الامتثال لله وللرسول صلى الله عليه وسلم من الألوكة
الحمد لله الذي وسع كل شيء رحمةً وعلمـًا، وأسبغ على عباده نعمـًا لا تعد ولا تحصى، والصلاة السلام على نبينا محمد الذي أرسله ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، أما بعد:
فإن قضية الامتثال لأوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من القضايا المهمة في حياة كل مسلم، فنقول وبالله تعالى التوفيق:
بسم الله الرحمن الرحيم
معنى الامتثال:
سرعة الاستجابة للأمر؛ (معجم اللغة العربية جـ 2 صـ 2066).
امتثال إبراهيم وإسماعيل:
إن إبراهيم وإسماعيل قد ضرب الله تعالى بهما المثل في صدق الاستسلام الكامل والامتثال لأوامر الله تعالى، والانقياد التام لطاعته.
قال تعالى عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الصافات: 99 - 110].
قال ابن كثير (رحمه الله): يذكر تعالى عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه لما هاجر من بلاد قومه سأل ربه أن يهَب له ولدًا صالحًا، فبشره الله تعالى بغلام حليم، وهو إسماعيل عليه السلام؛ لأنه أول من ولد له على رأس ست وثمانين سنة من عمر الخليل،وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل الملل؛ لأنه أول ولده، وبِكرُه؛ وقوله ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ﴾ [الصافات: 102]؛ أي: شب وصار يسعى في مصالحه كأبيه، فلما كان هذا، أُرِيَ إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده هذا،وفي الحديث عن ابن عباس مرفوعًا: ((رؤيا الأنبياء وحي))؛ قاله عبيد بن عمير أيضًا، وهذا اختبار من الله عز وجل لخليله في أن يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على كبر وقد طعن في السن، بعدما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر، وواد ليس به حسيس ولا أنيس، ولا زرع ولا ضرع، فامتثل أمر الله في ذلك وتركهما هناك ثقةً بالله وتوكلًا عليه، فجعل الله لهما فرجًا ومخرجًا ورزقهما من حيث لا يحتسبان،ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا الذي قد أفرده عن أمر ربه وهو بِكرُه ووحيده الذي ليس له غيره، أجاب ربه، وامتثل أمره، وسارع إلى طاعته، ثم عرض ذلك على ولده؛ ليكون أطيب لقلبه، وأهون عليه من أن يأخذه قسرًا ويذبحه قهرًا؛ ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾ [الصافات: 102]، فبادر الغلام الحليم سر والده الخليل إبراهيم فقال: ﴿ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102]، وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد؛ قال الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ [الصافات: 103]، قيل: أسلما؛ أي: استسلما لأمر الله، وعزَما على ذلك،وقيل: هذا من المقدم والمؤخر، والمعنى: تلَّه للجبين؛ أي: ألقاه على وجهه،قيل: أراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهده في حال ذبحه؛ قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك،وقيل: بل أضجعه كما تضجع الذبائح، وبقي طرف جبينه لاصقًا بالأرض، وأسلما؛ أي: سمى إبراهيمُ وكبَّر، وتشهَّد الولد للموت، قال السدي وغيره: أمَرَّ السكين على حلقه فلم تقطع شيئًا، ويقال: جعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس، والله أعلم،فعند ذلك نودي من الله عز وجل: ﴿ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ﴾ [الصافات: 104، 105]؛ أي: قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك ومبادرتك إلى أمر ربك وبَذْلِك ولدَك للقربان، كما سمحت ببدنك للنيران، وكما مالك مبذول للضيفان؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴾ [الصافات: 106]؛ أي: الاختبار الظاهر البين، وقوله: ﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات: 107]؛ أي: وجعلنا فداءَ ذبح ولده ما يسره الله تعالى له من العوض عنه، والمشهور عن الجمهور أنه كبش أبيض أعين أقرن، رآه مربوطًا بشجرة في جبل ثبير؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 1 صـ 148).
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو القدوة في الامتثال:
قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
(1) امتثال النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة:
قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 67].
قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة، وآمرًا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به، وقد امتثل صلوات الله وسلامه عليه ذلك، وقام به أتم القيام؛ (تفسير ابن كثير جـ 3 صـ: 150).
روى مسلم عن جابر بن عبدالله (وهو يصف حجة الوداع) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تركتُ فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تُسألون عني، فما أنتم قائلون؟))، قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهَد، اللهم اشهد)) ثلاث مرات؛ (مسلم حديث: 1218).
(2) امتثال النبي صلى الله عليه وسلم برحمته أمته:
قال تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
لقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الله تعالى برحمته لأمته، ويتجلى ذلك في أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم:
روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه؛ (البخاري حديث 3560/ مسلم حديث 2327).
روى البخاري عن أنس بن مالك قال: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاةً ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف؛ مخافة أن تفتن أمه؛ (البخاري حديث 708).
روى البخاري عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوَّز في صلاتي؛ مما أعلم من شدة وَجْد أمه من بكائه))؛ (البخاري حديث 709).
روى مسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أمَّ أحدكم الناسَ فليخفف؛ فإن فيهم الصغير والكبير، والضعيف والمريض، فإذا صلى وحده فليصلِّ كيف شاء))؛ (مسلم حديث 467).
(3) امتثال النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى:
أمر الله نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين والمنافقين، فقال سبحانه: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل: 10].
وقال سبحانه: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35].
قال المشركون عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ساحر، وقالوا: كاهن، وقالوا: مجنون، واتَّهَم المنافقون زوجته السيدة عائشة رضي الله عنها بالفاحشة، فصبر، حتى أنزل الله براءتها في قرآن يتلى إلى يوم القيامة،لقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لا يتحمله بشر.
روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد أُخِفْتُ في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعامٌ يأكله ذو كبد، إلا شيء يواريه إِبْط بلال))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث: 2012).
(4) امتثال الرسول صلى الله عليه وسلم بالعفو عمن أساء إليه:
أمر الله تعالى نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح عمن أساء إليه، فقال سبحانه: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، وقال سبحانه: ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ [الحجر: 85].
فامتثل صلى الله عليه وسلم لأمر الله.
روى الشيخان عن عبدالله بن مسعود قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يحكي نبيًّا من الأنبياء ضربه قومه فأدمَوْه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: ((اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون))؛ (البخاري 3477 / مسلم1792).
روى الشيخان عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - وهو يتحدث عن إيذاء أهل مكة له -: ((فناداني ملَك الجبال وسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أُطبِق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا))؛ (البخاري حديث 3231/ مسلم حديث 1795).
عفو الرسول صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة:
عندما فتح الله لرسوله مكة ودخلها منتصرًا، اجتمع أهلها، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟))، قالوا: خيرًا؛ أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))؛ (تاريخ الطبري جـ 2 صـ 161).
(5) امتثال النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل بين الناس:
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58].
روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومَن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فكلَّمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟))، ثم قام فاختطب، ثم قال: ((إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعتُ يدها))؛ (البخاري حديث 3475 / مسلم حديث 1688).
روى مسلم عن جابر بن عبدالله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (وذلك في حجة الوداع): ((وربَا الجاهلية موضوع، وأول ربًا أضع رِبَانا، ربا عباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله))؛ (مسلم حديث 1218).
(6) امتثال النبي صلى الله عليه وسلم بالتواضع:
أمر الله تعالى نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بالتواضع، فقال تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 88]، فامتثل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان خير المتواضعين.
روى مسلم عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (مرَّ على غلمان فسلَّم عليهم))؛ (مسلم حديث 2168).
روى مسلم عن البراء بن عازب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل معنا التراب، ولقد وارى التراب بياض بطنه، وهو يقول: ((والله لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينةً علينا، إن الألى (الأعداء) قد أبَوْا علينا، إذا أرادوا فتنةً أبينا))، ويرفع بها صوته؛ (مسلم حديث 1803).
روى الطبراني عن سهل بن حنيف رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (يأتي ضعفاء "فقراء" المسلمين، ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم))؛ (حديث صحيح) (صحيح الجامع للألباني حديث 4877).
(7) امتثال الرسول صلى الله عليه وسلم في استشارة الصحابة:
قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
فامتثل النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الرباني؛ فأخذ يستشير أصحابه في عدة أمور ليس فيها نص من القرآن؛ مثلما شاور أصحابه يوم بدر في الذهاب إلى العير، فقالوا: يا رسول الله، لو استعرضتَ بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: ﴿ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]، ولكن نقول: اذهب، فنحن معك وبين يديك، وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون،وشاوَرهم في أُحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم، فخرج إليهم،وشاوَرهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى عليه ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فترك ذلك،وشاوَرهم يوم الحديبية، وقال صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك: ((أشيروا عليَّ معشر المسلمين في قوم أَبَنُوا أهلي ورموهم، وايم الله ما علمت على أهلي من سوء، وأبَنُوهم بمن - والله - ما علمت عليه إلا خيرًا))،واستشار عليًّا وأسامة في فِراق عائشة رضي الله عنها،فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها؛ (تفسير ابن كثير جـ 3 ص234).
(8) امتثال الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله بالحكمة:
قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].
فامتثل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الوصية الربانية، وكان يجادل المشركين وأهل الكتاب بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا.
روى أحمد عن أنس: أن غلامًا من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده وهو بالموت، فدعاه إلى الإسلام، فنظر الغلام إلى أبيه وهو عند رأسه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم، فأسلم، ثم مات، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه بي من النار))؛ (حديث صحيح) (مسند أحمد ج21 حديث 13375).
امتثال الصحابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم:
إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم الصفوة المختارة من البشرية بعد الأنبياء والمرسلين، وقد زكاهم الله تعالى في مواضع عديدة في كتابه العزيز، ومدحهم النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه الشريفة، وسوف نذكر بعضًا من النماذج الـمشرفة لاستسلامهم لأوامر الله تعالى، وسرعة انقيادهم وطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم:
(1) الإنفاق في سبيل الله:
(1) أبو بكر الصِّدِّيق وعمر بن الخطاب:
روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أمَرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيت لأهلك؟))، قلتُ: مثله، قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيتَ لأهلك؟))، قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا؛ (حديث حسن) (صحيح أبي داود للألباني حديث 1472).
(2) عثمان بن عفان:
روى أحمد عن عبدالرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهَّز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، قال: فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده، ويقول: ((ما ضرَّ ابنَ عفان ما عمل بعد اليوم)) يرددها مرارًا؛ (حديث حسن) (مسند أحمد جـ 34 صـ 232 حديث: 20630).
(3) أبو طلحة الأنصاري:
روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن الله تعالى يقول في كتابه: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو بِرَّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال: ((بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت فيها، وأرى أن تجعلها في الأقربين))، قال: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه؛ (البخاري حديث 2318/ مسلم حديث 998).
(4) عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم:
روى ابن سعد عن أم درة قالت: أُتِيَت عائشة بمائة ألف درهم، ففرَّقتها، وهي يومئذ صائمة، فقلت لها: أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحمًا تفطرين عليه، فقالت عائشة: لو ذكَّرتِني لفعلت؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد 8 جـ صـ 53).
(5) أبو الدحداح الأنصاري:
روى ابن أبي حاتم عن عبدالله بن مسعود، قال: لما نزلت: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ﴾ [البقرة: 245]، قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله، وإن الله عز وجل ليريد منا القرض؟ قال: ((نعم يا أبا الدحداح))،قال: أرني يدك يا رسول الله،قال: فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي، قال: وحائط له فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها،قال: فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح،قالت: لبيك،قال: اخرجي؛ فقد أقرضتُه ربي عز وجل؛ (تفسير ابن كثير جـ 2 صـ 416).
(6) عبدالله بن عمر:
روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم، فتمنَّيْت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت غلامًا شابًّا أعزبَ، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت في المنام كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان كقرني البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فلقيهما ملك آخر، فقال لي: لن تراعَ، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: نِعم الرجل عبدالله، لو كان يصلي بالليل))، قال سالم (ابن عبدالله بن عمر): فكان عبدالله لا ينام من الليل إلا قليلًا؛ (البخاري حديث 3738).
(2) تحريم الخمر:
(1) روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت ساقيَ القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر، فأمر مناديًا فنادى، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت، قال: فخرجت فقلت: هذا منادٍ ينادي: ألَا إن الخمر قد حرمت، فقال لي: اذهب فأهرقها، قال: فجرَتْ في سكك المدينة، قال: وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ (عصير من التمر) ؛ (البخاري: حديث 4620).
(2) روى مسلم أن رجلًا سأل عبدالله بن عباس، عما يعصر من العنب، فقال ابن عباس: إن رجلًا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية (قربة) خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل علمتَ أن الله قد حرمها؟))، قال: لا، فسارَّ إنسانًا (أخبره سرًّا)، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بمَ سارَرْتَه؟))، فقال: أمرته ببيعها، فقال: ((إن الذي حرم شُربها حرم بيعها))، قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها؛ (مسلم حديث: 1579).
(3) روى أحمد عن عمر بن الخطاب، قال: لما نزل تحريم الخمر، قال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شفاءً،فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 219]، قال: فدُعي عمرُ، فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شفاءً،فنزلت الآية التي في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: أن لا يقربن الصلاة سكران، فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شفاءً،فنزلت الآية التي في المائدة، فدُعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ: ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 91]، قال: فقال عمر: انتهينا، انتهينا؛ (حديث صحيح) (مسند أحمد جـ 1 صـ 442 حديث: 378).
(3) خاتم الذهب على الرجال:
روى مسلم عن عبدالله بن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه، وقال: ((يعمِد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده))، فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتَمَك انتفع به، قال: لا والله، لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ (مسلم حديث: 2090).
(4) الحجاب:
روى البخاري عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ [النور: 31] شقَقْنَ مُروطهن فاختمرن بها"؛ (البخاري: حديث 4758).
المرط: كساء من حرير أو صوف تتلفع به المرأة.
(5) المحافظة على أموال الأيتام:
روى أبو داود عن ابن عباس، قال: لما أنزل الله عز وجل: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الأنعام: 152]، و﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ﴾ [النساء: 10] الآية، انطلق مَن كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ [البقرة: 220]، فخلطوا طعامهم بطعامه، وشرابهم بشرابه؛ (حديث حسن) (صحيح أبى داود للألباني حديث 2495).
واجبنا نحو الامتثال لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم:
يجب علينا أن نستسلم وننقاد لأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كل منا بحسَب قدرته، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها،ولنحرص على تلاوة القرآن الكريم وحفظه، ونمتثل بالتطبيق العملي لأوامر الله ونواهيه، فنحافظ على أداء الصلوات المفروضة جماعة في المساجد، ونؤدي الزكاة المفروضة، ونتجنب الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل والتعامل بالربا، ونعتني بتربية أبنائنا وشبابنا على مبادئ الإسلام، ويستر كل منا عيوب إخوانه، وأَوْلى الناس بستر العيوب هم العلماء وولاة الأمور، ونعامل الناس كما نحب أن يعاملونا، وندعو للعصاة من المسلمين بالهداية والتوفيق لطاعة الله، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، بالحكمة والموعظة الحسنة، وندعو لولاة أمورنا بالتوفيق والسداد، ولنحذر تقليد غير المسلمين في أفكارهم وسلوكهم التي تخالف شريعتنا الإسلامية الغراء.
روى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يرِدَا عليَّ الحوض))؛ (حديث صحيح) (صحيح الجامع للألباني حديث 2937).
فلنتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ونعَضَّ عليها بالنواجذ؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7].
وقال سبحانه: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
ولنحذر مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم الامتثال لسنته عمدًا؛ قال تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
وقال سبحانه: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].
ويجب علينا جميعًا أن نضع نصب أعيننا مصير الأمم السابقة التي لم تمتثل لأوامر الله تعالى ورسله الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، فجحدوا نِعَم الله عليهم.
قال الله تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112].
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
فإن قضية الامتثال لأوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من القضايا المهمة في حياة كل مسلم، فنقول وبالله تعالى التوفيق:
بسم الله الرحمن الرحيم
معنى الامتثال:
سرعة الاستجابة للأمر؛ (معجم اللغة العربية جـ 2 صـ 2066).
امتثال إبراهيم وإسماعيل:
إن إبراهيم وإسماعيل قد ضرب الله تعالى بهما المثل في صدق الاستسلام الكامل والامتثال لأوامر الله تعالى، والانقياد التام لطاعته.
قال تعالى عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الصافات: 99 - 110].
قال ابن كثير (رحمه الله): يذكر تعالى عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه لما هاجر من بلاد قومه سأل ربه أن يهَب له ولدًا صالحًا، فبشره الله تعالى بغلام حليم، وهو إسماعيل عليه السلام؛ لأنه أول من ولد له على رأس ست وثمانين سنة من عمر الخليل،وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل الملل؛ لأنه أول ولده، وبِكرُه؛ وقوله ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ﴾ [الصافات: 102]؛ أي: شب وصار يسعى في مصالحه كأبيه، فلما كان هذا، أُرِيَ إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده هذا،وفي الحديث عن ابن عباس مرفوعًا: ((رؤيا الأنبياء وحي))؛ قاله عبيد بن عمير أيضًا، وهذا اختبار من الله عز وجل لخليله في أن يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على كبر وقد طعن في السن، بعدما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر، وواد ليس به حسيس ولا أنيس، ولا زرع ولا ضرع، فامتثل أمر الله في ذلك وتركهما هناك ثقةً بالله وتوكلًا عليه، فجعل الله لهما فرجًا ومخرجًا ورزقهما من حيث لا يحتسبان،ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا الذي قد أفرده عن أمر ربه وهو بِكرُه ووحيده الذي ليس له غيره، أجاب ربه، وامتثل أمره، وسارع إلى طاعته، ثم عرض ذلك على ولده؛ ليكون أطيب لقلبه، وأهون عليه من أن يأخذه قسرًا ويذبحه قهرًا؛ ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾ [الصافات: 102]، فبادر الغلام الحليم سر والده الخليل إبراهيم فقال: ﴿ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102]، وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد؛ قال الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ [الصافات: 103]، قيل: أسلما؛ أي: استسلما لأمر الله، وعزَما على ذلك،وقيل: هذا من المقدم والمؤخر، والمعنى: تلَّه للجبين؛ أي: ألقاه على وجهه،قيل: أراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهده في حال ذبحه؛ قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك،وقيل: بل أضجعه كما تضجع الذبائح، وبقي طرف جبينه لاصقًا بالأرض، وأسلما؛ أي: سمى إبراهيمُ وكبَّر، وتشهَّد الولد للموت، قال السدي وغيره: أمَرَّ السكين على حلقه فلم تقطع شيئًا، ويقال: جعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس، والله أعلم،فعند ذلك نودي من الله عز وجل: ﴿ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ﴾ [الصافات: 104، 105]؛ أي: قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك ومبادرتك إلى أمر ربك وبَذْلِك ولدَك للقربان، كما سمحت ببدنك للنيران، وكما مالك مبذول للضيفان؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴾ [الصافات: 106]؛ أي: الاختبار الظاهر البين، وقوله: ﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات: 107]؛ أي: وجعلنا فداءَ ذبح ولده ما يسره الله تعالى له من العوض عنه، والمشهور عن الجمهور أنه كبش أبيض أعين أقرن، رآه مربوطًا بشجرة في جبل ثبير؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 1 صـ 148).
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو القدوة في الامتثال:
قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
(1) امتثال النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة:
قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 67].
قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة، وآمرًا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به، وقد امتثل صلوات الله وسلامه عليه ذلك، وقام به أتم القيام؛ (تفسير ابن كثير جـ 3 صـ: 150).
روى مسلم عن جابر بن عبدالله (وهو يصف حجة الوداع) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تركتُ فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تُسألون عني، فما أنتم قائلون؟))، قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهَد، اللهم اشهد)) ثلاث مرات؛ (مسلم حديث: 1218).
(2) امتثال النبي صلى الله عليه وسلم برحمته أمته:
قال تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
لقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الله تعالى برحمته لأمته، ويتجلى ذلك في أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم:
روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه؛ (البخاري حديث 3560/ مسلم حديث 2327).
روى البخاري عن أنس بن مالك قال: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاةً ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف؛ مخافة أن تفتن أمه؛ (البخاري حديث 708).
روى البخاري عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوَّز في صلاتي؛ مما أعلم من شدة وَجْد أمه من بكائه))؛ (البخاري حديث 709).
روى مسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أمَّ أحدكم الناسَ فليخفف؛ فإن فيهم الصغير والكبير، والضعيف والمريض، فإذا صلى وحده فليصلِّ كيف شاء))؛ (مسلم حديث 467).
(3) امتثال النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى:
أمر الله نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين والمنافقين، فقال سبحانه: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل: 10].
وقال سبحانه: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35].
قال المشركون عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ساحر، وقالوا: كاهن، وقالوا: مجنون، واتَّهَم المنافقون زوجته السيدة عائشة رضي الله عنها بالفاحشة، فصبر، حتى أنزل الله براءتها في قرآن يتلى إلى يوم القيامة،لقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لا يتحمله بشر.
روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد أُخِفْتُ في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعامٌ يأكله ذو كبد، إلا شيء يواريه إِبْط بلال))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث: 2012).
(4) امتثال الرسول صلى الله عليه وسلم بالعفو عمن أساء إليه:
أمر الله تعالى نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح عمن أساء إليه، فقال سبحانه: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، وقال سبحانه: ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ [الحجر: 85].
فامتثل صلى الله عليه وسلم لأمر الله.
روى الشيخان عن عبدالله بن مسعود قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يحكي نبيًّا من الأنبياء ضربه قومه فأدمَوْه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: ((اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون))؛ (البخاري 3477 / مسلم1792).
روى الشيخان عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - وهو يتحدث عن إيذاء أهل مكة له -: ((فناداني ملَك الجبال وسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أُطبِق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا))؛ (البخاري حديث 3231/ مسلم حديث 1795).
عفو الرسول صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة:
عندما فتح الله لرسوله مكة ودخلها منتصرًا، اجتمع أهلها، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟))، قالوا: خيرًا؛ أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))؛ (تاريخ الطبري جـ 2 صـ 161).
(5) امتثال النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل بين الناس:
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58].
روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومَن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فكلَّمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟))، ثم قام فاختطب، ثم قال: ((إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعتُ يدها))؛ (البخاري حديث 3475 / مسلم حديث 1688).
روى مسلم عن جابر بن عبدالله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (وذلك في حجة الوداع): ((وربَا الجاهلية موضوع، وأول ربًا أضع رِبَانا، ربا عباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله))؛ (مسلم حديث 1218).
(6) امتثال النبي صلى الله عليه وسلم بالتواضع:
أمر الله تعالى نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بالتواضع، فقال تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 88]، فامتثل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان خير المتواضعين.
روى مسلم عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (مرَّ على غلمان فسلَّم عليهم))؛ (مسلم حديث 2168).
روى مسلم عن البراء بن عازب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل معنا التراب، ولقد وارى التراب بياض بطنه، وهو يقول: ((والله لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينةً علينا، إن الألى (الأعداء) قد أبَوْا علينا، إذا أرادوا فتنةً أبينا))، ويرفع بها صوته؛ (مسلم حديث 1803).
روى الطبراني عن سهل بن حنيف رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (يأتي ضعفاء "فقراء" المسلمين، ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم))؛ (حديث صحيح) (صحيح الجامع للألباني حديث 4877).
(7) امتثال الرسول صلى الله عليه وسلم في استشارة الصحابة:
قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
فامتثل النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الرباني؛ فأخذ يستشير أصحابه في عدة أمور ليس فيها نص من القرآن؛ مثلما شاور أصحابه يوم بدر في الذهاب إلى العير، فقالوا: يا رسول الله، لو استعرضتَ بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: ﴿ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]، ولكن نقول: اذهب، فنحن معك وبين يديك، وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون،وشاوَرهم في أُحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم، فخرج إليهم،وشاوَرهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى عليه ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فترك ذلك،وشاوَرهم يوم الحديبية، وقال صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك: ((أشيروا عليَّ معشر المسلمين في قوم أَبَنُوا أهلي ورموهم، وايم الله ما علمت على أهلي من سوء، وأبَنُوهم بمن - والله - ما علمت عليه إلا خيرًا))،واستشار عليًّا وأسامة في فِراق عائشة رضي الله عنها،فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها؛ (تفسير ابن كثير جـ 3 ص234).
(8) امتثال الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله بالحكمة:
قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].
فامتثل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الوصية الربانية، وكان يجادل المشركين وأهل الكتاب بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا.
روى أحمد عن أنس: أن غلامًا من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده وهو بالموت، فدعاه إلى الإسلام، فنظر الغلام إلى أبيه وهو عند رأسه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم، فأسلم، ثم مات، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه بي من النار))؛ (حديث صحيح) (مسند أحمد ج21 حديث 13375).
امتثال الصحابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم:
إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم الصفوة المختارة من البشرية بعد الأنبياء والمرسلين، وقد زكاهم الله تعالى في مواضع عديدة في كتابه العزيز، ومدحهم النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه الشريفة، وسوف نذكر بعضًا من النماذج الـمشرفة لاستسلامهم لأوامر الله تعالى، وسرعة انقيادهم وطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم:
(1) الإنفاق في سبيل الله:
(1) أبو بكر الصِّدِّيق وعمر بن الخطاب:
روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أمَرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيت لأهلك؟))، قلتُ: مثله، قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيتَ لأهلك؟))، قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا؛ (حديث حسن) (صحيح أبي داود للألباني حديث 1472).
(2) عثمان بن عفان:
روى أحمد عن عبدالرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهَّز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، قال: فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده، ويقول: ((ما ضرَّ ابنَ عفان ما عمل بعد اليوم)) يرددها مرارًا؛ (حديث حسن) (مسند أحمد جـ 34 صـ 232 حديث: 20630).
(3) أبو طلحة الأنصاري:
روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن الله تعالى يقول في كتابه: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو بِرَّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال: ((بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت فيها، وأرى أن تجعلها في الأقربين))، قال: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه؛ (البخاري حديث 2318/ مسلم حديث 998).
(4) عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم:
روى ابن سعد عن أم درة قالت: أُتِيَت عائشة بمائة ألف درهم، ففرَّقتها، وهي يومئذ صائمة، فقلت لها: أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحمًا تفطرين عليه، فقالت عائشة: لو ذكَّرتِني لفعلت؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد 8 جـ صـ 53).
(5) أبو الدحداح الأنصاري:
روى ابن أبي حاتم عن عبدالله بن مسعود، قال: لما نزلت: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ﴾ [البقرة: 245]، قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله، وإن الله عز وجل ليريد منا القرض؟ قال: ((نعم يا أبا الدحداح))،قال: أرني يدك يا رسول الله،قال: فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي، قال: وحائط له فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها،قال: فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح،قالت: لبيك،قال: اخرجي؛ فقد أقرضتُه ربي عز وجل؛ (تفسير ابن كثير جـ 2 صـ 416).
(6) عبدالله بن عمر:
روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم، فتمنَّيْت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت غلامًا شابًّا أعزبَ، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت في المنام كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان كقرني البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فلقيهما ملك آخر، فقال لي: لن تراعَ، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: نِعم الرجل عبدالله، لو كان يصلي بالليل))، قال سالم (ابن عبدالله بن عمر): فكان عبدالله لا ينام من الليل إلا قليلًا؛ (البخاري حديث 3738).
(2) تحريم الخمر:
(1) روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت ساقيَ القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر، فأمر مناديًا فنادى، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت، قال: فخرجت فقلت: هذا منادٍ ينادي: ألَا إن الخمر قد حرمت، فقال لي: اذهب فأهرقها، قال: فجرَتْ في سكك المدينة، قال: وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ (عصير من التمر) ؛ (البخاري: حديث 4620).
(2) روى مسلم أن رجلًا سأل عبدالله بن عباس، عما يعصر من العنب، فقال ابن عباس: إن رجلًا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية (قربة) خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل علمتَ أن الله قد حرمها؟))، قال: لا، فسارَّ إنسانًا (أخبره سرًّا)، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بمَ سارَرْتَه؟))، فقال: أمرته ببيعها، فقال: ((إن الذي حرم شُربها حرم بيعها))، قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها؛ (مسلم حديث: 1579).
(3) روى أحمد عن عمر بن الخطاب، قال: لما نزل تحريم الخمر، قال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شفاءً،فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 219]، قال: فدُعي عمرُ، فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شفاءً،فنزلت الآية التي في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: أن لا يقربن الصلاة سكران، فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شفاءً،فنزلت الآية التي في المائدة، فدُعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ: ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 91]، قال: فقال عمر: انتهينا، انتهينا؛ (حديث صحيح) (مسند أحمد جـ 1 صـ 442 حديث: 378).
(3) خاتم الذهب على الرجال:
روى مسلم عن عبدالله بن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه، وقال: ((يعمِد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده))، فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتَمَك انتفع به، قال: لا والله، لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ (مسلم حديث: 2090).
(4) الحجاب:
روى البخاري عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ [النور: 31] شقَقْنَ مُروطهن فاختمرن بها"؛ (البخاري: حديث 4758).
المرط: كساء من حرير أو صوف تتلفع به المرأة.
(5) المحافظة على أموال الأيتام:
روى أبو داود عن ابن عباس، قال: لما أنزل الله عز وجل: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الأنعام: 152]، و﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ﴾ [النساء: 10] الآية، انطلق مَن كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ [البقرة: 220]، فخلطوا طعامهم بطعامه، وشرابهم بشرابه؛ (حديث حسن) (صحيح أبى داود للألباني حديث 2495).
واجبنا نحو الامتثال لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم:
يجب علينا أن نستسلم وننقاد لأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كل منا بحسَب قدرته، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها،ولنحرص على تلاوة القرآن الكريم وحفظه، ونمتثل بالتطبيق العملي لأوامر الله ونواهيه، فنحافظ على أداء الصلوات المفروضة جماعة في المساجد، ونؤدي الزكاة المفروضة، ونتجنب الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل والتعامل بالربا، ونعتني بتربية أبنائنا وشبابنا على مبادئ الإسلام، ويستر كل منا عيوب إخوانه، وأَوْلى الناس بستر العيوب هم العلماء وولاة الأمور، ونعامل الناس كما نحب أن يعاملونا، وندعو للعصاة من المسلمين بالهداية والتوفيق لطاعة الله، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، بالحكمة والموعظة الحسنة، وندعو لولاة أمورنا بالتوفيق والسداد، ولنحذر تقليد غير المسلمين في أفكارهم وسلوكهم التي تخالف شريعتنا الإسلامية الغراء.
روى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يرِدَا عليَّ الحوض))؛ (حديث صحيح) (صحيح الجامع للألباني حديث 2937).
فلنتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ونعَضَّ عليها بالنواجذ؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7].
وقال سبحانه: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
ولنحذر مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم الامتثال لسنته عمدًا؛ قال تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
وقال سبحانه: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].
ويجب علينا جميعًا أن نضع نصب أعيننا مصير الأمم السابقة التي لم تمتثل لأوامر الله تعالى ورسله الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، فجحدوا نِعَم الله عليهم.
قال الله تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112].
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق