الجمعة، 29 أبريل 2022

ج3. وج4.كتاب : الفرج بعد الشدة القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي

 

ج3. وج4.كتاب : الفرج بعد الشدة القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي

ووقع إلي هذا الخبر، من طريق آخر، فحدثني طلحة بن محمد بن جعفر الشاهد، وقرأته بالإجازة عن طلحة، قال: حدثني أبو الحسين عبد الواحد بن محمد الخصيبي، قال: حدثني أبو علي أحمد بن إسماعيل نطاحة، قال: حدثني أبو سهل الرازي القاضي، قال: حدثنا أبو حسان الزيادي القاضي، قال: أضقت إضاقة بلغت بها إلى الغاية، حتى ألح علي الخباز، والقصاب، والبقال، وسائر المعاملين، ولم تبق لي حيلة.
فإني يوماً من الأيام على تلك الحال، مفكراً في أمري، كيف أعمل، وكيف أحتال، إذ دخل علي غلامي، فقال: بالباب حاج يستأذن عليك. فقلت: أدخله.
فدخل علي رجل خراساني، فسلم، وقال: أنت أبو حسان ؟ قلت: نعم، فما حاجتك ؟ قال: أنا رجل غريب، أريد الحج، ومعي جملة مالي، وهو عشرة آلاف درهم، وقد أحضرته في بدرة معي أسألك أن تقبضها وتدعها قبلك، إلى أن قضي حجي، وأرجع، فإني غريب، وما أعرف أحداً في هذا البلد.
فقلت: هات البدرة.
فسلمها إلي، وخرج بعد أن وزن ما فيها.
فلما خرج، فتحتها على الفور، وأحضرت المعاملين، فقضيت جميع ديوني، واتسعت بالباقي، وقلت: أضمنها في مالي إلى أن يعود من الحج، وإلى أن يجيء، يأتي الله بفرج من عنده.
فكنت في يومي ذاك، في سعة، وأنا فرح، لست أشك في خروج الخراساني.
فلما أصبحت من الغد، دخل علي الغلام، فقال: الخراساني الذي أودعك البدرة، بالباب.
فقلت: أدخله.
فدخل، وقال: اعلم أني كنت عازماً على الحج، ثم ورد علي خبر وفاة أبي، وقد عزمت على الرجوع إلى بلدي فتفضل علي بإعادة البدرة التي أعطيتك أمس.
فورد علي أمر عظيم، لم يرد علي مثله قط، وتحيرت، ولم أدر بما أجيبه، ثم فكرت، فقلت: ماذا أقول له ؟ إن جحدته، قدمني إلى القاضي، واستحلفني فكانت الفضيحة في الدنيا والآخرة والهتك، وإن دافعته، صاح وهتكني.
فقلت له: نعم، عافاك الله، إن منزلي هذا ليس بالحريز، ولما أخذت منك البدرة، أنفذتها إلى موضع أحرز منه، فتعود إلي غداً، لأسلمها إليك.
فانصرف، وبقيت متحيراً، لا أدري ما أعمل، وعظم علي الأمر جداً، فأدركني الليل، وفكرت في بكور الخراساني، فلم يأخذني النوم، ولا قدرت على الغمض.
فقمت إلى الغلام، فقلت: أسرج البغلة.
فقال: يا مولاي، هذا أول الليل، إلى أين تمضي ؟ فرجعت إلى فراشي، فإذا النوم ممتنع علي، فلم أزل أقوم إلى الغلام، وهو يردني، حتى فعلت ذلك مرات، وأنا لا يأخذني القرار.
وطلع الفجر، فأسرج الغلام البغلة، فركبت، وأنا لا أدري إلى أين أتوجه، فطرحت عنان البغلة، وأقبلت أفكر وهي تسير، حتى بلغت الجسر فعدلت بي إليه، فتركتها، فعبرت.
ثم قلت: إلى أين أعبر، إلى أين أتوجه ؟ ولكن إن رجعت، رأيت الخراساني على بابي، ولكن أدعا تمضي حيث شاءت، فمضت البغلة.
فلما عبرت البغلة الجسر، أخذت بي يمنة، ناحية دار المأمون، وتركتها، ومرت، فلم أزل كذلك إلى أن قربت من دار المأمون، والدنيا بعد مظلمة.
فإذا فارس قد تلقاني، فنظر في وجهي، ثم سار وتركني، ثم رجع، وقال: ألست أبا حسان الزيادي ؟ فقلت: بلى.
قال: إليك بعثت.
فقلت: ما تريد، رحمك الله، ومن بعث بك ؟ فقال: الأمير الحسن بن سهل.
فقلت: وما يريد مني الحسن بن سهل ؟، ثم قلت: امض بنا، فمضى حتى استأذن على الحسن بن سهل، فدخلت إليه.
فقال: يا أبا حسان، ما خبرك، وكيف حالك، ولم انقطعت عنا ؟ فقلت: لأسباب، وذهبت لأعتذر عن التخلف.
فقال: دع هذا عنك، أنت في لوثة، وفي أمر ما هو، فإني رأيتك في النوم، في تخليط كثير.
فشرحت له قصتي، من أولها إلى أن لقيني صاحبه، ودخلت عليه.
فقال: لا يغمك الله يا أبا حسان، هذه بدرة للخراساني، مكان بدرته، وهذه بدرة أخرى تتسع بها، فإذا نفدت، أعلمنا.
فرجعت من ساعتي، فدفعت للخراساني بدرته، واتسعت بالباقي، وفرج الله عني، فله الحمد.
وحدثني بهذا الحديث أيضاً، أبو الفرج محمد بن جعفر، من ولد صالح صاحب المصلى قال: حدثنا أبو القاسم علي بن محمد بن أبي حسان الزيادي، وكان محدثاً ببغداد، ثقة، مشهوراً، قال: حدثني أبي، عن أبيه، قال:

كنت وليت القضاء من قبل أبي يوسف القاضي رحمه الله، ثم صرفت، وتعطلت، وأضقت إضاقة شديدة، وركبني دين فادح، لخباز، وبقال، وقصاب، وعطار، وبزاز، وغيرهم، حتى قطعوا معاملتي لكثرة مالهم علي، وإياسهم من أن أقضيهم، فتضاعفت إضاقتي، واشتدت حيرتي.
فإني يوماً بمسجدي، قد صليت بأهله الغداة، ثم انفتلت أدرس أصحابي الفقه إذ جاءني رجل خراساني، وذكر الحديث على نحو ما ذكره طلحة، إلا أنه لم يقل فيه حملة: فإلى....
وقال أبو الفرج في حديثه: فلما بلغت مربعة الخرسي، استقبلني موكب فيه شموع ونفاطات، قد أضاء منه الطريق، فصار كالنهار، فطلبت زقاقاً أستخفي فيه، حتى يجوز الموكب، فلم أجد، فإذا برجل من الموكب، يقول: أبو حسان والله، فتأملته، فإذا هو دينار بن عبد الله، فسلمت عليه.
فقال: إليك جئت، أرسل إلي أمير المؤمنين الساعة، وأمرني أن أركب إليك بنفسي، وأحضره إياك.
فمضيت معه، حتى أدخلني على المأمون.
فقال لي المأمون: ما قصتك ؟ فإني رأيتك في النوم البارحة، والنبي صلى الله عليه وسلم، يأمرني بإغاثتك.
فحدثته بحديثي.
فقال المأمون: أعطوا أبا حسان ثلاث بدر، وولاني الري، وأمرني بالخروج إليها.
قال: فعدت إلى بيتي وما طلع الفجر، فلما كان وقت صلاتي في مسجدي، خرجت، وإذا بالخراساني، فلما قضيت الصلاة، أدخلته إلى البيت، فأخرجت إليه البدر.
فلما رآها، قال: ما هذا ؟ فقصصت عليه القصة، وأعطيته بدرة منها، فأخذها وانصرف.
وذكر محمد بن عبدوس، في كتاب الوزراء، في أخبار دينار بن عبد الله: أن رسوله لقي أبا حسان في الطريق، فقال له: قسمت شيئاً على عيالنا، فذكرت عيالك، فأنفذت إليك عشرة آلاف درهم، فأخذها، ورجع من الطريق، وباكره الخراساني، فأعطاه إياها كلها، لأنه كان قد أنفق جميع مال الخراساني، ثم عاد من غد إلى دينار، فعرفه، وشكره، وعرفه الحديث.
فقال: فكأنما قضينا الخراساني في ماله، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم أخرى، ولم يذكر ابن عبدوس في خبره ذكر المنام.
وحدثني أبي هذا الحديث في المذاكرة، قال: حدثني شيخ - ذكره أبي وأنسيته أنا، عن أبي حسان الزيادي، بنحو ما ذكره محمد بن جعفر في حديثه، إلا أنه قال فيه: إن الخراساني قال في حديثه لأبي حسان: إن رجع الحجاج ولم ترني قد رجعت إليك، فاعلم أني هلكت، والبدرة هبة مني إليك، وإن رجعت فهي لي، ثم يتقارب لفظ الحديثين، إلى أن لقيه في الجانب الشرقي قوم فلما رآهم تنحى عن طريقهم، فلما رأوه بطيلسان، بادروا إليه، وقالوا له: أتعرف منزل رجل يقال له أبو حسان الزيادي ؟ فقال: أنا هو.
فقالوا له: أجب أمير المؤمنين، وحمل فأدخل إلى المأمون.
فقال له: من أنت ؟ فقال: رجل من أصحاب أبي يوسف القاضي من الفقهاء وأصحاب الحديث.
قال: بأي شيء تكنى ؟ فقال: بأبي حسان.
فقال: بماذا تعرف ؟ فقال: بالزيادي، ولست منهم، وإنما نزلت فيهم، فنسبت إليهم.
فقال: قصتك، فشرحت له قصتي.
فبكى بكاء شديداً، وقال: ويحك، ما تركني رسول الله أن أنام بسببك، أتاني في أول الليل فقال: أغث أبا حسان الزيادي، فانتبهت ولم أعرفك، واعتمدت السؤال عنك، وأثبت اسمك ونسبك ونمت، فأتاني، فقال كمقالته، فانتبهت منزعجاً، ثم نمت، فأتاني، وقال: ويحك، أغث أبا حسان، فما تجاسرت على النوم، وأنا ساهر، وقد بثثت في طلبك، ثم أعطاني عشرة آلاف درهم، وقال: هذه للخراساني، ثم أعطاني عشرة آلاف درهم أخرى، وقال: اتسع بهذه، وأصلح أمرك، وعمر دارك، واشتر مركوباً سرياً، وثياباً حسنة، وعبداً يمشي بين يدي دابتك، ثم أعطاني ثلاثين ألف درهم، وقال: جهز بها بناتك، وزوجهن، فإذا كان يوم الموكب، فصر إلي، حتى أقلدك عملاً جليلاً، وأحسن إليك.
فخرجت والمال بين يدي محمول، حتى أتيت مسجدي، فصليت الغداة، والتفت فإذا الخراساني بالباب، فأدخلته إلى البيت، وأخرجت بدرة فدفعتها إليه.
فقال: ليس هذه بدرتي، أريد مالي بعينه.
فقصصت عليه قصتي، فبكى، وقال: والله لو صدقتني في أول الأمر عن خبرك لما طالبتك، وأما الآن، فوالله لا دخل مالي شيء من مال هؤلاء، وأنت في حل، وانصرف.
فأصلحت أمري، وبكرت يوم الموكب إلى باب المأمون، فدخلت، وهو جالس جلوساً عاماً.

فلما مثلت بين يديه استدناني، ثم أخرج عهداً من تحت مصلاه، وقال: هذا عهدك على قضاء المدينة الشرقية من الجانب الغربي من مدينة السلام، وقد أجريت عليك في كل شهر كذا وكذا، فاتق الله تدم عليك عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعجب الناس من كلام المأمون وسألوني عن معناه، فأخبرتهم الخبر، فانتشر.
فما زال أبو حسان قاضي الشرقية، إلى آخر أيام المأمون.

حبسه المهدي وأطلقه الرشيد

أخبرني محمد بن الحسن بن المظفر، قال: حدثني أبو عمر محمد ابن عبد الواحد، قال: حدثني بشر بن موسى الأسدي، قال: أخبرني بعض الهاشميين، قال: حبس المهدي يعقوب بن داود وزيره، فطال حبسه، فرأى في منامه، كأن قائلاً يقول له: قل: يا رفيق، يا شفيق، أنت ربي الحقيق، ادفع عني الضيق، إنك على كل شيء قدير.
قال: فقلتها، فما شعرت إلا بالأبواب تفتح، ثم أدخلت على الرشيد، فقال: أتاني الذي أتاك، فاحمد الله عز وجل.
وخلى سبيلي.
وقد روي هذا الخبر، على خلاف هذا، فحدثنا علي بن أبي الطيب، قال: حدثنا ابن الجراح، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدثني خالد بن يزيد الأزدي.
وأخبرني محمد بن الحسن بن المظفر، قال: أنبأنا أبو بكر محمد بن محمد السرخسي، قال: حدثنا أبو عبد الله المقدمي القاضي، قال: حدثنا أبو محمد المعي، قال: حدثنا خالد بن يزيد، قال: حدثنا عبد الله بن يعقوب بن داود، قال: قال لي أبي: حبسني المهدي في بئر بنيت عليها قبة، فكنت فيها خمس عشرة سنة، حتى مضى صدر من خلافة الرشيد، وكان يدلى لي في كل يوم رغيف وكوز ماء، وأؤذن بأوقات الصلاة، فلما كان رأس ثلاث عشرة سنة، أتاني آت في منامي، فقال:
حنا على يوسفٍ ربٌّ فأخرجه ... من قعر جبّ وبئر حولها غمم
فحمدت الله تعالى، وقلت: أتاني الفرج، ثم مكثت حولاً لا أرى شيئاً، فلما كان رأس الحول، أتاني ذلك الآتي، فقال:
عسى فرجٌ يأتي به اللّه إنّه ... له كلّ يوم في خليقته أمر
ثم أقمت حولا لا أرى شيئاً، ثم أتاني ذلك الآتي، بعد الحول، فقال:
عسى الكرب الّذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفكّ عانٍ ... ويأتي أهله النائي الغريب
فلما أصبحت، نوديت، فظننت أني أؤذن بالصلاة، فدلي إلي حبل وقيل لي: شد به وسطك، ففعلت، فأخرجوني، فلما تأملت الضوء، غشي بصري، فأخذ من شعري، وألبست ثياباً، وأدخلت إلى مجلس، فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين.
فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين المهدي، ورحمة الله وبركاته.
فقال: لست به.
فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين الهادي، ورحمة الله وبركاته.
فقال: لست به.
فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين الرشيد، ورحمة الله وبركاته.
فقال: وعليك السلام، يا يعقوب بن داود، والله ما شفع أحد فيك إلي، غير أني حملت الليلة صبية لي على عنقي، فذكرت حملك إياي على عنقك، فرثيت لك من المحل الذي كنت فيه، فأخرجتك، ثم أكرمني، وقرب مجلسي.
ثم إن يحيى بن خالد تنكر لي، كأنه خاف أن أغلب على الرشيد دونه، فخفته، فاستأذنت في الحج، فأذن لي.
فلم يزل مقيماً بمكة، حتى مات بها.
حدثني أبي في المذاكرة بإسناد له، وكان في الخبر: أن المهدي حبسه في بئر، ووكل أمره إلى خادم له، واستحلفه أن لا يخبر بخبره أحداً من الخلق كلهم، فكان الخادم الموكل به، يزل إليه في كل يوم رغيفين، ودورق ماء، منه شربه وطهوره، وفي البئر موضع يتطهر فيه، فكان كذلك خمس عشرة سنة.
فلما كان بعد خمس عشرة سنة سأل عنه الرشيد فقيل له: سلم إلى فلان الخادم، وذكر أنه مات.
فأحضر الخادم، وسأله عنه، فقال: إنه مات.
فاستثبته، فرأى كلاماً مختلفاً، فجد به، فقال: لا أعرف غير موته، فهدده، فأقام على الإنكار، إلى أن استحضر الرشيد المقارع.
فقال: أنا أصدق، استحلفني أمير المؤمنين المهدي، ألا أخبر بخبره أحداً من الخلق أبداً.
فأكرهه الرشيد، فدل على البئر التي هو فيها، ثم تتفق الروايات.
قال: فلما وقف بين يدي الرشيد، وسلم، قال له الرشيد - مخفياً كلامه - من أمير المؤمنين ؟ فقال: المهدي.
قال: قد مضى لحال سبيله، فسلم على أمير المؤمنين، فسلم.
فقال: قولوا له من أمير المؤمنين ؟ قال: الهادي

قال: قد مضى لحال سبيله، فسلم على أمير المؤمنين، فسلم.
فقال: قولوا له، من أمير المؤمنين ؟ فقال: هارون، ثم تتفق الروايتان.
وروي لي هذا الخبر على وجه آخر، وهو أضعف عندي، غير أني أجيء به كما بلغني، فحدثت بروايات مختلفة، قالوا حدث عبد الله بن أيوب، قال: رأيت يعقوب بن داود في الطواف، فقلت له: كيف كان سبب خروجك ؟ قال: كنت في المطبق حتى خفت على بصري، فأتاني آت في منامي، فقال لي: يا يعقوب كيف ترى مكانك ؟ فقلت: وما سؤالك ؟ أما ترى ما أنا فيه، أليس يكفيك هذا ؟ فقال: أسبغ الوضوء، وصل أربع ركعات، وقل: يا حسن، يا مجمل، يا منعم، يا مفضل، يا ذا الفضل والنعم، يا عظيم، يا ذا العرش العظيم، اجعل لي مما أنا فيه فرجاً ومخرجاً.
فانتبهت، وقلت في نفسي: هذا في النوم، ورجعت إلى نفسي، فحفظت الدعاء، وقمت، فتوضأت، وصليت، ودعوت به، فلما أسفر الصبح، جاؤوني، فأخرجوني.
فقلت: ما دعاني إلا ليقتلني.
فلما رآني، أومأ إليهم، اذهبوا به إلى الحمام، فنظفوه، وأتوني به، فطابت نفسي، وسجدت شكراً لله تعالى، فأطلت السجود.
فقالوا لي: قم.
فقال لهم الرشيد: دعوه ما دام ساجداً، ثم رفعت رأسي، ثم مضى بي إلى الحمام.
فلما خرجت خلع علي، ثم ضرب بيده على ظهري، وقال لي: يا يعقوب، لا يمنن عليك أحد بمنة، فما زلت منذ الليلة قلقاً بأمرك.
المهدي يطلق علوياً من حبسه لمنام رآه
وجدت في بعض الكتب: أن المهدي استحضر صاحب شرطته ليلاً، وقد انتبه من نومه فزعاً، فقال له: ضع يدك على رأسي، واحلف بما أستحلفك به.
قال: فقلت: يدي تقصر عن رأس أمير المؤمنين، ولكن علي وعلي، وحلفت بأيمان البيعة أني أمتثل ما تأمر به.
فقال: صر إلى المطبق، واطلب فلاناً العلوي الحسيني، فإذا وجدته فأخرجه وخيره بين الإقامة عندنا مطلقاً مكرماً محبوراً، وبين الخروج إلى أهله، فإن اختار الخروج قدت إليه كذا وكذا، وأعطيته كذا وكذا، وإن اختار المقام أعطيته كذا وكذا، وهذه توقيعات بذلك.
فأخذتها وصرت إلى من أزاح علتي في الجميع، وجئت إلى المطبق، فطلبت الفتى، فأخرج إلي وهو كالشن البالي، فعرفته أمر أمير المؤمنين، وعرضت عليه الحالين، فاختار الخروج إلى أهله بالمدينة، فسلمت إليه الصلة والحملان.
فلما جاء ليركب ويمضي، قلت: بالذي فرج عنك، هل تعلم ما دعا أمير المؤمنين إلى إطلاقك ؟ قال: إني والله، كنت الليلة نائماً، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، في منامي، وقد أيقظني، وقال: يا بني ظلموك ؟ قلت: نعم، يا رسول الله.
قال: قم، فصل ركعتين، وقل بعد الفراغ: يا سابق الفوت، ويا سامع الصوت، ويا ناشز العظام بعد الموت، صل على محمد وعلى آل محمد، واجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، إنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، يا أرحم الراحمين.
قال: فقمت، وصليت، وجعلت أكرر الكلمات، حتى دعوتني.
قال: فحمدت الله على توفيقي لمسألته، وعدت إلى المهدي، فحدثته بالحديث.
فقال: صدق والله، لقد أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فأمرني بإطلاقه.
وفي خبر آخر: لقد أتاني زنجي في فراشي، بعمود حديد، فال لي: أطلق فلاناً العلوي الحسيني وإلا قتلتك، فانتبهت فزعاً، فما جسرت على النوم، حتى جئتني، فأمرت بإطلاقه.

المعتمد يطلق بريئين من حبسه لمنام رآه

حدثني أبو بكر محمد بن يحيى الصولي، فيما أجاز لي روايته عنه، بعدما سمعته منه، قال: حدثني أحمد بن يزيد المهلبي، قال: كنا ليلة بين يدي المعتمد على الله، فحمل عليه النبيذ فجعل يخفق برأسه نعاساً.
فقال: لا يبرحن أحد، ثم نام مقدار نصف ساعة، وانتبه، وكأنه ما شرب شيئاً.
فقال: أحضروا لي من الحبس رجلاً يعرف بمنصور الجمال، فأحضر.
فقال له: منذ كم أنت محبوس ؟ فقال: منذ ثلاث سنين.
قال: فأصدقني عن خبرك ؟ قال: أنا رجل من أهل الموصل، كان لي جمل أعمل عليه وأعود بكرائه على عيلتي، فضاق الكسب علي بالموصل، فقلت: أخرج إلى سر من رأى فإن العمل ثم أكثر، فخرجت.

فلما قربت منها، إذا جماعة من الجند قد ظفروا بقوم يقطعون الطريق، وكتب صاحب البريد بعددهم، وكانوا عشرة، فأعطاهم واحد من العشرة مالاً على أن يطلقوه، فأطلقوه وأخذوني مكانه، وأخذوا جملي، فسألتهم بالله عز وجل، وعرفتهم خبري، فأبوا، ثم حبسوني، فمات بعض القوم، وأطلق بعضهم، وبقيت وحدي.
فقال المعتمد: أحضروني خمسمائة دينار، فجاؤوه بها.
فقال: ادفعوها إليه، وأجرى عليه ثلاثين ديناراً في كل شهر، وقال: اجعلوا أمر جمالنا إليه.
ثم أقبل علينا، فقال: رأيت الساعة النبي صلى الله عليه وسلم، في النوم، فقال: يا أحمد، وجه الساعة إلى الحبس، وأخرج منصوراً الجمال، فإنه مظلوم، وأحسن إليه، ففعلت ما رأيتم.
قال: ثم نام من وقته، وانصرفنا.
ووقع إلي هذا الخبر، بطريق آخر، بأتم من هذه الرواية، فحدثني أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي، الذي كان كاتب أبي بكر بن رائق، ثم كتب لسيف الدولة، ثم كان آخر تصرف تصرفه، أن كتب للمطيع لله، رحمه الله، على ضياع الخدمة، وخاص أمره، في وزارة أبي محمد المهلبي لمعز الدولة، قال: حدثني أبو علي الأوارجي الكاتب، قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن حمدون النديم، قال: كان المعتمد مع سماحة أخلاقه، وكثرة جوده وسخائه، شديد العربدة على ندمائه إذا سكر، لا يكاد يسلم له من العربدة مجلس إلا في الأقل، فاشتهى يوماً أن يصطبح على أترج، فاتخذ له منه شيء كثير، مفرط العدد، وعبي، وحزم بعضه، فاصطبح عليه، ولم يدع شيئاً من الخلع والصلات والحملان، إلا وعمله مع ندمائه في ذلك اليوم، وخصني منه بالكثير، وكان كثير الشرب، وكانت علامته إذا أراد أن ينهض جلساؤه، أن يلتفت إلى سرير لطيف، كان إذا جلس يستند إليه، ويشيل رجليه، كأنه يريد أن يصعد، فيقوم جلساؤه، فإذا كان يريد النوم صعده، فنام، وإن لم يرد النوم، رد رجله، إذا قمنا، وأتم شربه مع بعض خدمه، أو حرمه.
فلما كان ذلك اليوم، جلسنا بحضرته نهارنا أجمع، وقطعة من الليل، ثم رد رجله إلى السرير في أول الليل، فقمنا، وانصرف الجلساء إلى حجرة مرسومة بهم، وانصرفت إلى حجرة مرسومة بي من بينهم.
فلما انتصف الليل، إذا بالخدم يدقون باب حجرتي، فانتبهت مرعوباً، فقالوا: أجب أمير المؤمنين.
فقمت، وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، مضى يومنا وبعض ليلتنا، أحسن مضي، وقدرت أني أفلت من عربدته، فقد عن له أن يعربد علي، فاستدعاني في هذا الوقت.
فأتيته وأنا في نهاية الجزع، أفكر كيف أشاغله عن العربدة، إلى أن صرت بحضرته.
فلما رآني قائماً لم يستجلسني، وقال لخادمه: علي بصاحب الشرطة الساعة.
فمت جزعاً، وقلت في نفسي وأنا واقف بين يديه: لم تجر عادته في العربدة باستدعاء صاحب الشرطة، وما هذا إلا لبلية قد احتيل بها علي عنده.
فأقبلت أنظر إليه طمعاً في أن يفاتحني بكلمة، فأداريه في الجواب، وهو لا يرفع رأسه عن الأرض، إلى أن جاء صاحب الشرطة، فرفع رأسه إليه، وقال له: في حبسك رجل يعرف بفلان بن فلان الجمال ؟ وفي رواية: يعرف بمنصور الجمال ؟ قال: نعم.
قال: أحضرنيه الساعة.
فمضى ليحضره، فسهل علي الأمر قليلاً، ووقفت، وهو لا يخاطبني بشيء، إلى أن أحضر الرجل.
فقال له المعتمد: من أنت ؟ قال: أنا منصور بن فلان الجمال.
قال: وما قصتك ؟ قال: أنا مظلوم، حبست منذ كذا وكذا سنة، وأنا رجل من أهل الجبال، كان لي جمال أعيش من فضل أجرتها.
وكان يتقلد بلدنا فلان العامل، فاستدعي إلى الحضرة، فأخذ جمالي غصباً يستعين بها في جمل متاعه.
فتظلمت إليه وصحت، فلم ينفعني ذلك، وقال: إذا صرت بالحضرة رددتها عليك.
فخرجت معه لئلا تذهب الجمال أصلاً، فكنت مع جمالي أخدمها في الطريق.
فلما قربنا من حلوان سل الأكراد منها حملاً محملاً، فبلغه الخبر، فأحضرني، وقال: أنت سرقت الجمل بما عليه، فقلت: غلمانك يعلمون أن الأكراد سلوه.
فقال: الأكراد إنما جاءوا بمواطأة منك، ثم أمر بضربي، وتقييدي، وطرحي على بعض جمالي.
فلما وردنا الحضرة، أنفذت إلى الحبس، وأخذ الجمال، ولم يكن لي متظلم، ولا مذكر ولا متكلم، فطال حبسي، وطالت بي المحنة إلى الآن.

فقال لبعض الخدم: امض الساعة إلى فلان العامل، واقعد على دماغه، ولا تبرح، أو يرد عليه جماله أو قيمتها على ما يريد، فإذا قبض ذلك، فاحمله إلى الخزانة، واكسه كسوة حسنة، وادفع إليه كذا وكذا ديناراً، واصرفه مصاحباً.
ثم قال لصاحب الشرطة: في حبسك رجل يعرف بفلان بن فلان الحداد ؟ قال: نعم، قال: أحضرنيه الساعة، فأحضره.
فقال له: ما قصتك ؟ قال: أنا رجل حبست بظلم، أنا رجل من أهل الشام، وكانت لي نعمة فزالت، فهربت من بلدي واتصلت محنتي إلى أن وافيت الحضرة طلباً للتصرف، فتعذر علي حتى كدت أتلف جوعاً.
فسألت عن عمل أعمله ليلاً لأتوفر نهاراً على طلب التصرف، وأنفق في النهار ما أكسبه ليلاً، فأرشدت إلى حداد يعمل ليلاً، فقصدته، فاستأجرني بدرهم في كل ليلة، وكنت أعمل معه، وكان معه غلام آخر يضرب بالمطرقة، فأفسد ذلك الغلام على الحداد نعلاً كان يضربها، فاغتاظ عليه، ورماه بالنعل الحديد على قلته، فتلف للوقت، فهرب الحداد، وبقيت أنا في الموضع متحيراً لا أدري إلى أين أمضي، وأحس الحارس في الحال بما رابه في الدكان، فهجم علي فوجدني قائماً، والغلام ميتاً فلم يشك أني القاتل، فقبض علي ورفعني، فحبست إلى الآن، فقال لصاحب الشرطة: خل عنه.
وقال لخادم آخر: خذه فغير حاله، وادفع إليه خمسمائة دينار، ودعه ينصرف مصاحباً.
ثم رفع رأسه إلي، وقال: يا ابن حمدون، الحمد لله الذي وفقني لهذا الفعل.
ففرج عني، فقلت: كيف تكلف أمير المؤمنين النظر في هذا بنفسه، في مثل هذا الوقت ؟ فقل: ويحك إني رأيت في منامي رجلاً يقول لي: في حبسك رجلان مظلومان، يقال لأحدهما: منصور الجمال، والآخر: فلان بن فلان الحداد، فأطلقهما الساعة وأحسن إليهما وأنصفهما، فانتبهت مذعوراً، ثم نمت.
فما استثقلت حتى رأيت الشخص بعينه، يقول لي: ويلك آمرك أن تطلق رجلين مظلومين في حبسك، قد طال مكثهما، وأن تنصفهما وتحسن إليهما، فلا تفعل، وترجع تنام ؟ لقد هممت أن أوجعك، فكاد يمد يده إلي.
فقلت له: يا هذا من أنت ؟ فقال: أنا محمد رسول الله، فكأني قبلت يده، وقلت: يا رسول الله، ما عرفتك، ولو عرفتك ما تجاسرت على تأخير أمرك.
قال: قم، فاعمل في أمرهما الساعة، بما أمرتك به، فانتبهت مذعوراً، فاستدعيتك لتشاهد ما يجري.
فقلت: هذه عناية من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمير المؤمنين، واهتمام بما يصلح دينه، ويثبت ملكه، ومنة عظيمة عليه، لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
فقال: امض فقد أزعجناك، فعدت إلى حجرتي.
فلما كان من الغد عشياً، دخلت إليه وهو جالس على الرسم فأحببت أن أعرف الجلساء ما جرى البارحة، ليسر هو بذلك، وكنت أعرف من طبعه أنه يحب الإطراء والمدح، ونشر ما هذا سبيله، فإنه إذا عمل جميلاً أكثر من ذكره، وتبجح به، وإن كان صغيراً.
فقلت له: إن رأى أمير المؤمنين أن يخبر خدمه، بما كان من المعجزة البارحة، وعناية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بخلافته.
فقال: وما ذاك ؟ فقلت: إحضاري البارحة، وإحضار صاحب الشرطة، والجمال، والحداد، ورؤياه النبي صلى الله عليه وسلم، وما أمره به فيهما، وما تقدم به إلى أمير المؤمنين من إنصافهما.
فقال: والله ما أذكر من هذا شيئاً، وما كنت إلا سكران، نائماً طول ليلتي، وما انتبهت.
فقلت: بلى يا سيدي.
فتنكر، وقال: يا ابن حمدون قد صرت تغالطني وتخادعني بالكذب ؟ فقلت: أعيذ أمير المؤمنين بالله، هذا أمر مشهور في الدار عند الخدم الخاصة وصاحب الشرطة نفسه، وقصصت عليه القصة، وشرحتها.
فاستدعى الخدم، فتحدثوا بمثل ما ذكرته، فأظهر تعجباً شديداً، وحلف بالله العظيم، وبالبراءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالنفي من العباس، أنه لا يذكر شيئاً من ذلك، ولا يعلم إلا أنه كان نائماً، ولا رأى مناماً، ولا انتبه، ولا جلس، ولا استدعى أحداً، ولا أمر بأمر.
فما رأيت أعجب من هذا المنام والحال، ولا أطرف من هذا الاتفاق في نسيانه بعد ذلك.

ووجدت في خبر آخر، قريب من هذا، ولا يذكر فيه حديث الأترج، وذكر فيه أن اسم الجمال، كان نصراً، وأنه كان من نهاوند، وله جمال يكريها، وأن صاحب المعونة، اكترى منه عشرين جملاً، وحمل عليها عشرين رجلاً من الأكراد أسرى، ليحملهم إلى الحضرة، فسار الجمال معهم، فهرب منهم في بعض الطريق، واحد، فوقع لصاحب المعونة أن نصراً الجمال هربه، فقيده، وحمله مكانه، فلما دخلوا الحضرة، أنفذ الجمال مع القوم، إلى الحبس، وأخذ صاحب المعونة جماله.

السكر

السكر، في اللغة: حالة تعترض بين المرء وعقله المنجد، والسكر من الخمر عند أبي حنيفة، أن لا يعلم الأرض من السماء، وعند الشافعي وأبي يوسف ومحمد، أن يختلط كلامه، وعند آخرين، أن يختلط في مشيته إذا تحرك التعريفات 81.
والسكر موجب للحد، أي العقوبة المقررة، ويعتبر حقاً من حقوق الله تعالى التعريفات 57، وقد جلد رسول الله صلوات الله عليه في الخمر أربعين جلدة، وكذلك فعل أبو بكر الصديق، أما الفاروق عمر، فجلد ولده عبد الرحمن، حد الخمر، ثمانين جلدة، وأقيم الحد في عهد عثمان على الوليد بن عقبة، أمير العراق، وأخي عثمان لأمه، فجلد أربعين جلدة ابن الأثير 3 - 107 ومروج الذهب للمسعودي 1 - 533، 546.
أما في عهد الأمويين، فإن يزيد بن معاوية كان يدمن شرب الخمر، فلا يمسي إلا سكران، ولا يصبح إلا مخموراً، وكان عبد الملك يسكر في كل شهر مرة، حتى لا يعقل في السماء هو أو في الماء، وكان الوليد بن عبد الملك يشرب يوماً، ويدع يوماً، وكان سليمان ابن عبد الملك، يشرب في كل ثلاث ليال ليلة، وكان هشام يكسر في كل جمعة، وكان يزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد يدمنان الشرب واللهو، وكان مروان بن محمد يشرب ليلة الثلاثاء وليلة السبت.
أما العباسيون، فقد كان أبو العباس يشرب عشية الثلاثاء وحدها، وكان المهدي، والهادي يشربان يوماً، ويدعان يوماً، وكان الرشيد يشرب في كل جمعة مرتين، وكان المأمون في أول أيامه يشرب الثلاثاء والجمعة، ثم أدمن الشراب عند خروجه إلى الشام في السنة 215 إلى أن توفي، وكان المعتصم لا يشرب يوم الخميس ولا يوم الجمعة، وكان الواثق ربما أدمن الشراب وتابعه، غير أنه لم يكن يشرب ليلة الجمعة، ولا في يومها التاج في أخلاق الملوك 151 - 153.
أقول: الذي قرأته في الأغاني 6 - 77 أن هشام بن عبد الملك لم يكن يشرب، ولا يسقي أحداً بحضرته مسكراً، وكان ينكر ذلك ويعاقب عليه، وأن أبا جعفر المنصور لم يكن يشرب غير الماء التاج 33 ومحاضرات الأدباء 2 - 694، وكان المهدي لا يشرب الأغاني 5 - 160 لا تحرجاً ولكن كان لا يشتهيه الطبري 8 - 160، وأن موسى الهادي وهارون الرشيد كانا مستهترين بالنبيذ نهاية الأرب 4 - 330، وأن الأمين كان لا يبالي مع من قعد ولا أين قعد التاج 42، أما المتوكل، فكان منهمكاً في اللذات والشراب تاريخ الخلفاء 349 وكان يعربد على جلسائه إذا سكر الطبري 9 - 167 أما المهتدي، محمد بن الواثق، فقد كان زاهداً ورعاً تاريخ الخلفاء 361، وكان المعتمد منهمكاً في اللهو واللذات تاريخ الخلفاء 363 وكان المقتدر مؤثراً للشهوات والشراب تاريخ الخلفاء 384 أما القاهر فكان لا يصحو من السكر تاريخ الخلفاء 386 أما المقتفي فلم يشرب النبيذ قط تاريخ الخلفاء 394 وكذلك القادر بالله تاريخ الخلفاء 412 والقائم ابنه تاريخ الخلفاء 417 والمقتدي حفيد القائم تاريخ الخلفاء 423.
أما بشأن رجال الدولة، فقد ذكر أن الفضل بن يحيى البرمكي، لم يكن يشرب الخمر، وعتب عليه الرشيد، وثقل عليه مكانه لتركه الشرب معه، وكان الفضل يقول: لو علمت أن الماء ينقص من مروءتي ما شربته الطبري 8 - 293، وكان سيف الدولة الحمداني لا يشرب النبيذ الملح للحصري 266، وكذلك كان سيف الدولة الأسدي صدقة بن دبيس، فإنه لم يشرب مسكراً المنتظم 9 - 159.
أبو بكر المادرائي يولي عاملاً وهو على صهوة جواده
وحدثني أبو محمد الصلحي، قال: حدثني أبو بكر محمد بن علي المادرائي بمصر، وكان شيخاً جليلاً، عظيم الحال والنعمة والجاه، قديم الرياسة والولايات الكبار للأعمال، وقد وزر لخمارويه بن أحمد بن طولون، وتقلد مصر مرات، وعاش ستاً وتسعين سنة، ومات في سنة نيف وأربعين وثلثمائة، قال:

كنت أكتب لخمارويه بن أحمد بن طولون، في حداثتي، فركبتني الأشغال وقطعني ترادف الأعمال، عن تصفح أحوال المتعطلين.
وكان ببابي شيخ من شيوخ الكتاب قد طالت عطلته، وقد غفلت عن تصريفه.
فرأيت ليلة في منامي، أبي، وكأنه يقول لي: ويحك يا بني أما تستحي من الله، أن تتشاغل بأعمالك والناس ببابك يتلفون ضراً وهزالاً ؟ هوذا فلان، شيخ من شيوخ الكتاب، قد أفضى أمره إلى أن تقطع سراويله، فما أمكنه أن يشتري بدله، أحب أن لا تغفل أمره أكثر من هذا.
فانتبهت متعجباً، واعتقدت الإحسان إلى الشيخ من غد، ونمت، فأصبحت وقد أنسيت أمره.
فركبت إلى دار خمارويه بن أحمد، فإني لأسير إذ تراءى لي الشيخ على دويبة له ضعيفة، فأهوى ليترجل لي، فانكشف فخذه، فإذا هو لابس خفاً بلا سراويل.
فحين وقعت عيني على ذلك، ذكرت المنام، فقامت قيامتي، فوقفت في موضعي، واستدعيته، فقلت له: يا هذا، ما حل لك ما صنعت بنفسك من تركت إذكاري بأمرك، أما كان في الدنيا من يوصل لك رقعة، أو يخاطب في أمرك ؟ الآن قد قلدتك الناحية الفلانية، ورزقتك رزقها وهو في كل شهر مائتا دينار، وأطلقت لك من خزانتي ألف دينار معونة، وأمرت لك من الثياب والحملان بكذا وكذا، فاقبض ذلك واخرج، فإن حسن أثرك في عملك، زدتك، وفعلت بك وصنعت.
وضممت إليه من يتنجز له ذلك.

أدرك أبا محمد الأزرق الأنباري

حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول الأنباري التنوخي، قال: خرج أخي أبو محمد الحسن بن يوسف، يقصد أخانا أبا يعقوب إسحاق ابن يوسف وهو حينئذ بمصر، ومعه زوجة كانت لأبي يعقوب إسحاق ببغداد، وبنية له منها، ومضى.
فلما عاد حدثني أنه سلك في قافلة كبيرة، من هيت على طريق السماوة، يريد دمشق، قال: فلما حصلنا في أعماق السماوة، أخفرتنا خفراؤنا، وجاء قوم من الأعراب، فظاهروهم علينا، وأظهروا أنهم من غيرهم، وقطعوا علينا، فاستاقوا ركائبنا، فبقيت أنا والناس مطرحين على الماء الذي كنا نزلنا عليه بلا جمل، ولا زاد، ولا دليل، فأيسنا من الحياة.
فقلت للناس: إن الموت لا بد منه على كل حال، أقمنا في أماكننا أم سرنا، فلأن نسير طلب الخلاص فلعل الله أن يرحمنا ويخلصنا، أولى من أن نموت ها هنا، وإن متنا في سيرنا كان أعذر.
فساعدوني، وسرنا يومنا وليلتنا، وأنا أحمل الصبية ابنة أخي، لأن أمها عجزت عن حملها، وكلما طال علينا الطريق، ولم نر إنساناً ولا محجة، أحسسنا بالهلاك، ومات منا قوم، وأنا خلال ذلك، قد بدأت بقراءة ختمة، وأنا متشاغل بها، وبالدعاء.
إلى أن وقعنا في اليوم الثاني، على حلة أعراب، فأنكرونا، فلم أعمل عملاً، حتى ولجت بيت امرأة منهم، فأمسكت ذيلها، وكنت سمعت أن الإنسان إذا عمل ذلك أمن شرهم، ووجب حقه عليهم، ثم تفرقنا في البيوت.
واختلفت أحوال الناس، فأما أنا، فإن صاحب البيت الذي نزلت عليه، لما رأى هيبتي ودرسي للقرآن، أكرمني، ولم أزل أحادثه وأرفق به.
فقال لي: ما تشاء ؟ فقلت: تركبني وهذه المرأة، وهذه الصبية، راحلة، وتسير معنا إلى دمشق على راحلة أخرى، بزاد وماء، حتى أعطيك ثمن راحلتك وأهبها لك، وأقضي حقك بعد هذا.
قال: فتذمم واستحيا، وقدرت أني إذا دخلت دمشق، وجدت بها من أصدقاء أخي، من آخذ منه ما أريد.
فكساني الأعرابي، وكسا المرأة والصبية، ووطأ لي راحلة، وحمل معنا من الماء والزاد كفايتنا، وركب هو راحلة أخرى، وكان أكثر من وصل معنا إلى ذلك الموضع، قد تأتى له مثل ما تأتى لي، فصرنا رفقة صالحة العدد.
فلما كان بعد أيام، شارفنا دمشق مع طلوع الشمس، فإذا بأهلها قد خرجوا يستقبلوننا، وكل من له صديق أو معرفة، يسأل عنه، وقد بلغهم خبر القطع، فما شعرت إلا بإنسان يسأل عني، بكنيتي ونسبي.
فقلت: ها أنا ذا.
فعدل إلي، وقال: أنت أبو محمد الأزرق الأنباري ؟ فقلت: نعم.
فقال: إلي، وأذ بخطام راحلتي، وتبعني الأعرابي براحلته، حتى دخلنا مع الرجل دمشق.
فجاء بنا الرجل، إلى دار حسنة سرية، تدل على نعمة حسنة، فأنزلنا، ولم أشك أنه صديق لأخي.
فنزلت، وأنزلت الأعرابي معي، وأخذت جمالنا، وأدخلنا الحمام وألبست خلعة نظيفة، وفعل بالمرأة والصبية مثل ذلك، وأقمت عنده يومين في خفض عيش، لا أسأله عن شيء، ولا يسألني.

فلما كان في اليوم الثالث، قال: ما صورة هذا الأعرابي معك ؟ فأخبرته بما أخذنا منه.
فقال لي: خذ ما تريد من المال.
فقلت: أريد كذا وكذا ديناراً، فأعطاني ذلك، فدفعته إلى الأعرابي، وسلمت إليه جمليه.
وسألت الرجل أن يزوده زاداً كثيراً لا يكون مثله في البادية، فأخرج له شيئاً كثيراً، وخرج الأعرابي شاكراً.
فقال لي الرجل: إلى أين تريد من البلاد، وكم يكفيك من النفقة ؟ فلما قال لي ذلك، ارتبت به، وقلت: لو كان هذا من أصدقاء أخي الذين كاتبهم بتفقدي، لكان يعرف مقصدي.
فقلت له: كم كاتبك أخي أن تدفع إلي ؟ قال: ومن أخوك ؟ قلت: أبو يعقوب الأزرق الأنباري، الكاتب بمصر.
فقال: والله، ما سمعت بهذا الاسم قط، ولا أعرفه.
فورد علي أعجب مورد، وقلت له: يا هذا، إني ظننتك صديقاً لأخي، وأن ما عاملتني به من الجميل من أجله، فانبسطت إليك بالطلب، ولو لم أعتقد هذا لانقبضت فما السبب فيما عاملتني به ؟ فقال: أمر هو أوكد من أمر أخيك، يجب أن يكون انبساطك إليه أتم.
فقلت: ما هو ؟.
قال: إن خبر الوقعة بالقافلة التي كنت فيها، بلغنا في يوم كذا وكذا، فما بقي كبير أحد بدمشق، إلا وردت عليه مصيبة عظيمة، إما بذهاب مال، أو بغم على صديق، غيري، فإني لم يكن لي شيء من ذلك يتعلق قلبي به، واتعد الناس للخروج، لتلقي المنقطعين، وإصلاح أحوالهم، ولم أعزم أنا.
فلما كان في الليل، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، وهو يقول لي: أدرك أبا محمد الأزرق الأنباري، وأغثه، وأصلح شأنه بما يبلغه مقصده، فلما أصبحت، خرجت مع الناس، فسألت عنك، فكان ما رأيت، والآن اذكر ما تريده.
فبكيت بكاء شديداً، لم أقدر معه على خطابه مدة، ثم نظرت إلى ما يبلغني مصر، فطلبته منه، فأخذته، وأصلحت أمري، وسألت الرجل عن اسمه، فقال: أنا فلان بن فلان الصابوني ذكره أبو محمد، وأنسيه أبو الحسن.
قال: فلما بلغت إلى مصر، حدثت أخي بالحديث، فعجب منه، وبكى.
قال أبو الحسن: وضرب الدهر ضربه، وورد أبو يعقوب أخي إلى بغداد بعد سنين، فتذاكرنا هذا الحديث.
فقال أخي: لما عرفني أخي أبو محمد، ما عامله به ابن الصابوني الدمشقي هذا، جعلته صديقاً لي، فكنت أكاتبه.
فلما وردت إلى دمشق، وجدت حاله قد اختلت، لمحن لحقته، فوهبت له ضيعتي بدمشق، وكانت جليلة الغلة والقيمة، فسلمتها إليه، مكافأة لما عامل به أبا محمد أخي.

اعتقلهم الوزير ابن الزيات وأطلقوا لموت الواثق

قال محمد بن عبدوس، في كتاب الوزراء، حدثني الحسين بن علي الباقطائي، قال: حدثني أبي، قال: قال لي أحمد بن المدبر: لما أمر محمد بن عبد الملك بحبسي، أدخلت محبساً فيه أحمد بن إسرائيل، وسليمان بن وهب، وهما يطالبان، فجعلت في بيت ثالث، فكنا نتحدث ونأكل جميعاً، وربما أدخل إلينا النبيذ، فنشرب.
وكان أحمد بن إسرائيل شديد الجبن، وكان ينكر علينا، ويمنعنا أن نتحدث بشيء، أو نرجو لأنفسنا.
فجاءني يوماً سليمان بن وهب، فقال لي: رأيت البارحة في نومي، كأن قائلاً يقول لي: يموت الواثق إلى ثلاثين يوماً، فقم بنا إلى أبي جعفر نحدثه.
فقلت: والله، إن سمع بهذا أبو جعفر، ليشقن ثوبه، وليسدن أذنه خوفاً.
فقال لي: قم على كل حال، فقمنا فدخلنا عليه، فأخبره سليمان بما رأى.
فقال له: يا هذا، أنت أجسر الناس، وأشدهم جناية على نفسك وعلينا، إنما تريد أن يسمع هذا فنقتل.
فقال له: فتكتب هذه الرؤيا عندك، لتمتحن صدقها.
فنفر، وقال: أنا لا أكتب مثل هذا، فكتبته أنا في رقعة صغيرة. فلما كان يوم الثلاثين، دخل علي أحمد بن إسرائيل فقال لي: يا أبا الحسن، هذا يوم الثلاثين، فأخرجت الرقعة، فإذا هو قد حفظ اليوم، ومضى يومنا إلى آخره.
فلما كان الليل، لم نشعر إلا والباب يدق دقاً شديداً، وصاح بنا صائح: البشرى، قد مات الواثق، اخرجوا.
فقال أحمد بن إسرائيل: قوموا بنا، فقد حقق الله الرؤيا، وأتانا بالفرج، وصدقت الرؤيا.
فقال سليمان بن وهب: كيف نمشي مع بعد منازلنا ؟ ولكن نوجه من يجيئنا بما نركب.
فاغتاظ أحمد بن إسرائيل، وقال: نعم، نقعد، حتى يجلس خليفة آخر، فيقال له: إن في الحبس جماعة من الكتاب عليهم أموال، فيأمر بالتوثق منا، إلى أن ينظر في أمرنا، قم عافاك الله، حتى نمر.
فخرج، وخرجنا على أثره.

فقبل أن نخرج من باب الهاروني، سمعنا رجلين يقول أحدهما للآخر: سأل الخليفة جعفر المتوكل عمن في الحبس، فقيل: فيه جماعة من الكتاب، فقال: يكونون فيه إلى أن ننظر في أمورهم.
فجددنا في المشي وقصدنا غير منازلنا، واستترنا.
وبحثنا عن الأخبار، فبلغنا إقرار الخليفة محمد بن عبد الملك، فكتبت إليه رقعة عن جماعتنا، نعرفه خبرنا، واتساع آمالنا فيه، ونستأذنه فيما نعمل.
فلما وصلت إليه الرقعة، وقع على ظهرها: لم استخفيتم ؟ وليس منكم إلا من عنايتي تخصه، ورأبي فيه جميل، أما أبو أيوب فقد تكلم في حقه أبو منصور إيتاخ، واستوهبه، فوهب له، وأمرت باحضاره ليخلع عليه، فليحضر، وأما أبو جعفر فإنه طولب بما لا يلزمه، وقد وضحت حجته في بطلانه، فليصر إلي، وأما أبو الحسن فإن قذف بباطل، فاظهروا جميعاً، واثقين بما عندي من حياطتكم ورعايتكم.
فصرنا إليه جميعاً، وزال عنا ما كنا فيه، فخلع على سليمان خاصة.

النبيذ

النبيذ: الخمر المعتصر من التمر، أو العنب، أو العسل، وسمي نبيذاً، لأن الذي يتخذه يأخذ تمراً أو زبيباً، فيلقيه في وعاء ويصب عليه الماء، وينبذه حتى يفور، ويصير مسكراً، والمطبوخ منه هو الذي يعرض على النار، وخير أنواع النبيذ هو القطربلي، من نتاج قطربل إحدى ضواحي بغداد، وهي مشهورة بخمرها معجم البلدان 4 - 133.
وللاطلاع على أنواع النبيذ راجع ما كتبه أبو الحسن علي بن أبي الحزم القرشي المتطبب المعروف بابن النفيس في مطالع البدور 1 - 140، ولزيادة التفصيل راجع كتاب الأشربة لابن قتيبة.
ومما يلاحظ أن العراقيين كانوا لا يرون بشرب النبيذ بأساً، أما الآن فهم يرون حرمته، والقليل منهم من يشربه، وقد كان عند أهل العراق لشرب النبيذ آيين، وصفه القاضي التنوخي في القصة 8 - 109 من كتاب نشوار المحاضرة، فيما يتعلق بترتيب مجلس الشراب، وما فيه من تماثيل العنبر، وأجاجين ماء الورد، والصواني، والمغاسل، والمراكن، والخرداذيات، والمدافات التي تشتمل على الأنبذة، وكيف يختار النبيذ، ومن يختاره، وكيف يتم السقي، ومن يكون الساقي.
وفي القصة 3 - 69 أورد التنوخي قصة أشار فيها إلى آيين المنادمة الذي يفرض على النديم أن يقبل يد الملك أولاً، ثم يقبل القدح ثانياً، ويشرب، وإذا قدم للملك شراباً، أو مأكلاً، فإن عليه أن يتناول منه قبل الملك.
كما أورد التنوخي في نشواره وصفاً لأحد مجالس شرب المقتدر القصة 1 - 158 ولأحد مجالس شرب الراضي القصة 1 - 159 ولأحد مجالس شرب المتوكل القصة 1 - 162 ولأحد مجالس شرب عضد الدولة القصة 4 - 44 ولأحد مجالس شرب أبي القاسم البريدي القصة 1 - 164 ولأحد مجالس شرب الوزير المهلبي، وزير معز الدولة القصة 1 - 163، وفي معجم الأدباء 5 - 334 وصف لمجلس من مجالس شرب الوزير المهلبي، كان يجتمع فيها بأصحابه من شيوخ القضاة، في كل أسبوع مرتين، فيلبسون المصبغات، ويوضع أمام كل واحد منهم طاس من الذهب وزنه ألف مثقال، مملوء شراباً قطربلياً عكبرياً، فيشربون، ويطربون، ويرقصون، وإلى هذا المجلس أشار السري الرفاء في قوله ديوان السري الرفاء 246:
إذا سقى اللّه منزلاً فسقى ... بغداد ما حاولت من الديم
يا حبّذا صحبة العلوم بها ... والعيش بين اليسار والعدم
كيف خلاصي من العراق وقد ... أثرت فيها معادن الكرم
رأيت فيها خلاعة وصلت ... أطرافها بالعلوم والحكم
مجالس يرقص القضاة بها ... إذا انتشوا في مخانق البرم
كأنّهم من ملوك حمير ما ... أوفت أكاليلهم على اللمم
وصاحبٍ يخلط المجون لنا ... بشيمة حلوة من الشيم
تخضب بالراح شيبه عبثاً ... أنامل مثل حمرة العنم
راجع في كتاب مطالع البدور ما ورد في الراح، وفي آنيتها، واستعمالها، وما يجب على شاربيها، ومستهديها، ووصافها، والمتنادمين عليها، ومسامراتهم، وغنائهم 1 - 128 - 229.

ومن أراد التوسع في الاطلاع على مجالس شرب الخلفاء والأمراء والشعراء، فعليه بكتاب الديارات للشابشتي تحقيق كوركيس عواد، وكتاب قطب السرور في أوصاف الخمور للرقيق النديم، فهما جامعان للكثير من هذه الأخبار، وفي العقد الفريد 6 - 352 - 373 بحث عن النبيذ، وتحليله، وتحريمه، وعن الفرق بين النبيذ والخمر.

من شعر سليمان بن وهب لما حبس

قال: وفي هذه الحبسة كتب سليمان بن وهب إلى أخيه الحسن بن وهب فيما حكاه محمد بن عبدوس:
هل رسولٌ وكيف لي برسول ... إنّ ليلي ليل السقيم العليل
هل رسول إلى أخي وشقيقي ... ليت أنّي مكان ذاك الرّسول
يا أخي لو ترى مكاني في الحب ... س وحالي وزفرتي وعويلي
وعثاري إذا أردت قياماً ... وقعودي في مثقلات الكبول
لرأيت الّذي يغمّك في الأع ... داء أن يسلكوا جميعاً سبيلي
هذه جملة أراني غنّياً ... معها عن أذاك بالتفصيل
ولعلّ الإله يأتي بصنعٍ ... وخلاصٍ وفرجة عن قليل
وذكر أبياتاً أخر، تماماً لهذه الأبيات، لم أذكرها، لأنها ليست من هذا المعنى، ثم قال: وقد ذكر محمد بن داود، في كتابه المسمى كتاب الوزراء من خروج سليمان بن وهب من حبس الواثق غير هذا، قال في كتابه: حدثني أبو القاسم عبيد الله بن سليمان، واقتص محمد بن عبدوس، قصة طويلة، ليس فيها ذكر منام، فذكرتها أنا في كتابي هذا، في باب من خرج من حبس أو أسر أو اعتقال، إلى سراح وسلامة وصلاح حال، ورويتها عن علي بن عيسى، عن عبيد الله بن سليمان، بألفاظ قوية، أقوى من الألفاظ التي أوردها ابن عبدوس، ولم أذكرها ها هنا، لأن هذا الخبر، مختص بالمنامات، فجعلته في بابه، وأوردت تلك القصة في الباب المفرد لأمثالها.
بين الوزير المهلبي والحسين السمريحدثني علي بن محمد الأنصاري الخطمي، قال: حدثني أبو عبد الله الحسين بن محمد السمري كاتب الديوان بالبصرة، قال: كان أبو محمد المهلبي، في وزارته، قبض علي بالبصرة، وطالبني بمال، وحبسني حتى يئست من الفرج، فرأيت ليلة في المنام، كأن قائلاً يقول لي: اطلب من ابن الراهبوني دفتراً خلقاً عنده، على ظهره دعاء، فادع الله به، فإنه يفرج عنك، وكان ابن الراهبوني هذا، صديقاً لي من تناء أهل واسط، مقيماً بالبصرة.
فلما كان من غد، جاءني، فقلت له: عندك دفتر على ظهره دعاء.
فقال لي: نعم.
قلت: جئني به، فجاءني به، فرأيت مكتوباً على ظهره: اللهم أنت أنت، انقطع الرجاء إلا منك، وخابت الآمال إلا فيك، صل على محمد وعلى آل محمد، ولا تقطع اللهم منك رجائي؛ ولا رجاء من يرجوك في شرق الأرض وغربها، يا قريباً غير بعيد، ويا شاهداً لا يغيب، ويا غالباً غير مغلوب، اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، وارزقني رزقاً واسعاً من حيث لا أحتسب، إنك على كل شيء قدير.
قال: فواصلت الدعاء بذلك، فما مضت إلا أيام يسيرة، حتى أخرجني المهلبي من الحبس، وقلدني الإشراف على أحمد الطويل، في أعماله بأسافل الأهواز.
قال لي أبو الحسن الأنصاري: قال لي أبو علي زكريا بن يحيى الكاتب النصراني، حدثني بهذا الحديث أبو عبد الله السمري، وكتبت عنه الدعاء، ونقلته، وحفظته، وتقلبت بي الأحوال، فكتبت لأبي جعفر ممله، صاحب مائدة معز الدولة، فاعتقلني بعد مدة، ونكبني، فواصلت الدعاء به، فأطلقني بعد أيام يسيرة.
رأى في المنام أن غناه بمصرحدثني أبو الربيع سليمان بن داود البغدادي، صاحب كان لأبي، وكان قديماً يخدم القاضيين أبا عمر محمد بن يوسف، وابنه أبا الحسين في دورهما، وكانت جدته تعرف بسمسمة، قهرمانة كانت في دار القاضي أبي عمر محمد بن يوسف رحمه الله، قال: كان في جوار القاضي قديماً، رجل انتشرت عنه حكاية، وظهر في يده مال جليل، بعد فقر طويل، وكنت أسمع أن أبا عمر حماه من السلطان، فسألت عن الحكاية، فدافعني طويلاً، ثم حدثني، قال: ورثت عن أبي مالاً جليلاً، فأسرعت فيه، وأتلفته، حتى أفضيت إلى بيع أبواب داري وسقوفها، ولم يبق لي من الدنيا حيلة، وبقيت مدة بلا قوت إلا من غزل أمي، فتمنيت الموت.
فرأيت ليلة في النوم، كأن قائلاً يقول لي: غناك بمصر، فاخرج إليها.

فبكرت إلى أبي عمر القاضي، وتوسلت إليه بالجوار، وبخدمة كانت من أبي لأبيه، وسألته أن يزودني كتاباً إلى مصر، لأتصرف بها، ففعل، وخرجت.
فلما حصلت بمصر، أوصلت الكتاب، وسألت التصرف، فسد الله علي الوجوه حتى لم أظفر بتصرف، ولا لاح لي شغل.
ونفدت نفقتي، فبقيت متحيراً، وفكرت في أن أسأل الناس، وأمد يدي على الطريق، فلم تسمح نفسي، فقلت: أخرج ليلاً، وأسأل، فخرجت بين العشاءين، فما زلت أمشي في الطريق، وتأبى نفسي المسألة، ويحملني الجوع عليها، وأنا ممتنع، إلى أن مضى صدر من الليل.
فلقيني الطائف، فقبض علي، ووجدني غريباً، فأنكر حالي، فسألني عن خبري، فقلت: رجل ضعيف، فلم يصدقني، وبطحني، وضربني مقارع.
فصحت: أنا أصدقك.
فقال: هات.
فقصصت عليه قصتي من أولها إلى آخرها، وحديث المنام.
فقال لي: أنت رجل ما رأيت أحمق منك، والله لقد رأيت منذ كذا وكذا سنة، في النوم، كأن رجلاً يقول لي: ببغداد في الشارع الفلاني، في المحلة الفلانية - فذكر شارعي، ومحلتي، فسكت، وأصغيت إليه - وأتم الشرطي الحديث فقال: دار يقال لها: دار فلان - فذكر داري، واسمي - فيها بستان، وفيه سدرة، وكان في بستان داري سدرة، وتحت السدرة مدفون ثلاثون ألف دينار، فامض، فخذها، فما فكرت في هذا الحديث، ولا التفت إليه، وأنت يا أحمق، فارقت وطنك، وجئت إلى مصر بسبب منام.
قال: فقوي بذلك قلبي، وأطلقني الطائف، فبت في بعض المساجد، وخرجت مع السحر من مصر، فقدمت بغداد، فقطعت السدرة، وأثرت تحتها، فوجدت قمقماً فيه ثلاثون ألف دينار، فأخذته، وأمسكت يدي، ودبرت أمري، فأنا أعيش من تلك الدنانير، من فضل ما ابتعت منها من ضيعة وعقار إلى اليوم.

خزيمة بن هازم يصرف الحراني ويعقد له على طريق الفرات

وجدت في كتاب أبي الفرج عبد الواحد المخزومي الحنطبي، عن علي ابن العباس النوبختي، قال: حدثني أحمد بن عبد الله التغلبي، قال: كان من بقايا شيوخ خراسان، ممن يلزم دار العامة بسر من رأى، شيخ يكنى أبا عصمة، وكان يحدثنا كثيراً، بأخبار الدولة وأهلها فحدثنا يوماً: أن خزيمة بن خازم، كان يجلس في داره للناس، في كل يوم ثلاثاء، فلا يحجب عنه أحد، ولا يستأذن لمن يدخل، إنما يدخلون أرسالاً، بغير إذن، فمن كان من الأشراف ووجوه الناس، سلم وانصرف، ومن كان من طلاب الحوائج، أو خطاب التصرف، دفع رقعته إلى الحاجب، فيجتمع الناس ويدخلون، فيعرض رقاعهم عليه.
وكان قد أفرد لهذا كاتباً حصيفاً يقال له: الحسن بن مسلمة، يتصفح الرقاع قبل عرضها عليه، فما كان يجوز أن يوقع عنه فيه بخطه، وقع وسلمه إلى أربابه، وما كان لا بد من وقوفه عليه، وتوقيعه فيه بخطه، أوقفه عليه، ومن كان من الناس زائراً، أو مسترفداً، عرضت رقعته عليه، فيكون هو الموقع فيها بما يراه فلا يكاد ينصرف أحد من ذلك الجمع العظيم المفرط، إلا وهو مسرور بقضاء حاجته.
قال أبو عصمة: وكان ممن يتصرف في الأعمال، رجل من الأعراب، ذو لسان وفصاحة، يقال له: حامد بن عمرو الحراني، وكان فيه إلحاح شديد، وملازمة تامة إذا تعطل، فيؤذي بذلك ويبرم.
وكان يخاطب خزيمة في أيام الثلاثاء، ولا يقنع بذلك، حتى يلازم بابه كل يوم، وإذا ركب خاطبه على الطريق، وربما تعرض له في دار الخليفة فخاطبه، ولم يكن في طبع خزيمة احتمال مثل ذلك.
قال أبو عصمة: فحدثني الحسن بن مسلمة، كاتب خزيمة، قال: نظر خزيمة إلى هذا الرجل في داره، وكان قد لقيه في الطريق، فخاطبه قبل ذلك بيوم، وأضجره، ووافق من خزيمة ضجراً بشيء حدث من أمور المملكة، مع ما فيه من الجبروتية والكبر.
فحين خاطبه الرجل، صاح فيه، وأمر بإخراجه من داره إخراجاً عنيفاً، ثم دعاني، فقال: والله، لئن دخل هذا داري، لأضربن عنقه، ولئن وقف لي على طريق، أو كلمني في دار السلطان، لأضربن عنقه، فأخبره بذلك، وحذره، وتقدم إلى البوابين والحجاب بمنعه، وكان خزيمة إذا وعد أو توعد، فليس إلا الوفاء.
فخرجت إلى الحجاب والبوابين وأصحاب المقارع، فبالغت في تحذيرهم، وتهديدهم، وعرفتهم ما قال، وأنه حلف أن تضرب أعناقهم إذا خالفوا، وأكدت الوصية بجهدي، مستظهراً لنفسي.

وخرجت إلى خارج الدار، فوجدت الرجل قائماً، فأعلمته أن دمه مرتهن بنظرة ينظرها إليه خزيمة في دار السلطان، أو على بابه، أو في الطريق، وحذرته تحذيراً شديداً، وخوفته من سفك دمه، وأن لا يجعل عليه سبيلاً، فشكرني على تحذيره، وانصرف كئيباً.
فلما أصبحنا من الغد، غدوت إلى دار خزيمة على رسمي، للملازمة، فلما دنوت من الباب، إذا بالرجل واقفاً كما كان يقف منتظراً لركوبه.
فعظم ذلك علي، وقلت: يا هذا، أما تخاف الله ؟ أتحب أن تقتل نفسك ؟ أما تعرف الرجل ؟ فقال: والله، ما أتيت هذا عن جهل مني ولا اغترار، بل أتيته على أصل قوي، وسبب وثيق، وسترى من لطف الله ما يسرك، وتعجب منه.
قال الحسن: فزاد عجبي منه، ودخلت الدار، فصادفت خزيمة في صحن الدار يريد الركوب، فحين نظر إلي، قال: ما فعل حامد بن عمرو ؟ قلت: رأيته الساعة بالباب، وقد تهددته، فلما رأيته اليوم بالباب تعجبت من جهله وعوده، مع ما أعذرت إليه من الوعيد، وأمرته بالانصراف، فأجابني بجواب لا أدري ما هو، فأنا بريء من فعله.
فقال: بأي شيء أجابك ؟ فأخبرته، فسكت خزيمة، وخرج فركب، فحين رآه حامد ترجل له.
فصاح به: لا تفعل، والحقني إلى دار أمير المؤمنين وسار خزيمة، فدخل دار الرشيد، ودخلنا معه إلى حيث جرت عادتنا أن نبلغه من الدار، فجلسنا فيه، ومضى خزيمة يريد الخليفة، وجاء حامد فجلس إلى جانبي.
فقلت له: أصدقني عن خبرك، والسبب في جسارتك على خزيمة، ولينه لك بعد الغلظة، وعرفته ما جرى بيني وبين خزيمة ثانياً.
فقال: طب نفساً، فما أبدي لك شيئاً إلا بعد بلوغ آخر الأمر.
فبينا نحن كذلك، إذ دعي حامد إلى حيث كان مرسوماً بأن يدخله من يخلع عليه، فتحيرت فلم يكن بأسرع من أن خرج وعليه الخلع، وبين يديه لواء قد عقد له على طريق الفرات بأسره، فقمت إليه وهنأته.
وقلت: ولا الساعة تخبرني الخبر ؟ فقال: ما فات شيء، وودعني ومضى، فأقمت بمكاني إلى أن خرج خزيمة، فسرت معه إلى داره، فلما استقر، دعاني، فسألني عن أمور جرت.
وقال: أظنك أنكرت ما جرى من أمر حامد ؟ قلت: إي والله، أيها الأمير.
قال: فاسمع الخبر، اعلم أني كنت في نهاية الغيظ عليه، وأمرت فيه بما علمته أمس، فلما كن البارحة، رأيته في النوم، كأنه قائم يصلي، وقد رفع يديه إلى الله يدعو علي.
فصحت به: لا تفعل، لا تفعل، وادن مني، فانفتل من صلاته، وجاء حتى وقف بين يدي.
فقلت له: ما يحملك على أن تدعو علي ؟ فقال: لأنك أهنتني، واستخففت بي، وهددتني بالقتل ظلماً، وقطعت أملي من طلب رزقي وقوتي، وأنا أشكوك إلى الله، وأستعينه عليك.
وكأني أقول له: طب نفساً، ولا تدع علي، فإني أحسن إليك غداً، وأوليك عملاً، واستيقظت.
فعجبت من المنام، وعلمت أني قد ظلمت الرجل، وقلت في نفسي: شيخ من العرب، له سن وشرف، أسأت إليه بغير جرم، وأرعبته، وماذا عليه إذا لج في طلب الرزق ؟ وعلمت أن الذي رأيته في منامي موعظة في أمره، وحث على حفظ النعم، وأن لا أنفرها بقلة الشكر، واستعمال الظلم.
فاعتقدت أن أوليه، كما وعدته في النوم، فكان ما رأيت.
قال الحسن بن مسلمة: فقويت رأيه في هذا، ودعوت له، وانصرفت، فجاءني من العشي حامد، مسلماً، ومودعاً، ليخرج إلى عمله.
فقلت له: هات الآن خبرك.
فقال: نعم، انصرفت من باب خزيمة موجع القلب، قلقاً، مرتاعاً، فأخبرت عيالي، فصار في داري مأتم، وبكاء عظيم، ولم أطعم أنا، ولا هم، شيئاً، يومنا وليلتنا، وأمسيت كذلك.
فلم هدأت العيون، توضأت، واستقبلت القبلة، فصليت ما شاء الله، وتضرعت إلى الله، ودعوته بإخلاص نية، وصدق طوية، وأطلت، فحملتني عيني، فنمت وأنا ساجد في القبلة.
فرأيت في منامي، كأني على حالي في الصلاة والدعاء، وكأن خزيمة قد وقف علي، وأنا أدعو، فصاح بي: لا تفعل، لا تفعل، وأغد علي، فإني أحسن إليك، وأوليك، فانتبهت مذعوراً، وقد قويت نفسي، فقلت: أبكر إليه، فلعل الله أن يطرح في قلبه الرقة، فغدوت إليه، فكان ما رأيت.
قال الحسن: فكثر تعجبي لاتفاق المنامين، فقلت لحامد: لقد أخبرني الأمير بمثل ما ذكرته، لم يخرج منه حرفاً، وبكرت إلى خزيمة، فحدثته بالحديث، فعجب منه، وأحضر حامداً حتى سمع منه ذلك، وأمر له بكسوة وصلة وحملان، ولم يزل بعد ذلك يتعمد إكرامه.

بين الوزير علي بن عيسى والعطار الكرخي

ويقارب هذا حديثان، حدثني بأحدهما بعض أهل بغداد.
أن عطاراً من أهل الكرخ، كان مشهوراً بالستر والأمانة، فركبه دين، وقام من دكانه، ولزم بيته مستتراً، وأقبل على الدعاء والصلاة، إلى أن صلى ليلة الجمعة صلاة كثيرة، ودعا، ونام، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، وهو يقول له: اقصد علي بن عيسى، وكان إذ ذاك وزيراً، فقد أمرته أن يدفع إليك أربعمائة دينار، فخذها وأصلح بها أمرك.
قال الرجل: وكان علي ستمائة دينار ديناً، فلما كان من الغد، قلت: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم، من رآني في منامه فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي، فلم لا أقصد الوزير.
فلما صرت ببابه، منعت من الوصول إليه، فجلست إلى أن ضاق صدري، وهممت بالانصراف، فخرج الشافعي صاحبه، وكان يعرفني معرفة ضعيفة، فأخبرته الخبر.
فقال: يا هذا، الوزير والله في طلبك منذ السحر إلى الآن، وقد سألني عنك فأنسيتك، وما عرفك أحد، والرسل مبثوثة في طلبك، فكن بمكانك، ثم رجع فدخل، فلم يكن بأسرع من أن دعي بي، فدخلت إلى علي بن عيسى.
فقال لي: ما اسمك ؟ قلت: فلان بن فلان العطار.
قال: من أهل الكرخ ؟ قلت: نعم.
قال: أحسن الله إليك في قصدي إياي، فوالله ما تهنأت بعيش منذ البارحة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءني البارحة في منامي، فقال: أعط فلان بن فلان العطار من أهل الكرخ أربعمائة دينار يصلح بها شأنه، فكنت اليوم في طلبك، وما عرفك أحد.
فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءني البارحة، فقال لي كيت وكيت.
قال: فبكى علي بن عيسى، وقال: أرجو أن تكون هذه عناية من رسول الله صلى الله عليه وسلم بي.
ثم قال: هاتوا ألف دينار، فجاءوه بها عيناً.
فقال: خذ منها أربعمائة دينار، امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وستمائة دينار هبة مني لك.
فقلت: أيها الوزير ما أحب أن أزداد على عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فإني أرجو البركة فيه، لا فيما عداه.
فبكى علي بن عيسى، وقال: هذا هو اليقين، خذ ما بدا لك.
فأخذت أربعمائة دينار، وانصرفت، فقصصت قصتي على صديق لي، وأريته الدنانير، وسألته أن يقصد غرمائي، ويتوسط بيني وبينهم، ففعل.
وقالوا: نمهله بالمال ثلاث سنين.
فقلت: لا، ولكن يأخذون مني الثلث عاجلاً، والثلثين في سنتين، في كل سنة ثلثاً، فرضوا بذلك، وأعطيتهم مائتي دينار، وفتحت دكاني بالمائتي دينار الباقية.
فما حال الحول إلا ومعي ألف دينار، فقضيت ديني، وما زال مالي يزيد، وحالي يصلح، والحمد لله.

طاهر بن يحيى العلوي وجرايته من الحاج الخراساني

والخبر الآخر، ما حدثني به أحمد بن يوسف الأزرق، عن أبي القاسم ابن أماجور المنجم، قال: كنت إذا حججت، دخلت على طاهر بن يحيى العلوي، فرأيت عنده خراسانياً، كان يحج في كل سنة، فإذا دخل المدينة، جاء إلى طاهر بن يحيى فأعطاه مائتي دينار، فكانت كالجراية له منه.
فلما كان في بعض السنين، جاء يريد داره، ليعطيه المائتي دينار، فاعترضه رجل من أهل المدينة، فشنع بطاهر عنده، وقال له: تضيع دنانيرك التي تدفعها إلى طاهر، وهو يأخذها منك ومن غيرك، فيصرفها فيما يكرهه الله تعالى، ويفعل ويصنع، وتكلم فيه بقبيح.
قال الخراساني: فانصرفت عنه، وتصدقت بالدنانير، وخرجت من المدينة، ولم ألق طاهراً.
فلما كان في العام الثاني، دخلت المدينة، فتصدقت بالمال، وطويت طاهراً.
فلما كان في العام الثالث، تأهبت للحج، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي، يقول لي: ويحك قبلت في ابني طاهر قول أعدائه، وقطعت عنه ما كنت تبره به ؟ لا تفعل، فاقصده، وأعطه ما فاته، ولا تقطعه عنه ما استطعت.
قال: فانتبهت فزعاً، ونويت ذلك، وأخذت صرةً فيها ستمائة دينار، وحملتها معي، فلما صرت بالمدينة، بدأت بدار طاهر، فدخلت عليه وجلست، ومجلسه حفل.
فحين رآني، قال: يا فلان، لو لم يبعث بك إلينا ما جئتنا، فقلت: كلمة وافقت أمراً، ليس إلا أن أتغافل، فقلت: ما معنى هذا الكلام أصلحك الله ؟ فقال: قبلت فيّ قول عدو الله، وعدو رسوله، وقطعت عادتك عني، حتى لامك رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامك وأمرك أن تعطيني الستمائة دينار، هاتها، ومد يده إلي.

فتداخلني من الدهش ما ذهلت معه، فقلت: أصلحك الله، هكذا والله كانت القضية، فمن أعلمك بذلك ؟ فقال لي: بلغني خبر دخولك المدينة في السنة الأولى، فلما رحل الحاج ولم تأتني، أثر ذلك في حالي، وسألت عن القصة، فعرفت أن بعض أعدائنا لقيك، فشنع بي عندك، فآلمني ذلك.
فلما كان في الحول الثاني، بلغني دخولك، وخروجك، وأنك قد عملت على قوله فيّ، فازددت غماً لذلك.
فلما كان منذ شهور، ازدادت إضاقتي، وامتنع مني النوم غماً لما دفعت إليه، ففزعت إلى الصلاة، فصليت ما شاء الله، وأقبلت أدعو بالفرج، فحملتني عيني في المحراب، فنمت، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي وهو يقول لي: لا تهتم، فقد لقيت فلاناً الخراساني، وعاتبته على قبوله فيك قول أعدائك، وأمرته أن يحمل إليك ما فاتك، ولا يقطع عنك بعدها ذلك، ويبرك ما استطاع، وانتبهت، فحمدت الله وشكرته، فلما رأيتك، علمت أن المنام جاء بك.
قال: فأخرجت الصرة التي فيها ستمائة دينار، فدفعتها إليه، وقبلت يده، وسألته أن يحلني من قبول قول ذلك الرجل فيه.

قصة العلوية الزمنة

حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزدي، قال: كان في شارع دار الرقيق، جارية علوية، أقامت زمنةً خمس عشرة سنة، وكان أبي في جوارها أيام نزولنا بدرب المعوج من هذا الشارع، في دار شفيع المقتدري، التي كان اشتراها، يتفقدها، ويبرها، وكانت مسجاة، لا يمكنها أن تنقلب من جنب إلى جنب، أو تقلب، ولا تقعد، أو تقعد، وكان لها من يخدمها في ذلك، وفي الإنجاء، والأكل، لقصور أطرافها، وأعضائها، وكانت فقيرة، إنما قوتها وقوت خادمتها من بر الناس.
فلما مات أبي اختل أمرها، وبلغ تجني، أم ولد الوزير المهلبي خبرها، فكانت تقوم بأمرها، وأجرت عليها جراية في كل شهر، وكسوة في كل سنة.
فباتت ليلة من الليالي على حالها، وأصبحت من الغد، وقد برأت، ومشت، وقامت، وقعدت.
وكنت مجاوراً له، وكنت أرى الناس يأتون باب دارها، فأنفذت امرأة من داري، ثقة، حتى شاهدتها، وسمعتها تقول: إني ضجرت بنفسي ضجراً شديداً، فدعوت الله تعالى بالفرج مما أنا فيه، أو الموت، وبكيت بكاء شديداً متصلاً، وبت، وأنا متألمة، قلقة، ضجرة، وكان سبب ذلك، أن الجارية التي كانت تخدمني، تضجرت بي، وخاطبتني بما ضاق صدري معه.
فلما استثقلت في نومي، رأيت كأن رجلاً دخل علي، فارتعت منه، وقلت له: يا هذا، كيف تستحل أن تراني ؟ فقال: أنا أبوك، فظننته أمير المؤمنين.
فقلت: يا أمير المؤمنين، هوذا ترى ما أنا فيه.
فقال: أنا محمد رسول الله.
فبكيت، وقلت: يا رسول الله، ادع لي بالفرج والعافية.
فحرك شفتيه بشيء لا أفهمه، ثم قال: هاتي يديك، فأعطيته يدي، وأخذهما، وجذبني بهما، فقمت.
فقال: امشي على اسم الله.
فقلت: كيف أمشي ؟ فقال: هاتي يديك، فأخذهما، وما زال يمشي بي، وهما في يديه ساعة، ثم أجلسني، حتى فعل ذلك ثلاث مرات.
ثم قال لي: قد وهب الله لك العافية، فاحمديه واتقيه، وتركني ومضى.
فانتبهت، وأنا لا أشك أنه واقف، لسرعة المنام، فصحت بالخادم، فظنت أني أريد البول، فتثاقلت.
فقلت لها: ويحك، أسرجي، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتبهت، فوجدتني مسجاة، فشرحت لها المنام.
فقالت: أرجو أن يكون الله تعالى قد وهب لك العافية، هاتي يدك، فأعطيتها يدي، فأجلستني.
ثم قالت لي: قومي، فقمت معها، ومشيت متوكئة عليها، ثم جلست، ففعلت ذلك ثلاث مرات، الأخيرة فيهن مشيت وحدي.
فصاحت الخادمة سروراً بالحال، وإعظاماً لها، فقدر الجيران أني قد مت، فجاؤوا، فقمت أمشي بين أيديهم.
قال أبو محمد: وما زالت قوتها تزيد، إلى أن رأيتها قد جاءت إلى والدتي في خف وإزار، بعد أيام،، ولا داء بها، فبررناها، وهي إلى الآن باقية، وهي من أصلح وأورع أهل زماننا، وقد تزوجت برجل علوي موسر، وصلحت حالها، ولا تعرف إلى الآن، إلا بالعلوية الزمنة.

فمضى على هذا الحديث، سنون كثيرة، وجرى بيني وبين القاضي أبي بكر محمد بن عبد الرحمن، المعروف بابن قريعة، مذاكرة بالمنامات، فحدثني بحديث منام هذه العلوية، وقصتها، وعلتها، على مثل ما حدثني به أبو محمد، وقال: وأنا كنت أحمل إليها جرايتها من عند تجني، جارية الوزير أبي محمد المهلبي، وكسوتها على طول السنين، وسمعت منها هذا المنام، ورأيتها تمشي بعد ذلك صحيحة، بلا قلبة، وتجيء إلى تجني، وتجني زوجتها بالعلوي، وأعطتني مالاً، فقمت بتجهيزها، وأمرها، حتى أعرس بها زوجها، وهي إلى الآن من خيار النساء.
قال مؤلف الكتاب: وحدثني بعد هذا، جماعة أسكن إليهم من أهل شارع دار الرقيق، بخبر هذه العلوية، على قريب من هذا، وهي باقية إلى حين معرفتي بخبرها في سنة ثلاث وسبعين وثلثمائة.
ثم كنت في سنة سبع وسبعين وثلثمائة عند أبي الفتح أحمد بن علي بن هارون المنجم، فرأيت في داره بدرب سليمان من شارع دار الرقيق، وأنا عنده، امرأة عجوزاً، قد دخلت، فأعظمها.
فقلت: من هذه ؟ فقال: العلوية الزمنة، صاحبة المنام، وكانت تمشي بخفها وإزارها.
فسألتها أن تجلس: ففعلت، واستخبرتها، فحدثتني، فقالت: اعتللت من برسام، وأنا في حدود عشرين سنة من عمري، ثم انجلى عني، وقد لحق حقوي شيء أزمنني، فكنت مطروحة على الفراش سبعاً وعشرين سنة، لا أقدر أن أقعد، ولا أقوم أصلاً، وأنجو في موضعي، وأغسل، وكنت مع ذلك، لا أجد ألماً.
ثم بعد سنين كثيرة من علتي، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، في منامي وأنا أقول له: يا جدي، ادع الله عز وجل أن يفرج عني.
فقال: ليس هذا وقتك.
ثم رأيت أمير المؤمنين رضي الله عنه، فقلت له: أما ترى ما أنا فيه، فاسأل رسول الله أن يدعو لي، أو ادع لي أنت، فكأنه قد دافعني.
ثم توالت علي بعد ذلك، رؤيتي لهما في النوم، فجرى بيني وبينهما قريب من هذا، ورأيت الحسن والحسين رضي الله عنهما، وكأني أسأل كل واحد منهما الدعاء بالعافية، فلا يفعل.
فلما مضت سبع وعشرون سنة، لحقني ألم شديد، أياماً في حقوي، فقاسيت منه شدة شديدة، فأقبلت أبكي، وأدعو الله بالفرج.
فرأيت ليلة في منامي، النبي صلى الله عليه وسلم، فعرفته، لأني كنت أراه طول تلك السنين على صورة واحدة، وكأني أقول له: يا جدي، متى يفرج الله عني ؟ فكأنه أدخل يده في طرف كمي، وجس بدني، من أوله إلى آخره، حتى بلغ حقوي، فوضع يده عليه، وتكلم بكلام لا أفهمه، ثم ردني على قفاي، كما كنت نائمة، وقال: قد فرج الله عنك، فقومي.
فقلت: كيف أقوم ؟ فقال: هاتي يدك، فأعطيته يدي، فأقعدني.
ثم قال: قومي على اسم الله.
فقمت، ثم خطا بي خطوات يسيرة، وقال: قد عوفيت.
فانتبهت، وأنا مستلقية على ظهري، كما كنت نائمة، إلا أنني فرحانة، فرمت القعود، فقعدت لنفسي وحدي، ودلت رجلي من السرير، فتدلتا، فرمت القيام عليهما، فقمت، ومشيت، فقلت للمرأة التي تخدمني: لست آمن أن يشيع خبري، فيتكاثر الناس علي، فيؤذوني، وأنا ضعيفة من الألم الذي لحقني، إلا أني كنت لما انتبهت، لم أحس بشيء من الألم، ولم أجد غير ضعف يسير.
فقلت: اكتمي أمري يومين، إلى أن صلحت قوتي فيهما، وزادت قدرتي على المشي والحركة، وفشا خبري، وكثر الناس علي، فلا أعرف إلى الآن، إلا بالعلوية الزمنة.
فسألتها عن نسبها، فقالت: أنا فاطمة بنت علي بن الحسن بن القاسم ابن عبد الله بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، لم تذكر لي غير هذا، ولا سألتها عنه.
أبو القاسم السعدي يرى مناماً فيتوب عن فعل المنكر
حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزدي الموصلي، قال: سمعت أبا القاسم السعدي، يحدث أبي ببغداد، قال: كنت وأنا حدث السن، مشغوفاً بغلام لي شغفاً شديداً، منهمكاً معه في الفساد، فكان ربما هجرني، فأترضاه بكل ما أقدر عليه، حتى يرضى.
قال: وإنه غضب علي مرة غضباً شديداً، فهرب، واستتر عني خبره، فلحقني من الحيرة والوله، ما قطعني عن النظر في أمري، وصيرني كالمجنون، واجتهدت في صرف ذلك عني فما انصرف.

وحضر وقت خروج الناس إلى الحائر، على ساكنه أفضل الصلاة والسلام، فكتبت رقعة أسأل الله عز وجل فيها الفرج مما أنا فيه، وأتوسل إلى الله تعالى بالحسين ابن علي رضي الله عنهما، ودفعتها إلى بعض من خرج، وسألته أن يدفعها في ناحية من القبر.
وكانت ليلة النصف من شعبان، ففزعت إلى الله، في كشف ما بي، وتفردت بالصلاة والدعاء، قطعة من الليل، ثم حملني النوم.
فرأيت في منامي كأني في مقابر قريش، والناس مجتمعون فيها، إذ قيل: قد جاء الحسين بن علي، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، للزيارة.
فتشوفت لرؤيتهما، فإذا بالحسين في صورة كهل، حسن الوجه، بدراعة، وعمامة، وخف، قد أقبل، ومعه فاطمة عليهما السلام، متنقبة بنقاب أبيض، وملحفة بيضاء.
فاعترضت الحسين، وقلت: يا ابن رسول الله، كتبت إليك رقعة في حاجة لي، فإن رأيت أن تعمل فيها ؟ فلم يجبني، ودخل إلى القبة التي فيها محمد بن علي بن موسى رضي الله عنهم، ودخلت فاطمة عليها السلام معه، وكأن قوماً قد وقفوا يمنعون الناس من الدخول إليها، فلم أزل أكابس وأتوصل، إلى أن دخلت، فأعدت عليه الخطاب، فلم يجبني.
فقلت لفاطمة: يا سيدة النساء، إن رأيت أن تعملي في أمري.
فقالت: على أن تتوب ؟ فقلت: نعم.
فقالت: الله ؟ فقلت: الله.
فكررت ذلك علي ثلاثاً، ثم أومأت إلى جماعة ممن كانوا قياماً، فقالت: خذوه، فأخذوني، ونزعت خاتماً من يدها فدفعته إليهم،، وخاطبتهم بما لم أفهمه، فحملوني حتى غبت عن عينها، وأضجعوني وحلوا سراويلي وشدوا ذكري بخيط حلبي، ووضعوا على الشد طيناً، وختموه بالخاتم، فورد علي من الألم أمر عظيم، أنبهني، فانتبهت وقد أثر الخيط في الموضع، وصار أثر الخاتم كأنه الجديري، مستديراً حول الموضع.
ثم قال لأبي: إن شئت كشفت لك فأريتك، فقد أريته لجماعة.
فقال: لا أستحل النظر إلى ذلك.
قال السعدي: فأصبحت من غد، وما في قلبي البتة من الغلام شيء، وابتعت الجواري، فكنت أطأهن، لا أنكر من جماعي شيئاً.
ثم طالبتني بالغلمان، فدافعتها مدة، ثم غلبتني الشهوة، فاستدعيت غلاماً، فلم أقدر عليه، واسترخى العضو، وبطل، فلما فارقته، أنعظت، فعاودته، فاسترخى، فجربت ذلك على عدة غلمان، فكانت صورتي واحدة.
فجددت توبةً ثانية، وما نقضتها بعد ذلك.
قال أبو محمد: وكان أبو علي القارىء الضرير، قد سمع معي هذا الخبر من السعدي، فأخبرني بعد مدة طويلة - وحلف لي على ذلك - أنه رأى فاطمة رضي الله عنها، في النوم، فقلت لها يا سيدتي، منام السعدي الذي حكاه صحيح ؟ فقالت: نعم.

أبو جعفر بن بسطام له قصة في رغيف

حدثنا أبو علي الحسن بن محمد الأنباري الكاتب، قال: كان ابن الفرات، يتتبع أبا جعفر بن بسطام بالأذية، ويقصده بالمكاره، فلقي منه في ذلك شدائد كثيرة.
وكانت أم أبي جعفر قد عودته منذ كان طفلاً، أن تجعل له في كل ليلة، تحت مخدته التي ينام عليها، رغيفاً من الخبز، فإذا كان في غد، تصدقت به، عنه.
فلما كان بعد مدة من أذية ابن الفرات له، دخل إلى ابن الفرات في شيء أحتاج إلى ذلك فيه، فقال له ابن الفرات: لك مع أمك خبر في رغيف ؟ قال: لا.
فقال: لا بد أن تصدقني.
فذكر أبو جعفر الحديث، فحدثه به على سبيل التطايب بذلك من أفعال النساء.
فقال ابن الفرات: لا تفعل، فإني بت البارحة، وأنا أدبر عليك تدبيراً لو تم لاستأصلتك، فنمت، فرأيت في منامي، كأن بيدي سيفاً مسلولاً، وقد قصدتك لأقتلك به، فاعترضتني أمك بيدها رغيف تترسك به مني، فما وصلت إليك، وانتبهت.
فعاتبه أبو جعفر على ما كان بينهما، وجعل ذلك طريقاً إلى استصلاحه، وبذل له من نفسه ما يريده من حسن الطاعة، ولم يبرح حتى أرضاه، وصارا صديقين.
وقال له ابن الفرات: والله، لا رأيت مني بعدها سوءاً أبداً.
بينما كان يترقب القتل وافاه الفرج في مثل لمح البصرذكر محمد بن عبدوس في كتابه، كتاب الوزراء، عن أبي العباس ابن الفرات، عن محمد بن علي بن يونس، عن أبيه، أنه كان يكتب لرجاء ابن أبي الضحاك، وهو بدمشق، وأن علي بن إسحاق بن يحيى بن معاذ، كان يتقلد خلافة صول أرتكين على المعونة بدمشق، فوثب على رجاء، فقتله، وقبض على جماعة من أسبابه، وأمر بحبسي، فحبست في يدي سجان كان جاراً لي، فكان يأتيني بالخبر ساعةً بساعة.

فدخل إلي، وقال: قد أخرج راس صاحبك رجاء على قناة.
ثم جاءني وقال: قد قتل مطببه، ثم جاءني فقال: قد قتل ابن عمه، ثم جاءني فقال: قد قتل كاتبه الآخر.
ثم قال: الساعة، والله، يدعى بك لتقتل، فقد سمعت نبأ ذلك، فنالني جزع شديد، وخرج السجان، فأقفل الباب علي.
فدعي بي، فدافع عني، وقال: البيت الذي هو فيه مقفل، والمفتاح مع شريكي، والساعة يجيء، وبعث في طلبه.
فنالني في تلك الساعة نعاس، فرأيت في منامي، كأني ارتطمت في طين كثير، وكأني قد خرجت، وما بل قدمي منه شيء، فاستيقظت، وتأولت الفرج، وسمعت حركة شديدة، فلم أشك أنها لطلبي، فعاودني الجزع.
فخل السجان، فقال: أبشر فقد أخذ الجند علي بن إسحاق فحبسوه.
فلم ألبث حتى جاءني الجند، فأخرجوني، وجاؤوا بي إلى مجلس علي بن إسحاق الذي كان فيه جالساً، وقدامه دواة وكتاب قد كان كتبه إلى المعتصم في تلك الساعة، يخبره بخبر قتله رجاء، وجعل له ذنوباً، ولنفسه معاذير، وسماه رجاء المجوسي، والكافر، فخرقت الكتاب، وكتبت بالخبر كما يجب إلى المعتصم.
فحبس طويلاً، ثم أظهر الوسواس، وتكلم فيه أحمد بن أبي دؤاد، فأطلق.
المنصور يرى مناماً فيرفع الظلامة عن محبوس
وجدت في بعض الكتب: أن المنصور استيقظ من منامه ليلة من الليالي، وهو مذعور لرؤيا رآها، فصاح بالربيع، وقال له: صر الساعة إلى الباب الثاني الذي يلي باب الشام فإنك ستصادف هناك رجلاً مجوسياً مستنداً إلى الباب الحديد، فجئني به، فمضى الربيع مبادراً، وعاد والمجوسي معه.
فلما رآه المنصور، قال: نعم، هو هذا، ما ظلامتك ؟ قال: إن عاملك بالأنبار، جاورني في ضيعة لي، فسامني أن أبيعه إياها، فامتنعت، لأنها معيشتي، ومنها أقوت عيالي، فغصبني إياها.
فقال له المنصور: فبأي شيء دعوت قبل أن يصير إليك رسولي ؟ قال: قلت: اللهم إنك حليم ذو أناة، ولا صبر لي على أناتك.
فقال المنصور للربيع: أشخص هذا العامل، وأحسن أدبه، وانتزع ضيعة هذا المجوسي من يده، وسلمها إلى هذا المجوسي، وابتع من العامل ضيعته، وسلمها إليه أيضاً.
ففعل الربيع ذلك كله في بعض نهار يوم، وانصرف المجوسي، وقد فرج الله عنه، وزاده، وأحسن إليه.
صاحب الشرطة ببغداد يرى مناماً يرشده إلى القاتل ويبرىء فيجاً مظلوماً
وجدت في كتاب: حدث القاسم بن كرسوع، صاحب أبي جعفر محبرة، قال: كان ابن أبي عون، صاحب الشرطة، قد وعد محبرة أنه يجيئه للإقامة عنده، والشرب مصطبحاً على ستارته في يوم الثلاثاء، فأبطأ عليه، وتعلق قلب محبرة بتأخره، فبعث غلاماً له يطلبه ويعرف خبره في تأخره.
فعاد إلى محبرة، وقال: وجدته في مجلس الشرطة، يضرب رجلاً بالسياط، وذكر أنه يجيء الساعة، فلما كان بعد ساعة، جاء ابن أبي عون.
فقال له أبو جعفر: أفسدت صبوحنا، وشغلت قلبي بتأخرك، فما سبب ذلك ؟ فقال: إني رأيت البارحة في منامي، كأني بكرت بلبل لأجيك، وليس بين يدي إلا غلام واحد، فسرت في خراب إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، لأجيء إلى رحبة الجسر، فإني لأسير في القمر، إذ رأيت شيخاً بهياً، نظيف الثوب، على رأسه قلنسوة لاطية، وفي يده عكاز، فسلم علي، وقال: إني أرشدك إلى ما فيه مثوبة: في حبسك فيج مظلوم، وافى من المدائن، في وقت ضيق، فاتهم بأنه قتل رجلاً، وهو بريء من دمه، وقد ضرب وحبس، وقاتل الرجل غيره، وهو في غرفة وسطى من ثلاث غرف مبنية على طاق العكي بالكرخ، واسمه فلان بن فلان، ابعث من يأخذه، فإنك ستجده سكران، عريان، بسراويل، وفي يده سكين مخضبة بالدم، فاصنع به ما ترى، وأطلق الفيج البائس.
قلت: أفعل، وانتبهت، فركبت، وسرت، حتى وافيت رحبة الجسر.
فقلت: ما حدث في هذه الليلة ؟ فقالوا: وجدنا هذا القتيل، وهذا الفيج معه، فضربناه، ولم يقر.
فرأيت به أثر ضرب عظيم، فسألته عن خبره، فقال: أنا معروف بالمدائن بسلامة الطريقة، ومعاشي التفيج، أنفذني فلان بن فلان من المدائن، إلى فلان بن فلان من أهل بغداد، بهذه الكتب، وأخرج إضبارة، فدخلت أوائل بغداد وقت العتمة، فوجدت في الطريق رجلاً مقتولاً، فجزعت، ولم أدر أين آخذ، فأنا على حالي إذ أدركني الأعوان، فظنوني قتلته، ووالله ما أعرفه، ولا رأيته قط، وقد حبسوني وضربوني، فالله، الله، في دمي.

فقلت: قد فرج الله عنك، انطلق حيث شئت، ثم أخذت الرجالة، ومضيت إلى طاق العكي، فإذا الثلاث غرف مصطفة، فهجمت على الوسطى، فإذا فيها رجل سكران عليه سراويل فقط، وفي يده سكين مخضب بالدم، وهو يقول: أخ عليك، والك، نعم يا سيدي، أنا جرحته، أخو القحبة، وأن مات فأنا قتلته، فأنزلته مكتوفاً، وبعثت به إلى الحبس، وانحدرت إلى الموفق، فأعلمته بالحديث، فتعجب، وتقدم إلي أن أضرب القاتل بالسياط إلى أن يتلف، وأصلبه في موضع جنايته، فتشاغلت بذلك إلى أن فرغت منه، ثم جئتك.

الرحبة

الرحبة: الأرض الواسعة، وكانت الكلمة تطلق على المدينة أو القرية، أو الفضاء الكائن بين الأبنية، مما يسمى الآن ساحة، أو ميداناً.
وذكر ياقوت في كتابه المشترك وضعاً والمفترق صقعاً ص 203 ستة مواضع تسمى الرحبة، بضم الراء، وتسعة مواضع تسمى الرحبة، بفتح الراء.
فمن المدن: رحبة مالك بن طوق، بناها مالك، ونسبت إلى بانيها، وهي بين الرقة وبغداد على شاطىء الفرات على بعد 8 أيام من دمشق معجم البلدان 2 - 764.
ومن القرى: الرحبة، قرية بحذاء القادسية، على مرحلة من الكوفة، قال عنها ياقوت إنها على يسار الحاج المتوجهين إلى مكة، وقد خربت الآن لكثرة طروق العرب، لأنها على ضفة البرية، ليس بعدها عمارة معجم البلدان 2 - 762 والمفترق صقعاً ص 203.
أقول: مررت على الرحبة في السنة 1935 لما كنت قاضياً في منطقة أبي صخير المجاورة للنجف، وكانت الحيرة، ورحبة القادسية تابعة لمحكمة أبي صخير، وقد أبصرت أهالي الرحبة يقيمون في حصن، وقد اتخذوا في باطنه مساكن لهم، وهم يزرعون الخضر والبطيخ الأحمر المعروف ببغداد بالرقى، وماؤهم من عين ثرة هناك، تسمى عين الرحبة.
وأما الرحبة بمعنى الساحة، أو الميدان، أو الفضاء الكائن بين الأبنية، فقد كان لكل جامع رحبة، وفي كل رأس جسر رحبة، هذا ما عدا الرحبات الأخرى الكائنة في داخل المدينة، وقد سميت إحدى رحبات مسجد المدينة، رحبة القضاء، إذ كانت داراً لعبد الرحمن بن عوف، قضى فيها لعثمان بالخلافة الطبري 4 - 237، ورحبة القصابين بالبصرة، وقعت فيه معركة بين أنصار يزيد بن المهلب، وبين أتباع الأمويين في السنة 101 العيون والحدائق 3 - 57، وكان لمسجد البصرة رحبة الطبري 5 - 518 ولجامع المنصور بالمدينة المدورة رحبة الطبري 9 - 358، وكانت إحدى الرحبات في سامراء، اسمها رحبة زيرك وهي بالقرب من باب الفراعنة تاريخ بغداد للخطيب 6 - 368.
وكان لجامع القصر ببغداد رحبة، وهو الجامع الذي كان الخلفاء العباسيون يقيمون فيه ببغداد صلاة الجمعة، ينفذون إليه من قصر الخلافة، عبر ممرات تحت الأرض، وهذا الجامع، تعاورته أيدي الغصب فلم يبق منه إلا مئذنته، واسمها الآن منارة سوق الغزل.
أما رحبة جامع القصر، فهي واقعة خارج الجامع، مما يلي المئذنة، في شرقيها، وما تزال إلى الآن رحبة يحتلها القصابون الذين يبيعون لحم البقر، وتفصل هذه الرحبة الآن بين سوق الشورجة حيث تباع الغلال، وبين سوق الدهانة، حيث دكاكين العطارين، والبقالين، والحلوانيين، ويسميهم البغداديون الشكرجية.
وكانت رحبة الجسر من أنزه المواضع ببغداد، بحيث أن الناس كانوا يجتمعون فيها للفرجة، وفي بغداد أغنية شائعة نظمها بغدادي أضاق، فقال يسلي نفسه:
لا بدّ ما تنقضي ... والفقر ما هو عيب
وأقف برأس الجسر ... وأخرخشك يا جيب
وحدثوا أن أعرابياً قدم بغداد، فأطعم اللوزينج اسمه الآن ببغداد: بقلاوه، فارسية: باقلاوا، فاستطابه، وقال: سمعت الأشياخ من أهلي، يذكرون أن من طيبات بغداد: الحمام، ورأس الجسر، وهذا الذي أكلته، لا بد أن يكون واحداً منهما.
عزم على قتله ثم من عليه وأطلقه ثم يمن عليه ويطلقهحدثني علي بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن موسى، وكان ابن أخي موسى بن إسحاق القاضي الأنصاري، قال: كنت خرجت مع أبي وهو يكتب لأبي جعفر الكرخي محمد بن القاسم، لما تقلد الموصل والديارات، وكان قد ضم إلى أبي جعفر من قواد السلطان، فلما صرنا بنصيبين كان أبي قد مضى وأنا معه إلى أبي العباس أحمد ابن كشمرد مسلماً عليه، فتحدثا، فسمعته يحدثه، قال:

لما أسرني أبو طاهر القرمطي، فيمن أسره بالهبير، حبسني وأبا الهيجاء، والغمر، في ثلاث حجر متقاربة، ومكننا أن نتزاور، ونجتمع على الحديث.
فمكن أبا الهيجاء خاصة، واختص به، وعمل على إطلاقه، وشفعه على أشياء.
فسألت أبا الهيجاء أن يسأله إطلاقي، فوعدني، واستدعاه القرمطي، فمضى إليه وعاد إلى حجرته، فجئت وسألته: هل خاطبه ؟ فدافعني.
فقلت: لعلك أنسيت ؟ فقال: لا والله، ولوددت أني ما ذكرتك له، إني وجدته متغيظاً عليك، فقال: والله، لأضربن عنقه عند طلوع الشمس في غد.
ورحل أبو الهيجاء، فورد علي أمر عظيم، وعدت إلى حجرتي وقد يئست من الحياة، فلما كان في الليل، رأيت في منامي كأن قائلاً يقول لي: اكتب في رقعة: بسم الله الرحمن الرحيم، من العبد الذليل، إلى المولى الجليل، مسني الضر والخوف، وأنت أرحم الراحمين، فبحق محمد وآل محمد، اكشف همي وحزني، وفرج عني، واطرح هذه الرقعة في هذا النهر، وأومأ إلى ساقية كانت تجري هناك في المطبخ.
فانتبهت من نومي، وكتبت الرقعة، وطرحتها في الساقية.
فلما كان السحر استدعاني القرمطي، فلم أشك أنه القتل، فلما دخلت إليه أدناني وأجلسني، وقال: قد كان رأيي فيك غير هذا، إلا أني قد رأيت تخليتك.
فخرجت، فإذا على الباب راحلة، ورجل يصحبني، فربكت، ودخلت البصرة سالماً، ولحقت أبا الهيجاء بها، فدخلنا معاً إلى بغداد
محمد بن سليمان الكاتب دخل مصر أجيراً ثم دخلها أميراً
قال أبو الحسن علي بن زكي: كنت مع صاحبي عيسى النوشري، وكان مضافاً لمحمد بن سليمان الكاتب على حرب الطولونية، إلى أن افتتحت مصر، فتقلدها عيسى.
قال: قال عيسى: خرج يوماً محمد بن سليمان إلى ظاهر الفسطاط، فانتهى به السير إلى قبة كانت لأحمد بن طولون، يقال لها: قبة الهواء، مطلة على النيل وعلى البر، فجلس فيها ومعه الحسين بن حمدان وجماعة من القواد، ثم قال: الحمد لله الذي بيده الأمر كله يفعل ما يشاء.
فقال له الحسين بن حمدان: لا شك أن تجديدك الحمد لأمر.
قال: نعم، وهو عجيب طريف ذكرته الساعة، وهو أني نزعت إلى مصر وأنا في حال رثة، في زي صغار الأتباع، فضاق علي المعاش بها ؟ فاتصلت بلؤلؤ الطولوني، فأجرى علي دينارين في كل شهر، وصيرني مشرفاً في إصطبله على كراعه، فكنت هناك من حيث لا يعرف وجهي جيداً، ولا أقدم على الوقوف بين يديه.
فلما كان في بعض الأيام أحضرني، فقال: ويحك، من أين يعرفك الأمير ؟ يعني أحمد بن طولون.
فقلت: والله، ما رآني قط، ولا وقعت عينه علي إلا في الطريق، ولا محلي محل من يتصدى للقائه.
فقال: دعاني الساعة، وهو في قبة الهواء، فقال: معك رجل أشقر أشهل، يقال له: محمد بن سليمان.
فقلت: ما أعرفه.
فقال: بل هو في جنبتك، فأبعده عنك، فإني رأيته البارحة وفي يده مكنسة يكنس داري بها، فتوق ويحك، ولا تتعرف إلى أحد من حاشيته، وأقرني على أمري، فامتثلت أمره.
ومضت لهذا الحديث شهور، ثم دعاني ثانية، فقال: ويحك، ماذا بليت به منك، وبليت أنت به من هذا الأمير ؟ دعاني بعدة من أصحاب الرسائل، فوافيته وأنا في غاية الوجل، فقال. أليس أمرتك بصرف محمد بن سليمان الأزرق الأشقر ؟ فقلت: قد عرفتك يا سيدي أني ما استخدمت من هذه سبيله، ولا وقعت لي عليه عين.
فقال: كذبت، هو معك في إصطبلك، فأخرجه الساعة عن البلد، فإني قد رأيته البارحة في النوم، وفي يده مكنسة، وهو يكنس بها سائر حجري وداري، ونسأل الله الكفاية.
فقلت للؤلؤ: وأي ذنب لي يا سيدي في الأحلام ؟ فقال لي: صدقت، فاستتر إلى أن يتناسى الأمير ذكرك، ففعلت، وكان يجري علي ذلك الرزق، وأنا لا أعمل شيئاً.
فلما تهيأ من إنفاذ لؤلؤ إلى الشام ما تهيأ، نهضت معه، وتخلف عنه كتابه، لما كانوا علموه من تغير حاله عند صاحبه، فأدناني، وقربني، وأجرى علي في كل شهر عشرة دنانير، وحملني على دابة وبغل، فلزمت خدمته، وكفيته، واستحمدت إليه، فزادني من رأيه، ولم ينته إلى العريش، حتى تنبه أحمد بن طولون على استيحاش لؤلؤ، فكتب إليه بالرجوع إلى مصر، فشاورني، فأشرت عليه بالانحدار إلى نواحي ديار مضر، وأخذ ما يستهدف له من المال، ولم أترك غايةً إلا أتيتها في تضريبه وتأليبه، حتى أوردته مدينة السلام.

ثم تقلبت بي الأحوال في خدمة السلطان، وخدمة الدول، وتوفي أحمد بن طولون، وقتل أبو الجيش، وجيش ابنه، وتولى بعدهم هارون بن خمارويه، فاختصصت أنا بالقاسم بن عبيد الله، فقلدني ديوان الجيش. ثم ندبني لمحاربة هارون، وضم إلي القواد والرجال، وكان فيهم لؤلؤ صاحبي، وكان أصغر الجماعة حالاً، وأحقرهم شأناً، خالياً من الرجال والكراع، فلم أقصر في إصلاح حاله، والإحسان إليه، ومعرفة حقه.
فلم أدن من الشام حتى تلقاني بدر الحمامي، وتلاه طغج بن جف مسرعاً، وصرت إلى مصر، فلما شارفتها وثب شيبان بن أحمد بن طولون ومن تابعه من جند مصر، فقتلوا هارون، وتولى شيبان الأمر بعده، وانثال إلي القواد في الأمان، ولحق بهم شيبان، وتخلف الرجالة وقطعة من الفرسان، وأظهروا الخلاف، فأوقعت بهم، وأفنيتهم قتلاً وأسراً، ودخلت فسطاط مصر عنوةً، وحويت النعم والمهج، وأشخصت الطولونية عن البلد إلى الحضرة، حتى لم يبق منهم أحد.
وصح بذلك منام أحمد بن طولون، فسبحان الذي ما شاء فعل، وإياه نسأل خير ما تجري به أقداره، وأن يختم لنا بخير برحمته.

شفاه منام رآه أحد أصحابه

حدثني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر الكاتب المعروف بالببغاء، قال: اعتللت بحلب علةً، جف منها بدني كله، فكنت كالخشبة، لا أقدر على أن أتحرك أو أحرك، ونحل جسمي، وتقلبت بي أعلال متصلة متضادة صعبة، فمكثت حليف الفراش سنين، وآيسني الأطباء من البرء، وقطعوا مداواتي.
وكان لي صديق شيخ يعرف بأبي الفرج بن دارم، من أهل بلدي - يعني نصيبين - مقيم بحلب، مواظب على عيادتي، وملازم لي، وكان لفرط اغتمامه بي، وأن الأطباء قد آيسوه مني، يظهر لي من الجزع علي أمراً يؤلم قلبي، ويؤيسني من نفسي، ثم تجاوز ذلك إلى التصريح باليأس، وتوطيني عليه، ثم تعدى هذا إلى أن صار لا يملك دمعته إذا خاطبني.
فضعفت عن تحمل هذا، وتضاعفت به علتي، وخارت معه قوتي، فاعتقدت أن أقول لغلامي أن يترصده، فإذا جاء الرجل إلي قال له عني: إني لا أستحسن حجابه، وإن علتي تضاعفت مما أشاهده، وأسمعه منه، ويسأله أن ينقطع عني، أو يقطع مخاطبتي بما فيه إياس لي، وقررت عزمي على هذا في ليلة من الليالي، ولم أخاطب به غلامي.
فلما كان في صبيحة تلك الليلة، باكرني ابن دارم، فحين وقعت عيني عليه، تثاقلت به خوفاً من أن يسلك معي مذهبه، وهممت أن أفتتح خطابه بما كنت عزمت على مراسلته به، فسبقني بأن قال لي: جئتك مبشراً.
فقلت: بماذا ؟ قال: رأيت البارحة في منامي، كأني بالرقة، والناس يهرعون إلى زيارة قبور الشهداء.
قال أبو الفرج: وهم جماعة ممن قتل بصفين، مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، منهم عمار بن ياسر، حملوا إلى ظاهر الرقة، فدفنوا بها، والحال في ذلك مشهور، والقبور إلى الآن مغشية معمورة.
قال لي ابن دارم: ورأيت كأن أكثر الناس مطيفون بقبة، فسألت عنها، فقيل لي: هي على قبر عمار بن ياسر رضي الله عنه، فقصدتها، وطفت بها، فإذا القبر مكشوف، وفيه رجل شيخ، بثياب بيض، وفي رأسه ضربات بينة دامية، وعلى لحيته دم، والناس يسألونه فيجيبهم، فلحقتني حيرة، ولم أدر عما أسأله.
فقلت له: يا سيدي، لعلك عارف بأبي الفرج عبد الواحد بن نصر المخزومي المعروف بالببغاء.
فقال: نعم، أنا عارف به.
فقلت: أيعيش أم لا ؟ فقال: نعم، يعيش، ويبرأ، ولكن أنت لك ابن فاحذر عليه من علة تلحقه قريباً، واستيقظت.
وأخذ يهنيني بالعافية، ويقول: سرني ما جرى، ولكن قد أوحشني في أمر ابني، وأسأل الله تعالى الكفاية.
قال أبو الفرج: وكان للرجل ابن، له نحو الثلاثين سنة، وهو في الحال معافى، فلما مضت خمسة أيام من الرؤيا حم الفتى، وتزايدت علته، فمات في اليوم الرابع عشر من يوم حم، فقويت نفسي في صحة المنام، وما مضى على موت الفتى إلا أيام يسيرة، حتى أدبر مرضي، ولم تزل العافية تقوى إلى أن عوفيت، وعادت صحتي كما كانت بعد مدة يسيرة.
رأى الإسكندر رؤيا تبعها انتصاره على دارا ملك الفرسوجدت في بعض الكتب: أنه لما اشتدت الحرب بين الإسكندر، وبين دارا بن دارا، استظهر دارا عليه، وأشرف الإسكندر على الهلاك، وأيس من النصر، وحال الشتاء بينهما، فانصرف الإسكندر إلى معسكره، مغموماً مهموماً ليلته، ثم نام.

فرأى في منامه، كأنه صرع دارا، فصرعه دارا، فانتبه وقد كربه ذلك، وزاد في همه وغمه.
فقص رؤياه على بعض فلاسفته، فقال: أبشر أيها الملك بالغلبة والنصر، فإنك تغلب دارا على الأرض، لأنك كنت تليها لما صرعك.
فلما كان بعد أيام يسيرة، انهزم دارا، وقتل، وجاؤوا برأسه إلى الإسكندر.

رؤيا عبد الله بن الزبير وتعبيرها

قال مؤلف هذا الكتاب: ومثل هذا ما هو مشهور في روايات أصحاب الأخبار والسير، أن عبد الله ابن الزبير رأى في منامه، كأنه صارع عبد الملك بن مروان، فصرع عبد الملك، وسمره على الأرض بأربعة أوتاد.
فأرسل راكباً إلى البصرة، وأمره أن يلقى محمد بن سيرين، ويقص الرؤيا عليه، ولا يذكر له من أنفذه.
فأتاه وقص عليه المنام، فقال له ابن سيرين: من رأى هذا ؟ قال: أنا رأيته في رجل بيني وبينه عداوة.
فقال: ليس هذه رؤياك، هذه رؤيا ابن الزبير أو عبد الملك، أحدهما في الآخر.
فسأله الجواب، فقال: ما أفسرها أو تصدقني، فلم يصدقه، فامتنع من التفسير، فانصرف الراكب إلى ابن الزبير، فأخبره بما جرى.
فقال له: ارجع إليه، واصدقه، أنني رأيته في عبد الملك.
فرجع الراكب إلى ابن سيرين، وصدقه، فقال له: قل له يا أمير المؤمنين، إن عبد الملك يغلبك على الأرض، ويلي هذا الأمر من ولده لظهره أربعة، بعدد الأوتاد التي سمرته بها على الأرض.
رأى في منامه أنه قد صرع خصمه فكان تعبير رؤياه أن الخصم هو المنتصرحدثني أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي، الكاتب، المقيم - كان - بالبصرة، إلى أن مات، قال: لما سعى أبو أحمد طلحة بن الحسن بن المثنى، مع جيش أبي القاسم بن أبي عبد الله البريدي، في أن يقبضوا عليه، ويحبسوه عند أبي أحمد، إلى أن يرد المطيع لله، أو جيش له إلى البصرة، فيملكوها، ويتسلمون منه أبا القاسم البريدي، وكانت القصة المشهورة في ذلك.
فبلغني ذلك، فخلوت بأبي أحمد، وكنت أكتب له حينئذ، وكان لا يحتشمني في أموره، وثنيته عن هذا الرأي، وعرفته وجوه الغلط فيه، والمخاطرة بدمه ونعمته، وهو غير قابل لمشورتي، إلى أن أكثرت عليه. فقال لي: اعلم أنني قد رأيت رؤيا أنا بها واثق في تمام ما قد شرعت فيه
=========

   ج4. كتاب : الفرج بعد الشدة  القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي

 كان بسر من رأى، ثلاثة إخوة نصارى أنباريون، أحدهم موسر، ولم يسم، والثاني متجمل، يقال له عون، والثالث، يقال له سلمة، فقير، فآل أمر سلمة فيما يكابده من شدة الفقر، إلى أن تعذر عليه قوت يومه.

فمضى إلى أخيه عون، وسأله أن يتلطف إلى أخيه الموسر، في أن يشغله فيما يعود عليه نفعه، ويخدمه فيه، بدلاً من الغريب.
فامتنع الأخ الموسر من ذلك، وعاوده دفعات، واستعطفه، وضره يتزايد.
فقال الموسر، على سبيل الولع: إن شاء أن أصيره مكان الشاكري، وصبر على العدو، فعلت.
فعرض عون على سلمة ذلك، فقال سلمة: ما عرض أخونا علي هذا إلا لأمتنع، ويجعله حجة، وأنا أستجيب إليه وأصبر، وأرجع إلى الله تعالى، في كشف الحال التي أكون فيها معه، وأرجو الفرج ببغيه علي، ولا أضع نفسي بمسألة الناس، ففعل ذلك.
فكان أخوه يركب، وهو يمشي في أثره بطليسان ونعل، حتى لا يظهر أنه غلامه، وإذا نزل في موضع، لحقه، وأخذ ركابه، وتسلم المركوب، وحفظه إلى أن يخرج.
فلم يزل على هذا، إلى أن طلب وصيف الكبير، رفيق بغا، من يجلسه بباب داره، فيكتب ما يدخل إلى المطبخ، من الحيوان، والحوائج، ليقايس به ما يحتسب عليه.
فوصف عون، أخاه سلمة، لذلك، ووجه إليه فأحضره، فامتنع، وذكر أنه لا دربة له به، ولا فيه آلة له.
فضمن له عون معاونته، وإجمال الحساب في كل عشية، وأجري عليه رزق يسير.
وجلس بالباب، وصار يدعو بالحمالين، فيثبت ما يحضرونه، ويرفع في كل يوم مدرجاً بتفصيل ذلك.
فلما انقضى الشهر جمع وصيف المدارج، وأحضر كاتباً غريباً، وتقدم إليه أن يؤرجها على أصنافها.
وعمل كاتب ديوانه عملاً بما رفعه الوكلاء في ذلك الشهر، فظهرت فيه زيادة عظيمة، فحطت وتوفر مالها.
وحسن موقع ذلك من وصيف، وأحضر سلمة، وما كان رآه قبل ذلك، وصرف المتصرفين في المطبخ به، وأسنى جائزته.
فتوفر على يده في الشهر الثاني، مما كان حط من الأسعار، ما حسن موقعه.
فرد إليه قهرمة داره، فتتابعت التوفيرات، واتصلت جوائزه إياه، وزيادته في جاريه.
وطالت مدة خدمته لوصيف، وغلب على حاله، واتفق له خلوة المتوكل، وحضور وصيف.
فقال لوصيف: قد كثر ولدي، وأريد لهم شيخاً، عفيفاً، ثقة، ليس فيه بأو، ولا مخرقة، لأفرد لهم على يده إقطاعات أجعلها لهم، فلست أحب أن أوسط كتابي أمره.
فوقع في نفس وصيف، أن يصف سلمة، وبخل به، فلم يزل يتردد ذلك في قلبه.
ثم قال: إعلم يا مولاي، إن الله قد رزقني هذه الصفة التي تريدها مني، والرجل عندي، فإذا فكرت في حقوقك، وأن نعمتي منك، لم أستحسن أن أكتمك، وإذا فكرت فيما أفقده منه، توقفت، والآن، فقد أنطقني إقبالك بذكره، وهو سلمة بن سعيد النصراني.
فقال: أحضرنيه الساعة.
فأحضره في الوقت، فحين عاينه المتوكل وقع في نفسه صحة ما وصفه، فوقع لكل ابن بإقطاع ثلثمائة ألف درهم، ولكل ابنة بمائة وخمسين ألف درهم، وقيل أن المتوكل مات عن خمسين إبناً، وخمس وخمسين إبنة، ودفع إليه التوقيع.
وقال له: نجز هذا، واختر من الضياع ما ترى، وانصب لها ديواناً، ووصله، وجعل له منزلة كبيرة، بكتابة الولد.
فلما فرغ من ذلك، وقام به، جرى أمر آخر، أوجب أن رد إليه أيضاً أمر سائر الحرم، وجعل له قبض جراياتهن، وأرزاقهن، وإنفاق ذلك عليهن، وصرف وكلاءهن، وأسبابهن عنهن، وزادت منزلته بذلك لكثرة الحرم.
فبينما سلمة يتردد في دار المتوكل، إلى مقاصير الولد والحرم، وقعت عين المتوكل عليه، فاستدعاه.
وقال له: يا سلمة، ما أكثر ما يذهب على الملوك، حفظت بك ولدي، وحرمي، وأضعت نفسي، وليس لي منك عوض، قد رددت إليك بيت المال، وخزائن الفرش، والكسوة، والطيب، وسائر أمر الدار، فتسلم ذلك، واستخلف عليه من تثق به.
وكان قد أنكر عليه، في بعض خدمته، شيئاً فأمر باعتقاله، ففرشت له حجرة، وترك خلفاؤه يعملون.
ثم ذكره في الليل، وهو يشرب، فقال لخادم: امض إلى الحجرة التي فيها سلمة، فاطلع عليه، وعرفني الصورة التي تجده عليها.
فعاد وذكر أنه وجده يسود، ثم أعاده بعد وقت آخر، فوجده على ذلك، وأعاده الثالثة، فكانت الصورة واحدة.
فاستحضره، وقال: أنت شيخ كبير، تسود ليجود خطك في الآخرة، أو لتصل به في الدنيا إلى أكثر مما وصلت إليه ؟.

قال: لا هذا ولا هذا، ولكنك لما اعتقلتني، وأقررت أصحابي، وثقت بحسن رأيك، فلم أقطع التأهب لخدمتك، لأني أكاتبك كثيراً، فيما أستأمرك به، فأنا أحب أن لا تقع عينك على ما تستقبحه من الخط.
فحسن موقع هذا القول من المتوكل، وأمر بإحضار حقة، فيها خاتم الخاصة، فدفعه إليه.
وقال: هذا خاتمي، وقد رددت إليك ختم ما كنت أختمه بيدي، من غير أن تستأمرني فيه، ليعلم الخاص والعام، أني رفعت منك، وزدت في محلك، ولا يخلقك عندهم الاعتقال، ثم رآه المتوكل بعد ذلك، في وقت من الأوقات، ماشياً في الدار، فقال: سلمة شيخ كبير، هوذا يهرم ويتلف بهذا المشي، لأنه يريد أن يطوف في كل يوم، على الحرم والولد، وقد رأيت أن أجريه مجرى نفسي، في إطلاق الركوب له في داري.
وكان المتوكل يركب حماراً يتخطى به في الممرات، ويركب سلمة حماراً أيضاً، ولم يكن في الدار من يركب غيرهما.

الحرم

الحرم: النساء لرجل واحد، وحريم الرجل: ما يدافع عنه ويحميه، ولذلك سميت نساء الرجل: الحريم.
وكان حريم المتوكل يشتمل على أربعة آلاف سرية تاريخ الخلفاء 350 منهن خمسمائة لفراشه شذرات الذهب 2 - 114 وقد أهدى إليه عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، أربعمائة جارية، مرة واحدة، المستطرف من أخبار الجواري للسيوطي 63.
أما المعتصم، والد المتوكل، فإنه لما توفي سنة 227 كان من جملة ما ترك ثمانية آلاف جارية شذرات الذهب 2 - 63.
وأما المأمون، حكيم بني العباس، فقد كان حريمه يشتمل على مائتي جارية فقط المستطرف من أخبار الجواري 69.
أما الرشيد، فقد كان حريمه يشتمل على أكثر من ألفي جارية، سوى ما كان لزوجه زبيدة من الجواري ويزيد عددهن عن ألفي جارية أيضاً الأغاني 10 - 172 ونهاية الأرب 4 - 214 و 215 ونشوار المحاضرة رقم القصة 5 - 64.
وكان في دار المقتدر، أربعة آلاف امرأة، بين حرة ومملوكة رسوم دار الخلافة 8.
ولم يكن الإكثار من الجواري مقصوراً على الخلفاء وحدهم، وإنما تعدى ذلك إلى أتباعهم، والمترفين من الأمراء، والرعية.
وعلى سبيل المثال، لا الحصر، نورد أن عتابة، أم جعفر البرمكي، كانت تخدمها أربعمائة وصيفة وفيات الأعيان 1 - 341.
وأن عمر بن فرج الرخجي، أحد العمال الأشرار، كانت لديه مائة جارية الطبري 9 - 161.
وأن زوجة يعقوب بن الليث الصفار، كانت لديها ألف وسبعمائة جارية وفيات الأعيان 6 - 429.
وأن بلكين الصنهاجي، خليفة المعز الفاطمي على أفريقية ت 373 كانت لديه أربعمائة حظية وفيات 1 - 287.
وأن العزيز الفاطمي توفي سنة 386 عن عشرة آلاف جارية إتعاظ الحنفا 295.
وأن ست النصر، أخت الحاكم الفاطمي ت 415، تركت أربعة آلاف جارية بين بيضاء وسوداء ومولدة بدائع الزهور 1 - 58.
وأن نصر الدولة الحميدي، صاحب ميافارقين ت 453، كانت لديه ثلثمائة وستون جارية، بعدد أيام السنة وفيات الأعيان 1 - 177 والوافي بالوفيات 8 - 176.
وكان للمعتمد بن عباد اللخمي، صاحب أشبيلية ت 488 ثمانمائة سرية شذرات الذهب 3 - 386 ومرآة الجنان 3 - 147.
وكان لأبي زنبور، الوزير بمصر ت 314 سبعمائة جارية شذرات الذهب 6 - 173.
وكان عند الوزير يعقوب بن كلس، وزير العزيز الفاطمي ت 380 ثمانمائة حظية، سوى جواري الخدمة خطط المقريزي 2 - 8.
وكان في دار ابن نجية الواعظ ت 599 عشرون جارية للفراش، تساوي كل جارية ألف دينار الذيل على الروضتين 35 فأعجب لواعظ يرتبط لفراشه عشرين جارية.
ومات السلطان الناصر محمد بن قلاوون ت 741، عن ألف ومائتي وصيفة مولدة، سوى من عداهن من بقية الأجناس خطط المقريزي 2 - 212 وماتت زوجته الخونده طغاي سنة 749 عن ألف جارية خطط المقريزي 2 - 426، أما الخونده أردوتكين، زوجة الملك الأشرف خليل، وزوجة الملك الناصر محمد بن قلاوون من بعده، ت 724، فقد كان لها من المماليك أكثر من ألف، ما بين جارية وخادم خطط المقريزي 2 - 63.
وكان مقبول خان وزير فيروز شاه ملك الهند 752 - 790 يملك ألفي جارية، من بينهن الرومية، والصينية، والفارسية الاسلام والدول الاسلامية في الهند ص22.
وفي مقابل من ذكرنا، نورد أن الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز لما استخلف، خير جواريه، وأعتق من رغبت في العتق، واقتصر على زوجته ابنة عمه، فاطمة بنت عبد الملك تاريخ الخلفاء 235.

أما أبو العباس السفاح، أول الخلفاء العباسيين، فإنه تزوج أم سلمة المخزومية، قبل الخلافة، فلم يتزوج عليها، ولم يتسر، ولما استخلف ظل على وفائه لها، فلم يدن إلى امرأة غيرها، حرة ولا أمة، إلى أن مات راجع التفصيل في مروج الذهب للمسعودي 2 - 206 - 208.
وكذلك كان المتقي، إبراهيم بن المقتدر ت 357، فإنه لما استخلف لم يتسر على جاريته التي كانت له تاريخ الخلفاء 394.
وتابعهم في ذلك ملك العرب سيف الدولة، صدقة بن منصور بن دبيس الأسدي ت 501، فإنه اكتفى بزوجة واحدة، لم يتزوج عليها، ولم يتسر المنتظم 9 - 159.
وكذلك كان المستعصم، آخر الخلفاء العباسيين ببغداد ت 656 فقد كانت له - وهو أمير - جاريتان، فلما استخلف لم يتغير عليهما خلاصة الذهب المسبوك 291.

الحمار

قسم صاحب معجم الحيوان، الحمير، إلى أربعة أنواع، حمار البيت، وحمار قبان، وحمار الزرد، والحمار العتابي معجم الحيوان 21، 98، 175، 265، 270 وفي دائرة المعارف الاسلامية 8 - 65 قسم الحمار إلى أهلي ووحشي، والأهلي إلى دابة ركوب، ودابة حمل، ووصف حمار الركوب، بأنه سريع العدو، يهتدي إلى الطريق، ولو سلكه مرة واحدة، وأنه حاد السمع، قليل المرض، وذكر أن العرب لا يركبون الحمير استنكافاً.
أقول: إن العرب في صدر الاسلام، لم يكونوا يستنكفون من ركوب الحمار، فإن النبي صلوات الله عليه كان يركب الحمار المخلاة للبهائي 292 والخليفة عمر بن الخطاب، وهو قدوة، ركب حماراً أرسنه بحبل أسود العقد الفريد 4 - 271 ولما قدم الشام، قدمها على حمار العقد الفريد 4 - 365 و 1 - 14 والبصائر والذخائر 4 - 30.
ثم تغير الحال، فأصبحت الخيل مركب الخلفاء، والأمراء، والأميرات، والوزراء، والقواد، وقد روى ياقوت في معجم الأدباء 5 - 485 و486 قصة عن جمال الدين بن القفطي ذكر فيها أن والده قدم مصر، لم تكن دوابه معه، فأبى أن يركب حماراً.
واستمر على ركوب الحمار، التجار البغداديون القصة 2 - 54 و3 - 56 من نشوار المحاضرة والشعراء ومتوسطو الحال نهاية الأرب 4 - 71 و10 - 99 و100 وفوات الوفيات 3 - 140 والفقهاء والقضاة القصة 3 - 40 من نشوار المحاضرة، وشذرات الذهب 2 - 220 وكذلك عقيلات النساء القصة 317 من هذا الكتاب.
وممن عرف بركوب الحمار خالد بن صفوان البصائر والذخائر م2 ق2 ص588 و589، وأبو عبيدة معمر بن المثنى مرآة الجنان 2 - 45، وابن جامع القرشي المغني الأغاني 6 - 291 ونهاية الأرب 4 - 306، وعيسى بن مسكين فقيه المغرب وقاضي القيروان مرآة الجنان 2 - 224، وأبو يزيد النكاري، الخارج بالمغرب على الفاطميين اتعاظ الحنفا ص70. وأبو العيناء محمد بن القاسم بن خلاد الملح والنوادر للحصري ص230.
ومن الطريف أن نذكر أن أبا القاسم الضحاك بن مزاحم البلخي المفسر ت 105 كان مؤدباً، وكان في مكتبه ثلاثة آلاف صبي، وكان يطوف عليهم على حمار ميزان الاعتدال 2 - 325.
وكان الخلفاء، يركبون الحمير، في أوقات التخفف، وفي بيوتهم، وفي بساتينهم، وخرج الوليد بن يزيد مرة على المغنين، وهو راكب على حمار الأغاني 13 - 278، وكان الهادي يركب حماراً فارهاً تاريخ الخلفاء 279، وخرج مرة ليعزي أحد أفراد حاشيته وهو على حمار أشهب الطبري 8 - 291، وزار عبد الله بن مالك، وهو على حمار الطبري 8 - 216، وكان الرشيد يركب حماراً مصرياً أسود اللون، قريباً من الأرض، يطوف به على جواريه المحاسن والأضداد 174 ومطالع البدور 1 - 238 ويخرج به لعيادة من يريد عيادته الأغاني 5 - 253 ونهاية الأرب 4 - 341 وزيارة من يزوره الأغاني 10 - 175، وانتبه مرة في نصف الليل، فقال: هاتوا حماري، وركبه، وخرج الأغاني 10 - 176، وعاد المعتصم ولده الواثق، ثم رجع راكباً حماراً الأغاني 8 - 251 و252 ونهاية الأرب 4 - 232 وكان يركب الحمار عند خروجه من داره متخففاً القصة 7 - 125 من نشوار المحاضرة، وكان العزيز الفاطمي يركب الحمار إتعاظ الحنفا 294، وكان الحاكم الفاطمي، يركب الحمار، ويدور في الأسواق شذرات الذهب 3 - 193 وخطط المقريزي 2 - 288 ومات الحطيئة الشاعر، وهو على حمار فوات الوفيات 1 - 279.
ومما يجدر ذكره أن الرشيد، لما أمر بقتل جعفر البرمكي، دخل عليه مسرور، وأخرجه إخراجاً عنيفاً، وقيده بقيد حمار، ثم ضرب عنقه الطبري 8 - 295.

وكان الحمار مركب المتحابين إذا خرجوا لموعد الأغاني 1 - 395 ومركب القهرمانات إذا بارحن القصور من أجل أشغال السادة القصة 478 من هذا الكتاب، ومركب المغنين والمغنيات والجواري القصة 479 من هذا الكتاب، ونهاية الأرب 5 - 31 و 110 ومركب رجال الدولة إذا خرجوا متنكرين القصة 471 من هذا الكتاب، والقصة 2 - 2 من نشوار المحاضرة.
وكان المتوكل يركب الحمار في داره كما في هذه القصة، وكان يصعد إلى أعلى منارة سامراء، وهو على حمار مريسي لطائف المعارف 161، أقول: هذه المنارة، ما زالت شامخة في لجو، يسميها الناس: الملوية، والطريق إلى أعلاها، يتلوى حولها، من خارجها.
ولما بنى المكتفي قصر التاج، بنى قبة على أساطين رخام، عرفت بقبة الحمار، لأنه كان يصعد إليها، في مدرج حولها، كمنارة جامع سامراء، على حمار صغير الجرم، وكانت عالية مثل نصف دائرة كتاب دليل خارطة بغداد ص126.
أقول: لما زرت بلاد الأندلس في السنة 1960، أبصرت في أشبيلية، من آثار المسلمين الباقية، مأذنة، يسمونها: الجيرالدا، ذات علو شاهق، يصعد إليها من باطنها، في طريق يتسع لستة أشخاص، يسيرون جنباً إلى جنب، وذكروا لنا أن المؤذن كان يصعد إلى أعلى هذه المأذنة، راكباً حماراً، ووجدت أهالي أشبيلية، يفتخرون بهذه المأذنة، ويقولون: إن من صعد إلى أعلى برج إيفل بباريس، أبصر باريس كلها، أما من صعد إلى أعلى الجيرالدا، فإنه يرى الدنيا كلها.
وكان الناس يغالون في حمير مصر، وهي موصوفة بحسن المنظر، وكرم المخبر لطائف المعارف 161 ونهاية الأرب 10 - 93، وأهل مصر يعنون بتربية الحمير، والقيام عليها، لما يجدونه فيها من الفراهة، وسرعة الحضر، والنجابة، ويبالغون في أثمانها، حتى بيع في بعض السنين، حمار، بمائة دينار وعشرة دنانير، وكان صاحبه يسمع أذان المغرب بالقاهرة، فيركب، ويسوقه، فيلحقها بمصر، وبينهما ثلاثة أميال مطالع البدور 2 - 182.
وذكر ابن سعيد: أن المغاربة كانوا يأنفون من ركوب الحمار، خلافاً لأهالي مصر، فإن أعيان مصر، والفقهاء، والسادة، يركبون الحمير خطط المقريزي 1 - 341 ونفح الطيب 2 - 339 حتى إن ابنة الإخشيد محمد بن طغج، كانت تقطع الأزقة في القاهرة وهي على ظهر حمار خطط المقريزي 1 - 353.
أقول: لم تقتصر الأنفة من ركوب الحمار على المغاربة المسلمين، وإنما تعدتهم إلى إفرنج أسبانيا، فإن الملك الفونس، لما انكسر في السنة 591 في المعركة بينه وبين السلطان أبي يوسف الموحدي، حلق ألفونس رأسه، وركب حماراً، وأقسم لا يركب فرساً حتى ينتصر ابن الأثير 12 - 115، وكذلك صنع علاء الدين الغوري، في السنة 602، فإن أهالي غزنة نهبوا جميع ما كان لديه، فلما وصل إلى باميان، لبس ثياب سوادي، وركب حماراً، وقال: أريد أن يراني الناس وما صنع بي أهل غزنة، حتى إذا عدت إليها وأخربتها لا يلومني أحد ابن الأثير 12 - 220.
وذكر القزويني، في آثار البلاد 262: أن الحمر المريسية، نسبة إلى المريسة في ناحية الصعيد بمصر، من أجود حمر مصر، وأمشاها، وأحسنها صورة، وأكبرها، تحمل إلى سائر البلاد للتحف، وليس في شيء من البلاد مثلها، والبلاد الباردة لا توافقها، فتموت فيها سريعاً.
وخرج توقيع عبد الله بن طاهر: إذا وجدتم البرذون الطخاري، والبغل البرذعي، والحمار المصري، والرقيق السمرقندي، فاشتروها، ولا تستطلعوا رأينا فيها، لطائف المعارف 219.

وروى صاحب مطالع البدور 2 - 183 طريفتين عن الحمار، الأولى: ذكر إنه ركب حماراً، من مصر إلى القاهرة، فلما كان في أثناء الطريق، حاد به عن السكة، وجهد أن يرده، فلم يطق، حتى انتهى إلى جدار بستان، فوقف، وبال، وعاد إلى الطريق، وكذلك جرى له مع حمارين آخرين، والطريفة الثانية: إن حماراً كان بمصر، يجتمع عليه الناس، ويجمعون له مناديل، تلقى على ظهره، ثم يأمره صاحبه بإعادة كل منديل إلى صاحبه، فيدور في الحلقة، ولا يقف إلا على من له في ظهره منديل، فإن أخذه، ذهب عنه، وإن أخذ غيره، لا يذهب، ولو ضرب مائة ضربة، ويأخذ الخاتم من إصبع الرجل، ويسأله عن وزنه، فيقول: كم وزن الخاتم ؟ فإن كان وزنه درهماً، مشى خطوة واحدة، وإن كان درهماً ونصفاً، مشى خطوة ونصفاً، وهكذا، وبينما هو واقف، يقول له شخص: الوالي يسخر الحمير، فما يتم كلامه، إلا ويلقي الحمار نفسه على الأرض، وينفخ بطنه، ويقطع نفسه، كأنه ميت من زمان، فإذا قيل له، بعد ذلك، ما بقيت سخرة، ينهض قائماً.
وكان القاضي، أو الوالي، إذا أمر بإشهار شخص، داروا به على حمار المنتظم 8 - 294 و 10 - 237 ومهذب رحلة ابن بطوطة 2 - 147، ومن طريف ما يذكر أن شخصاً حجره القاضي للسفه، وأمر بإشهاره في البلد، ليمتنع الناس من التعامل معه، فحمل على على حمار، وداروا به في الأسواق، فلما انتهى النهار، طالبه المكاري بالأجر، فالتفت إليه، وقال له: في أي شيء كنا منذ الصباح ؟.
وكان الشماخ الشاعر، أوصف الناس للحمير، أنشد الوليد بن عبد الملك، شيئاً من شعره في وصف الحمير، فقال: ما أوصفه لها، إني لأحسب أن أحد أبويه كان حماراً الأغاني 9 - 161.
راجع في الملح للحصري ص283 قصة العاشق الذي حل محل الحمار في الطاحون.
وقيل لمزبد، وقد اشترى حماراً: ما في حمارك عيب، إلا أنه ناقص الجسم، يحتاج إلى عصا، فقال: إني كنت أغتم، لو كان يحتاج إلى بزماورد، فأما العصا، فأمرها هين البصائر والذخائر م2 ق2 ص689.
وقيل لمخنث عليل، كان يشرب لبن الأتان: كيف أصبحت ؟ قال: لا تسل عمن أصبح أخا الحمار البصائر والذخائر م2 ق1 ص29.
ومن مشهوري الحمير: يعفور، حمار النبي صلوات الله عليه، أهداه له المقوقس، صاحب مصر، ونفق منصرف النبي صلوات الله عليه من حجة الوداع الطبري 3 - 174.
ومن مشهوري الحمير: حمار بشار بن برد، وقد زعم بشار أن حماره هنا كان شاعراً غزلاً، وروى أبياتاً من شعره، راجع القصة في الأغاني 3 - 231 و232.
ومن مشهوري الحمير، الحمار الذي كان يركبه الحاكم الفاطمي، وكان يسميه: القمر النجوم الزاهرة 549.
ومن مشهوري الحمير: حمار الحكيم توما، الذي قال فيه الشاعر:
قال حمار الحكيم توما ... لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط ... وصاحبي جاله مركّب
ومن مشهوري الحمير، حمار أبي الحسين الجزار، جمال الدين يحيى بن عبد العظيم، وهو من عائلة جزارين، تكسب بالشعر مدة، ثم عاد إلى الجزارة، واحتج لعدوله عن الشعر إلى الجزارة، بقوله:
لا تلمني يا سيّدي شرف الدي ... ن إذا ما رأيتني قصّابا
كيف لا أشكر الجزارة ما عش ... ت حفاظاً وأترك الآدابا
وبها صارت الكلاب ترجّي ... ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا
وكان الجزار، كثير الشكوى من حماره، قال فيه:
هذا حماري في الحمير حمار ... في كلّ خطو كبوة وعثار
قنطار تبنٍ في حشاه شعيرةٌ ... وشعيرةٌ في ظهره قنطار
ولما مات حمار هذا الشاعر، داعبه شعراء عصره، بمراث وهزليات، فقال بعضهم:
قولوا ليحيى لا تكن جازعاً ... لا يرجع الذاهب بالليت
طامن أحشاءك فقدانه ... وكنت فيه عالي الصوت
وكنت لا تنزل عن ظهره ... ولو من الحشّ إلى البيت
ما مات من داءٍ ولكنّه ... مات من الشوق إلى الموت
وقال آخر:
مات حمار الأديب، قلت قضى ... وفات من أمره الذي فاتا
مات وقد خلّف الأديب ومن ... خلّف مثل الأديب ما ماتا
فأجابه أبو الحسين قائلاً:
كم من جهولٍ رآني ... أمشي لأطلب رزقا
وقال لي: صرت تمشي ... وكلّ ماشٍ ملقّى

فقلت: مات حماري ... تعيش أنت وتبقى
ومات لابن عنين الدمشقي 549 - 630 حمار، بالموصل، فرثاه بقصيدة مثبتة في ديوانه 140 - 142، منها؛
لا تبعدن تربةً ضمّت شمائله ... ولا عدا جانبيها العارض الهطل
قد كان إن سابقته الريح غادرها ... كأنّ أخمصها بالشوك ينتعل
لا عاجزاً عند حمل المثقلات ولا ... يمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوجل
وإنّ لي بنظام الدين تعزية ... عنه وفي النجب من أبنائه بدل
وقرأت في كتاب من تأليف أديب مغربي، أن مغربياً باع حماره من آخر، وشرط عليه المشتري، أن يسلمه الحمار في حلته، وخرجا إليها معاً، ولما دخلا بين البيوت، أبصر البائع حماراً أدبر، قد أهمله أصحابه، فالتفت إلى صاحبه، وقال: أهكذا يعامل الحيوان الأعجم ؟ أنتم قوم سوء، وأعاد إلى المشتري ماله، وكر عائداً بالحمار.
وعرض محمد بن واسع الأزدي، بسوق مرو، حماراً، فقال له رجل: يا عبد الله، أترضاه لي ؟ فقال: لو رضيته لما بعته نشوار المحاضرة، القصة 4 - 61.
ولزيادة التفصيل في هذا الموضوع راجع نهاية الأرب 10 - 93 - 102 والغيث المسجم في شرح لامية العجم 2 - 137 و138، وكتاب الحيوان للجاحظ.
أقول: أدركت الناس ببغداد، قبل انتشار استعمال السيارات، يركب الوجهاء منهم، الحمير، ويختارونها بيضاء، عالية، ويسمونها: الحساوية، لأنها تجلب من الأحساء، وكانوا يتأنقون في اختيار الجل، ويسمونه: المعرقة تلفظ القاف كافاً فارسية.
وقد وصف حمير بغداد البيض، سائح أمريكي اسمه بيري فوك، مر ببغداد في السنة 1872، في عهد الوالي محمد رديف باشا، الذي خلف مدحت باشا، فقال: إن الحمير البيض في بغداد مشهورة في أنحاء الشرق، وأثمانها عالية، وقسم منها كبير الحجم، وتزين بصبغها بالحناء، فتبدو آذانها وأذنابها حمراء اللون، وأبدانها منقطة بالحناء، وهي ما زالت - كما كانت في قديم الزمان - مركب رجال الدين وكبار الحكام، كما أن السيدات يفضلنها على بقية الدواب، وهم يشرحون منخر الحمار، ويشقونه شقاً مستطيلاً، ويقولون إن هذا الشق يجعل الحمار أطول نفساً، ولكني كلما سمعت حماراً ينهق، أيقنت أنه لا ضرورة لهذا التصرف، ولا محل له كتاب عربستان أو بلاد ألف ليلة وليلة.
والبغداديون يسمون الحمار: زمال، من الزمل بكسر الزاي وميم ساكنة أي الحمل، ويقال: زمل بفتح، أي حمل، والزاملة، مؤنث الزامل: الدابة من الإبل وغيرها يحمل عليها المنجد، قالت السيدة أسماء بنت أبي بكر: كانت زمالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمالة أبي بكر، واحدة، أي مركوبهما لسان العرب، راجع ما كتبه الدكتور سليم النعيمي في مجلة المجمع العلمي العراقي م25 ص25 و26.
وكانت زمالة الزهاوي الشاعر جميل صدقي الزهاوي ت 1936 مضرب المثل في جمال الهيئة والنظافة، وكانت بيضاء، عالية الظهر، حساوية، وكان الزهاوي يعنى عناية فائقة، بعلفها، ونظافتها، وكان - رحمه الله - مصاباً بارتخاء في عضلات ساقيه لا يمكنه من المشي إلا بمعونة، فكان يركبها في روحاته وغدواته.
وللبغداديين أمثال تتعلق بالحمار، أذكر منها ثلاثة: أولها: مثل يضرب لمن يكد ليله ونهاره، من دون راحة، فيقولون: مثل زمال الطمة، يروح محملاً، ويعود محملاً، والطمة: فصيحة، ما طم من الجمر في الرماد، ويطلق البغداديون هذه الكلمة على موقد الحمام، وكان يوقد فيه النفايات والقمامة، وكل ما يحترق، فكان زمال الطمة يروح إليها حاملاً الوقود، ويعود منها حاملاً الرماد المتخلف.
وثانيها: مثل يضرب لمن ورط نفسه في ورطة يصعب التخلص منها، فيقولون: تعال طلع هذا الزمال من هذي الوحلة.
وثالثها: مثل يضرب لمن يتحايل بحيلة مكشوفة، فيقولون: إحنا دافنيه سوا، وأصل المثل: إن بغداديين تعطلا، وحاولا أن يجدا عملاً، فلم يوفقا، ثم وجدا حماراً نافقاً، فأخذاه، ودفناه، ووضعا على قبره شاهداً، وأدعيا إنه قبر ولي من أولياء الله، وأصبح أحدهما سادناً للقبر، والثاني واعظاً وإماماً للجماعة فيه، وظلاً على ذلك حيناً، ثم أحس أحدهما أن صاحبه يغتال قسماً من الواردات، ويستأثر بها، فخاصمه، فبادر صاحبه وضرب بيده على القبر، يحلف على براءته من التهمة، فصاح به صاحبه: ويحك، إحنا دافنيه سوا.

وللبغداديين نوادر، فيها ذكر للحمار، يتندرون بها، أذكر منها نادرتين: الأولى: نادرة يتندر بها البغداديون على أهل الموصل، والمعروف عن أهل الموصل تعصبهم لبعضهم، بحيث لا يتسنى للغريب أن يجد فيها رزقاً، وخلاصتها: أن سقاءً بغدادياً هاجر إلى الموصل، واستقر فيها، وأراد أن يمارس فيها مهنته، فاشترى حماراً وقربة، وباشر بحمل الماء من النهر إلى المدينة، وفي اليوم الأول لم يتعامل معه أحد، وكذلك في اليوم الثاني، وجاع السقاء، وجاع حماره، فأخذه في اليوم الثالث، وذهب إلى سوق المدينة، وقال: يا جماعة، إن حرمانكم إياي من الرزق أمر مفهوم، لأني بغدادي، ولكن هذا الحمار موصلي، وهو يكاد يموت جوعاً، فإن لم ترفقوا بي، فارفقوا به.
والثانية: نادرة يتندر بها البغداديون على أحد القضاة، وخلاصتها: أن اثنين اختصما على حمار، كل واحد منهما يدعي ملكيته، وتداعيا عند القاضي، وقدم المدعي للقاضي عشرة مجيديات رشوة، وبلغ المدعى عليه ما صنعه خصمه، فذهب إلى القاضي وأعطاه عشرة مجيديات أيضاً، ونظر القاضي في الدعوى، وأراد أن يرضي الطرفين، فحكم بأن يباع الحمار ويقسم ثمنه بين المتداعيين، وبيع الحمار بعشرين مجيدياً، وتسلم كل واحد من المتداعيين عشرة مجيديات، فتوجها إلى القاضي، وقالا له: يا أفندينا، تبين أن الحمار لا يعود لواحد منا، وإنما يعود لك، لأنك استوفيت ثمنه كاملاً.
ودخل أحمد بن محمد القزويني إلى سوق النخاسين في الكوفة، وطلب حماراً، لا بالصغير المحتقر، ولا بالكبير المشتهر، إن أقللت علفه صبر، وإن أكثرت علفه شكر، لا يدخل تحت البواري، ولا يزاحم براكبه السواري، إذا خلا الطريق تدفق، وإذا كثر الزحام ترفق، فقال النخاس: أصبر حتى يمسخ القاضي حماراً، وأشتريه لك، أخبار الحمقى والمغفلين ص126.
ونهيق الحمير، يسمى: الزر البصائر والذخائر 4 - 297، راجع أخلاق الوزيرين 149 وفي بغداد، يلفظونها: زعر، وإذا صيح بها أمام الحمار، نهق.
وذكر الجبرتي في تاريخه 2 - 539 و3 - 155 أن العسكر العثماني، بالقاهرة، باشروا في السنة 1217 بخطف حمير الناس من أولاد البلد، فأخفى الناس حميرهم، فكان الجماعة من العسكر ينصتون بآذانهم على أبواب الدور، ويقف بعضهم على الدار، ويقول زر، ويكررها، فينهق الحمار، فيؤخذ.
وكان إبراهيم بن الخصيب المديني، أحمق، وكان له حمار أعجف، وكان إذا علق الناس المخالي بالعشي، أخذ مخلاة حماره، وقرأ عليها " قل هو اللّه أحد " ، وعلقها عليه فارغة، وقال: لعن الله من يرى كيلجة شعيرة، أنفع من " قل هو اللّه أحد " ، فما زال هكذا حتى نفق الحمار، فقال: إن " قل هو اللّه أحد " ، تقتل الحمير، فهي للناس أقتل، لا قرأتها ما عشت البصائر والذخائر أمير المؤمنين 4 - 118 و119، وراجع كتاب أدب الغرباء للأصبهاني 46.
ومما يروى عن السيد عبد الحسين الغريفي، من علماء البحرين، وكان فقيهاً من العلماء الأتقياء، أنه هجم عليه يوماً، وهو في حلقة درسه، معيدي، أوسعه إزعاجاً، وألح عليه أن يستخير له، فإنه بصدد عمل يريد أن يقوم به، فعمد السيد إلى كتاب الله، وفتحه، ثم التفت إليه وقال: أنت تريد أن تشتري حماراً، فقال له: إي والله يا سيدنا، فقال له: امض فاشتره، ولما بارح المعيدي المكان، سأله تلامذته: كيف عرف مراد المعيدي ؟ فقال له: استفتحت له، فظهرت الآية: سنشد عضدك بأخيك.
أقول: أنا في شك من صحة هذه الحكاية، لأن السيد عبد الحسين، وهو من الفقهاء الزهاد، أتقى لله من أن يتخذ من آيات القرآن مورداً للتملح.
وقال عبد القاهر الجرجاني ت 471 شذرات الذهب 3 - 341:
تكبّر على العقل لا ترضه ... ومل إلى الجهل ميل هائم
وعش حماراً تعش سعيداً ... فالسعد في طالع البهائم
وصديقنا المصور أرشاك ببغداد، يخالف الناس في وصف الحمار بالبلادة، وهو يقول: إن الحمار عاقل حكيم، وإن النظرة التي نراها في عينه ونحسب أنها نظرة بلادة، إنما هي نظرة استهانة بنا ولا مبالاة، وكأنه يقول لنا: أنتم تقولون عني أني حمار، وفي الحقيقة، إنكم أنتم الحمير.
للتوسع في البحث، راجع الطبري 5 - 522 و6 - 40 - 42 و7 - 52 و240 و555 و8 - 122 و194 و8 - 300 - 302 و10 - 8، والولاة للكندي 469 و471، والأغاني 12 - 157 و18 - 303 و347 و20 - 69 و22 - 182، والعقد الفريد 6 - 442، والأغاني ط بولاق 20 - 31.

ابن الطبري الكاتب النصراني تجلب له التوفيق رفسة حصان

وجدت في بعض الكتب: أن عبد الله المعروف بابن الطبري النصراني الكاتب، قدم سر من رأى يلتمس التصرف، فلزم الدواوين مدة، إلى أن نفدت نفقته، وانقطعت حيلته، ولم يبق إلا ما عليه من كسوته، فعدم القوت ثلاثة أيام بلياليها، وهو صابر خوفاً من أن يبيع ما عليه، فيتعطل عن الحركة، فلما كان في اليوم الرابع عمل على بيع ما عليه ليأكل ببعضه، وليشتري بالبعض الآخر تاسومة، ومرقعة، وركوة، ويخرج في زي فيج إلى بلد آخر، لأنه بقي ثلاثة أيام لم يأكل شيئاً.
ثم شرهت نفسه إلى الرجوع إلى الديوان، مؤملاً فرجاً يستغني به عن هذا، من تصرف أو غيره.
فمشى يريد الديوان، وهو مغموم مفكر، إذ سمع صوت حافر من ورائه، وقوم يصيحون: الطريق، الطريق.
فلشدة ما به، غفل عن التنحي عن الطريق، فكبسه شهري كان راكبه المؤيد بالله بن المتوكل على الله، وهو إذ ذاك أحد أولياء العهود، فداسه، وسقط على وجهه.
فصعب ذلك على المؤيد، ولم يكن يعرفه، فاغتم أن يجرى منه على إنسان مثل ذلك، فأمر أن يحمل إلى داره، ففعل ذلك، وأفردت له حجرة، ومن يخدمه، وعولج بالدواء، والطعام، والشراب، والطيب، والفرش، حتى برئ بعد أيام، فأنفذ إليه ألفي درهم، وسأله إحلاله مما جرى عليه.
فقال: لا أقبلها، أو تقع عيني على المؤيد، فأشافهه بالدعاء.
فأوصل إليه، فشكره، ودعا له، وقص عليه قصته، وسأله استخدامه.
فخف على قلب المؤيد، واستكتبه، وأمر أن يصرف في داره، وفي دار والدته إسحاق، جارية المتوكل، فتصرف فيها مدة، وصلحت حاله.
وكان الموفق، أخو المؤيد من أمه، قد رأى ابن الطبري، فاجتذبه إلى خدمته، ونفق عليه، وانتهى أمره معه إلى أن جعل إليه تربية المعتضد، وأكسبه الأموال الجليلة.
أبو بكر محمد بن طغج ينتقل من ضعف الحال إلى ملك مصروجدت في بعض الكتب: حدث أبو الطيب بن الجنيد، الذي كان صاحباً لأبي جعفر محمد بن يحيى بن زكريا بن شيرزاد، وكان قبل ذلك جاراً لأبيه أبي القاسم قال: كان أبو بكر محمد بن طغج بن جف ينزل قديماً بالقرب من منازلنا ببغداد، بقصر فرج، وكان رقيق الحال، ضعيفاً جداً.
وكان له على باب دويرته دكان يجلس عليها دائماً، ودابته مشدودة إلى جانبها، وهو يراعيها بالعلف والماء بنفسه.
وكان له رزق سلطاني يسير، يتأخر عنه أبداً، فلا يقبضه إلا في الأحايين.
وكان شديد الاختلال، ظاهر الفقر، وكان له عدة بنات لا ذكر فيهن.
وكان يجتاز به أبو القاسم يحيى بن زكريا بن شيرزاد، أو أحد أبنيه، أبو الحسن، وأبو جعفر، فيقوم قائماً، ويظهر التعبد لهما، ولا يزال واقفاً إلى أن يبعدا عنه.
وكنت ربما جلست إليه، فيأنس بي ويحدثني، ويشكو بثه، وما يقاسيه من كثرة العائلة، وضيق الحال.
ويقول: ليت كان لي فيما رزقته من الولد، ذكر واحد، فكنت أتعزى به قليلاً، ويخف بالرجاء له، والسرور به، بعض كربي وهمي بهؤلاء البنات.
قال أبو الطيب: وضرب الدهر من ضربه، وتقلب من تقلبه، وطال العهد بابن طغج، وخرج في جملة تجريد جرد إلى الشام، وأنسيناه، وترجمت به الظنون، وترامت به الأحوال، حتى بلغ أن يقلد مصر وأعمالها، وكان من علو شأنه، وارتفاع ملكه، وحصول الأمر له، ولولده من بعده، ما كان، مما هو مشهور.
وكان قد طرأ إلى تلك الناحية أحد التجار الواسعي الأحوال، من جوارنا، ممن كان يعرف ابن طغج على تلك الأحوال الأول، فلما كان بعد سنين، عاد الرجل إلى الحضرة، فحدثنا بعظم أمر ابن طغج، واتساع ملكه.
وقال: رأيته غير الرجل الذي كنا نعرفه، مكانة، ورجاحة، وحين رآني، قربني، وأكرمني، وما زال مستبشراً بي، يحادثني، وأحادثه، ويسألني عن واحد واحد، من بني شيرزاد، وغيرهم من الجيران، وأنا أخبره.
حتى قال في بعض قوله: الحمد لله الذي بيده الأمور، ما شاء فعل، يا فلان، ألست ذاكراً ما كنت فيه ببغداد، من تلك الأحوال الخسيسة وما كنت ألاقي من الشدة، والفقر، والفاقة، والغرض بالعيش، والهم بأولئك البنات ؟.
قلت: نعم يا سيدي.
قال: والله لقد كنت أتمنى وأسأل الله أن يرزقني ابناً، فكلما اجتهدت في ذلك جاءتني ابنة، حتى تكاملن في بيتي عشراً.

وكنت أتمنى منذ سن الحداثة أن أرزق دابة أبلق، واستشعر أني إذا ركبت ذلك، فقد حصلت لي كل فائدة ونعمة، لشدة شهوتي لها، فما سهل الله لي ما طلبته من هذا الباب أيضاً شيئاً.
وتكهلت، وعلت سني، وأنا على تلك الأحوال.
وضرب الدهر ضربه، وخرجت من بغداد، فابتدأ الإقبال يأتي، والإدبار ينصرف.
وكان الله تعالى يرزقني في كل سنة ابناً، ويقبض عني ابنة، حتى مات البنات كلهن، ونشأ لي هؤلاء البنون، وأومأ إلى أحداث بين يديه كأنهم الطواويس حسناً وجمالاً.
ثم قال: وملكت من الخيل العتاق، والبراذين، والبغال، والحمير البلق، ما لم يملك أحد مثله، ولا اجتمع لأحد ما يقاربه، وأكثر من أن يحصى، وصار لغلمان غلماني، الكراع الكثير، فقم بنا حتى ندخل الاصطبلات، فتشاهدها، وتعجب.
فأخذ بيدي، ومشينا حتى دخلنا إلى إصطبل البلق، فما أشك، أنا عددنا من صنوف الدواب البلق أكثر من خمسمائة رأس، ثم ضجرنا، وما زلنا نجتاز في الاصطبل، سنة، سنة.
فيقول: هذا اصطبل الفلانيات، وهو يسأل صاحب كراعه، كم في هذا ؟.
فيقول: في هذا خمسمائة، وفي هذا أربعمائة، ونحو ذلك.
ثم عدنا إلى المجلس، وقد أبهجني ما رأيت، وهو يحمد الله على تفضله وإحسانه، ولازمته، وما فارقت داره حتى قضيت حوائجي، ونفعني، وأحسن إلي، وما قصر، وعدت إلى الشام مكرماً.

غريب الدار ليس له صديق

ذكر عن رجل كان بالبصرة، أنه كان ذا يسار، وتغيرت حاله، فخرج عن البصرة، ثم عاد إليها وقد أثرى، فجعل يحدث بألوان لقيها إلى أن قال: تغيرت حالي، إلى أن دخلت بغداد، غريباً، سليباً، لا أهتدي إلى مذهب ولا حيلة.
قال: فجعلت أسأل: أين السوق، أين الطريق، إلى أن ضجرت، فقلت وأنا مكروب:
غريب الدّار ليس له صديق ... جميع سؤاله أين الطريق
تعلّق بالسؤال بكلّ صقع ... كما يتعلّق الرّجل الغريق
وجعلت أردد ذلك وأمشي، وإذا برجل مشرف من منظر، فقال لي:
ترفّق يا غريب فكلّ عبد ... تطيف بحاله سعةٌ وضيق
وكلّ مصيبة تأتي ستمضي ... وإنّ الصّبر مسلكه وثيق
فخف ما بي، ورفعت رأسي إليه، وسألته عن خبره.
فقال: اصعد إلي أحدثك، فصعدت إليه.
فقال: وردت هذا البلد، وأنا غريب، فتحيرت - والله - كتحيرك، إلى أن مررت بهذه الغرفة، فأشرف علي رجل كان فيها، لا أعرفه، فقال لي: اصعد.
فصعدت، فأسكننيها، ثم تقلبت بي الأحوال، فابتعت الدار، وأثريت، وأنا أتبرك بها، وأجلس فيها كثيراً، فلعلها أن تكون مباركة عليك أيضاً، فإن لي فيما سواها من الدور، مساكن تجذبني.
ففعلت، وأقبلت أحوالي، واحتجت إلى الاتساع، فانتقلت عنها،
عبد الله بن مالك الخزاعي يتسلم كتاباً من الرشيد يخبره بمقتل جعفر البرمكي
وجدت في بعض الكتب: أن البرامكة، قصدت عبد الله بن مالك الخزاعي، بالعداوة، وكان الرشيد حسن الرأي فيه، فكانوا يغرونه به، حتى قالوا له: لا بد من نكبته.
فقال: ما كنت لأفعل هذا، ولكن أبعده عنكم.
فقالوا: ينفى.
فقال: لا، ولكن أوليه ولاية دون قدره، وأخرجه إليها.
فرضوا بذلك، فكتبوا له على حران والرها فقط، وأمروه بالخروج، عن الخليفة.
قال عبد الله: فودعتهم واحداً، واحداً، حتى صرت إلى جعفر لأودعه.
فقال لي: ما على الأرض عربي أنبل منك يا أبا العباس، يغضب عليك الخليفة، فيوليك حران والرها ؟.
فقلت: فما ذنبي حتى غضب علي، وأي شيء جرى مني حتى أوجب الذي أن يفعل بي هذا ؟.
قال جزاؤك أن: يضرب وسطك، وتصلب نصفاً في جانب، ونصفاً في جانب.
فقلت: العجب مني حيث صرت إليك، ونهضت، وخرجت.
وقطعت طريقي بالهم، والغم، مما دفعت إليه، وأني لا آمنهم، مع غيبتي، على السعاية علي.
فبينما أنا في عشية يوم، على باب الدار التي نزلتها، جالساً على كرسي، إذ أقبل إلي مولى لي، فقال لي سراً: قد قتل جعفر بن يحيى البرمكي.
فتوهمت أنه هو أمره بذلك ليجد علي حجة ينكبني بها، فبطحته، وضربته ثلثمائة مقرعة، وحبسته، وبت بليلة طويلة على السطح في داري.
فلما كان في السحر، إذا صوت حلق البريد، فارتعت، ونزلت عن السطح.
وقلت في نفسي: إن هجم علي صاحب البريد فهي بلية، وإن ترجل لي ففرج.

فلما بصر بي صاحب البريد ترجل لي، فطابت نفسي، ودفع إلي كتاباً من الرشيد، يخبرني فيه بقتله جعفر، وقبضه على البرامكة، ويأمرني بالشخوص إلى حضرته.
فشخصت، فلما وصلت إليه، عاملني من الإكرام والإنعام بما زاد على أمنيتي.
وخرجت، فأتيت الجسر، فوجدت جعفراً، قد ضرب وسطه، وصلب نصفه في جانب، ونصفه في الجانب الآخر.

نجاح بن سلمة ينصح سليمان بن وهب برغم ما بينهما من عداوة

حكي أن الواثق سخط على سليمان بن وهب، فرده إلى محمد بن أبي إسحاق، وأمره أن يأخذ خطه بثلاثة آلاف ألف درهم، يؤديها بعد خمسة عشر يوماً، فإن أذعن لذلك، وإلا ضربه خمسمائة سوط.
فطالبه محمد بكتب الخط، فامتنع، فدعا له بالسياط، وجرد لضربه.
ودخل نجاح بن سلمة، فلما رآه سليمان أيقن بالموت، واستغاث به سليمان.
فقال نجاح لمحمد: خله، وأخلني وإياه، ففعل.
فقال نجاح لسليمان: أتعلم أن في الدنيا أحداً أعدى لك مني ؟.
قال: لا.
قال: فهوذا أحامي عنك اليوم لأجل الصناعة، أيما أحب إليك وآثر في نفسك، أن تموت الساعة بلا شك، أو يكون ذلك إلى خمسة عشر يوماً، قد يفرج الله فيها عنك ؟ قال: بل أكون إلى خمسة عشر يوماً بين الأمرين.
قال: فاكتب خطك بما طولبت به، فكتب خطه.
قال سليمان: فما مضت ستة أيام، حتى مات الخليفة، وبطل ذلك المال. وصار نجاح بن سلمة بمشورته تلك على سليمان، أحب إليه من أخيه وولده، وزالت العداوة من بينهما.
قال مؤلف الكتاب: هذا الخبر عندي أنه مضطرب، لأشياء كثيرة، ولكني كتبته، كما وجدته، وقد مضى فيما تقدم من هذا الكتاب خبر نكبة الواثق لسليمان بن وهب، بما هو أصح من هذه الحكاية.
المعتمد يأمر بقطع يد غلام من غلمانه

ثم يعفو عنه

بلغني أن أبا محمد بن حمدون، قال: إشتهى المعتمد أن يتخذ له فرش ديباج، بستوره، وجميع آلاته، على صورة صورها، وألوان اقترحها.
فعمل ذلك بتنيس، وحمل إليه، فسر به غاية السرور، وتقدم، فنجد، ونضد، ونصب، وأحضرني والندماء، وهو يأكل فيه، فما منا إلا من وصفه واستحسنه، ثم قام لينام وينتبه، فيشرب فيه، وصرفنا.
فما شعرنا إلا وقد امتلأت الدار ضجة وصياحاً، ودعا بنا، فوجدناه يزأر كالأسد.
وإذا نصف ستر من تلك الستور قد قطع، وهو يقول: ليس بي قطعه، ولا قيمته، لأنه يمكنني أن أستعمل مكانه، وإنما بي أنه نغص علي السرور به أول يوم، واجترأ علي بمثل هذا الفعل، وأصعب من هذا أنه قطعه وأنا أراه، وغاص الذي قطعه عن عيني فلم أثبته.
ثم دعا بنحرير الخادم وحلف له بأيمان مغلظة، أنه إن لم يبحث إلى أن يحضر الجاني، ليضربن عنقه، وجلس على حاله مغضباً.
ومضى نحرير، فما أبعد حتى أحضر صبياً من الفراشين، كأنه البدر حسناً، والقطعة الديباج معه، وقد أقر بقطعها، واعتذر، وبذل التوبة، وهو يبكي، ويسأل الإقالة.
فلم يسمع المعتمد منه ذلك، وأمر نحرير أن يخرجه، فيقطع يده، فأخرج، وما منا إلا من آلمه قلبه عليه، لملاحة وجهه، وصغر سنه، وليس منا من يجسر على مسألة المعتمد فيه ونحن قيام سكوت.
حتى صرخ المعتمد على الله من يده صراخاً عظيماً، وتأوه، وقال: قد دخل شيء في أصبعي الساعة، وزاد الألم عليه، وجيء بمن رآها، فأحضر منقاشاً، فأخرجت من إصبعه شظية من قصب كالشعرة، فما ندري مم يتعجب، من صغرها ؟ أو من دخولها في لحمه مع ضعفها ؟، أو من شدة إيلاما إياه ؟ ومن كونها فوق الديباج ساعة طرح ونفض.
فلما استراح، قال: يا قوم، إن كان هذا القدر اليسير قد آلمني هذا الألم الكثير، فما حال هذا الصبي الذي أمرنا بقطع يده ؟.
قلنا: أسوأ حال وأشدها، فيجب أن تجعل العفو عنه شكراً لما كفيته.
فقال: ابعثوا إلى نحرير من يلحقه، فإن كان لم يقطعه، منع من قطعه.
فتسابق الغلمان، فلحقوه، والزيت يغلي، وقد مدت يده لتقطع، فخلوه، وسلم.
مروءة عدي بن الرقاع العامليأخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثنا أحمد بن جرير، عن محمد بن سلام، قال: عزل الوليد بن عبد الملك عبيدة بن عبد الله بن عبد الرحمان عن الأردن، وضربه، وحلقه، وأقامه للناس.
وقال للموكلين به: من أتاه متوجعاً، وأثنى عليه، فأتوني به.
فأتاه عدي بن الرقاع العاملي، وكان عبيدة محسناً إليه، فوقف عليه، وأنشأ يقول:

وما عزلوك مسبوقاً ولكن ... إلى الغايات سبّاقاً جوادا
وكنت أخي وما ولدتك أمّي ... وصولاً باذلاً لا مستزادا
فقد هيضت بنكبتك القدامى ... كذاك اللّه يفعل ما أرادا
فوثب الموكلون به، فأدخلوه إلى الوليد، وأخبروه بما جرى.
فتغيظ عليه الوليد، وقال له: أتمدح رجلاً قد فعلت به ما فعلت ؟.
قال: يا أمير المؤمنين، إنه كان إلي محسناً، ولي مؤثراً، ففي أي وقت كنت أكافئه بعد هذا اليوم؟.
قال: صدقت، وكرمت، وقد عفوت عنك، وعنه لك، فخذه وانصرف.
فانصرف به إلى منزله.

غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية

أخبرني محمد بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي غسان البصري، قال: حدثنا أبو خليفة، قال: أخبرنا محمد بن سلام.
قال محمد بن الحسن، وأخبرني علي بن الحسين الأصبهاني، قال: أخبرني عبد العزيز بن أحمد، عم أبي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثتني كلما بنت عبد العزيز بن موله، قالت: كان عامر بن الطفيل، فارس قيس، وكان عقيماً، وكان أعور.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم، قد رمي منه، ومن أربد، أخي لبيد بن ربيعة، بما أهمه عليه السلام.
وذلك إنهما أتياه، فلقيهما، فوسد عامراً وسادة، وقال: اسلم يا عامر.
قال: على أن تجعل لي الوبر، ولك المدر، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فعلى أن تجعلني الخليفة بعدك، إن أنا أسلمت.
قال: لا.
قال: فما الذي تجعل لي ؟ قال: أعنة الخيل، تقاتل عليها في سبيل الله.
قال: أو ليست أعنة الخيل بيدي اليوم ؟، وولى عامر مغضباً وهو يقول: لأملأنها عليك خيلاً جرداً، ورجالاً مرداً، ولأربطن على كل نخلة فرساً.
وقال عامر لأربد: إما أن تقتله، وأكفيكه، وإما أن أقتله، وأكفنيه.
قال أربد: اكفنيه، وأنا أقتله.
فانصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عامر: إن لي إليك حاجة.
قال: اقترب.
فاقترب، حتى حنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسل أربد سيفه، وأبصر رسول الله بريقه، فتعوذ منه بآية من كتاب الله تعالى، فأعاذه الله منه، ويبست يده على السيف، فلم يقدر على شيء.
فلما رأى عامر أربد لا يصنع شيئاً، انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال لأربد: ما منعك منه ؟.
قال: إني لما سللت بعض سيفي، يبست يدي، فوالله ما قدرت على سله.
قال ابن سلام: وذكر بعضهم أنه قال: لما أردت سل سيفي، نظرت فإذا فحل من الإبل، قطم، فاغرفاه، بين يديه، يهوي إلي، فوالله، لو سللته، لخفت أن يبتلع رأسي.
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم أرحني منهما، واكفنيهما.
فأما أربد، فأرسل الله تعالى عليه صاعقة، فأحرقته.
وأما عامر فطعن في عنقه، فأخذته غدة كغدة الجمل، فلجأ إلى بيت امرأة من سلول.
فلما غشيه الموت، جعل يقول: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية ؟ ثم مات.
وفي أربد، نزل قوله تعالى: " ويرسل الصواعق، فيصيب بها من يشاء، وهم يجادلون في الله، وهو شديد المحال " .
وفي أربد يقول لبيد أخوه:
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السماء والأسل
أفجعني الرّعد والصواعق بال ... فارس يوم الكريهة النجل
خرج ليغير فوقع على زيد الخيلأخبرني محمد بن الحسن، قال: أخبرني عبد الله بن أحمد، قال: حدثنا ابن دريد، بإسناد ذكره عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي، قال: أخبرني شيخ من بني شيبان، قال: أصابت بني شيبان سنة ذهبت بالأموال فخرج رجل منهم بعياله حتى أنزلهم الحيرة.
وقال لهم: كونوا قريباً من الملك يصيبكم من خيره، إلى أن أرجع إليكم.
وخرج على وجهه لما قد حل به، يؤمل أن يكسب ما يعود به على عياله، وقد جهده الفقر، وبلغ به الطوى.
فحدث، قال: مشيت يوماً وليلة، بحيث لا أدري إلى أين أتوجه، غير أني أجوب في البلاد.
فلما كان من الغد عشاءً، إذا بمهر مقيد حول خباء، فقلت: هذا أول الغنيمة.
فحللته، فلم أذهب إلا قليلاً، حتى نوديت: خل عن المهر، وإلا اختلجت مهجتك.
قال: فنزلت عنه، وتركته، ومضيت وقد تحيرت في أمري، واغتممت غماً شديداً.
فسرت سبعة أيام، حتى انتهيت إلى موضع عطن أباعر، مع تطفيل الشمس، فإذا خباء عظيم، وقبة من أدم.

فقلت: ما لهذا الخباء بد من أهل، وما لهذه القبة بد من رب، وما لهذا العطن بد من إبل.
فنظرت في الخباء فإذا شيخ قد اختلفت ترقوتاه، وكأنه نسر.
قال: فجلست خلفه، فلما وجبت الشمس، إذا أنا بفارس قد أقبل، لم أر قط فارساً أجمل منه، ولا أجسم، على فرس عظيم، ومعه أسودان يمشيان إلى جنبيه، وإذا مائة من الإبل مع فحلها، فبرك الفحل، وبركن حوله.
ونزل الفارس، وقال لأحد عبديه: احلب فلانة، ثم اسق الشيخ.
قال: فحلب في عس حتى ملأه، ثم جاء به فوضعه بين يدي الشيخ، وتنحى.
فكرع منه مرة، أو مرتين، ثم نزع، فثرت، فشربته.
فرجع العبد، فأخذ العس، فقال: يا مولاي، قد أتى على آخره.
قال: ففرح بذلك، وقال: احلب فلانة، فحلبها، ثم جاء بالعس، فوضعه بين يدي الشيخ.
فكرع منه كرعة واحدة، ثم نزع فثرت إليه، فشربت نصفه، وكرهت أن أتهم، إن أتيت على آخره.
ثم جاء العبد، وأخذ العس، وقال: يا مولاي، قد شرب.
قال: دعه، ثم أمر بشاة، فذبحت، وشوى للشيخ منها، وأكل هو وعبداه.
فأمهلت حتى ناموا، وسمعت الغطيط، فثرت إلى الفحل، فحللت عقاله، ثم ركبته، فاندفع بي، واتبعته الابل، فسللتها ليلتي كلها حتى أصبحت.
فلما أسفر الصبح، نظرت فلم أر أحداً، فسللتها سلا عنيفاً، حتى تعالى النهار، فالتفت التفاتة، فإذا بشيء كأنه طائر، فما زال يدنو حتى تبينته، فإذا هو فارس على فرس، وإذا هو صاحبي البارحة.
فعقلت الفحل، ونثلت كنانتي، ووقفت بينه وبين الإبل.
فدنا مني، وقال: حل عقاله.
فقلت: كلا - والله - لقد أضر بي الجهد، وخلفت نسيات، وصبية بالحيرة، وآليت أن لا أرجع إليهن إلا بعد أن أفيدهن خيراً، أو أموت.
قال: فإنك ميت، حل عقاله.
قلت: هوذاك.
قال: إنك لمغرور، أنصب لي خطامه، وفي خطامه خمس عجر، فنصبته.
قال: أين تريد أن أضع سهمي ؟.
قلت: في هذا الموضع.
قال: فكأنما وضعه بيده، حتى والى بين خمسة أسهم.
قال: فرددت نبلي، ودنا هو، فأخذ القوس والسيف.
وقال: ارتدف خلفي، ففعلت.
فقال لي، وقد عرف أني أنا الذي شربت اللبن عند الشيخ: ما ظنك بي ؟ قلت: أحسن الظن، مع ما لقيت مني من تعب ليلتك، وقد أظفرك الله بي.
فقال: أترى كنا يلحقك منا سوء، وقد بت تنادم مهلهلاً ليلتك.
قلت: زيد الخيل أنت ؟.
قال: نعم، أنا زيد الخيل.
قلت: كن خير آخذ.
قال: ليس عليك بأس.
فمضى إلى موضعه الذي كان به، ثم قال: أما لو كانت هذه الإبل لي لسلمتها إليك، ولكنها لابنة مهلهل، فأقم عندي، فإني على شرف غارة.
فأقمت أياماً، ثم أغار على بني نمير بالملح، فأصاب مائة بعير.
فقال: هذه أحب إليك، أم تلك ؟ فقلت: هذه، فأعطانيها.
قال: فقلت: ابعث معي خفراء، ففعل.
وعدت إلى وطني، وفرج الله بكرمه عني، وأصلح حالي.
منع الله سواراً من الطعام والشراب وجاء به حتى أقعده بين يديك
ذكر محمد بن إسحاق بن أبي العشير، عن إسحاق بن يحيى بن معاذ، وقال: حدثني سوار، صاحب رحبة سوار، قال: انصرفت من دار المهدي، فلما دخلت منزلي، دعوت بالغداء، فحاشت نفسي، فأمرت به فرد.
ثم دعوت بالنرد، ودعوت جارية لي ألاعبها، فلم تطب نفسي بذلك، ودخلت القائلة، فلم يأخذني النوم.
فنهضت، وأمرت ببغلة لي شهباء، فأسرجت، فركبتها، فلما خرجت استقبلني وكيل لي ومعه ألفا درهم.
فقلت له: ما هذا ؟.
فقال: ألفا درهم، جبيتها من مستغلك الجديد.
قال: قلت: أمسكها معك، واتبعني.
قال: ومضيت، وخليت رأس البغلة، حتى عبرت الجسر، ثم مضت بي في شارع دار الرقيق، حتى انتهيت إلى الصحراء، ثم رجعت إلى باب الأنبار، فطوفت، فلما صرت في شارع باب الأنبار، انتهيت إلى باب دار لطيف، عنده شجرة، وعلى الباب خادم، فوقفت، وقد عطشت.
فقلت للخادم: أعندك ما تسقينيه ؟.
قال: نعم فأخرج قلة نظيفة طيبة الريح، عليها منديل، فناولنيها، فشربت.
وحضر وقت العصر، فدخلت مسجداً، فصليت فيه، فلما قضيت صلاتي، إذا أنا بأعمى يتلمس.
قلت: ما تريد يا هذا ؟.
قال: إياك أريد.
قلت: وما حاجتك ؟.
فجاء، حتى قعد إلي، فقال: شممت منك رائحة الطيب فتخيلت أنك من أهل النعمة، فأردت أن ألقي إليك شيئاً.
فقلت: قل.
قال: أترى هذا القصر ؟.
قلت: نعم.

قال: هذا قصر كان لأبي، فباعه، وخرج إلى خراسان، وخرجت معه، فزالت عنا النعمة التي كنا فيها، فأتيت صاحب الدار، لأسأله شيئاً يصلني به فإني في ضنك شديد، وضغطة عظيمة، ورزوح حال قبيح، وأصير إلى سوار، فإنه كان صديقاً لأبي.
قلت: ومن أبوك ؟.
قال: فلان بن فلان، فإذا أصدق الناس - كان - لي.
فقلت: يا هذا، إن الله قد أتاك بسوار، منعه الطعام والشراب والنوم، حتى جاء به فأقعده بين يديك.
ثم دعوت الوكيل، وأخذت منه الألفي درهم، فدفعتها إليه، وقلت له: إذا كان غداً، فصر إلي، إلى المنزل.
ثم مضيت، فقلت: ما أحدث المهدي، بشيء أطرف من هذا، فأتيته، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فحدثته بالحديث، فأعجب به، وأمر لي بألفي دينار، فأحضرت.
فقال لي: ادفعها إليه.
قال: فنهضت، فقال لي: اجلس، أعليك دين ؟.
قلت: نعم.
قال: كم مبلغه ؟.
قلت: خمسون ألف دينار.
فقال: تحمل إليك، فاقض بها دينك، فقبضتها.
فلما كان من الغد، أبطأ علي المكفوف، وأتاني رسول المهدي، يدعوني، فجئته.
فقال: فكرت في أمرك، فقلت: يقضي دينه، ثم يحتاج إلى الحيلة والقرض، وقد أمرت لك بخمسين ألف دينار أخرى.
قال: فقبضتها، وانصرفت، فجاءني المكفوف، فدفعت إليه الألفي دينار، وقلت له: قد رزق الله خيراً كثيراً، وأعطيته من مالي ألفي دينار أخرى، فقبض أربعة آلاف دينار، ودعا لي، وقال: والله، ما ظننت أني أصل منك، ولا من أحد من أهل هذه البلاد، إلى عشر هذا المال، فجزاك الله خيراً.

عروة بن أذينة يفد على هشام بن عبد الملك

أخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: حدثنا محمد بن جرير الطبري، عن يحيى بن عروة بن أذينة، قال: أضاق أبي، إضاقة شديدة، وتعذرت عليه الأمور، فعمل شعراً امتدح به هشام بن عبد الملك.
ودخل عليه في جملة الشعراء، فلما دخلوا عليه، نسبهم، فعرفهم جميعاً وقال لأبي: أنشدني قولك: لقد علمت ....، فأنشده:
لقد علمت وما الإشراف من خلقي ... أنّ الّذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنّيني تطلّبه ... ولو جلست أتاني لا يعنّيني
وأيّ حظّ امرئٍ لا بدّ يبلغه ... يوماً ولا بدّ أن يحتازه دوني
لا خير في طمع يهدي إلى طبعٍ ... وعلقة من قليل العيش تكفيني
لا أركب الأمر تزري بي عواقبه ... ولا يعاب به عرضي ولا ديني
أقوم بالأمر إمّا كان من أربي ... وأكثر الصمت فيما ليس يعنيني
كم من فقير غنيّ النّفس تعرفه ... ومن غنيّ فقير النّفس مسكين
وكم عدوّ رماني لو قصدت له ... لم يأخذ البعض منّي حين يرميني
وكم أخ لي طوى كشحاً فقلت له ... إنّ انطواءك عنّي سوف يطويني
لا أبتغي وصل من يبغي مفارقتي ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
فقال هشام: ألا جلست في بيتك، حتى يأتيك رزقك ؟.
قال: وغفل عنه هشام، فخرج من وقته، وركب راحلته، ومضى منصرفاً.
فافتقده هشام، فسأل عنه، فعرف خبره، فأتبعه بجائزة.
فمضى الرسول، فلحقه على ثلاثة فراسخ، وقد نزل على ماء يتغدى عليه.
فقال له: يقول لك أمير المؤمنين: أردت أن تكذبنا، وتصدق نفسك ؟ هذه جائزتك.
فقال: قل له: قد صدقني الله، وأتاني برزقي بحمده.
قال يحيى: وفرض له فريضتين، كنت في إحداهما.
أبو أيوب المورياني يجيز ابن شبرمة بخمسين ألف درهمقرئ على أبي بكر الصولي، وأنا أسمع، في المسجد الجامع بالبصة، حدثكم الغلابي، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن ميثم، وقد كان جاز المائة سنة، قال: سمعت ابن شبرمة، يقول: زوجت ابني على ألفي درهم، وما هي عندي، فطولبت بها، فصرت إلى أبي أيوب المورياني، فقلت له: إني اخترتك لحاجتي، وعرفته خبري، فأمر لي بألفي درهم، فشكرته وقمت.
فقال: اجلس، ألا تريد خادماً ؟.
قال: فقلت: إن رزق الله.
قال: وهذه ألفان لخادمك، ألا تريد نفقة ؟ ألا تريد كذا ؟، وجعل يعدد ويعطيني.
حتى قمت على خمسين ألف درهم، وصلني بها.
ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، هذا الخبر، بلا إسناد، على قريب من هذا.
الواثق يطرد أحمد بن الخصيب من حضرته ثم يعفو عنه

حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك الكاتب، وكان يعرف بالديناري، لما بين أبيه الحسن بن رجاء، وبين دينار بن عبد الله، من القرابة، فإنهما كانا ابني خالة، على ما أخبرني، قال: حدثني أبو عيسى محمد بن سعيد الديناري الكاتب، جد أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن مقلة لأمه، قال: لما تخلص أبو أيوب سليمان بن وهب، من نكبة المعتمد، وكنت أكتب له، وجلس في منزله، أمرني أن أكتب إلى العمال الذين ضياعه في أعمالهم، كتباً أعرفهم فيها رجوع الخليفة له، وتبينه باطل ما أنهي إليه، وحمل به عليه، وأخاطبهم عنه في أمر ضياعه وأسبابه.
فكتبت نسخة، قلت فيها: إن أمير المؤمنين - أعزه الله - لما وقف على تمويه من موه عليه في أمرنا، فعل وصنع.
فلما وقف على هذا الفصل، خط على هذا الحرف، وأبدله بغيره، ولم يغير في النسخة سواه.
وقال لي: إذا فرغت من تحرير الكتب، فأذكرني بالتمويه، أحدثك بما كرهته له.
قال: فحررت الكتب، فلما خلا، سألته: لم ضرب على التمويه ؟، فقال: نعم لما غضب علي الواثق، وعلى أحمد بن الخصيب، بسبب إيتاخ، وأشناس، كانت موجدته علينا بسبب واحد، وحبسه لنا في معنى واحد، فمكثنا في الحبس والقيد، إلى أن كلم فينا، فأمر بإحضارنا.
فقلت لأحمد بن الخصيب: قد دعانا، وأظن أنه سيوبخنا، ويعدد علينا ما قرفنا به عنده، ليخرج ما في نفسه، فيعظم منته علينا، بما يأتيه من إطلاقنا، وأعرف عجلتك، وتسرعك إلى ما يضرك، وكأني بك حين يبتدئ بتقريعنا، قد قطعت كلامه، وأنحيت عليه بلسانك ويديك، فأنشأت لنا استئناف غضب وموجدة، وأكسبتنا شراً مما قد أملنا الخلاص منه.
فقال لي: فما أعمل ؟.
قلت: لست أحسبك تتهمني على نفسي ولا عليك، ولا تشك أننا حبسنا لقضية واحدة، فولني جوابه، وأعرني سكوتك، ودعني أرفق به، وأخدعه بما تخدع به الملوك، فلعلنا نتخلص من المكروه الذي نحن فيه.
قال: أفعل.
فاستحلفته على ذلك، فحلف لي.
فلما دخلنا الصحن، وجدنا الخليفة يستاك، وبين يديه طست ذهب، وإبريق ذهب، بيد فراش قائم، وبيد الخليفة مسواك طوله ذراعان.
فلما رآنا، قال: أحسنت إليكما، واصطنعتكما، فخنتماني، وكفرتما نعمتي، وفعلتما، وصنعتما.
فكأني - والله - إنما أوصيت أحمد بن الخصيب، ألا يدعه ينطق.
فقال له، وقد رفع يديه في وجهه: لا والله يا أمير المؤمنين، ما بلغك عنا الحق، ولا فعلنا شيئاً مما سعي بنا، ولقد موه عليك في أمرنا.
فقال: إنما يموه على غبي مثلك، فأومأت إليه بعيني، فأمسك بعض الإمساك.
وعاد الواثق يتمم كلامه، ويعدد علينا نعمه ومننه، فما ملك أحمد نفسه، أن رفع يده، وقال: والله يا أمير المؤمنين، ما كفرنا نعمتك، ولا فعلنا، ولا صنعنا، إنما موه على أمير المؤمنين في أمرنا.
فقال: يا جاهل، قد عدت لها، إنما يجوز التمويه على أحمق مثلك، وأومأت إليه بعيني، فأمسك.
وعاد الواثق في كلامه، فما انضبط أحمد أن رد قوله، وجاء بالتمويه.
فحين سمعها الواثق، انقلبت عيناه في أم رأسه، واستشاط غضباً، وأغلظ له في الشتم، وحذفه بالمسواك، فلولا أنه زاغ عنه، لهشم وجهه، وأعمى عينه.
ثم قال: يا غلمان، أخرجوه إلى لعنة الله، فأخرج أخزى خلق الله.
ونالني من الجزع، والغم، والحيرة في أمره، أمر عظيم، ولم أدر، أقف، أم أمضي، وخفت إن وقفت، أن يقول: ما وقوفك بين يدي، وقضيتكما واحدة، وإن مضيت أن نرد جميعاً إلى الحبس، فرجعت أتقهقر عن موضعي قليلاً، كأني أريد الخروج.
فقال لي: مكانك أنت يا سليمان، هب هذا على ما هو عليه، أنت أيضاً، تنكر أنك فعلت كذا، وصنعت كذا ؟.
فوجدت السبيل إلى ما أردت، فلم أزل أعترف، وألزم نفسي الجناية، وأديم الخضوع والاستعطاف، وأسأل الصفح والإقالة، إلى أن قال: قد عفوت عنك، فقبلت الأرض، وبكيت.
فقال: إخلعوا عليه، وأصرفوه إلى منزله، وليلزم الدار على عادته ورسمه.
فلما وليت، قال: وذلك الكلب، قد كنت أردت العفو عنه، فأخرجني عن حلمي سوء أدبه، فاخلعوا عليه أيضاً.
فخرجت، وإذا بأحمد في بعض الممرات، فعرفته الخبر، ثم قلت له: يا هذا كدت أن تأتي علينا، أرأيت أحداً يكرر على الخليفة لفظة قد كرهها، وأنكرها، ثلاث مرات ؟ أو ما علمت أن التمويه في الحقيقة ضرب من السخرية ؟ قال: فلم يخرج من قلبي فزع التمويه، من ذلك الوقت، إلى الآن.

غضب الرشيد على مروان بن أبي حفصة لمدحه معن بن زائدة وضربه مائة سوط

حدثني عبد الله بن عمر بن الحارث الواسطي السراج، المكفوف المعروف بأبي أحمد الحارثي، قال: حدثنا ابن دريد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي، عن عمه، قال: بعث إلي الرشيد في وقت لم تكن عادته أن يستدعيني في مثله، وجاءني الرسول بوجه منكر، فأحضرني إحضاراً عنيفاً منكراً مستعجلاً، فوجلت وجلاً شديداً، وخفت، وجزعت.
فدخلت، فإذا الرشيد على بساط عظيم، وإلى جانبه كرسي خيزران، عليه جويرية خماسية، فسلمت، فلم يرد علي، ولا رفع رأسه إلي، وجعل ينكت الأرض بإصبعه.
فقلت: سعي بي عنده بباطل، يهلكني قبل كشفه، وأيست من الحياة.
فرفع رأسه، وقال: يا أصمعي، ألا ترى الدعي بن الدعي، اليهودي، عبد بني حنيفة، مروان بن أبي حفصة، يقول لمعن بن زائدة، وإنما هو عبد من عبيدنا:
أقمنا باليمامة بعد معنٍ ... مقاماً لا نريد به زيالا
وقلنا أين نذهب بعد معنٍ ... وقد ذهب النوال فلا نوالا
وكان النّاس كلّهم لمعنٍ ... إلى أن زار حفرته عيالا
فقال: إن النوال قد ذهب، مع بقائنا، فما يصنع بنا إذن ؟، ولم يرض حتى جعلني وخاصتي، عيالاً لمعن، والله، لأفعلن به ولأصنعن.
فقلت: يا أمير المؤمنين، عبد من عبيدك، أنت أولى بأدبه، أو العفو عنه.
فقال: علي بمروان، فدخل عليه.
فقال: السياط، فأخذ الخدم يضربونه بها، وهو يصيح: يا أمير المؤمنين، ما ذنبي ؟ يا أمير المؤمنين، استبقني، إلى أن ضرب أكثر من مائة سوط.
فقال: يا أمير المؤمنين، اعف عني، واذكر قولي فيك، وفي آبائك.
فقال: يا غلام، كف عنه، ثم قال: ما قلت، يا كلب ؟.
فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
هل تطمسون من السماء نجومها ... بأكفّكم أم تسترون هلالها
أم تدفعون مقالة عن ربّه ... جبريل بلّغها النّبيّ فقالها
شهدت من الأنفال آخر آيةٍ ... بتراثهم فأردتم إبطالها
فدعوا الأسود خوادراً في غيلها ... لا تولغنّ دماءكم أشبالها
قال: فأمر بإطلاقه، وأن يدفع إليه ثلاثون ألف درهم.
فلما خرج، قال: يا أصمعي تدري من هذه الصبية ؟.
قلت: لا أدري.
قال: هذه مؤنسة بنت أمير المؤمنين، فدعوت له ولها، وتأملته، فإذا هو شارب ثمل.
قال: قم فقبل رأسها.
فقلت: أفلت من واحدة، ودفعت إلى أخرى أشد منها، إن أطعته أدركته الغيرة فقتلني، وإن عصيته قتلني بمعصيتي له، فلما أحب الله عز وجل من تأخير أجلي، ألهمني أن وضعت كمي على رأسها، وقبلت كمي.
فقال: والله يا أصمعي، لو أخطأتها لقتلتك، أعطوه عشرة آلاف درهم، والحق بدارك.
فخرجت وأنا ما أصدق بالسلامة، فكيف بالحباء والكرامة.
أمدح بيت قالته العربقال المفضل بن محمد الضبي: أصبحت يوماً ببغداد، في خلافة المهدي، وأنا من أشد الناس إضاقة وضراً، لا أدري ما أعمل، حيرة وفكراً.
فخرجت، فجلست على باب منزلي بالصراة، أفكر فيما أصنع، فإذا أنا برسول المهدي، قد وقف علي.
فقال: أجب أمير المؤمنين، فراعني، وساء ظني.
فقلت: أدخل، فألبس ثيابي.
فقال: ما إلى ذلك سبيل.
فاشتد جزعي، وخشيت أن يأخذني بما كان بيني وبين إبراهيم بن عبد الله ابن حسن بن حسن رضي الله عنهم.
فاستدعيت ثيابي، وجددت وضوءاً على الباب، ولم أخبر أهلي بقصتي، ولا بما هجم من الغم علي.
وقلت: إن كان خيراً أو شراً، فسيبلغهم، فما معنى تعجيل الهم لهم.
ومضيت مع الرسول، حتى دخلت على المهدي، وأنا في نهاية الجزع، فسلمت، فرد علي السلام.
فقلت في نفسي: ليس إلا خيراً.
فقال: اجلس يا مفضل، فجلست.
فقال: أخبرني عن أمدح بيت قالته العرب.
فتبلدت ساعة، لا أذكر شيئاً، ثم أجرى الله على لساني، أن قلت: قول الخنساء.
فأشرق وجهه، وقال: حيث تقول ماذا ؟.
فقلت: حيث تقول:
وإنّ صخراً لوالينا وسيّدنا ... وإنّ صخراً إذا نشتو لنحّار
وإنّ صخراً لتأتمّ الهداة به ... كأنّه علم في رأسه نار
فاستبشر به، وقال: قد أخبرت هؤلاء بهذا، وأومأ إلى جماعة بين يديه، فلم يقبلوا مني.
قلت: كان أمير المؤمنين، أحق بالصواب منهم.
قال: يا مفضل، حدثني الآن.

قلت: أي الأحاديث ؟.
قال: أحاديث الأعراب فلم أزل أحدثه، بأحسن ما أحفظ منها، إلى أن كاد المنادي بالظهر أن ينادي.
ثم قال لي: كيف حالك يا مفضل ؟.
قلت: ما يكون حال رجل عليه عشرون ألف درهم ديناً حالاً، وليس في رزقه فضل لقضائها، وقصصت عيه قصة حالي ويومي في الإضافة.
فقال: يا عمر بن بزيع، ادفع إليه الساعة، عشرين ألف درهم يقضي بها دينه، وعشرين ألف درهم يصلح بها حاله، وعشرين ألف درهم يجهز بها بناته، ويوسع بها على عياله.
ثم قال: يا مفضل، ما أحسن ما قال ابن مطير، في مثل حالك:
وقد تغدر الدنيا فيضحي غنيّها ... فقيراً ويغنى بعد بؤس فقيرها
وكم قد رأينا من تكدّر عيشة ... وأخرى صفا بعد اكدرار غديرها
فأخذت المال، وانصرفت إلى بيتي بستين ألف درهم، بعد الإياس، وتوطين النفس على ضرب الرقبة.

بين الأصمعي والبقال الذي على باب الزقاق

وجدت في بعض الكتب عن الأصمعي، قال: كنت بالبصرة، أطلب العلم، وأنا مقل، وكان على باب زقاقنا بقال، إذا خرجت باكراً يقول لي: إلى أين ؟ فأقول: إلى فلان المحدث، وإذا عدت مساء، يقول لي: من أين ؟ فأقول: من عند فلان الأخباري، أو اللغوي.
فيقول: يا هذا، اقبل وصيتي، أنت شاب، فلا تضيع نفسك، واطلب معاشاً يعود عليك نفعه، وأعطني جميع ما عندك من الكتب، حتى أطرحها في الدن، وأصب عليها من الماء للعشرة أربعة، وأنبذه، وأنظر ما يكون منه، والله، لو طلبت مني، بجميع كتبك، جرزة بقل، ما أعطيتك.
فيضيق صدري بمداومته هذا الكلام، حتى كنت أخرج من بيتي ليلاً، وأدخله ليلاً، وحالي - في خلال ذلك - تزداد ضيقاً، حتى أفضيت إلى بيع آجر أساسات داري، وبقيت لا أهتدي إلى نفقة يومي، وطال شعري، وأخلق وبي، واتسخ بدني.
فأنا كذلك، متحيراً في أمري، إذ جاءني خادم للأمير محمد بن سليمان الهاشمي، فقال: أجب الأمير.
فقلت: ما يصنع الأمير برجل بلغ به الفقر إلى ما ترى ؟.
فلما رأى سوء حالي، وقبح منظري، رجع فأخبر محمد بن سليمان بخبري، وعاد إلي، ومعه تخوت ثياب، ودرج فيه بخور، وكيس فيه ألف دينار.
وقال: قد أمرني الأمير، أن أدخلك الحمام، وألبسك من هذه الثياب، وأدع باقيها عندك، وأطعمك من هذا الطعام، وإذا بخوان كبير فيه صنوف الطعمة، وأبخرك، لترجع إليك نفسك، ثم أحملك إليه.
فسررت سروراً شديداً، ودعوت له، وعملت ما قال، ومضيت معه، حتى دخلت على محمد بن سليمان، فسلمت عليه، فقربني، ورفعني.
ثم قال: يا عبد الملك، قد اخترتك لتأديب ابن أمير المؤمنين، فاعمل على الخروج إلى بابه، وانظر كيف تكون ؟.
فشكرته، ودعوت له، وقلت: سمعاً وطاعة، سأخرج شيئاً من كتبي وأتوجه.
فقال: ودعني، وكن على الطريق غداً.
فقبلت يده، وقمت، فأخذت ما احتجت إليه من كتبي، وجعلت باقيها في بيت، وسددت بابه، وأقعدت في الدار عجوزاً من أهلنا، تحفظها.
وباكرني رسول الأمير محمد بن سليمان، وأخذني، وجاء بي إلى زلال قد اتخذ لي، وفيه جميع ما أحتاج إليه، وجلس معي، ينفق علي، حتى وصلت إلى بغداد.
ودخلت على أمير المؤمنين الرشيد، فسلمت عليه، فرد علي السلام.
وقال: أنت عبد الملك بن قريب الأصمعي.
قلت: نعم، أنا عبد أمير المؤمنين بن قريب الأصمعي.
قال: إعلم، أن ولد الرجل مهجة قلبه، وثمرة فؤاده، وهوذا أسلم إليك ابني محمداً بأمانة الله، فلا تعلمه ما يفسد عليه دينه، فلعله أن يكون للمسلمين إماماً.
قلت: السمع والطاعة.
فأخرجه إلي، وحولت معه إلى دار، قد أخليت لتأديبه، وأخدم فيها من أصناف الخدم، والفرش، وأجرى علي في كل شهر عشرة آلاف درهم، وأمر أن تخرج إلي في كل يوم مائدة، فلزمته.
وكنت مع ذلك، أقضي حوائج الناس، وآخذ عليها الرغائب، وأنفذ جميع ما يجتمع لي، أولاً، فأولاً، إلى البصرة، فأبني داري، وأشتري عقاراً، وضياعاً.
فأقمت معه، حتى قرأ القرآن، وتفقه في الدين، وروى الشعر واللغة، وعلم أيام الناس وأخبارهم.
واستعرضه الرشيد، فأعجب به، وقال: يا عبد الملك، أريد أن يصلي بالناس، في يوم الجمعة، فاختر له خطبة، فحفظه إياها.
فحفظته عشراً، وخرج، فصلى بالناس، وأنا معه، فأعجب الرشيد به، وأخذه نثار الدنانير والدراهم من الخاصة والعامة، وأتتني الجوائز والصلات من كل ناحية، فجمعت مالاً عظيماً.

ثم استدعاني الرشيد، فقال: يا عبد الملك، قد أحسنت الخدمة، فتمن.
قلت: ما عسى أن أتمنى، وقد حزت أماني.
فأمر لي بمال عظيم، وكسوة كثيرة، وطيب فاخر، وعبيد، وإماء، وظهر، وفرش، وآلة.
فقلت: إن رأى أمير المؤمنين، أن يأذن لي في الإلمام بالبصرة، والكتاب إلى عامله بها، أن يطالب الخاصة والعامة، بالسلام علي ثلاثة أيام، وإكرامي بعد ذلك.
فكتب إليه بما أردت، وانحدرت إلى البصرة، وداري قد عمرت، وضياعي قد كثرت، ونعمتي قد فشت، فما تأخر عني أحد.
فلما كان في اليوم الثالث، تأملت أصاغر من جاءني، فإذا البقال، وعليه عمامة وسخة، ورداء لطيف، وجبة قصيرة، وقميص طويل، وفي رجله جرموقان، وهو بلا سراويل.
فقال: كيف أنت يا عبد الملك ؟.
فاستضحكت من حماقته، وخطابه لي بما كان يخاطبني به الرشيد.
وقلت: بخير، وقد قبلت وصيتك، وجمعت ما عندي من الكتب، وطرحتها في الدن، كما أمرت، وصببت عليها من الماء للعشرة أربعة، فخرج ما ترى.
ثم أحسنت إليه بعد ذلك، وجعلته وكيلي.
المنذر بن المغيرة الدمشقي أحد صنائع البرامكة قال مسرور الكبير: استدعاني المأمون، فقال لي: قد أكثر علي أصحاب أخبار السر، أن شيخاً يأتي خرائب البرامكة، فيبكي وينتحب طويلاً، ثم ينشد شعراً يرثيهم به، وينصرف، فاركب أنت وأيوب الخادم، والأصمعي، ودينار بن عبد الله، واستترا بالجدران، فإذا جاء الشيخ، فأمهلاه، حتى تشاهدان ما يفعل، وتسمعان ما يقول، فإذا أراد الانصراف، فاقبضا عليه، وأتياني به.
قال مسرور: فركبت أنا ودينار وأيوب الخادم مغلسين، فأتينا الموضع، فاختفينا فيه، وأبعدنا الدواب.
فلما كان آخر الليل، إذا بخادم أسود قد أقبل، ومعه كرسي حديد، فطرحه، وجاء على أثره كهل، فجلس على الكرسي، وتلفت يميناً وشمالاً، فلم ير أحداً، فبكى وانتحب، حتى قلت: قد فارق الدنيا، وأنشأ يقول:
أما واللّه لولا خوف واشٍ ... وعينٍ للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للنّاس بالحجر استلام
ثم بكى طويلاً، وأنشأ يقول:
ولما رأيت جلل جعفراً ... ونادى منادٍ للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وزاد تأسّفي ... عليها وقلت الآن لا تنفع الدنيا
وذكر أبياتاً طويلة، لا تدخل في كتابي هذا، فأرويها.
قال: فلما فرغ من إنشاده وقام، قبضنا عليه، فقال: ما تريدون ؟.
قلت: هذا دينار بن عبد الله، وهذا أيوب الخادم بالحرم، وهذا عبد الملك بن قريب الأصمعي، وأنا مسرور خادم أمير المؤمنين، وهو يستدعيك.
فأبلس، ثم قال: إني لا آمنه على نفسي فامهلاني حتى أوصي.
فقلت: شأنك وما تريد، فقام، وسار، ونحن معه، حتى أتى بعض دكاكين العلافين، بفرضة الفيل.
فاستدعى دواةً وبياضاً، وكتب فيها وصيته، ودفعها إلى الخادم الذي كان معه، وأنفذه إلى منزله، وسرنا به، حتى أدخلناه على المأمون، فلما مثل بين يديه، زبره، وانتهره.
ثم قال له: من أنت ؟ وبم استحق منك البرامكة ما تصنع في دورهم وخراباتهم ؟.
فقال: غير هائب، ولا محتشم: يا أمير المؤمنين، إن للبرامكة عندي أياد، فإن أمر أمير المؤمنين حدثته بإحداها.
فقال: هات.
قال: أنا المنذر بن المغيرة الدمشقي، من ذوي الحسب، نشأت في ظل نعم قديمة، فزالت عني، كما تزول النعم عن الناس، حتى أفضيت إلى بيع مسقط رأسي وروس آبائي، وأملقت حتى لا غاية، فأشير علي بقصد البرامكة.
فخرجت من الشام إلى بغداد، ومعي نيف وعشرون امرأة وصبياً وصبية، فدخلت بهم مدينة السلام، فأنزلتهم في مسجد.
ثم عمدت إلى ثويبات كنت قد أعددتها للقاء الناس، والتذرع بها للبرامكة، فلبستها، وسلكت الطريق، لا أدري أين أقصد، وكنت كما قيل:
وأصبح لا يدري وإن كان حازماً ... أقدّامه خير له أم وراءه
فلما قال ذلك، بكى المأمون، فقال له مسرور: أقصر يا رجل، فقد أتعبت أمير المؤمنين بوصفك.
فقال له المأمون: دعه يتحدث بما يريد.

قال: نعم، وتركت عيالي جياعاً لا نفقة لهم، ولا معهم ما يباع، فأفضيت إلى مسجد مزخرف، فيه جمع شيوخ، بأحسن زي، وأجمل هيأة، فطمعت في مخاطبتهم، فصعدت إلى المسجد، فجلست معهم، لم أزد على السلام، وجعلت أردد في صدري كلاماً أخاطبهم به، فيحصرني التشور، ويخجلني ذل المسألة، ويحبسني عن الكلام، وأتصبب عرقاً، حياءً وخوفاً من أن يقال لي: من أنت، وما تريد ؟ وما يمكنني الجواب، ولا أدري ما أخاطبهم به، إذ لم تكن لي عادة بالخوض في مثله.
فأنا كذلك، إذ جاء خادم فاستدعى القوم، فقاموا، وقمت معهم، ومضينا، فأدخلوا داراً ذات دهليز طويل، فدخلت معهم، وأفضينا إلى صحن واسع، وإذا شيخ بهي، فإذا هو يحيى بن خالد، على دكة أبنوس في صحن الدار، في وسط البستان، وله ميدان عنده بركة، وقد نصب عليها كراسي أبنوس.
وأقبل القوم، فجلسوا، وجلست معهم، وتأمل الخدم القوم وعددهم، فإذا نحن مائة رجل ورجل، فدخل الخدم وغابوا، ثم خرج مائة خادم وخادم، في يد كل واحد منهم مجمرة من ذهب، فيها قطعة كالفهر من عنبر، والخدم بأفخر الثياب، عليهم مناطق الذهب المرصعة بالجوهر، وهم يطيفون بغلام، حين اخضر شاربه، حسن الوجه، فسجروا العنبر.
وأقبل يحيى على الزريقي القاضي، وقال: زوج ابن أخي هذا، بابنتي عائشة على صداق قدره مائة ألف درهم.
فخطب، وعقد النكاح، وأخذنا النثار من فتات المسك، وبنادق العنبر، وتماثيل الند الصغار، والتقط الناس، والتقطت.
ثم جاء مائة خادم وخادم، في يد كل واحد منهم صينية فضة فيها ألف دينار، مخلوطة بالمسك، فوضع بين يدي كل رجل منا صينية.
فأقبلت الجماعة تكور الدنانير في أكمامها، وتأخذ الصواني تحت آباطها، وتنصرف، الأول، فالأول، حتى بقيت وحدي، لا أجسر على أخذ الصينية وما فيها، والأسف، والحاجة، يمنعاني أن أقوم وأدعها، وأنا مطرق، مفكر.
حتى ضاق صدري، فرفعت رأسي، فغمزني بعض الخدم على أخذها والقيام، فأخذتها وقمت، وأنا لا أصدق، وجعلت أمشي وأتلفت، خوفاً من أن يتبعني من يأخذها، ويحيى يلاحظني من حيث لا أعلم.
فلما قاربت الستر، رددت، فأيست من الصينية، فجئت - وهي معي - حتى قربت منه، فأمرني بالجلوس، فجلست.
فسألني عن حالي، وقصتي، ومن أنا، فصدقته، حتى إذا بلغت إلى تركي عيالي في المسجد، بكى.
ثم قال: علي بموسى، فجاء.
فقال: يا بني، هذا رجل من أبناء النعم، قد رمته الأيام بصروفها، والنوائب بحتوفها، فخذه، واخلطه بنفسك، واصطنعه.
فأخذني موسى إلى داره، فخلع علي من أفخر ثيابه، وأمر بحفظ الصينية لي، وقضيت على ذلك يومي وليلتي.
ثم استدعى أخاه العباس من الغد، وقال له: إن الوزير سلم إلي هذا الفتى، وأمرني فيه بكذا وكذا، وأريد أن أركب اليوم إلى دار أمير المؤمنين، فليكن عندك اليوم حتى أرتجعه غداً، فكان يومي عنده مثل أمسي.
وأقبلوا يتداولوني كل يوم، واحداً بعد واحد، وأنا قلق بأمر عيالي، إلا أنني لا أذكرهم إجلالاً لهم.
فلما كان في اليوم العاشر، أدخلت إلى الفضل بن يحيى، فأقمت في داره يومي وليلتي.
فلما أصبحت، جاءني خادم من خدمه، فقال: يا هذا قم إلى عيالك وصبيانك.
فقلت: إنا لله، لم أحصل لهؤلاء الصبيان على الأكل والشرب، والصينية وما فيها، وما حصلته من النثار، ذهب، فليت هذا كان من أول يوم، وكيف أتوصل الآن إلى يحيى، وأي طريق له إليه.
وتلاعبت بي الأفكار مخافة اليأس، وأظلمت الدنيا في عيني، وقمت أجر رجلي، والخادم يمشي بين يدي، حتى أخرجني من الدار، فازداد إياسي، وما زال يمشي بين يدي حتى أدخلني إلى دار كأن الشمس تطلع من جوانبها، وفيها من صنوف الفرش والأثاث والآلات، ما يكون في مثلها.
فلما توسطتها، رأيت عيالي أجمعين فيها، يرتعون في الديباج والشفوف، وقد حمل إليهم مائة ألف درهم، وعشرة آلاف دينار، والصينية والنثار، وسلم إلي الخادم، صك ضيعتين جليلتين.
وقال: هذه الدار، وما فيها، والضياع بغلاتها، لك.
فأقمت مع البرامكة في أخفض عيش، وأجل حال، حتى نزلت بهم النازلة.
ثم قصدني عمرو بن مسعدة في الضيعتين، فألزمني في خراجهما، ما لا يفي به دخلهما.
فلحقتني شدة عظيمة، فكلما لحقتني نائبة واشتدت بي بلية، قصدت دورهم ومنازلهم، فبكيتهم، ورثيتهم، وشكرتهم، ودعوت لهم، على ما كان منهم إلي، وشكوت ما حل بي بعدهم، فأجد لذلك راحة.

قال: فاستدعى المأمون عمرو بن مسعدة، فلما أتي به، قال له: أتعرف هذا الرجل ؟.
قال: يا أمير المؤمنين، هو بعض صنائع البرامكة.
فأمره ان يرد على الرجل، كلما استخرج منه، وأن يقرر خراجه على ما كان عليه أيام البرامكة وأن يجعل له ضيعة أخرى من جملة الإيغارات يكون دخلها له ويتخذ به سجلاً وأن يقضي حقه ويكرمه، فبكى الشيخ بكاءً شديداً.
فقال له المأمون: ألم أستأنف إليك جميلاً فما بكاؤك ؟.
فقال: بلى والله يا أمير المؤمنين، وزدت على كل فضل وإحسان، ولكن هذا من بركة الله، وبركة البرامكة علي، وبقية إحسانهم إلي، فلو لم آت خراباتهم، فأبكيهم، وأندبهم، حتى اتصل خبري بأمير المؤمنين، ففعل بي ما فعل، من أين كنت أصل إلى أمير المؤمنين.
فقال له المأمون: إمض مصاحباً، فإن الوفاء مبارك، وحسن العهد من الايمان.

البرامكة

جاء في الفخري 197: إن دولة آل برمك، كانت غرة في جبهة الدهر، وتاجاً على مفرق العصر، فان يحيى وبنوه، كالنجوم زاهرة، والبحار زاخرة، والسيول دافقة، والغيوث ماطرة، أسواق الأدب عندهم نافقة، ومراتب ذوي الحرمات عندهم عالية، والدنيا في أيامهم عامرة، وأبهة المملكة ظاهرة، وهم ملجأ الضعيف، ومعتصم الطريد، وفيهم يقول أبو نؤاس:
سلامٌ على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمكٍ من رائحين وغاد
وقال الجاحظ: البرامكة محض الأنام، ولباب الكرام، وملح الأيام، عتق منظر، وجودة مخبر، وجزالة منطق، وسهولة لفظ، ونزاهة نفس، واكتمال خصال، العقد الفريد 5 - 28، وقال عنهم أيضاً: إن أيامهم كانت رياض الأزمنة وفيات الأعيان 3 - 474.
وقال محمد بن جميل الكاتب: كان البرامكة شفاء سقام دهرهم، وغياث جدب عصرهم، وما زالوا كهفاً للاجئين، ومفزعاً للملهوفين قطب السرور 63.
وقال القاضي التنوخي، في امتداح مجلس من مجالس الوزير المهلبي: كأنه من مجالس البرامكة نشوار المحاضرة القصة رقم 1 - 28.
وقال سليمان بن وهب، لشخص أحسن إليه: إنك قد فعلت ما لم تفعله البرامكة القصة 165 من هذا الكتاب.
وقال صالح، صاحب المصلى: إن الدهر لا يخلف مثل يحيى أبداً القصة 371 من هذا الكتاب.
وقال إسحاق الموصلي، في الفضل بن يحيى البرمكي، سبحان الذي خلق هذا الرجل، وجبله على كرم بذ به من مضى ومن غبر المحاسن والمساوئ 2 - 22.
وحلف إسحاق الموصلي، بالله الذي لا إله إلا هو: ما رأيت أذكى من جعفر بن يحيى قط، ولا أفطن، ولا أعلم بكل شيء، ولا أفصح لساناً، ولا أبلغ في المكاتبة الأغاني 4 - 325.
وقال ثمامة بن أشرس: ما رأيت رجلاً أبلغ من جعفر بن يحيى البرمكي والمأمون تاريخ الخلفاء 326.
وقال إبراهيم بن المهدي: ما رأيت أكمل من جعفر قط الأوراق للصولي، أشعار أولاد الخلفاء 34.
وأبو حيان التوحيدي، الذي كان كثير الغرام، بثلب الكرام معجم الأدباء 2 - 282 إذ لم يترك أحداً من رؤساء زمانه، إلا وشتمه، أثنى على البرامكة في كتابه أخلاق الوزيرين، فذكر أن معروفهم كان يسع الصغير والكبير، ويعم الغني والفقير أخلاق الوزيرين 489، ونقل في كتابه كذلك ما أورده محمد بن داود الجراح، في كتابه أخبار الوزراء، في الثناء عليهم، فقال: كان آل برمك أندى من السحاب أخلاق الوزيرين 380.
وفي محاضرات الأدباء 3 - 198: إن امرأة بجعفر بن يحيى، وقد صلب، فقالت: لئن صرت اليوم راية، لقد كنت بالأمس غاية.
وفي تحفة المجالس 179: إن البرامكة كانوا يقصدون من آفاق الأرض، وقال أعرابي قصدهم من اليمن: قصدت هؤلاء الأمجاد، الذين انتشر صيتهم في البلاد.
وكان للبرامكة من السخاء والكرم، ما لم يكن لأحد من الناس، وكانوا يخرجون بالليل سراً، ومعهم الأموال يتصدقون بها، وربما دقوا على الناس أبوابهم، فيدفعون إليهم الصرة، بين الثلاثة آلاف إلى الخمسة آلاف، أو الأكثر من ذلك، والأقل، وربما طرحوا ما معهم في عتب الأبواب، فكان الناس - لاعتيادهم ذلك - يعدون إلى العتب، إذا أصبحوا، يطلبون ما القي فيها المحاسن والمساوئ 1 - 150.
وقال فيهم الشاعر: وفيات الأعيان 4 - 35.
عند الملوك مضرّة ومنافع ... وأرى البرامك لا تضرّ وتنفع
إن كان شرّ كان غيرهم له ... والخير منسوب إليهم أجمع
وقال أبو نؤاس: وفيات الأعيان 5 - 59

إنّ البرامكة الكرام تعلّموا ... فعل الجميل فعلّموه الناسا
كانوا إذا غرسوا سقوا وإذا بنوا ... لم يهدموا مما بنوه أساسا
وإذا هم صنعوا الصنائع في الورى ... جعلوا لها طول البقاء لباسا
وقال أشجع السلمي، يذكر أيامهم: وفيات الأعيان 1 - 336
كأنّ أيّامهم من حسن بهجتها ... مواسم الحجّ والأعياد والجمع
وأصبح جود البرامكة، على تمادي الأيام، مضرب المثل، قال الجماز: جاءنا فلان، بمائدة، كأنها زمن البرامكة على العفاة زهر الأداب 2 - 3 والملح والنوادر 236.
والبغداديون، إلى وقتنا هذا، يذكرون البرامكة، ويصفون الرجل الكريم النفس، السخي اليد، بأنه: برمكي.
وعمت شهرة البرامكة بالجود، جميع أنحاء الدنيا، بحيث أن المقري في نفح الطيب 3 - 109 أمتدح أحد أمراء الموحدين بالأندلس، فوصفه بأن له حكايات في الجود برمكية.
وقد أنكر صاعد، وزير الموفق، ما يذكر عن البرامكة، وقال: هذه أقاصيص من صنع الوراقين، فقال له أبو العيناء: لم لا يكذب على الوزير - أعزه الله - مثل هذا الكذب، وهو حي، يرجى ويخاف، وأولئك موتى، مأيوس من خيرهم وشرهم، القصة 1 - 1 من نشوار المحاضرة.
وبالنظر لعدم وجود سبب واضح عن نكبتهم، فقد خبط المؤرخون خبطاً في الاستنتاج، وذكر كل واحد منهم سبباً، أو أكثر من سبب، فادعى بعضهم أن السبب سياسي، وأنهم أرادوا قلب الدولة، وقال بعضهم: أن ثمة سبباً يتعلق بزواج جعفر، زواجاً لم يرضه الخليفة، وهذا كله لا أصل له، فإن البرامكة، لو أرادوا قلب الدولة، لحاولوا ذلك عندما كانت خراسان في قبضتهم، وأما قضية الزواج، فهي أقصوصة لا تعلق بقبول، ولا تدخل في معقول، والذي يظهر للمتأمل، أن استئثار البرامكة بالحكم، وانقياد الناس لهم، ولهجتهم بالثناء عليهم، والتعلق بهم، أثار غيرة الرشيد، وأشعل نار هواجسه، وصادف وجود دساسين، من رجال الحاشية، ممن يرغب في انتقال السلطة من البرامكة إليهم، مثل الفضل بن الربيع، وعلي بن عيسى بن ماهان، وأحمد بن صبيح، فتظافروا، وأغروا الرشيد بهم، فوجدوا منه أذناً سامعة، وكانت الخيزران، أم الرشيد، حامية البرامكة، قد توفيت في السنة 173، فلم يكد الرشيد يودعها قبرها، حتى دعى الفضل ابن الربيع، وأمره بأخذ الخاتم من جعفر، وحلف له إنه كان يهم بأن يوليه، فتمنعه أمه، فيطيع أمرها الطبري 8 - 238.
ولعل أصح ما ورد في هذا الباب، ما ذكره ابن خلكان في كتاب وفيات الأعيان 1 - 335، قال: سئل سعيد بن سالم عن جناية البرامكة الموجبة لغضب الرشيد، فقال: والله، ما كان منهم ما يوجب بعض ما عمل الرشيد بهم، ولكن طالت أيامهم، وكل طويل مملول، ووالله، لقد استطال الناس، الذين هم خير الناس، أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما رأوا مثلها عدلاً، وأمناً، وسعة أموال، وفتوح، وأيام عثمان رضي الله عنه، حتى قتلوهما، ورأى الرشيد - مع ذلك - أنس النعمة بهم، وكثرة حمد الناس لهم، ورميهم بآمالهم دونه، والملوك تتنافس بأقل من هذا، فتعنت عليهم، وتجنى، وطلب مساويهم، ووقع منهم بعض الإدلال، خاصة جعفر والفضل، دون يحيى، فإنه كان أحكم خبرة، وأكثر ممارسة للأمور، ولاذ من إعدائهم قوم بالرشيد، كالفضل بن الربيع، وغيره، فستروا المحاسن، وأظهروا القبائح، حتى كان ما كان.
ويؤيد هذا الرأي، ما روي عن هرون الرشيد أنه قال: إن الدالة تفسد الحرمة، وتنقص الذمة، ومنها أتي البرامكة كتاب الآداب لمجد الملك جعفر بن شمس الخلافة ص20.

وقد ذهب المؤرخ ابن خلدون، إلى هذا الرأي، قال: إنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة، واحتجانهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره، وشاركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه، فعظمت آثارهم، وبعد صيتهم، وعمروا مراتب الدولة وخططها، بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم، واحتازوها عمن سواهم، من وزارة، وكتابة، وقيادة، وحجابة، وسيف، وقلم، ويقال إنه كان بدار الرشيد، من ولد يحيى بن خالد، خمسة وعشرون رئيساً، من بين صاحب سيف وصاحب قلم، زاحموا فيها أهل الدولة بالمناكب، ودفعوهم عنها بالراح، لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون، ولي عهد، وخليفة، حتى شب في حجره، ودرج من عشه، وغلب على أمره، وكان يدعوه: يا أبت، فتوجه الإيثار من السلطان إليهم، وعظمت الدالة منهم، وانبسط الجاه عندهم، وانصرفت نحوهم الوجوه، وخضعت لهم الرقاب، وتخطت إليهم من أقصى التخوم، هدايا الملوك، وتحف الأمراء، وسيرت إلى خزائنهم، في سبيل التزلف والإستمالة، أموال الجباية، وأفاضوا في رجال الشيعة يريد شيعة بني العباس وعظماء القرابة، العطاء، وطوقوهم المنن، وكسبوا من بيوتات الأشراف، المعدم، وفكوا العاني، ومدحوا بما لم يمدح به خليفتهم، وأسنوا لعفاتهم الجوائز والصلات، واستولوا على القرى والضياع، حتى آسفوا البطانة، وأحقدوا الخاصة، وأغصوا أهل الولاية تاريخ ابن خلدون 1 - 13 و14.
وذكر صاحب الأغاني 18 - 303: أن الرشيد ندم على قتله البرامكة، وربما بكى عليهم في بعض المجالس.
وذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان 6 - 228 و229 نقلاً عن الجهشياري: أن الرشيد ندم على ما كان منه في أمر البرامكة، وتحسر على ما فرط منه في أمرهم، وخاطب جماعة من إخوانه، بأنه لو وثق منهم بصفاء النية، لأعادهم إلى حالهم، وكان الرشيد كثيراً ما يقول: حملونا على نصحائنا وكفاتنا، وأوهمونا أنهم يقومون مقامهم، فلما صرنا إلى ما أرادوا، لم يغنوا عنا، وأنشد:
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللّوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا
راجع بعض أخبار البرامكة في المحاسن والمساوئ 1 - 140 و141 و151 - 162 وراجع في العقد الفريد 5 - 62 - 65 الحوار الذي جرى بين هارون الرشيد وبين فاطمة بنت محمد بن الحسن بن قحطبة، أم جعفر البرمكي. وهي أم الرشيد بالرضاعة، وراجع بشأن الثناء على البرامكة، القصة 1 - 2 و1 - 3 من كتاب نشوار المحاضرة للتنوخي، وراجع كذلك في كتاب الأوراق للصولي أشعار أولاد الخلفاء ص47 الحوار الذي جرى بين الرشيد وبين أخته علية حول مقتل جعفر البرمكي، وراجع في كتاب جواهر الأدب من خزائن العرب ص418 قصة عن الفضل وجعفر، رواها محمد بن عبد الرحمن الهاشمي، صاحب صلاة الكوفة، وراجع الطبري 8 - 300 - 302 والأغاني ط بولاق 20 - 31.

هل جزاء الإحسان إلا الإحسان

بلغني أنه كان بالكوفة رجل من أهل الأدب والظرف، يعاشر الناس، وتأتيه ألطافهم، فيعيش بها.
ثم انقلب الدهر عليه، فأمسك الناس عنه، وجفوه حتى قعد في بيته، والتجأ إلى عياله، فشاركهن في فضل مغازلهن، واستمر ذلك عليه، حتى نسيه الناس، ولزمه الفقر.
قال: فبينما أنا ذات ليلة في منزلي، على أسوء حال، إذا وقع حافر دابة، ورجل يدق بابي، فكلمته من وراء الباب.
فقلت: ما حاجتك ؟.
فقال: إن أخاً لك لا أسميه، يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إني رجل مستتر، ولست آنس بكل أحد، فإن رأيت أن تصير إلي، لنتحدث ليلتنا.
فقلت في نفسي: لعل جدي أن يكون قد تحرك ؟ ثم لم أجد لي ما ألبسه، فاشتملت بأزار امرأتي، وخرجت، فقدم إلي فرساً مجنوباً كان معه، فركبته.
إلى أن أدخلني إلى فتى من أجل الناس وأجملهم وجهاً، فقام إلي، وعانقني، ودعا بطعام فأكلنا، وبشراب فشربنا، وأخذنا في الحديث، فما خضت في شيء إلا سبقني إليه.
حتى إذا صار وقت السحر، قال: إن رأيت أن لا تسألني عن شيء من أمري، وتجعل هذه الزيارة بيني وبينك، إذا أرسلت إليك فعلت، وها هنا دراهم تقبلها، ولا تردها، ولا يضيق بعدها عنك شيء، فنهضت، فأخرج إلي جراباً مملوءاً دراهم.
فدخلتني أريحية الشراب، فقلت: اخترتني على الناس للمنادمة، ولسرك، وآخذ على ذلك أجراً ؟ لا حاجة لي في المال.

فجهد بي، فلم آخذه، وقدم إلي الفرس، فركبته، وعدت إلى منزلي، وعيالي متطلعون لما أجيء به، فأخبرتهم بخبري.
وأصبحت نادماً على فعلي، وقد ورد علي وعلى عيالي، ما لم يكن في حسابنا.
فمكثت حيناً، لا يأتي إلي رسول الرجل، إلى أن جاءني بعد مدة، فصرت إليه، فعاودني بمثل ذلك الفعل، فعاودته بالامتناع، وانصرفت مخفقاً، فأقبلت امرأتي علي باللوم والتوبيخ.
فقلت لها: أنت طالق ثلاثاً إن عاودني ولم آخذ ما يعطيني.
فمكثت مدة أطول من الاولة، ثم جاءني رسوله، فلما أردت الركوب، قالت لي امرأتي: يا ميشوم اذكر يمينك، وبكاء بناتك، وسوء حالك.
فصرت إلى الرجل، فلما أفضينا إلى الشراب، قلت له: إني أجد علة تمنعني منه، وإنما أردت أن يكون رأيي معي.
فأقبل الرجل يشرب، وأنا أحادثه، إلى أن انبلج الفجر، فأخرج الجراب، وعاودني، فأخذته، فقبل رأسي، وشكرني على قبول بره، وقدم إلي الفرس، فانصرفت عليه، حتى انتهيت إلى منزلي، فألقيت الجراب.
فلما رآه عيالي، سجدن لله شكراً، وفتحناه، فإذا هو مملوء دنانير.
فأصلحت منه حالي، واشتريت مركوباً، وثياباً حسنة، وأثاثاً، وضيعة قدرت أن غلتها تفي بي، وبعيالي بعدي، واستظهرت على زماني ببقية الدنانير.
وانثال الناس علي، يظهرون السرور بما تجدد لي، وظنوا أني كنت غائباً في انتجاع ملك، فقدمت مثرياً، وانقطع رسل الرجل عني.
فبينما أنا أسير يوماً بالقرب من منزلي، فإذا ضوضاء عظيمة، وجماعة مجتمعة.
فقلت: ما هذا ؟.
قالوا: رجل من بني فلان، كان يقطع الطريق، فطلبه السلطان، إلى أن عرف خبره ها هنا، فهجم عليه، وقد خرج على الناس بالسيف، يمنع نفسه.
فقربت من الجمع، وتأملت الرجل، فإذا هو صاحبي بعينه، وهو يقاتل العامة، والشرط، ويكشف الناس، فيبعدون عنه، ثم يتكاثرون عليه ويضايقونه.
فنزلت عن فرسي، وأقبلت أقوده، حتى دنوت منه، وقد انكشف الناس عنه.
فقلت: بأبي أنت وأمي، شأنك والفرس، والنجاة، فاستوى على ظهره، فلم يلحق.
فقبض علي الشرط، وأقبلوا علي، يلهزوني، ويشتموني، حتى جاءوا بي إلى عيسى بن موسى، وهو والي الكوفة، وكان بي عارفاً.
فقالوا: أيها الأمير، كدنا أن نأخذ الرجل، فجاء هذا، فأعطاه فرساً نجا عليه.
فاشتد غضب عيسى بن موسى، وكاد أن يوقع بي، وأنا منكر لذلك.
فلما رأيت المصدوقة، قلت: أيها الأمير، أدنني إليك، أصدقك.
فاستدناني، فشرحت له ما كان أفضت بي الحال إليه، وما عاملني به الرجل، وأني كافأته بجميل فعله.
فقال لي سراً: أحسنت، لا بأس عليك.
ثم التفت إلى الناس فقال: يا حمقى، هذا يتهم ؟ إنما لفظ حافر فرسه حصاة، فقاده ليريحه، فغشيه رجل مستقتل، بسيف ماض، قد نكلتم عنه بأجمعكم، فكيف كان هو يدفعه عن فرسه ؟ انصرفوا، ثم خلى سبيلي.
فانصرفت إلى منزلي، وقد قضيت ذمام الفتى، وحصلت النعمة بعد الشدة، وأمنت عواقب الحال، وكان آخر عهدي به.

جعفر بن سليمان أمير البصرة يصفح عمن سرق منه جوهرا

ً
سرق لجعفر بن سليمان الهاشمي جوهر فاخر بالبصرة، وهو أميرها، فجهد أن يعرف له خبراً، فخفي عليه، فأقلقه ذلك، وغاظه، وجد بالشرط وضربهم، وألزمهم إظهاره، فجدوا في الطلب.
فلما كان بعد شهور، أتاه بعضهم برجل وجده في ساباط اللؤلؤ، يبيع درة فاخرة من ذلك الجوهر، قد قبض عليه، وضربه ضرباً عظيماً إلى أن أقر، فأخبر جعفر بخبره، فأذن بدخوله.
فلما رأى الرجل جعفراً، استغاث به، وبكى، ورققه، فرحمه جعفر، وقال: ألم تكن طلبت مني هذه الدرة في وقت كذا، فوهبتها لك ؟.
فقال: بلى.
فقال للشرط: خلوا عنه، واطلبوا اللص.
أخذ الصينية من لا يردها ورآه من لا ينم عليهوروت الفرس قريباً من هذا، فذكروا أن بعض ملوكهم، سخط على حاجب له سخطاً شديداً، وألزمه بيته، وكان فيه كالمحبوس، وقطع عنه أرزاقه وجراياته، فأقام على ذلك سنين، حتى تهتك، ولم تبق له حال.
ثم بلغه أن الملك قد أتخذ سماطاً عظيماً، يحضره الناس في غد يومه ذلك، فراسل أصدقاءه، وأعلمهم أن له حقاً يحضره لبعض ولده، واستعار منهم دابة بسرجه ولجامه، وغلاماً يسعى بين يديه، وخلعة يلبسها، وسيفاً، ومنطقة، فأعير ذلك، فلبسه، وركب الدابة، وخرج من منزله، إلى أن جاء إلى دار الملك.

فلما رآه البوابون لم يشكوا في أنه ما أقدم على ذلك إلا بأمر الملك، وتذمموا لقديم رئاسته عليهم، فأشفقوا من عودها أن يحجبوه إلى أن يستثبتوا.
ودخل هو مظهراً القوة بأمر نفسه، ولم تزل تلك حاله، مع طائفة، حتى وصل إلى الملك، وقد أكل، وهو جالس يشرف.
فلما رآه الملك قطب، وأنكر حضوره، وهم بأن يأمر به، وبالحجاب، والبوابين، فكره أن ينغص يوماً قد أفرده بالسرور على نفسه.
وأقبل الرجل يخدم، فيما كان يخدم فيه قديماً، فازدادت الحال تمويهاً على الحجاب والحاشية، إلى أن كاد المجلس ينصرم، وغفل أكثر من كان حاضراً عنه.
فتقدم إلى صينية ذهب زنتها ألف مثقال، مملؤة مسكاً، فأخذها بخفة، وجعل المسك في كمه، والصينية في خفه، والملك يراه.
وخرج، وعاد إلى منزله، ورد العواري إلى أهلها، وباع المسك، وكسر الصينية، وجعلها دنانير، واتسع بها حاله.
وأفاق الملك - من غد - من سكره، وسمع من يخدم في الشراب يطلب الصينية، وقهرمان الدار يضرب قوماً في طلبها، فذكر حديث الحاجب، وعلم أنه ما حمل نفسه على الغرر الشديد في ذلك، إلا من وراء شدة وضر.
فقال لقهرمانه: لا تطلب الصينية، فما لأحد في ضياعها ذنب، فقد أخذها من لا يردها، ورآه من لا ينم عليه.
فلما كان بعد سنة، عاد ذلك الحاجب، إلى شدة الإضاقة، بنفاد الدنانير، وبلغه خبر سماط يكون عند الملك، في غد يومه، فاحتال بحيلة أخرى، حتى دخل إلى حضرة الملك، وهو يشرب.
فلما رآه الملك، قال: يا فلان، نفذت تلك الدنانير ؟.
فقبل الأرض بين يديه، وبكى، ومرغ خديه، وقال: أيها الملك، قد احتلت مرتين، على أن تقتلني فأستريح مما أنا فيه، من عظم الضر الذي أعانيه، أو تعفو عني كما يليق بك، وتذكر خدمتي، فأعيش في ظلك، وليست لي بعد هذا اليوم حيلة.
فرق له الملك، وعفا عنه، وأمر برد أرزاقه عليه ونعمته، ورده إلى حالته الأولى في خدمته.

سفتجة بثلاث صفعات يفتديها المحال عليه بخمسمائة وخمسين دينارا

ً
بلغني عن رجل من أهل ديار ربيعة، كانت له حال صالحة، فزالت، قال: فلزمتني المحنة والإضاقة، مدة طويلة، فتحيرت، ولم أدر ما أعمل.
وكان أمير الناحية إذ ذاك، العباس بن عمرو الغنوي، وكانت بيني وبين كاتبه معرفة قديمة، فأشير علي بأن ألقاه، وآخذ كتاباً عن العباس إلى بعض أصدقائه من أمراء النواحي وأخرج إليه، فلعلى أتصرف معه، وأعود من جهته بفائدة أجعلها أصل معيشة.
فلقيت الكاتب، فقال لي: صر في غد إلى دار الأمير، حتى أكتب لك.
فمضيت إليه، فكتب لي عنه كتاباً مؤكداً إلى بعض أمراء الأطراف من أصدقاء العباس، فخرجت أريد منزلي.
فلما صرت في بعض الممرات وأنا رجل طويل مبدن، وكنت قد حلقت رأسي، وعليه منديل خفيف، قد أطارته الريح، فانكشف، ولعلة انشغال قلبي بأمري لم أرد المنديل.
وإذا بصفعة قد جاءت، كادت تكبني على وجهي، وتوالت بعدها اثنتان. فالتفت، فإذا العباس بن عمرو، وقد خرج إلى موضع من مواضع الدار، وكان مشتهراً بالمصافعة، مكاشفاً بها، هو، وجماعة من قواد المعتضد، أصدقاء، أخلاء، يستعملون ذلك، ويكاشفون به.
فقبضت على يده، وقلت: ما هذا أيها الأمير ؟ ما أفارقك، أو تعطيني شيئاً أنتفع به عوضاً عن هذا الفعل.
فدافعني، وأنا متشبث به، وسقط الكتاب من كمي، فقال: ما هذا الكتاب.
قلت: كتاب، كتب لي عنك إلى فلان، لأخرج إليه، فلعلي أتصرف معه، أو يبرني بشيء.
فقال: هوذا، أكتب لك عليه سفتجة بالصفع، فإنه يفتديها منك بما تنتفع به.
واستدعى دواة، وكتب لي إلى الرجل سفتجة، كما يكتب التجار، بثلاث مكتوبات، كناية عن ثلاث صفعات.
فأخذت الكتاب، وانصرفت متعجباً مما جرى علي، ومن حرفتي في أن العباس لم يسمح لي بشيء، مع جوده، وتحملت، وخرجت إلى ذلك البلد، فأوصلت الكتاب الذي كتبه لي الكاتب عنه.
فردني ذلك الأمير أقبح رد، وآيسني، وقال: قد بلينا بهؤلاء الشحاذين، يجيئونا في كل يوم بكتب لا تساوي مدادها، ويقطعونا عن أشغالنا، انصرف، فمالك عندي تصرف، ولا بر.
فورد علي ما لم أر مثله، وما هالني وقطع بي، وكنت قد سافرت إليه، وقطعت شقة بعيدة، فانصرفت أسوء الناس حالاً.
وفكرت ليلتي، فقلت: ليس إلا العود إليه، ومداراته، فلعل أن يعطيني قدر نفقة الطريق، فأتحمل بها.

فعدت إليه، وخاطبته بكل رفق وخضوع وسؤال وهو يخشن علي، ويؤيسني، إلى أن قال لحاجبه: أخرجه عني، ولا تدعه بعدها يدخل إلي.
فورد علي أعظم من الأول، وخرجت أخزى خروج، وأقمت أياماً لا أعود إليه، ولا أدري ما أصنع، إلا أن بقالاً في المحلة التي نزلتها يعطيني خبزاً وإداماً بنسيئة.
فجلست إليه يوماً وأنا متحير، والغم بين علي، فسمعت قائلاً يقول: إن الأمير قد جلس للمظالم، جلوساً ارتفع عنه الحجاب فيه، ففكرت كيف أعمل ؟.
وذكرت الكتاب بالسفتجة، فقلت: أمشي وأجعلها نادرة كالظلامة، فإن أعطاني شيئاً، وإلا فضحته بين رعيته، وانصرفت.
فأخذت السفتجة، وجئت، فلم أصادف بالباب من يمنعني، فدخلت إليه.
فحين رآني اغتاظ علي، وقال لحاجبه: ألم آمرك أن لا تدخل هذا إلي.
فقال: كان الإذن عاماً، ولم يميز.
فأقبل الأمير علي، فقال: ألم أقل لك، وأؤيسك مني ؟ فما هذه الملازمة، كأن لك علي ديناً أو سفتجة ؟.
فقلت: نعم، لي على الأمير - أعزه الله - سفتجة.
فازداد غيظه، وقال كالمتعجب: سفتجة، سفتجة ؟.
فأخرجتها، فدفعتها إليه، فلما قرأها عرف الخط والخطاب، فنكس رأسه ساعة، خجلاً، ثم قال لكاتب كان بين يديه، شيئاً لا أعلمه.
فجذبني الكاتب، وقال: إن الأمير قد تذمم مما عاملك به، وأمرني بدفع مائة دينار إليك، فقم معي لتأخذها.
فقلت: ما قصدت الأمير ليبرني، أنا رجل أوصلت إليه سفتجة بمال، فإما قبلها فأعطانيه، فما أريد غيره، ولا أستزيد عليه، ولا أنقص منه شيئاً، وإما كتب لي على السفتجة: راجعة، فأخذتها، وانصرفت.
فساره الكاتب بما قلت، وقوي طمعي في الصنع، فالتفت إلي الكاتب، وقال: قد جعلها لك الأمير مائتي دينار، فانهض لتأخذها.
فقلت، لمن يقول هذا: ما عندي غير ما سمعت، ولان الأمير، وتشددت، ولم يزل الكاتب يتوسط بيننا، إلى أن بذل خمسمائة دينار.
فقلت: على شرط أني لا أبرح من هذا المجلس حتى أقبضها وأسلمها إلى يد تاجر، وآخذ منه سفتجة بها، ويدفع إلي نفقة تكفيني إلى أن أعرف صحة السفتجة، ثم أتحمل بباقي ذلك.
فأجبت إلى ذلك، وأحضر التاجر، والمال، وأخذت منه سفتجة، ودفعوا لي خمسين ديناراً للنفقة، وأقمت مدة، إلى أن عرفت خبر صحة السفتجة، وتحملت ببقية النفقة إلى بلدي.
وحصل لي المال، فجعلته بضاعة في متجر، صلحت به حالي، إلى الآن.

المصافعة

الصفع: ضرب القفا بالكف مبسوطة، والمصافعة: تبادل الصفعات، والصفعان: الذي يصفع كثيراً.
والأصل في الصفع أن يكون للعقوبة والتأديب. كأن يأمر القاضي بصفع من أخل بالحرمة الواجبة نحو مجلس الحكم القصص 2 - 10 و6 - 178 من نشوار المحاضرة للتنخي.
وقد يصفع المتشدق المتقعر في كلامه الامتاع والمؤانسة 2 - 52.
وقد أمر الوزير علي بن عيسى بصفع رجل ادعى النبوة صلة الطبري 26.
وصفع بعض العامة في البصرة، القاضي أبا خليفة وصحبه، لما حسبوهم يقرأون القرآن بلغة الدجاج مروج الذهب 2 - 501.
وصفع أبو محمد المافروخي الفأفاء، عامل البصرة، ابن أحد خلفائه، لما فأفأ له، حاسباً أنه يحاكيه نشوار المحاضرة، رقم القصة 4 - 14.
وقد يجري الصفع لإجبار المكلف على أداء الضريبة المتحققة عليه القصة 184 من هذا الكتاب أو لإجبار العامل المصروف على سداد ما بذمته من الأموال الأميرية القصة 8 - 21 من كتاب نشوار المحاضرة أو لإجبار من صودر على أداء ما صودر عليه القصة 1 - 35 و3 - 122 من كتاب نشوار المحاضرة، والكامل لابن الأثير 8 - 142، وتجارب الأمم 1 - 110 وصلة الطبري 39، أو لاستخراج الودائع تجارب الأمم 1 - 65 أو لتقرير مبلغ المصادرة تجارب الأمم 1 - 65 أو لإجبار المصفوع على ترك عناده القصة 261 من هذا الكتاب، والقصة 3 - 54 من نشوار المحاضرة.
وقد يرد الصفع عقاباً للمدعي الذي عجز عن القيام بما ادعى، كما حصل لابن المغازلي الذي شرط على نفسه إن لم يضحك المعتضد، أن يصفع عشر صفعات، وعجز عن إضحاكه مروج الذهب 2 - 510 و511.
ولما أراد المكتفي الخروج لقتال القرامطة، منعه المنجم أبو الحسن العاصمي، بحجة أن طالعه يدل على أن خروجه هذا، يؤدي إلى زوال دولته، وخرج المكتفي، واستأصل القرامطة، وعاد مظفراً سالماً، فأمر بالعاصمي فأحضر، وصفع صفعاً عظيماً الفلاكة والمفلوكون 37.

وقد يحصل الصفع للإهانة والايذاء، فقد ذكر أن المتوكل غضب على عمر بن فرج الرخجي، أحد كبار العمال في الدولة، فأمر بأن يصفع في كل يوم، فأحصي ما صفع، فكان ستة آلاف صفعة مروج الذهب 2 - 403، وغضب المتوكل على ولده المنتصر، ولي عهده، فأمر بأن يصفع في مجلسه تجارب الأمم 6 - 555 والكامل لابن الأثير 7 - 97، ولزيادة التفصيل راجع تاريخ الطبري 9 - 175، وصلة تاريخ الطبري ص52 و58 و86 والتكملة 37 و41، وتجارب الأمم 1 - 103 والقصة 1 - 119 و4 - 7 من كتاب نشوار المحاضرة للتنوخي، والقصة 250 و304 من هذا الكتاب، والمستطرف من أخبار الجواري للسيوطي 29 والوزراء للصابي 46 و264 ووفيات الأعيان 4 - 159 و6 - 58 وحكاية أبي القاسم البغدادي 138 ومرآة الجنان لليافعي 4 - 18.
وقد يقع الصفع على المقامر إذا قمر، كما وقع لأمير البصرة إسحاق بن العباس بن محمد العباسي، لما قمر، فتحقق عليه حسب الشرط أن يصفع عشر صفعات، فأحالها هذا على صاحب شرطته، وطلب هذا أن يكون الصفع، صفع المداعبة والإخوان، لا صفع العقوبة والسلطان الهفوات النادرة 231.
وأغرب ما أثر عن الصفع، وروده لإيقاع الحجة على الخصم في المناظرة معجم الأدباء 5 - 237.
والذي يتضح من هذه القصة، ومن غيرها من القصص، أن المصافعة، كان لها من يستحسنها، ويستطيبها، ويتملح بذكر فوائدها البصائر والذخائر 4 - 180، وكان لها سوق رائجة.
وكان العباس بن عمرو الغنوي، وهو أحد كبار القواد والولاة العباسيين، من المستهترين بالمصافعة، المكاشفين بها، هو وجماعة من قواد المعتضد، أصدقاء، أخلاء، يستعملون ذلك، ويكاشفون به، وأن المصافعة تجري بينهم للمطايبة، القصة 116 من هذا الكتاب، والقصة 8 - 119 من نشوار المحاضرة وأنها تقع على سبيل المباسطة القصة 1 - 51 و166 من نشوار المحاضرة، ومعجم دوزي لأسماء الألبسة 271.
وكان زيادة الله بن الأغلب، أمير أفريقية 172 - 223 قد اتخذ ندامى يتصافعون في حضوره فوات الوفيات 2 - 34 و35.
وكان القاضي محمد بن الخصيب، قاضي مصر ت 348، وهو ممدوح المتنبي، ممن يمازح في المصافعة أخبار القضاة للكندي 579 و580.
وكان للصفاعنة أرزاق في الدولة، ولما وزر أبو الحسن علي بن عيسى في السنة 314 كان من جملة ما صنعه أن أسقط أرزاق الصفاعنة الكامل لابن الأثير 8 - 165.
وسئل القاضي ابن قريعة، عن حد القفا، فقال للسائل: هو ما اشتمل عليه جربانك، وشرطك فيه حجامك، وداعبك فيه إخوانك، وباسطك فيه غلمانك، وأدبك فيه سلطانك اليتيمة 2 - 238 وتاريخ بغداد للخطيب 2 - 320.
وداعب ابن المرزبان، أبا العيناء، فقال له: لم لبست جباعة ؟ فقال: وما الجباعة ؟ قال: التي بين الجبة والدراعة، فقال: ولم أنت صفديم ؟ قال: وما صفديم ؟ قال: الذي هو بين الصفعان والنديم الملح للحصري 183.
وكان حذاء ماجن بباب الطاق اسمها الآن الصرافية يسمي النعال، بأسماء من جنس الصفعة، فنعل راسكية، ونعل صعلكية، ونعل قفوية القصة 2 - 98 من نشوار المحاضرة.
وأفرد ابن النديم في الفهرست ص157 بحثاً في أخبار الصفادمة والصفاعنة، كما ذكر أن الكتنجي ألف كتاباً سماه: كتاب الصفاعنة الفهرست 170.
والأصل في الصفع أن يحصل، بالكف على القفا، وربما حصل بجراب فارغ أو محشو مروج الذهب 2 - 509 - 511، وقد يحصل بالنعال وفيات الأعيان 4 - 455، أو بقشور القرع اليتيمة 2 - 340، أو بقشور البطيخ الأحمر المسمى في بغداد بالرقي، نسبة إلى الرقة راجع سبب هذه التسمية في حاشية القصة 268 من هذا الكتاب، ولا يوجد الآن ببغداد من يمارس هذا اللون من المباسطة السمجة، وقد أدركت بعض باعة الرقي الأحداث كانوا يتصافعون بقشور الرقي المق فصيحة، والبغداديون يلفظون قافها كافاً فارسية.
وممن أحسن في الإشارة إلى المصافعة، ابن الحلاوي الموصلي ت 656 قال: الوافي بالوفيات 8 - 108
فطبّ طرطبّ فوق راسي ... وطاق طرطاق في قذالي
وقال الشاعر الأندلسي، أبو عبد الله بن الأزرق: نفح الطيب 3 - 229
أفدي صديقاً كان لي ... بنفسه يسعدني
فربّما أصفعه ... وربّما يصفعني
طقطق طق طقطق طق ... أصخ بسمع الأذن
ولأبن الحجاج شعر كثير في المصافعة، أورد بعضه صاحب اليتيمة 3 - 86 - 88، وللأحنف العكبري في المصافعة اليتيمة 3 - 704؛

لقد بتّ بماخور ... على دفّ وطنبور
وصوت الطبل كردم طع ... وصوت الناي طلّير
فصرنا من حمى البيت ... كأنّا وسط تنّور
وصرنا من أذى الصفع ... كمثل العمي والعور
وممن أحسن في وصف الصفع، جمال الدين بن شيث، المتوفي سنة 625 وقد أورد له صاحب فوات الوفيات 2 - 313 أبياتاً، اخترت منها هذين البيتين:
وتخالفت بيض الأكفّ كأنّها ال ... تصفيق عند مجامع الأعراس
وتطابقت سود الخفاف كأنّها ... وقد المطارق في يد النحّاس
ولأبي الرقعمق، أبي حامد أحمد بن محمد الانطاكي، مقطوعات في المصافعة، راجعها في يتيمة الدهر للثعالبي 1 - 334 - 340.
ولزيادة التفصيل، راجع كتاب الغيث المسجم للصفدي 1 - 203 - 205 وكتاب محاضرات الأدباء للراغب الأصبهاني 2 - 699 و700.

السبب في خلع المقتدر الخلع الثاني

وعودته إلى الحكم

ذكر أصحاب التواريخ، ومصنفو الكتب، وأبو الحسن علي بن الفتح الكاتب المعروف بالمطوق، على ما أخبرني به أحمد بن يوسف بن يعقوب التنوخي عنه في كتابه مناقب الوزراء ومحاسن أخبارهم، وما شاهده أحمد بن يوسف من ذلك، وجماعة حدثوني به، ممن شاهد الحال، منهم أيوب بن العباس بن الحسن، وعلي، والقاسم، ابنا هشام بن عبد الله الكاتب، وأبو الحسين بن عياش الخرزي، خليفة أبي رحمه الله على الحكم بسوق الأهواز، ومن لا أحصي من شيوخنا كثرة، بالسبب في خلع المقتدر عن الخلافة، الخلع الثاني، بعبارات مختلفة، معنى جميعها أن الجيش كله، الفرسان، والرجالة، شغبوا يطلبون الزيادات، ويتبسطون في التماس المحالات، وملوا أيام المقتدر وبغوا عليه بأشياء.
واتفق أن سائساً لهارون بن غريب الخال، علق بغلام في الطريق، للفساد، فرفع إلى أبي الجود، خليفة عجيب، غلام نازوك، على مجلس الجسر بالجانب الغربي، فجاء غلمان هارون يخلصونه ومانعوهم، إلى أن لحقه بعض أصحاب نازوك فصارت بينهم حرب، وانتهت الحال إلى قصص يطول شرحها.
إلى أن أطبق الجيش بأسرهم على خلع المقتدر، فزحفوا إلى داره، بمواطأة من مؤنس المظفر، فقبضوا عليه، وحملوه إلى دار مؤنس، في يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرم سنة سبع عشرة وثلاثمائة، فحبس فيها، وخلع نفسه، وأشهد عليه بالخلع.
وكان رأس الفتنة، والقائم بها، عبد الله بن حمدان، أبو الهيجاء، ونازوك المعتضدي، على مساعدة لهما من مؤنس، وإطباق من الجيش كلهم، وجاءوا بأبي منصور محمد بن المعتضد بالله، فأجلسوه في دار الخلافة، وسلموا عليه بها، ولقبوه القاهر بالله، فقلد نازوك الحجبة، مضافاً إلى ما كان إليه من الشرطة، وجعله صاحب داره.
فلما كان في يوم الإثنين لسبع عشرة ليلة خلت منه، بكر الناس إلى دار الخليفة للبيعة، وجاءت إلى فناء الدار، مما يلي دجلة، جماعة من الرجالة، يطالبون بمال البيعة والزيادة.
فجاء نازوك وأشرف عليهم من الرواق، ومعه خادم من رؤوس غلمانه يقال له عجيب، فقال لهم: ما تريدون ؟ نعطيكم ثلاث نوائب. فقالوا: لا، إلا أرزاق سنة، وزيادة دينار، وزادوا في القول.
فقال لهم: يصعد إلي منكم جماعة، أفهم عنهم، وأكلمهم، فصعد إليه جماعة منهم، من باب الخاصة، وتسلق إلى الرواق جماعة منهم كبيرة، وثاروا على غير مواطأة، ولا رأي متقرر.
فقال لهم نازوك: اخرجوا إلى مجلس الإعطاء، حتى نخرج المال إلى الكتاب، فيقبضونكم.
فقالوا: لا نقبض إلا ها هنا، وهجموا على التسعيني، يبوقون، ويشتمون نازوك.
فمضى نازوك من بين أيديهم، يريد الممر في الطريق الذي ينفذ إلى دجلة، وكان قد سد آخره بالأمس، إحتياطاً لحفظ من في الدار، وتحرزاً من هربهم، فلما رآه مسدوداً رجع، فاستقبله جماعة من الرجالة يطلبونه.
فوثب عليه رجل أصفر منهم، فضربه بكلاب، وثناه آخر يكون في مطبخ أم المقتدر، وله رزق في الرجالة، يقال له: سعيد، ويلقب: ضفدعاً، فقتلوه، وقتلوا عجيباً، وقالوا: لا نريد إلا خليفتنا جعفر المقتدر، وقتل الخدم في الدار أبا الهيجاء، واختبأ القاهر في بعض الحجر، عند بعض الخدم.
وأقبلوا برأس نازوك على رمح قد خرج طرفه من وسط الرأس، إلى دار مؤنس، وهم يقولون: مقتدر، يا منصور.

فطالبوا مؤنساً بالمقتدر، فخافهم على نفسه، فأخرجه إليهم، والمقتدر يستعفي من الخروج، ويظهر الزهد في الخلافة، ويظن أن ما سمعه حيلة على قتله.
إلى أن سمع صياح الناس: مقتدر، يا منصور، وأعلم بقتل نازوك وأبي الهيجاء، فسكن.
وقعد في طياره، وانحدر إلى داره، والرجالة يعدون على الشط بأزائه، إلى أن خرج من الطيار، فالتحقوا به يقبلون يديه ورجليه، حتى دخل داره.
وأحضر جماعة من الهاشميين وغيرهم، فبايعوه بيعةً ثانيةً، وظهر ابن مقلة وزيره، وكان مستتراً تلك الأيام، فأقره على الوزارة، ودبر أمره، وزال عنه ما كان فيه من المحنة والنكبة، ولم ير خليفة أزيل عن سريره، وأخرج من دار ملكه، وأجلس آخر في موضعه، ولقب لقباً من ألقاب الخلفاء، وتسمى بأمير المؤمنين، وأجمع على بيعته أهل المملكة والجيش كله، وعلى خلع الأول وحبسه، ثم رجع إلى أمره، ونهيه، وملكه، وداره، في مدة خمسة أيام، بلا سبب ممهد، ولا مواطأة لأحد، ولا مشاورة، ولا مراسلة، إلا ما اتفق في أمر المقتدر، وأخيه القاهر.

خلع الأمين وعودته إلى الحكم

قال مؤلف هذا الكتاب: وعلى أنه قد كان جرى على محمد الأمين قريب من هذا، لما قبض عليه الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، وخلعه، وحبسه، وعزم على أن ينفذه إلى المأمون، ثم أن الجيش طالبوه بأرزاقهم، فلم يكن معه، ما يعجله لهم، فوعدهم، فشغبوا، ولم يرضوا بالوعد، واستخرجوا الأمين من حبسه، فبايعوه ثانياً، وردوه، وهرب الحسين بن علي، وزالت عن الأمين تلك الشدة، والقصة في ذلك مشهورة، رواها أصحاب التواريخ، بما يطول اقتصاصه هنا، إلا أنه لم يجلس على سريره خليفة آخر.
كيف خلع المقتدر الخلع الأولقال القاضي أبو علي المحسن بن القاضي أبي القاسم علي بن محمد التنوخي رحمه الله تعالى: وقد جرت على المقتدر بالله شدة أخرى، وفرج الله عنه، في قصة تشبه قصة الأمين، سواء بسواء، لما أجمع جميع القواد والحاشية، على أن قتلوا العباس بن الحسن، الوزير، وخلعوا المقتدر من الخلافة، الخلع الأول، وبايعوا ابن المعتز، وأحضروه من داره إلى دار سليمان بن وهب، المرسومة - إذ ذاك - بالوزراء، وجلس يأخذ البيعة على القضاة، والأشراف، والكافة، ويدبر الأمور، ووزيره محمد بن داود، ابن الجراح، يكاتب أهل الأطراف، والعمال، والأكناف، بخبر تقلدهما، وقد تلقب بالمنتصر بالله، وخوطب بالخلافة، وأمره في نهاية القوة، وهو على أن يسير إلى دار الخلافة، فيجلس بها، ويقبض على المقتدر، إلا أنه أخر ذلك، لتتكامل البيعة، وتنفذ الكتب، ويسير من غد.
وكان سوسن حاجب المقتدر، والمتولي لأمور داره، والغلمان المرسومين بحمايتها، ممن وافق ابن المعتز، ودخل مع القواد فيما دخلوا فيه، وشرط عليه، أن يقر على ما إليه، ويزاد شرطة بغداد.
فلما جلس ابن المعتز في اليوم الأول، كان المتولي لإيصال الناس إليه، والخادم بحضرته فيما يخدم فيه الحاجب، أحد الخدم غيره.
فبلغ ذلك سوسناً، فشق عليه، وتوهم أن ذلك غدر به، ورجوع عما شرط، وووقف عليه، فدعا الخدم، وغلمان الدار، إلى نصرة المقتدر، فأجابوه، فأغلق الأبواب، وأخذ أهبة الحرب.
وأصبح ابن المعتز، في اليوم الثاني من بيعته، وهو يوم الأحد لسبع بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين، عامداً على المسير إلى الدار، فثبطه محمد بن داود، وعرفه رجوع رأي سوسن، عما كان وافق عليه.
وصغر القواد ذلك في نفسه، فلم يتشاغل بتلافيه، وأشاروا عليه بالركوب إلى دار الخلافة، وهم لا يشكون في تمام الأمر، فركب وهم معه.
وانقلبت العامة مع المقتدر، ورموا ابن المعتز بالستر، وحاربوه مع شرذمة أنفذهم سوسن لحربه ممن أطاعه على نصرة المقتدر.
ولما شاهد ابن المعتز الصورة، انهزم، وهرب، وانحل ذلك الأمر العظيم كله، وتفرق القواد، وسار بعضهم خارجاً عن بغداد، وروسل باقيهم عن المقتدر، بالتلافي، فسكنوا، وعادوا إلى طاعته.
وطلب ابن المعتز، فوجد، وجيء به إلى دار الخلافة، فحبس فيها، ثم قتل، وكانت مدته منذ ظهر يوم السبت، إلى قريب من الظهر من يوم الأحد.
وعاد الأمر مستقيماً للمقتدر بالله، وانفرجت له تلك الشدة، عن ثبات الملك له.
وقد شرح هذا أصحاب التواريخ، بما لا وجه لإعادته ها هنا.
بعث الفضل بن سهل خدابود لقتال خارجي فجاء برأسه

وذكر عبد الله بن بشر، قرابة الفضل بن سهل، قال: كان الفضل إذا دخل مدينة السلام، من السيب - موضع قرية - لحوائجه، وهو - إذ ذاك - صغير الحال، نزل على فامي بها، يقال له: خدابود، فيخدمه هو وأهل بيته، ويقضي حوائجه إلى أن يعود.
وتقضت الأيام، وبلغ الفضل مع المأمون ما بلغ، بخراسان، وقضي أن الفامي ألح عليه الزمان بنكبات متصلة، حتى افتقر، فنهض إلى الفضل بن سهل.
وقدم مرو، فبدأ بي، فسررت به، وأكرمته، وأصلحت من شأنه ما يجب أن يصلح لدخوله على الفضل، وقمت فدخلت إلى الفضل وقد جلس على مائدته.
فقلت له: أتذكر الشيخ الفامي، الذي كنا ننزل عليه ببغداد ؟.
فقال لي: سبحان الله، تقول لي تذكره، وله علينا من الحقوق ما قد علمت ؟ فكيف ذكرته ؟ أظن إنساناً أخبرك بموته.
فقلت: هوذا في منزلي.
فاستطير فرحاً، وقال: هاته الساعة، ثم رفع يده، وقال: لا آكل أو يجيء.
فقمت، وجئت به، فحين قرب منه، تطاول له، وأجلسه بين يديه، فيما بيني وبينه، وأقبل عليه، وقال: يا هذا، ما حبسك عنا طول هذه المدة ؟.
فقال: محن عاقتني، ونكبات أصابتني.
فاقبل يسائله عن واحدة واحدة من بناته وأهله.
فقال له: لم يبق لي بعدك ولد، ولا أهل، ولا مال إلا تلف، وما تحملت إليك، إلا من قرض ومسألة، فكاد الفضل يبكي.
فلما استتم غداءه، أمر له بثياب فاخرة، ومركوب، ومال لنفقته، وأن يدفع إليه منزل، وأثاث، واعتذر إليه، ووعده النظر في أمره.
فلما كان من غد، حضر عنده وكلاء تجار بغداد، وكانوا قد قدموا عليه، يبتغون بيع غلات السواد منه، وأعطوه عطايا لم يجب إليها.
فأحضرني، وقال: قد علمت ما دار بيني وبين هؤلاء، فأخرج إليهم، وأعلمهم أني قد أنفذت البيع لهم، بما التمسوا، على أن يجعلوا لخدابود معهم الربع.
ففعلت ذلك، وأجاب التجار، وفرحوا بما تسهل لهم.
ثم قال لخدابود: إنهم سيهولون عليك بكثرة المؤن، ويبذلون لك مائة ألف درهم على أن تخرج من الشركة، فاحذر أن تفعل، ولا تخرج بأقل من خمسين ألف دينار.
ثم قال: اخرج معه، وتوسط فيما بينهم وبينه، ففعلت ذلك، ولم أقنع حتى قدم التجار لخدابود خمسين ألف دينار، ودخل، فعرف الفضل ما جرى، وشكره، وأقام معنا مدة.
ثم دخل إليه يوماً، والفضل مغموم مفكر، فقال له: أيها الأمير ما الذي قد بلغ بك إلى ما أرى من الفكر والغم ؟ قال: أمر لا أحسب لك فيه عملاً يا خدابود.
قال: فأخبرني به، فإن كان عندي فيه ما يفرجه عنك، وإلا ففي الشكوى راحة.
فقال له الفضل: إن خارجياً قد خرج علينا ببعض كور خراسان، ونحن على إضاقة من المال، وأكثر عساكرنا قد جردوا إلى بغداد، والخارجي يقوى في كل يوم وأنا مرتبك في هذا الأمر.
فقال: أيها الأمير، ما ظننت الأمر، إلا أصعب من هذا، وما هذا حتى تفكر فيه ؟ أنت قد فتحت العراق، وقتلت المخلوع، وأزلت مثل تلك الدولة، وتهتم بهذا اللص الذي لا مادة له ؟ أنفذني إليه أيها الأمير، فإن أتيتك به، أو برأسه، بإقبالك، فهو الذي تريد، وإن قتلت، لم تنثلم الدولة بفقدي، على أني أعلم أن بختك لا يخطئ في هذا المقدار اليسير.
قال: ففكر الفضل ساعة، ثم التفت إلي، فقال: لعل الله يريد أن يعرفنا قدرته بخدابود.
ثم لفق رجالاً، واحتال مالاً، ففرقه عليهم، وخلع على خدابود، وقلده حرب الخارجي، والبلد الذي هو فيه.
فسار خدابود بالعسكر، فلما شارف عسكر الخارجي، جمع وجوه عسكره وقال لهم: إني لست من أهل الحرب، وأعول على نصرة الله تعالى لخليفته على العباد، وعلى إقبال الأمير، وليس هذا الخارجي من أهل المدد، وإنما هو لص لا شوكة له، فاعملوا عمل واثق بالظفر، ولا تقنعوا بدون الوصول إليه، ولكم إن جئتم به، أو برأسه، كذا وكذا.
قال: فحملوا، وحققوا، فانجلت الحرب عن الخارجي قتيلاً، فاحتز رأسه.
وكتب خدابود إلى الفضل، لست ممن يحسن كتب الفتوح، ولا غيرها، ولكن الله جلت عظمته قد أظفرنا بالخارجي، وحصل رأسه معي، وتفرق أصحابه، وأنا أستخلف على الناحية، وأسير برأسه.
قال: وتلا الكتاب مجيء خدابود بالرأس، فعجبنا مما تم له، وعلت حاله مع الفضل.

موت زياد يفرج عن ابن أبي ليلى

وذكر أبو الحسن المدائني، في كتابه كتاب الفرج بعد الشدة والضيقة عن محمد بن الحجاج، عن عبد الملك بن عمير، قال:

كتب معاوية، إلى زايد: إنه قد تلجلج في صدري شيء من أمر حجر ابن عدي، فابعث لي رجلاً من أهل المصر، له فضل، ودين، وعلم، فدعا عبد الرحمن بن أبي ليلى، فقال له: إن أمير المؤمنين كتب إلي يأمرني أن أوجه إليه رجلاً من أهل المصر، له دين وفضل وعلم، ليسأله عن حجر بن عدي، فكنت عندي ذلك الرجل، فإياك أن تقبح له رأيه في حجر، فأقتلك، وأمر له بألفي درهم، وكساه حلتين، وحمله على راحلتين.
قال عبد الرحمن: فسرت، وما في الأرض خطوة، أشد علي، من خطوة تدنيني إلى معاوية.
فقدمت بابه، فاستأذنت، فأذن لي، فدخلت، فسألني عن سفري، ومن خلفت من أهل المصر، وعن خبر العامة والخاصة.
ثم قال لي: انطلق فضع ثياب سفرك، والبس الثياب التي لحضرك، وعد.
فانصرفت إلى منزلي، ثم رجعت إليه، فذكر حجراً، ثم قال: أما والله، لقد تلجلج في صدري منه شيء، ووددت أني لم أكن قتلته.
قلت: وأنا والله يا معاوية، وددت أنك لم تقتله، فبكى.
فقلت: والله، لوددت أنك حبسته.
فقال لي: وددت أني كنت فرقتهم في كور الشام، فتكفينيهم الطواعين.
قلت: وددت ذلك.
فقال لي: كم أعطاك زياد ؟ قلت: ألفين، وكساني حلتين، وحملني على راحلتين.
قال: فلك مثل ما أعطاك، أخرج إلى بلدك.
فخرجت وما في الأرض شيء أشد علي من أمر يدنيني من زياد، مخافة منه.
فقلت: آتي اليمن، ثم فكرت، فقلت: لا أخفى بها.
فأجمعت على أن آتي بعض عجائز الحي، فأتوارى عندها، إلى أن يأتي الله بالفرج من عنده.
قال: وقدمت الكوفة، فأمر بجهينة الظاهرة، حين طلع الفجر، ومؤذنهم يؤذن.
فقلت: لو صليت، فنزلت، فصرت في المسجد، حتى أقام المؤذن.
فلما قضينا الصلاة، إذا رجل في مؤخر الصف، يقول: هل علمتم ما حدث البارحة ؟ قالوا: وما حدث ؟ قال: مات الأمير زياد.
قال: فما سررت بشيء، كسروري بذلك.

معاوية بن أبي سفيان

أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية 20 ق - 60: مؤسس الدولة الأموية بالشام، وأحد دهاة العرب المتميزين الكبار، حكم الشام حكماً مستمراً، دام ما يزيد على الأربعين سنة، قضى بعضها 18 - 35 أميراً، وقضى الباقي متغلباً، ولاه على الشام الخليفة عمر، ولما ولي عثمان جمع له الديار الشامية كلها، ولما ولي علي عزله، فخرج على علي بحجة المطالبة بدم عثمان الأعلام 8 - 172 حتى إذا قتل علي، وتمكن من السيطرة ترك المطالبة بدم عثمان البصائر والذخائر 2 - 586.
وهو أول من لعن المسلمين على المنابر العقد الفريد 4 - 366 و5 - 91 وأول من حبس النساء بجرائر الرجال، إذ طلب عمرو بن الحمق الخزاعي، لموالاته علياً، وحبس امرأته بدمشق، حتى إذا قطع عنقه، بعث بالرأس إلى امرأته وهي في السجن، وأمر الحرسي أن يطرح الرأس في حجرها بلاغات النساء 64 واليعقوبي 2 - 232 والديارات 179 و180.
وكان يفرض على الناس لعن علي والبراءة منه، ومن أبى، قتله، أو بعث به إلى عامله زياد ليدفنه حياً العقد الفريد 3 - 234 و4 - 34 والأغاني 18 - 150 وابن الأثير 3 - 485 والأغاني 17 - 153.
وهو أول من سخر الناس، واستصفى أموالهم، وأخذها لنفسه اليعقوبي 2 - 232 وهو أول من حبس على معارضيه أعطياتهم أدب الكتاب للصولي 2 - 224 محتجاً بأن العطاء ينزل من خزائن الله، فقال له الأحنف: إنا لا نلومك على ما في خزائن الله، ولكن على ما أنزله الله من خزائنه، فجعلته في خزائنك، وحلت بيننا وبينه البصائر والذخائر م2 ق2 ص689.
وقيل لشريك بن عبد الله، إن معاوية كان حليماً، فقال: كلا، لو كان حليماً ما سفه الحق ولا قاتل علياً كتاب الآداب لجعفر 22 و23.
وروى ابن الجوزي، عن الحسن البصري، إنه قال: أربع خصال كن في معاوية، لو لم تكن فيه إلا واحدة، لكانت موبقة، وهي: أخذه الخلافة بالسيف، من غير مشاورة، وفي الناس بقايا الصحابة، وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه يزيد، وكان سكيراً خميراً، يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياد أخاً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش، وللعاهر الحجر، وقتله حجر بن عدي وأصحابه، فيا ويلاً له من حجر، وأصحاب حجر خزانة الأدب للبغدادي 2 - 518 و519.

وقال نيكلسون: اعتبر المسلمون انتصار بني أمية، وعلى رأسهم معاوية، انتصاراً للأرستقراطية الوثنية، التي ناصبت الرسول وأصحابه العداء، والتي جاهدها رسول الله حتى قضى عليها، وصبر معه المسلمون على جهادها ومقاومتها حتى نصرهم الله، فقضوا عليها. وأقاموا على أنقاضها دعائم الإسلام، لذلك، لا ندهش إذا كره المسلمون بني أمية، وغطرستهم، لا سيما أن جمهور المسلمين كانوا يرون بين الأمويين رجالاً كثيرين، لم يعتنقوا الإسلام إلا سعياً وراء مصالحهم الشخصية، ولا غرو، فقد كان معاوية يرمي إلى جعل الخلافة ملكاً كسروياً، وليس أدل على ذلك من قوله: أنا أول الملوك تاريخ الإسلام 1 - 278 و279.
وكان مصروف الهمة إلى تدبير أمر الدنيا، يهون عليه كل شيء إذا انتظم أمر الملك الفخري 107 ولما استولى على الملك، استبد على جميع المسلمين، وقلب الخلافة ملكاً رسائل الجاحظ 14 - 16 وكان يقول: إنا لا نحول بين الناس وألسنتهم، ما لم يحولوا بيننا وبين السلطان محاضرات الأدباء 1 - 226.
وختم معاوية أعماله، بإرادته أن يظهر العهد ليزيد، فقال لأهل الشام: إن أمير المؤمنين قد كبرت سنه، ورق جلده، ودق عظمه، واقترب أجله ويريد أن يستخلف عليكم، فمن ترون ؟ فقالوا: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فسكت وأضمرها، ودس ابن أثال الطبيب إلى عبد الرحمن، فسقاه سماً، فمات الأغاني 16 - 197.
ثم فرض ولده يزيد على الناس فرضاً، وحملهم على بيعته قسراً، وأوعز إلى رجل من الأزد، اسمه يزيد بن المقفع، فقام خطيباً وقال: أمير المؤمنين هذا وأشار إلى معاوية، فإذا مات فهذا وأشار إلى يزيد، ومن أبى فهذا وأشار إلى السيف، فقال له معاوية: أقعد، فأنت سيد الخطباء العقد الفريد 4 - 370 ومروج الذهب 2 - 21.
إقرأ بعض أخبار معاوية في تاريخ اليعقوبي 2 - 217 وفي الامتاع والمؤانسة 2 - 75 و3 - 178 وفي محاضرات الأدباء 1 - 353 وفي كتاب التاج للجاحظ 205 وفي المحاسن والمساوئ 2 - 148 وفي البيان والتبيين للجاحظ 2 - 87 و110 و4 - 133 وفي الأغاني 4 - 189 و6 - 266 و15 - 168، 197 و198 و17 - 144 وفي وفيات الأعيان 2 - 169 وفي الفخري 106 - 110 وفي البصائر والذخائر م2 ق2 ص671 و702 وفي نفح الطيب 2 - 542 وفي خزانة الأدب للبغدادي 2 - 518 و519.
خرج يريد خالداً القسري فأعطاه الحكم فأغناه
وقد أخبرني علي بن دبيس، عن الخزاعي المدائني، عن أبي عمر الزاهد وقد لقيت أبا عمر، وحملت منه شيئاً من علومه ورواياته، وأجاز لي كل ما صح منها، فدخل هذا في إجازته.
وحدثنا أحمد بن عبد الله بن أحمد الوراق، في كتاب نسب قريش، قال: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: أخبرني عمي مصعب، عن نوفل بن عمارة: أن رجلاً من قريش، من بني أمية، له قدر وخطر، لحقه دين، وكان له مال من نخل وزرع، فخاف أن يباع عليه، فشخص من المدينة يريد الكوفة، يقصد خالد بن عبد الله القسري، وكان والياً لهشام بن عبد الملك على العراق، وكان يبر من قدم عليه من قريش.
فخرج الرجل يريده، وأعد له من طرف المدينة، حتى قدم فيد، فأصبح بها.
فرأى فسطاطاً، عنده جماعة، فسأل عنه، فقيل: للحكم بن عبد المطلب، يعني أبا عبد الله بن عبد المطلب بن حنظلة بن الحارث بن عبيد بن عمرو بن مخزوم، وكان يلي المشاعر، فلبس نعليه، وخرج حتى دخل عليه.
فلما رآه، قام إليه فتلقاه، وسلم عليه وأجلسه في صدر فراشه، ثم سأله عن مخرجه، فأخبره بدينه، وما أراد من إتيان خالد بن عبد الله.
فقال الحكم: انطلق بنا إلى منزلك، فلو علمت بمقدمك لسبقتك إلى إتيانك، فمضى معه، حتى أتى منزله، فرأى الهدايا التي أعدها لخالد، فتحدث ساعة معه.
ثم قال: إن منزلنا أحضر عدة، وأنتم مسافرون، ونحن مقيمون، فأقسمت عليك إلا قمت معي إلى المنزل، وجعلت لنا من هذه الهدايا نصيباً.
فقام الرجل معه، وقال: خذ منها ما أحببت، فأمر بها، فحملت كلها إلى منزله، وجعل الرجل يستحي أن يمنعه شيئاً، حتى صار إلى المنزل.
فدعا بالغداء، وأمر بالهدايا، ففتحت، فأكل منها، ومن حضره، ثم أمر ببقيتها فرفعت إلى خزانته، وقام الناس.

ثم أقبل على الرجل، وقال له: أنا أولى بك من خالد، وأقرب منه رحماً ومنزلاً، وها هنا مال للغارمين، أنت أولى الناس به، وأقرب، وليس لأحد عليك فيه منة، إلا الله تعالى، تقضي به دينك، ثم دعا له بكيس فيه ثلاثة آلاف دينار، فدفعت إليه.
ثم قال: قد قرب الله - جلت عظمته - عليك الخطوة، فانصرف إلى أهلك مصاحباً، محفوظاً.
فقام الرجل من عنده، يدعو له ويشكره، ولم يكن له همة إلا الرجوع إلى أهله، وانطلق الحكم يشيعه.
ثم قال: كأني بزوجتك، قد قالت: أين طرائف العراق، خزها، وبزها، وعروضها، أما كان لنا منها نصيب ؟ ثم أخرج صرة قد كان حملها معه، فيها خمسمائة دينار، فقال له: أقسمت عليك، إلا جعلت هذه عوضاً عن هدايا العراق، وانصرف.
وذكر أبو الحسين القاضي، هذا الخبر، في كتابه، كتاب الفرج بعد الشدة، بغير إسناد، على قريب من هذه العبارة.

لا بارك الله في مال بعد عثمان

وذكر أيضاً في كتابه، بغير إسناد: أن عثمان بن طلحة، ركبه دين فادح، مبلغه ألفا دينار، فأراد الخروج إلى العراق، لمسألة السلطان قضاءه عنه.
فلما عزم على السفر، اتصل خبره بأخيه جعفر بن طلحة، فقال: لا بارك الله في مال بعد عثمان.
فدخل على نسائه، فجعل يخلع حليهن، حتى جمع له أكثر من ألفي دينار، فدفعها إليه.
فقضى دينه، وأقام.
رفع صوته بالتلبية فحملت إليه أربعة آلاف ديناروحدثنا أحمد بن عبد الله، في هذا الكتاب، كتاب نسب قريش، قال: حدثنا أحمد بن سليمان، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني مفضل بن غسان، عن أبيه، عن رجل من قريش، قال: حج محمد بن المنكدر، من بني تيم بن مرة، قال: وكان معطاءً، فأعطى حتى بقي في إزار واحد، وحج معه أصحابه.
فلما نزل الروحاء، أتاه وكيله، فقال: ما معنا نفقة، وما بقي معنا درهم.
فرفع محمد صوته بالتلبية، فلبى، ولبى أصحابه، ولبى الناس، وبالماء محمد بن هشام.
فقال: والله، إني لأظن أن محمد بن المنكدر بالماء، فانظروا.
فنظروا، وأتوه فقالوا: هو بالماء.
فقال: ما أظن معه درهماً، احملوا إليه أربعة آلاف درهم.
يزيد بن عبد الملك بن مروان يصف عمر بن هبيرة بالرجلة ويوليه العراققال: وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، قال: نالت عمر بن هبيرة، إضاقة شديدة، فأصبح ذات يوم، في نهاية الكسل، وضيق الصدر، والضجر مما هو فيه.
فقال له أهله ومواليه: لو ركبت فلقيت أمير المؤمنين، فلعله - إذا رآك - أن يجري لك شيئاً فيه محبة، أو يسألك عن حالك، فتخبره.
فركب، فدخل على يزيد بن عبد الملك، فوقف بين يديه ساعة، وخاطبه.
ثم نظر يزيد بن عبد الملك إلى وجه عمر، وقد تغير تغيراً شديداً، أنكره، فقال: أتريد الخلاء ؟ قال: لا.
قال: إن لك لشأناً.
قال: يا أمير المؤمنين، أجد بين كتفي أذىً لا أدري ما هو.
قال يزيد بن عبد الملك: انظروا ما هو.
فنظروا، فإذا بين كتفيه عقرب، قد ضربته عدة ضربات.
فلم يبرح حتى كتب عهده على العراق، وجعل يزيد بن عبد الملك يصفه بالرجلة، وشدة القلب.
كان خالد القسري لا يملك إلا ثوبه فجاءه الفرج بولاية العراقوذكر أبو الحسين في كتابه: أن خالد بن عبد الله القسري، أصابته إضاقة شديدة، فبينما هو ذات يوم في منزله، إذ أتاه رسول هشام بن عبد الملك يدعوه لولاية العراق، فتلوم، فاستحثه الرسول.
فقال له خالد: رويداً حتى يجف قميصي، وقد كان غسله قبل موافاة الرسول، ولم يكن بقي له غيره.
فقال له الرسول: يا هذا، أسرع في الإجابة، فإنك تدعى إلى قمصان كثيرة.
فجاء إلى هشام، فولاه العراق.
يهلك ملوكاً ويستخلف آخرين
قال: ومن الأعجوبات، ما ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، عن علي بن الهيثم، قال: رأيت شيئاً قلما رئي مثله، رأيت ثقل الفضل بن الربيع، على ألف بعير، ثم رأيت ثقله في زنبيل، ونحن مستترون، وفيه أدوية لعلته، وهو ينقله من موضع إلى موضع.
ورأيت الحسن بن سهل، وكان مع طريف خادمي في بيت الدهليز، وثقله في زنبيل، فيه نعلان، وقميصان، وإزار، وإسطرلاب، وما أشبه ذلك، ثم رأيت ثقله على ألف بعير.
باع من إضاقته لجام دابته في الصباح وحلت له عشرون ألف دينار وقت الظهرقال: وذكر أبو الحسين القاضي في كتابه، قال: حدثنا أبو القاسم ميمون بن موسى قال:

خرج رجل من الكتاب في عسكر المعتصم إلى مصر، يريد التصرف، فلم يحظ بشيء مما أمل، ودخل المعتصم بالله مصر.
قال: فحدثني بعض المتصرفين عنه، قال: نزلت في دار بالقرب منه، فحدثني الرجل بما كنت وقفت على بعضه.
قال: أصبحت ذات يوم، وقد نفدت نفقتي، وتقطعت ثيابي، وأنا من الهم، والغم، على ما لا يوصف عظماً.
فقال لي غلامي: يا مولاي، أي شيء نعمل اليوم ؟ فقلت له: خذ لجام الدابة، فبعه، فإنه محلى، وابتع مكانه لجاماً حديداً، واشتر لنا خبزاً سميذاً، وجدياً سميناً، فقد قرمت إلى أكلهما، وعجل، ولا تدع أن تبتاع فيما تبتاعه كوز نبيذ شيروي.
فمضى الغلام، وجلست أفكر في أمري، ومن ألاقي، وكيف أعمل، وإذا بباب الدار قد دق دقاً عنيفاً، حتى كاد أن يكسر، وإذا رهج شديد.
فقلت لغلام كان واقفاً بين يدي: بادر، فانظر ما هذا.
فإلى أن يفتح الباب، كسر، وامتلأت الدار بالغلمان الأتراك وغيرهم، وإذا بأشناس، وهو حاجب المعتصم، ومحمد بن عبد الملك الزيات، وهو الوزير، قد دخلا.
فطرحت لهم زلية، فجلسا عليها، وإذا معهما حفارون.
قال: فلما رأيت ذلك، بادرت فقبلت أيديهما، فسألاني عن خبري، فخبرتهما إياه، وأنني قد خرجت في جملة أهل العسكر، طلباً للتصرف، وذكرت حالي وما قد آلت إليه، فوعداني جميلاً، والحفارون يحفرون في وسط الدار، حتى ترجل النهار، وأنا واقف بين أيديهما، وربما حدثتهما.
فالتفت أشناس إلى محمد بن عبد الملك فقال: أنا والله جائع.
فقال له محمد: وأنا - والله - كذلك.
فقلت عند ذلك: يا سيدي، عند خادمكما شيء قد اتخذ له، فإن أذنتما في إحضاره أحضره.
فقالا: هات.
فقدمت الجدي، وما كان ابتيع لنا، فأكلا، واستوفيا، وغسلا أيديهما.
ثم قال لي أشناس: عندك شيء من ذلك الفن ؟ قلت: نعم، فسقيتهما ثلاثة أقداح.
وجعل أحدهما يقول للآخر: ظريف، وما ينبغي لنا أن نضيعه البائس.
فبينما الحال على ذلك، إذ أرتفع تكبير الحفارين، وإذا هم قد كشفوا عن عشرين مرجلاً دنانير، فوجهوا بالبشارة إلى المعتصم، وأخرجت المراجل.
فلما نهضا، قال أحدهما للآخر: فهذا الشقي الذي أكلنا طعامه، وشربنا شرابه، ندعه هكذا ؟ فقال له الآخر: فنعمل ماذا ؟ قال: نحفن له من كل مرجل حفنة، لا تؤثر فيه، فنكون قد أغنيناه، ونصدق أمير المؤمنين عن الحديث.
ثم قالا: افتح حجرك، وجعل كل واحد، يحفن لي حفنة، من كل مرجل، وأخذا المال، وانصرفا.
فنظرت، فإذا قد حصل لي عشرون ألف دينار، فانصرفت بها إلى العراق، وابتعت بها ضياعاً ولزمت منزلي، وتركت التصرف.

سبحان خالقك يا أبا قلابة فقد تنوق في قبح وجهك

وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: حدثني أبي، عن أبي قلابة المحدث، قال: ضقت ضيقة شديدة، فأصبحت ذات يوم، والمطر يجيء كأفواه القرب، والصبيان يتضورون جوعاً، وما معي حبة واحدة فما فوقها، فبقيت متحيراً في أمري.
فخرجت، وجلست في دهليزي، وفتحت بابي، وجعلت أفكر في أمري، ونفسي تكاد تخرج غماً لما ألاقيه، وليس يسلك الطريق أحد من شدة المطر.
فإذا بامرأة نبيلة، على حمار فاره، وخادم أسود آخذ بلجام الحمار، يخوض في الوحل، فلما صار بإزاء داري، سلم، وقال: أين منزل أبي قلابة ؟ فقلت له: هذا منزله، وأنا هو.
فسألتني عن مسألة، فأفتيتها فيها، فصادف ذلك ما أحبت، فأخرجت من خفها خريطة، فدفعت إلي منها ثلاثين ديناراً.
ثم قالت: يا أبا قلابة، سبحان خالقك، فقد تنوق في قبح وجهك، وانصرفت.
المنصور العباسي يتذكر ما ارتكب من العظائم فيبكي وينتحبوذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: دخل عمرو بن عبيد، على أبي جعفر المنصور قبل دولة بني العباس، وكان صديقه، وبين يديه طبق عليه رغيف، وغضارة فيها فضلة سكباج، وهو يتغدى، وقد كاد يفرغ، فلما بصر بعمرو، قال: يا جارية، زيدينا من هذا السكباج، وهاتي خبزاً.
قالت: ليس عندنا خبز، وما بقى من السكباج شيء.
قال: فارفعي الطبق، ثم قال: " عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم، ويستخلفكم في الأرض، فينظر كيف تعملون " .
فلما أفضى الأمر إلى أبي جعفر، وارتكب العظائم، دخل عليه عمرو بن عبيد، فوعظه، ثم قال: أتذكر يوماً دخلت عليك ... وأعاد الحديث، وقد استخلفك، فماذا عملت ؟ فجعل المنصور يبكي وينتحب، وفيه حديث طويل.

ارتكب المنصور فظائع من قتل، وتعذيب، ودفن الناس أحياء، ودق الأوتاد في الأعين، وبناء الحيطان على الأحياء، وكان يشهد تعذيب من يأمر بتعذيبه، حتى أنه كان يشهد تعذيب النساء أيضاً.
راجع في الفخري 165 سبب حبس آل الحسن، وقتلهم، وقد حبسهم المنصور في سرداب تحت الأرض، لا يفرقون فيه بين ضياء النهار، وسواد الليل، وهدم الحبس على قسم منهم، وكانوا يتوضؤون أي يقضون حاجاتهم في مواضعهم، فاشتدت عليهم الرائحة، وكان الورم يبدو في أقدامهم فلا يزال يرتفع حتى يبلغ القلب، فيموت صاحبه، ومات إسماعيل بن الحسن، فترك عندهم حتى جيف، فصعق داود بن الحسن، ومات مروج الذهب 2 - 236.
وبلغ المنصور أن عبد الله بن محمد النفس الزكية، فر منه إلى السند، فبعث وراءه من قتله مقاتل الطالبيين 310 - 313، وأمر المنصور بمحمد بن إبراهيم بن الحسن، فبنيت عليه أسطوانة، وهو حي الفخري 164، ومقاتل الطالبيين 200، والطبري 7 - 546 وابن الأثير 5 - 526 وأمر بعبد الله بن الحسن بن الحسن فطرح عليه بيت فقتله مقاتل الطالبيين 228 أما الباقون فما زالوا في الحبس حتى ماتوا، وقيل إنهم وجدوا مسمرين في الحيطان اليعقوبي 2 - 370.
وأمر المنصور بإبراهيم بن الحسن بن الحسن، فدفن حياً مقاتل الطالبيين 28 وجرد محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وأمه فاطمة بنت الحسين، فضرب ألف سوط مروج الذهب 2 - 236 وأمر بأن يدق وجهه بالجرز، وهو العمود من الحديد الطبري 7 - 543 وبلغ من شدة الضرب أن أخرج وكأنه زنجي مقاتل الطالبيين 220 وابن الأثير 5 - 525 وجاءت إحدى الضربات على عينه، فسالت مقاتل الطالبيين 220 والطبري 7 - 542 ثم قتله، وقطع عنقه مقاتل الطالبيين 226.
ولما حمل رأس محمد بن عبد الله إلى المنصور، قال لمطير بن عبد الله: أما تشهد أن محمداً بايعني ؟ فقال: أشهد بالله لقد أخبرتني بأن محمداً خير بني هاشم، وأنك بايعت له، فشتمه، وأمر به، فوتد في عينيه المحاسن والمساوئ 2 - 138.
ولما قتل إبراهيم بن عبد الله في باخمرى، بعث المنصور برأسه إلى أبيه عبد الله فوضعه بين يديه مروج الذهب 2 - 236 و237 وأمر بسديف بن ميمون الشاعر، فدفن حياً العقد الفريد 5 - 87 - 89.
ومن بعد وفاة المنصور عثر المهدي، وزوجته ريطة، على أزج في قصر المنصور، فيه جماعة من قتلى الطالبيين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وإذا فيهم أطفال، ورجال، شباب ومشايخ، عدة كثيرة، فلما رأى المهدي ذلك، ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة دفنوا فيها الطبري 8 - 105.
ولما طال حبس عبد الله بن الحسن، وأهل بيته، جلست إحدى بناته للمنصور، فتوسلت إليه بالقرابة، وطلبت منه الرحمة، فقال لها: أذكرتنيه، وأمر به فحدر إلى المطبق وكان آخر العهد به تاريخ بغداد للخطيب 9 - 432.
ومما يبعث على العجب أن المنصور، الذي ضرب أسوء الأمثال في القسوة، أوصى ولده المهدي، فقال: أحفظ محمداً في أمته، وإياك والدم الحرام، فإنه حوب عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم، وافتتح عملك بصلة الرحم، وبر القرابة الطبري 8 - 105 و106.

إن قرح الفؤاد يجرح جرحا

ً
وذكر القاضي أبو الحسين، قال: روي لنا عن خالد بن أحمد البطحاوي، مولى آل جعفر بن أبي طالب، قال: تزوجت امرأة، فبينا أنا ذات ليلة من ليالي العرس، وليس عندنا قليل ولا كثير، وأنا أهم الناس بذلك، إذ جاءتني امرأتان، فطرقتا باب منزلي، فخرجت إليهما، فإذا بجارية شابة، وأخرى نصف.
فقالت: أنت خالد البطحاوي ؟.
قلت: نعم.
قالت: أحب أن تنشدنا قولك: خلفوني ببطن حام، فأنشدتهما:
خلّفوني ببطن حامٍ صريعاً ... ثمّ ولّوا وغادروني صبحا
جمع اللّه بين كلّ محبٍّ ... ذبحوه بشفرة الحبّ ذبحا
غادر الحبّ في فؤادي قرحاً ... إنّ قرح الفؤاد يجرح جرحا
قال: فرمت إلي الشابة بدملج ذهب، وانصرفتا، فبعته بجملة دراهم، واتسعت بها.
أبو عمر القاضي يصبح وليس عنده درهم واحد فيجيئه الفرج في وقت قريبوذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: حدثني أبي، قال: أضقت إضاقة شديدة، في نكبتي، وأصبحت يوماً، وما عندي درهم واحد فما فوقه، وكان الوقت شتاءً، والمطر يجيء.

فجلست ضيق الصدر، مفكراً في أمري، إذ جاءني صديق لي، فقال: قد جئت لأقيم عندك اليوم، فازداد ضيق صدري، وقلت له: بالرحب والسعة، وأظهرت له السرور بمجيئه.
ودخلت إلى النساء، فقلت لهن: احتلن فيما ننفق في هذا اليوم، على رهن أو بيع شيء من البيت، فقد طرقنا ضيف.
وخرجت، فجلست مع الرجل، وأنا على نهاية من شغل القلب، خوفاً أن لا يتفق قرض، ولا بيع، لأجل المطر.
فأنا كذلك، إذ دخل الغلام، فقال: خليفة أبي الأغر السلمي بالباب.
فقلت: أي وقت هذا لخليفة أبي الأغر ؟ وأمرته أن يخرج فيصرفه، ثم تذممت من صرفه، وقد قصدني في مثل هذا اليوم.
فقلت: قل له يدخل.
فدخل، وحادثني قليلاً، ثم قرب مني، وأخرج صرة فيها مائة دينار.
وقال: يقول لك أخوك: وجهت إليك بهذه الصرة، فتأمر بصرفها في مثل هذا اليوم، في بعض ما يصلح حالك.
فامتنعت من قبولها، فلم يزل خليفته يلطف بي، حتى قبلتها.

بين أحمد بن أبي خالد وصالح الأضجم

حدثني أبي، أبو القاسم التنوخي، في المذاكرة، بإسناد ذهب عن حفظي، قال: كان أحمد بن أبي خالد، بغيضاً، قبيح اللهجة، وكان مع ذلك حراً، وكان يلزمه رجل متعطل من طلاب التصرف يقال له: صالح بن علي الأضجم، من وجوه الكتاب، فحدث، قال: طالت بي العطلة في أيام المأمون، والوزير - إذ ذاك - أحمد بن أبي خالد، وضاقت حالي، حتى خشيت التكشف.
فبكرت يوماً إلى أحمد بن أبي خالد مغلساً، لأكلمه في أمري، فرأيت بابه قد فتح، وخرج بين يديه شمعة، يريد دار المأمون.
فلما نظر إلي، أنكر علي بكوري، وعبس في وجهي، وقال: في الدنيا أحد بكر هذا البكور ليشغلنا عن أمرنا.
فلم تصبر نفسي أن قلت: ليس العجب منك - أصلحك الله - فيما استقبلتني به، وإنما العجب مني، وقد سهرت ليلتي، وأسهرت من في داري تأميلاً لك، وتوقعاً للصبح، لأصير إليك، فأبثك أمري، وأستعين بك على صلاح حالي، وإلا فعلي، وعلي، وحلفت يميناً غليظة، لا وقفت ببابك، ولا سألتك حاجة، حتى تصير إلي معتذراً مما كلمتني به.
وانصرفت مغموماً، مكروباً بما لقيني به، متندماً على ما فرط مني، غير شاك في العطب، إذ كنت لا أقدر على الحنث، وكان ابن أبي خالد، لا يلتفت إلى إبرار قسمي.
فإني لكذلك، وقد طلعت الشمس، إذ طلع بعض غلماني، فقال: أحمد بن أبي خالد، مقبل في الشارع، ثم دخل آخر، فقال: قد دخل دربنا، ثم دخل آخر، فقال: قد وقف على الباب، ثم تبادر الغلمان بدخوله الدهليز، فخرجت مستقبلاً له.
فلما استقر به مجلسه في داري، ابتدأت أشكره على إبراره قسمي، فقال: إن أمير المؤمنين، كان أمرني بالبكور إليه في بعض مهماته، فدخلت إليه، وقد غلبني الفكر، لما فرط مني إليك، حتى أنكر ذلك، فقصصت عليه قصتي معك.
فقال: قد أسأت بالرجل، قم، فامض إليه، فاعتذر مما قلت له.
قلت: فأمضي إليه فارغ اليد ؟ قال: فتريد ماذا ؟ قلت: يقضي دينه.
قال: كم هو ؟.
قلت: ثلثمائة ألف درهم.
قال: وقع له بذلك.
قلت: فيرجع بعد إلى الدين ؟ قال: وقع له بثلثمائة ألف درهم أخرى.
قلت: فولاية يشرف بها.
قال: وله مصر، أو غيرها، مما يشبهها.
قلت: ومعونة على سفره ؟ قال: وقع له بثلثمائة ألف درهم ثالثة.
قال: وأخرج التوقيع من خفه، بالولاية، وبتسعمائة ألف درهم، فدفع ذلك إلي، وانصرف.
وقد ذكر محمد بن عبدوس، في كتاب الوزراء، الخبر على قريب من هذا.
جندي تركي تشتد إضاقته ثم يأتيه الفرجوذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: حدثنا إبراهيم بن القاسم، قال: كان في جيراني، بالجانب الشرقي، من مدينة السلام، رجل من الأتراك، له رزق في الجند، فتأخر رزقه في أيام المكتفي، ووزارة العباس بن الحسن، فساءت حاله، ورثت هيأته، حتى أدمن الجلوس عند خباز كان بالقرب منا، وكان يستسعفه، فيعطيه في كل يوم خمسة أرطال خبزاً، يتقوت بها هو وعياله.
فاجتمع عليه للخباز شيء، ضاق به صدر الخباز معه أن يعطيه سواه، فمنعه، فخرج ذات يوم، فجلس، وهو عظيم الهم، ثم كشف لي حديثه.
وقال: قد عملت على مسألة كل من يشتري من الخباز شيئاً، أن يتصدق علي، فقد حملني الجوع على هذا، وكلما أردت فعله، منعتني نفسي منه.
فبينما هو معي في هذا، إذ جاء رجل بزي نقيب، يسأل عنه، فدل عليه، فوجده جالساً عند الخباز.
فقال له: قم.
فقال: إلى أين ؟

قال: إلى الديوان، حتى تقبض رزقك، فقد خرج لك ولأصحابك رزق شهرين، فمضى معه.
فلما كان بعد ساعة، جاءني، وقد قبض مائتين وأربعين ديناراً.
فرم منزله، وأصلح حاله، وحال عياله، وأبتاع دابةً وسرجاً وسلاحاً، وقضى دينه، وخرج مع قائد كان برسمه، وحسنت حالته.

أحمد بن مسروق عامل الأهواز يتحدث عن الفرج الذي وجده في قانصة البطة

وذكر أبو الحسين في كتابه عن الحسين بن موسى، أخي إبراهيم بن موسى، قال: خرجت إلى فارس، في أيام المعتمد على الله، فمررت بالأهواز، والمتقلد لخراجها أحمد بن مسروق، فاجتمعنا، وتذاكرنا حديث الغم والفرج، وما ينال الناس منهما، ومن المرض والصحة.
فحدثني: أنه كان في ناحية إسحاق بن إبراهيم، فلما توفي، وقدم محمد بن عبد الله بن طاهر، تعطل، وافتقر، حتى لم يبق له شيء، وحالفته أمراض كثيرة، فكان لا يصح له بدن يوماً واحداً.
قال: وكان له رفيق، فخرج إلى سر من رأى، فتعلق بالفتح بن خاقان، فحسنت حاله.
قال: فكان يكتب إلي في الخروج إليه، فيمنعني من ذلك عوز النفقة.
فإني لمغموم، مفكر في الحال التي أنا عليها، إذ دخل بعض نسائنا، فلامتني على طول الهم والغم، وقالت: كن اليوم عندي، حتى أذبح لك مخلفة بطة سمنت لنا، وتجتمع مع جواريك، فيغنين لك وتتفرج.
فقلت: نعم، وجئت إلى منزلنا، وذبحت البطة، فإذا قد خرجت إلي، ومعها حجر أحمر، لم تدر ما هو.
فقالت: خرج هذا من قانصة البطة، فما هو ؟ قلت: لا أدري، ولكن هبيه لي حتى أريه لمن يعرفه.
فقالت: خذه، فرأيت شيئاً لم أعرفه، إلا أني بعثت به إلى صديق لي بباب الطاق، وسألته أن يبيعه لي.
فقال: نعم، ثم إنه غسله بماء حار، وباعه بمائة وثلاثين ديناراً.
فأخذت الدنانير، واشتريت مركوباً، وتجهزت إلى سر من رأى، فلزمت أبا نوح، وباب الفتح بن خاقان، فنفدت نفقتي، وجعل رفيقي ينفق علي، ويقرضني.
فدعاني الفتح بن خاقان يوماً، وقد يئست منه، وإذا بين يديه أبو نوح، فقال: هذا أحمد بن مسروق ؟ قال: نعم.
قال: كيف أنت إن أنفذتك في أمر، واصطنعتك ؟ قلت: إني كنت مع الخراسانية كاتباً أعرف جميع الأعمال.
فأدخلني إلى المتوكل، فلما وقفت بين يديه، قال: إنا ننفذك في أمر هو محنتك، وبه ارتفاعك أو سقوطك، فانظر كيف تكون ؟ قال: فقبلت الأرض، ووعدت الكفاية به من نفسي.
وخرج الفتح، ومعه عبيد الله بن يحيى، فوقع لي عبيد الله بأجر ثلاثة آلاف درهم، مع الشاكرية الذين يقبضون عشرة أشهر من السنة، والإستقبال في أول شهر يوضع لهم، ووقع إلى خازن بيت المال بأن يدفع إلي ثلاثين ألف درهم معونة.
وكتب كتبي بالنظر في مصالح الأهواز، وأشياء هناك بالستر والأمانة، احتيج إلى كشفها، فسرت إليها، وبلغت في الأمور ما أحمد.
فصار رسمي أن أقلد أعمالها، فمرة المعونة، ومرة الخراج، ومرة يجمعان لي جميعاً.
فزالت تلك العلل والأمراض التي كانت قد حالفتني، ولا أعرف لذلك سبباً غير الفرج.
فقال الحسين بن موسى، لأحمد بن مسروق: على ذكر وجود الحجر في قانصة البطة: أخبرك أني لما سرت في سفرتي هذه، إلى الموضع المعروف باصطربند، رأيت بستاناً حسناً، فيه باقلى وخضرة، بعقب مطرة، فاستحسنته، فعدلت إليه.
فقال: عساه البستان الذي فيه الصخرة التي كأنها نابتة.
قلت: هو.
قال: هيه.
قلت: فتغدينا فيه، وشربنا أقداحاً، وكنت مستنداً إلى الصخرة، فلما نهضنا، رأيت في وسط الصخرة نقرة، قد اجتمع فيها ماء المطر، فهو في غاية الصفاء.
فوضعت فمي لأشرب منه، فتحرك فيه شيء، فنحيت فمي عنه، وتأملته، فبدت لي خرقة، فجذبتها، فإذا صرة.
فقال أحمد بن مسروق: صرتي، والله، كان فيها ثلثمائة دينار.
قلت: نعم، فمن أين صارت لك ؟.
قال: مررت بهذا الموضع، آخر خرجة خرجتها إلى الأهواز، فملت إلى الموضع، كما ملت، وكانت هذه الصرة في يدي، فوضعتها في الحجر، وأنسيتها وركبت، ثم طلبتها، فلم أجدها، ولا علمت أين وضعتها، إلا الساعة، فذكرتها بحديثك.
قلت: فالدنانير مع غلامي.
قال: خذها، بارك الله لك فيها، وأبرأت ذمتك منها.
أصلح بين متخاصمين بدرهم فوهب الله له درة بمائة وعشرين ألفاً

قال: وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، بإسناد، قال: حدث حمد بن إبراهيم بن عمر البرقي، قال: حدثنا العباس بن محمد البرقي، ل: حدثنا أبو زيد، عن الفضيل بن عياض، قال: حدثني رجل: أن رجلاً خرج بغزل، فباعه بدرهم ليشتري به دقيقاً، فمر على رجلين، كل واحد منهما آخذ برأس صاحبه.
فقال: ما هذا ؟ فقيل: يقتتلان في درهم، فأعطاهما ذلك الدرهم، وليس له شيء غيره.
فأتى إلى امرأته، فأخبرها بما جرى له، فجمعت له أشياء من البيت، فذهب ليبيعها، فكسدت عليه، فمر على رجل ومعه سمكة قد أروحت.
فقال له: إن معك شيئاً قد كسد، ومعي شيء قد كسد، فهل لك أن تبيعني هذا بهذا ؟ فباعه.
وجاء الرجل بالسمكة إلى البيت، وقال لزوجته: قومي فأصلحي أمر هذه السمكة، فقد هلكنا من الجوع.
فقامت المرأة تصلحها، فشقت جوف السمكة، فإذا هي بلؤلؤة، قد خرجت من جوفها.
فقالت المرأة: يا سيدي، قد خرج من جوف السمكة شيء أصغر من بيض الدجاج، وهو يقارب بيض الحمام.
فقال: أريني، فنظر إلى شيء ما رأى في عمره مثله، فطار عقله، وحارلبه.
فقال لزوجته: هذه أظنها لؤلؤة.
فقالت: أتعرف قدر اللؤلؤة.
قال: لا، ولكني أعرف من يعرف ذلك، ثم أخذها، وانطلق بها إلى أصحاب اللؤلؤ، إلى صديق له جوهري، فسلم عليه، فرد عليه السلام، وجلس إلى جانبه يتحدث، وأخرج تلك البيضة.
وقال: أنظر كم قيمة هذه ؟ قال: فنظر زماناً طويلاً، ثم قال: لك بها علي أربعون ألفاً، فإن شئت أقبضتك المال الساعة، وإن طلبت الزيادة، فاذهب بها إلى فلان، فإنه أثمن بها لك مني.
فذهب بها إليه، فنظر إليها واستحسنها، وقال: لك بها علي ثمانون ألفاً، وإن شئت الزيادة، فاذهب بها إلى فلان، فإني أراه أثمن بها لك مني.
فذهب بها إليه، فقال: لك بها علي مائة وعشرون ألفاً، ولا أرى أحداً يزيدك فوق ذلك شيئاً.
فقال: نعم، فوزن له المال، فحمل الرجل في ذلك اليوم أثنتي عشرة بدرة، في كل بدرة عشرة آلاف درهم، فذهب بها إلى منزله، ليضعها فيه، فإذا فقير واقف بالباب، يسأل.
فقال: هذه قصتي التي كنت عليها، أدخل، فدخل الرجل.
فقال: خذ نصف هذا المال، فأخذ الرجل الفقير، ست بدر، فحملها، ثم تباعد غير بعيد، ورجع إليه.
وقال: ما أنا بمسكين، ولا فقير، وإنما أرسلني إليك ربك عز وجل، الذي أعطاك بالدرهم عشرين قيراطاً، فهذا الذي أعطاك، قيراط منه، وذخر لك تسعة عشر قيراطاً.

يحيى البرمكي يتحدث عن عارفة في عنقه ليعقوب بن داود

وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، قال: روي أن خالد بن برمك، قال لابنه يحيى، في إضاقة نالته: قد ترى ما نحن فيه، فلو لقيت يعقوب بن داود، وشكوت إليه ما نحن فيه.
فأتى يعقوب بن داود، فذكر له ذلك، فسكت عنه، فانصرف يحيى، وهو مكروب، آيس من خيره، فأخبره أباه.
فقال: افتضحنا، فياليت أنا لم نكن كشفنا له خبرنا.
قال: فركب يحيى بن خالد من غد، فلقيه بعض إخوانه، فقال: ما زال يعقوب بن داود يطلبك طلباً شديداً، فمضى إليه.
فقال له يعقوب: أين كنت ؟ والله، إنك أوردت على قلبي ما شغله بالفكر في إصلاحه، وقد عن لي أمر رجوت به صلاح حالك، إمض بنا إلى الديوان، فسار معه إليه.
فقال يعقوب: علي بتجار السواد، فأحضروا.
فقال: أشركوا أبا علي معكم بالثلث فيما تبتاعونه من غلة السلطان، ففعلوا.
فقال: لعل ذلك يشق عليكم ؟ فقالوا: أجل.
فقال: أخرجوه، بربح تجعلونه له.
فأخرجوه بربح ستين ألف دينار، فصلحت حاله، وحال أبيه، ومضى إليه بالمال.
من يفعل الخير لا يعدم جوازيهوذكر محمد بن عبدوس، في كتاب الوزراء، هذا الخبر بخلاف هذا، فقال: حكى يحيى بن خاقان، قال: كنت يوماً عند يحيى بن خالد، وبحضرته ابنه الفضل، إذ دخل عليه أحمد بن يزيد، المعروف بابن أبي خالد، فسلم وخرج.
فقال يحيى للفضل: في أمر هذا الرجل، خبر، فإذا فرغنا من شغلنا فأذكرني به، حتى أعرفك، فلما فرغ من عمله، أذكره.
فقال: نعم، كانت العطلة، قد بلغت مني، ومن أبي، وتوالت المحن علينا، حتى لم نهتد إلى ما ننفقه.
فلبست ثيابي يوماً، لأركب، فقال لي أهلي: إن هؤلاء الصبيان باتوا البارحة بأسوء حال، وأنا ما زلت أعللهم بما لا علالة فيه، وأصبحت، وما لهم شيء، وما لدابتك علف.

فقرعت قلبي، وقطعتني عن الحركة، ورميت بفكري، فلم يقع إلا على منديل طبري، كان بعض البزازين أهداه إلي.
فقلت: ما فعل المنديل الطبري ؟ فقالت: ها هو.
فأخرجته إلى الغلام وقلت له: اخرج إلى الشارع، فبع هذا المنديل، فمضى، وعاد من ساعته، فقال: خرجت إلى البقال الذي يعاملنا، وعنده رجل، فأعطاني بالمنديل إثني عشر درهماً صحاحاً، وقد بعته بشرط، فإن أمضيت البيع، وإلا أخرجت المنديل إلى سوق قنطرة البردان، واستقصيت فيه، كما تحب.
فأمرته بإمضاء البيع للحال التي خبرتني بها المرأة، وأن يشتري ما يحتاج إليه الصبيان، وعلفاً للدابة، وركبت، لا أدري إلى أين أقصد.
فأنا في الشارع، وإذا أنا بأبي خالد، والد هذا، ومعه موكب عظيم ضخم، وهو يومئذ يكتب لأبي عبيد الله، كاتب المهدي، فملت إليه، ورميت نفسي عليه.
وقلت له: قد تناهت العطلة بأخيك، وبي، إلى ما لا نهاية وراءه، وعلي، وعلي، إن لم تكن قصتي في يومي هذا، كيت وكيت، وقصصت عليه الخبر، وهو مستمع لذلك، ماض في سيره، فلما بلغ مقصده، انصرفت عنه، ولم يقل لي حرفاً.
فانصرفت منكسف البال، منكراً على نفسي إسرافي في الشكوى، وإطلاعي إياه على ما أطلعته عليه.
وقلت: ما زدت على أن فضحت نفسي، وقللتها في عينه من غير نفع.
ووافيت منزلي على حال أنكرتها أهلي، فسألتني.
فقلت: جنيت اليوم على نفسي جناية كنت عنها غنياً، وقصصت عليها قصتي مع يزيد.
فأقبلت توبخني، وقالت: ما حملك على أن أظهرت للرجل حالك ؟ فإن أقل ما في ذلك، أن لا يأتمنك على أمر، فإن من تناهت به الحال إلى ما ذكرت، كان غير مؤتمن، فنالني من توبيخها، أضعاف ما نالني أولاً.
وأصبحنا في اليوم الثاني، فوجهت بأحد ثوبي، فبيع، وتبلغنا بثمنه وأصبحنا في اليوم الثالث، ونحن في غاية الضيقة، فطوينا يومنا وليلتنا.
فلما كان اليوم الرابع، ضاقت نفسي، وقل صبري، وضعفت قوتي، واخترت الموت على الحالة التي أنا فيها.
فقالت لي أهلي: أنا خائفة عليك من الوسواس، فيكون ما نحتاج لعلاجك، أضعاف ما نحتاج لمؤونتنا، فسهل الأمر عليك، ولا تضجر، ولا تقنط من رحمة الله، فإن الله عز وجل، الصانع، المدبر، الحكيم.
قال: فركبت، لا أدري أين أقصد، فلما صرت إلى قنطرة البردان، لقيني رسول أبي خالد يطلبني، فدخلت داره.
فقال لي حاجبه: اجلس، فأقمت، وخرج مع الزوال، فدنوت منه.
فقال: يا ابن أخي، شكوت إلي بالأمس، شكوى، لم يكن في جوابها إلا الفعل، وأمر بإحضار حميد، وداهر، تاجرين كانا يبيعان الطعام.
فقال لهما: قد علمتما أني إنما بعتكما البارحة، ثلاثين ألف كر، على أن ابن أخي هذا شريككما فيها بالسعر.
ثم قال: لك في هذه عشرة آلاف كر بالسعر، فإن دفعا إليك ثلاثين ألف دينار ربحك، وآثرت أن تخرج إليهما من حصتك، فعلت، وإن آثرت أن تقيم على ابتياعك، فعلت.
قال: فتنحينا ناحية، وقالا: إنك رجل شريف، وابن شريف، وليست التجارة من شأنك، ومتى أقمت على ألابتياع، احتجت إلى كفاة وأعوان، ولكن خذ منا ثلاثين ألف دينار، وخلنا والطعام.
فقلت: قد فعلت، وقمت إلى أبي خالد، فقلت: قد أجبتهما إلى أخذ المال، وتركهما والطعام.
فقال: هذا أروح لك، فخذ المال، وتبلغ به، والزمنا، فإنا لا نقصر في أمرك بكل ما يمكننا.
فأخذت من الرجلين ثلاثين ألف دينار، وما كان بين ذلك، وبين بيع المنديل والثوب، إلا أربعة أيام.
فسرت إلى أبي، وخبرته الخبر، وقلت له: جعلت فداك تأمر في المال بأمرك ؟ فقال: نعم، أحكم عليك فيه، بمثل ما حكم أبو خالد به على التاجرين، أي أن الثلث لي.
فحملت إليه عشرة آلاف دينار، واشتريت بعشرة آلاف دينار ضيعة، ولم أزل أنفق الباقي، إلى أن أداني ذلك إلى هذه الحال، وإنما حدثتك بهذا، لتعرف - يا بني - للرجل حقه.
فقلت ليحيى بن خاقان: فما الذي كان من يحيى بن خالد إلى أحمد بن أبي خالد ؟ قال: ما زال هو وولده، على نهاية البر به، حتى نال ما نال من الوزارة، بذلك الأساس الذي أسساه.
وقرئ على أبي بكر الصولي، بالبصرة، سنة خمس وثلاثين وثلثمائة، بإسناد، وأنا حاضر، في كتابه كتاب الوزراء حدثكم عون بن محمد الكندي، عن إبراهيم بن الحسن بن سهل، قال: سمعت أهلي يتحدثون:

أن يحيى بن خالد البرمكي، قال: نالتني خلة في أيام المهدي، فجئت إلى يزيد الأحول، أبي خالد، وكان يكتب لأبي عبيد الله، فأبثثته حالي، فما أجابني، ولا أقبل علي، فتأخرت نادماً، ثم جاءني رسوله من الغد، فصرت إليه.
فقال لي: إنك شكوت إلي شكوى لم يكن جوابها الكلام والتوجع، وقد بعت جماعة من التجار، ث

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق