مراجع جمهرة معاني الحروف
كانت عناية أهل العلم بمعاني الحروف ظاهرة بيّنة، والتأليف فيها متقدّم، ويمكن تصنيف مصادر علم معاني الحروف إلى خمسة أصناف:
شرحتها هنا
وقد وضعنا خطة لجمع ما يتعلق بمعاني الحروف من هذه المؤلفات وتصنيفيها على الحروف، وترتيبها تاريخياً، لغرض الإفادة منها في التفسير وشرح الحديث وعلوم العربية.
ومنّ الله علينا بإتمام المرحلة الأولى من هذا المشروع العلمي، وتشتمل على 20 كتاباً في معاني الحروف، والوجوه والنظائر، وهي:
1. "الوجوه والنظائر" لمقاتل بن سليمان (ت:150هـ).
2. "الوجوه والنظائر" لهارون النحوي(ت:170هـ)
3. التصاريف ليحيى بن سلام (ت:200هـ)
4. ما يتعلق بمعاني الحروف من كتاب "المحلى" لابن شقير(ت:317هـ)
5. وحروف المعاني للزجاجي(ت:340هـ)
6. منازل الحروف للرماني(ت:388هـ)
7. والأزهية في علم الحروف لأي الحسن الهروي(ت:415هـ)
8. و"وجوه القرآن" للحيري(ت:431هـ).
9. و"إصلاح الوجوه والنظائر" للدامغاني(ت:478هـ)
10. "نزهة الأعين النواظر لابن الجوزي(ت:597هـ).
11. ورصف المباني للمالقي(ت:702هـ)
12. والتحفة الوفية للصفاقسي(ت:742هـ)
13. والجنى الداني للمرادي(ت:749هـ)
14. ومغني اللبيب لابن هشام(ت:761هـ)
15. وجواهر الأدب للإربلي(ت: ق 8 هـ)
16. ومصابيح المغاني لابن نور الدين(ت:825هـ)
17. "كشف السرائر" لابن العماد(ت:887هـ).
18. وكفاية المعاني للبيتوشي(ت:1211هـ)
19. وغنية الطالب لأحمد بن فارس الشدياق(ت:1305هـ)
20. قسم معاني الحروف من كتاب "دراسات لأساليب القرآن" للأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة(ت:1404هـ).
وهنا دليل جمهرة معاني الحروف
ونسأل الله تعالى القبول والتوفيق، والإعانة على إتمام هذا المشروع العلمي الكبير.
========
مقدّمات في علم معاني الحروف وبيان أنواع المؤلّفات فيه*
علم معاني الحروف من العلوم اللغوية المهمّة للمفسّر، وهو مفيد في حلّ كثير من الإشكالات، واستخراج الأوجه التفسيرية، ومعرفة أوجه الجمع والتفريق بين كثير من أقوال المفسرين.
والغفلة عن معاني الحروف قد توقع في خطأ في فهم معنى الآية، وقد يقع ذلك لبعض كبار المفسّرين.
قال مالك بن دينار: كنا نعرض المصاحف أنا والحسن وأبو العالية الرياحي ونصر بن عاصم الليثي وعاصم الجحدري، قال: سأل رجل أبا العالية عن قول الله عز وجل {الذين هم عن صلاتهم ساهون} ما هو؟
فقال أبو العالية: «هو الذي لا يدري عن كم انصرف؟ عن شفع أو عن وتر»
فقال الحسن: مَهْ! ليس كذلك، {الذين هم عن صلاتهم ساهون}: «الذي يسهو عن ميقاتها حتى تفوت» رواه عبد الرزاق.
قال الزركشي: (لو كان المراد ما فهم أبو العالية لقال: "في صلاتهم" فلما قال "عن صلاتهم" دل على أن المراد به الذهاب عن الوقت)ا.هـ.
وفهم أبي العالية قد يصحّ على معنى السهو عن معنى الصلاة وإرادتها بالقلب، ولو صلاها بجوارحه مع المسلمين كما يصلّي المنافقون من غير إرادة التقرّب إلى الله تعالى بالصلاة، بل قلوبهم في غفلة عن ذلك، وإنما يصلون رياءً، كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (يُصلّون وليست الصلاة من شأنهم).
وأما مجرّد السهو في الصلاة فليس مما يتناوله الوعيد في الآية.
أمثلة لدراسة مسائل معاني الحروف في التفسير:
المسألة الأولى: معنى الباء في {بسم الله}
اختلف اللغويون في معنى الباء في (بسم الله) على أقوال أقربها للصواب أربعة أقوال، وهي أشهر ما قيل في هذه المسألة، وإليك بيان هذه الأقوال:
القول الأول: الباء للاستعانة، وهو قول أبي حيان الأندلسي، والسمين الحلبي، وقال به جماعة من المفسّرين.
والقول الثاني: الباء للابتداء، وهو قول الفراء، وابن قتيبة، وثعلب، وأبي بكر الصولي، وأبي منصور الأزهري، وابن سيده، وابن يعيش، وجماعة.
والقول الثالث: الباء للمصاحبة والملابسة، واختاره ابن عاشور.
والقول الرابع: الباء للتبرك، أي أبدأ متبركاً، وهذا القول مستخرج من قول بعض السلف في سبب كتابة البسملة في المصاحف، وأنها كتبت للتبرّك، وهذا المعنى يذكره بعض المفسرين مع بعض ما يذكرونه من المعاني.
والأظهر عندي أن هذه المعاني الأربعة كلها صحيحة لا تعارض بينها، وما ذكر من اعتراضات على بعض هذه الأقوال فله توجيه يصحّ به القول.
ومن ذلك اعتراض بعضهم على معنى الاستعانة بأنّ الاستعانة تكون بالله وليست باسم الله؛ قالوا: الأشهر أن يقول المستعين إذا أراد الاستعانة: أستعين بالله، ولا يقول: أستعين باسم الله.
وهذا الاعتراض يدفعه أنّ الذي يذكر اسم ربّه لا ريب أنّه يستعين بذكر اسمه على ما عزم عليه؛ فمعنى الاستعانة متحقق.
فهو يستعين بالله تعالى حقيقة، ويذكر اسمه متوسّلاً به إلى الله تعالى ليعينه؛ وهذا هو مراد من قال بمعنى الاستعانة.
وقد أرجع سيبويه معاني الباء إلى أصل واحد وهو الإلزاق؛ فقال في الكتاب: (وباء الجر إنما هي للإلزاق).
وهذا مقبول من حيث الأصل لكن يُعبَّر عن المعنى في كلّ موضع بما يناسبه، ولذلك استبدل ابن عاشور عبارة الإلزاق في هذا الموضع بالمصاحبة والملابسة وذكر أنها مترادفة، ومن أهل اللغة من يذكر بينها فروقاً دقيقة.
والإلزاق ينقسم إلى حسيّ ومعنوي؛ فالحسيّ للمحسوسات نحو: أمسكت بالقلم، والمعنويّ نحو: قرأتُ بِنَهَمٍ.
ثمّ يتفرَّع على الإلزاق الحسي والمعنوي أنواع أخرى؛ فقد يكون للاستعانة وقد يكون للتبرك، وقد يكون للاستفتاح، وقد يكون لغير ذلك، وقد تجتمع بعض هذه المعاني.
فما اجتمع منها من غير تنافر فيصحّ القول به، ولذلك يصحّ أن يستحضرَ المبسملَ عندَ بسملته هذه المعاني جميعاً، ولا يجد في نفسه تعارضاً بينها.
والغرض من التفصيل في هذه المسألة أن يتبيّن طالب علم التفسير أنّ من الأقوال في معاني الحروف ما يجتمع ولا يتنافر، وهذه قاعدة مهمة في التفسير ولها تطبيقات كثيرة في مسائل التفسير.
ومن أمثلة ذلك الجمع بين أقوال العلماء في معنى الباء في قوله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب}
فقيل: الباء للاستعانة، وقيل: للمصاحبة، وقيل: للملابسة، وقيل: للسبيية، وقيل: للتبرّك.
وهذه كلها معانٍ صحيحة لا تعارض بينها.
لكن مما يُنبَّه عليه ضعف بعض الأقوال التي قيلت في معنى الباء في قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم}
فقيل: زائدة، وقيل: هي للقسم؛ وقيل: للاستعلاء.
فأمّا القول بالزيادة فضعيف جداً، وكذلك القول بأنّها للقسم، والقسم يفتقر إلى جواب، ولا ينعقد إلا معلوماً.
وأما القول بالاستعلاء فيكون صحيحاً إذا كان معنى الاستعلاء عند التسمية مطلوباً؛ كالتسمية عند الرمي، وفي أعمال الجهاد، وسائر ما يطلب فيه الاستعلاء كما قال الله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون}
وهذا المعنى لا يُراد إذا كانت التسمية لما يراد به التذلل لله تعالى والتقرّب إليه كما في التسمية لقراءة القرآن.
وبهذا تعلم أن معاني الحروف تتنوّع بحسب السياق والمقاصد وما يحتمله الكلام، وليست جامدة على معانٍ معيَّنة يكرر المفسّر القول بها في كلّ موضع(1).
المسألة الثانية: معنى "ما" في قول الله تعالى: {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ}اختلف في معنى "ما" ههنا على ثلاثة أقوال:
القول الأول: "ما" موصولة لإفادة العموم؛ والمعنى: إن الله يعلم كلَّ ما تعبدون من دونه من حجر أو شجر أو نجم أو نار أو جنّ أو إنس؛ فكلّ ما يُعبد من دون الله تعالى فالله محيط به علماً.
وإيماء هذا المعنى أنّ الله يعلم حال تلك المعبودات ونقصها وفقرها إليه وأنّها لا تستحقّ من العبادة شيئاً، وأنّ كلّ من أشرك بالله شيئاً في عبادته فهو بعلم الله وسيجازيه على شركه.
والقول الثاني: "ما" نافية ، والنفي متجّه لنفع تلك المعبودات؛ فكأنّها لمّا لم تنفعهم شيئاً نزّلت منزلة المعدوم، ومن حسن بيان العرب تنزيل عديم الفائدة منزلة عديم الوجود، وهذا فيه تبكيت عظيم الأثر على قلوب المشركين.
وهذا المعنى نظير قول الله تعالى: { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}
وقول الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ...}
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكهّان: ((ليسوا بشيء)).
والقول الثالث: "ما" استفهامية، والاستفهام إنكاري، و"يعلم" معلّقة، والمعنى: أيّ شيء تدعون من دون الله؟
القول الأول قول ابن جرير الطبري وجماعة من المفسرين فسّروا الآية على هذا المعنى، وذكره أبو سعيد السيرافي في شرح كتاب سيبويه.
والقول الثاني ذكره أبو البقاء العكبري وأبو حيّان الأندلسي والسمين الحلبي وابن عاشور وشرحه شرحاً حسناً، واختاره الأستاذ محمود صافي.
والقول الثالث ذكره سيبويه عن الخليل بن أحمد، وقال به أبو علي الفارسي والراغب الأصبهاني وأبو البقاء العكبري وجماعة.
المسألة الثالثة: معنى "من" في قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر اللّه}
في هذه المسألة أقوال لأهل العلم:
القول الأول: "من" للتعدية، كما في قول الله تعالى: {قالت إني أعوذ بالرحمن منك} وقوله تعالى: { قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق}، وقوله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} ؛ فكذلك قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر الله}.
وهو أظهر المعاني في مثل هذا السياق، وهذا القول هو معنى قول جماعة من المفسّرين، وهو معنى رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر الله} قال: (ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدره خلوا عنه). رواه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال المعتمر بن سليمان: سمعت ليثا يحدث، عن مجاهد أنه قال: (ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال: وراءك! إلا شيئا يأذن الله فيه فيصيبه). رواه ابن جرير.
وقال إبراهيم النخعي: (يحفظونه من أمر الله) قال: من الجن). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وهو مخرّج على أنّ "من" للتعدية.
وروي معنى هذا القول عن عليّ بن أبي طالب وأبي هريرة وأبي أمامة وعكرمة وغيرهم.
القول الثاني: "من" سببية، أي بسبب أمر الله لهم بحفظه يحفظونه، وهذا معنى قول الفراء وأبي عمر الزاهد غلام ثعلب، وذكره أبو حيان، وجماعة من المفسرين.
وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير: (الملائكة: الحفظة، وحفظهم إيّاه من أمر اللّه) رواه ابن جرير.
قال ابن الجوزي: (فيكون تقدير الكلام : هذا الحفظ مما أمرهم الله به).
القول الثالث: "من" بمعنى الباء، أي: يحفظونه بأمر الله، وهذا قول قتادة، رواه عنه عبد الرزاق وابن جرير، ورواية عن مجاهد من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه، وقال به الخليل بن أحمد، ومقاتل بن سليمان، وهارون الأعور، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والمبرّد في المقتضب، وأبو البقاء العكبري، وجماعة.
وهذا القول صحيح، ويتفرّع إلى معنيين:
- أحدهما أن تكون الباء سببية؛ فيكون بمعنى القول الثاني، وهذا معنى قول الفرّاء: (و{يحفظونه} ذلك الحفظ من أمر الله وبأمره وبإذنه عز وجلَّ؛ كما تقول للرجل: أجيئِك مِنْ دعائِك إِيَّاى وبدعائِك إيَّاي)ا.هـ.
- والآخر: أن تكون الباء للتعدية، أي يحفظونه بما مكَّنهم الله به من أسباب الحفظ.
القول الرابع: بمعنى "عن"، وهي رواية عن ابن عباس أخرجها ابن أبي حاتم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وذكره ابن جرير الطبري عن بعض نحاة البصرة، وأنهم قالوا: (معنى ذلك: يحفظونه عن أمر الله، كما قالوا:"أطعمني من جوع، وعن جوع" و"كساني عن عري، ومن عري").وهذا القول يرجع إلى معنى القول الثاني، وهو كقوله تعالى حكاية عن الخضر: {وما فعلته عن أمري}.
القول الخامس: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: (له معقِّبات من أمر الله يحفظونه) ، وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال في قوله تعالى: {يحفظونه من أمر اللّه} يقول: بإذن اللّه، فالمعقّبات: هي من أمر اللّه، وهي الملائكة) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال ابن وهب: أخبرني الحارث بن نبهان عن عطاء بن السائب عن ابن عباس قال: (الملائكة من أمر الله يحفظونه).
وقال أيضا: أخبرني سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله ابن عباس أنه كان يقرأ: {له معقبات من بين يديه}، ورقباء، {من خلفه} من أمر الله {يحفظونه}.
وقال خصيف عن مجاهد: (الملائكة من أمر الله) رواه ابن جرير، وروى نحوه عن ابن جريج عن ابن عباس، وهو منقطع.
والتقدير على هذا القول له معقبات من أمر الله يحفظونه، ومتعلق الحفظ محذوف لإرادة العموم في كل ما يحتاج فيه إلى الحفظ.
والتحقيق أنّ هذه المعاني كلّها صحيحة، واختلافها كاختلاف الأقوال الصحيحة في المشترك اللفظي، وكاختلاف القراءات.
واختلاف التنوّع تقبل الأقوال فيه بثلاثة شروط:
- أحدها أن يكون القول في نفسه صحيحاً.
- والثاني: أن تكون دلالة الآية عليه دلالة صحيحة من جهة اللغة.
- والثالث: أن يصحّ عن السّلف.
وشرح الأقوال الخمسة وبيان الفروق بينها، ودلالة الآية عليها يطول، لكن مما ينبّه عليه أثر الاختلاف في مرجع الضمير في قوله تعالى: {له معقبات}، والمراد بالمعقبات، ومعنى الحفظ في قوله تعالى: {يحفظونه}.
ففيه قولان:
أحدهما: حفظ عناية ووقاية.
والآخر: حفظ رقابة وكتابة كما في قول الله تعالى: {وإن عليكم لحافظين . كراماً كاتبين}.
قال ابن جريج: {يحفظونه من بين يديه ومن خلفه} مثل قوله: {عن اليمين وعن الشمال قعيد} قال: الحسنات من بين يديه، والسيئات من خلفه، الذي عن يمينه يكتب الحسنات والذي عن شماله يكتب السيئات). رواه ابن جرير.
وكلّ قول من هذين القولين ومن الأقوال في المسألتين الأخريين يخرّج عليه ما يناسبه من الأقوال في معنى "من".
وقد كثرت الأقوال في تفسير هذه الآية لسعة معانيها، وتعدد دلائلها، وعامّتها أقوال صحيحة، إلا ما ذكر عن بعضهم من أنّ في الآية نفياً محذوفا والتقدير: (لا يحفظونه من أمر الله) وهذا القول ذكره أبو إسحاق الزجاج عن بعض أهل اللغة، وهو تحريف لا يصحّ، ولا يُؤثر عن أحد من السلف، وإنما قاد إليه استشكال معنى الحفظ من أمر الله على القول بأنّ "من" للتعدية.
والصواب أنه لا إشكال فيه؛ فكلّ الأقدار من أوامر الله تعالى الكونية، والأوامر الكونية قد أجرى الله فيها سنن التدافع، كما تدفع الأمراض بالتداوي والرقى؛ ويتّقى البرد باللباس، والحرّ بالظلال والأكنان، وقد روى الترمذي وابن ماجة وغيرهما من حديث الزهري عن أبي خزامة عن أبيه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقلت: يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا؟
قال: ((هي من قدر الله)).
وروي نحوه من حديث كعب بن مالك وحكيم بن حزام وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
ولمّا بلغ عمر نزول الوباء بالشام ونادى بالرحيل قال له أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟
فقال عمر: (لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!! نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة؛ أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله). رواه البخاري.
وقال كعب الأحبار: (لو تجلَّى لابن آدم كل سهل وحزن لرأى على كل شيء من ذلك شياطين، لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذا لتُخُطِّفتُم). رواه ابن جرير.
فالمعقّبات التي يدفع الله بها الشرور وتحفظ بني آدم كثيرة، وهي مأمورة بالحفظ، كما أمر الله الجفن أن يحفظ العين، لكن إذا قضى الله أمراً يصيب العبد فلا رادّ لقضائه، ولا تنفعه حفظته إذا نزل به قضاء الله.
عناية المفسّرين ببيان معاني الحروف
وقد اعتنى المفسّرون ببيان معاني الحروف عناية حسنة لاتّصالها بالتفسير، ولا سيّما بعض من كتب في معاني القرآن كالفراء والأخفش وابن قتيبة والزجاج والنحاس وغيرهم.
ولابن جرير وابن عطية والقرطبي وأبي حيان وأبي السعود والألوسي وابن عاشور عناية حسنة بالتنبيه على معاني الحروف في التفسير.
أنواع المؤلّفات في شرح معاني الحروف
سلك العلماء طرقاً متنوعة في التأليف في شرح معاني الحروف، وسأوجز الحديث عن أشهر تلك الأنواع:
النوع الأول: إدراجها في كتب الوجوه والنظائر، وهو أوّل ما ظهر من الكتابة في معاني الحروف، وسبب ذلك أنّ الحروف ترد على وجوه متعددة من المعاني، غير أنّ هذا النوع من التأليف لا يختص بالحروف ولا يتقصّاها؛ ومن أشهر الكتب المؤلفة في هذا النوع:
1. كتاب "الوجوه والنظائر" لمقاتل بن سليمان البلخي(ت:150هـ)، وقد ذكر فيه معاني بعض الحروف مثل: "إلى"، و"إلا" و"إن"، و"أو" و"أم" و"حتى"، و"لولا"، و"لما" وغيرها.
2. "الوجوه والنظائر" لهارون بن موسى النحوي(ت:170هـ) ، وقد ذكر فيه معاني بعض الحروف ومنها: "إن" و"أنى" و"أم" و"أو" و"من" و"في" "ولما" وغيرها، وفيه اعتماد كبير على كتاب مقاتل، وزيادة عليه.
3. التصاريف ليحيى بن سلام البصري(ت:200هـ)، وقد ذكر فيه معاني بعض الحروف مثل معاني "من" و"في" و"إن" و"أن" وغيرها.
4. كتاب "وجوه القرآن" لإسماعيل بن أحمد الحيري الضرير(ت:431هـ).
5. "الوجوه والنظائر" للقاضي أبي عبد الله محمد بن علي الدامغاني(ت:478هـ)
6. "نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر" لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي(ت:597هـ).
7. "كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر"، لشمس الدين محمد بن محمد البلبيسي المعروف بابن العماد المصري(ت:887هـ).
النوع الثاني: إدراج شرحها في معاجم اللغة
وسبب ذلك أنّ الحروف من المفردات التي يكثر دورانها في الاستعمال؛ فكان من عناية أصحاب المعاجم اللغوية شرحها فيما يشرحون من المفردات على تفاوت ظاهر بينهم في ذلك، ومن أشهر المعاجم اللغوية:
1. كتاب "العين"، للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت:170هـ) وقد شرح معاني بعض الحروف كما في شرحه لـ"أو" و"أم" و"أي" وغيرها.
وهذا الكتاب أصله للخليل بن أحمد، وأتمّه تلميذه الليث بن المظفر بن نصر بن سيار، وقد تتبعَّه ونقده الإمام أبو منصور الأزهري في كتابه الجليل "تهذيب اللغة"؛ فلذلك أوصي من يرجع إلى شرح مفردة في كتاب "العين" أن يطالع شرح تلك المفردة في "تهذيب اللغة".
2. جمهرة اللغة"، لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي(ت:321هـ).
3. "تهذيب اللغة" لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري(ت:370هـ).
4. "المحيط في اللغة"، لأبي القاسم إسماعيل بن عباد الطالقاني المعروف بالصاحب بن عباد (ت:385هـ).
5. "تاج اللغة وصحاح العربية"، لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري (ت: 393هـ )
6. "مجمل اللغة"، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي(ت: 395هـ) ، وله أيضاً "مقاييس اللغة" ، لكن تناوله لمعاني الحروف في "مجمل اللغة" أكثر.
7. "المخصص"، لأبي الحسن علي بن إسماعيل المرسي المعروف بابن سيده الأندلسي(ت:458هـ)، وله أيضاً "المحكم والمحيط الأعظم"
8. "لسان العرب"، لأبي الفضل محمد بن مكرم بن منظور الأنصاري الأفريقي(ت:711هـ)
9. "القاموس المحيط"، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت:817هـ)
10. "تاج العروس من جواهر القاموس"، لأبي الفيض مرتضى الزبيدي(ت:1205هـ).
فهذه أشهر المعاجم اللغوية، وفيها تناول لمعاني بعض الحروف بالشرح والتمثيل، واستخراج كلام أصحاب المعاجم في معاني الحروف، وترتيبه على حروف المعجم عمل نافع لو تصدّى له أحد.
النوع الثالث: التأليف المفرد في معاني الحروف
وقد صنّف في معاني الحروف جماعة من أهل العلم، ومن أشهر كتبهم وأهمّها:
1: الحروف، لأبي حاتم سهل بن محمد السجستاني (ت: 255هـ)، وهو جزء صغير نقله ياقوت الحموي من كتاب مفقود لأبي حاتم اسمه «لحن العامة».
2: المحلّى، لأبي بكر أحمد بن الحسن بن شقير النحوي البغدادي(ت:317هـ)، وقد بدأه بتفسير وجوه النصب والرفع والخفض والجزم، ثمّ أخذ في شرح أنواع الحروف ومعانيها.
3: حروف المعاني والصفات، لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي (ت 340 هـ).
4: الحروف، لأبي الحسن علي بن الفضل المزني النحوي (ت: ق4)، وكان معاصراً لابن جرير الطبري.
5: منازل الحروف، لأبي الحسن علي بن عيسى الرُّمَّاني(ت:388ه).
6: الأُزهية في علم الحروف، لأبي الحسن علي بن محمد الهروي النحوي (ت: 415هـ).
7: رصف المباني في حروف المعاني، لأبي جعفر أحمد بن عبد النور المالقي(ت:702ه)
8: التحفة الوفية بمعاني حروف العربية، لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الصفاقسي(ت:742هـ) تلميذ أبي حيان الأندلسي.
9: الجنى الداني في حروف المعاني، لأبي محمد الحسن بن قاسم المرادي المراكشي(ت:749ه) المشتهر بابن أمّ قاسم.
10: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لأبي محمد جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري(ت:761ه).
11: جواهر الأدب في معرفة كلام العرب، لعلاء الدين بن عليّ بن بدر الدين الإربلي(ت:ق8 هـ)، وفي اسم مؤلّفه خلاف، وقال الأستاذ محمّد عبد الخالق عضيمة: (الظاهر أن مؤلف الكتاب هو: العلاء بن أحمد بن محمد بن أحمد السيرامي المتوفي سنة 790).
12: مصابيح المغاني في حروف المعاني، لجمال الدين محمد بن علي المَوزعي المعروف بابن نور الدين (ت 825 هـ).
13: فتح الرؤوف في أحكام الحروف وما في معناها من الأسماء والظروف، لجمال الدين محمد بن عمر بن مبارك الحميري الحضرمي المعروف بِبَحْرَق(ت: 930هـ) ، وهي منظومة شرحها في كتاب لطيف.
14. كفاية المُعاني في حروف المعاني، وهي منظومة حسنة لأبي محمد عبد الله بن محمد البيتوشي الكردي (ت:1211ه)، وقد ذُكر عنه أنه كان يحفظ "القاموس المحيط" عن ظهر قلب، وقد اعتنى بمنظومته هذه عناية فائقة، وألّف في شرحها ثلاثة كتب:
أ: الحفاية بتوضيح الكفاية، وهو شرح كبير طُبع في نحو ثمانمائة صفحة.
ب: والكفاية لراغب الحفاية، وهي تعليقات مختصرة.
ج: وصرف العناية في كشف الكفاية، وهو شرح متوسط أودع فيه زبدة ما في الحفاية مع زوائد وفوائد.
15: غنية الطالب ومنية الراغب في الصرف والنحو وحروف المعاني، للأستاذ أحمد بن فارس الشدياق(ت:1305هـ).
وعامّة هذه الكتب مطبوعة.
هذا ، وقد ذُكر عن جماعة من العلماء المتقدمين أنّهم ألّفوا في الحروف كالخليل بن أحمد والكسائي والنضر بن شميل وأبي عمرو الشيباني وابن السكّيت والمبرّد وأبي علي الفارسي وغيرهم إلا أنّ ما ذكر عنهم على ثلاثة أصناف:
أ: صنف لا تصحّ نسبته إليهم، ومن ذلك:
- كتاب الحروف المنسوب إلى الخليل بن أحمد، وقد طبع بتحقيق د.رمضان عبد التواب، وقال: (ويبدو أن الكتاب مزيّف) وذكر أنّ الحافظ الذهبي قد اختصره، وأن الفيروزآبادي والسيوطي قد نقلا عنه.
- ورسالة في الحروف العربية، طبعت منسوبة إلى النضر بن شميل المازني(ت: 204هـ) بتحقيق: هبة الدين الحسيني، في مجلة العلم ببغداد، ونشرها المستشرق أوغست هفنر في المجموع الذي سمّاه "البلغة في شذور اللغة".
ب: وصنف وإن كان عنوانه في الحروف إلا أنّ موضوعه في غير بيان معاني الحروف؛ ومن ذلك:
- كتاب ابن السكيت في "الحروف التي يُتكلّم بها في غير موضعها" لم يُرِدْ فيه حروف المعاني، وإنما أطلق لفظ الحرف على ما نسمّيه الجُملة.
- وكتاب الحروف لأبي عمرو الشيباني(ت:213هـ) إنما هو كتاب "الجيم" له، وهو معجم لغوي.
- وكتاب الحروف المنسوب لأبي نصر الفارابي(ت:339هـ) كتاب فلسفي لم يجر فيه على طريقة أهل اللغة في شرح حروف المعاني.
- وكتاب الحروف لابن الطحّان (ت:560هـ) هو في صفاتها ومخارجها.
- وكتاب الحروف لأبي الفضائل الرازي(ت: ق7 هـ) وهو كتاب فيه فصول عن علم الحروف الهجائية وصفاتها وأنواعها ومخارجها، وليس فيه حديث عن حروف المعاني.
ج: وصنف لم يصل إلينا، ولا أعرف عنه سوى اسمه، ككتب الكسائي والمبرّد وأبي علي الفارسي.
النوع الرابع: إفراد بعض الحروف بالتأليف.
ومن الكتب المفردة في معاني بعض الحروف:
1: الهمز، لأبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري(ت:215هـ).
2: الألفات، لأبي محمد بن القاسم بن بشار ابن الأنباري: (ت: 328 هـ)
3: الألفات، لأبي عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني(ت:370هـ)
4: كتاب "اللامات"، لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي(ت: 340هـ).
5:اللامات، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس(ت:338هـ).
6: واللامات، لأبي زكريا أحمد بن فارس بن زكريا الرازي (ت:395هـ)، وله "مقالة كلا".
7: ولأبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري(ت:577هـ) كتب مفردة في بعض الحروف منها: كتاب "كلا وكلتا"، كتاب "لو وما" ، وكتاب "كيف" ، وكتاب "الألف واللام".
8. الفصول المفيدة في الواوات المزيدة، لأبي سعيد خليل بن كيلكلدى بن عبدالله العلائي(ت:761هـ).
وتتبع ما كتب في هذا النوع من الرسائل والكتب وجمعه نافع جداً لو تصدّى له أحد.
الدراسات المعاصرة لمعاني الحروف في القرآن الكريم
لعلماء هذا العصر جهود مشكورة في إعداد موسوعات علمية في معاني الحروف في القرآن الكريم، ومن أهمّ تلك الأعمال:
1. قسم معاني الحروف من كتاب "دراسات لأسلوب القرآن الكريم" للأستاذ الجليل محمد عبد الخالق عضيمة، وهو عمل جليل أمضى فيه نحو خمسة وعشرين عاماً، وبذل وسعه في حصر مواضع حروف المعاني في القرآن الكريم، وأقوال العلماء في معانيها من مراجع كثيرة.
وقدّم لكل حرف بلمحات معرّفة عن مواضع وروده في القرآن الكريم ومعانيها.
2. معجم الأدوات والضمائر في القرآن الكريم، إعداد الدكتور إسماعيل عمايرة والدكتور عبد الحميد السيد.
3. معجم حروف المعاني في القرآن الكريم، للأستاذ محمد حسن الشريف.
كانت عناية أهل العلم بمعاني الحروف ظاهرة بيّنة، والتأليف فيها متقدّم، ويمكن تصنيف مصادر علم معاني الحروف إلى خمسة أصناف:
شرحتها هنا
وقد وضعنا خطة لجمع ما يتعلق بمعاني الحروف من هذه المؤلفات وتصنيفيها على الحروف، وترتيبها تاريخياً، لغرض الإفادة منها في التفسير وشرح الحديث وعلوم العربية.
ومنّ الله علينا بإتمام المرحلة الأولى من هذا المشروع العلمي، وتشتمل على 20 كتاباً في معاني الحروف، والوجوه والنظائر، وهي:
1. "الوجوه والنظائر" لمقاتل بن سليمان (ت:150هـ).
2. "الوجوه والنظائر" لهارون النحوي(ت:170هـ)
3. التصاريف ليحيى بن سلام (ت:200هـ)
4. ما يتعلق بمعاني الحروف من كتاب "المحلى" لابن شقير(ت:317هـ)
5. وحروف المعاني للزجاجي(ت:340هـ)
6. منازل الحروف للرماني(ت:388هـ)
7. والأزهية في علم الحروف لأي الحسن الهروي(ت:415هـ)
8. و"وجوه القرآن" للحيري(ت:431هـ).
9. و"إصلاح الوجوه والنظائر" للدامغاني(ت:478هـ)
10. "نزهة الأعين النواظر لابن الجوزي(ت:597هـ).
11. ورصف المباني للمالقي(ت:702هـ)
12. والتحفة الوفية للصفاقسي(ت:742هـ)
13. والجنى الداني للمرادي(ت:749هـ)
14. ومغني اللبيب لابن هشام(ت:761هـ)
15. وجواهر الأدب للإربلي(ت: ق 8 هـ)
16. ومصابيح المغاني لابن نور الدين(ت:825هـ)
17. "كشف السرائر" لابن العماد(ت:887هـ).
18. وكفاية المعاني للبيتوشي(ت:1211هـ)
19. وغنية الطالب لأحمد بن فارس الشدياق(ت:1305هـ)
20. قسم معاني الحروف من كتاب "دراسات لأساليب القرآن" للأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة(ت:1404هـ).
وهنا دليل جمهرة معاني الحروف
ونسأل الله تعالى القبول والتوفيق، والإعانة على إتمام هذا المشروع العلمي الكبير.
========
مقدّمات في علم معاني الحروف وبيان أنواع المؤلّفات فيه*
علم معاني الحروف من العلوم اللغوية المهمّة للمفسّر، وهو مفيد في حلّ كثير من الإشكالات، واستخراج الأوجه التفسيرية، ومعرفة أوجه الجمع والتفريق بين كثير من أقوال المفسرين.
والغفلة عن معاني الحروف قد توقع في خطأ في فهم معنى الآية، وقد يقع ذلك لبعض كبار المفسّرين.
قال مالك بن دينار: كنا نعرض المصاحف أنا والحسن وأبو العالية الرياحي ونصر بن عاصم الليثي وعاصم الجحدري، قال: سأل رجل أبا العالية عن قول الله عز وجل {الذين هم عن صلاتهم ساهون} ما هو؟
فقال أبو العالية: «هو الذي لا يدري عن كم انصرف؟ عن شفع أو عن وتر»
فقال الحسن: مَهْ! ليس كذلك، {الذين هم عن صلاتهم ساهون}: «الذي يسهو عن ميقاتها حتى تفوت» رواه عبد الرزاق.
قال الزركشي: (لو كان المراد ما فهم أبو العالية لقال: "في صلاتهم" فلما قال "عن صلاتهم" دل على أن المراد به الذهاب عن الوقت)ا.هـ.
وفهم أبي العالية قد يصحّ على معنى السهو عن معنى الصلاة وإرادتها بالقلب، ولو صلاها بجوارحه مع المسلمين كما يصلّي المنافقون من غير إرادة التقرّب إلى الله تعالى بالصلاة، بل قلوبهم في غفلة عن ذلك، وإنما يصلون رياءً، كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (يُصلّون وليست الصلاة من شأنهم).
وأما مجرّد السهو في الصلاة فليس مما يتناوله الوعيد في الآية.
أمثلة لدراسة مسائل معاني الحروف في التفسير:
المسألة الأولى: معنى الباء في {بسم الله}
اختلف اللغويون في معنى الباء في (بسم الله) على أقوال أقربها للصواب أربعة أقوال، وهي أشهر ما قيل في هذه المسألة، وإليك بيان هذه الأقوال:
القول الأول: الباء للاستعانة، وهو قول أبي حيان الأندلسي، والسمين الحلبي، وقال به جماعة من المفسّرين.
والقول الثاني: الباء للابتداء، وهو قول الفراء، وابن قتيبة، وثعلب، وأبي بكر الصولي، وأبي منصور الأزهري، وابن سيده، وابن يعيش، وجماعة.
والقول الثالث: الباء للمصاحبة والملابسة، واختاره ابن عاشور.
والقول الرابع: الباء للتبرك، أي أبدأ متبركاً، وهذا القول مستخرج من قول بعض السلف في سبب كتابة البسملة في المصاحف، وأنها كتبت للتبرّك، وهذا المعنى يذكره بعض المفسرين مع بعض ما يذكرونه من المعاني.
والأظهر عندي أن هذه المعاني الأربعة كلها صحيحة لا تعارض بينها، وما ذكر من اعتراضات على بعض هذه الأقوال فله توجيه يصحّ به القول.
ومن ذلك اعتراض بعضهم على معنى الاستعانة بأنّ الاستعانة تكون بالله وليست باسم الله؛ قالوا: الأشهر أن يقول المستعين إذا أراد الاستعانة: أستعين بالله، ولا يقول: أستعين باسم الله.
وهذا الاعتراض يدفعه أنّ الذي يذكر اسم ربّه لا ريب أنّه يستعين بذكر اسمه على ما عزم عليه؛ فمعنى الاستعانة متحقق.
فهو يستعين بالله تعالى حقيقة، ويذكر اسمه متوسّلاً به إلى الله تعالى ليعينه؛ وهذا هو مراد من قال بمعنى الاستعانة.
وقد أرجع سيبويه معاني الباء إلى أصل واحد وهو الإلزاق؛ فقال في الكتاب: (وباء الجر إنما هي للإلزاق).
وهذا مقبول من حيث الأصل لكن يُعبَّر عن المعنى في كلّ موضع بما يناسبه، ولذلك استبدل ابن عاشور عبارة الإلزاق في هذا الموضع بالمصاحبة والملابسة وذكر أنها مترادفة، ومن أهل اللغة من يذكر بينها فروقاً دقيقة.
والإلزاق ينقسم إلى حسيّ ومعنوي؛ فالحسيّ للمحسوسات نحو: أمسكت بالقلم، والمعنويّ نحو: قرأتُ بِنَهَمٍ.
ثمّ يتفرَّع على الإلزاق الحسي والمعنوي أنواع أخرى؛ فقد يكون للاستعانة وقد يكون للتبرك، وقد يكون للاستفتاح، وقد يكون لغير ذلك، وقد تجتمع بعض هذه المعاني.
فما اجتمع منها من غير تنافر فيصحّ القول به، ولذلك يصحّ أن يستحضرَ المبسملَ عندَ بسملته هذه المعاني جميعاً، ولا يجد في نفسه تعارضاً بينها.
والغرض من التفصيل في هذه المسألة أن يتبيّن طالب علم التفسير أنّ من الأقوال في معاني الحروف ما يجتمع ولا يتنافر، وهذه قاعدة مهمة في التفسير ولها تطبيقات كثيرة في مسائل التفسير.
ومن أمثلة ذلك الجمع بين أقوال العلماء في معنى الباء في قوله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب}
فقيل: الباء للاستعانة، وقيل: للمصاحبة، وقيل: للملابسة، وقيل: للسبيية، وقيل: للتبرّك.
وهذه كلها معانٍ صحيحة لا تعارض بينها.
لكن مما يُنبَّه عليه ضعف بعض الأقوال التي قيلت في معنى الباء في قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم}
فقيل: زائدة، وقيل: هي للقسم؛ وقيل: للاستعلاء.
فأمّا القول بالزيادة فضعيف جداً، وكذلك القول بأنّها للقسم، والقسم يفتقر إلى جواب، ولا ينعقد إلا معلوماً.
وأما القول بالاستعلاء فيكون صحيحاً إذا كان معنى الاستعلاء عند التسمية مطلوباً؛ كالتسمية عند الرمي، وفي أعمال الجهاد، وسائر ما يطلب فيه الاستعلاء كما قال الله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون}
وهذا المعنى لا يُراد إذا كانت التسمية لما يراد به التذلل لله تعالى والتقرّب إليه كما في التسمية لقراءة القرآن.
وبهذا تعلم أن معاني الحروف تتنوّع بحسب السياق والمقاصد وما يحتمله الكلام، وليست جامدة على معانٍ معيَّنة يكرر المفسّر القول بها في كلّ موضع(1).
المسألة الثانية: معنى "ما" في قول الله تعالى: {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ}اختلف في معنى "ما" ههنا على ثلاثة أقوال:
القول الأول: "ما" موصولة لإفادة العموم؛ والمعنى: إن الله يعلم كلَّ ما تعبدون من دونه من حجر أو شجر أو نجم أو نار أو جنّ أو إنس؛ فكلّ ما يُعبد من دون الله تعالى فالله محيط به علماً.
وإيماء هذا المعنى أنّ الله يعلم حال تلك المعبودات ونقصها وفقرها إليه وأنّها لا تستحقّ من العبادة شيئاً، وأنّ كلّ من أشرك بالله شيئاً في عبادته فهو بعلم الله وسيجازيه على شركه.
والقول الثاني: "ما" نافية ، والنفي متجّه لنفع تلك المعبودات؛ فكأنّها لمّا لم تنفعهم شيئاً نزّلت منزلة المعدوم، ومن حسن بيان العرب تنزيل عديم الفائدة منزلة عديم الوجود، وهذا فيه تبكيت عظيم الأثر على قلوب المشركين.
وهذا المعنى نظير قول الله تعالى: { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}
وقول الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ...}
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكهّان: ((ليسوا بشيء)).
والقول الثالث: "ما" استفهامية، والاستفهام إنكاري، و"يعلم" معلّقة، والمعنى: أيّ شيء تدعون من دون الله؟
القول الأول قول ابن جرير الطبري وجماعة من المفسرين فسّروا الآية على هذا المعنى، وذكره أبو سعيد السيرافي في شرح كتاب سيبويه.
والقول الثاني ذكره أبو البقاء العكبري وأبو حيّان الأندلسي والسمين الحلبي وابن عاشور وشرحه شرحاً حسناً، واختاره الأستاذ محمود صافي.
والقول الثالث ذكره سيبويه عن الخليل بن أحمد، وقال به أبو علي الفارسي والراغب الأصبهاني وأبو البقاء العكبري وجماعة.
المسألة الثالثة: معنى "من" في قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر اللّه}
في هذه المسألة أقوال لأهل العلم:
القول الأول: "من" للتعدية، كما في قول الله تعالى: {قالت إني أعوذ بالرحمن منك} وقوله تعالى: { قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق}، وقوله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} ؛ فكذلك قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر الله}.
وهو أظهر المعاني في مثل هذا السياق، وهذا القول هو معنى قول جماعة من المفسّرين، وهو معنى رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر الله} قال: (ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدره خلوا عنه). رواه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال المعتمر بن سليمان: سمعت ليثا يحدث، عن مجاهد أنه قال: (ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال: وراءك! إلا شيئا يأذن الله فيه فيصيبه). رواه ابن جرير.
وقال إبراهيم النخعي: (يحفظونه من أمر الله) قال: من الجن). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وهو مخرّج على أنّ "من" للتعدية.
وروي معنى هذا القول عن عليّ بن أبي طالب وأبي هريرة وأبي أمامة وعكرمة وغيرهم.
القول الثاني: "من" سببية، أي بسبب أمر الله لهم بحفظه يحفظونه، وهذا معنى قول الفراء وأبي عمر الزاهد غلام ثعلب، وذكره أبو حيان، وجماعة من المفسرين.
وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير: (الملائكة: الحفظة، وحفظهم إيّاه من أمر اللّه) رواه ابن جرير.
قال ابن الجوزي: (فيكون تقدير الكلام : هذا الحفظ مما أمرهم الله به).
القول الثالث: "من" بمعنى الباء، أي: يحفظونه بأمر الله، وهذا قول قتادة، رواه عنه عبد الرزاق وابن جرير، ورواية عن مجاهد من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه، وقال به الخليل بن أحمد، ومقاتل بن سليمان، وهارون الأعور، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والمبرّد في المقتضب، وأبو البقاء العكبري، وجماعة.
وهذا القول صحيح، ويتفرّع إلى معنيين:
- أحدهما أن تكون الباء سببية؛ فيكون بمعنى القول الثاني، وهذا معنى قول الفرّاء: (و{يحفظونه} ذلك الحفظ من أمر الله وبأمره وبإذنه عز وجلَّ؛ كما تقول للرجل: أجيئِك مِنْ دعائِك إِيَّاى وبدعائِك إيَّاي)ا.هـ.
- والآخر: أن تكون الباء للتعدية، أي يحفظونه بما مكَّنهم الله به من أسباب الحفظ.
القول الرابع: بمعنى "عن"، وهي رواية عن ابن عباس أخرجها ابن أبي حاتم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وذكره ابن جرير الطبري عن بعض نحاة البصرة، وأنهم قالوا: (معنى ذلك: يحفظونه عن أمر الله، كما قالوا:"أطعمني من جوع، وعن جوع" و"كساني عن عري، ومن عري").وهذا القول يرجع إلى معنى القول الثاني، وهو كقوله تعالى حكاية عن الخضر: {وما فعلته عن أمري}.
القول الخامس: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: (له معقِّبات من أمر الله يحفظونه) ، وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال في قوله تعالى: {يحفظونه من أمر اللّه} يقول: بإذن اللّه، فالمعقّبات: هي من أمر اللّه، وهي الملائكة) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال ابن وهب: أخبرني الحارث بن نبهان عن عطاء بن السائب عن ابن عباس قال: (الملائكة من أمر الله يحفظونه).
وقال أيضا: أخبرني سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله ابن عباس أنه كان يقرأ: {له معقبات من بين يديه}، ورقباء، {من خلفه} من أمر الله {يحفظونه}.
وقال خصيف عن مجاهد: (الملائكة من أمر الله) رواه ابن جرير، وروى نحوه عن ابن جريج عن ابن عباس، وهو منقطع.
والتقدير على هذا القول له معقبات من أمر الله يحفظونه، ومتعلق الحفظ محذوف لإرادة العموم في كل ما يحتاج فيه إلى الحفظ.
والتحقيق أنّ هذه المعاني كلّها صحيحة، واختلافها كاختلاف الأقوال الصحيحة في المشترك اللفظي، وكاختلاف القراءات.
واختلاف التنوّع تقبل الأقوال فيه بثلاثة شروط:
- أحدها أن يكون القول في نفسه صحيحاً.
- والثاني: أن تكون دلالة الآية عليه دلالة صحيحة من جهة اللغة.
- والثالث: أن يصحّ عن السّلف.
وشرح الأقوال الخمسة وبيان الفروق بينها، ودلالة الآية عليها يطول، لكن مما ينبّه عليه أثر الاختلاف في مرجع الضمير في قوله تعالى: {له معقبات}، والمراد بالمعقبات، ومعنى الحفظ في قوله تعالى: {يحفظونه}.
ففيه قولان:
أحدهما: حفظ عناية ووقاية.
والآخر: حفظ رقابة وكتابة كما في قول الله تعالى: {وإن عليكم لحافظين . كراماً كاتبين}.
قال ابن جريج: {يحفظونه من بين يديه ومن خلفه} مثل قوله: {عن اليمين وعن الشمال قعيد} قال: الحسنات من بين يديه، والسيئات من خلفه، الذي عن يمينه يكتب الحسنات والذي عن شماله يكتب السيئات). رواه ابن جرير.
وكلّ قول من هذين القولين ومن الأقوال في المسألتين الأخريين يخرّج عليه ما يناسبه من الأقوال في معنى "من".
وقد كثرت الأقوال في تفسير هذه الآية لسعة معانيها، وتعدد دلائلها، وعامّتها أقوال صحيحة، إلا ما ذكر عن بعضهم من أنّ في الآية نفياً محذوفا والتقدير: (لا يحفظونه من أمر الله) وهذا القول ذكره أبو إسحاق الزجاج عن بعض أهل اللغة، وهو تحريف لا يصحّ، ولا يُؤثر عن أحد من السلف، وإنما قاد إليه استشكال معنى الحفظ من أمر الله على القول بأنّ "من" للتعدية.
والصواب أنه لا إشكال فيه؛ فكلّ الأقدار من أوامر الله تعالى الكونية، والأوامر الكونية قد أجرى الله فيها سنن التدافع، كما تدفع الأمراض بالتداوي والرقى؛ ويتّقى البرد باللباس، والحرّ بالظلال والأكنان، وقد روى الترمذي وابن ماجة وغيرهما من حديث الزهري عن أبي خزامة عن أبيه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقلت: يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا؟
قال: ((هي من قدر الله)).
وروي نحوه من حديث كعب بن مالك وحكيم بن حزام وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
ولمّا بلغ عمر نزول الوباء بالشام ونادى بالرحيل قال له أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟
فقال عمر: (لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!! نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة؛ أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله). رواه البخاري.
وقال كعب الأحبار: (لو تجلَّى لابن آدم كل سهل وحزن لرأى على كل شيء من ذلك شياطين، لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذا لتُخُطِّفتُم). رواه ابن جرير.
فالمعقّبات التي يدفع الله بها الشرور وتحفظ بني آدم كثيرة، وهي مأمورة بالحفظ، كما أمر الله الجفن أن يحفظ العين، لكن إذا قضى الله أمراً يصيب العبد فلا رادّ لقضائه، ولا تنفعه حفظته إذا نزل به قضاء الله.
عناية المفسّرين ببيان معاني الحروف
وقد اعتنى المفسّرون ببيان معاني الحروف عناية حسنة لاتّصالها بالتفسير، ولا سيّما بعض من كتب في معاني القرآن كالفراء والأخفش وابن قتيبة والزجاج والنحاس وغيرهم.
ولابن جرير وابن عطية والقرطبي وأبي حيان وأبي السعود والألوسي وابن عاشور عناية حسنة بالتنبيه على معاني الحروف في التفسير.
أنواع المؤلّفات في شرح معاني الحروف
سلك العلماء طرقاً متنوعة في التأليف في شرح معاني الحروف، وسأوجز الحديث عن أشهر تلك الأنواع:
النوع الأول: إدراجها في كتب الوجوه والنظائر، وهو أوّل ما ظهر من الكتابة في معاني الحروف، وسبب ذلك أنّ الحروف ترد على وجوه متعددة من المعاني، غير أنّ هذا النوع من التأليف لا يختص بالحروف ولا يتقصّاها؛ ومن أشهر الكتب المؤلفة في هذا النوع:
1. كتاب "الوجوه والنظائر" لمقاتل بن سليمان البلخي(ت:150هـ)، وقد ذكر فيه معاني بعض الحروف مثل: "إلى"، و"إلا" و"إن"، و"أو" و"أم" و"حتى"، و"لولا"، و"لما" وغيرها.
2. "الوجوه والنظائر" لهارون بن موسى النحوي(ت:170هـ) ، وقد ذكر فيه معاني بعض الحروف ومنها: "إن" و"أنى" و"أم" و"أو" و"من" و"في" "ولما" وغيرها، وفيه اعتماد كبير على كتاب مقاتل، وزيادة عليه.
3. التصاريف ليحيى بن سلام البصري(ت:200هـ)، وقد ذكر فيه معاني بعض الحروف مثل معاني "من" و"في" و"إن" و"أن" وغيرها.
4. كتاب "وجوه القرآن" لإسماعيل بن أحمد الحيري الضرير(ت:431هـ).
5. "الوجوه والنظائر" للقاضي أبي عبد الله محمد بن علي الدامغاني(ت:478هـ)
6. "نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر" لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي(ت:597هـ).
7. "كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر"، لشمس الدين محمد بن محمد البلبيسي المعروف بابن العماد المصري(ت:887هـ).
النوع الثاني: إدراج شرحها في معاجم اللغة
وسبب ذلك أنّ الحروف من المفردات التي يكثر دورانها في الاستعمال؛ فكان من عناية أصحاب المعاجم اللغوية شرحها فيما يشرحون من المفردات على تفاوت ظاهر بينهم في ذلك، ومن أشهر المعاجم اللغوية:
1. كتاب "العين"، للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت:170هـ) وقد شرح معاني بعض الحروف كما في شرحه لـ"أو" و"أم" و"أي" وغيرها.
وهذا الكتاب أصله للخليل بن أحمد، وأتمّه تلميذه الليث بن المظفر بن نصر بن سيار، وقد تتبعَّه ونقده الإمام أبو منصور الأزهري في كتابه الجليل "تهذيب اللغة"؛ فلذلك أوصي من يرجع إلى شرح مفردة في كتاب "العين" أن يطالع شرح تلك المفردة في "تهذيب اللغة".
2. جمهرة اللغة"، لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي(ت:321هـ).
3. "تهذيب اللغة" لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري(ت:370هـ).
4. "المحيط في اللغة"، لأبي القاسم إسماعيل بن عباد الطالقاني المعروف بالصاحب بن عباد (ت:385هـ).
5. "تاج اللغة وصحاح العربية"، لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري (ت: 393هـ )
6. "مجمل اللغة"، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي(ت: 395هـ) ، وله أيضاً "مقاييس اللغة" ، لكن تناوله لمعاني الحروف في "مجمل اللغة" أكثر.
7. "المخصص"، لأبي الحسن علي بن إسماعيل المرسي المعروف بابن سيده الأندلسي(ت:458هـ)، وله أيضاً "المحكم والمحيط الأعظم"
8. "لسان العرب"، لأبي الفضل محمد بن مكرم بن منظور الأنصاري الأفريقي(ت:711هـ)
9. "القاموس المحيط"، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت:817هـ)
10. "تاج العروس من جواهر القاموس"، لأبي الفيض مرتضى الزبيدي(ت:1205هـ).
فهذه أشهر المعاجم اللغوية، وفيها تناول لمعاني بعض الحروف بالشرح والتمثيل، واستخراج كلام أصحاب المعاجم في معاني الحروف، وترتيبه على حروف المعجم عمل نافع لو تصدّى له أحد.
النوع الثالث: التأليف المفرد في معاني الحروف
وقد صنّف في معاني الحروف جماعة من أهل العلم، ومن أشهر كتبهم وأهمّها:
1: الحروف، لأبي حاتم سهل بن محمد السجستاني (ت: 255هـ)، وهو جزء صغير نقله ياقوت الحموي من كتاب مفقود لأبي حاتم اسمه «لحن العامة».
2: المحلّى، لأبي بكر أحمد بن الحسن بن شقير النحوي البغدادي(ت:317هـ)، وقد بدأه بتفسير وجوه النصب والرفع والخفض والجزم، ثمّ أخذ في شرح أنواع الحروف ومعانيها.
3: حروف المعاني والصفات، لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي (ت 340 هـ).
4: الحروف، لأبي الحسن علي بن الفضل المزني النحوي (ت: ق4)، وكان معاصراً لابن جرير الطبري.
5: منازل الحروف، لأبي الحسن علي بن عيسى الرُّمَّاني(ت:388ه).
6: الأُزهية في علم الحروف، لأبي الحسن علي بن محمد الهروي النحوي (ت: 415هـ).
7: رصف المباني في حروف المعاني، لأبي جعفر أحمد بن عبد النور المالقي(ت:702ه)
8: التحفة الوفية بمعاني حروف العربية، لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الصفاقسي(ت:742هـ) تلميذ أبي حيان الأندلسي.
9: الجنى الداني في حروف المعاني، لأبي محمد الحسن بن قاسم المرادي المراكشي(ت:749ه) المشتهر بابن أمّ قاسم.
10: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لأبي محمد جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري(ت:761ه).
11: جواهر الأدب في معرفة كلام العرب، لعلاء الدين بن عليّ بن بدر الدين الإربلي(ت:ق8 هـ)، وفي اسم مؤلّفه خلاف، وقال الأستاذ محمّد عبد الخالق عضيمة: (الظاهر أن مؤلف الكتاب هو: العلاء بن أحمد بن محمد بن أحمد السيرامي المتوفي سنة 790).
12: مصابيح المغاني في حروف المعاني، لجمال الدين محمد بن علي المَوزعي المعروف بابن نور الدين (ت 825 هـ).
13: فتح الرؤوف في أحكام الحروف وما في معناها من الأسماء والظروف، لجمال الدين محمد بن عمر بن مبارك الحميري الحضرمي المعروف بِبَحْرَق(ت: 930هـ) ، وهي منظومة شرحها في كتاب لطيف.
14. كفاية المُعاني في حروف المعاني، وهي منظومة حسنة لأبي محمد عبد الله بن محمد البيتوشي الكردي (ت:1211ه)، وقد ذُكر عنه أنه كان يحفظ "القاموس المحيط" عن ظهر قلب، وقد اعتنى بمنظومته هذه عناية فائقة، وألّف في شرحها ثلاثة كتب:
أ: الحفاية بتوضيح الكفاية، وهو شرح كبير طُبع في نحو ثمانمائة صفحة.
ب: والكفاية لراغب الحفاية، وهي تعليقات مختصرة.
ج: وصرف العناية في كشف الكفاية، وهو شرح متوسط أودع فيه زبدة ما في الحفاية مع زوائد وفوائد.
15: غنية الطالب ومنية الراغب في الصرف والنحو وحروف المعاني، للأستاذ أحمد بن فارس الشدياق(ت:1305هـ).
وعامّة هذه الكتب مطبوعة.
هذا ، وقد ذُكر عن جماعة من العلماء المتقدمين أنّهم ألّفوا في الحروف كالخليل بن أحمد والكسائي والنضر بن شميل وأبي عمرو الشيباني وابن السكّيت والمبرّد وأبي علي الفارسي وغيرهم إلا أنّ ما ذكر عنهم على ثلاثة أصناف:
أ: صنف لا تصحّ نسبته إليهم، ومن ذلك:
- كتاب الحروف المنسوب إلى الخليل بن أحمد، وقد طبع بتحقيق د.رمضان عبد التواب، وقال: (ويبدو أن الكتاب مزيّف) وذكر أنّ الحافظ الذهبي قد اختصره، وأن الفيروزآبادي والسيوطي قد نقلا عنه.
- ورسالة في الحروف العربية، طبعت منسوبة إلى النضر بن شميل المازني(ت: 204هـ) بتحقيق: هبة الدين الحسيني، في مجلة العلم ببغداد، ونشرها المستشرق أوغست هفنر في المجموع الذي سمّاه "البلغة في شذور اللغة".
ب: وصنف وإن كان عنوانه في الحروف إلا أنّ موضوعه في غير بيان معاني الحروف؛ ومن ذلك:
- كتاب ابن السكيت في "الحروف التي يُتكلّم بها في غير موضعها" لم يُرِدْ فيه حروف المعاني، وإنما أطلق لفظ الحرف على ما نسمّيه الجُملة.
- وكتاب الحروف لأبي عمرو الشيباني(ت:213هـ) إنما هو كتاب "الجيم" له، وهو معجم لغوي.
- وكتاب الحروف المنسوب لأبي نصر الفارابي(ت:339هـ) كتاب فلسفي لم يجر فيه على طريقة أهل اللغة في شرح حروف المعاني.
- وكتاب الحروف لابن الطحّان (ت:560هـ) هو في صفاتها ومخارجها.
- وكتاب الحروف لأبي الفضائل الرازي(ت: ق7 هـ) وهو كتاب فيه فصول عن علم الحروف الهجائية وصفاتها وأنواعها ومخارجها، وليس فيه حديث عن حروف المعاني.
ج: وصنف لم يصل إلينا، ولا أعرف عنه سوى اسمه، ككتب الكسائي والمبرّد وأبي علي الفارسي.
النوع الرابع: إفراد بعض الحروف بالتأليف.
ومن الكتب المفردة في معاني بعض الحروف:
1: الهمز، لأبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري(ت:215هـ).
2: الألفات، لأبي محمد بن القاسم بن بشار ابن الأنباري: (ت: 328 هـ)
3: الألفات، لأبي عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني(ت:370هـ)
4: كتاب "اللامات"، لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي(ت: 340هـ).
5:اللامات، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس(ت:338هـ).
6: واللامات، لأبي زكريا أحمد بن فارس بن زكريا الرازي (ت:395هـ)، وله "مقالة كلا".
7: ولأبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري(ت:577هـ) كتب مفردة في بعض الحروف منها: كتاب "كلا وكلتا"، كتاب "لو وما" ، وكتاب "كيف" ، وكتاب "الألف واللام".
8. الفصول المفيدة في الواوات المزيدة، لأبي سعيد خليل بن كيلكلدى بن عبدالله العلائي(ت:761هـ).
وتتبع ما كتب في هذا النوع من الرسائل والكتب وجمعه نافع جداً لو تصدّى له أحد.
الدراسات المعاصرة لمعاني الحروف في القرآن الكريم
لعلماء هذا العصر جهود مشكورة في إعداد موسوعات علمية في معاني الحروف في القرآن الكريم، ومن أهمّ تلك الأعمال:
1. قسم معاني الحروف من كتاب "دراسات لأسلوب القرآن الكريم" للأستاذ الجليل محمد عبد الخالق عضيمة، وهو عمل جليل أمضى فيه نحو خمسة وعشرين عاماً، وبذل وسعه في حصر مواضع حروف المعاني في القرآن الكريم، وأقوال العلماء في معانيها من مراجع كثيرة.
وقدّم لكل حرف بلمحات معرّفة عن مواضع وروده في القرآن الكريم ومعانيها.
2. معجم الأدوات والضمائر في القرآن الكريم، إعداد الدكتور إسماعيل عمايرة والدكتور عبد الحميد السيد.
3. معجم حروف المعاني في القرآن الكريم، للأستاذ محمد حسن الشريف.
---------------
شرح أحمد بن عبد النور المقالي(ت:702ه) باب "أل"
قال أحمد بن عبد النور المالقي (ت: 702هـ): (باب "أل" اعلم أن هذه اللفظة هي التي يسمونها النحويون "الألف" و"اللام" وهما اللتان للتعريف، وكلهم يذهبون إلى أنها "اللام" زيدت عليها "ألف" الوصل، إلا الخليل وحده، فإنه يزعم أنها حرف واحد بجملته بسيط، ولذلك كان يسميه "أل" "كقد".
واستدل على ذلك بقطع "الهمزة" بعدها في قولهم: يا ألله، وبالوقف عليهما معًا من غير ما بعدها في قول الشاعر:
عجِّل لنا هذا وألحقنا بذال ..... .... .... .... ....
وقطعها في قوله في أول العجز بعده:
.... .... .... .... ..... الشحم إنا قد مللناه بجل
وبالوقف عليهما في نصف البيت، كقوله:
يا خليلي اخبرا واستخبرا الـ ..... ـمنزل الدارس عن حي حلال
مثل سحق البُرد عفى بعدك الـ ..... ـقطر مغناه وتأويب الشمال
وبأن "اللام" لا تنفصل عن "الهمزة" ولا تنفصل "الهمزة" عنها "كالقاف" من "قد" مع "الدال" منها وبقطعها في الابتداء، وسقوطها في الدرج عنده لكثرة الاستعمال.
والصحيح أنها "لام" التعريف، دخلت عليها "همزة" الوصل كما قال الجمهور بدليل أنها تسقط في الدرج كما تسقط سائر "ألفات" الوصل، فتقول: بالرجل، ومن الرجل، ولو كانت "ألفها" "ألف" قطع لثبتت في موضع من الدرج، ولم يوجد ذلك، فليست كقراءة من قرأ «لحدى الكبر»، لشذوذها، وقد تقدم لم فتحت مع "اللام" المذكورة.
وقد تقدم ان اسم الله تعالى اختص بقطع "همزته" دون غيره لكثرة استعماله وتعظيمه، ولذلك انفرد بأشياء لا تكون في غيره كزيادة "الميم" في آخره في قولهم: «اللهم» ودخول حرف النداء عليه مع "الألف" و"اللام" وغير ذلك مما ذكرناه من الخواص في كتاب «التحلية في البسملة والتصلية».
ولا حجة أيضًا في قول الشاعر: «بدال»، لأنه يريد «الشحم» فحذف المعرف للوقف في نصف البيت لأنه يجري مجرى ما بعد "قد" في الاحتياج والحذف للعلم به كما قال:
أفد الترحل غير أن ركابنا ..... لما تزل برحالنا وكأن قد
أي: «قد زالت» فحذف للعلم به، كما حذف الآخر «كان» أو «ذهب» في قوله:
فإن المنية من يخشها ..... فسوف تُصادفه أينما
ثم كرر اللفظ بعده على أصله.
وأما الوقف عليها في نصف البيت فإن الأنصاف محل الوقف على "الألف" و"اللام" تارة وعلى غيرها أخرى كما قال:
وغررتني وزعمت أنـ ..... نك لا بين بالصيف تامر
وقوله:
يا نفس صبرا واضطجا ..... عا نفس لست بخالده
وقال الآخر:
يا ابن أمي ولو شهدتك إذ تد ..... عوتميمًا وأنت غير مجاب
فقوله: «وزعمت أن» وقول الآخر: «ردا واضجا» في موضع متفاعلن؛ لأن البيتين من الكامل، وقول الآخر: «تلك إذ تد» في موضع فعلاتن وهو من الخفيف فلا فرق أن يضع آخر الجزء في نصف البيتين في بعض كلمة أو في آخرها، وإذا كان في بعض الكلمة جائزًا فهو في "الألف" و"اللام" المنفصلة في الأصل أجودُ.
وإنما ارتبطت "اللام" "بالهمزة"، و"الهمزة" "باللام" لأن "اللام" لا يصحُ أن يبدأ بها إلا بعد دخولها عليها، وذلك في الابتداء، ولذلك جعلتها أنا "كقد"، فقلت باب "أل"، وأما في الأصل فلا حاجة إلى "الألف"؛ لأن التعريف إنما يفيد "باللام" خاصة، الثابتة في الدرج والابتداء، ولما لم يصح الابتداء بها دونها ولزمتها، لذلك صارت معها كحرفٍ واحد، فلذلك قلنا ذلك وجعلنا لها بابًا على حدة، وإن كان الكلام عليها حقه أن يكون في باب "اللام".
ولاجتماع "الألف" و"اللام" خواص ينبغي أن تبين هنا.
فمنها اختصاص "اللام" للتعريف دون غيرها من حروف المعجم وإنما ذلك لكونها لا يكثر في كلام العرب إدغام حرفٍ من حروف المعجم ككثرتها في غيرها، في نحو: التائب والثابت والدائر والزائل والراحم والزاجر والطاهر والظاهر واللائم والناصر والصائر والضابط والسالم والشاهد، وليس غيرها من الحروف في ذلك مثلها، فدلعلى خفتها عندهم وكثرة استعمالها ومزيتها في ذلك على غيرها من الحروف.
ومنها العلة في أن كانت ساكنة لا تتحرك، وإنما ذلك لأن الساكن أشد اتصالًا بما بعده من المتحرك، لأن المتحرك قد ينفصل في بعض المواضع "كواو" العطف وفائه، والساكن لا ينفصل أصلًا.
ومنها: العلة في وضعها أول الكلمة، ولم تكن في أثنائها ولا آخرها وإنما ذلك لشدة اغتنائهم بها لاغتنائهم بمعناها الذي هو التعريف، ولو جعلوها في آخر [الكلمة] لزال الاعتناء مع أن المراد قبل النطق بالكلمة ذلك، فجعله آخرًا ضد ما قصد له.
ولم يجعل في أثنائها؛ لأن التعريف إنما هو للكلمة بجملتها، يزول بزوالها ويثبت بثبوتها بخلاف التصغير والتكسير، فإنه لاحقٌ للكلمة بزيادةٍ فيها أو نقصان منها ولإرادة التغيير في أثنائها.
لذلك فإذا صح ذلك كله فحكمها في المعنى أنها تنقسم قسمين: قسم لابد منها في الكلمة، وقسم تكون فيها زائدة.
فالقسم الذي لابد منها فيها تنقسم قسمين: قسمٌ تكون فيه اسمًا وقسم تكون فيه حرفًا.
فالذي تكون فيه اسمًا: الأسماء المشتقات كاسم الفاعل واسم المفعول نحو: الضارب والمضروب، فها هنا "اللام" بمعنى الذي، وصلتها الاسم بعدها، وفيه ضمير مستتر يعود عليها، يبرز إذا عطف عليه كقولك: جاءني الضارب هو وزيد والمضروب وهو وعمرو، والمشتق هو المأخوذ من المصدر كالضارب من الضرب والقاتل من القتل.
وأما وصلهم لها بالجملة من المبتدأ وخبره في نحو قول الشاعر:
من القوم الرسول الله منهم ..... .... .... .... ....
وبالفعل وما يتصل به في نحو قول الشاعر:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته ..... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
وقول الآخر:
فيستخرج اليربوع من نافقائه ..... ومن جحره ذي الشيخة اليتقصع
وقوله:
يقول الخنى وأبغض الناس كلهم ..... إلى ربه صوتُ الحمار اليُجدع
فليس من باب وصلها بالمشتق، وإنما ذلك من باب حذف بعض أجزاء «الذي» لكثرة الاستعمال، كما فُعل ذلك في «ايمن الله»، وقال: «الذي» وهو الأصل، ثم «الذي» ثم «الذ»، كما قالوا: ايم وم، فمن ما جاء على الأصل منه قول الشاعر:
فماذا المالُ فاعلمه بمالٍ ..... وإن أنفقته إلا الذي
تنالُ به العلاء وتصطفيه ..... لأقرب أقربيك وللقصي
ولا يحتاج إلى الاستشهاد على «الذي» لكثرته في النظم [و] في النثر، وقال الآخر في «الذ» بحذف "الياء" والاجتزاء بالكسر فبلها:
واللذ لو شاء لكنت صخرا ..... أو جبلا أصم مشمخرا
وقال آخر في سكون "الذال" منه تخفيفًا:
فكنت والأمر الذي قد كيدا ..... كاللذ تزبى زبيةً فاصطيدا
ثم حذفت الكلمة واجتزئ عنها "بالألف" و"اللام" للزومها فيها وكثرة الاستعمال:
ويتصور في هذا القسم أن تكونا للحضور فيه، كقولك: هذا الضارب، ويا أيها الضارب، وأنت الضارب، وأنا الضارب، وأن تكونا للعهد، نحو: رأيت الضارب الذي رأيت والمكرم الذي أكرمت، وأن تكونا للجنس كقولك: ضر الفاسق ونفع العالم وأعجب الحسن.
والذي تكونان فيه حرفًا: الأسماء غير المشتقات نحو: الرجل والغلام، ويتصور أيضًا في هذا القسم [أن تكونا] للحضور والعهد والجنس كما تصور في الذي قبله، نحو: هذا الرجل ورأيت الرجل الذي رأيت، وأهلك الناس الدينار والدرهم.
والقسم الذي تكونان فيه زائدتين لا تفيدان فيه تعريفًا قسمان: قسم تلزمان فيه، وهو: اللات والعزى والآن والتي والاسم الذي يسمى به، وهما فيه لمراعاة غلبة الصفة عليه كالكاتب والنجم والسماك والزيدان، وشبه ذلك؛ لأن هذه كانت صفات وغلبت على أهلها فسموا بذلك و"الألف" و"اللام" فيها، والاسم العلم في الشعر كقوله:
يا ليت أم العمر كانت صاحبي ..... .... .... .... ....
وقوله:
باعد أم العمر من أسيرها ..... .... .... .... ....
وقوله:
ولقد جنيتك أكمؤًا وعساقلا ..... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
والحال شاذ في قولهم: ادخلوا الأول فالأول، وجاءوا الجماء الغفير.
وقسم لا يلزمان فيه وهو الصفات والمصادر المسمى بها على معنى لمح الصفة في أصل التسمية كالحسن والفضل، وقولهم في العدد وتمييزه: الخمسة عشر الدراهم، فهذان الموضعان سمع الحذف فيها والإثبات). [رصف المباني: 70 - 78]
شرح أحمد بن عبد النور المقالي(ت:702ه) باب "أل"
قال أحمد بن عبد النور المالقي (ت: 702هـ): (باب "أل" اعلم أن هذه اللفظة هي التي يسمونها النحويون "الألف" و"اللام" وهما اللتان للتعريف، وكلهم يذهبون إلى أنها "اللام" زيدت عليها "ألف" الوصل، إلا الخليل وحده، فإنه يزعم أنها حرف واحد بجملته بسيط، ولذلك كان يسميه "أل" "كقد".
واستدل على ذلك بقطع "الهمزة" بعدها في قولهم: يا ألله، وبالوقف عليهما معًا من غير ما بعدها في قول الشاعر:
عجِّل لنا هذا وألحقنا بذال ..... .... .... .... ....
وقطعها في قوله في أول العجز بعده:
.... .... .... .... ..... الشحم إنا قد مللناه بجل
وبالوقف عليهما في نصف البيت، كقوله:
يا خليلي اخبرا واستخبرا الـ ..... ـمنزل الدارس عن حي حلال
مثل سحق البُرد عفى بعدك الـ ..... ـقطر مغناه وتأويب الشمال
وبأن "اللام" لا تنفصل عن "الهمزة" ولا تنفصل "الهمزة" عنها "كالقاف" من "قد" مع "الدال" منها وبقطعها في الابتداء، وسقوطها في الدرج عنده لكثرة الاستعمال.
والصحيح أنها "لام" التعريف، دخلت عليها "همزة" الوصل كما قال الجمهور بدليل أنها تسقط في الدرج كما تسقط سائر "ألفات" الوصل، فتقول: بالرجل، ومن الرجل، ولو كانت "ألفها" "ألف" قطع لثبتت في موضع من الدرج، ولم يوجد ذلك، فليست كقراءة من قرأ «لحدى الكبر»، لشذوذها، وقد تقدم لم فتحت مع "اللام" المذكورة.
وقد تقدم ان اسم الله تعالى اختص بقطع "همزته" دون غيره لكثرة استعماله وتعظيمه، ولذلك انفرد بأشياء لا تكون في غيره كزيادة "الميم" في آخره في قولهم: «اللهم» ودخول حرف النداء عليه مع "الألف" و"اللام" وغير ذلك مما ذكرناه من الخواص في كتاب «التحلية في البسملة والتصلية».
ولا حجة أيضًا في قول الشاعر: «بدال»، لأنه يريد «الشحم» فحذف المعرف للوقف في نصف البيت لأنه يجري مجرى ما بعد "قد" في الاحتياج والحذف للعلم به كما قال:
أفد الترحل غير أن ركابنا ..... لما تزل برحالنا وكأن قد
أي: «قد زالت» فحذف للعلم به، كما حذف الآخر «كان» أو «ذهب» في قوله:
فإن المنية من يخشها ..... فسوف تُصادفه أينما
ثم كرر اللفظ بعده على أصله.
وأما الوقف عليها في نصف البيت فإن الأنصاف محل الوقف على "الألف" و"اللام" تارة وعلى غيرها أخرى كما قال:
وغررتني وزعمت أنـ ..... نك لا بين بالصيف تامر
وقوله:
يا نفس صبرا واضطجا ..... عا نفس لست بخالده
وقال الآخر:
يا ابن أمي ولو شهدتك إذ تد ..... عوتميمًا وأنت غير مجاب
فقوله: «وزعمت أن» وقول الآخر: «ردا واضجا» في موضع متفاعلن؛ لأن البيتين من الكامل، وقول الآخر: «تلك إذ تد» في موضع فعلاتن وهو من الخفيف فلا فرق أن يضع آخر الجزء في نصف البيتين في بعض كلمة أو في آخرها، وإذا كان في بعض الكلمة جائزًا فهو في "الألف" و"اللام" المنفصلة في الأصل أجودُ.
وإنما ارتبطت "اللام" "بالهمزة"، و"الهمزة" "باللام" لأن "اللام" لا يصحُ أن يبدأ بها إلا بعد دخولها عليها، وذلك في الابتداء، ولذلك جعلتها أنا "كقد"، فقلت باب "أل"، وأما في الأصل فلا حاجة إلى "الألف"؛ لأن التعريف إنما يفيد "باللام" خاصة، الثابتة في الدرج والابتداء، ولما لم يصح الابتداء بها دونها ولزمتها، لذلك صارت معها كحرفٍ واحد، فلذلك قلنا ذلك وجعلنا لها بابًا على حدة، وإن كان الكلام عليها حقه أن يكون في باب "اللام".
ولاجتماع "الألف" و"اللام" خواص ينبغي أن تبين هنا.
فمنها اختصاص "اللام" للتعريف دون غيرها من حروف المعجم وإنما ذلك لكونها لا يكثر في كلام العرب إدغام حرفٍ من حروف المعجم ككثرتها في غيرها، في نحو: التائب والثابت والدائر والزائل والراحم والزاجر والطاهر والظاهر واللائم والناصر والصائر والضابط والسالم والشاهد، وليس غيرها من الحروف في ذلك مثلها، فدلعلى خفتها عندهم وكثرة استعمالها ومزيتها في ذلك على غيرها من الحروف.
ومنها العلة في أن كانت ساكنة لا تتحرك، وإنما ذلك لأن الساكن أشد اتصالًا بما بعده من المتحرك، لأن المتحرك قد ينفصل في بعض المواضع "كواو" العطف وفائه، والساكن لا ينفصل أصلًا.
ومنها: العلة في وضعها أول الكلمة، ولم تكن في أثنائها ولا آخرها وإنما ذلك لشدة اغتنائهم بها لاغتنائهم بمعناها الذي هو التعريف، ولو جعلوها في آخر [الكلمة] لزال الاعتناء مع أن المراد قبل النطق بالكلمة ذلك، فجعله آخرًا ضد ما قصد له.
ولم يجعل في أثنائها؛ لأن التعريف إنما هو للكلمة بجملتها، يزول بزوالها ويثبت بثبوتها بخلاف التصغير والتكسير، فإنه لاحقٌ للكلمة بزيادةٍ فيها أو نقصان منها ولإرادة التغيير في أثنائها.
لذلك فإذا صح ذلك كله فحكمها في المعنى أنها تنقسم قسمين: قسم لابد منها في الكلمة، وقسم تكون فيها زائدة.
فالقسم الذي لابد منها فيها تنقسم قسمين: قسمٌ تكون فيه اسمًا وقسم تكون فيه حرفًا.
فالذي تكون فيه اسمًا: الأسماء المشتقات كاسم الفاعل واسم المفعول نحو: الضارب والمضروب، فها هنا "اللام" بمعنى الذي، وصلتها الاسم بعدها، وفيه ضمير مستتر يعود عليها، يبرز إذا عطف عليه كقولك: جاءني الضارب هو وزيد والمضروب وهو وعمرو، والمشتق هو المأخوذ من المصدر كالضارب من الضرب والقاتل من القتل.
وأما وصلهم لها بالجملة من المبتدأ وخبره في نحو قول الشاعر:
من القوم الرسول الله منهم ..... .... .... .... ....
وبالفعل وما يتصل به في نحو قول الشاعر:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته ..... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
وقول الآخر:
فيستخرج اليربوع من نافقائه ..... ومن جحره ذي الشيخة اليتقصع
وقوله:
يقول الخنى وأبغض الناس كلهم ..... إلى ربه صوتُ الحمار اليُجدع
فليس من باب وصلها بالمشتق، وإنما ذلك من باب حذف بعض أجزاء «الذي» لكثرة الاستعمال، كما فُعل ذلك في «ايمن الله»، وقال: «الذي» وهو الأصل، ثم «الذي» ثم «الذ»، كما قالوا: ايم وم، فمن ما جاء على الأصل منه قول الشاعر:
فماذا المالُ فاعلمه بمالٍ ..... وإن أنفقته إلا الذي
تنالُ به العلاء وتصطفيه ..... لأقرب أقربيك وللقصي
ولا يحتاج إلى الاستشهاد على «الذي» لكثرته في النظم [و] في النثر، وقال الآخر في «الذ» بحذف "الياء" والاجتزاء بالكسر فبلها:
واللذ لو شاء لكنت صخرا ..... أو جبلا أصم مشمخرا
وقال آخر في سكون "الذال" منه تخفيفًا:
فكنت والأمر الذي قد كيدا ..... كاللذ تزبى زبيةً فاصطيدا
ثم حذفت الكلمة واجتزئ عنها "بالألف" و"اللام" للزومها فيها وكثرة الاستعمال:
ويتصور في هذا القسم أن تكونا للحضور فيه، كقولك: هذا الضارب، ويا أيها الضارب، وأنت الضارب، وأنا الضارب، وأن تكونا للعهد، نحو: رأيت الضارب الذي رأيت والمكرم الذي أكرمت، وأن تكونا للجنس كقولك: ضر الفاسق ونفع العالم وأعجب الحسن.
والذي تكونان فيه حرفًا: الأسماء غير المشتقات نحو: الرجل والغلام، ويتصور أيضًا في هذا القسم [أن تكونا] للحضور والعهد والجنس كما تصور في الذي قبله، نحو: هذا الرجل ورأيت الرجل الذي رأيت، وأهلك الناس الدينار والدرهم.
والقسم الذي تكونان فيه زائدتين لا تفيدان فيه تعريفًا قسمان: قسم تلزمان فيه، وهو: اللات والعزى والآن والتي والاسم الذي يسمى به، وهما فيه لمراعاة غلبة الصفة عليه كالكاتب والنجم والسماك والزيدان، وشبه ذلك؛ لأن هذه كانت صفات وغلبت على أهلها فسموا بذلك و"الألف" و"اللام" فيها، والاسم العلم في الشعر كقوله:
يا ليت أم العمر كانت صاحبي ..... .... .... .... ....
وقوله:
باعد أم العمر من أسيرها ..... .... .... .... ....
وقوله:
ولقد جنيتك أكمؤًا وعساقلا ..... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
والحال شاذ في قولهم: ادخلوا الأول فالأول، وجاءوا الجماء الغفير.
وقسم لا يلزمان فيه وهو الصفات والمصادر المسمى بها على معنى لمح الصفة في أصل التسمية كالحسن والفضل، وقولهم في العدد وتمييزه: الخمسة عشر الدراهم، فهذان الموضعان سمع الحذف فيها والإثبات). [رصف المباني: 70 - 78]
-------------------
شرح إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الصفاقسي (ت: 742هـ)
حروف التعريفقال إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الصفاقسي (ت: 742هـ): (ومنها التعريف:
وحرفاه: "ال"، وقيل: "اللام" وحدها، ومرادفها، وهو "أم"، كقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس من امبرّ امصيام في امسفر) ). [التحفة الوفية: ؟؟]
شرح إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الصفاقسي (ت: 742هـ)
حروف التعريفقال إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الصفاقسي (ت: 742هـ): (ومنها التعريف:
وحرفاه: "ال"، وقيل: "اللام" وحدها، ومرادفها، وهو "أم"، كقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس من امبرّ امصيام في امسفر) ). [التحفة الوفية: ؟؟]
-----------------------------
شرح الحسن بن قاسم المرادي(ت:749ه)
"أل" قال الحسن بن قاسم بن عبد الله بن عليّ المرادي المصري المالكي (ت: 749هـ): ("أل"
لفظ مشترك؛ يكون حرفاُ، واسماً. فالاسم "أل" الموصولة، على الصحيح. وما سوى ذلك، من أقسامها، فهو حرف. وجملة أقسامها أحد عشر قسماً:
الأول: أن تكون حرف تعريف، ومذهب سيبويه أنه حرف ثنائي، و"همزته" "همزة" وصل، معتد بها في الوضع، كالاعتداد "بهمزة"
الوصل في استمع ونحوه، بحيث لا يعد رباعياً. وهذا هو أقرب المذاهب إلى الصواب، وقوفاً مع ظاهر اللفظ. وتقدم ذكر بقية المذاهب. واختار ابن مالك مذهب الخليل، وهو أن حرف التعريف ثنائي، و"همزته" "همزة" قطع أصلية، ولكنها وصلت، لكثرة الاستعمال. ونصره في شرح التسهيل بأوجه، لا يسلم أكثر من الاعتراض. وقد بينت ذلك في غير هذا الكتاب.
ثم أعلم أن من جعل حرف التعريف ثنائياً، و"همزته" أصلية، عبر عنه ب "أل". ولا يحسن أن يقول: "الألف" و"اللام"، كما لا يقال في "قد": "القاف" و"الدال". وكذلك ذكر عن الخليل. قال ابن جني: كان يقول "أل"، ولا يقول: "الألف" و"اللام". ومن جعل حرف التعريف "اللام" وحدها عبر "باللام"، كما فعل المتأخرون. ومن جعل حرف التعريف ثنائياً، و"همزته" "همزة" وصل زائدة، فله أن يقول "أل"، وأن يقول: "الألف" و"اللام". وقد وقع في كتاب سيبويه التعبير بالأمرين. ولكن الأول أقيس.
ول "أل"، التي هي حرف تعريف، ثلاثة أقسام: عهدية، وجنسية، ولتعريف الحقيقة.
فالعهدية: هي التي عهد مصحوبها، بتقدم ذكره. نحو: جاءني رجل فأكرهت الرجل، أو بحضوره حساً، كقولك لمن سدد سهماً: القرطاس، أو علماً، كقوله تعالى: {إذ هما في الغار}.
والجنسية بخلافها. وهي قسمان: أحدهما حقيقي، وهي التي ترد لشمول أفراد الجنس. نحو {إن الإنسان لفي خسر}. والآخر مجازي، وهي التي ترد لشمول خصائص الجنس، على سبيل المبالغة. نحو: أنت الرجل علماً، أي: الكامل في هذه الصفة. ويقال لها: التي للكمال.
وأما التي لتعريف الحقيقة، ويقال لها: لتعريف الماهية، فنحو قوله تعالى: {وجعلنا من الماء كل شيء حي}.
واختلف في هذا القسم. فقيل: هو راجع إلى العهدية. وقيل: راجع إلى الجنسية. وقيل: قسم برأسه.
فإن قلت: ما حقيقة الفرق بين هذا القسم والقسمين السابقين؟ قلت: حقيقة الفرق أن العهدية يراد بمصحوبها فرد معين. والجنسية يراد بمصحوبها نفس الحقيقة، لا ما تصدق عليه من الأفراد.
فإن قلت: فما الفرق بين المعرف ب "أل" التي هي لتعريف الحقيقة، في قولك: اشتر الماء، وبين اسم الجنس النكرة، في قولك: اشتر ماءً؟ قلت: الفرق بينهما أن المعرف ب "أل" المذكورة موضوع للحقيقة، بقيد حضورها في الذهن. واسم الجنس النكرة موضوع لمطلق الحقيقة، لا باعتبار قيد ولا إشكال في "أن" الحقيقة، باعتبار حضورها في الذهن، أخص من مطلق الحقيقة. لأن حضورها في الذهن نوع تشخص لها. وهذا هو الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس أيضاً.
الثاني: أن تكون للحضور. وهي الواقعة بعد اسم الإشارة، نحو {لا أقسم بهذا البلد}، وبعد أي في النداء، نحو: يا أيها الرجل، وفي نحو: الساعة، والوقت، إذا أريد به الحاضر. وهذا القسم راجع إلى الذي قبله. فقال بعضهم: يرجع إلى الجنسية.
قال أبو موسى: ويعرض في الجنسية الحضور. وقيل: بل هي راجعة إلى العهدية.
الثالث: أن تكون للغلبة. نحو البيت للكعبة، والمدينة لطيبة. وهذه هي، في الأصل، التي للعهد. ولكن مصحوبها لما غلب على بعض ماله معناه صار علماً بالغلبة، وصارت "أل" لازمة له، وسلبت التعريف. ولا تحذف منه إلا في نداء، أو إضافة، أو نادر من الكلام.
الرابع: أن تكون للمح الصفة. نحو: الحارث، والعباس. وحقيقة هذه أنها حرف زائد، للتنبيه على أن أصل الحارث ونحوه، من الأعلام، الوصفية. وقول أبي موسى ويعرض في العهدية الغلبة ولمح الصفة فيه نظر، لأن "أل" في: الحارث، والعباس، ونحوهما، لم تكن عهدية فعرض لها اللمح.
فإن قلت: بل هي التي للعهد، دخلت على هذه الأوصاف، قبل العلمية، ثم أقرت بعد العلمية، لتفيد هذا المعنى، كما فعل في التي للغلبة! قلت: هذا فاسد، لأن التي للمح الصفة إنما زيدت، بعد العلمية، ولذلك يجوز حذفها. ولو كانت قبل العلمية، ثم أقرت بعد العلمية، للزمت، لأن ما قارنت "الألف" و"اللام" نقله أو ارتجاله لزمته.
وظاهر كلام ابن مالك أن "الألف" و"اللام" المذكورة للمح الأصل، لا للمح الوصف. ولذلك مثل بالفضل والنعمان، وليسا بوصفين، في الأصل.
الخامس: أن تكون زائدة لازمة. وذلك في ألفاظ محفوظة. منها: الذي، والتي، وفروعهما من الموصولات. ومنها: اللات اسم الصنم. ومنها: الآن. وإنما حكم على "الألف" و"اللام" في هذه الألفاظ بالزيادة، لأن تعريفها بغير "الألف" و"اللام"؛ أما الموصولات فبالعهد الذي في صلاتها، على المختار. وأما اللات فبالعلمية. وأما الآن فقيل: تعريفه "بلام" مقدرة ضمن معناها، ولذلك بني. وقيل تعريفه بحضور مسماه، كتعريف اسم الإشارة.
السادس: أن تكون زائدة غير لازمة. وهي ضربان: زائدة في نادر من الكلام، وزائدة للضرورة.
فالزائدة، في نادر الكلام، كزيادتها فيما حكاه الكوفيون، من قول العرب: الخمسة العشر الدرهم.
والزائدة للضرورة، إما في معرفة، كقوله: باعد أم العمرو من أسيرها وإما في نكرة، كقوله:
رأيتك، لما أن عرفت وجوهنا ... صددت وطبت النفس، يا قيس عن عمرو
وذلك في الشعر كثير.
السابع: أن تكون عوضاً من الضمير. هذا القسم قال به الكوفيون، وتبعهم ابن مالك. ومن أمثلته قوله تعالى: {جنات عدن مفتحة لهم الأبواب}، وقوله تعالى: {فإن الجنة هي المأوى} أي: أبوابها، وهي مأواه. ومذهب أكثر البصريين أن الضمير في ذلك محذوف والتقدير: مفتحة لهم الأبواب منها، أو لها، وهي المأوى له. وكذلك يقولون في نحو: مررت برجل حسن الوجه، أي: منه، أوله.
الثامن: أن تكون عوضاً من "الهمزة". وذلك "الألف" و"اللام" في اسم الله تعالى، على قول من جعل أصله إلاهاً، وقال بأن "الهمزة"، التي هي "فاء" الكلمة، حذفت اعتباطاً، لا للنقل. وهو قول الخليل، فيما رواه عنه سيبويه. قال الزمخشري: ولذلك قيل في النداء: يا ألله، بقطع "الهمزة"، كما يقال: يا إلاه. قلت: علل الجوهري في الصحاح قطع "الهمزة"، بأن الوقف نوي على حرف النداء، تفخيماً للاسم. ونظر سيبويه هذا الاسم الشريف بالناس. قال: مثله الناس أصله أناس. وظاهر هذا أن "الألف" و"اللام" في الناس عوض من "الهمزة"، كما قال بعضهم. وقال المهدوي: ليست "الألف" و"اللام" في الناس للتعويض من "الهمزة"، وإن كان سيبويه قد شبهه به، فإن تشبيهه إنما وقع على حذف "الهمزة" من أناس، في حال دخول "الألف" و"اللام"، لا على أنهما بدل من المحذوف، كما كانا في اسم الله تعالى بدلاً. ويقوي ذلك ما أنشده المبرد عن أبي عثمان، من قول الشاعر:
إن المنايا يطلعن ... على الأناس، الآمنينا
فلو كان عوضاً لم تجتمع "الهمزة" مع المعوض منه.
التاسع: أن تكون للتعظيم والتفخيم. ذهب إلى ذلك بعض الكوفيين، فجعل "الألف" و"اللام" في اسم الله تعالى جاءتا للتفخيم والتعظيم. واعترض بأنا لم نجد اسماً فخم وعظم، بدخول "الألف" و"اللام". وللمنتصر أن يقول: وجدنا لهذا الاسم خصائص، فما ينكر أن يكون هذا منها؟ قلت: نقل المهدوي، عن سيبويه، أن "الألف" و"اللام" في هذا الاسم الشريف للتعظيم كما تقدم عن بعض الكوفيين. وفي "الألف" و"اللام"، في هذا الاسم الشريف، أقوال ذكرتها في إعراب البسملة.
العاشر: أن تكون بقية الذي. قال بذلك بعض النحويين، في مواضع، منها قول الشاعر:
من القوم، الرسول الله منهم ... لهم، دانت رقاب بني معد
أي: الذين رسول الله منهم. فحذف الاسم، اكتفاء "بالألف" و"اللام".
وذهب بعضهم إلى أنها، في هذا البيت، زائدة. والصحيح أنها "أل" الموصولة. وذهب بعض النحويين إلى أن "أل" في
قول الشاعر:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته بقية الذي.
الحادي عشر: الموصولة. وهي الداخلة على الصفات. نحو: الضارب، والمضروب. وفيها ثلاثة أقوال:
الأول: أنها حرف تعريف، "لا" موصولة. وهو مذهب الأخفش.
والثاني: أنها حرف موصول، "لا" اسم موصول. وهو مذهب المازني.
والثالث: أنها اسم موصول. وهو مذهب الجمهور. ولكل قول أدلة، يطول ذكرها. والصحيح مذهب الجمهور، لعود الضمير إليها، في نحو: الضاربها زيد هند.
وشذ وصلها بالمضارع، في قول الشاعر:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته وقد وردت،
من ذلك، أبيات. وذهب ابن مالك إلى جواز ذلك في الاختيار، وفاقاً لبعض الكوفيين. وشذ وصلها بالجملة الاسمية، في قوله:
من القوم، الرسول الله منهم وقد تقدم،
وبالظرف في قول الراجز:
من لا يزال شاكراً على المعه ... فهو حر، بعيشة، ذات سعه
أي: على الذي معه.
تنبيه
وقد اتضح، بما ذكرته، أن "الألف" و"اللام" في كلام العرب أربعة عشر قسماً، على التفصيل، بالمتفق عليه والمختلف فيه. وهي: العهدية، والجنسية، والتي للكمال وهي نوع من الجنسية، والتي للحقيقة، والتي للحضور، والتي للغلبة، والتي للمح الصفة، والزائدة اللازمة، والزائدة للضرورة، والتي هي عوض من الضمير، والتي هي عوض من "الهمزة"، والتي للتفخيم، وبقية الذي، والموصولة وكلها، عند التحقيق، راجعة إلى ثلاثة أقسام: معرفة وزائدة وموصولة. وقد نظمتها في هذه الأبيات:
أقسام أل أربع، وعشر ... للعهد، والجنس، والكمال
ثم لماهية، ولمح ... أو غالب، أو حضور حال
وزيد نثراً، وزيد نظماً ... وفخمت، في اسم ذي الجلال
وناب عن مضمر، وهمز ... ومن، بذي الوصل، ذا احتفال
وقيل: بعض الذي أتانا ... فاحفظه، وابحث عن المثال).
[الجنى الداني:192 - 204]
شرح الحسن بن قاسم المرادي(ت:749ه)
"أل" قال الحسن بن قاسم بن عبد الله بن عليّ المرادي المصري المالكي (ت: 749هـ): ("أل"
لفظ مشترك؛ يكون حرفاُ، واسماً. فالاسم "أل" الموصولة، على الصحيح. وما سوى ذلك، من أقسامها، فهو حرف. وجملة أقسامها أحد عشر قسماً:
الأول: أن تكون حرف تعريف، ومذهب سيبويه أنه حرف ثنائي، و"همزته" "همزة" وصل، معتد بها في الوضع، كالاعتداد "بهمزة"
الوصل في استمع ونحوه، بحيث لا يعد رباعياً. وهذا هو أقرب المذاهب إلى الصواب، وقوفاً مع ظاهر اللفظ. وتقدم ذكر بقية المذاهب. واختار ابن مالك مذهب الخليل، وهو أن حرف التعريف ثنائي، و"همزته" "همزة" قطع أصلية، ولكنها وصلت، لكثرة الاستعمال. ونصره في شرح التسهيل بأوجه، لا يسلم أكثر من الاعتراض. وقد بينت ذلك في غير هذا الكتاب.
ثم أعلم أن من جعل حرف التعريف ثنائياً، و"همزته" أصلية، عبر عنه ب "أل". ولا يحسن أن يقول: "الألف" و"اللام"، كما لا يقال في "قد": "القاف" و"الدال". وكذلك ذكر عن الخليل. قال ابن جني: كان يقول "أل"، ولا يقول: "الألف" و"اللام". ومن جعل حرف التعريف "اللام" وحدها عبر "باللام"، كما فعل المتأخرون. ومن جعل حرف التعريف ثنائياً، و"همزته" "همزة" وصل زائدة، فله أن يقول "أل"، وأن يقول: "الألف" و"اللام". وقد وقع في كتاب سيبويه التعبير بالأمرين. ولكن الأول أقيس.
ول "أل"، التي هي حرف تعريف، ثلاثة أقسام: عهدية، وجنسية، ولتعريف الحقيقة.
فالعهدية: هي التي عهد مصحوبها، بتقدم ذكره. نحو: جاءني رجل فأكرهت الرجل، أو بحضوره حساً، كقولك لمن سدد سهماً: القرطاس، أو علماً، كقوله تعالى: {إذ هما في الغار}.
والجنسية بخلافها. وهي قسمان: أحدهما حقيقي، وهي التي ترد لشمول أفراد الجنس. نحو {إن الإنسان لفي خسر}. والآخر مجازي، وهي التي ترد لشمول خصائص الجنس، على سبيل المبالغة. نحو: أنت الرجل علماً، أي: الكامل في هذه الصفة. ويقال لها: التي للكمال.
وأما التي لتعريف الحقيقة، ويقال لها: لتعريف الماهية، فنحو قوله تعالى: {وجعلنا من الماء كل شيء حي}.
واختلف في هذا القسم. فقيل: هو راجع إلى العهدية. وقيل: راجع إلى الجنسية. وقيل: قسم برأسه.
فإن قلت: ما حقيقة الفرق بين هذا القسم والقسمين السابقين؟ قلت: حقيقة الفرق أن العهدية يراد بمصحوبها فرد معين. والجنسية يراد بمصحوبها نفس الحقيقة، لا ما تصدق عليه من الأفراد.
فإن قلت: فما الفرق بين المعرف ب "أل" التي هي لتعريف الحقيقة، في قولك: اشتر الماء، وبين اسم الجنس النكرة، في قولك: اشتر ماءً؟ قلت: الفرق بينهما أن المعرف ب "أل" المذكورة موضوع للحقيقة، بقيد حضورها في الذهن. واسم الجنس النكرة موضوع لمطلق الحقيقة، لا باعتبار قيد ولا إشكال في "أن" الحقيقة، باعتبار حضورها في الذهن، أخص من مطلق الحقيقة. لأن حضورها في الذهن نوع تشخص لها. وهذا هو الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس أيضاً.
الثاني: أن تكون للحضور. وهي الواقعة بعد اسم الإشارة، نحو {لا أقسم بهذا البلد}، وبعد أي في النداء، نحو: يا أيها الرجل، وفي نحو: الساعة، والوقت، إذا أريد به الحاضر. وهذا القسم راجع إلى الذي قبله. فقال بعضهم: يرجع إلى الجنسية.
قال أبو موسى: ويعرض في الجنسية الحضور. وقيل: بل هي راجعة إلى العهدية.
الثالث: أن تكون للغلبة. نحو البيت للكعبة، والمدينة لطيبة. وهذه هي، في الأصل، التي للعهد. ولكن مصحوبها لما غلب على بعض ماله معناه صار علماً بالغلبة، وصارت "أل" لازمة له، وسلبت التعريف. ولا تحذف منه إلا في نداء، أو إضافة، أو نادر من الكلام.
الرابع: أن تكون للمح الصفة. نحو: الحارث، والعباس. وحقيقة هذه أنها حرف زائد، للتنبيه على أن أصل الحارث ونحوه، من الأعلام، الوصفية. وقول أبي موسى ويعرض في العهدية الغلبة ولمح الصفة فيه نظر، لأن "أل" في: الحارث، والعباس، ونحوهما، لم تكن عهدية فعرض لها اللمح.
فإن قلت: بل هي التي للعهد، دخلت على هذه الأوصاف، قبل العلمية، ثم أقرت بعد العلمية، لتفيد هذا المعنى، كما فعل في التي للغلبة! قلت: هذا فاسد، لأن التي للمح الصفة إنما زيدت، بعد العلمية، ولذلك يجوز حذفها. ولو كانت قبل العلمية، ثم أقرت بعد العلمية، للزمت، لأن ما قارنت "الألف" و"اللام" نقله أو ارتجاله لزمته.
وظاهر كلام ابن مالك أن "الألف" و"اللام" المذكورة للمح الأصل، لا للمح الوصف. ولذلك مثل بالفضل والنعمان، وليسا بوصفين، في الأصل.
الخامس: أن تكون زائدة لازمة. وذلك في ألفاظ محفوظة. منها: الذي، والتي، وفروعهما من الموصولات. ومنها: اللات اسم الصنم. ومنها: الآن. وإنما حكم على "الألف" و"اللام" في هذه الألفاظ بالزيادة، لأن تعريفها بغير "الألف" و"اللام"؛ أما الموصولات فبالعهد الذي في صلاتها، على المختار. وأما اللات فبالعلمية. وأما الآن فقيل: تعريفه "بلام" مقدرة ضمن معناها، ولذلك بني. وقيل تعريفه بحضور مسماه، كتعريف اسم الإشارة.
السادس: أن تكون زائدة غير لازمة. وهي ضربان: زائدة في نادر من الكلام، وزائدة للضرورة.
فالزائدة، في نادر الكلام، كزيادتها فيما حكاه الكوفيون، من قول العرب: الخمسة العشر الدرهم.
والزائدة للضرورة، إما في معرفة، كقوله: باعد أم العمرو من أسيرها وإما في نكرة، كقوله:
رأيتك، لما أن عرفت وجوهنا ... صددت وطبت النفس، يا قيس عن عمرو
وذلك في الشعر كثير.
السابع: أن تكون عوضاً من الضمير. هذا القسم قال به الكوفيون، وتبعهم ابن مالك. ومن أمثلته قوله تعالى: {جنات عدن مفتحة لهم الأبواب}، وقوله تعالى: {فإن الجنة هي المأوى} أي: أبوابها، وهي مأواه. ومذهب أكثر البصريين أن الضمير في ذلك محذوف والتقدير: مفتحة لهم الأبواب منها، أو لها، وهي المأوى له. وكذلك يقولون في نحو: مررت برجل حسن الوجه، أي: منه، أوله.
الثامن: أن تكون عوضاً من "الهمزة". وذلك "الألف" و"اللام" في اسم الله تعالى، على قول من جعل أصله إلاهاً، وقال بأن "الهمزة"، التي هي "فاء" الكلمة، حذفت اعتباطاً، لا للنقل. وهو قول الخليل، فيما رواه عنه سيبويه. قال الزمخشري: ولذلك قيل في النداء: يا ألله، بقطع "الهمزة"، كما يقال: يا إلاه. قلت: علل الجوهري في الصحاح قطع "الهمزة"، بأن الوقف نوي على حرف النداء، تفخيماً للاسم. ونظر سيبويه هذا الاسم الشريف بالناس. قال: مثله الناس أصله أناس. وظاهر هذا أن "الألف" و"اللام" في الناس عوض من "الهمزة"، كما قال بعضهم. وقال المهدوي: ليست "الألف" و"اللام" في الناس للتعويض من "الهمزة"، وإن كان سيبويه قد شبهه به، فإن تشبيهه إنما وقع على حذف "الهمزة" من أناس، في حال دخول "الألف" و"اللام"، لا على أنهما بدل من المحذوف، كما كانا في اسم الله تعالى بدلاً. ويقوي ذلك ما أنشده المبرد عن أبي عثمان، من قول الشاعر:
إن المنايا يطلعن ... على الأناس، الآمنينا
فلو كان عوضاً لم تجتمع "الهمزة" مع المعوض منه.
التاسع: أن تكون للتعظيم والتفخيم. ذهب إلى ذلك بعض الكوفيين، فجعل "الألف" و"اللام" في اسم الله تعالى جاءتا للتفخيم والتعظيم. واعترض بأنا لم نجد اسماً فخم وعظم، بدخول "الألف" و"اللام". وللمنتصر أن يقول: وجدنا لهذا الاسم خصائص، فما ينكر أن يكون هذا منها؟ قلت: نقل المهدوي، عن سيبويه، أن "الألف" و"اللام" في هذا الاسم الشريف للتعظيم كما تقدم عن بعض الكوفيين. وفي "الألف" و"اللام"، في هذا الاسم الشريف، أقوال ذكرتها في إعراب البسملة.
العاشر: أن تكون بقية الذي. قال بذلك بعض النحويين، في مواضع، منها قول الشاعر:
من القوم، الرسول الله منهم ... لهم، دانت رقاب بني معد
أي: الذين رسول الله منهم. فحذف الاسم، اكتفاء "بالألف" و"اللام".
وذهب بعضهم إلى أنها، في هذا البيت، زائدة. والصحيح أنها "أل" الموصولة. وذهب بعض النحويين إلى أن "أل" في
قول الشاعر:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته بقية الذي.
الحادي عشر: الموصولة. وهي الداخلة على الصفات. نحو: الضارب، والمضروب. وفيها ثلاثة أقوال:
الأول: أنها حرف تعريف، "لا" موصولة. وهو مذهب الأخفش.
والثاني: أنها حرف موصول، "لا" اسم موصول. وهو مذهب المازني.
والثالث: أنها اسم موصول. وهو مذهب الجمهور. ولكل قول أدلة، يطول ذكرها. والصحيح مذهب الجمهور، لعود الضمير إليها، في نحو: الضاربها زيد هند.
وشذ وصلها بالمضارع، في قول الشاعر:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته وقد وردت،
من ذلك، أبيات. وذهب ابن مالك إلى جواز ذلك في الاختيار، وفاقاً لبعض الكوفيين. وشذ وصلها بالجملة الاسمية، في قوله:
من القوم، الرسول الله منهم وقد تقدم،
وبالظرف في قول الراجز:
من لا يزال شاكراً على المعه ... فهو حر، بعيشة، ذات سعه
أي: على الذي معه.
تنبيه
وقد اتضح، بما ذكرته، أن "الألف" و"اللام" في كلام العرب أربعة عشر قسماً، على التفصيل، بالمتفق عليه والمختلف فيه. وهي: العهدية، والجنسية، والتي للكمال وهي نوع من الجنسية، والتي للحقيقة، والتي للحضور، والتي للغلبة، والتي للمح الصفة، والزائدة اللازمة، والزائدة للضرورة، والتي هي عوض من الضمير، والتي هي عوض من "الهمزة"، والتي للتفخيم، وبقية الذي، والموصولة وكلها، عند التحقيق، راجعة إلى ثلاثة أقسام: معرفة وزائدة وموصولة. وقد نظمتها في هذه الأبيات:
أقسام أل أربع، وعشر ... للعهد، والجنس، والكمال
ثم لماهية، ولمح ... أو غالب، أو حضور حال
وزيد نثراً، وزيد نظماً ... وفخمت، في اسم ذي الجلال
وناب عن مضمر، وهمز ... ومن، بذي الوصل، ذا احتفال
وقيل: بعض الذي أتانا ... فاحفظه، وابحث عن المثال).
[الجنى الداني:192 - 204]
---------------------------
شرح عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري(ت:761ه)
"أل"
قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): ("أل"
"أل": على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون اسما موصولا بمعنى الّذي، وفروعه، وهي الدّاخلة على أسماء الفاعلين والمفعولين، قيل والصّفات المشبهة، وليس بشيء لأن الصّفة المشبهة للثبوت فلا تؤول بالفعل؛ ولهذا كانت الدّاخلة على اسم التّفضيل ليست موصولة باتّفاق.
وقيل هي في الجميع حرف تعريف، ولو صحّ ذلك لمنعت من إعمال اسمي الفاعل والمفعول، كما منع منه التصغير والوصف.
وقيل موصول حرفي وليس بشيء؛ لأنّها لا تؤول بالمصدر، وربما وصلت بظرف أو بجملة اسمية أو فعلية فعلها مضارع، وذلك دليل على أنّها ليست حرف تعريف.
فالأول: كقوله:
من لا يزال شاكرا على المعه ... فهو حر بعيشة ذات سعه
والثّاني: كقوله:
من القوم الرّسول الله منهم ... لهم دانت رقاب بني معد
والثّالث: كقوله:
... صوت الحمار اليجدع
والجميع خاص بالشعر خلافًا للأخفش وابن مالك في الأخير.
والثّاني: أن تكون حرف تعريف، وهي نوعان: عهدية وجنسية. وكل منهما ثلاثة أقسام:
فالعهدية:
إمّا أن يكون مصحوبها معهودا ذكريا، نحو:(كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرّسول)، ونحو: {فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنّها كوكب دري}، ونحو: اشتريت فرسا ثمّ بعت الفرس، وعبرة هذه أن يسد الضّمير مسدها مع مصحوبها أو معهودا ذهنيا، نحو:{إذ هما في الغار}، ونحو:{إذ يبايعونك تحت الشجرة}.
أو معهودا حضوريا. وقال ابن عصفور: ولا تقع هذه إلّا بعد أسماء الإشارة، نحو: جاءني هذا الرجل، أو أي في النداء، نحو: يا أيها الرجل، أو "إذا" الفجائية، نحو: خرجت "فإذا" الأسد، أو في اسم الزّمان الحاضر، نحو: الآن انتهى، وفيه نظر تقول لشاتم رجل بحضرتك لا تشتم الرجل فهذه للحضور في غير ما ذكر؛ ولأن الّتي بعد "إذا" ليست لتعريف شيء حاضر حالة التّكلّم فلا تشبه ما الكلام فيه؛ ولأن الصّحيح في الدّاخلة على الآن أنّها زائدة لأنّها لازمة، ولا يعرف أن الّتي للتعريف وردت لازمة بخلاف الزّائدة.
والمثال الجيد للمسألة قوله تعالى:{اليوم أكملت لكم دينكم}.
والجنسية:
إمّا لاستغراق الأفراد، وهي الّتي تخلفها كل حقيقة، نحو:{وخلق الإنسان ضعيفا}، ونحو:{إن الإنسان لفي خسر إلّا الّذين آمنوا}، أو لاستغراق خصائص الأفراد، وهي الّتي تخلفها كل مجازًا، نحو: زيد الرجل علما، أي: الكامل في هذه الصّفة، ومنه:{ذلك الكتاب}، أو لتعريف الماهيّة، وهي الّتي لا تخلفها كل لا حقيقة ولا مجازًا، نحو:{وجعلنا من الماء كل شيء حيّ}، وقولك: والله لا أتزوّج النّساء، أو لا ألبس الثّياب، ولهذا يقع الحنث بالواحد منهما.
وبعضهم يقول في هذه إنّها لتعريف العهد، فإن الأجناس أمور معهودة في الأذهان متميز بعضها عن بعض، ويقسم المعهود إلى شخص وجنس.
والفرق بين المعرّف "بأل" هذه وبين اسم الجنس النكرة، هو الفرق بين المقيد والمطلق، وذلك لأن "ذا" "الألف" و"الّلام" يدل على الحقيقة بقيد حضورها في الذّهن، واسم الجنس النكرة يدل على مطلق الحقيقة لا باعتبار قيد.
تنبيه
قال ابن عصفور: أجازوا في نحو: مررت بهذا الرجل، كون الرجل نعتا، وكونه بيانا، مع اشتراطهم في البيان أن يكون أعرف من المبين، وفي النّعت ألا يكون أعرف من المنعوت، فكيف يكون الشّيء أعرف وغير أعرف.
وأجاب بأنّه إذا قدر بيانا قدرت "أل" فيه لتعريف الحضور، فقد يفيد الجنس بذاته، والحضور بدخول "أل"، والإشارة إنّما تدل على الحضور دون الجنس، وإذا قدر نعتا قدرت "أل" فيه للعهد، والمعنى مررت بهذا وهو الرجل المعهود بيننا فلا دلالة فيه على الحضور، والإشارة تدل عليه فكانت أعرف قال، وهذا معنى كلام سيبويه.
والوجه الثّالث: أن تكون زائدة، وهي نوعان: لازمة وغير لازمة.
فالأولى: كالّتي في الأسماء الموصولة على القول بأن تعريفها بالصلة، وكالواقعة في الأعلام بشرط مقارنتها لنقلها، كالنضر، والنعمان، واللات، والعزى، أو لارتجالها كالسموأل، أو لغلبتها على بعض من هي له في الأصل، كالبيت للكعبة، والمدينة لطيبة، والنجم للثريا، وهذه في الأصل لتعريف العهد.
والثّانية: نوعان كثيرة واقعة في الفصيح وغيرها.
فالأولى: الدّاخلة على علم منقول من مجرّد صالح لها ملموح أصله، كحارث، وعباس، وضحاك، فتقول فيها الحارث والعبّاس والضّحّاك، ويتوقف هذا النّوع على السماع، ألا ترى أنه لا يقال مثل ذلك في نحو: محمّد ومعروف وأحمد.
والثّانية: نوعان: واقعة في الشّعر، وواقعة في شذوذ من النثر.
فالأولى: كالداخلة على يزيد وعمرو، في قوله:
باعد أم العمر من أسيرها ... حراس أبواب على قصورها
وفي قوله:
رأيت الوليد بن اليزيد مباركًا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله
فأما الدّاخلة على وليد في البيت فللمح الأصل، وقيل "أل" في اليزيد والعمر للتعريف، وإنهما نكرا ثمّ أدخلت عليهما "أل" كما ينكر العلم إذا أضيف، كقوله:
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ...
واختلف في الدّاخلة على بنات أوبر، في قوله:
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
فقيل زائدة للضّرورة؛ لأن ابن أوبر علم على نوع من الكمأة، ثمّ جمع على بنات أوبر، كما يقال في جمع ابن عرس: بنات عرس، ولا يقال: بنو عرس؛ لأنّه لما لا يعقل ورده السخاوي بأنّها لو كانت زائدة لكان وجودها كالعدم، فكان يخفضه بالفتحة؛ لأن فيه العلمية والوزن، وهذا سهو منه؛ لأن "أل" تقتضي أن ينجر الاسم بالكسرة، ولو كانت زائدة فيه لأنّه قد أمن فيه التّنوين، وقيل "أل" فيه للمح الأصل؛ لأن أوبر صفة كحسن وحسين وأحمر، وقيل للتعريف، وإن ابن أوبر نكرة ،كابن لبون، "فأل" فيه مثلها في قوله:
وابن اللّبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
قاله المبرد ويرده أنه لم يسمع ابن أوبر إلّا ممنوع الصّرف.
والثّانية: كالواقعة في قولهم ادخلوا الأول فالأول، وجاؤوا الجمّاء الغفير، وقراءة بعضهم:{ليخرجن الأعز منها الأذل} بفتح "الياء"؛ لأن
الحال واجبة التنكير، فإن قدرت الأذل مفعولا مطلقًا على حذف مضاف، أي: خروج الأذل، كما قدره الزّمخشريّ لم يحتج إلى دعوى زيادة "أل".
تنبيه
كتب الرشيد ليلة إلى القاضي أبي يوسف يسأله عن قول القائل:
فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن ... وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم
فأنت طلاق والطّلاق عزيمة ... ثلاث ومن يخرق أعق وأظلم
فقال ماذا يلزمه إذا رفع الثّلاث وإذا نصبها.
قال أبو يوسف: فقلت هذه مسألة نحوية فقهية، ولا آمن الخطأ إن قلت فيها برأيي، فأتيت الكسائي وهو في فراشه فسألته فقال: إن رفع ثلاثًا طلقت واحدة؛ لأنّه قال أنت طلاق، ثمّ أخبر أن الطّلاق التّام ثلاث، وإن نصبها طلقت ثلاثًا؛ لأن معناه أنت طالق ثلاثًا، وما بينهما جملة معترضة، فكتبت بذلك إلى الرشيد، فأرسل إليّ بجوائز فوجهت بها إلى الكسائي انتهى ملخصا.
وأقول إن الصّواب أن كلا من الرّفع والنّصب محتمل لوقوع الثّلاث ولوقوع الواحدة، أما الرّفع فلأن "أل" في الطّلاق إمّا لمجاز الجنس، كما تقول: زيد الرجل، أي: هو الرجل المعتد به، وإمّا للعهد الذكري مثلها في:{فعصى فرعون الرّسول}، أي: وهذا الطّلاق المذكور عزيمة ثلاث، ولا تكون للجنس الحقيقيّ لئلّا يلزم الإخبار عن العام بالخاص، كما يقال الحيوان إنسان، وذلك باطل إذ ليس كل حيوان إنسانا، ولا كل طلاق عزيمة، ولا ثلاثًا، فعلى العهدية يقع الثّلاث، وعلى الجنسية يقع واحدة كما قال الكسائي.
وأما النصب فلأنّه محتمل لأن يكون على المفعول المطلق، وحينئذٍ يقتضي وقوع الطّلاق الثّلاث، إذ المعنى فأنت طالق ثلاثًا، ثمّ اعترض بينهما بقوله والطّلاق عزيمة، ولأن يكون حالا من الضّمير المستتر في عزيمة، وحينئذٍ لا يلزم وقوع الثّلاث؛ لأن المعنى: والطّلاق عزيمة إذا كان ثلاثًا فإنّما يقع ما نواه.
هذا ما يقتضيه معنى هذا اللّفظ مع قطع النّظر عن شيء آخر، وأما الّذي أراده هذا الشّاعر المعين فهو الثّلاث لقوله بعد:
فبيني بها أن كنت غير رفيقة ... وما لامرئ بعد الثّلاث مقدم
مسألة
أجاز الكوفيّون وبعض البصريين وكثير من المتأخّرين نيابة "أل" عن الضّمير المضاف إليه، وخرجوا على ذلك:{فإن الجنّة هي المأوى}، ومررت برجل حسن الوجه، وضرب زيد الظّهر والبطن، إذا رفع الوجه والظّهر والبطن.
والمانعون يقدرون هي المأوى له، والوجه منه، والظّهر والبطن منه في الأمثلة، وقيد ابن مالك الجواز بغير الصّلة.
وقال الزّمخشريّ في:{وعلم آدم الأسماء كلها}، إن الأصل أسماء المسميات، وقال أبو شامة في قوله:
بدأت بـ باسم الله في النّظم أولا ...
إن الأصل في نظمي فجوزا نيابتها عن الظّاهر، وعن ضمير الحاضر، والمعروف من كلامهم إنّما هو التّمثيل بضمير الغائب.
مسألة
من الغريب أن "أل" تأتي للاستفهام، وذلك في حكاية قطرب "أل" فعلت بمعنى "هل" فعلت؟ وهو من إبدال الخفيف ثقيلا، كما في "الآل" عند سيبويه، لكن ذلك سهل لأنّه جعل وسيلة إلى "الألف" الّتي هي أخف الحروف).[مغني اللبيب: 1 / 310 - 342]
شرح عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري(ت:761ه)
"أل"
قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): ("أل"
"أل": على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون اسما موصولا بمعنى الّذي، وفروعه، وهي الدّاخلة على أسماء الفاعلين والمفعولين، قيل والصّفات المشبهة، وليس بشيء لأن الصّفة المشبهة للثبوت فلا تؤول بالفعل؛ ولهذا كانت الدّاخلة على اسم التّفضيل ليست موصولة باتّفاق.
وقيل هي في الجميع حرف تعريف، ولو صحّ ذلك لمنعت من إعمال اسمي الفاعل والمفعول، كما منع منه التصغير والوصف.
وقيل موصول حرفي وليس بشيء؛ لأنّها لا تؤول بالمصدر، وربما وصلت بظرف أو بجملة اسمية أو فعلية فعلها مضارع، وذلك دليل على أنّها ليست حرف تعريف.
فالأول: كقوله:
من لا يزال شاكرا على المعه ... فهو حر بعيشة ذات سعه
والثّاني: كقوله:
من القوم الرّسول الله منهم ... لهم دانت رقاب بني معد
والثّالث: كقوله:
... صوت الحمار اليجدع
والجميع خاص بالشعر خلافًا للأخفش وابن مالك في الأخير.
والثّاني: أن تكون حرف تعريف، وهي نوعان: عهدية وجنسية. وكل منهما ثلاثة أقسام:
فالعهدية:
إمّا أن يكون مصحوبها معهودا ذكريا، نحو:(كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرّسول)، ونحو: {فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنّها كوكب دري}، ونحو: اشتريت فرسا ثمّ بعت الفرس، وعبرة هذه أن يسد الضّمير مسدها مع مصحوبها أو معهودا ذهنيا، نحو:{إذ هما في الغار}، ونحو:{إذ يبايعونك تحت الشجرة}.
أو معهودا حضوريا. وقال ابن عصفور: ولا تقع هذه إلّا بعد أسماء الإشارة، نحو: جاءني هذا الرجل، أو أي في النداء، نحو: يا أيها الرجل، أو "إذا" الفجائية، نحو: خرجت "فإذا" الأسد، أو في اسم الزّمان الحاضر، نحو: الآن انتهى، وفيه نظر تقول لشاتم رجل بحضرتك لا تشتم الرجل فهذه للحضور في غير ما ذكر؛ ولأن الّتي بعد "إذا" ليست لتعريف شيء حاضر حالة التّكلّم فلا تشبه ما الكلام فيه؛ ولأن الصّحيح في الدّاخلة على الآن أنّها زائدة لأنّها لازمة، ولا يعرف أن الّتي للتعريف وردت لازمة بخلاف الزّائدة.
والمثال الجيد للمسألة قوله تعالى:{اليوم أكملت لكم دينكم}.
والجنسية:
إمّا لاستغراق الأفراد، وهي الّتي تخلفها كل حقيقة، نحو:{وخلق الإنسان ضعيفا}، ونحو:{إن الإنسان لفي خسر إلّا الّذين آمنوا}، أو لاستغراق خصائص الأفراد، وهي الّتي تخلفها كل مجازًا، نحو: زيد الرجل علما، أي: الكامل في هذه الصّفة، ومنه:{ذلك الكتاب}، أو لتعريف الماهيّة، وهي الّتي لا تخلفها كل لا حقيقة ولا مجازًا، نحو:{وجعلنا من الماء كل شيء حيّ}، وقولك: والله لا أتزوّج النّساء، أو لا ألبس الثّياب، ولهذا يقع الحنث بالواحد منهما.
وبعضهم يقول في هذه إنّها لتعريف العهد، فإن الأجناس أمور معهودة في الأذهان متميز بعضها عن بعض، ويقسم المعهود إلى شخص وجنس.
والفرق بين المعرّف "بأل" هذه وبين اسم الجنس النكرة، هو الفرق بين المقيد والمطلق، وذلك لأن "ذا" "الألف" و"الّلام" يدل على الحقيقة بقيد حضورها في الذّهن، واسم الجنس النكرة يدل على مطلق الحقيقة لا باعتبار قيد.
تنبيه
قال ابن عصفور: أجازوا في نحو: مررت بهذا الرجل، كون الرجل نعتا، وكونه بيانا، مع اشتراطهم في البيان أن يكون أعرف من المبين، وفي النّعت ألا يكون أعرف من المنعوت، فكيف يكون الشّيء أعرف وغير أعرف.
وأجاب بأنّه إذا قدر بيانا قدرت "أل" فيه لتعريف الحضور، فقد يفيد الجنس بذاته، والحضور بدخول "أل"، والإشارة إنّما تدل على الحضور دون الجنس، وإذا قدر نعتا قدرت "أل" فيه للعهد، والمعنى مررت بهذا وهو الرجل المعهود بيننا فلا دلالة فيه على الحضور، والإشارة تدل عليه فكانت أعرف قال، وهذا معنى كلام سيبويه.
والوجه الثّالث: أن تكون زائدة، وهي نوعان: لازمة وغير لازمة.
فالأولى: كالّتي في الأسماء الموصولة على القول بأن تعريفها بالصلة، وكالواقعة في الأعلام بشرط مقارنتها لنقلها، كالنضر، والنعمان، واللات، والعزى، أو لارتجالها كالسموأل، أو لغلبتها على بعض من هي له في الأصل، كالبيت للكعبة، والمدينة لطيبة، والنجم للثريا، وهذه في الأصل لتعريف العهد.
والثّانية: نوعان كثيرة واقعة في الفصيح وغيرها.
فالأولى: الدّاخلة على علم منقول من مجرّد صالح لها ملموح أصله، كحارث، وعباس، وضحاك، فتقول فيها الحارث والعبّاس والضّحّاك، ويتوقف هذا النّوع على السماع، ألا ترى أنه لا يقال مثل ذلك في نحو: محمّد ومعروف وأحمد.
والثّانية: نوعان: واقعة في الشّعر، وواقعة في شذوذ من النثر.
فالأولى: كالداخلة على يزيد وعمرو، في قوله:
باعد أم العمر من أسيرها ... حراس أبواب على قصورها
وفي قوله:
رأيت الوليد بن اليزيد مباركًا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله
فأما الدّاخلة على وليد في البيت فللمح الأصل، وقيل "أل" في اليزيد والعمر للتعريف، وإنهما نكرا ثمّ أدخلت عليهما "أل" كما ينكر العلم إذا أضيف، كقوله:
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ...
واختلف في الدّاخلة على بنات أوبر، في قوله:
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
فقيل زائدة للضّرورة؛ لأن ابن أوبر علم على نوع من الكمأة، ثمّ جمع على بنات أوبر، كما يقال في جمع ابن عرس: بنات عرس، ولا يقال: بنو عرس؛ لأنّه لما لا يعقل ورده السخاوي بأنّها لو كانت زائدة لكان وجودها كالعدم، فكان يخفضه بالفتحة؛ لأن فيه العلمية والوزن، وهذا سهو منه؛ لأن "أل" تقتضي أن ينجر الاسم بالكسرة، ولو كانت زائدة فيه لأنّه قد أمن فيه التّنوين، وقيل "أل" فيه للمح الأصل؛ لأن أوبر صفة كحسن وحسين وأحمر، وقيل للتعريف، وإن ابن أوبر نكرة ،كابن لبون، "فأل" فيه مثلها في قوله:
وابن اللّبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
قاله المبرد ويرده أنه لم يسمع ابن أوبر إلّا ممنوع الصّرف.
والثّانية: كالواقعة في قولهم ادخلوا الأول فالأول، وجاؤوا الجمّاء الغفير، وقراءة بعضهم:{ليخرجن الأعز منها الأذل} بفتح "الياء"؛ لأن
الحال واجبة التنكير، فإن قدرت الأذل مفعولا مطلقًا على حذف مضاف، أي: خروج الأذل، كما قدره الزّمخشريّ لم يحتج إلى دعوى زيادة "أل".
تنبيه
كتب الرشيد ليلة إلى القاضي أبي يوسف يسأله عن قول القائل:
فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن ... وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم
فأنت طلاق والطّلاق عزيمة ... ثلاث ومن يخرق أعق وأظلم
فقال ماذا يلزمه إذا رفع الثّلاث وإذا نصبها.
قال أبو يوسف: فقلت هذه مسألة نحوية فقهية، ولا آمن الخطأ إن قلت فيها برأيي، فأتيت الكسائي وهو في فراشه فسألته فقال: إن رفع ثلاثًا طلقت واحدة؛ لأنّه قال أنت طلاق، ثمّ أخبر أن الطّلاق التّام ثلاث، وإن نصبها طلقت ثلاثًا؛ لأن معناه أنت طالق ثلاثًا، وما بينهما جملة معترضة، فكتبت بذلك إلى الرشيد، فأرسل إليّ بجوائز فوجهت بها إلى الكسائي انتهى ملخصا.
وأقول إن الصّواب أن كلا من الرّفع والنّصب محتمل لوقوع الثّلاث ولوقوع الواحدة، أما الرّفع فلأن "أل" في الطّلاق إمّا لمجاز الجنس، كما تقول: زيد الرجل، أي: هو الرجل المعتد به، وإمّا للعهد الذكري مثلها في:{فعصى فرعون الرّسول}، أي: وهذا الطّلاق المذكور عزيمة ثلاث، ولا تكون للجنس الحقيقيّ لئلّا يلزم الإخبار عن العام بالخاص، كما يقال الحيوان إنسان، وذلك باطل إذ ليس كل حيوان إنسانا، ولا كل طلاق عزيمة، ولا ثلاثًا، فعلى العهدية يقع الثّلاث، وعلى الجنسية يقع واحدة كما قال الكسائي.
وأما النصب فلأنّه محتمل لأن يكون على المفعول المطلق، وحينئذٍ يقتضي وقوع الطّلاق الثّلاث، إذ المعنى فأنت طالق ثلاثًا، ثمّ اعترض بينهما بقوله والطّلاق عزيمة، ولأن يكون حالا من الضّمير المستتر في عزيمة، وحينئذٍ لا يلزم وقوع الثّلاث؛ لأن المعنى: والطّلاق عزيمة إذا كان ثلاثًا فإنّما يقع ما نواه.
هذا ما يقتضيه معنى هذا اللّفظ مع قطع النّظر عن شيء آخر، وأما الّذي أراده هذا الشّاعر المعين فهو الثّلاث لقوله بعد:
فبيني بها أن كنت غير رفيقة ... وما لامرئ بعد الثّلاث مقدم
مسألة
أجاز الكوفيّون وبعض البصريين وكثير من المتأخّرين نيابة "أل" عن الضّمير المضاف إليه، وخرجوا على ذلك:{فإن الجنّة هي المأوى}، ومررت برجل حسن الوجه، وضرب زيد الظّهر والبطن، إذا رفع الوجه والظّهر والبطن.
والمانعون يقدرون هي المأوى له، والوجه منه، والظّهر والبطن منه في الأمثلة، وقيد ابن مالك الجواز بغير الصّلة.
وقال الزّمخشريّ في:{وعلم آدم الأسماء كلها}، إن الأصل أسماء المسميات، وقال أبو شامة في قوله:
بدأت بـ باسم الله في النّظم أولا ...
إن الأصل في نظمي فجوزا نيابتها عن الظّاهر، وعن ضمير الحاضر، والمعروف من كلامهم إنّما هو التّمثيل بضمير الغائب.
مسألة
من الغريب أن "أل" تأتي للاستفهام، وذلك في حكاية قطرب "أل" فعلت بمعنى "هل" فعلت؟ وهو من إبدال الخفيف ثقيلا، كما في "الآل" عند سيبويه، لكن ذلك سهل لأنّه جعل وسيلة إلى "الألف" الّتي هي أخف الحروف).[مغني اللبيب: 1 / 310 - 342]
-------------------------
شرح علاء الدين بن عليّ بن بدر الدين الإربلي (ت: ق8هـ)
الباب الثاني: في الحروف الثنائية
قال علاء الدين بن عليّ بن بدر الدين الإربلي (ت: ق8هـ): (الباب الثاني: في الحروف الثنائية وهي التي كل واحدٍ منها على حرفين من حروف الهجاء بالوضع، واعلم أن جماعة لم تتعرض لها وهم أكثر النحاة ومنها طائفة لم يتعرضوا لها عند عدهم الحروف ونبهوا عليها في أماكن أخرى، ونحن نأتي إن شاء الله تعالى على عدّ جميعها ونذكر في كل واحد منها ما يليق ذكره بهذا التعليق، ونستمد من الله سبحانه حسن التوفيق، فنقول: إن جملة الحروف الثنائية التي اسقصينا حصرها ثلاثون حرفًا منها ما لم تجر عادتهم بذكره بين الحروف وهي ستة: "النون" الشديدة للتأكيد، و"الألف" و"النون" في نحو: يفعلان الزيدان، وتفعلان المرأتان، و"الواو" و"النون" في: يفعلون الزيدون إذا أسندت إلى الظاهر المرتفع بعدهما بالفاعلية على لغة أكلوني البراغيث، أي: قول من يجعل هذه العلامة للدلالة على نوعية الفاعل "كتاء" التأنيث الدالة على تأنيثه، ولفظة "نا"، و"كم"، و"ها"، الملحقة "بأيا" ضمير النصب المنفصل على رأي سيبويه في جعل المردفات حروفًا دالة على التفريع فإذا طرحنا هذه الستة بقي جميع الحروف المتداولة بين النحاة أربعة وعشرون حرفًا، وهي على حالتين كما قدمناه، فإنها إمَّا أن تكون حروفًا محضة، أي: تقع في جملة مواقعها وقاطبة استعمالاتها إلا حروفًا، وإمَّا أن تكون مشتركة بين الاسمية والحرفية، ولا يجوز أن يشارك الحرف الثنائي شيئَا من الأفعال لما تقدم من أنه لم يوضع فعل على أقل من ثلاثة أحرف أصول، فلذلك وضعنا هذا الباب أيضًا على نوعين: ملازم لمحض الحرفية، وغير ملازم، والله الموفق).[جواهر الأدب: 85]
النوع الثاني: من الحروف الثنائية المشترك بين الحروف والأسماء
قال علاء الدين بن عليّ بن بدر الدين الإربلي (ت: ق8هـ): (النوع الثاني: من الحروف الثنائية المشترك بين الحروف والأسماء ولو على مذهب أحد عشر حرفًا وهي: "ال"، و"عن"، و"قد"، و"ما"، و"مذ"، و"ها"، و"الألف" و"النون" في تفعلان ويفعلان، و"الواو" و"النون" في تفعلون و يفعلون إذا رفعت هذه الأفعال ظاهرًا، و"نا"، و"كم"، و"هم"، من إيانا وإياكم وإياهم الضمير المنصوب المنفصل، ورتبنا للبحث عن كل واحد منها فصلًا بتوفيق الله تعالى وعونه).[جواهر الأدب: 149]
الفصل الأول: "ال"
قال علاء الدين بن عليّ بن بدر الدين الإربلي (ت: ق8هـ): (الفصل الأول: من هذا النوع، أعني الثنائي المشترك بين الحروف والأسماء.
"ال": قد اختلفت العلماء في أنها هل هي من المحضة أم من المشتركة بين الأسماء والحروف، فذهب كثير من المتقدمين منهم الرماني وابن السراج والفارسي، وتابعهم جماعة من المتأخرين منهم الأندلسي وابن الحاجب وابن مالك على أنها مشتركة، وهي في الأسماء المشتقة للوصف اسم، وإنما جعلناها في هذا النوع اسمًا اعتبارًا لمذهبهم، وذهب الأخفش والمازني وجماعة إلى أنها من المحضة اللازمة للحرفية، وأنها في الضارب ونحوه كما هي في الرجل ونحوه، واستدل كل من الفريقين بأدلة اقتصرت منها على تقرير ما خطر بالبال حال التحرير؛ فدليل من حكم بإسميتها في المشتقة أن مثل هذه لابد لها من مرفوع بها ضرورة قيامها بمحدث إمَّا ظاهرًا نحو: القائم زيد، أو مضمرًا، ولا يكون إلا مستكنًا، حتى لو أتى بمثله كان تأكيدًا له لا نفسه، وإذا تعين ثبوت الضمير فلابد له من مرجع، والمرجع لا يكون إلا اسمًا، وليس في القائم زيد، ونحوه مرجع سوى "ال"، فتعين كونها اسمًا، وقد أورد عليه إن كان مرادكم من كون المرجع إليه أسماء أن يكون عند التلفظ أو معلقًا، فإن عنيتم الأول منعناه، وإن عنيتم الثاني فمسلم، لكن الانحصار في ال ممنوع بجواز كونه صفة موصوف محذوف لدلالة الصفة عليه، أي: الرجل القائم، فيعود الضمير إليه أو يعود إلى لفظ الموصول المؤول به "ال"، أي: الذي لا إلى "أل" كما أن الضمير في قولهم: من صدق كان خيرًا له، ومن كذب كان شرًا له، عائدٌ إلى المصدر المفهوم من صفة الفعل، وإن لم يذكر لفظًا، ومنه قوله تعالى: {أعدلوا هو أقرب للتقوى}، ولا يقال: إذا كانت بمعنى الذي، والذي اسم يجب أن تكون "أل" اسمًا أيضًا؛ لأنا نقول: لا يلزم من تساوي كلمتين في المعنى تساويهما في النوع؛ لأن من التبعيضية مساوية في المعنى لبعض، وهيهات مساوية لبعد، ولم يلزم منها اسمية الأول وفعلية الثاني، ورد ردهم بأن الحكم بالإسمية لا يستلزم محذورًا، والأصل عدم التقرير والتأويل ودليل من قال أن "أل" من الحروف المحضة أنها لو كانت اسمًا لما جاز حذف "همزتها"، وذلك لأن الأسماء المتصرفة لا يكون وضعها على أقل من ثلاثة أحرف، حرف يبتدأ به، ولا يكون إلا متحركًا اضطرارًا، وحرف يوقف عليه ويسكن اختيارًا، وحرف يفصل بينهما لتنافيهما بالحركة والسكون.
فإن قيل: المتوسط إن تحرك نافى الثاني، وإلا نافى الأول، فالمنافاة باقية.
أجيب بأن المتوسط طبعه يقتضي أحدهما لا على التعيين، فلا منافاة لترتبها هنا على اقتضائه أحدهما بالطبع، وحيث كان الاعتداد هو الوضع على ثلاثة أحرف فوضع الكلمة على أقل منها نقص، ولذلك يبنى ما هو على حرف أو حرفين.
ويقال: إن وضعها وضع الحروف فلو كانت اسمًا مع أنها ثنائية، وحذفت "همزتها" كان إجحافًا، مع أنهم زادوا "أل" في الذي، وهي ثلاثية لتحسين اللفظ وتقويته في الاسمية، وهذا دليل على بعد حذفها من "أل" لو كانت اسمًا، وأجيب عن دليلهم بوجهين:
أحدهما: أن "أل" لما كانت حال حرفيتها كما هي حال اسميتها من غير تغيير سهل الحذف حال اسميتها كما سهل حال حرفيتها.
وثانيهما: أن من الأسماء المعربة المتصرفة ما يكون بعد الحذف على حرف واحد نحو: "فو"، و"ذو"، فإنهما على حرفين، وإذا لقي آخرهما ساكن آخر من كلمة بعدها تحذف "الواو" منهما لالتقاء الساكنين، وتبقى كل منهما على حرف واحد، وإذا ثبت جواز كون الاسم المعرب المتصرف على حرف واحد فلم لا يجوز كون الاسم المبني الغير المتصرف على حرف أو حرفين، وليعرف أن القائلين بحرفية "ال" اختلفوا في أنها مع لزومها الحرفية هل هي من الموصولات الحرفية أم لا.
والفرق بين قول من يقول: إنها من الموصولات الإسمية كما هو الصحيح، وقول من يقول: إنها من الموصولات الحرفية أنها إذا كانت اسمًا كانت مقدرة بالذي أو أحد فروعها الخمسة على ما يقتضيه الضمير العائد، ويكون ما بعدها صلة وإن كانت حرفًا موصولًا كانت مع ما بعدها بمنزلة اسم واحد، ويتعين على الأول أن يكون صلته اسم فاعل أو مفعول، واختلفوا في جواز وقوع الصفة المشبهة صلة، فأجازه جماعة منهم الشيخ جمال الدين ابن مالك، وقد ورد دخوله على المضارع كما سيأتي، وجعله الأكثرون من الشذوذ، وابن مالك جعله من القياسيات لقوة المشابهة بين المضارع واسم الفاعل.
واعلم أنهم اختلفوا في هذه الكلمة على ثلاثة مذاهب:
أحدها: مذهب جمهور النحاة، أنها "اللام" وحدها، واستدلوا عليه بأن التعريف ضد التنكير، وهو بحرف واحد، وهو التنوين، فذلك التعريف حملًا لأحد النقيضين على الآخر بأنه لو كانت أداة التعريف مركبة لما أفادته مع حذف "الهمزة" في الدرج لزوال التركيب بزوال جزئه، وإنما بنيت لأنها شديدة الامتزاج بالكلمة، ولهذا أدغمت في أربعة عشر حرفًا من حروف الهجاء، وإنما ألحقت بأول الكلمة، إمَّا للإهمال بحال التعريف أو لأن آخر الكلمة محل التغيير.
قلت: أو لأنه لما كان ضد التنكير وهو يلحق الآخر ألحق بالأول تحقيقًا للضدية، وإنما أجلبوا لها "الهمزة" توصلًا إلى النطق، وإنما كانت ساكنة لأنها لو كانت مفتوحة لالتبست "بلام" الابتداء، ولو كسرت لالتبست بالجارة، ولو رفعت لكانت مستثقلة مع كثرة الاستعمال الذي هو مطية التخفيف.
وقال والدي رحمه الله في رسالة الاستعاذة، وهذا لا يخلو من ضعف؛ لأن وضعهم الحرف في أول الكلمة ساكنًا مع كثرة الاستعمال بعيد، وأما المذهبان الآخران فقد اتفقا على أنها ثنائية الوضع وهو الصواب، ولهذا جعلناها من هذا الباب، ولكن اختلفا في "الهمزة"، فذهب سيبويه إلى أنها للوصل لثبوتها في الابتداء وسقوطها في الدرج، وذهب الخليل إلى أنها للقطع "كهمزة" "أم" "واو" وحذفها في الدرج للتخفيف، واستدل هذا بأنها لو كانت للوصل لكسرت كسائر "همزاته" الداخلة على الأسماء، ولما قطعت في قوله تعالى: {قل آلذكرين حرم أم الأنثيين}، ورد الأول بأن الفتحة للخفة.
والثاني: بأنه إنما قطعت ليحصل الفرق بين الخبر والاستفهام، وفيه نظر.
واعلم أن الشيخ جمال الدين بن مالك لم يذكر في "أل" سوى المذهبين الأخيرين وزعم أن الخليل وسيبويه سمياها "أل" وقالا: إنها حرف ثنائي، وأنكر على من سماها "الألف" و"اللام" وخطأه، وقال: كما لا يجوز التعبير عن هل بالها و"اللام" بل بهل، فكذلك هنا، وإنكاره على من سماها "باللام" فقط أشد.
وقال ما معناه: أنه لما رأى المتأخرون أن عند سيبويه "همزتها" للوصل تجرؤًا على إسقاط "الهمزة" وعبروا عنها "باللام" وحدها، ورجح مذهب الخليل وقال: هو الصواب، وعلى تقدير أنها للوصل لا يجوز إطراحها أيضًا لزيادتها، كما أن "همزة" استمع مقطوع بزيادتها وتسمى الكلمة بوجودها خماسية، ولذلك يفتح حرف المضارعة اعتبارًا لوجودها، ولا يجوز إسقاطها لكونها زائدة، فكذلك في "أل".
قال في الأغراب: وأنا أقول: قد نقلوا في الكتب المعتبر أن أحد المذاهب يقول في أن "اللام" لا غير، وهو مخالف لما نقله الشيخ جمال الدين بن مالك، بل نقل عن ابن كيسان أنه مذهب جمهور النحاة، وحينئذٍ فمذاهب النحاة ثلاثة، ولا وجه للإنكار على من عبر عنها "باللام" وحدها، وقد كثر ذلك وشاع في كتب الأئمة المحققين رحمهم، ولكن الأولى التعبير عنها "بأل" ؛ لأن الإمامين الخليل وسيبويه قد سمياها به فيجب اتباعهما.
قلت: وجوب الاتباع يستلزم وجوب التعبير عنه "بأل" لا ترجيحه إذا تقرر هذا، "فأل" إمَّا مؤثرة في مدخولها أو غير مؤثرة، فهي إذن صنفان.
الصنف الأول: "أل" المؤثرة والمراد بالتأثير التأثير المعنوي، وهو هنا التعريف بمعنى أنها تخرج المعرف بها من شياع التنكير إلى حصر التعريف وتعيينه، فإذا قصد بها ذلك فإما أن يقصد بها تعريف الماهية من حيث هي مع قطع النظر عن الإفراد نحو: البر خير من الشعير، والرجل خير من المرأة، وتسمى أداة الحقيقة والماهية، ويسميها كثير الجنسية وهو بعيد عن التحصيل لملاحظة الإفراد في الجنسية، والمفروض عدمها، وإمَّا أن يقصد التعريف مع ملاحظة الإفراد وهي الجنسية نحو: الدينار خيرٌ من الدرهم، والذهب خيرٌ من الفضة، وإمَّا أن يقصد تحريف الإفراد، ولا يخلو إمَّا أن يقصد تعريف جميع الإفراد أو بعضها، فإن قصد الأول فإما أن يقصد ذوات الإفراد وتسمى استغراقية، كقوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر}؛ بدليل صحة الاستثناء أو صفاتها، وتسمى أحاطية، نحو: زيد كل الرجل مدحًا، أي: الجامع لصفات الرجولية وخصائصها، وعمرو كل اللئيم ذمًا، أي: المتصف بسائر خصال اللؤم، وكثير لم يفرق بينهما، بل سموها استغراقية مطلقًا، وقسمها بعضهم إلى حقيقي، كقوله تعالى: {عالم الغيب والشهادة}، وعرفي نحو: جمع الأمير الرعية.
قال بعضهم: ولا بأس بتسمية هذه الثلاثة طبيعية، واعلم أنه إذا اعتبر تعدد مدلولها جاز أن يوصف مدخولها بالمفرد نظرًا إلى لفظه، وبالجمع نظرًا إلى معناه، ولا يلزم الجمع بين متنافيين الأداة، ولفظ المعرف لتجرده حينئذٍ عن معنى الوحدة، وإليه أشار أبو الحسن رضي الله عنه بقولك: «أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض»، ومنه قوله عز وجل: {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء}، وهذا مذهب أبي الحسن الأخفش، وإن منعه الجمهور.
واستغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع؛ بدليل صحة الإضراب في: لا رجال، وامتناعه في: لا رجل، كما تحقق في "لا" الجنسية، وإن قصد تعريف بعض الإفراد تسمى عهدية لقصد بعض الإفراد دون بعض، وهي على ثلاثة: اضرب ذكري وحسي وذهني؛ لأنها إمَّا أن تعرف ما سبق له ذكر في الكلام، ثم أعيد معرفًا بها، سواء سبق نكرة، كقوله تعالى: {وأرسلنا إلى فرعون رسولًا فعصى فرعون الرسول}. أو معرفة إمَّا "باللام" أيضًا، كقولك: جاءني الرجل فأوصيت الرجل بكذا، أو بغيرها كقولك: واصلني من قطعني، فأكرمت المواصل، بهذا يعلم ضعف قول بعضهم الذكرى ما سبق في الكلام نكرة، ثم أعيد وحكي بالأداة، وإمَّا أن تعرف من حضر مجلس الخطاب فيقع تارة موقع المضمرة إذا كان مدخولها هو المخاطب، كقولك: المولى يقول "ذا"، أي: أنت، وتارة موقع اسم الإشارة إذا كان غيره، كقولك لمخاطبك: الرجل يقول كذا مريدًا تعريف ثالث، أي: هذا، ومنه يعلم أيضًا ضعف قول من قال: إن المفيد للعهد الحسي ما تقع موقع اسم الإشارة، وقال بعضهم: لا تكون للعهد الحسي إلا في أربعة مواضع:
أحدها: بعد "إذا" المفاجأة نحو: خرجت "فإذا" السبع.
وثانيها: بعد أسماء الإشارة نحو: "هذا" الرجل.
وثالثها: بعد "أي" في النداء نحو: يا "أيها" الرجل.
ورابعها: في لفظ الآن، والساعة، وإمَّا أن تعرف ما هو مركوز وثابت في ذهن المخاطب فيشير المتكلم بها إلى ذلك الواحد من حيث هو معهود للمخاطب فيطلق الحقيقة على الواحد عند انتصاب القرينة كإطلاق الكلي الطبيعي على جزئي من جزئياته، كقول أحد القادمين للآخر: ادخل السوق واشتر اللحم، أراد من السوق واللحم، فردًا واحدًا من جهة أن المخاطب يعهده، والقرينة اشتمال البلد على السوق، واشتماله على اللحم.
ومنه قوله تعالى:{أخاف أن يأكله الذئب}، ومثل هذا وإن كان لفظه لفظ المعارف فيجري عليه أحكامها من وقوعه مبتدأ، وذا حال ووصفًا للمعرفة وموصوفًا بها، لكنه في قوة النكرة فيعامل معاملتها فيوصف بالجمل، كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني.
وإنما جعلناه في قوة النكرة ولم نحكم بأنه نكرة محضة لما تحقق في بابه أن النكرة هي فرد من الحقيقة غير معين، وهذا معناه نفس الحقيقة، وإنما تستفاد البعضية من القرينة كما استفيدت بعضية السوق واللحم من قرينة اشتمال البلد على السوق، والسوق على اللحم، وهذا أحسن ما تقرر وأبين ما تحرر، ومما قررناه بعلم ضعف قول أبي الحسن بن بابشاذ أن تعريف الجنس لما ثبت في الأذهان، وتعريف العهد لما ثبت في الأعيان.
الصنف الثاني: "أل" الغير المؤثرة، وقد اصطلح بعضهم على تسميتها زائدة، وإذ قد تكون عوضًا عن محذوف من الكلمة، وقد لا تكون فهي ضربان.
الضرب الأول: ما تكون فيه عوضًا عن شيء، وذلك في كلمات.
منها: لفظ الآن، قالوا: إن "أل" فيها ليست معرفة، وتدل على الزمن الحاضر بمعنى الساعة، وقيل: معناها الحد المشترك بين زماني الماضي والمستقبل، وتعني بها النحاة الزمان الذي يقع فيه ابتداء كلام المتكلم، ولو طالت مدته، كما يقال: الساعة أفعل كذا، وإن امتدّ زمان فعله، هذا هو المفهوم من كلام العرب، ومنه قول علي رضي الله عنه وقد سئل عن خضاب اللحى: «أليس سنة مأمورًا بها؟، فقال كان ذلك والإسلام قل، فأما الآن وقد اتسع نطاق الإسلام فامرء أو ما شاء»، أي: اتركوا كل شخص يفعل ما شاء من خضاب أو تركه، فلم يرد أن هذه الإباحة تختص بتلك الساعة دون غيرها، واختلف في أصلها، فقال الفراء: هي فعل ماض بمعنى قرب، فنقل إلى الاسمية وأدخلت عليه الأداة، كما قالوا في القيل والقال، وعند البصريين أصلها "أو" "أن" فحذفت "الألف" الساكنة اعتباطًا فبقيت ثلاثية وسطها "واو" متحرك قبله فتحة، فقلبت "الفاء" على ما تقرر في بابه ثم بنيت وحركت لالتقاء الساكنين، وفتحت للخفة، واختلفوا على ما تقرر في سبب البناء.
فقال الزجاج: تضمنها معنى الإشارة، فإن قولك: الآن يكون كذا معناه هذه الساعة يكون كذا وتضمن معنى الإشارة يوجب البناء.
قال الرضي: وفيه نظر؛ إذ جميع الأعلام، هكذا متضمنه معنى الإشارة مع إعرابها.
وقال المبرد: إنها حيث وضعت كجزء من الكلمة في أول وضعها، ولم تستعمل نكرة ثم عرفت كسائر المعروفات، وقد لامت طريقة واحدة ولم تتغير أشبهت الحروف في عدم التغير، ولزوم طريقة واحدة فبنيت لذلك.
وفي الأغراب: وفيه نظر؛ لأن هذه المشابهة ليست مما يوجب البناء؛ لأنهم ذكرا أن مشابهة الاسم للحرف والموجبة للبناء، تجب أن تكون بخاصة من خواص الحرف، إمَّا اللفظية وهي وضعه على حرف أو حرفين "كياء" الضمير وهائه، أو المعنوية: وهي إمَّا بالافتقار "اللام" للكلمة كالموصولات، أو بأداء معناه معنى من الإنشاءات وضعًا، كأدوات الاستفهام أو بتضمنه كأمس المتضمن معنى "أل"، أما "أن" الملازمة لطريقة واحدة توجب البناء فلا، وإلا لوجب بناء كثير من الأسماء المعربة كالملازمة للمصدرية والحالية، وقال أبو علي: لما كانت "أل" فيه قد بنيت الكلمة من أحد المعارف المشهورة حكمنا بأن تعريفها "بأل" مقدرة لأنها هي الأداة الموضوعة للتعريف غالبًا فتضمنت معنى الحرف، فبنيت كأمس، وعلى هذا لا تكون "أل" عوضًا عن أداة التعريف؛ لأنها متقدمة عليها، فكيف تكون عوضًا عنها، اللهم إلا أن يقال: لما كانت عوضًا عنها صورة، وكانت تلك محذوفة ولا تظهر، ويمكن تصور أن الفائدة التي كانت مستفادة من تلك، أعني: التعريف هي موجودة مع هذه، جاز أن ينسب إليها البدلية على سبيل التجوز.
ومنها: لفظة الجلالة، أي: الله، اختلف في أن مرتجل أم مشتق، فذهب الجمهور إلى أنه علم مرتجل للرب سبحانه وتعالى متمسكين بأدلة، ونحن نذكر ما خطر بالبال منها، وهو أنه تعالى نفى المسمى له بقوله عز من قائل: {هل تعلم له سميًا} لما تقرر أن الاستفهام الإنكاري يفيد النفي وهو يقتضي الارتجال لعدم امتناع إطلاق المشتقات على مسميات متعددة حقيقة كان، كإطلاق العالم على زيد وعمرو، أو مجازًا كقوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} أطلق سبحانه صفة الخالقية على غيره تجوزًا، ويؤيده ما نص عليه الخليل رحمه الله من أطباق الناس واتفاقهم على هذا، وأن الاسم مختص بالذات المتعالية لم يطلق على غيرها بنوع من الأنواع، وأما إطلاق إله على غيرها فإمَّا منكرًا، كقوله تعالى: {اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة}، وإمَّا مضافًا، كقوله تعالى: {من فعل هذا بآلهتنا}، وقولهم: إله الدار، فحكمه حكم الرب، وهذا يقوي ما ادعيناه، وأيضًا لو كان مشتقًا لما حصل التوحيد بكلمة الشهادة فقط؛ لأن المعنى حينئذٍ لا إله إلا الموصوف بهذه الصفة، وهذا عام لا يقتضي الحصر والوحدة، فيحتاج إلى أمر خارج يفيدهما، وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء من إفادة كلمة الشهادة، التوحيد المقتضي لنفي الشريك من غير احتياج إلى شيء آخر، فيجب بهذين الدليلين القول بارتجاله ليكون علمًا على ذات معينة متحدة لا تقبل الشركة، والتعد بوجه فيحصل الحصر والتوحيد كما يحصل حصر الكريم في قولك: لا كريم إلا زيد في زيد لكونه علمًا بخلاف: لا قائم إلا العالم، فإن العالم يجوز أن يتصف به كل من هو عالم، فلا يحصل التعيين الوحداني، فتجزم بديهة العقل في الأول بأن صفة الكريم ثابتة لزيد وحده لا شريك له فيها، وفي الثاني: لا تجزم به إلا بعد إثبات أن لا عالم سواه، وعلى هذا لا تكون "أل" فيه معرفة؛ لأن الأسماء المرتجلة موضوعة أعلامًا لا تحتاج إلى أداة تعريف، وذهب الباقون إلى أنه مشتق منقول إلى العلمية مستدلين بأن الله في قوله تعالى: {وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} صفة لهو، وإلا لزم خلو الكلام عن الفائدة؛ لأن قولك: هذا زيد في البلد، وهذا عمرو في الحضر، غير مفيد؛ إذ زيد زيد في البلد وغيره، وعمرو عمرو في السفر والحضر لأن ذلك يقتضي أن الزيدية ثابتة له في البلد فقط، وكذا العمرية ثابتة له في الحضر دون السفر، حتى لو فارق زيد البلد وعمرو الحضر لم يتصف ذاك بالزيدية وهذا بالعمرية، بخلاف ما إذا كانت صفة، كقولك: هذا العالم في البلد فإنه يفيد أن لا عالم في البلد سواه لدلالته على اتصافه وحده بهذه الصفة، وأيضًا فإن الأعلام إنما توضع بإزاء ما تصح الإشارة إليه، وقد امتنعت هنا لاستدعائها ذا جهة تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وأيضًا فإن الاحتياج إلى وضع الأعلام إنما يكون عند تعدد الأفراد ليحصل بها الامتياز وهو محال لقيام الدلائل القاطعة على وحدانيته تعالى، فلم يضعوا له علمًا استغناء بذلك، وقد ردوا هذه الأدلة وضعفوها، أما الأول فبامتناع وقوع الضمير موصوفًا لما تقرر في محله من أن الضمائر لا توصف، ولا يوصف بها، وإنما أتى بهو في هذا الكلام تنبيهًا على أن المعبود الحقيقي في السموات والأرضين باستحقاق هو الله تعالى؛ إذ ليس المراد من هذا التركيب إلا إثبات أن المسمى فيهما بهذا الاسم المقدس هو لرب تعالى.
وأما الثاني: فبأن قولهم: العلم إنما يوضع لما تصح الإشارة إليه بمنزلة الإشارة، وبأنا لا نسلم اشتراط صحة الإشارة لاتفاقهم على صحة وضع الأعلام بإزاء المعاني وتصريحهم بأن سبحان علم للتسبيح، وغير ذلك مما لا تصح الإشارة إليه.
وأما الثالث: فبأن العلماء قد أجمعوا على صحة ذلك مع اتحاد الحقيقة وعدم التعدد، وهذا دليل على أن الصواب هو الأول، وذكر ما بقي من أدلة الفريقين وأجوبتها مفصلًا، والخلاف في أنا عربي أم مستعرب موكول إلى رسالتنا الموسومة بعقد الجمان في تفسير إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وليعلم أن القائلين بالاشتقاق والنقل اختلفوا في أصل المشتق منه المنقول هو عنه، فمنهم من جعله من "أله" بفتح "الهمزة" وكسر "اللام" بوزن علم، ونقل فيه خمسة معان:
الأول: بمعنى فزع.
الثاني: بمعنى سكن.
الثالث: بمعنى ضرع وخضع، وهذه الثلاثة تتعدى "بإلى"؛ لأن العباد يسكنون ويركنون ويفزعون ويلتجئون ويخضعون ويضرعون إليه سبحانه.
الرابع: بمعنى حار، لتحير العقول في كنه جلاله، وهذا يعدى نفي؛ لأنه تعالى مرد دهشتهم ومرجع حيرتهم.
والخامس: بمعنى اخرج؛ لأنه تعالى أخرج الممكنات بوجوب وجوده، واحتاج كل منهما في إيجاده ونيل مراده إلى فيض جوده، وهذا يتعدى بنفسه، ومنهم من جعله من لاه بفتح "اللام" وسكون "الألف" على وزن تاه، بمعنى: احتجب، من قولهم: لاهت العروس، أي: احتجبت لاحتجابه عن العقول بعظمة جلاله وقصورها عن إدراكه بسطوع جماله، ومنهم من جعله من وله، بفتح "الواو" وكسر "اللام" بوزن دله من اضطراب العقل وذهابه؛ لأنه تعالى كلت عن إدراكه ثواقب الإفهام، وعجزت من معرفته طوائر الأوهام، وجميع الأقوال تنحصر في مادتين:
الأولى: إله، سواء كانت "الهمزة" منقلبة عن "واو"، على أن أصله وله، أو أصلية بفتح "اللام" من أله، أو كسرها من إله، فأدخلت عليه "أل" المعرفة فصار الإله، فحذفت "الهمزة" الأصلية اعتباطًا.
وقيل: المحذوف "همزة" الوصل ثم نقلت الأصلية إلى موضوعها، فصارت كلها هي لمساواتها لها محلًا وصورة، فلما اجتمع "اللامان" أدغمت الأولى في الثانية، وفخمت للتعظيم والرفع، فصارت الله، وهذا يعزى إلى الكوفيين.
قال والدي رحمه الله: والقول بأن المحذوف "همزة" الوصل ضعيف؛ لأنهما وإن اتفقا صورة ومحلًا لكنهما اختلفا حكمًا؛ لأن الزائدة "همزة" وصل، والأصلية "همزة" قطع، ولو أقيمت هذه مقام تلك لبقيت الكلمة على قطعها الأصلي؛ لعدم الموجب لحذفها في الدرج، فالأولى الجزم بأن المحذوفة هي الأصلية، حذفت "لا" لعلة.
قلت: لا نسلم عدم الوجب؛ إذ يكفي منه قيامها مقامها، فتكتسب حكمها كاكتساب العوض حكم المعوض في كثير من الأماكن، والأولى في منع أن المحذوفة "همزة" الوصل أن ذلك يستلزم النقل والتعويض المخالفين للأصل دون ضرورة الثانية لاه، فألحقت به أداة التعريف فصار اللاه، فحذفت "الألف" فصار الله، فحصل الإدغام ثم فخم، وهو يعزى إلى البصريين، والفصيح تفخيم "اللام" عند الانتقال من الضمة، كقوله تعالى: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه}، أو الفتحة، كقوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا} وترقيقها عند الانتقال من الكسرة، كقوله تعالى: {بسم الله}، وبالله أو دخول "لام" الملك، كقوله تعالى: {لله ملك السموات والأرض} إذا تقرر هذا "فأل" عوض عن "الهمزة" على القول الثاني دون الأول في المادة الأولى دون الثانية، ومنع بعض العلماء كون "أل" عوضًا عن "همزة" إله.
قال: لأنه قد ورد لاه أبوك، بمعنى: الله أبوك، فلو كانت "أل" عوضًا لزم حذف العوض والمعوض، وهو غير جائز، وجعل بعضهم "أل" في الناس عوضًا عن "همزة" أناس، فمتى ثبتت "أل" حذفت "الهمزة"، وعكسه وقد منعوه أيضًا بما رواه المبرد عن المازني من قول الشاعر:
إن المنايا تطلعـــ ..... ــن على الأناس الآمنينا
وجوزه بعضهم للضرورة، واتفقوا على فتح "الهمزة" من هذا الاسم المقدس في النداء.
قال بعضهم: إنها لما تجردت عن التعريف صارت جزءً محققًا من مصحوبها فعوملت معاملة "الهمزات" الواقعة في أوائل الكلمات لا للتعريف، فقطعت مثلها.
قال والدي في رسالة الاستعاذة: وهذا إنما يقوي إذا قلنا: إن تعريف الأول باقٍ ولا أثر "لأل" في تعريفه، أو قلنا: إنه يزداد تعريف العلم بتعريف الأداة، ولا يبعد اجتماع معرفين واحد، إنما الممتنع اجتماع أداتي تعريف، فلا يتمشى الدليل، ويكون قطع "أل" هنا بخروجها عن أصلها كما يقطعون "همزة" الوصل في الفعل المبتدأ إذا جعلته علمًا فتعامل معاملة الأسماء الأعلام، وليس فيها "همزة" للوصل هنا لذلك، حيث جعلت جزءً من هذا العلم.
ومنها: "أل" الواردة في الكلام عوضًا عن "ياء" النسبة، فإنهم ذكروا أن "ال" في لفظ المجوس عوض عن "ياء" النسبة إلى الغالب من حال التعويض، فإنه يجعل العوض في غير مكان المعوض عنه، ثم صرحوا أنه لا يجوز الجمع بينهما، فلا يقال: المجوسي، و"ال" عوض بل معرفة حتى لا يلزم الجمع بين العوض ومعوضه.
ومنها: "ال" التي جعلت عوضًا عن الضمير في مثل قولهم: ضرب زيد الظهر والبطن، ومثل قولهم: مررت برجلٍا حسن الوجه مطلقًا، وشرط بعضهم أن يكون بالتنوين والرفع، ولا طائل تحته إذ بفقد الشرط لم يخرج عن المبحث، غايته أن يكون بوجوده عوضًا عن الضمير المحذوف، وبفقده عوضًا عن المستتر في الصفة لجواز الاستتار حينئذٍ، وعلى كلا التقديرين يصدق على "ال" أنها عوض عن الضمير، ومنه قوله تعالى: {فإن الجنة هي المأوى} فإن الأكثرين على أن المعنى ضرب زيد ظهر منه وبطن منه، ومررت برجلٍ حسن وجهه، فلم تتعرف الكلمة، ولكن تعلقها به، وأما من يقول: إنه بمعنى ظهر وبطنه فقيل: فيه نظر؛ لأنه حينئذٍ تصير لفظة "ال" مفيدة تعريفًا فلا يليق جعلها من هذا الصنف لتأثيرها لأنها نائبة عن معرفة، فتفيد ما تفيده.
قلت: نظرهم ضعيف؛ لأن "ال" على كلا الوجهين عوض عن الضمير وهو معرفة مطلقًا لا عن الاسم الظاهر ليتجه النظر.
الضرب الثاني: ما زيدت فيه لا لعوض، ويسميها الجميع زائدة، وهي أقسام.
القسم الأول: ما تدخل الأعلام ودخولها عليها إمَّا للمح صفة أصلية كالحارث، أو مصدرية كالفضل، وإمَّا لتوهم اشتراك فيزال بدخولها كما يزال بالإضافة، كقول الشاعر:
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ..... بأبيض ماضي الشفرتين يمان
وإطلاق السيرافي أن دخول الأداة على الأعلام للضرورة ضعيف؛ لأنها قد وردت في غير أماكن الاضطرار، كقوله:
بكيت من منزلة وذكر دارا ..... تعفت بعدام العمرو
لقيام الوزن مع الحذف والضرورة ما لا يستقيم الوزن بدونه، كما صرح به في الكتاب، كقوله:
بإعدام العمرو ومن أسيرها ..... حراس أبواب على قصورها
القسم الثاني: ما زيدت لإصلاح اللفظ وتحسين الكلام، وهي الداخلة على الذي وفروعه، فإنها ليست فيه للتعريف على القول الصحيح؛ لأن تعريف الموصول إمَّا وضعًا وإمَّا بالصلة، وهو الأصح، فدخول "ال" فيه ليس للتعريف خلافًا لمن خالف؛ لأن الصلة تخصص الموصول؛ إذ هي جملة من فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر، وكل منهما خاص، فجرى مجرى الصفة نهاية التخصيص.
فإن قيل: كيف تعريف الجملة وهي نكرة، ولذلك تفسر بالنكرة.
قلت: أجاب أبو البقاء بجوابين:
أحدهما: أن الجملة التي هي صلة لا تخلو من ضمير هو لموصول في المعنى والضمير معرفة فتخصصت الجملة به، والفعل في الجملة يلزمه الفاعل وهو معرفة، وكذلك المبتدأ فصارت الجملة مع الذي بمنزلة وصف معرف "بأل".
وثانيهما: أن الجملة ليست نكرة باعتبار نفسها، بل تقدر باسم نكرة، فإذا انضم إليها صار في حكم المركب، فالجملة كالمفرد النكرة، والذي نعت لما قبله، فحدث عند التركيب معنى لم يكن للمفرد على ما هو المألوف في المركبات.
القسم الثالث: ما دخلت الأعداد نحو: الثلاثة الأثواب، فإن الأصل فيه ثلاثة الأثواب؛ لأن التعريف إنما يدخل المضاف إليه، وينبغي أن يجرد المضاف عن التعريف سواء كان بأداة أو غيرها، وعند الكوفيين: إن ذلك قياس مطرد، وتمسكوا بأمور:
أحدها: ورود العدد المضاف معرفًا، كما مثل.
وثانيها: القياس على الحسن الوجه.
وثالثها: أنهما لما كانا لذات واحدة عرفوا الأول؛ لأنه محل التعريف، والثاني لأنه المقصود في الحقيقة بخلاف: غلام زيد، فإنهما متعددان لفظًا ومعنى، وأجيب عن الأول بأنه ضعيف لمخالفته ما ورد عن الفصحاء، فلا يعتد به، كقول ذي الرمة:
وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى ..... ثلاث الأثافي والديار البلاقع
وقول الفرزدق:
ما زال مذ عقدت يداه إزاره ..... فسما أدرك خمسة الأشبار
وعن الثاني بالفرق، وهو أن إضافة الحسن الوجه لفظية لا تفيد تعريفًا، وهذه معنوية تفيده فافترقا.
وعن الثالث: إن خاتم فضة متحدان، ولا يجوز تعريف المضاف اتفاقًا، فلو كان اتحادهما علة لجاز هنا أيضًا لامتناع تخلف المعلول عن علته التامة، وربما زيدت في جزئي المركب، فتقول: الخمسة العشر درهمًا، وقد زادوها في مميزه أيضًا، وقالوا: الخمسة العشر الدرهم، وكل ذلك عند البصريين محمول على الشذوذ.
القسم الرابع: ما زيدت في غير الأماكن المذكورة، فزيدت تارة في الحال كقراءة من قرأ: {ليخرجن الأعز منها الأذل}، مبنيًا للمفعول، فالأعز: مفعول لم يسم فاعله ليخرجن، والأذل: حال منه نكرة في المعنى للإهانة، وعنى بهما عبد الله بن أبي سلون رئيس المنافقين، أي: يخرج هو أذل من المدينة، ومنه قول الشاعر:
فأرسلها العراق ولم يذدها.
وقولهم: جاءوا الجم الغفير، أي: معتركة، وجمًا غفيرًا وتارة في التمييز، كقوله:
وطبت النفس يا زيد عن عمر،
إذ المراد: طبت نفسًا، فأدخل الأداة للضرورة، وتارة في الجملة الاسمية، كقوله:
من القوم الرسول الله منهم ..... لهم دانت رقاب بني معد
وبعضهم جعلها هنا بمعنى الذين، ويجعل الشذوذ كون صلة "الألف" و"اللام" جملة اسمية، ويجب أن تكون اسم فاعل أو مفعول كما تقرر في موضعه، وسهل بعضهم وقوع صلتها جملة فعلية إذا لصلة بها أسهل من الاسمية، واستحسن بعضهم الفعلية إذا كان الفعل مضارعًا لشدة مشابهته بالأسماء المشتقة.
قلت: السر في هذا كله أن "اللام" لما أشبهت المعرفة لفظًا والموصول معنى اقتضت الدخول على كلمة ذات جهتين تقتضي بإحداهما الدخول على الاسم، وبالأخرى الدخول على الجملة، وليس كذلك إلا المشتقات ولكون رعاية جانب المعنى أولى من رعاية جانب اللفظ سهل اتصالها بالفعلية وحسن اتصالها بالمضارع، ورأى بعض المتأخرين دخولها على المضارع قياسًا كقول الشاعر:
ما أنت بالحكم الترضي حكومته ..... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
وقول الآخر:
كاليروح ويغدو لاهيًا مرحًا ..... له الخل أهلا إن يعد خليلا
وقول الآخر:
ويستخرج اليربوع من نافقائه ..... ومن جحره بالشيحة اليقصع
وقول الآخر:
يقول الخنا وابغض العجم ناطقًا ..... إلى ربه صوت الحمار اليجدع
وتارة على الظرف، كقوله:
من لا يزال شاكرًا على المعه ..... فهو حر بعيشة ذات سعة
تنبيه: قد تكون "ال" الزائدة في بعض الكلمات لازمة لمدخولها، فلا يجوز فكها منه لغلبة الاستعمال معها نحو: النجم، والثريا، والصعق، واليسع؛ لأن الأعلام لا تغير إذ لو تغيرت لم تفد ما كانت تفيده من الغلبة، والله أعلم). [جواهر الأدب: 149 - 163 ]
شرح علاء الدين بن عليّ بن بدر الدين الإربلي (ت: ق8هـ)
الباب الثاني: في الحروف الثنائية
قال علاء الدين بن عليّ بن بدر الدين الإربلي (ت: ق8هـ): (الباب الثاني: في الحروف الثنائية وهي التي كل واحدٍ منها على حرفين من حروف الهجاء بالوضع، واعلم أن جماعة لم تتعرض لها وهم أكثر النحاة ومنها طائفة لم يتعرضوا لها عند عدهم الحروف ونبهوا عليها في أماكن أخرى، ونحن نأتي إن شاء الله تعالى على عدّ جميعها ونذكر في كل واحد منها ما يليق ذكره بهذا التعليق، ونستمد من الله سبحانه حسن التوفيق، فنقول: إن جملة الحروف الثنائية التي اسقصينا حصرها ثلاثون حرفًا منها ما لم تجر عادتهم بذكره بين الحروف وهي ستة: "النون" الشديدة للتأكيد، و"الألف" و"النون" في نحو: يفعلان الزيدان، وتفعلان المرأتان، و"الواو" و"النون" في: يفعلون الزيدون إذا أسندت إلى الظاهر المرتفع بعدهما بالفاعلية على لغة أكلوني البراغيث، أي: قول من يجعل هذه العلامة للدلالة على نوعية الفاعل "كتاء" التأنيث الدالة على تأنيثه، ولفظة "نا"، و"كم"، و"ها"، الملحقة "بأيا" ضمير النصب المنفصل على رأي سيبويه في جعل المردفات حروفًا دالة على التفريع فإذا طرحنا هذه الستة بقي جميع الحروف المتداولة بين النحاة أربعة وعشرون حرفًا، وهي على حالتين كما قدمناه، فإنها إمَّا أن تكون حروفًا محضة، أي: تقع في جملة مواقعها وقاطبة استعمالاتها إلا حروفًا، وإمَّا أن تكون مشتركة بين الاسمية والحرفية، ولا يجوز أن يشارك الحرف الثنائي شيئَا من الأفعال لما تقدم من أنه لم يوضع فعل على أقل من ثلاثة أحرف أصول، فلذلك وضعنا هذا الباب أيضًا على نوعين: ملازم لمحض الحرفية، وغير ملازم، والله الموفق).[جواهر الأدب: 85]
النوع الثاني: من الحروف الثنائية المشترك بين الحروف والأسماء
قال علاء الدين بن عليّ بن بدر الدين الإربلي (ت: ق8هـ): (النوع الثاني: من الحروف الثنائية المشترك بين الحروف والأسماء ولو على مذهب أحد عشر حرفًا وهي: "ال"، و"عن"، و"قد"، و"ما"، و"مذ"، و"ها"، و"الألف" و"النون" في تفعلان ويفعلان، و"الواو" و"النون" في تفعلون و يفعلون إذا رفعت هذه الأفعال ظاهرًا، و"نا"، و"كم"، و"هم"، من إيانا وإياكم وإياهم الضمير المنصوب المنفصل، ورتبنا للبحث عن كل واحد منها فصلًا بتوفيق الله تعالى وعونه).[جواهر الأدب: 149]
الفصل الأول: "ال"
قال علاء الدين بن عليّ بن بدر الدين الإربلي (ت: ق8هـ): (الفصل الأول: من هذا النوع، أعني الثنائي المشترك بين الحروف والأسماء.
"ال": قد اختلفت العلماء في أنها هل هي من المحضة أم من المشتركة بين الأسماء والحروف، فذهب كثير من المتقدمين منهم الرماني وابن السراج والفارسي، وتابعهم جماعة من المتأخرين منهم الأندلسي وابن الحاجب وابن مالك على أنها مشتركة، وهي في الأسماء المشتقة للوصف اسم، وإنما جعلناها في هذا النوع اسمًا اعتبارًا لمذهبهم، وذهب الأخفش والمازني وجماعة إلى أنها من المحضة اللازمة للحرفية، وأنها في الضارب ونحوه كما هي في الرجل ونحوه، واستدل كل من الفريقين بأدلة اقتصرت منها على تقرير ما خطر بالبال حال التحرير؛ فدليل من حكم بإسميتها في المشتقة أن مثل هذه لابد لها من مرفوع بها ضرورة قيامها بمحدث إمَّا ظاهرًا نحو: القائم زيد، أو مضمرًا، ولا يكون إلا مستكنًا، حتى لو أتى بمثله كان تأكيدًا له لا نفسه، وإذا تعين ثبوت الضمير فلابد له من مرجع، والمرجع لا يكون إلا اسمًا، وليس في القائم زيد، ونحوه مرجع سوى "ال"، فتعين كونها اسمًا، وقد أورد عليه إن كان مرادكم من كون المرجع إليه أسماء أن يكون عند التلفظ أو معلقًا، فإن عنيتم الأول منعناه، وإن عنيتم الثاني فمسلم، لكن الانحصار في ال ممنوع بجواز كونه صفة موصوف محذوف لدلالة الصفة عليه، أي: الرجل القائم، فيعود الضمير إليه أو يعود إلى لفظ الموصول المؤول به "ال"، أي: الذي لا إلى "أل" كما أن الضمير في قولهم: من صدق كان خيرًا له، ومن كذب كان شرًا له، عائدٌ إلى المصدر المفهوم من صفة الفعل، وإن لم يذكر لفظًا، ومنه قوله تعالى: {أعدلوا هو أقرب للتقوى}، ولا يقال: إذا كانت بمعنى الذي، والذي اسم يجب أن تكون "أل" اسمًا أيضًا؛ لأنا نقول: لا يلزم من تساوي كلمتين في المعنى تساويهما في النوع؛ لأن من التبعيضية مساوية في المعنى لبعض، وهيهات مساوية لبعد، ولم يلزم منها اسمية الأول وفعلية الثاني، ورد ردهم بأن الحكم بالإسمية لا يستلزم محذورًا، والأصل عدم التقرير والتأويل ودليل من قال أن "أل" من الحروف المحضة أنها لو كانت اسمًا لما جاز حذف "همزتها"، وذلك لأن الأسماء المتصرفة لا يكون وضعها على أقل من ثلاثة أحرف، حرف يبتدأ به، ولا يكون إلا متحركًا اضطرارًا، وحرف يوقف عليه ويسكن اختيارًا، وحرف يفصل بينهما لتنافيهما بالحركة والسكون.
فإن قيل: المتوسط إن تحرك نافى الثاني، وإلا نافى الأول، فالمنافاة باقية.
أجيب بأن المتوسط طبعه يقتضي أحدهما لا على التعيين، فلا منافاة لترتبها هنا على اقتضائه أحدهما بالطبع، وحيث كان الاعتداد هو الوضع على ثلاثة أحرف فوضع الكلمة على أقل منها نقص، ولذلك يبنى ما هو على حرف أو حرفين.
ويقال: إن وضعها وضع الحروف فلو كانت اسمًا مع أنها ثنائية، وحذفت "همزتها" كان إجحافًا، مع أنهم زادوا "أل" في الذي، وهي ثلاثية لتحسين اللفظ وتقويته في الاسمية، وهذا دليل على بعد حذفها من "أل" لو كانت اسمًا، وأجيب عن دليلهم بوجهين:
أحدهما: أن "أل" لما كانت حال حرفيتها كما هي حال اسميتها من غير تغيير سهل الحذف حال اسميتها كما سهل حال حرفيتها.
وثانيهما: أن من الأسماء المعربة المتصرفة ما يكون بعد الحذف على حرف واحد نحو: "فو"، و"ذو"، فإنهما على حرفين، وإذا لقي آخرهما ساكن آخر من كلمة بعدها تحذف "الواو" منهما لالتقاء الساكنين، وتبقى كل منهما على حرف واحد، وإذا ثبت جواز كون الاسم المعرب المتصرف على حرف واحد فلم لا يجوز كون الاسم المبني الغير المتصرف على حرف أو حرفين، وليعرف أن القائلين بحرفية "ال" اختلفوا في أنها مع لزومها الحرفية هل هي من الموصولات الحرفية أم لا.
والفرق بين قول من يقول: إنها من الموصولات الإسمية كما هو الصحيح، وقول من يقول: إنها من الموصولات الحرفية أنها إذا كانت اسمًا كانت مقدرة بالذي أو أحد فروعها الخمسة على ما يقتضيه الضمير العائد، ويكون ما بعدها صلة وإن كانت حرفًا موصولًا كانت مع ما بعدها بمنزلة اسم واحد، ويتعين على الأول أن يكون صلته اسم فاعل أو مفعول، واختلفوا في جواز وقوع الصفة المشبهة صلة، فأجازه جماعة منهم الشيخ جمال الدين ابن مالك، وقد ورد دخوله على المضارع كما سيأتي، وجعله الأكثرون من الشذوذ، وابن مالك جعله من القياسيات لقوة المشابهة بين المضارع واسم الفاعل.
واعلم أنهم اختلفوا في هذه الكلمة على ثلاثة مذاهب:
أحدها: مذهب جمهور النحاة، أنها "اللام" وحدها، واستدلوا عليه بأن التعريف ضد التنكير، وهو بحرف واحد، وهو التنوين، فذلك التعريف حملًا لأحد النقيضين على الآخر بأنه لو كانت أداة التعريف مركبة لما أفادته مع حذف "الهمزة" في الدرج لزوال التركيب بزوال جزئه، وإنما بنيت لأنها شديدة الامتزاج بالكلمة، ولهذا أدغمت في أربعة عشر حرفًا من حروف الهجاء، وإنما ألحقت بأول الكلمة، إمَّا للإهمال بحال التعريف أو لأن آخر الكلمة محل التغيير.
قلت: أو لأنه لما كان ضد التنكير وهو يلحق الآخر ألحق بالأول تحقيقًا للضدية، وإنما أجلبوا لها "الهمزة" توصلًا إلى النطق، وإنما كانت ساكنة لأنها لو كانت مفتوحة لالتبست "بلام" الابتداء، ولو كسرت لالتبست بالجارة، ولو رفعت لكانت مستثقلة مع كثرة الاستعمال الذي هو مطية التخفيف.
وقال والدي رحمه الله في رسالة الاستعاذة، وهذا لا يخلو من ضعف؛ لأن وضعهم الحرف في أول الكلمة ساكنًا مع كثرة الاستعمال بعيد، وأما المذهبان الآخران فقد اتفقا على أنها ثنائية الوضع وهو الصواب، ولهذا جعلناها من هذا الباب، ولكن اختلفا في "الهمزة"، فذهب سيبويه إلى أنها للوصل لثبوتها في الابتداء وسقوطها في الدرج، وذهب الخليل إلى أنها للقطع "كهمزة" "أم" "واو" وحذفها في الدرج للتخفيف، واستدل هذا بأنها لو كانت للوصل لكسرت كسائر "همزاته" الداخلة على الأسماء، ولما قطعت في قوله تعالى: {قل آلذكرين حرم أم الأنثيين}، ورد الأول بأن الفتحة للخفة.
والثاني: بأنه إنما قطعت ليحصل الفرق بين الخبر والاستفهام، وفيه نظر.
واعلم أن الشيخ جمال الدين بن مالك لم يذكر في "أل" سوى المذهبين الأخيرين وزعم أن الخليل وسيبويه سمياها "أل" وقالا: إنها حرف ثنائي، وأنكر على من سماها "الألف" و"اللام" وخطأه، وقال: كما لا يجوز التعبير عن هل بالها و"اللام" بل بهل، فكذلك هنا، وإنكاره على من سماها "باللام" فقط أشد.
وقال ما معناه: أنه لما رأى المتأخرون أن عند سيبويه "همزتها" للوصل تجرؤًا على إسقاط "الهمزة" وعبروا عنها "باللام" وحدها، ورجح مذهب الخليل وقال: هو الصواب، وعلى تقدير أنها للوصل لا يجوز إطراحها أيضًا لزيادتها، كما أن "همزة" استمع مقطوع بزيادتها وتسمى الكلمة بوجودها خماسية، ولذلك يفتح حرف المضارعة اعتبارًا لوجودها، ولا يجوز إسقاطها لكونها زائدة، فكذلك في "أل".
قال في الأغراب: وأنا أقول: قد نقلوا في الكتب المعتبر أن أحد المذاهب يقول في أن "اللام" لا غير، وهو مخالف لما نقله الشيخ جمال الدين بن مالك، بل نقل عن ابن كيسان أنه مذهب جمهور النحاة، وحينئذٍ فمذاهب النحاة ثلاثة، ولا وجه للإنكار على من عبر عنها "باللام" وحدها، وقد كثر ذلك وشاع في كتب الأئمة المحققين رحمهم، ولكن الأولى التعبير عنها "بأل" ؛ لأن الإمامين الخليل وسيبويه قد سمياها به فيجب اتباعهما.
قلت: وجوب الاتباع يستلزم وجوب التعبير عنه "بأل" لا ترجيحه إذا تقرر هذا، "فأل" إمَّا مؤثرة في مدخولها أو غير مؤثرة، فهي إذن صنفان.
الصنف الأول: "أل" المؤثرة والمراد بالتأثير التأثير المعنوي، وهو هنا التعريف بمعنى أنها تخرج المعرف بها من شياع التنكير إلى حصر التعريف وتعيينه، فإذا قصد بها ذلك فإما أن يقصد بها تعريف الماهية من حيث هي مع قطع النظر عن الإفراد نحو: البر خير من الشعير، والرجل خير من المرأة، وتسمى أداة الحقيقة والماهية، ويسميها كثير الجنسية وهو بعيد عن التحصيل لملاحظة الإفراد في الجنسية، والمفروض عدمها، وإمَّا أن يقصد التعريف مع ملاحظة الإفراد وهي الجنسية نحو: الدينار خيرٌ من الدرهم، والذهب خيرٌ من الفضة، وإمَّا أن يقصد تحريف الإفراد، ولا يخلو إمَّا أن يقصد تعريف جميع الإفراد أو بعضها، فإن قصد الأول فإما أن يقصد ذوات الإفراد وتسمى استغراقية، كقوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر}؛ بدليل صحة الاستثناء أو صفاتها، وتسمى أحاطية، نحو: زيد كل الرجل مدحًا، أي: الجامع لصفات الرجولية وخصائصها، وعمرو كل اللئيم ذمًا، أي: المتصف بسائر خصال اللؤم، وكثير لم يفرق بينهما، بل سموها استغراقية مطلقًا، وقسمها بعضهم إلى حقيقي، كقوله تعالى: {عالم الغيب والشهادة}، وعرفي نحو: جمع الأمير الرعية.
قال بعضهم: ولا بأس بتسمية هذه الثلاثة طبيعية، واعلم أنه إذا اعتبر تعدد مدلولها جاز أن يوصف مدخولها بالمفرد نظرًا إلى لفظه، وبالجمع نظرًا إلى معناه، ولا يلزم الجمع بين متنافيين الأداة، ولفظ المعرف لتجرده حينئذٍ عن معنى الوحدة، وإليه أشار أبو الحسن رضي الله عنه بقولك: «أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض»، ومنه قوله عز وجل: {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء}، وهذا مذهب أبي الحسن الأخفش، وإن منعه الجمهور.
واستغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع؛ بدليل صحة الإضراب في: لا رجال، وامتناعه في: لا رجل، كما تحقق في "لا" الجنسية، وإن قصد تعريف بعض الإفراد تسمى عهدية لقصد بعض الإفراد دون بعض، وهي على ثلاثة: اضرب ذكري وحسي وذهني؛ لأنها إمَّا أن تعرف ما سبق له ذكر في الكلام، ثم أعيد معرفًا بها، سواء سبق نكرة، كقوله تعالى: {وأرسلنا إلى فرعون رسولًا فعصى فرعون الرسول}. أو معرفة إمَّا "باللام" أيضًا، كقولك: جاءني الرجل فأوصيت الرجل بكذا، أو بغيرها كقولك: واصلني من قطعني، فأكرمت المواصل، بهذا يعلم ضعف قول بعضهم الذكرى ما سبق في الكلام نكرة، ثم أعيد وحكي بالأداة، وإمَّا أن تعرف من حضر مجلس الخطاب فيقع تارة موقع المضمرة إذا كان مدخولها هو المخاطب، كقولك: المولى يقول "ذا"، أي: أنت، وتارة موقع اسم الإشارة إذا كان غيره، كقولك لمخاطبك: الرجل يقول كذا مريدًا تعريف ثالث، أي: هذا، ومنه يعلم أيضًا ضعف قول من قال: إن المفيد للعهد الحسي ما تقع موقع اسم الإشارة، وقال بعضهم: لا تكون للعهد الحسي إلا في أربعة مواضع:
أحدها: بعد "إذا" المفاجأة نحو: خرجت "فإذا" السبع.
وثانيها: بعد أسماء الإشارة نحو: "هذا" الرجل.
وثالثها: بعد "أي" في النداء نحو: يا "أيها" الرجل.
ورابعها: في لفظ الآن، والساعة، وإمَّا أن تعرف ما هو مركوز وثابت في ذهن المخاطب فيشير المتكلم بها إلى ذلك الواحد من حيث هو معهود للمخاطب فيطلق الحقيقة على الواحد عند انتصاب القرينة كإطلاق الكلي الطبيعي على جزئي من جزئياته، كقول أحد القادمين للآخر: ادخل السوق واشتر اللحم، أراد من السوق واللحم، فردًا واحدًا من جهة أن المخاطب يعهده، والقرينة اشتمال البلد على السوق، واشتماله على اللحم.
ومنه قوله تعالى:{أخاف أن يأكله الذئب}، ومثل هذا وإن كان لفظه لفظ المعارف فيجري عليه أحكامها من وقوعه مبتدأ، وذا حال ووصفًا للمعرفة وموصوفًا بها، لكنه في قوة النكرة فيعامل معاملتها فيوصف بالجمل، كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني.
وإنما جعلناه في قوة النكرة ولم نحكم بأنه نكرة محضة لما تحقق في بابه أن النكرة هي فرد من الحقيقة غير معين، وهذا معناه نفس الحقيقة، وإنما تستفاد البعضية من القرينة كما استفيدت بعضية السوق واللحم من قرينة اشتمال البلد على السوق، والسوق على اللحم، وهذا أحسن ما تقرر وأبين ما تحرر، ومما قررناه بعلم ضعف قول أبي الحسن بن بابشاذ أن تعريف الجنس لما ثبت في الأذهان، وتعريف العهد لما ثبت في الأعيان.
الصنف الثاني: "أل" الغير المؤثرة، وقد اصطلح بعضهم على تسميتها زائدة، وإذ قد تكون عوضًا عن محذوف من الكلمة، وقد لا تكون فهي ضربان.
الضرب الأول: ما تكون فيه عوضًا عن شيء، وذلك في كلمات.
منها: لفظ الآن، قالوا: إن "أل" فيها ليست معرفة، وتدل على الزمن الحاضر بمعنى الساعة، وقيل: معناها الحد المشترك بين زماني الماضي والمستقبل، وتعني بها النحاة الزمان الذي يقع فيه ابتداء كلام المتكلم، ولو طالت مدته، كما يقال: الساعة أفعل كذا، وإن امتدّ زمان فعله، هذا هو المفهوم من كلام العرب، ومنه قول علي رضي الله عنه وقد سئل عن خضاب اللحى: «أليس سنة مأمورًا بها؟، فقال كان ذلك والإسلام قل، فأما الآن وقد اتسع نطاق الإسلام فامرء أو ما شاء»، أي: اتركوا كل شخص يفعل ما شاء من خضاب أو تركه، فلم يرد أن هذه الإباحة تختص بتلك الساعة دون غيرها، واختلف في أصلها، فقال الفراء: هي فعل ماض بمعنى قرب، فنقل إلى الاسمية وأدخلت عليه الأداة، كما قالوا في القيل والقال، وعند البصريين أصلها "أو" "أن" فحذفت "الألف" الساكنة اعتباطًا فبقيت ثلاثية وسطها "واو" متحرك قبله فتحة، فقلبت "الفاء" على ما تقرر في بابه ثم بنيت وحركت لالتقاء الساكنين، وفتحت للخفة، واختلفوا على ما تقرر في سبب البناء.
فقال الزجاج: تضمنها معنى الإشارة، فإن قولك: الآن يكون كذا معناه هذه الساعة يكون كذا وتضمن معنى الإشارة يوجب البناء.
قال الرضي: وفيه نظر؛ إذ جميع الأعلام، هكذا متضمنه معنى الإشارة مع إعرابها.
وقال المبرد: إنها حيث وضعت كجزء من الكلمة في أول وضعها، ولم تستعمل نكرة ثم عرفت كسائر المعروفات، وقد لامت طريقة واحدة ولم تتغير أشبهت الحروف في عدم التغير، ولزوم طريقة واحدة فبنيت لذلك.
وفي الأغراب: وفيه نظر؛ لأن هذه المشابهة ليست مما يوجب البناء؛ لأنهم ذكرا أن مشابهة الاسم للحرف والموجبة للبناء، تجب أن تكون بخاصة من خواص الحرف، إمَّا اللفظية وهي وضعه على حرف أو حرفين "كياء" الضمير وهائه، أو المعنوية: وهي إمَّا بالافتقار "اللام" للكلمة كالموصولات، أو بأداء معناه معنى من الإنشاءات وضعًا، كأدوات الاستفهام أو بتضمنه كأمس المتضمن معنى "أل"، أما "أن" الملازمة لطريقة واحدة توجب البناء فلا، وإلا لوجب بناء كثير من الأسماء المعربة كالملازمة للمصدرية والحالية، وقال أبو علي: لما كانت "أل" فيه قد بنيت الكلمة من أحد المعارف المشهورة حكمنا بأن تعريفها "بأل" مقدرة لأنها هي الأداة الموضوعة للتعريف غالبًا فتضمنت معنى الحرف، فبنيت كأمس، وعلى هذا لا تكون "أل" عوضًا عن أداة التعريف؛ لأنها متقدمة عليها، فكيف تكون عوضًا عنها، اللهم إلا أن يقال: لما كانت عوضًا عنها صورة، وكانت تلك محذوفة ولا تظهر، ويمكن تصور أن الفائدة التي كانت مستفادة من تلك، أعني: التعريف هي موجودة مع هذه، جاز أن ينسب إليها البدلية على سبيل التجوز.
ومنها: لفظة الجلالة، أي: الله، اختلف في أن مرتجل أم مشتق، فذهب الجمهور إلى أنه علم مرتجل للرب سبحانه وتعالى متمسكين بأدلة، ونحن نذكر ما خطر بالبال منها، وهو أنه تعالى نفى المسمى له بقوله عز من قائل: {هل تعلم له سميًا} لما تقرر أن الاستفهام الإنكاري يفيد النفي وهو يقتضي الارتجال لعدم امتناع إطلاق المشتقات على مسميات متعددة حقيقة كان، كإطلاق العالم على زيد وعمرو، أو مجازًا كقوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} أطلق سبحانه صفة الخالقية على غيره تجوزًا، ويؤيده ما نص عليه الخليل رحمه الله من أطباق الناس واتفاقهم على هذا، وأن الاسم مختص بالذات المتعالية لم يطلق على غيرها بنوع من الأنواع، وأما إطلاق إله على غيرها فإمَّا منكرًا، كقوله تعالى: {اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة}، وإمَّا مضافًا، كقوله تعالى: {من فعل هذا بآلهتنا}، وقولهم: إله الدار، فحكمه حكم الرب، وهذا يقوي ما ادعيناه، وأيضًا لو كان مشتقًا لما حصل التوحيد بكلمة الشهادة فقط؛ لأن المعنى حينئذٍ لا إله إلا الموصوف بهذه الصفة، وهذا عام لا يقتضي الحصر والوحدة، فيحتاج إلى أمر خارج يفيدهما، وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء من إفادة كلمة الشهادة، التوحيد المقتضي لنفي الشريك من غير احتياج إلى شيء آخر، فيجب بهذين الدليلين القول بارتجاله ليكون علمًا على ذات معينة متحدة لا تقبل الشركة، والتعد بوجه فيحصل الحصر والتوحيد كما يحصل حصر الكريم في قولك: لا كريم إلا زيد في زيد لكونه علمًا بخلاف: لا قائم إلا العالم، فإن العالم يجوز أن يتصف به كل من هو عالم، فلا يحصل التعيين الوحداني، فتجزم بديهة العقل في الأول بأن صفة الكريم ثابتة لزيد وحده لا شريك له فيها، وفي الثاني: لا تجزم به إلا بعد إثبات أن لا عالم سواه، وعلى هذا لا تكون "أل" فيه معرفة؛ لأن الأسماء المرتجلة موضوعة أعلامًا لا تحتاج إلى أداة تعريف، وذهب الباقون إلى أنه مشتق منقول إلى العلمية مستدلين بأن الله في قوله تعالى: {وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} صفة لهو، وإلا لزم خلو الكلام عن الفائدة؛ لأن قولك: هذا زيد في البلد، وهذا عمرو في الحضر، غير مفيد؛ إذ زيد زيد في البلد وغيره، وعمرو عمرو في السفر والحضر لأن ذلك يقتضي أن الزيدية ثابتة له في البلد فقط، وكذا العمرية ثابتة له في الحضر دون السفر، حتى لو فارق زيد البلد وعمرو الحضر لم يتصف ذاك بالزيدية وهذا بالعمرية، بخلاف ما إذا كانت صفة، كقولك: هذا العالم في البلد فإنه يفيد أن لا عالم في البلد سواه لدلالته على اتصافه وحده بهذه الصفة، وأيضًا فإن الأعلام إنما توضع بإزاء ما تصح الإشارة إليه، وقد امتنعت هنا لاستدعائها ذا جهة تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وأيضًا فإن الاحتياج إلى وضع الأعلام إنما يكون عند تعدد الأفراد ليحصل بها الامتياز وهو محال لقيام الدلائل القاطعة على وحدانيته تعالى، فلم يضعوا له علمًا استغناء بذلك، وقد ردوا هذه الأدلة وضعفوها، أما الأول فبامتناع وقوع الضمير موصوفًا لما تقرر في محله من أن الضمائر لا توصف، ولا يوصف بها، وإنما أتى بهو في هذا الكلام تنبيهًا على أن المعبود الحقيقي في السموات والأرضين باستحقاق هو الله تعالى؛ إذ ليس المراد من هذا التركيب إلا إثبات أن المسمى فيهما بهذا الاسم المقدس هو لرب تعالى.
وأما الثاني: فبأن قولهم: العلم إنما يوضع لما تصح الإشارة إليه بمنزلة الإشارة، وبأنا لا نسلم اشتراط صحة الإشارة لاتفاقهم على صحة وضع الأعلام بإزاء المعاني وتصريحهم بأن سبحان علم للتسبيح، وغير ذلك مما لا تصح الإشارة إليه.
وأما الثالث: فبأن العلماء قد أجمعوا على صحة ذلك مع اتحاد الحقيقة وعدم التعدد، وهذا دليل على أن الصواب هو الأول، وذكر ما بقي من أدلة الفريقين وأجوبتها مفصلًا، والخلاف في أنا عربي أم مستعرب موكول إلى رسالتنا الموسومة بعقد الجمان في تفسير إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وليعلم أن القائلين بالاشتقاق والنقل اختلفوا في أصل المشتق منه المنقول هو عنه، فمنهم من جعله من "أله" بفتح "الهمزة" وكسر "اللام" بوزن علم، ونقل فيه خمسة معان:
الأول: بمعنى فزع.
الثاني: بمعنى سكن.
الثالث: بمعنى ضرع وخضع، وهذه الثلاثة تتعدى "بإلى"؛ لأن العباد يسكنون ويركنون ويفزعون ويلتجئون ويخضعون ويضرعون إليه سبحانه.
الرابع: بمعنى حار، لتحير العقول في كنه جلاله، وهذا يعدى نفي؛ لأنه تعالى مرد دهشتهم ومرجع حيرتهم.
والخامس: بمعنى اخرج؛ لأنه تعالى أخرج الممكنات بوجوب وجوده، واحتاج كل منهما في إيجاده ونيل مراده إلى فيض جوده، وهذا يتعدى بنفسه، ومنهم من جعله من لاه بفتح "اللام" وسكون "الألف" على وزن تاه، بمعنى: احتجب، من قولهم: لاهت العروس، أي: احتجبت لاحتجابه عن العقول بعظمة جلاله وقصورها عن إدراكه بسطوع جماله، ومنهم من جعله من وله، بفتح "الواو" وكسر "اللام" بوزن دله من اضطراب العقل وذهابه؛ لأنه تعالى كلت عن إدراكه ثواقب الإفهام، وعجزت من معرفته طوائر الأوهام، وجميع الأقوال تنحصر في مادتين:
الأولى: إله، سواء كانت "الهمزة" منقلبة عن "واو"، على أن أصله وله، أو أصلية بفتح "اللام" من أله، أو كسرها من إله، فأدخلت عليه "أل" المعرفة فصار الإله، فحذفت "الهمزة" الأصلية اعتباطًا.
وقيل: المحذوف "همزة" الوصل ثم نقلت الأصلية إلى موضوعها، فصارت كلها هي لمساواتها لها محلًا وصورة، فلما اجتمع "اللامان" أدغمت الأولى في الثانية، وفخمت للتعظيم والرفع، فصارت الله، وهذا يعزى إلى الكوفيين.
قال والدي رحمه الله: والقول بأن المحذوف "همزة" الوصل ضعيف؛ لأنهما وإن اتفقا صورة ومحلًا لكنهما اختلفا حكمًا؛ لأن الزائدة "همزة" وصل، والأصلية "همزة" قطع، ولو أقيمت هذه مقام تلك لبقيت الكلمة على قطعها الأصلي؛ لعدم الموجب لحذفها في الدرج، فالأولى الجزم بأن المحذوفة هي الأصلية، حذفت "لا" لعلة.
قلت: لا نسلم عدم الوجب؛ إذ يكفي منه قيامها مقامها، فتكتسب حكمها كاكتساب العوض حكم المعوض في كثير من الأماكن، والأولى في منع أن المحذوفة "همزة" الوصل أن ذلك يستلزم النقل والتعويض المخالفين للأصل دون ضرورة الثانية لاه، فألحقت به أداة التعريف فصار اللاه، فحذفت "الألف" فصار الله، فحصل الإدغام ثم فخم، وهو يعزى إلى البصريين، والفصيح تفخيم "اللام" عند الانتقال من الضمة، كقوله تعالى: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه}، أو الفتحة، كقوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا} وترقيقها عند الانتقال من الكسرة، كقوله تعالى: {بسم الله}، وبالله أو دخول "لام" الملك، كقوله تعالى: {لله ملك السموات والأرض} إذا تقرر هذا "فأل" عوض عن "الهمزة" على القول الثاني دون الأول في المادة الأولى دون الثانية، ومنع بعض العلماء كون "أل" عوضًا عن "همزة" إله.
قال: لأنه قد ورد لاه أبوك، بمعنى: الله أبوك، فلو كانت "أل" عوضًا لزم حذف العوض والمعوض، وهو غير جائز، وجعل بعضهم "أل" في الناس عوضًا عن "همزة" أناس، فمتى ثبتت "أل" حذفت "الهمزة"، وعكسه وقد منعوه أيضًا بما رواه المبرد عن المازني من قول الشاعر:
إن المنايا تطلعـــ ..... ــن على الأناس الآمنينا
وجوزه بعضهم للضرورة، واتفقوا على فتح "الهمزة" من هذا الاسم المقدس في النداء.
قال بعضهم: إنها لما تجردت عن التعريف صارت جزءً محققًا من مصحوبها فعوملت معاملة "الهمزات" الواقعة في أوائل الكلمات لا للتعريف، فقطعت مثلها.
قال والدي في رسالة الاستعاذة: وهذا إنما يقوي إذا قلنا: إن تعريف الأول باقٍ ولا أثر "لأل" في تعريفه، أو قلنا: إنه يزداد تعريف العلم بتعريف الأداة، ولا يبعد اجتماع معرفين واحد، إنما الممتنع اجتماع أداتي تعريف، فلا يتمشى الدليل، ويكون قطع "أل" هنا بخروجها عن أصلها كما يقطعون "همزة" الوصل في الفعل المبتدأ إذا جعلته علمًا فتعامل معاملة الأسماء الأعلام، وليس فيها "همزة" للوصل هنا لذلك، حيث جعلت جزءً من هذا العلم.
ومنها: "أل" الواردة في الكلام عوضًا عن "ياء" النسبة، فإنهم ذكروا أن "ال" في لفظ المجوس عوض عن "ياء" النسبة إلى الغالب من حال التعويض، فإنه يجعل العوض في غير مكان المعوض عنه، ثم صرحوا أنه لا يجوز الجمع بينهما، فلا يقال: المجوسي، و"ال" عوض بل معرفة حتى لا يلزم الجمع بين العوض ومعوضه.
ومنها: "ال" التي جعلت عوضًا عن الضمير في مثل قولهم: ضرب زيد الظهر والبطن، ومثل قولهم: مررت برجلٍا حسن الوجه مطلقًا، وشرط بعضهم أن يكون بالتنوين والرفع، ولا طائل تحته إذ بفقد الشرط لم يخرج عن المبحث، غايته أن يكون بوجوده عوضًا عن الضمير المحذوف، وبفقده عوضًا عن المستتر في الصفة لجواز الاستتار حينئذٍ، وعلى كلا التقديرين يصدق على "ال" أنها عوض عن الضمير، ومنه قوله تعالى: {فإن الجنة هي المأوى} فإن الأكثرين على أن المعنى ضرب زيد ظهر منه وبطن منه، ومررت برجلٍ حسن وجهه، فلم تتعرف الكلمة، ولكن تعلقها به، وأما من يقول: إنه بمعنى ظهر وبطنه فقيل: فيه نظر؛ لأنه حينئذٍ تصير لفظة "ال" مفيدة تعريفًا فلا يليق جعلها من هذا الصنف لتأثيرها لأنها نائبة عن معرفة، فتفيد ما تفيده.
قلت: نظرهم ضعيف؛ لأن "ال" على كلا الوجهين عوض عن الضمير وهو معرفة مطلقًا لا عن الاسم الظاهر ليتجه النظر.
الضرب الثاني: ما زيدت فيه لا لعوض، ويسميها الجميع زائدة، وهي أقسام.
القسم الأول: ما تدخل الأعلام ودخولها عليها إمَّا للمح صفة أصلية كالحارث، أو مصدرية كالفضل، وإمَّا لتوهم اشتراك فيزال بدخولها كما يزال بالإضافة، كقول الشاعر:
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ..... بأبيض ماضي الشفرتين يمان
وإطلاق السيرافي أن دخول الأداة على الأعلام للضرورة ضعيف؛ لأنها قد وردت في غير أماكن الاضطرار، كقوله:
بكيت من منزلة وذكر دارا ..... تعفت بعدام العمرو
لقيام الوزن مع الحذف والضرورة ما لا يستقيم الوزن بدونه، كما صرح به في الكتاب، كقوله:
بإعدام العمرو ومن أسيرها ..... حراس أبواب على قصورها
القسم الثاني: ما زيدت لإصلاح اللفظ وتحسين الكلام، وهي الداخلة على الذي وفروعه، فإنها ليست فيه للتعريف على القول الصحيح؛ لأن تعريف الموصول إمَّا وضعًا وإمَّا بالصلة، وهو الأصح، فدخول "ال" فيه ليس للتعريف خلافًا لمن خالف؛ لأن الصلة تخصص الموصول؛ إذ هي جملة من فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر، وكل منهما خاص، فجرى مجرى الصفة نهاية التخصيص.
فإن قيل: كيف تعريف الجملة وهي نكرة، ولذلك تفسر بالنكرة.
قلت: أجاب أبو البقاء بجوابين:
أحدهما: أن الجملة التي هي صلة لا تخلو من ضمير هو لموصول في المعنى والضمير معرفة فتخصصت الجملة به، والفعل في الجملة يلزمه الفاعل وهو معرفة، وكذلك المبتدأ فصارت الجملة مع الذي بمنزلة وصف معرف "بأل".
وثانيهما: أن الجملة ليست نكرة باعتبار نفسها، بل تقدر باسم نكرة، فإذا انضم إليها صار في حكم المركب، فالجملة كالمفرد النكرة، والذي نعت لما قبله، فحدث عند التركيب معنى لم يكن للمفرد على ما هو المألوف في المركبات.
القسم الثالث: ما دخلت الأعداد نحو: الثلاثة الأثواب، فإن الأصل فيه ثلاثة الأثواب؛ لأن التعريف إنما يدخل المضاف إليه، وينبغي أن يجرد المضاف عن التعريف سواء كان بأداة أو غيرها، وعند الكوفيين: إن ذلك قياس مطرد، وتمسكوا بأمور:
أحدها: ورود العدد المضاف معرفًا، كما مثل.
وثانيها: القياس على الحسن الوجه.
وثالثها: أنهما لما كانا لذات واحدة عرفوا الأول؛ لأنه محل التعريف، والثاني لأنه المقصود في الحقيقة بخلاف: غلام زيد، فإنهما متعددان لفظًا ومعنى، وأجيب عن الأول بأنه ضعيف لمخالفته ما ورد عن الفصحاء، فلا يعتد به، كقول ذي الرمة:
وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى ..... ثلاث الأثافي والديار البلاقع
وقول الفرزدق:
ما زال مذ عقدت يداه إزاره ..... فسما أدرك خمسة الأشبار
وعن الثاني بالفرق، وهو أن إضافة الحسن الوجه لفظية لا تفيد تعريفًا، وهذه معنوية تفيده فافترقا.
وعن الثالث: إن خاتم فضة متحدان، ولا يجوز تعريف المضاف اتفاقًا، فلو كان اتحادهما علة لجاز هنا أيضًا لامتناع تخلف المعلول عن علته التامة، وربما زيدت في جزئي المركب، فتقول: الخمسة العشر درهمًا، وقد زادوها في مميزه أيضًا، وقالوا: الخمسة العشر الدرهم، وكل ذلك عند البصريين محمول على الشذوذ.
القسم الرابع: ما زيدت في غير الأماكن المذكورة، فزيدت تارة في الحال كقراءة من قرأ: {ليخرجن الأعز منها الأذل}، مبنيًا للمفعول، فالأعز: مفعول لم يسم فاعله ليخرجن، والأذل: حال منه نكرة في المعنى للإهانة، وعنى بهما عبد الله بن أبي سلون رئيس المنافقين، أي: يخرج هو أذل من المدينة، ومنه قول الشاعر:
فأرسلها العراق ولم يذدها.
وقولهم: جاءوا الجم الغفير، أي: معتركة، وجمًا غفيرًا وتارة في التمييز، كقوله:
وطبت النفس يا زيد عن عمر،
إذ المراد: طبت نفسًا، فأدخل الأداة للضرورة، وتارة في الجملة الاسمية، كقوله:
من القوم الرسول الله منهم ..... لهم دانت رقاب بني معد
وبعضهم جعلها هنا بمعنى الذين، ويجعل الشذوذ كون صلة "الألف" و"اللام" جملة اسمية، ويجب أن تكون اسم فاعل أو مفعول كما تقرر في موضعه، وسهل بعضهم وقوع صلتها جملة فعلية إذا لصلة بها أسهل من الاسمية، واستحسن بعضهم الفعلية إذا كان الفعل مضارعًا لشدة مشابهته بالأسماء المشتقة.
قلت: السر في هذا كله أن "اللام" لما أشبهت المعرفة لفظًا والموصول معنى اقتضت الدخول على كلمة ذات جهتين تقتضي بإحداهما الدخول على الاسم، وبالأخرى الدخول على الجملة، وليس كذلك إلا المشتقات ولكون رعاية جانب المعنى أولى من رعاية جانب اللفظ سهل اتصالها بالفعلية وحسن اتصالها بالمضارع، ورأى بعض المتأخرين دخولها على المضارع قياسًا كقول الشاعر:
ما أنت بالحكم الترضي حكومته ..... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
وقول الآخر:
كاليروح ويغدو لاهيًا مرحًا ..... له الخل أهلا إن يعد خليلا
وقول الآخر:
ويستخرج اليربوع من نافقائه ..... ومن جحره بالشيحة اليقصع
وقول الآخر:
يقول الخنا وابغض العجم ناطقًا ..... إلى ربه صوت الحمار اليجدع
وتارة على الظرف، كقوله:
من لا يزال شاكرًا على المعه ..... فهو حر بعيشة ذات سعة
تنبيه: قد تكون "ال" الزائدة في بعض الكلمات لازمة لمدخولها، فلا يجوز فكها منه لغلبة الاستعمال معها نحو: النجم، والثريا، والصعق، واليسع؛ لأن الأعلام لا تغير إذ لو تغيرت لم تفد ما كانت تفيده من الغلبة، والله أعلم). [جواهر الأدب: 149 - 163 ]
-------------------------
شرح ابن نور الدين الموزعي(ت: 825هـ)
(فصل) "أل"
قال جمال الدين محمد بن علي الموزعي المعروف بابن نور الدين (ت: 825هـ): ((فصل)"أل" ترد على أربعة أوجه:
أحدها: أن تكون اسمًا موصولًا بمعنى الذي وهي الداخلة على اسم الفاعل واسم المفعول.
الثاني: تكون حرف تعريف وتنقسم إلى تعريف عهد وتعريف جنس.
فأما العهد: فقد يكون ذكريا: كقول الله سبحانه: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولًا فعصى فرعون الرسول}، وقوله سبحانه: {كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري}، ومعيار هذا أن يسد الضمير مسدها مع مصحوبها، كقولك: فعصاه فرعون، وإن سد مسدها دون مصحوبها فهي لبيان متعلق المعهود، كقول الله سبحانه: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}، وكقولك ضرب زيد الظهر والبطن، أي: المأوى له، وظهره وبطنه.
وقد يكون ذهنيًا: كقول الله جل جلاله:{إذ هما في الغار}، وقوله تعالى:{بالواد المقدس}، وقوله تعالى:{إذ يبايعونك تحت الشجرة}.
وكقول الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ..... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
وهذا يقرب في المعنى من النكرة، ولأجل قربه من النكرة قدرت الجملة بعده وصفًا لا حالًا.
وقد يكون حضوريًا: كقول الله سبحانه: {اليوم أكملت لكم دينكم} وأما الجنس فإن خلفتها كلمة «كل» حقيقة فهي موضوعة لاستغراق أفراد الجنس كقول الله سبحانه: {وخلق الإنسان ضعيفًا}، وإن خلفتها مجازًا فهي موضوعة لاستغراق خصائص أفراد الجنس مبالغة نحو: زيد الرجل علمًا، وإن لم تخلفها في الحالين فهي موضوعة لتعريف ماهية الجنس، كقوله تعالى: {وجعلنا من الماء كل شيء حي}، وكقولك: والله لا أتزوج النساء ولا ألبس الثياب، ولهذا يحنث بواحد منها.
والفائدة في هذه وإن شاركها الجنس المنكر في تعريف حقيقة الماهية أن هذه تدل على حقيقة الماهية بقيد حضورها في الذهن بخلاف الجنس المنكر فإنه يدل على حقيقة الماهية دلالة مطلقة من غير اعتبار قيد.
ومرادنا بكل الخالفة كل الإفرادية لا المجموعية، فإن معنى قوله تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفًا}، وخلق كل فرد من أفراد الإنسان ضعيفًا لا مجموع الإنسان وإن كان الضعف صادقًا على المجموع، ولهذا لا يجوز وصف الجنس بلفظ الجمع.
الثالث: أن تكون زائدة، أي: غير معرفة، وتنقسم إلى لازمة وغير لازمة، فغير اللازمة "كالألف" و"اللام" التي يقصد بها التفخيم ولمح الصفة في الأصل المنقول عنه، وذلك في بعض الأعلام كالحارث والعباس والضحاك والحسن والحسين وذلك في أسماء مسموعة ولا يقاس عليها غيرها من الأعلام كمحمد وصالح وعمرو وزيد.
وأما اللازمة فكالتي في بعض الأسماء المقارنة لوضعها كالسموءل والآن واللات والعزى، أو المقارنة للتعريف بها كالنجم للثريا، والمدينة لطيبة الشريفة والبيت للكعبة المشرفة.
وهذه "اللام" الزائدة أعني اللازمة وغير اللازمة هي الداخلة على اسم الله وصفاته جل جلاله، وإنما كانت هذه لازمة لأن الأعلام مستغنية عن التعريف "بالألف" و"اللام"، بل لا يجامعها التعريف "بالألف" و"اللام"، ولما غلبت هذه الأسماء على هذه المسميات مع اقترانها "باللام" دون اقترانها كانت أعلامًا معها ولا تكون أعلامًا بدونها، وهي في الحقيقة "لام" العهد، لكن الفرق بين مصحوب هذه "اللام" ومصحوب "لام" العهد التقدم ذكرها أن هذه مسماها معنى جزئي متعين تعيينًا مطلقًا، فإذا قلت: زرت البيت، وسافرت إلى المدينة ورأيت النجم، علم سامعك أنك إنما أردت الكعبة وطيبة والثريا ولا يفهم أنك أردت غير ذلك إلا إذا كانت ثم قرينة من عهد فحينئذٍ يفهم ما عهد منك وهذا هو السر الموجب للزوم "اللام" في هذه الأعلام دون تلك، وفرق ظاهر بين الذي تعرف عين مسماه بلفظه والذي لا تعرف عين مسماه إلا بلفظه من غيره وبين الذي يعرف في أول وهلة والذي يعرف في ثاني وهلة فهذا هو الفرق بين علم العهد ومسمى العهد ولم أر واحدًا سبقني إلى تحقيق هذا، والحمد لله رب العالمين.
فإن قلت: فما الفرق بين علم الجنس واسم الجنس؟
قلنا: قال الشيخ أبو العباس القرافي: هذا السؤال «من نفائس المباحث ومشكلات المطالب وكان الخسرو شاهي يقرره ولم أسمعه إلا منه، وكان يقول ما في الديار المصرية من يعرفه».
وهو أن الوضع فرع التصور، فإذا استحضر الواضع صورة الأسد ليضع لها لفظًا فتلك الصورة الكائنة في ذهنه هي جزئية بالنسبة إلى مطلق صورة الأسد، فإن صورة الأسد واقعة في هذا الزمان، ومثلها تقع في زمان آخر وفي ذهن شخص آخر والجميع مشترك في مطلق صوة الأسد فهذه الصورة جزئية في مطلق صورة الأسد، فإن وضع لها من حيث خصوصها فهو علم الجنس، أو من حيث عمومها فهو اسم الجنس، وهي من حيث خصوصها وعمومها تنطبق على كل أسد في العالم بسب أنا إنما أخذناها في الذهن مجردة عن جميع الخصوصيات فتنطبق على الجميع، فلا جرم يصدق لفظ الأسد وأسامة على كل أسد لوجود المشترك فيها كلها، فيقع الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس بخصوص الصورة الذهنية، وانتهى جوابه هكذا حكاه وقرره أبو العباس وكأنه ارتضاه وهو جواب فاسد باطل؛ لأنه لو كان الأمر على ما ذكر من أن الأسماء بحسب التصور في الذهن، فإن تصورت ماهية جزئية وسميتها من حيث خصوصها كان علم الجنس وإن تصورتها كلية مشتركة كان اسم الجنس للزم ذلك في كل جنس من الأجناس، وكان يجب أن يقال في كل واحد من الرجال والفرس والطير والبر والتمر والشعير والنعم هو علم جنس باعتبار خصوص الصورة الذهنية، واسم جنس باعتبار عموم الصورة الذهنية، ولم يقل بهذا أحد من الفضلاء ومن ارتكب ذلك، وقال به فقد هدم لغة العرب التي نزل بها التنزيل، ووجب الإعراض عنه؛ لأن العرب إنما تريد بالكلام والتسمية فهم السامع معاني المسميات لتتعارف بذلك في مخاطباتها فلا تحتاج إلى من يعلمها لغتها، ويفهمها معاني أسمائها، ولو كان الأمر على ما ذكر هذا القائل لما عرف بعضها خطاب بعض، وكان يقول القائل: بأن الكلمة موضوعة لمعنى خاص تارة، ولمعنى عام تارة أخرى، ولما جاز أن يعلق بذلك حكمًا من أحكام لسانها لعدم الوثوق بفهم المعنى.
والجواب الحق: أن علم الجنس واقع على معنى كلي مشترك كاسم الجنس لا فرق بينهما في المعنى ولهذا لقبه أهل العلم باللسان بعلم الجنس، وذلك لأن الاسم المعرف لا يخلو إمَّا أن يكون المراد به نفس حقيقة الماهية مجردة عن الوحدة والتعدد فهو اسم الجنس وفي معناه علم الجنس، وإمَّا أن يكون المراد به فردًا معينًا فهو المعهود الخارجي وفي معناه علم الخاص كزيد وعمرو، وإمَّا أن يكون المراد به فردًا غير معين فهو المعهود الذهني كقوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
وفي معناه النكرة.
وإنما الفرق بين علم الجنس واسم الجنس من جهة الأحكام العربية فعلم الجنس لا تدخل عليه "أل" كما لا تدخل على علم الشخص، ولا تدخله الإضافة كالعلم أيضًا وإذا اجتمع فيه مع العلمية علة أخرى امتنع من الصرف، كقولك: أسامة وثعالة، وغير ذلك من أحكام الأعلام الشخصية فهو يشبه العلم في أحكامه، ويشبه الجنس في معناه، وقد ذكر هذا كما ذكرته أئمة اللسان فقالوا: علم الجنس شائع في جنسه لا يختص به واحد دون آخر كالنكرة، ولم يعلقوا معرفة حقيقتهما على التصور الجزئي والكلي والله أعلم). [مصابيح المغاني: 92 - 98]
شرح ابن نور الدين الموزعي(ت: 825هـ)
(فصل) "أل"
قال جمال الدين محمد بن علي الموزعي المعروف بابن نور الدين (ت: 825هـ): ((فصل)"أل" ترد على أربعة أوجه:
أحدها: أن تكون اسمًا موصولًا بمعنى الذي وهي الداخلة على اسم الفاعل واسم المفعول.
الثاني: تكون حرف تعريف وتنقسم إلى تعريف عهد وتعريف جنس.
فأما العهد: فقد يكون ذكريا: كقول الله سبحانه: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولًا فعصى فرعون الرسول}، وقوله سبحانه: {كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري}، ومعيار هذا أن يسد الضمير مسدها مع مصحوبها، كقولك: فعصاه فرعون، وإن سد مسدها دون مصحوبها فهي لبيان متعلق المعهود، كقول الله سبحانه: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}، وكقولك ضرب زيد الظهر والبطن، أي: المأوى له، وظهره وبطنه.
وقد يكون ذهنيًا: كقول الله جل جلاله:{إذ هما في الغار}، وقوله تعالى:{بالواد المقدس}، وقوله تعالى:{إذ يبايعونك تحت الشجرة}.
وكقول الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ..... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
وهذا يقرب في المعنى من النكرة، ولأجل قربه من النكرة قدرت الجملة بعده وصفًا لا حالًا.
وقد يكون حضوريًا: كقول الله سبحانه: {اليوم أكملت لكم دينكم} وأما الجنس فإن خلفتها كلمة «كل» حقيقة فهي موضوعة لاستغراق أفراد الجنس كقول الله سبحانه: {وخلق الإنسان ضعيفًا}، وإن خلفتها مجازًا فهي موضوعة لاستغراق خصائص أفراد الجنس مبالغة نحو: زيد الرجل علمًا، وإن لم تخلفها في الحالين فهي موضوعة لتعريف ماهية الجنس، كقوله تعالى: {وجعلنا من الماء كل شيء حي}، وكقولك: والله لا أتزوج النساء ولا ألبس الثياب، ولهذا يحنث بواحد منها.
والفائدة في هذه وإن شاركها الجنس المنكر في تعريف حقيقة الماهية أن هذه تدل على حقيقة الماهية بقيد حضورها في الذهن بخلاف الجنس المنكر فإنه يدل على حقيقة الماهية دلالة مطلقة من غير اعتبار قيد.
ومرادنا بكل الخالفة كل الإفرادية لا المجموعية، فإن معنى قوله تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفًا}، وخلق كل فرد من أفراد الإنسان ضعيفًا لا مجموع الإنسان وإن كان الضعف صادقًا على المجموع، ولهذا لا يجوز وصف الجنس بلفظ الجمع.
الثالث: أن تكون زائدة، أي: غير معرفة، وتنقسم إلى لازمة وغير لازمة، فغير اللازمة "كالألف" و"اللام" التي يقصد بها التفخيم ولمح الصفة في الأصل المنقول عنه، وذلك في بعض الأعلام كالحارث والعباس والضحاك والحسن والحسين وذلك في أسماء مسموعة ولا يقاس عليها غيرها من الأعلام كمحمد وصالح وعمرو وزيد.
وأما اللازمة فكالتي في بعض الأسماء المقارنة لوضعها كالسموءل والآن واللات والعزى، أو المقارنة للتعريف بها كالنجم للثريا، والمدينة لطيبة الشريفة والبيت للكعبة المشرفة.
وهذه "اللام" الزائدة أعني اللازمة وغير اللازمة هي الداخلة على اسم الله وصفاته جل جلاله، وإنما كانت هذه لازمة لأن الأعلام مستغنية عن التعريف "بالألف" و"اللام"، بل لا يجامعها التعريف "بالألف" و"اللام"، ولما غلبت هذه الأسماء على هذه المسميات مع اقترانها "باللام" دون اقترانها كانت أعلامًا معها ولا تكون أعلامًا بدونها، وهي في الحقيقة "لام" العهد، لكن الفرق بين مصحوب هذه "اللام" ومصحوب "لام" العهد التقدم ذكرها أن هذه مسماها معنى جزئي متعين تعيينًا مطلقًا، فإذا قلت: زرت البيت، وسافرت إلى المدينة ورأيت النجم، علم سامعك أنك إنما أردت الكعبة وطيبة والثريا ولا يفهم أنك أردت غير ذلك إلا إذا كانت ثم قرينة من عهد فحينئذٍ يفهم ما عهد منك وهذا هو السر الموجب للزوم "اللام" في هذه الأعلام دون تلك، وفرق ظاهر بين الذي تعرف عين مسماه بلفظه والذي لا تعرف عين مسماه إلا بلفظه من غيره وبين الذي يعرف في أول وهلة والذي يعرف في ثاني وهلة فهذا هو الفرق بين علم العهد ومسمى العهد ولم أر واحدًا سبقني إلى تحقيق هذا، والحمد لله رب العالمين.
فإن قلت: فما الفرق بين علم الجنس واسم الجنس؟
قلنا: قال الشيخ أبو العباس القرافي: هذا السؤال «من نفائس المباحث ومشكلات المطالب وكان الخسرو شاهي يقرره ولم أسمعه إلا منه، وكان يقول ما في الديار المصرية من يعرفه».
وهو أن الوضع فرع التصور، فإذا استحضر الواضع صورة الأسد ليضع لها لفظًا فتلك الصورة الكائنة في ذهنه هي جزئية بالنسبة إلى مطلق صورة الأسد، فإن صورة الأسد واقعة في هذا الزمان، ومثلها تقع في زمان آخر وفي ذهن شخص آخر والجميع مشترك في مطلق صوة الأسد فهذه الصورة جزئية في مطلق صورة الأسد، فإن وضع لها من حيث خصوصها فهو علم الجنس، أو من حيث عمومها فهو اسم الجنس، وهي من حيث خصوصها وعمومها تنطبق على كل أسد في العالم بسب أنا إنما أخذناها في الذهن مجردة عن جميع الخصوصيات فتنطبق على الجميع، فلا جرم يصدق لفظ الأسد وأسامة على كل أسد لوجود المشترك فيها كلها، فيقع الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس بخصوص الصورة الذهنية، وانتهى جوابه هكذا حكاه وقرره أبو العباس وكأنه ارتضاه وهو جواب فاسد باطل؛ لأنه لو كان الأمر على ما ذكر من أن الأسماء بحسب التصور في الذهن، فإن تصورت ماهية جزئية وسميتها من حيث خصوصها كان علم الجنس وإن تصورتها كلية مشتركة كان اسم الجنس للزم ذلك في كل جنس من الأجناس، وكان يجب أن يقال في كل واحد من الرجال والفرس والطير والبر والتمر والشعير والنعم هو علم جنس باعتبار خصوص الصورة الذهنية، واسم جنس باعتبار عموم الصورة الذهنية، ولم يقل بهذا أحد من الفضلاء ومن ارتكب ذلك، وقال به فقد هدم لغة العرب التي نزل بها التنزيل، ووجب الإعراض عنه؛ لأن العرب إنما تريد بالكلام والتسمية فهم السامع معاني المسميات لتتعارف بذلك في مخاطباتها فلا تحتاج إلى من يعلمها لغتها، ويفهمها معاني أسمائها، ولو كان الأمر على ما ذكر هذا القائل لما عرف بعضها خطاب بعض، وكان يقول القائل: بأن الكلمة موضوعة لمعنى خاص تارة، ولمعنى عام تارة أخرى، ولما جاز أن يعلق بذلك حكمًا من أحكام لسانها لعدم الوثوق بفهم المعنى.
والجواب الحق: أن علم الجنس واقع على معنى كلي مشترك كاسم الجنس لا فرق بينهما في المعنى ولهذا لقبه أهل العلم باللسان بعلم الجنس، وذلك لأن الاسم المعرف لا يخلو إمَّا أن يكون المراد به نفس حقيقة الماهية مجردة عن الوحدة والتعدد فهو اسم الجنس وفي معناه علم الجنس، وإمَّا أن يكون المراد به فردًا معينًا فهو المعهود الخارجي وفي معناه علم الخاص كزيد وعمرو، وإمَّا أن يكون المراد به فردًا غير معين فهو المعهود الذهني كقوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
وفي معناه النكرة.
وإنما الفرق بين علم الجنس واسم الجنس من جهة الأحكام العربية فعلم الجنس لا تدخل عليه "أل" كما لا تدخل على علم الشخص، ولا تدخله الإضافة كالعلم أيضًا وإذا اجتمع فيه مع العلمية علة أخرى امتنع من الصرف، كقولك: أسامة وثعالة، وغير ذلك من أحكام الأعلام الشخصية فهو يشبه العلم في أحكامه، ويشبه الجنس في معناه، وقد ذكر هذا كما ذكرته أئمة اللسان فقالوا: علم الجنس شائع في جنسه لا يختص به واحد دون آخر كالنكرة، ولم يعلقوا معرفة حقيقتهما على التصور الجزئي والكلي والله أعلم). [مصابيح المغاني: 92 - 98]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق