر، ثنا شعبة، عن عاصم، عن الشعبي قال: سئل عبد الله بن مسعود، عن امرأة توفي عنها زوجها، ولم يفرض لها ؟ فاختلف إليه شهرا، فقال: ما سئلت عن شئ منذ توفي رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) أشد علي منه، لم ينزل فيه قرآن ناطق ولا سنة ماضية، أقضي فيها فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمن الشيطان والله منه برئ وذكر الحديث.
قال أبو محمد: فهذا ابن مسعود يعترف بالخطا وبمغيب السنن عنه، وفي هذه القصة سنة صحيحة خفيت عنه، ثم علمها بعد ذلك، ولا سبيل إلى أن يوجد عن أحد من الصحابة والتابعين غير الاعتراف بجواز الخطأ عليهم.
والصحيح من رواية الشعبي في الخبر الذي ذكرنا هو ما أخبرناه محمد بن سعيد ابن نبات، عن أحمد بن عون الله، عن قاسم بن أصبغ، عن الخشني عن بندار، عن غندر، ثنا شعبة، عن يحيى بن سعيد التيمي تيم الرباب قال: سمعت الشعبي يحدث عن ابن عمر عن عمر قال ثلاث وددت أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يقض حتى يبين لنا فيهن أمرا ينتهي إليه: الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا، فهذا هو المتصل من طريق الشعبي.
ثم إنا نقول: إن العجب ليطول ممن اختار أخذ أقوال إنسان بعينه لم يصحبه من الله عزوجل معجزة، ولا ظهرت عليه آية، ولا شهد الله له بالعصمة عن الخطأ، ولا بالولاية وأعجب من ذلك إن كان من التابعين فمن دونهم، ممن لا يقطع على غيب إسلامه، ولا بيد مقلده أكثر من حسن الظن به، وأنه في ظاهر أمره فاضل من أفاضل المسلمين، لا يقطع له على غيره من الناس بفضل، ولا يشهد له على نظارته بسبق إن هذا لهو الضلال المبين.
فليت شعري ما الذي أوجب عليه أن يميل إليه دون أن يميل إلى غيره ممن هو مثله في الظاهر، أو أفضل منه في الظاهر، أو في الحقيقة من سابقي الصحابة، حتى صاروا يتدينون بقوله في دينهم الذي هو وسليتهم إلى الله تعالى، لا يرجون النجاة من عذاب الآخرة بسواه ؟

ونجدهم، المساكين، في أمور دنياهم لا يقلدون أحدا، ولا يبتاع أحدهم شيئا فما دونه أو فما فوقه، إلا حتى يقيسه ويتأمل جددته ويتقي الغبن فيه، وهو لا يتقي الغبن في دينه الذي فيه هلاكه أو نجاته في الابد، فتجده قد قبله مجازفة وأخذه مطارفة: هات ما قال مالك وابن القاسم وسحنون إن كان مالكيا، أو ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن إن كان حنفيا، أو ما قال الشافعي إن كان شافعيا، ولا مزيد.
ووالله لو أن هؤلاء، رحمهم الله، وردوا عرصة القيامة بمل ء السموات والارض حسنات، ما رحموه منها بواحدة، ولو أنه - المغرور - ورد ذلك الموقف بمل ء السموات والارض سيئات، ما حطوا منها واحدة، ولا عرجوا عليه، ولا التفتوا إليه، ولا نفعوه بنافعة.
ونجده يضرب عن كلام نبيه (صلى الله عليه وسلم) الذي لا يرجو شفاعة سواه، ولا أن ينقذه من أطباق النيران، بعد رحمة الله تعالى، إلا اتباعه إياه فأين الضلال إن لم يكن في فعل هؤلاء القوم.
ثم ننحط في سؤالهم درجة فنقول: ما الذي دعاكم إلى التهالك على قول مالك وابن القاسم، فهلا تبعتم أقوال عمر بن الخطاب وابنه فتهالكتم عليها ؟ فهما أعلم وأفضل من مالك وابن القاسم عند الله عزوجل بلا شك، ونقول للحنفيين.
ما الذي حملكم على التماوت على قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن ؟ فهلا طلبتم أقوال عبد الله بن مسعود وعلي فتماوتم عليها ؟ فهما أفضل وأعلم من أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن عند الله تعالى بلا شك.
ونقول لمن قلد الشافعي رحمه الله: ألم ينهكم عن تقليده، وأمركم باتباع كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث صح ؟.
فهلا اتبعتموه في هذا القولة الصادقة التي لا يحل خلافها لاحد ؟ أو ليس قد قال رحمه الله - وقد ذكر حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) فيمن مات وعليه صيام صام عنه وليه، فقال رحمه الله: إن صح هذا الحديث فبه أقول ؟ ونبرأ من كل مذهب خالف حديث النبي (صلى الله عليه وسلم)، والحديث المذكور في غاية الصحة من طريق عائشة رضي الله عنها، ثم أنتم دأبا تتحيلون في إبطاله بأنواع من الحيل الباردة ونهاكم عن قبول المرسل.
ثم أنتم تأخذون به في تحريم بيع اللحم بالحيوان، تقليدا لغلطه رحمه الله الذي لم يعصم منه أحد، فقد كان تقليد ابن عباس أولى بكم إذ ولا بد، لانه أفضل وأعلم عند الله عزوجل من الشافعي.
وقد قال قائلون منهم: نحن لم نرزق من العقل والفهم ما يمكننا أن نأخذ الفقه من القرآن، وحديث النبي (صلى الله عليه وسلم)، فأتوا بالتي تملا الفم فيقال لهم: أمنعكم الله تعالى العقل الذي تفهمون به عند ما قد ألزمكم فهمه ؟ إذ يقول عز وجل: * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) *.
وقد سمعتموه يقول: * (يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) * وسمعتموه يقول: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) * وسمعتموه يقول: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * فلولا أن في وسعكم الفهم لاحكام القرآن ما أمركم بتدبره، ولولا أن في وسعكم الفهم لكلام النبي (صلى الله عليه وسلم) ما أمره بالبيان عليكم ولا أمركم بطاعته، هذا إن كنتم تصدقون كلام ربكم.
فليت شعري كيف قصرت عقولكم عن فهم ما افترض الله تعالى عليكم تدبره والاخذ به واتسعت عقولكم للفهم عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة وما أمركم الله تعالى قط بالسماع منهم خاصة دون سائر العلماء ولا ضمن لكم ربكم تعالى قط العون على فهم كلامهم، كما ضمن لكم في فهم كلامه إنه لا يكلفكم إلا وسعكم.
وقد أيقنا أن الله عزوجل لا يأمرنا بشئ إلا وقد سبب لنا طرق الوصول إليه وسهلها وبينها، فقد أيقنا بلا شك عندنا أن وجوه معرفة أحكام الآي والاحاديث التي أمرنا بقبولها بينة لمن طلبها، إن صدقتم ربكم، وإن كذبتم كفرتم.
وأما ما لم نؤمر باتباعه من رأي مالك، وأبي حنيفة، وقول الشافعي، فلا سبيل إلى أن نقطع بأن فهمه ممكن لنا.
حدثنا أحمد بن عمر العذري، نا أبو محمد الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فراس، أنا أبو حفص عمر بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي، نا أبو الحسن علي بن عبد العزيز، ثنا الاصبهاني، نا عبد السلام، نا غطيف بن أعين المحاربي، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي (صلى الله عليه وسلم) وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: يا ابن حاتم ألق هذا الوثن من عنقك فألقيته.
ثم افتتح سورة براءة فقرأ حتى بلغ قوله تعالى: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) * فقلت:

يا رسول الله: ما كنا نعبدهم: فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): كانوا يحلون لكم الحرام فتستحلونه ويحرمون عليكم الحلال فتحرمونه قلت: بلى، قال: فتلك عبادتكم.
قال أبو محمد: فسمى النبي (صلى الله عليه وسلم) اتباع من دون النبي (صلى الله عليه وسلم) في التحليل والتحريم عبادة، وكل من قلد مفتيا يخطئ ويصيب، فلا بد له من أن يستحل حراما ويحرم حلالا، وبرهان ذلك تحريم بعضهم ما يحله سائرهم، ولا بد أن أحدهم مخطئ.
أفليس من العجب إضراب المرء عن الطريق التي أمره خالقه بسلوكها، وضمن له بيان نهج الصواب فيها.
وأمره أن يكون همه نفسه لا ما سواها، فيترك ذلك كله، ويقصد إلى طريق لم يؤمر بسلوكها، ولا ضمن له نهج الصواب فيها، بل قد نهي عن ذلك وعيب عليه، ولامه ربه عزوجل على ذلك أشد الملامة مع أن الذي قلدوه ينهاهم عن تقليده، فمن أضل من هؤلاء.
وقد احتج بعض من قلد مالكا بأنه المعني بقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في إنذاره بزمان يأتي لا يوجد فيه عالم أعلم من عالم المدينة.
أخبرنا عبد الله بن ربيع التميمي، عن محمد بن معاوية، عن أحمد بن شعيب، أنا علي بن محمد، ثنا محمد بن كثير، عن سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي
الزناد، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: يضربون أكباد الابل ويطلبون العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة.
فقال النسائي: قوله أبو الزناد خطأ، إنما هو أبو الزبير.
قال أبو محمد: وهكذا حدثناه أحمد بن عبد الله الطلمنكي، ثنا ابن مفرج قال: ثنا محمد بن أيوب الصموت، ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، ثنا عمرو بن علي، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن جريح، عن أبي الزبير، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): يوشك أن تضرب أكباد المطي فلا يوجد عالم أعلم من عالم المدينة قال البزار: لم يرو ابن جريج عن أبي صالح غير هذا الحديث.
حدثنا أحمد بن عمر، ثنا علي بن الحسن بن فهر، أنا محمد بن علي، ثنا محمد بن عبد الله البيع إجازة، أنا أبو النضر الفقيه أحمد بن محمد العنزي، ثنا عثمان بن سعيد الدارمي، ثنا أبو مسلم، عن عبد الرحمن بن يونس المستلمي، نا معن بن عيسى، حدثني زهير أبو المنذر التميمي، ثنا عبيد الله بن عمر بن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى الاشعري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): يخرج ناس من المشرق في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة وقال عالم أهل المدينة.
حدثنا أحمد بن عمر، ثنا فهر، نا ابن أحمد بن إبراهيم بن فراس، ثنا ابن الاعرابي، ثنا محمد بن إسماعيل الصوفي، ثنا علي بن المديني، ثنا سفيان بن عيينة، فذكر الحديث فقال ابن عيينة: وضعناه على مالك بن أنس، قال ابن فراس: ثنا محمد بن أحمد اليقطيني، نا محمد بن أحمد بن سلم الحراني، ثنا أبو موسى الانصاري وذكر هذا الحديث فقال: بلغني عن ابن جريج أنه كان يقول: نرى أنه مالك بن أنس.
قال أبو محمد: هذا حديث لم يقنعوا بقبيح فعلهم في التقليد، حتى أضافوا إلى ذلك الكذب على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الصفة المذكورة في الحديث المذكور، على أن في سنده أبو الزبير وهو مدلس ما لم يقل: حدثنا أو: أخبرنا ومع ذلك فليست تلك الصفة موجودة في عصر مالك، لانه كان في عصره ابن أبي ذئب، وعبد العزيز بن الماجشون، وسفيان الثوري، والليث، والاوزاعي، وكل هؤلاء لا يمكن لمن له أقل إنصاف وعلم أن يفضله في علمه وورعه على واحد منهم، ولا في فهمه للقرآن، ولا لحديث النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، وليت شعري ما الذي دلهم على أنه مالك، دون أن يقولوا إنه سعيد ابن المسيب الذي كان أفقه من مالك وأفضل ؟.
وذكروا عن سفيان بن عيينة أنه قال: كانوا يرونه مالكا، قالوا: فإنما عنى سفيان بذلك التابعين.
قال أبو محمد: فزادوا كذبة، وما دليلهم على أن سفيان عنى بذلك التابعين ؟ لو صح عن سفيان ؟ ولعله عنى بذلك مقلدي مالك من صغار أصحابه.

قال أبو محمد: هذا بارد وكذب، وليت شعري أي شئ من إدراك سفيان للتابعين مما يوجب أنه عناهم بهذا القول ؟ فكيف يصح عن سفيان إلا ما رويناه آنفا من أنه ظن منه، ومثل هذا من الاقدام على القطع بالظنون لا يستسهله إلا من يستسهل الكذب، نعوذ بالله من ذلك.
ومما يوضح كذبهم في هذا على سفيان بن عيينة ما حدثناه أحمد بن عمر بن أنس العذري، ثنا أحمد بن عيسى بن إسماعيل البلوي، ثنا غندر، ثنا خلف بن القاسم الحافظ، ثنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي، ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان النصري، قال محمد بن أبي عمر: قال سفيان بن عيينة: لو سئل أي الناس أعلم ؟ لقالوا سفيان، يعني الثوري، فهذا سفيان بن عيينة يقطع بأنهم كانوا يقولون سفيان أعلم الناس، فدخل في ذلك مالك وغيره.
وأما الرواية عن أبي جريج فلا يدرى عمن هي، وإنما هي بلاغ ضعيف كما ترى.
وبالله تعالى التوفيق.
وقد ضربت آباط الابل أيام عمر في طلب العلم حقا، الذي هو العلم بالحقيقة وهو القرآن وسنن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهاجر الناس في خلافته إلى المدينة، متعلمين للعلم، ومتفقهين في الدين، وما كان في أقطار البلاد يومئذ أحد يقطع على أنه أعلم من عمر، لا سيما مع شهادة النبي (صلى الله عليه وسلم) له بالعلم والدين، وأقصى ما يمكن أن يشك، هل يساويه في العلم علي وعائشة ومعاذ وابن مسعود ؟ وأما أن يقطع بأنهم أعلم منه جملة، فلا أصلا.
وأما الاكثار من الرأي فليس علما أصلا، ولو كان علما لكان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن أعلم من مالك، لانهم أكثر فتيا ورأيا منه فإذا ليس الرأي علما، وإنما العلم حفظ سنن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأقوال الصحابة والتابعين، فقد كان في عصر مالك من هو أوسع علما منه كشعبة وسفيان، ومن هو مثله كسفيان بن عيينة والاوزاعي وهشيم وغيره، فظهر كذب من كذب في الحديث المذكور، وبالله تعالى التوفيق.
ثم لو صح، وصح أنه مالك باسمه ونسبه، لكان إنما فيه أنه لا يوجد أعلم منه قط، وليس فيه أنه لا يوجد مثله في العلم، فبطل احتجاجهم، ولم يمنع وجود مثله في العلم، وعارضهم بعض الشافعيين بما حدثناه هشام بن سعيد الخير بن فتحون قال: ثنا عبد الجبار المقرئ بمصر، نا الحسن بن الحسين النجيرمي، ثنا جعفر بن محمد الاصبهاني، نا يونس بن حبيب، نا أبو داود الطيالسي، نا جعفر بن سليمان، عن النضر ابن معبد، عن الجارود، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملا الارض علما، اللهم إنك أذقت أولها عذابا أو وبالا فأذق آخرها نوالا.
فقالوا: هذه صفة الشافعي، فما ملا الارض علما قرشي غيره، وحدثنا أحمد بن محمد بن الجسور قال: نا ابن أبي دليم، نا ابن وضاح، نا أبو بكر ابن أبي شيبة، عن عبد الاعلى، عن معمر الازهري، عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: تعلموا من قريش ولا تعلموها، وقدموا قريشا ولا تؤخروها.
فإن للقرشي قوة الرجلين من غير قريش.
قال أبو محمد: وهذا حديث صحيح، أصح من حديثهم الذي شنعوا به.
وأما الحقيقة في ذلك الحديث فهي: أن الصفة التي بين (صلى الله عليه وسلم) في ذلك الحديث لم تأت بعد هذا، إن صح الحديث المذكور، لان الزمان إلى الآن لم تكن قط فيه البلاد عارية من عالم يضاهي علماء المدينة، فقد كان في عصر الصحابة بالعراق ابن مسعود وعلي وسليمان، وكان بالشام معاذ وأبو الدرداء، وكان بمكة ابن عباس، ولا يحل لذي ورع وعلم أن يقول: إن عمر وعائشة وأبي بن كعب وزيد بن ثابت كانوا أفقه من علي وابن مسعود ومعاذ وما ابن عباس بمتأخر عمن ذكرنا.
ثم أتى التابعون، فلا يقدر ذو ورع وعلم أن يقول: إن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار كانا أفقه من عطاء والحسن وعلقمة والاسود، ثم أتى صغار التابعين، فلا يقدر ذو ورع وعلم أن يقول: إن ربيعة والزهري وأبا الزناد كانوا أفقه من إبراهيم النخعي، وعامر والشعبي وسعيد بن جبير وأيوب السختياني وعمر بن عبد العزيز، ثم أتى عصر مالك، فكان معه ابن أبي ذئب وسفيان الثوري والاوزاعي وابن جريج والليس، وليس أحد ممن ذكرنا دونه في رواية ولا دراية ولا ورع، ثم هكذا إلى أن انقطع الفقه من المدينة جملة.
واستقر في الآفاق.

فإنما ذلك الحديث، إن صح، إذا قرب قيام الساعة، وأرز الايمان إلى
المدينة ومكة، وغلب الدجال على الارض حاشا مكة والمدينة، فحينئذ يكون ذلك، وإنما حتى الآن فلم تأت صفة ذلك الحديث، وهذا بين ظاهر.
وأما الانذار بما ذكرنا فكما حدثنا حمام بن أحمد عن عبد الله بن إبراهيم، عن أبي زيد المروزي، عن محمد بن يوسف، عن محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا إبراهيم ابن المنذر، نا أنس بن عياض، حدثني عبيد الله، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: إن الايمان ليأزر إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها.
وكما حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، ثنا محمد بن رافع والفضل بن سهل الاعرج، ثنا شبابة بن سوار قال: ثنا عاصم بن محمد العمري، عن أبيه عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وسلم): إن الاسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها.
وكما حدثنا حمام بن أحمد، عن عبد الله بن إبراهيم، عن أبي زيد، عن الفربري، عن البخاري، ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا أبو عمرو الاوزاعي، ثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة وذكر باقي الحديث.
ثم نقول لهم، هبكم، حتى لو صح الحديث المذكور، ثم لو صح أنه مالك بلا شك، أي شئ كان يكون فيه مما يوجب اتباعه دون غيره من العلماء ؟ ولا شك عند أحد من نقلة الحديث في صحة الحديث المسند إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه رأى رؤيا فيها: أنه أعطي قدحا فشرب منه حتى رأى الري يجري في أظفاره ثم ناول فضله عمر، فقيل له: يا رسول الله ما أولت ذلك فقال عليه السلام: العلم وصحة الحديث، أنه (صلى الله عليه وسلم): أري أمته وعليهم قمص
بعضها إلى الثديين، وعلى عمر قميص يجره، وأنه (صلى الله عليه وسلم) أخبر أن ذلك الدين فقد صح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن عمر من أعلم أمته وأصحابه، ومن أئمتهم دينا.

ولا خلاف بين أحد المسلمين أن عمر وعليا وابن مسعود وعائشة.
أعلم من مالك بلا شك، وليس ذلك يوجب تقليد أحد ممن ذكرنا، ولا اتباعه على جميع أقواله، كما فعلوا هم بمالك، فبطل تعلقهم بالحديث المذكور لو صح، وتأولهم فيه كذب بحت، لا يحل لاحد نسبته إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وما الفرق بينهم في الاقدام وبين الشافعيين لو استحلوا أن يقولوا: إن قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): الناس تبع لقريش في هذا الامر برهم لبرهم وفاجرهم لفاجرهم - إن المراد بهذا هو الشافعي، لانه قرشي النسب، فيجب أن يكون الناس تبعا له ؟ وبين الداوديين لو أنهم استحلوا فقال: إن قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لو أن العلم - أو هذا الدين - بالثريا لتناوله رجل أو رجال من أبناء فارس المراد بهذا داود وأبو حنيفة، لانهما من أبناء فارس ؟ هذا على أن هذين الحديثين صحيحان لا شك في صحتهما، وحديث عالم المدينة معلول لا يصح.
فإن قالوا: قد كان في قريش علماء غير الشافعي، وفي الفرس علماء غير داود وأبي حنيفة، قيل لهم: وقد كان بالمدينة علماء غير مالك بلا شك، وكان هذا استحلال للكذب على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لا يستجيزه ذو ورع.
قال أبو محمد: وأما احتجاجهم بقول مالك: هذا العمل ببلدنا، فهذا لا معنى له، لان العمل بالمدينة قبل مولد مالك بثلاث وعشرين سنة لم يجز إلا بالظلم والجور والفسق، ولا وليهم إلا الفساق من عمال بني مروان، ثم عمال بني العباس كالحجاج وحبيش بن دلجة، وطارق وعبد الرحمن بن الضحاك وغيرهم ممن لا يعتد بهم.
وما أدرك مالك قط بالمدينة بعقله عمل أمير ووال يقتدي به أصلا، ولقد كان التغيير بدأ في السنن من قبل ما ذكرنا كقول مروان: ذهب ما هنالك.
ودليل ما ذكرنا تركهم عمل عمر وعثمان في نصوص الموطأ، فبطل الاحتجاج بالعمل جملة، ولا يبق إلا الرواية التي رواها ثقات العلماء عن أمثالهم، إذ لم يمكن الظالمين أن يحولوا بينهم وبين ألسنتهم، كما حالوا بينهم وبين العمل، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ومن البرهان اللائح على بطلان التقليد أن أهل العصر الاول والعصر الثاني والعصر الثالث: وهي القرون التي أثنى عليها النبي (صلى الله عليه وسلم) كما حدثنا عبد الله بن ربيع، عن محمد بن إسحاق بن السليم، عن ابن الاعرابي، عن أبي داود، عن مسدد وعمرو بن عون قالا: ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن زرارة ابن أوفى، عن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، والله أعلم أذكر الثالث أم لا، ثم يظهر قوم يشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويحربون ولا يؤتمنون، ويفشون فيهم السمن.
قال أبو محمد: وهكذا في كتابي، والصواب: يخونون ولا يؤتمنون.
وبلفظة يخونون، رويناه من طريق مسلم، عن محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة، عن أبي حمزة، عن زهدم، عن عمران، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - فكان أهل هذه القرون الفاضلة المحمودة يطلبون حديث النبي (ص) والفقه في القرآن، ويرحلون في ذلك إلى البلاد، فإن وجدوا حديثا عنه (صلى الله عليه وسلم) عملوا به واعتقدوه، ولا يقلد أحد منهم أحدا البتة، فلما جاء أهل العصر الرابع تركوا ذلك كله، وعولوا على التقليد الذي ابتدعوه ولم يكن قبلهم، فاتبع ضعفاء أصحاب أبي حنيفة أبا حنيفة، وأصحاب مالك مالكا، ولم يلتفتوا إلى حديث يخالف قولهما،
ولا تفقهوا في القرآن والسنن، ولا بالوا بهما، إلا من عصمه الله عزوجل وثبته على ما كان عليه السلف الصالح في الاعصار الثلاثة المحمودة، من اتباع السنن عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والتفقه في القرآن وترك التقليد.
وأما أفاضل أصحاب أبي حنيفة ومالك فما قلدوهما، فإن خلاف ابن وهب وأشهب وابن الماجشون والمغيرة وابن أبي حازم، لمالك أشهر من أن يتكلف إيراده، وقد خالفه أيضا ابن القاسم، وكذلك خلاف أبي يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد لابي حنيفة أشهر من أن يتكلف إيراده، وكذلك خلاف أبي ثور والمزني للشافعي رحمه الله.
وكذلك خالف أصبغ وسحنون ابن القاسم، وخالف ابن المواز أصبغ، وكذلك خالف محمد بن علي بن يوسف المزني فكثير، وكذلك خالف الطحاوي أيضا أبا حنيفة وأصحابه، فإن كان النظر حقا فقد أخطؤوا في التقليد، وإن كان التقليد حقا فقد أخطؤوا النظر وترك التقليد، فقد ثبت الخطأ عليهم على كل حال، والخطأ واجب أن يجتنب.
قال أبو محمد: وقد سألناهم فقلنا لهم: أنتم مقرون معنا بأن عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله عليه السلام ينزل إذا خرج الدجال اللعين، فيدبر أهل الاسلام بملتهم لا بملة أخرى، فقالوا لنا: أبرأي أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن أو بتقليد مالك وابن القاسم وسحنون -: يحكم بين المسلمين ويقضي في الدين، ويفتي المستفتين ؟ ألا إن هذا هو الضلال المبين.
ولقد نكس الاسلام، وذلت النبوة، وهانت الرسالة وخزي الحق وأهله: إن كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وروحه وكلمته يرجع تابعا لمثل هؤلاء الذين لا يقطع لهم بنجاة، ولا يضمن ما هم عليه عند الله تعالى فلا والله، بل ما يقضي ويحكم ويفتي إلا بما أتى به أخوه في الرسالة، وصاحبه في النبوة، وقسيمه في نزول الوحي، محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم)، وليبطلن الآراء الفاسدة فلا خوف من أحد.
فمن أضل طريقه ممن يدين بشئ هو موقن أنه لم يكن أول الاسلام، ولا يكون عند نزول المسيح عليه السلام ومن يضلل الله فما له من هاد.
حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا ابن مفرج ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس، ثنا محمد بن علي بن علي بن زيد، نا سعيد بن منصور، نا هشيم، أنا ابن أبي ليلى، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل: أن رجلا مات وترك ابنته وابنة ابنه وأخته لابيه وأمه، فأتوا أبا موسى الاشعري فسألوه عن ذلك فقال: لابنته النصف، والنصف الباقي للاخت، فأتوا ابن مسعود فذكروا ذلك له فقال: لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين إن أخذت بقول الاشعري وتركت قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
فهذا ابن مسعود يسمي القول من الصاحب إذا خالف النص: ضلالا وخلافا للهدى.
وحدثنا أحمد بن عمر، نا أبو ذر، نا عبد الله بن أحمد، نا إبراهيم بن خزيم، نا عبد بن حميد، نا أبو نعيم، عن سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: سئل حذيفة عن قوله تعالى: * (اتخذوا أحباركم ورهبانكم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم) * قال: لم يكونوا يعبدونهم، ولكن إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه.
قال أبو محمد: هذه صفة المقلدين لابي حنيفة ومالك والشافعي، ولا يحرمون إلا ما جاء عن صاحبهم تحريمه، ولا يحلون إلا ما جاءهم عن صاحبهم تحليله، نبرأ إلى الله تعالى من مثل هذا الاعتقاد، ونعوذ به منه في أحد من ولد آدم، حاشا رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
حدثنا عبد الرحمن بن سلمة، نا أحمد بن خليل، نا خالد بن سعد، أخبرني أسلم بن عبد العزيز القاضي، وسعيد بن عثمان العناني قالا: نا يونس بن عبد الاعلى، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ليس من أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي (صلى الله عليه وسلم).
كتب إلي يوسف بن عبد الله النمري، أنا عبد الوارث بن سفيان، نا قاسم بن أصبغ، نا ابن وضاح، نا دحيم، نا ابن وهب، نا ابن لهيعة، عن بكير بن الاشج أن رجلا قال للقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: عجبا لعائشة كانت تصلي في السفر أربعا ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يصلي ركعتين، فقال: يا ابن أخي عليك بسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيث وجدتها، فإن من الناس من لا يعاب.
كتب إلي النمري: ثنا سعيد بن نصر، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن إسماعيل الترمذي، ثنا الحميدي، نا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه: قال عمر بن الخطاب: إذا رميتم الجمرة بسبع حصيات وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شئ إلا الطيب والنساء.
قال سالم: قالت عائشة: أنا طيبت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لحله قبل أن يطوف بالبيت، قال سالم: فسنة رسول الله أحق أن تتبع.
قال أبو محمد: فنحن نسألهم أن يعطونا في الاعصار الثلاثة المحمودية، عصر الصحابة وعصر التابعين وعصر تابعي التابعين، رجلا واحدا قلد عالما كان قبله، فأخذ بقوله كله ولم يخالفه في شئ، فإن وجدوه، ولن يجدوه والله أبدا لانه لم يكن قط فيهم، فلهم متعلق على سبيل المسامحة، ولم يجدوه فليوقنوا أنهم قد أحدثوا بدعة في دين الله تعالى لم يسبقهم إليها أحد.
وليعلموا أن عصابة من أهل العصر الرابع ابتدعوا في الاسلام هذه البدعة الشنعاء إلا من عصم الله تعالى منهم، والبدع محرمة، وشر الامور محدثاتها، وليعلموا أن طلاب سنن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيث كانت، والعاملين بها والمتفقهين في القرآن الذين لا يقلدون أحدا، هم على منهاج الصحابة والتابعين والاعصار المحمودة، وأنهم أهل الحق في كل عصر، والاكثرون عند الله تعالى، بلا شك، وإن قل عددهم، وبالله تعالى التوفيق.
وليعلم من قرأ كتابنا أن هذه البدعة العظيمة، نعني التقليد، إنما حدثت في الناس وابتدئ بها بعد الاربعين ومائة من تاريخ الهجرة، وبعد أزيد من مائة عام وثلاثين عاما بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنه لم يكن قط في الاسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحد فصاعدا على هذه البدعة، ولا وجد فيهم رجل يقلد عالما بعينه، فيتبع أقواله في الفتيا، فيأخذ بها ولا يخالف شيئا منها، ثم ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم، ثم لم تزل تزيد حتى عمت بعد المائتين من الهجرة عموما طبق الارض، إلا من عصم الله عزوجل، وتمسك بالامر الاول الذي كان عليه الصحابة والتابعون، وتابعو التابعين بلا خلاف من أحد منهم، نسأل الله تعالى أن يثبتنا عليه، وأن لا يعدل بنا عنه، وأن يتوب على من تورط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين، وأن يفئ بهم إلى منهاج سلفهم الصالح.
حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي، قال: نا محمد بن إسحاق بن السليم قال: نا ابن الاعرابي، عن أبي داود، نا أبو بكر بن شيبة، نا وكيع، عن الاوزاعي، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي قلابة قال: قال أبو مسعود، وهو البدري، لابي عبد الله، وهو حذيفة، أو قال أبو عبد الله، وهو حذيفة، لابي مسعود البدري.
ما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول في زعموا ؟ قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: بئس مطية الرجل.

وقد نص رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حديث عذاب القبر على أن المنافق أو المرتاب يقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، فهذا التقليد مذموم في التوحيد، فكيف ما دونه.
وقال ابن مسعود: لا تكن إمعة.
فسئل: ما هو ؟ فقال: الذي يقول أنا مع الناس.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، نا بشار بندار، نا ابن أبي عدي، أنبأنا شعبة، عن الاعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي الاحوص عن عبد الله بن مسعود قال: لا يكونن أحدكم إمعة، يقول: إنما أنا مع الناس، ليوطن أحدكم نفسه إن كفر الناس ألا يكفر، وبه إلى بندار، نا محمد بن جعفر، نا شعبة قال: سمعت أبا إسحاق يقول: سمعت هبيرة وأبا الاحوص عن ابن مسعود قال: إذا وقع الناس في الشر، قل: لا أسوة لي في الشر.
وبه إلى بندار قال: ثنا سعيد بن عامر، نا شعبة عن الحكم قال: ليس أحد من الناس إلا وأنت آخذ من قوله أو تارك إلا النبي (صلى الله عليه وسلم).
وبه إلى بندار: نا أبو داود، نا شعبة عن منصور، عن سعيد بن جبير أنه قال في الوهم: يعيد، قال: فذكرت ذلك لابراهيم، فقال: ما تصنع بحديث سعيد بن جبير مع قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟.
حدثنا محمد بن سعيد، عن القلعي، عن الصواف،: عن بشر بن موسى، عن الحميدي قال: قال سفيان: ما زال أمر الناس معتدلا حتى غير أبو حنيفة بالكوفة والبتي بالبصرة، وربيعة بالمدينة.
قال أبو محمد: وصدق سفيان، فإن هؤلاء أول من تكلم بالآراء، ورد الاحاديث، فسارع الناس في ذلك واستحلوه، والناس سراع إلى قبول الباطل والحق مر ثقيل.
وقد أوردنا قبل هذا المكان بأوراق يسيرة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لما تلا: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) * قال له عدي بن حاتم - وكان قبل ذلك نصرانيا -: يا رسول الله ما كنا نعبدهم ؟ فقال له (صلى الله عليه وسلم) كلاما معناه: إنهم كانوا يحرمون ما حرموا عليهم، ويحلون ما أحلوا لهم، وأخبر عليه السلام أن هذه هي العبادة.
قال أبو محمد: ولا جرم، فقد حرم مقلدو مالك شحوم البقر والغنم إذا ذبحها يهودي، وحرموا الجمل والارنب، إذا ذكاهما يهودي، تقليدا لخطأ مالك في ذلك، وردوا قول الله تعالى في ذلك بعينه: * (وطعامكم حل لهم) *.
وأحل أصحاب أبي حنيفة ثمن الكلب الذي حرمه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وحرم من اتبعه منهم المساقاة التي أحلها الله تعالى، تقليدا لخطأ أبي حنيفة في ذلك، وردوا كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) وإخباره في ثمن الكلب أنه سحت وتحريمه إياه، وهذا نص ما حرم الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) من فعل اليهود والنصارى، وقد أنذر (صلى الله عليه وسلم) بذلك وقال: لتركبن سنن من كان قبلكم فقيل له: يا رسول الله: اليهود والنصارى ؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) كلاما معناه: نعم.
حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود، نا ابن دحيم بن حماد، نا إسماعيل بن إسحاق، نا حجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة، نا عطاء بن السائب، عن أبي البختري، أن سلمان قال لزيد بن صوحان وأبي قرة، كيف أنتما عند زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق، ودنيا مطغية تقطع الاعناق ؟ ثم قال: أما زلة العالم فإن اهتدى فلا تحملوه دينكم، وإن زل فلا تقطعوا منه أناتكم، وأما جدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق، فإن للقرآن منارا كمنار الطريق، فما أضاء لكم فاتبعوه، وما شبه عليكم فكلوه إلى الله عزوجل، وذكر باقي الحديث.
قال أبو محمد: فهذا سلمان ينهى أن يقلد العلماء، ويأمر باتباع ظاهر القرآن
الذي هو كمنار الطريق، وينهى عن التأويلات والمتشابه منه، وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين.
حدثنا يوسف بن عبد الله النمري، أخبرني عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، هو ابن الزيات، نا محمد بن أحمد القاضي المالكي البصري، نا موسى بن إسحاق.
نا إبراهيم بن المنذر الخزامي قال: نا معن بن عيسى القزاز، قال: سمعت مالك بن أنس يقول: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه، فهذا مالك ينهى عن تقليده، وكذلك أبو حنيفة وكذلك الشافعي، فلاح الحق لمن لم يغش نفسه، ولم تسبق إليه الضلالة، نعوذ بالله منها.

فصل قال أبو محمد: فإن قال قائل: فكيف يفعل العالم إذا سئل عن مسألة فأعيته، أو نزلت به نازلة فأعيته ؟ قيل له وبالله تعالى التوفيق: يلزمه أن يسأل الرواة عن أقوال العلماء في تلك المسألة النازلة، ثم يعرض تلك الاقوال على كتاب الله تعالى، وكلام النبي (ص) كما أمره الله تعالى إذ يقول: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * وإذ يقول: * (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) * وقوله تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * ولم يقل تعالى فردوه إلى مالك وأبي حنيفة والشافعي، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليرد ما اختلف فيه من الدين إلى القرآن والسنة الواردة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وليتق الله، ولا يرد ذلك إلى رجل من المسلمين لم يؤمر بالرد عليه، ومن أبى فسيرد ويعلم.
وقد قال الله تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * فلم يجعل البيان إلا لنبيه (صلى الله عليه وسلم) فمن رد إلى سواه فقد عدم البيان، وحصل على الضلالة، ونعوذ بالله منها.
فالتقليد كله حرم في جميع الشرائع، أولها عن آخرها، من التوحيد والنبوة والقدر والايمان والوعيد والامامة والمفاضلة وجميع العبادات والاحكام.
فإن قال قائل: فما وجه قوله تعالى: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * قيل له وبالله تعالى التوفيق: إنه تعالى أمرنا أن نسأل أهل العلم عما حكم به الله تعالى في هذه المسألة، وما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيها، ولم يأمرنا أن نسألهم عن شريعة جديدة يحدثونها لنا من آرائهم، وقد بين ذلك (صلى الله عليه وسلم) بقوله: فليبلغ الشاهد الغائب وبينه تعالى بقوله: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) * فالدين قد كمل، فلا مدخل لاحد فيه بزيادة ولا نقص ولا تبديل، وكل هذا كفر ممن أجازه.
وقد أمر تعالى المتفقهين أن ينفروا لطلب أحكام الدين، ولم يأمرهم أن يقولوا من عند أنفسهم شيئا، بل حرم تعالى ذلك بذمه قوما شرعوا لهم في الدين ما لم يأذن به الله وبقوله عزوجل: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *.

فإنما نحن دعاة إلى تفهم القرآن وكلام النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومبلغون من ذلك إلى من تقدمناه في الطلب، ما بلغه إلينا من تقدمنا، ومعلمون إياه، ومعاذ الله من التزيد في هذا أو من تبديله أو من النقص منه.
فإن قال قائل: فكيف يصنع العامي إذا نزلت به النازلة ؟.
قال أبو محمد: فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إنا قد بينا تحريم الله تعالى للتقليد جملة، ولم يخص الله تعالى بذلك عاميا من عالم، ولا عالما من عامي، وخطاب الله تعالى متوجه إلى كل أحد، فالتقليد حرام على العبد المجلوب من بلده، والعامي، والعذراء المخدرة، والراعي في شعف الجبال، كما هو حرام على العالم المتبحر ولا فرق، والاجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم)، في كل ما خص المرء من دينه، لازم لكل من ذكرنا، كلزومه للعالم المتبحر ولا فرق، فمن قلد من كل من ذكرنا فقد عصى الله عزوجل، وأثم ولكن يختلفون في كيفية الاجتهاد فلا يلزم المرء منه إلا مقدار ما يستطيع عليه، لقوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * ولقوله تعالى: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * والتقوى كله هو العمل في الدين بما أوجبه الله تعالى فيه، ولم يكلفنا تعالى منه إلا ما نستطيع فقط، ويسقط عنا ما لا نستطيع، وهذا نص جلي على أنه لا يلزم أحدا من البحث على ما نزل به في الديانة إلا بقدر ما يستطيع فقط، فعلى كل أحد حظه من الاجتهاد، ومقدار طاقته منه، فاجتهاد العامي إذا سأل العالم على أمور دينه فأفتاه أن يقول له: هكذا أمر الله ورسوله ؟ فإن قال له: نعم، أخذ بقوله، ولم يلزمه أكثر من هذا البحث، وإن قال له: لا، أو قال له: هذا قولي، أو قال له: هذا قول مالك أو ابن القاسم أو أبي حنيفة أو أبي يوسف أو الشافعي أو أحمد أو داود أو سمى له أحد من صاحب أو تابع فمن دونهما غير النبي (صلى الله عليه وسلم)، أو انتهزه أو سكت عنه: فحرام على السائل أن يأخذ بفتياه، وفرض عليه أن يسأل غيره من العلماء وأن يطلبه حيث كان، إذ إنما يسأل المسلم من سأل من العلماء عن نازلة تنزل به ليخبره بحكم الله تعالى وحكم محمد (صلى الله عليه وسلم) في ذلك، وما يجب في دين الاسلام في تلك المسألة، ولو علم أنه يفتيه بغير ذلك لتبرأ منه وهرب عنه.
وفرض على الفقيه إذا علم أن الذي أفتاه به هو في نص القرآن والسنة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو الاجماع أن يقول له: نعم، هكذا أمر الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وحرام عليه أن ينسب إلى الله تعالى وإلى رسوله (صلى الله عليه وسلم) شيئا، قاله بقياس أو استحسان أو تقليد لاحد دون النبي (صلى الله عليه وسلم)، فإنه إن فعل ذلك كان بذلك كاذبا على رسوله عليه السلام، ومقولا له ما لم يقل، وقد وجبت له النار
يقينا، بنص قوله (صلى الله عليه وسلم): من كذب علي فليلج النار وهذا الذي قلنا لا يعجز عنه واحد وإن بلغ الغاية في جهله، لانه لا يكون أحد من الناس مسلما حتى يعلم أن الله تعالى ربه، وأن النبي عليه السلام، وهو محمد بن عبد الله، رسول الله بالدين القيم.
فإن قال قائل: فإن أفتاه الفقيه بفتيا منسوخة أو مخصوصة، أو أخطأ فيها فنسبها إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وليست من قوله، سهوا أو تعمد ذلك، فما الذي يلزم العامي من ذلك ؟ وقد روينا من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قلت لابي رحمه الله الرجل تنزل به النازلة وليس يجد إلا قوما من أصحاب الحديث والرواية لا علم لهم بالفقه، وقوما من أصحاب الرأي من يسأل ؟ فقال يسأل أصحاب الحديث، ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث خير من الرأي.
قال أبو محمد: فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن هذا ينقسم ستة عشر قسما، وهي: من بلغه خبر منسوخ، أو آية منسوخة، ولم يعلم بنسخ ذلك، فالعامي والعالم في ذلك سواء، والواجب عليهما بلا شك العمل بذلك المنسوخ، ولم يؤمرا قط بتركه إلا إذا بلغهما النسخ، قال تعالى: * (لانذركم به ومن بلغ) *، فأخبر تعالى أنه لا تلزم النذارة إلا من بلغه الامر، فما دام النسخ لم يبلغه فلم يلزمه.
وإذا لم يلزمه فلم يؤمر به: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *، وليس في وسع أحد أن يعلم ما لم يعلم في حين جهله به، ولا أن يعرف الشريعة قبل أن تبلغه، وقد لزمه الامر الاول بيقين، فلا يسقط عنه إلا ببلوغ الناسخ إليه بنص القرآن.
وهكذا كان الصحابة الذين بأرض الحبشة، والصلاة قد فرضت بمكة إلى بيت المقدس وعرفوا ذلك فصلوا كذلك بلا شك، ثم حولت القبلة إلى الكعبة بالمدينة بعد ستة عشر شهرا من الهجرة، ولا خلاف بين أحد أنهم لم يلزمهم التحول إلى الكعبة ولا سقط عنهم فرض الصلاة، ولا كان لهم أن يصلوا إلى غير القبلة التي صح عندهم الامر بها، ما لم يبلغهم النسخ، وقد سمى الله تعالى صلاة من مات قبل أن يبلغهم بالنسخ إيمانا، فقال تعالى: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * وهكذا فعل أهل قباء صلوا نصف صلاتهم إلى بيت المقدس، ولا شك أنهم لم يبتدئوها إلى بيت المقدس إلا والقبلة قد نسخت، لكن لما لم يعلموا ذلك، لم يلزمهم ما لم يعلموا، ولا سقط عنهم ما كان لزمهم إلا بعد بلوغ النسخ إليهم.
وهكذا القول في كل ما صح نسخه، ولم يصح عند بعض الناس.
وأما إن قامت عليه الحجة فعاند تقليدا ففاسق، وهذا في غاية البيان فيما قلنا والحمد لله رب العالمين.
وأما من بلغه الخبر المنسوخ أو الآية المنسوخة ولم يعرف أنهما منسوخان فأقدم على تركهما بغير علم الناسخ، فهو عاص لله تعالى، لانه ترك الفرض الواجب عليه لما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق.
فهذا وجهان في النص المنسوخ الذي لم يبلغ المرء نسخه.
ثم وجهان آخران في عكس هذه المسألة: وهما نص غير منسوخ من آية أو كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) ظنه عالم من العلماء منسوخا، فترك العمل به، وأفتى بذلك عاميا، وأخبره أن الحديث أو الآية منسوخان، فتركه العامي أو عملا به وهما يظنان ويقدران أنه منسوخ، وهذا خلاف ما تقدم، لانهما ههنا تركا العمل بما أوجبه الله تعالى عليهما، إلا أن من ترك ذلك مجتهدا - يرى أن الذي فعل هو الحق، ولم يتبين له غيره بعد - فهو مخطئ له أجر واحد ومن ترك ذلك مقلدا فهو عاص لله عزوجل آثم، لاحظ له في الآخرة أصلا لانه ترك الحق للباطل دون اجتهاد.
فهذه أربعة أوجه: ثم وجهان آخران، وهما: من بلغه حديث صحيح فلم يصح عنده فعمل به أو تركه، فأما الذي عمل بحديث صحيح وهو يعتقد فيه أنه غير صحيح، فإنه مقدم على ما يرى أنه باطل فهو عاص لله تعالى بنيته في ذلك، فإن تركه وهو عنده غير صحيح، ولم تقم الحجة عليه بصحته، فهو محسن مأجور، ولا شئ عليه، لانه لم يبلغه بعد ما يلزمه اتباعه.
وأما من صح عنده الخبر فتركه، فإنه لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون مقدما مستجيزا لخلاف ما صح عنده عن الله تعالى وعن نبيه صلى الله عليه وسلم فهذا فاسق في هذه النية عاص لله عزوجل ولا إثم عليه في نفس عمله بما وافق الحق، فهذا قسم.
وقسم ثان وهو أن يستحل خلاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فهو كافر مشرك، لقول الله تعالى: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) *.
ثم وجهان آخران: وهما عكس اللذين قبلهما، وهما: من بلغه حديث غير صحيح فظنه صحيحا فعمل به، فهذا مأجور على نيته واجتهاده أجرا واحدا، ولا إثم عليه فيما خالف فيه الحق، لانه لم يقصد، والاعمال بالنيات فلو تركه عمدا لكان متسهلا لخلاف ما صح عنده عن الله تعالى أو عن رسوله (صلى الله عليه وسلم) فهو عاص لله تعالى بهذه النية فقط، آثما فيها، فإن لم يكن مستسهلا لذلك لكن اتفق له ترك العمل بذلك.
فلا إثم عليه، لانه لم يترك حقا وهذا حكم من أفتاه فقيه بفتيا غير صحيحة.
فإنها لا تلزمه، ولا هو مأمور بها.
ولو كان عاصيا بترك العمل بها لكان مأمورا بها وهي باطل.
فكان يكون مأمورا بالباطل.
وهذا خطأ متيقن.
لكنه إن تركها مستسهلا لترك العمل بالواجب عليه، فهو عاص بهذه النية فقط لا بتركه للعمل بغير الواجب.
وبالله تعالى التوفيق.
ومن أفتى آخر بفتيا صحيحة إلا أنه لم يأته عليها بدليل، فإنه إن عمل بها مقلدا فهو آثم في تقليده مأجور - إن شاء الله تعالى - بعمله بها إن أراد الله تعالى.
ثم وجهان: وهما: من بلغه نص مخصوص فعمل به على عمومه، ولم يبلغه الخصوص، وترك العمل بعمومه، فوافق الحق وهو لا يعلمه، أو بلغه نص عام فتأول فيه الخصوص.

فأما الذي عمل بالعموم في الخصوص ولم يبلغه الخصوص وهو يظنه عموما، فمأجور أجرين، لان فرضه أن يعمل بما بلغه حتى يبلغه خلافه، إذ وجوب الطاعة لله تعالى فرض عليه، فلو تأول أنه مخصوص دون دليل يقوم له على ذلك، لكن مطارفة، فعمل بالخصوص فوافق الحق، فإن كان مستسهلا لمخالفة ظاهر ما يأتيه عن الله تعالى أو عن رسوله (صلى الله عليه وسلم) بلا دليل، فهو فاسق عاص بهذه النية فقط غير عاص فيما فعل، لانه لم يخطئ في ذلك، فإن فعل ذلك باتفاق دون قصد إلى خلاف ما بلغه من الظواهر عن الله تعالى ورسوله عليه السلام فلا إثم عليه البتة.
والقياس وقول من دون النبي (صلى الله عليه وسلم) بغير نص ولا إجماع والرأي، كل ذلك خطأ، ولم يكن قط حقا البتة.
ثم وجهان: وهما حاكم شهد عنده رجلان - هما عنده عدلان - فوافق أن شهدا بباطل، إما عمدا وإما غلطا، فإنه حق مأمور بالحكم بشهادتهما.
لانه قد ورد النص بقبول شهادة العدول عندنا.
ولم نكلف علم غيبهما، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع
له قطعة من النار فقد أخبر (صلى الله عليه وسلم) أنه يحكم بظاهر الشهادة أو اليمين، ولعل الباطن خلاف ذلك، وهو (صلى الله عليه وسلم) لا يحكم إلا بالحق الذي لا يحل خلافه.
ففرض على الحاكم أن يحكم بشهادة العدول عنده، وإن كانوا كاذبين أو مغفلين، وهو في ذلك مأجور أجرين، ولا إثم عليه فيما خفي عنه، فإن لم يحكم بتلك الشهادة فهو عاص لله عزوجل.
فاسق بتلك النية وبعمله معا، والاثم عليه في تركه الحكم بها.
ثم وجهان: وهما: حاكم شهد عنده عدلان بحق فلم يعرفهما، فهو غير مأمور بالحكم بشهادتهما، ولا يحل له أن يحكم بها أصلا، وهما عنده مجهولان ولا إثم عليه فيما خفي عنه من ذلك، فلو حكم بها فهو آثم عاص بهذه النية وبعمله فاسق بها والاثم عليه في نفس حكمه، وإن كان بما وافق الحق.
وعمدة القول في هذا الباب كله: أن الاثم ساقط عن المرء فيما لم يبلغه، والاثم لازم له فيما بلغه فخالفه عمدا أو تقليدا، وأنه لا يجب على المرء إلا ما جاء به النص أو الاجماع حقا، لا ما أفتاه به المفتون، مما لم يأت به نص ولا إجماع، وأخبر بأنه نص أو إجماع، وأنه مأجور على نيته ومثاب عليها، فإن كانت خيرا، فخير وإن كانت شرا فشر، وإن المرء لا يأثم بعمل ما أمر به وإن لم يعلم أنه مأمور به ولا يأثم بترك ما لم يؤمر به.
وإن لم يعلم أنه ليس مأمورا به، وإن ظن أنه مأمور به لان النية غير العمل، إلا أن يبلغه نص فيخالفه، وإن كان مخصوصا أو منسوخا بعد أن يبلغه الناسخ أو المخصص.
ومن هذا الباب: من لقي امرأة فراودها عن نفسها فأجابته فوطئها، وهو يظنها أجنبية، فإذا بها امرأته، ولم يكن عرفها بعد ولا كان دخل بها، أو لقي إنسانا فقتله وهو يظنه مسلما حرام الدم، فإذا به قاتل أبيه عمدا أو كافر حربي، أو انتزاع مالا من مسلم كرها، فإذا به ماله نفسه، فكل هذا إن كان
مستسهلا للزنى أو لغصب المال وقتل النفس فهو آثم بتلك النية فاسق بها عاص لله عزوجل، ولا إثم عليه في وطئه، ولا أخذه ماله.
ولا قتله الحربي ولا قاتل أبيه، لانه لم يواقع في ذلك إلا مباحا له.
وقد يظن ظان أن المستسهل للاثم وإن لم يواقعه لا يكتب عليه إثم ذلك لما صح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) من قوله: من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة.
قال أبو محمد: وهذا الحديث بين أن الذي لا يكتب عليه إثم فهي السيئة التي لم يعملها، وهذا ما لا شك فيه، ولم يقل (صلى الله عليه وسلم) إن إثم الهم بالسيئة لا يكتب عليه، والهم بالشئ غير العمل به، قال ضابئ بن الحارث البرجمي: هممت ولم أفعل وكدت وليتني * * تركت على عثمان تبكي حلائله ثم استدركنا هذا، وتأملنا النصوص فوجدناها مسقطة حكم الهم جملة، وأنه هو اللمم المغفور جملته.
فإن قال قائل: فقد صح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه أخبر أن: من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة قيل له: قد صح ذلك، وأخبر (صلى الله عليه وسلم) أن: الاعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن هم بسيئة ثم تركها قاصدا بتركها إلى الله تعالى، كتبت له حسنة بهذه النية الجميلة، فإن تركها لا لذلك لكن ناسيا أو مغلوبا أو بدا له فقط، فإنها غير مكتوبة عليه، لانه لم يعملها ولا أجر له في تركها، لانه لم يقصد بذلك الله تعالى.
ولا يكون من هم بالسيئة مصرا إلا من تقدم منه مثل ذلك الفعل، قال الله تعالى: * (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) * فصح أن لا إصرار إلا على من قد عمل بالشئ الذي هو مصر عليه، وهو عالم بأنه حرام عليه، وأما من هم بقبيح ولم يفعله قط، فهو هام به لا مصر عليه، بالنصوص التي ذكرنا.
فإن قال قائل: ما تقولون في حربي كافر لقي مسلما فدعاه المسلم إلى الاسلام فأسلم، ثم علمه الشرائع، وقال له: هذه شرائع الاسلام، أيلزمه العمل بما أخبره من ذلك أم لا ؟ قيل له وبالله تعالى التوفيق: الكلام في هذا كالكلام فيما تقدم.
وهو أن ما كان مما أمره به موافقا للنص أو الاجماع، فهو واجب عليه قبوله، ومأجور فيه إن عمله أجران، وعاص فيه إن لم يفعله، وما كان من ذلك بخلاف النص فهو غير واجب عليه، ولا يأثم في ترك العمل به، إلا إن استسهل خلاف ما ورد عليه من النص، فهو آثم في هذه النية فقط، فلو عمل بذلك أجر أجرا واحدا بقصده إلى الخير فقط، ولم يؤجر على ذلك العمل، ولا إثم فيه، لانه ليس حقا فيؤجر عليه، ولم يقصد عمل الخطأ وهو يعلمه فيأثم عليه، وهذا حكم العامي في كل ما أفتاه فيه فقيه من الفقهاء.
وهذا حكم العالم فيما اعتقده، وأفتى به، باجتهاد لا يوقن فيه أنه مصيب للحق عند الله عزوجل.
فهي أربع مراتب هو: إنسان عمل بالحق وهو يدري أنه حق، فله أجران: أجر النية وأجر العمل، وآخر عمل الباطل وهو يدري وهو يدري أنه باطل، فله إثمان: إثم النية وإثم العمل، وقال تعالى: * (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) *.
فالنية عمل النفس المجرد، والعمل على الجوارح بتحريك النفس لها، فهما عملان متغايران، وثالث عمل بالحق وهو يظنه باطلا، أو ترك الباطل وهو يظن أن ذلك الباطل الذي ترك حق، فلا إثم عليه فيما عمل، ولا فيما ترك، لانه لم يعمل محرما عليه، ولا ترك واجبا عليه، ولا يؤجر أيضا في شئ من ذلك، لانه لم يقصد بنيته في ذلك وجه الله تعالى، فإن نوى في ذلك استسهال مخالفة الحق فهو آثم بهذه النية فقط، لا بما فعل ولا بما ترك.
ورابع عمل بالباطل وهو يظنه حقا أو ترك الحق وهو يظنه باطلا، فهذا مأجور في نيته للخير أجرا واحدا، ولا إثم عليه فيما فعل ولا فيما ترك ولا أجر أيضا، لانه لم يعمل صوابا فيؤجر.

ولا قصد الباطل وهو يعلمه باطلا فيأثم، فهذه حقيقة البيان في هذه المسألة واليقين فيها والحق عند الله بلا شك، وما عدا هذا فحيرة ودعوى بلا دليل.
فإن سأل العامي فقيهين فصاعدا فاختلفوا عليه، فقد قال قوم: يأخذ بالاخف، وقال قوم: يأخذ بالاثقل، وقال قوم: لا يلزمه منها، وقال قوم: هو مخير يأخذ ما يشاء من ذلك.
قال أبو محمد: أما من قال: هو مخير، فقد أمره باتباع الهوى، وذلك حرام وأخطأ بلا شك، وجعل الدين مردودا إلى اختيار الناس يعمل بما شاء، وأجاز فيه الاختلاف، والله تعالى يقول: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * وقال تعالى: * (ولا تنازعوا فتفشلوا) * وقال تعالى: * (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) * فالاختلاف ليس من أمر الله تعالى الذي أباحه وأمر به.
وقد علمنا أن حكم الله تعالى في الدين حكم واحد، وأن سائر ذلك خطأ وباطل، فقد خيره هذا القائل في أخذ الحق أو تركه، وأباح له خلاف حكم الله تعالى، وهذا الباطل المتيقن بلا شك، فسقط هذا القول بالبرهان الضروري.
وأما من قال: يأخذ بالاثقل فلا دليل على صحة قوله أيضا، وكذلك قول من قال: يأخذ بالاخف، وكل قول بلا دليل فهي دعوى ساقطة، فإن احتج بقول الله عزوجل: * (يريد الله بكم اليسر) * فقد علمنا أن كل ما ألزم الله تعالى فهو يسر، وبقوله تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) *.
قال أبو محمد: والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق: إنه إن أفتاه فقيهان فصاعدا بأمور مختلفة نسبوها إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فهو غير فاسق بتركه قبول شئ منها، لانه إنما يلزمه ما ألزمه النص في تلك المسألة، وهو لم يدره بعده، فهو غير آثم بتركه ما وجب مما لم يعلمه، لكنه يتركهم ويسأل غيرهم، ويطلب الحق.
مثال ذلك: رجل سأل: كيف أحج ؟ فقال له فقيه: أفرد، فهكذا فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حجته التي لم يكن له بعد الهجرة غيرها.
وقال له آخرون: اقرن، فهكذا فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حجته التي لم تكن له بعد الهجرة غيرها.
وقال له آخرون: تمتع، فهكذا فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حجته التي لم يكن له بعد الهجرة غيرها، ففرض عليه أن يتركهم ويستأنف سؤال غيرهم، ثم يلزمه ما قلنا آنفا، قبل هذا من موافقته للحق أو حرمانه إياه بعد اجتهاده.
ويكون العامي حينئذ بمنزلة عالم لم يبين له وجه الحكم في مسألة ما، إما بتعارض أحاديث أو آي أو أحاديث وآي، فحكمه التوقف والتزيد من الطلب والبحث، حتى يلوح له الحق، أو يموت وهو باحث عن الحق، عالي الدرجة في الآخرة في كلا الامرين، ولا يؤاخذه الله تعالى بتركه أمرا لم يلح له الحق فيه لما قدمنا قبل من أن الشريعة لا تلزم إلا من بلغته وصحت عنده.
والاصل إباحة كل شئ بقوله تعالى: * (خلق لكم ما في الارض جميعا) * وبقوله (صلى الله عليه وسلم): أعظم الناس جرما في الاسلام من سأل عن أمر لم يحرم فحرم من أجل مسألته.
والاصل ألا يلزم أحدا شئ إلا بعد ورود النص وبيانه، وبقوله تعالى: * (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) * وبقوله عليه السلام: لو قلتها لوجبت فاتركوني ما تركتكم وبقوله (صلى الله عليه وسلم) في قيام رمضان: خشيت أن يفرض عليكم فمن علم أن عليه الحج ولم يدر كيف يقيمه، فلا يؤاخذ من تركه ما وجب عليه من عمل الحج إلا بما علم، لا بما لا يعلم، ولكن عليه التزيد في البحث حتى يدري كيف يعمل ثم حينئذ يلزمه الذي علم، ولا يؤاخذ الله تعالى أحدا بشئ لم تقم عليه الحجة، ولا صح عنده وجهه، لانه لم يبلغه ذلك الحكم، قال تعالى: * (لانذركم به ومن بلغ) *.
وأما من قال: إن الفرض على العامي أن يقبل ما أفتاه به الفقيه - ولم يفسر كما فسرنا - فقد أخطأ.
ونحن نسأل قائل هذا القول فنقول له: إن كنت شافعيا فماذا تقول في عامي سأل مالكيا أو حنفيا عن رجل أعتق أمته وتزوجها وجعل عتقها صداقها ؟.
فأفتاه بأنها ليست له بزوجة، وأن نكاحه فاسد، أتجيز له أن يعتر بغير طلاق، فيزوجها من غيره، فيبيح له فرجا حرمه الله عليه ؟ أو تراه عاصيا إن قام معها ؟.
وإن كان مالكيا قلنا له: ما تقول في عامي سأل شافعيا أو حنبليا عن نكاح امرأة أمه أرضعته رضعتين فأفتاه بنكاحها، أتبيح له ذلك، وتقول: إنه لازم الاخذ بقوله.
أو سأل حنفيا عن المساقاة، أتجوز ؟ فحرمها عليه، أيكون الاخذ بتحريم المساقاة واجبا عليه ؟.
فإن قال نعم، قيل له: من أوجب عليه تحريم ذلك ؟، إذ يقول: إنه واجب عليه أن يأخذ بقول الفقيه الذي يفتيه، أنت أم الله عزوجل ؟ فإن قال: الله عزوجل، كذب على الله تعالى، وأقر مع ذلك أن الله تعالى أوجب عليه خلاف مذهبه، وإن قال: أنا أوجبت ذلك ترك مذهبه، وزادنا أنه يحرم ويحلل، وهذا خروج عن الاسلام.
وكذلك يسأل الحنفي عن عامي استفتى مالكيا عن كلام الامام في الصلاة بما فيه إصلاحها، فأفتاه بجواز ذلك، أيلزمه الاخذ بقوله فيصير له الكلام في الصلاة مباحا ؟ ثم يلزمه كل ما ذكرنا آنفا.
وهكذا نسأل كل معتقد لمسألة يستعظم مخالفة من خالفه فيها من عامي سأل فقيها فأفتاه بما يستعظمه هذا الذي نسأله نحن، أفرض الله تعالى عليه قبول ذلك المعنى أم لا ؟ فإن قال: لا، ترك قوله الفاسد: إن العامي قد فرض الله تعالى عليه قبول ما أفتاه الفقيه المسؤول، وإن لج وقال: نعم، صار حاكما بتحريم شئ وتحليله في وقت واحد على إنسان واحد من وجه واحد وبإيجابه وسقوطه في وقت واحد وجعل حكم الله تعالى مردودا إلى حكم ذلك المفتي، وجعل حكم ذلك المفتي مبطلا لحكم الله تعالى، ولحكم رسوله (صلى الله عليه وسلم) وجعل دين الله تعالى موكولا إلى آراء الرجال، ومتبدلا بتبدل الفتاوى، فمرة ساقطا ومرة لازما، وفي هذا مفارقة الاسلام، ومكابرة العقل، وإبطال الحقائق، وبالله تعالى التوفيق.
والناس فيما يعتقدونه ولا يخلون من أحد أربعة أوجه لا خامس لها: إما أن يكون المرء طلب الصواب فأداه اجتهاده إلى الصواب حقا فاعتقده على بصيرة، وإما أن يكون طلب الصواب فحرم إدراكه لبعض العوارض التي سبقت له في علم الله تعالى، وإما أن يكون قلد فوافق في تقليده الصواب، وإما أن يكون قلد فوافق في تقليده الخطأ.
فأما الوجهان الاولان فقد قضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأن من اجتهد فأصاب فله أجران، وأن من اجتهد فأخطأ فله أجر، وقوله (صلى الله عليه وسلم): إذا اجتهد الحاكم عموم لكل مجتهد، لان كل من اعتقد في مسألة ما حكما ما فهو حاكم فيها لما يعتقد، هذا هو اسمه نصا لا تأويلا، لان الطلب غير الاصابة، وقد يطلب من لا يصيب على ما قدمنا، ويصيب من لا يطلب، فإذا طلب أجر فإذا أصاب فقد فعل فعلا ثانيا، يؤجر عليه أجرا ثانيا أيضا.
فإن أشكل عليه بعد طلبه، فلم يأت محرما عليه ولا اعتمد معصية، فلا إثم عليه ولم يفعل ما أمر به من الاصابة فلا أجر له فيما لم يفعل، وله بالطلب أجر واحد.
ولكن الطلب يختلف، فمنه طلب أمر به، وطلب لم يؤمر به، فالطلب الذي أمر به هو الطلب في القرآن والسنن ودليلهما، فمن طلب في هذه المعادن الثلاثة فقد طلب كما أمر.
فله أجر الطلب، لانه مؤد لما أمر به منه على ما ذكرنا.
والطلب الذي لم يؤمر به هو الطلب في القياس، وفي دليل الخطاب وفي الاستحسان وفي قول من دون النبي (صلى الله عليه وسلم)، فلم يطلب كما أمر، فلا أجر له على طلب ذلك لكن لما كانت نيته بذلك القصد إلى الله عزوجل وطلب الحق وابتغاءه، كان غير قاصد إلى الخطأ وهو يدري أنه خطأ، فله من ذلك نية من هم بخير وهم بحسنة، وهي الطلب الذي لم يفعله.
وقد صح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: من هم بحسنة ولم يعملها فإنها تكتب له حسنة والحسنة بلا شك أجر، فالاجر هنا يتفاضل، فمن هم بالطلب ثم طلب كما أمر فله عشر حسنات، لانه هم بحسنة فعملها، ومن هم بالطلب كما أمر، فله حسنة واحدة، لانه لم يعملها كما أمر.
حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد ابن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا أبو كريب، ثنا أبو خالد الاحمر، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبت.
وبه إلى مسلم: حدثنا شيبان بن فروخ، ثنا عبد الوارث - هو ابن سعيد التنوري، عن الجعد أبي عثمان، ثنا أبو رجاء العطاري، عن ابن عباس، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
فيما يروي عن ربه تعالى قال: إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة.
قال أبو محمد: وأما القسم الثالث: وهو المقلد المصيب، فهو في تقليده عاص لله عزوجل، لانه فعل أمرا قد نهاه الله عنه وحرمه عليه، فهو آثم بذلك ويبعد عنه أجر المعتقد للحق، لانه لم يصبه من الوجه الذي أمره الله تعالى به، وكل من عمل عملا بخلاف أمر الله تعالى فهو باطل.
ولا شك أن المجتهد المخطئ أعظم أجرا من المقلد المصيب وأفضل، لان المقلد المصيب آثم بتقليده غير مأجور بإصابته والمجتهد المخطئ مأجور باجتهاده غير آثم لخطئه، فأجر متيقن وأجر مضمون أفضل من أجر محروم وإثم متيقن بلا شك.
فإن قال قائل: فردوا شهادة كل مسلم لم يعرف الاسلام من طريق الاستبدال لانه مقلد، والمقلد عاص، قيل له: ليس من اتبع من أمره الله تعالى باتباعه مقلدا، بل هو مطيع فاعل ما أمر به، محسن، وإنما المقلد من اتبع من لم يأمره الله تعالى باتباعه.
فهذا عاص لله تعالى، ثم لو علمنا أن هذا المسلم إنما اعتقد من الاسلام تقليدا لابيه وجاره ولمن نشأ معه، ولو أنه نشأ من غير المسلمين لم يكن مسلما، لما جاز قبول شهادته، وهذا لا يبعد من الكفر، بل إن عقد نيته على هذا فهو كافر بلا شك.
وكذلك أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) إذ وصف فتنة الناس في قبورهم، فقال (صلى الله عليه وسلم): وأما المنافق أو المرتاب - لا ندري أسمى أي ذلك قال - فيقول: لا أدري.
سمعت الناس يقولون شيئا فقلته وهذا نص ما قلنا، والمسلمون - بحمد الله - في أغلب أمورهم مبعدون عن هذا، بل تجد منهم الاكثر من عقد قلبه على أنه لو كفر أبوه وأهل مصره ما كفر هو ولو أحرق بالنار فهذا ليس مقلدا والحمد لله رب العالمين.

وكذلك من قلد في فتيا أو نحلة وقامت عليه الحجة فعند فهو فاسق مردود الشهادة، ولو لم يفهمها فهو معذور، ولا يضر ذلك شهادته، قال الله تعالى: * (يجادلونك في الحق بعدما تبين) * فذم عزوجل من عند بعد أن تبين له الحق، وعذر النبي (صلى الله عليه وسلم).
عمر إذ لم يفهم آية الكلالة، فهذا فرق ما بين الامرين، وبالله تعالى التوفيق، وأما القسم الرابع، وهو المقلد المخطئ، فله إثم معصية التقليد، وإثم المعصية باعتقاده الخطأ، فعليه إثمان.
وقد يخرج على القسم الثالث الحديث المأثور عن النبي (صلى الله عليه وسلم): إن الرجل ليصلي الصلاة وما له منها إلا نصفها، ثلثها، ربعها فيكون ذلك على قدر ما وافق فيه الحق من أحكام صلاته.
وقد بينا فيما خلا كيفية اجتهاد طالب الفقه، وما يلزمه من معرفة الرواة والثقات والمجرحين والمسند المرسل، وبناء النصوص بعضها على بعض من الآي والاحاديث والاستثناء، والاضافة، وزيادات العدول، والناسخ والمنسوخ، والمحكم، والعام، والخاص، والمجمل والمفسر، والاجماع والاختلاف وكيفية الرد إلى القرآن والسنة، وفهم البراهين والشغب، على حسب ما تنتهي إليه طاقته، وبينا في هذا الباب وجه اجتهاد العامي.
وأما من أباح للعامي أن يقلد فقد أخطأ بالبراهين التي قدمنا، من نهي الله تعالى عن التقليد جملة، ومع خطئه فقد تناقض، لان القائل بما ذكرنا قد أوجب على العامي البحث عن أفقه أهل بلده، وهذا النوع من أنواع الاجتهاد، فقد فارق التقليد وتركه، ولم يقل أحد أن العامي يقلد كل من خرج إلى يده.
فقد صح معنى ترك التقليد من العامي وغيره بإجماع لما ذكرنا آنفا، وإن أجاز لفظه مجيزون ناقضون في إجازتهم إياه، وكل من أقر بلفظ وأنكر معناه فقد أقر بفساد مذهبه، وأيضا فإنه إن بحث عن أفقه أهل بلده لم يكد يجد اتفاقا على ذلك، بل في الاغلب يدله قوم على رجل، ويدله آخرون على آخر.
وأيضا فقد يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من لا خير فيه، ومن لا يعلم عنده، ومن غيره أعلم منه، وقد شهدنا نحن قوما فساقا حملوا اسم التقدم في بلدنا، وهم ممن لا يحل لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة، ولا يجوز قبول شهادتهم.
وقد رأيت أنا بعضهم، وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا، وهو يتغطى الديباج الذي هو الحرير المحض لحافا، ويتخذ في منزله الصور ذوات الارواح من النحاس والحديد تقذف الماء أمامه، ويفتي بالهوى للصديق فتيا، وعلى العدو فتيا ضدها، ولا يستحي من اختلاف فتاويه على قدر ميله إلى من أفتى وانحرافه عليه، شاهدنا نحن هذا عيانا، وعليه جمهور أهل البلد، إلى قبائح مستفيضة، لا نستجيز ذكرها لاننا لم نشاهدها.
هذا مع ما فشا في الناس من فتيا من يسمونه في الفقه: بالتقليد والقياس والاستحسان، وإنما أوقع العامة في سؤالهم حسن الظن بهم أنهم لا يقدمون على الفتيا بغير علم، ولا بما لا يصح عندهم عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولو علمت العامة أنهم ليس عندهم في أكثر ما يفتونهم به علم عن الله عزوجل، ولا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنهم يوقعونهم في مخالفة القرآن والسنة، ما سألوهم ولا استفتوهم، بل لعلهم كانوا يقدمون عليهم إقداما يتلفهم.
فمن استفتى فقيهين فأفتاه كل واحد منهما بفتيا غير الذي أفتى به الآخر، وقال له أحدهما: كذا قال الله عزوجل، وقال الآخر: كذا قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاللازم له أن يأخذ بقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لقوله عزوجل: * (لتبين للناسما نزل إليهم) *، ولانه (صلى الله عليه وسلم) لا يخالف ربه عزوجل، لكنه يبين مراده تعالى، ولانه لولا رسول الله (ص) لم نعلم أن القرآن كلام الله تعالى، ولا درينا دين الله تعالى، ولا عرفنا مراد ربنا تعالى، ولا أوامره ولا نواهيه، ولا خلاف بين أحد المسلمين في وجوب المصير إلى قوله (صلى الله عليه وسلم) وترك ما أمرنا أن نترك العمل به من القرآن.
فمن ذلك أنه لا خلاف بين أحد من المسلمين - حاشا الازارقة - في وجوب الرجم على الزاني المحصن، وليس ذلك في القرآن، ولا في عدد الصلوات وكيفية أخذ الزكوات، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها - إلا من شذ عن الحق في ذلك، وليس في القرآن شئ من ذلك أصلا.
وهكذا سائر الاحكام والعبادات كلها، وبالله تعالى التوفيق، وبرهان قولنا في هذا ما حدثناه عبد الله بن ربيع التميمي، ثنا محمد بن إسحاق بن السليم، عن ابن الاعرابي عن أبي داود، نا أحمد بن حنبل، نا سفيان بن عيينة، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الامر بما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري، ما وجدناه في كتاب الله تبعناه.
فصل وقال قوم بتقليد أهل المدينة، وقد ذكرنا في باب الكلام في الاخبار من كتابنا هذا وفي باب الاجماع من كتابنا هذا بطلان من احتج بعمل أهل المدينة وإجماعهم، فأغنى عن تردده، ولكن لا بد أن نذكر ههنا طرفا نشاكل غرضنا في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
احتج قوم في تقليد أهل المدينة بقبول قولهم في المد، والصاع، وهذا لا حجة لهم فيه، لان هذا داخل فيما نقلوه مسندا بالتواتر، على أن ذلك أيضا مما قد اختلفوا فيه، فقد روي عن موسى بن طلحة بن عبيد الله - وهو مدني - ما يخالف قولهم ويوافق قول أبي حنيفة.
ولو كان قبول قولهم في المد والصاع موجبا لقبول قولهم في غير ذلك، لوجب تقليد أهل مكة في جميع أقوالهم، لاتفاق الامة كلها يقينا بلا خلاف من أحد منهم، على قبول قولهم في موضع عرفة، وموضع مزدلفة، وموضع منى، وموضع الجمار، وموضع الصفا، وموضع المروة، وحدود الحمى.
فما خالف أحد من جميع فرق الاسلام، لا قديما ولا حديثا، قول أهل مكة.
ان هذه المواضع هي التي تعبدنا بها بما جاءت به النصوص وهذا أكثر من المد والصاع، على أن الامة لم توافق قولهم في المد والصاع.

وأيضا فإن قولهم في المد والصاع هو أقل ما قيل، فهو حجة عندنا من هذه الجهة، كما لو قال غيرهم ذلك سواء ولا فرق، لان ما قالوا: الصاع ثمانية أرطال، وقال قوم: أكثر من ذلك، وقال جمهور أهل المدينة وقوم من غيرهم: خمسة أرطال ونيف.
فكان هذا المقدار متفقا على وجوب إخراجه في زكاة الفطر، وجزاء الصيد، وكفارة الواطئ في رمضان، والمظاهر، وحلق الرأس للمحرم قبل بلوغ الهدي محله، فوجب الوقوف عند الاجماع في ذلك، وكان ما زاد مختلفا فيه لم يجب القول به إلا بنص.
ولا نص مسندا صحيحا في ذلك، فلم يجب القول بإخراج الزيادة على ذلك، بغير نص ولا إجماع، وأجمعت الامة كلها، بلا خلاف في أحد منها، على أن المد والصاع المذكورين في زكاة الفطر هما المذكوران في المقدار الذي تلزم فيه الزكاة من الحب والتمر، وأنهما سواء، فلما صح المقدار المذكور في زكاة الفطر، صح أنه يعينه في زكاة الحب والتمر، ولا فرق، ويكفي من هذا أنه نقل مبلغ إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالكافة.
وأما الخلاف في المد والصاع، فإنما هو خلاف رأي، لا خلاف رواية عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، فسقط ذلك الخلاف، والحمد لله رب العالمين.
واحتجوا في ذلك بما روي من قول عبد الرحمن بن عوف لعمر رضي الله عنهما: إن الموسم يجمع رعاع الناس، فاصبر حتى تأتي المدينة فتخلو بوجوه الناس.
فالجواب: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم أولى أن يتبع من عبد الرحمن بن عوف، وهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يجعل التبليغ الذي أمره الله به إلا في مكة في حجة الوداع في الموسم الجامع لكل عالم وجاهل.
وهنالك قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ألا هل بلغت فقال الناس: اللهم نعم فقال (صلى الله عليه وسلم): اللهم اشهد ولم يجعل (صلى الله عليه وسلم) ذلك التبليغ العام الذي أقام به الحجة، في المدينة ولا في خاص من الناس، ولا بحضرة وجوه الناس خاصة دون الرعاع وكذلك لم يكتف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بقراءة سورة براءة في المدينة، وهي آخر سورة نزولا، وهي الجامعة للسير وأحكام الخلافة والامامة، حتى يبعث بها عليا ليقرأ في الموسم بمكة، في حجة أبي بكر رضي الله عنهما، بحضرة كل من حضر.
وإنما يكون الانفراد بوجوه الناس في الآراء التي تدار، ويستضر بكشفها وتجري مجرى الاسرار، ومثل هذا كانت مقالة عمر، التي حضه عبد الرحمن على تأخيرها إلى أن يخلو بوجوه الناس، ولم تكن من الشرائع الواجب معرفتها، من الفرض والحرام والمباح، ونحن إنما نتكلم مع خصومنا في الشرائع التي تلزم أهل صين الصين والخالدات ومن في حوزارين وأقاضي الزنج، وأقاضي بلاد الصقالبة.
كما يلزم الصحابة وأهل المدينة لزوما مستويا لا تفاضل فيه ولم ننازعهم في إدارة رأي، وفي تحذير من طالب خلافة.
فلو تركوا التمويه لكان أولى بهم ولو كانت تلك المقالة من واجبات الشرائع ما أخرها عمر ولا أمره ابن عوف بتأخيرها.
والعجب أن القائلين بهذا قد خالفوا إجماع أهل المدينة حقا فمن ذلك سجودهم مع عمر في * (إذا السماء انشقت) * يوم جمعة، فقالوا: ليس عليه العمل فتركوا إجماع أهل المدينة.
ومن ذلك اشتراكهم في الهدي يوم الحديبية.
فقالوا: ليس عليه العمل فتركوا إجماع أهل المدينة الصحيح، وادعوه حيث لا يصح، وهكذا يكون عكس الحقائق والامور في الديانة لا تؤخذ إلا من نص منقول، ولا نص على وجوب اتباع أهل المدينة دون غيرهم، فإذا كان ذلك دعوى بلا برهان فهو افتراء على الله عز وجل أنه أوجب ذلك.
وهو تعالى لم يوجبه، وهذا عظيم جدا ونسأل الله التوفيق.
وإذا كان نقل أهل المدينة وغيرهم إنما حكمه أن يراعى الفاسق فيجتنب نقله، والعدل فيقبل نقله، ففي المدينة عدول وفساق ومنافقون، وغيرهم شر خلق الله تعالى وفي الدرك الاسفل من النار، وقال تعالى: * (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين) * وقال تعالى: * (إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار) *.
وفي سائر البلاد أيضا عدول وفساق ومنافقون ولا فرق.
وكيف يدعي هؤلاء المغفلون تقليد أهل المدينة وهم يخالفون عمر بن الخطاب في نيف وثلاثين قضية من موطأ مالك خاصة، وخالفوا أبا بكر، وعائشة وابن عمر وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري وغيرهم من فقهاء المدينة في كثير من أقوالهم جدا، فإن كان تقليد أهل المدينة واجبا فمالك مخطئ في خلافه لهؤلاء فيجب عليهم أن يتركوه إذا خالف من أهل المدينة.

والحقيقة التي لا شك فيها هي أن مرادهم بالدعاء إلى أهل المدينة، والتشييع بوجوب طاعتهم، إنما هو دعاء إلى قول مالك وحده، لا يبالون بأحد سواه من أهل المدينة، وأعجب من هذا أنهم فيما يدعون فيه إجماع أهل المدينة من المسائل، ليس عندهم في صحة ذلك إلا نقل مالك وحده ومن المحال أن يثبت الاجماع بنقل واحد لا برهان بيده وكل ما جوزوه على سائر الثقات من رواة الحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعمن دونه إلى قيام الساعة، فهو جائز على مالك ولا فرق، فظهر بطلان قولهم لكل ذي حس سليم.
وأيضا فإن مالك بن أنس رحمه الله لم يد إجماع أهل المدينة في موطئه إلا في نحو ثمان وأربعين مسألة فقط، مع أن الخلاف موجود من أهل المدينة في أكثر تلك المسائل بأعيانها، وأما سائرها فلا خلاف فيها بين أحد لا مدني ولا غيره، ولم يدع إجماعا في سائر مسائله فاستجاز أهل الجهل على الحقيقة من اتباعه الكذب المجرد والجهل الفاضح، ونعوذ بالله من الخذلان، في إطلاق الدعوى على جميع أقوالهم أو أكثرها، أنها إجماع أهل المدينة.
وحتى لو صح لهم هذا القول الفاسد، لوجب ألا تقبل رواية القاسم وأشهب وابن عبد الحكم وسائر المالكيين قديما وحديثا، لانهم ليسوا مدنيين.
فإن قال قائل: إنهم أخذوا عن أهل المدينة.
قيل: وكذلك أهل البصرة والكوفة والشام ومصر ومكة واليمن، أخذوا عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذين هم أفضل وأعلم من الذين أخذ عنهم المذكورون وأخذوا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي به هدى الله تعالى من شاء من أهل المدينة وغيرهم والقرآن واحد مشهور في غير المدينة كما هو بالمدينة وسنن الرسول (صلى الله عليه وسلم) معروفة منقولة في غير المدينة كما هي بالمدينة، والدين واحد ويهب الله من يشاء، من أهل المدينة وغير أهل المدينة، ما شاء من الحظ في دينه والفهم في كتابه وأهل المدينة وغيرهم سواء، ولا فرق بينهم وما عدا هذا القول فإفك وزور وكذب وبهتان وبالله التوفيق.
وقد ذكرنا أن مالكا وأبا حنيفة والشافعي لم يقلدوا، ولا أجازوا لاحد أن يقلدهم، ولا أن يقلد غيرهم.

وروي أن مالكا أفتى في مسألة في طلاق البتة: أنها ثلاث، فنظر إلى أشهب قد كتبها، فقال: امحها، أنا كلما قلت قولا جعلتموه قرآنا ما يدريك لعلي سأرجع عنها غدا فأقول: هي واحدة.
وهذا ابن القاسم لا يرى بيع كتب الرأي، لانه لا يدري: أحق فيها أم باطل ؟ ويرى جواز بيع المصاحف وكتب الحديث، لانها حق.
وقال مالك عند موته: وددت أني ضربت بكم مسألة تكلمت فيها برأيي سوطا على أنه لا صبر لي على السياط.
وذكر الشافعي حديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال له بعض جلسائه: يا أبا عبد الله أنأخذ به ؟ فقال له يا هذا أرأيت علي زنارا ؟ أرأيتني خارجا من كنيسة ؟ حتى تقول لي في حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) أنأخذ بهذا، ولم يزل رحمه الله في جميع كتبه ينهي عن تقليده وتقليد غيره، وهكذا حدثني القاضي أبو بكر حمام بن أحمد عن عبد الله بن محمد الباجي، عن القاضي أسلم بن عبد العزيز بن هشام، عن أبي إبراهيم المزني عن الشافعي.
فترك هؤلاء القوم ما أمرهم به أسلافهم، وعصوهم في الحق، واتبعوا آراءهم تقليدا وعناد للحق.
حدثنا القاضي يونس بن عبد الله، ومحمد بن سعيد بن نبات، قال يونس: نا يحيى بن مالك بن عائن، نا أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل الخشاب، نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، نا إبراهيم بن أبي الجحيم، نا محمد بن معاذ، نا سفيان بن عيينة، وقال محمد بن سعيد: نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، نا أبو موسى الزمن - هو محمد بن المثنى - ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، ثم اتفق ابن عيينة والثوري
واللفظ للثوري: عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه قال: قال معاوية لابن عباس: أنت على ملة علي ؟ قال: لا، ولا على ملة عثمان، أنا على ملة النبي (صلى الله عليه وسلم).
قال محمد بن المثنى: وثنا مؤمل، نا سفيان الثوري، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال لي معاوية: أنت قلت ما أنا بعلوي ولا عثماني ولكني على ملة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

حدثنا يونس بن عبد الله، نا يحيى بن مالك بن عائذ، حدثنا الحسين بن أحمد بن أبي حنيفة، نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، نا يوسف بن يزيد القراطيسي، نا سعيد بن منصور، نا هشيم عن المغيرة بن مقسم، عن إبراهيم النخعي قال: كان يكره أن يقال: سنة أبي بكر وعمر، ولكن سنة الله عزوجل، وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم).
قال أبو محمد: فإذا كان الصحابة والتابعون رضي الله عنهم لا يستجيزون نسبة ما يعبدون به ربهم ولا مذاهبهم إلى أبي بكر، ولا إلى عمر، ولا إلى عثمان، ولا إلى علي، ولا ينتسبون إلى أحد دون رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فكيف بهم لو شاهدوا ما نشاهده من المصائب الهادمة للاسلام على من امتحنه الله به من الانتماء إلى مذهب فلان وفلان، والاقبال على أقوال مالك وأبي حنيفة والشافعي، وترك أحكام القرآن وكلام النبي (صلى الله عليه وسلم) ظهريا والحمد لله على تثبيته إيانا على دينه وسنته التي مضى عليها أهل الاعصار المحمودة، قبل أن تحدث بدعة التقليد وتفشو، وبالله نعتصم.
كتب إلي النمري يوسف بن عبد الله الحافظ، نا سعيد بن نصر، نا قاسم بن أصبغ، ثنا ابن وضاح، نا موسى بن معاوية، نا عبد الرحمن بن مهدي، نا سفيان الثوري، عن يزيد بن أبي زيادة، عن إبراهيم - هو النخعي - عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قال: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم عليها الكبير، وتتخذ سنة مبتدعة جرى عليها الناس، فإذا غير منها شئ قيل، غيرت السنة ؟ قيل: متى
ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: إذا كثر قراؤكم، وقل فقهاؤكم، وكثر أمراؤكم، وقل أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين.
حدثنا أحمد بن عمر العذري، نا أبو ذر عبد بن أحمد، نا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي، نا إبراهيم بن خزيم بن مهر، نا عبد بن حميد، نا محمد بن الفضل، ثنا الصعق بن حزن، عن عقيل الجعدي، عن أبي إسحاق الهمداني، عن سويد بن غفلة، عن ابن مسعود أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال له: يا عبد الله بن مسعود، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: أتدري أي الناس أفضل ؟ قلت: الله ورسوله أعلم: قال: فإن أفضل الناس أفضلهم عملا إذ فقهوا في دينهم، ثم قال: يا عبد الله بن مسعود قلت: لبيك يا رسول الله قال: هل تدري أي الناس أعلم ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصرا في العمل، وإن كان تزحف على استه.

كتب إلي النمري: نا سعيد بن سيد، نا عبد الله بن محمد، نا أحمد بن خالد، نا ابن وضاح، نا إبراهيم بن محمد الشافعي، نا أبو عصام رواد الجراح العسقلاني، عن سعيد بن بشر، عن قتادة قال: من لم يعرف الاختلاف لم يشم الفقه بأنفه.
كتب إلي النمري: ثنا أحمد بن سعيد بن بشر، نا أحمد بن أبي دليم، نا ابن وضاح، ثنا إبراهيم بن يوسف الفريابي، نا ضمرة بن ربيعة، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه أنه قال: لا ينبغي لاحد أن يفتي أحدا من الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه، هكذا روينا عن سعيد بن جبير.
وهكذا قال أحمد بن حنبل وغيره.
كتب إلي النمري قال: روى عيسى بن دينار عن أبي القاسم قال: سئل مالك قيل له: لمن تجوز الفتيا ؟ قال: لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه، قيل له: اختلاف أهل الرأي ؟ قال: لا، اختلاف أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم)
وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن، وحديث النبي (صلى الله عليه وسلم) وكذلك يفتي ولا يجوز لمن لم يعلم الاقاويل أن يقول: هذا أحب إلي قال النمري: وقال يحيى بن سلام: لا ينبغي لمن لم يعرف الاختلاف أن يفتي، ولا يجوز لمن لا يعلم الاقاويل أن يقول: هذا أحب إلي.
كتب إلي النمري: نا خلف بن القاسم، نا الحسن بن رشيق، نا علي بن سعيد الرازي، نا محمد بن المثنى، نا عيسى بن إبراهيم، سمعت يزيد زريع يقول: سمعت: سعيد بن أبي عروبة يقول: من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالما.
كتب إلي النمري: أخبرني خلف بن القاسم، نا محمد بن شعبان القرظي، نا إبراهيم بن عثمان، نا عباس الدوري قال: سمعت قبيصة بن عقبة يقول: لا يفلح من لم يعرف الاختلاف.
كتب إلي النمري: أخبرني قاسم بن محمد، نا خالد بن سعيد، نا محمد بن فطيس، نا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: سمعت أشهب يقول: سئل مالك عن اختلاف أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ فقال، خطأ وصواب فانظر في ذلك.
كتب إلي النمري: وذكر يحيى بن إبراهيم بن مزين، حدثني أصبغ قال: قال ابن القاسم، سمعت مالكا والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

ليس كما قال ناس، فيه توسعة، ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب.
كتب إلي النمري: أخبرني عبد الرحمن بن يحيى، أنا أحمد بن سعيد، نا محمد ابن ريان، نا الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك أنه قال في اختلاف أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم): مخطئ ومصيب، فعليك بالاجتهاد، وذكره إسماعيل في المبسوط عن أبي ثابت المدني عن ابن القاسم عن مالك.
كتب إلي النمري: نا عبد الوارث بن سفيان، نا قاسم بن أصبغ، نا أحمد بن
زهير، حدثني أبي، عن سعيد بن عامر، ثنا شعبة، عن الحاكم بن عتيبة قال: ليس أحد من خلق الله تعالى إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي (صلى الله عليه وسلم).
كتب إلي النمري: ثنا خلف بن القاسم، نا ابن أبي العقب بدمشق، نا أبو زرعة، ثنا ابن أبي عمر، نا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ليس أحد من خلق الله عزوجل إلا يؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي (صلى الله عليه وسلم).
كتب إلي النمري: نا عبد الوارث بن سفيان، نا قاسم بن أصبغ، نا أحمد بن زهير، أنا الغلاقي، نا خالد بن الحارث قال: قال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله.
كتب إلي النمري: نا عبد الوارث بن سفيان، نا قاسم بن أصبغ، نا ابن وضاح، ثنا يوسف بن عدي، نا أبو الاحوص، عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري في قوله عزوجل: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) * قال: أما أنهم لو أمروهم أن تعبدوهم من دون الله تعالى ما أطاعوهم، ولكن أمروهم فجعلوا حلال الله تعالى حرامه، وحرامه حلاله، فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية.
قال ابن وضاح، وحدثنا موسى بن معاوية، نا وكيع، نا سفيان والاعمش جميعا، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة بن اليمان في قول الله تعالى: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) * أكانوا يعبدونهم ؟ قال: لا ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه.
كتب إلي النمري: أنا سعيد بن نصر، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا ابن وضاح، ثنا موسى ابن معاوية، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة قال: قال معاذ بن جبل: يا معشر العرب، كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم، وزلة عالم، وجدال المنافق بالقرآن ؟ فسكتوا، فقال: أما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وإن افتتن فلا تقطعوا منه أناتكم، فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب، وأما القرآن فله منار كمنار الطريق، لا يخفى على أحد فما عرفتم منه فلا تسألوا عنه ما شئتم فيه فكلوه إلى عالمه.
وذكر باقي الحديث.
قال أبو محمد: هذا هو نص ما ذهبنا، والحمد لله رب العالمين، في اتباع الظاهر وترك تقليد.
كتب إلي النمري: ثنا محمد بن إبراهيم ثنا محمد بن أحمد بن مفرج، ثنا أبو سعيد البصري بمكة، ثنا الحسن بن عفان العامري، ثنا الحسين الجعفي، عن زائدة، عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري قال: قال سليمان الفارسي.
كيف أنتم عند ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم ؟ فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وأما مجادلة منافق بالقرآن فإن للقرآن منارا كمنار الطريق، فما عرفتم منه فخذوا، وما لم تعرفوا فكلوه إلى عالمه.
كتب إلي النمري: ثنا عبد الوارث بن سفيان، ويعيش بن سعيد قالا: أنا قاسم ابن أصبغ، ثنا بكر بن حماد، ثنا بشر بن حجر، أنا خالد بن عبد الله الواسطي، عن عطاء، يعني ابن السائب، عن أبي البختري، عن علي بن أبي طالب، قال: إياكم والاستنان بالرجال، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة، ثم ينقلب لعلم الله عزوجل فيه، وذكر الحديث.
كتب إلي النمري قال: ذكر ابن مزين، عن عيسى بن دينار، عن ابن القاسم، عن مالك قال: ليس كل ما قال رجل قولا، وإن كان له فضل، يتبع عليه، يقول الله عزوجل: * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) *.
قال أبو محمد: لو اتبع مقلدوه وهذا القول منه لاهتدوا.
ونعوذ بالله من الخذلان.
وقالوا أيضا: إن جمهور الصحابة كانوا بالمدينة، وإنما خرج عنها الاقل ومن المحال أن تغيب السنة عن الاكثر، ويدريها الاقل.
كتب إلي النمري قال: ذكر ابن مزين، عن عيسى بن دينار، عن ابن القاسم، عن مالك قال: ليس كل ما قال رجل قولا، وإن كان له فضل، يتبع عليه، يقول الله عزوجل: * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) *.
قال أبو محمد: لو اتبع مقلدوه وهذا القول منه لاهتدوا.
ونعوذ بالله من الخذلان.
وقالوا أيضا: إن جمهور الصحابة كانوا بالمدينة، وإنما خرج عنها الاقل ومن المحال أن تغيب السنة عن الاكثر، ويدريها الاقل.
قال أبو محمد: وهذا فاسد من القول جدا، لان الرواية إنما جاءت عن ألف صاحب وثلاثمائة صاحب ونيف، أكثرهم من غير أهل المدينة، وجاءت الفتيا عن مائة ونيف وثلاثين منهم فقط، أكثرهم من غير أهل المدينة، وهذه الامور لا تطلق جزافا، ولا يؤخذ الدين عمن لا يبالي أن يطلق لسانه بما لا يدري، ولا اهتبل به يوما من دهره قط، ولا شغل بالبحث عنه ليلة من عمره، وإنما يؤخذ ممن جعله وكده وعمدته، وآثره على طلب رياسة الدنيا، وأعده حجة ليلقى بها ربه، إذا سئل يوم القيامة.
ثم إن كل قولة قلدوا فيها مالكا، من تلك الآراء المضطربة، وتلك المسائل التي فيها القولان والثلاثة، وهي أكثر أقواله، فليس كل واحدة منها شهدها جميع أصحابه الباقين بالمدينة، نعم، ولا سائر الاحكام التي أسندها إلى من أسندها إليه إنما هي حكم حكم بها حاكم، إما رضيه غيره منهم، وإما سخطه، ومن ادعى إجماعهم على كل حكم حكم به بين أظهرهم أو علمهم به كلهم فضلا عن اجماعهم عليه، فقد ادعى الكذب الذي لا يخفى على أحد، إذ لا شك أنهم لم يكونوا كلهم ملازمين لكل حكم حكم به الامام هنالك أو قاضيه، فظهر سقوط ما احتجوا به، وبالله تعالى التوفيق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق