الاثنين، 1 أغسطس 2022

مجلد5. و6. زاد المعاد في هدي خير العباد المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى : 751هـ)

 

5.  زاد المعاد في هدي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى : 751هـ)

وأما الأمر الشرعىُّ: فإيجابُ الضمان على الطبيب الجاهل، فإذا تعاطى عِلمَ الطِّب وعمله، ولم يتقدم له به معرفة، فقد هَجم بجهله على إتلافِ الأنفس، وأقْدَم بالتهوُّر على ما لم يعلمه، فيكون قد غَرَّرَ بالعليل، فيلزمه الضمانُ لذلك، وهذا إجماع من أهل العلم.
قال الخطَّابىُّ: لا أعلم خلافاً فى أن المعالِج إذا تعدَّى، فتَلِفَ المريضُ كان ضامناً، والمتعاطى علماً أو عملاً لا يعرفه متعد، فإذا تولَّد من فعله التلف ضمن الدية، وسقط عنه القَودُ، لأنه لا يستبِدُّ بذلك بدون إذن المريض وجنايةُ المُتطبب فى قول عامة الفقهاء على عاقِلَتِه.
قلت: الأقسام خمسة
أحدها: طبيب حاذق أعطى الصنعةَ حقَّها ولم تجن يده، فتولَّد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع، ومن جهة مَن يطبُّه تلفُ العضو أو النفس، أو ذهابُ صفةٍ، فهذا لا ضمان عليه اتفاقاً، فإنها سِراية مأذونٍ فيه، وهذا كما إذا خَتَنَ الصبىَّ فى وقت، وسِنٍّه قابل للختان، وأعطى الصنعةَ حقَّها، فَتَلِفَ العضو أو الصبىُّ، لم يضمن، وكذلك إذا بَطَّ مِن عاقل أو غيرِه ما ينبغى بطُّه فى وقته على الوجه الذى ينبغى فَتَلِفَ به، لم يضمن، وهكذا سِراية كُلِّ مأذون فيه لم يتعدَّ الفاعل فى سببها، كسِراية الحدِّ بالاتفاق. وسِرايةِ القِصاص عند الجمهور خلافاً لأبى حنيفة فى إيجابه الضمان بها، وسِراية التعزير، وضربِ الرجل امرأته، والمُعلِّم الصبىَّ، والمستأجر الدابة، خلافاً لأبى حنيفة والشافعى فى إيجابهما الضمانَ فى ذلك، واستثنى الشافعى ضَرْبَ الدابة. وقاعدةُ الباب إجماعاً ونزاعاً: أنَّ سِراية الجناية مضمونةٌ بالاتفاق، وسِراية الواجب مُهْدَرةٌ بالاتفاق، وما بينهما ففيه النزاع. فأبو حنيفة أوجب ضمانَه مطلقاً، وأحمد ومالكٌ أهدرا ضمانه، وفرَّقَ الشافعىُّ بين

المقدَّر، فأهدر ضمانه، وبين غيرِ المُقَدَّر فأوجبَ ضمانه. فأبو حنيفة نظر إلى أن الإذن فى الفعل إنما وقع مشروطاً بالسلامة، وأحمد ومالك نظرا إلى أنَّ الإذن أسقط الضمانَ، والشافعىُّ نظر إلى أنَّ المُقَدَّر لا يمكن النقصان منه، فهو بمنزلة النص، وأما غيرُ المُقَدَّر كالتَّعزيرات، والتأديبات فاجتهاديةٌ، فإذا تَلِفَ بها، ضمن، لأنه فى مَظِنَّة العُدوان.
فصل
القسمُ الثانى: متطبِّبٌ جاهِلٍ باشرت يدُه مَن يَطُبُّه، فتَلِفَ به، فهذا إن علم المجنىُّ عليه أنه جاهل لا عِلْمَ له، وأَذِنَ له فى طِبه لم يضمن، ولا تُخالف هذه الصورة ظاهرَ الحديث، فإنَّ السِّياق وقوة الكلام يدلُّ على أنه غرَّ العليل، وأوهمه أنه طبيب، وليس كذلك، وإن ظنَّ المريضُ أنه طبيب، وأذن له فى طِبه لأجل معرفته، ضَمِنَ الطبيبُ ما جنت يده، وكذلك إن وصف له دواء يستعملُه، والعليلُ يظن أنه وصفه لمعرفته وحِذْقه فتَلِفَ به، ضمنه، والحديثُ ظاهر فيه أو صريح.
فصل
القسم الثالث: طبيبٌ حاذِق، أُذن له، وأعطى الصَّنعة حقها، لكنه أخطأت يدُه، وتعدَّت إلى عضو صحيح فأتلفه، مِثل: أن سبقت يدُ الخاتن إلى الكَمَرَةِ، فهذا يضمَنُ، لأنها جِنَايةُ خطإٍ، ثم إن كانت الثُّلُث فما زاد، فهو على عاقِلَتِه، فإن لم تكن عاقلةٌ، فهل تكون الدِّيَة فى ماله، أو فى بيت المال ؟ على قوليْن، هما روايتان عن أحمد. وقيل: إن كان الطبيب ذِمِّيا،

ففى ماله؛ وإن كان مسلماً، ففيه الروايتان، فإن لم يكن بيتُ المال، أو تعذَّر تحميلُه، فهل تسقط الدِّيَة، أو تجب فى مال الجانى ؟ فيه وجهان أشهرهما: سقوطها.
فصل
القسم الرابع: الطبيبُ الحاذِق الماهر بصناعته، اجتهد فوصف للمريض دواءً، فأخطأ فى اجتهاده، فقتله، فهذا يُخرَّج على روايتين؛ إحداهما: أنَّ دِيةَ المريض فى بيت المال. والثانية: أنها على عاقلة الطبيب، وقد نص عليهما الإمامُ أحمد فى خطإ الإمام والحاكم.
فصل
القسم الخامس: طبيبٌ حاذق، أعطى الصنعةَ حقها، فقطع سِلْعَةً من رجل أو صبى، أو مجنون بغير إذنه، أو إذن وَليِّه، أو خَتَنَ صبياً بغير إذن وَليِّه فَتَلِفَ، فقال أصحابُنا: يضمن، لأنه تولَّد من فعلٍ غير مأذون فيه، وإن أذن له البالغ، أو وَلِىُّ الصبى والمجنون، لم يضمن، ويحتمِلُ أنْ لا يضمَن مطلقاً لأنه محسنٌ، وما على المُحسنين من سبيلٍ. وأيضاً فإنه إن كان متعدِّياً، فلا أثر لإذن الولىّ فى إسقاطِ الضمان، وإن لم يكن متعدِّياً، فلا وجه لضمانه.
فإن قلتَ: هو متعدٍّ عند عدم الإذن، غير متعدٍّ عند الإذن.
قلتُ: العُدوان وعدمه إنما يرجع إلى فعله هو، فلا أثر للإذن وعدمه فيه، وهذا موضع نظر.

فصل
والطبيبُ فى هذا الحديث يتناول مَن يطب بوصفه وقوله، وهو الذى يُخَصُّ باسم الطَّبائعى، وبمرْوَدِهِ وهو الكحَّال، وبِمبضَعه ومراهِمه وهو الجرائحىُّ، وبمُوساه وهو الخاتِن، وبريشته وهو الفاصد، وبمَحاجمه ومِشْرَطِه وهو الحجَّام، وبخَلْعِه ووَصْله ورِباطه وهو المجبِّر، وبمكواته وناره وهو الكوَّاء، وبقِربته وهو الحاقن.
وسواء أكان طبه لحيوان بهيمٍ، أو إنسان، فاسمُ الطبيب يُطلق لغةً على هؤلاء كلهم، كما تقدَّم، وتخصيصُ الناس له ببعض أنواع الأطباء عُرْفٌ حادث، كتخصيص لفظ الدابة بما يخصُّها به كُلُّ قوم.
فصل
والطبيب الحاذق: هو الذى يراعى فى علاجه عشرين أمراً:
أحدها: النظر فى نوع المرض من أى الأمراض هو ؟
الثانى: النظر فى سببه من أى شىء حدث، والعِلَّةُ الفاعلةُ التى كانت سببَ حدوثه ما هى ؟
الثالث: قوة المريض، وهل هى مقاومة للمرض، أو أضعفُ منه ؟ فإن كانت مقاومةً للمرض، مستظهرة عليه، تركها والمرض، ولم يُحَرِّكْ بالدواء ساكناً.
الرابع: مزاج البدن الطبيعى ما هو ؟
الخامس: المزاجُ الحادث على غير المجرى الطبيعى.

السادس: سِنُّ المريض.
السابع: عادته.
الثامن: الوقت الحاضر من فصول السنة وما يليق به.
التاسع: بلدُ المريض وتُربتُه.
العاشر: حال الهواء فى وقت المرض.
الحادى عشر: النظر فى الدواء المضاد لتلك العِلَّة.
الثانى عشر: النظر فى قوة الدواء ودرجته، والموازنة بينها وبين قوة المريض.
الثالث عشر: ألا يكون كلُّ قصده إزالة تلك العِلَّة فقط، بل إزالتُها على وجهٍ يأمن معه حدوث أصعبَ منها، فمتى كان إزالتها لا يأمن معها حدوث عِلَّةٍ أُخرى أصعبَ منها، أبقاها على حالها، وتلطيفها هو الواجب، وهذا كمرض أفواه العروق، فإنه متى عُولج بقطعه وحبسه خِيف حدوث ما هو أصعبُ منه.
الرابع عشر: أن يُعالِج بالأسهل فالأسهل، فلا يَنتقِلُ من العلاج بالغذاء إلى الدواء إلا عند تعذُّرِه، ولا ينتقِلُ إلى الدواء المركَّب إلا عند تعذرِ الدواء البسيط، فمن حذق الطبيب علاجُه بالأغذية بدل الأدوية، وبالأدوية البسيطة بدل المركَّبة.
الخامس عشر: أن ينظر فى العِلَّة، هل هى مما يمكن علاجُها أو لا ؟ فإن لم يُمكن علاجُها، حفظ صِناعته وحُرمتَه، ولا يحمِلُه الطمع على علاج لا يفيد شيئاً. وإن أمكن علاجها، نظر هل يمكن زوالُها أم لا ؟ فإن علم أنه لا يمكن زوالُها، نظر هل يمكن تخفيفُها وتقليلُها أم لا ؟ فإن لم يمكن

تقليلُها، ورأى أنَّ غاية الإمكان إيقافُها وقطعُ زيادتها، قصد بالعلاج ذلك، وأعان القوة، وأضعف المادة
السادس عشر: ألا يتعرَّض للخلط قبل نُضجه باستفراغ، بل يقصد إنضاجه، فإذا تمَّ نضجُه، بادر إلى استفراغه.
السابع عشر: أن يكون له خِبْرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها، وذلك أصل عظيم فى علاج الأبدان، فإنَّ انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمرٌ مشهود، والطبيب إذا كان عارفاً بأمراض القلب والروح وعلاجهما، كان هو الطبيبَ الكاملَ، والذى لا خِبْرة له بذلك وإن كان حاذقاً فى علاج الطبيعة وأحوالِ البدن نصفُ طبيب. وكلُّ طبيب لا يداوى العليل، بتفقُّد قلبه وصلاحه، وتقويةِ روحه وقُواه بالصدقة، وفعل الخير، والإحسان، والإقبال على الله والدار الآخرة، فليس بطبيب، بل متطبِّبٌ قاصر. ومن أعظم علاجات المرض فعلُ الخير والإحسان والذِّكر والدعاء، والتضرع والابتهال إلى الله، والتوبة، ولهذه الأُمور تأثيرٌ فى دفع العلل، وحصول الشفاء أعظمُ من الأدوية الطبيعية، ولكن بحسب استعداد النفس وقبولِها وعقيدتِها فى ذلك ونفعه.
الثامن عشر: التلطفُ بالمريض، والرِّفق به، كالتلطُّف بالصبى.
التاسع عشر: أن يستعمل أنواع العِلاجات الطبيعية والإلهية، والعلاج بالتخييل، فإنَّ لِحذَّاق الأطباء فى التخييل أُموراً عجيبة لا يصل إليها الدواء، فالطبيب الحاذق يستعين على المرض بكل مُعين.
العشرون: وهو مِلاك أمر الطبيب أن يجعل علاجَه وتدبيرَه دائراً على سِتَّة أركان: حفظ الصحة الموجودة، وردِّ الصحة المفقودة بحسب الإمكان، وإزالة العِلَّة أو تقليلها بحسب الإمكان، واحتمالُ أدنى

المفسدتَيْن لإزالة أعظمهما، وتفويتُ أدنى المصلحتَيْن لتحصيل أعظمهما، فعلى هذه الأُصول السِّتَّة مدارُ العلاج، وكلُّ طبيب لا تكون هذه أخِيَّته التى يرجع إليها، فليس بطبيب.. والله أعلم.
فصل
ولما كان للمرض أربعةُ أحوال: ابتداءٌ، وصُعودٌ، وانتهاءٌ، وانحطاطٌ؛ تعيَّن على الطبيب مراعاةُ كل حال من أحوال المرض بما يُناسبها ويليق بها، ويستعمِلُ فى كل حال ما يجبُ استعمالُه فيها. فإذا رأى فى ابتداء المرض أنَّ الطبيعة محتاجة إلى ما يُحَرِّك الفضلات ويستفرِغُها لنضجها، بادر إليه، فإن فاته تحريك الطبيعة فى ابتداء المرض لعائق منع من ذلك، أو لضعف القوة وعدم احتمالها للاستفراغ، أو لبرودة الفصل، أو لتفريط وقع، فينبغى أن يَحْذَرَ كل الحَذرِ أن يفعل ذلك فى صعود المرض، لأنه إن فعله، تحيَّرت الطبيعة لاشتغالها بالدواء، وتخلَّت عن تدبير المرض ومقاومته بالكلية، ومثاله: أن يجىءَ إلى فارس مشغول بمواقعة عدوه، فيشغله عنه بأمر آخر، ولكن الواجب فى هذه الحال أن يُعين الطبيعة على حفظ القوة ما أمكنه.
فإذا انتهى المرض ووقف وسكن، أخذ فى استفراغه، واستئصال أسبابه، فإذا أخذ فى الانحطاط، كان أولى بذلك. ومثالُُ هذا مثال العدو إذا انتهت قُوَّته، وفرغ سِلاحُه، كان أخذُه سهلاً، فإذا ولَّى وأخذ فى الهرب، كان أسهلَ أخذاً، وحِدَّته وشَوْكتُه إنما هى فى ابتدائه،

وحال استفراغه، وسعة قُوَّته، فهكذا الداء والدواء سواء.
فصل
وَمِن حِذق الطبيب أنه حيث أمكن التدبير بالأسهل، فلا يَعْدِلُ إلى الأصعب، ويتدَّرج من الأضعف إلى الأقوى إلا أن يخاف فَوتَ القُوَّة حينئذ، فَيجبُ أن يبتدىء بالأقوى، ولا يُقيم فى المعالجة على حال واحدة فتألفُها الطبيعة، ويَقِلُّ انفعالُها عنه، ولا تَجْسُر على الأدوية القوية فى الفصول القوية، وقد تقدَّم أنه إذا أمكنه العِلاجُ بالغذاء، فلا يُعالِج بالدواء، وإذا أشكل عليه المرضُ أحارٌ هو أم بارد ؟ فلا يقدم حتى يتبيَّن له، ولا يُجرِّبه بما يخاف عاقبته، ولا بأس بتجرِبته بما لا يضرُّ أثرُه.
وإذا اجتمعت أمراض، بدأ بما تخصه واحدة من ثلاث خصال:
إحداها: أن يكون بُرء الآخر موقوفاً على بُرئه كالورم والقُرحة، فإنه يبدأ بالورم.
الثانية: أن يكون أحدهُما سبباً للآخر، كالسَّدة والحُمَّى العَفِنة، فإنه يبدأ بإزالة السبب.
الثالثة: أن يكون أحدهما أهمَ من الآخر، كالحاد والمزمن، فيبدأ بالحاد. ومع هذا فلا يغفُلُ عن الآخر. وإذا اجتمع المرض والعَرَض، بدأ بالمرض، إلا أن يكون العَرَضُ أقوى كالقُولنج، فيُسكن الوجع أولاً، ثم يُعالج السَّدة. وإذا أمكنه أن يعتاضَ عن المعالجة بالاستفراغ بالجوع أو الصوم أو النوم، لم يستفرغه، وكُلّ صحة أراد حفظها، حفظها بالمثل أو الشبه، وإن أراد نقلها إلى ما هو أفضلُ منها، نقلها بالضد.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى التحرز من الأدواء المعدية بطبعها، وإرشاده الأصحاءَ إلى مجانبة أهلها
ثبت فى "صحيح مسلم" من حديث جابر بن عبد الله، أنه كان فى وَفْد ثَقِيف رجلٌ مجذومٌ، فأرسل إليه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ارْجِعْ فَقَدْ بايَعْنَاكَ".
وروى البخارى فى "صحيحه" تعليقاً مِن حديث أبى هريرة، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأسَدِ".
وفى "سنن ابن ماجه" من حديث ابن عباس، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تُدِيمُوا النَّظَرَ إلى الْمَجْذُومِين ".
وفى "الصحيحين" من حديث أبى هُريرة، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ".

ويُذكر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَلِّمْ الْمَجْذُومَ، وَبَيْنَك وَبَيْنَهُ قِيدُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ ".
الجُذَام: عِلَّة رديئة تحدثُ من انتشار المِرَّةِ السَّوداء فى البدن كُلِّه، فيفسُد مِزاجُ الأعضاء وهيئتُها وشكلُها، ورُبما فسد فى آخره اتصالُها حتى تتأكَّلَ الأعضاء وتسقط، ويُسمى داءَ الأسد.
وفى هذه التسمية ثلاثةُ أقوال للأطباء؛ أحدها: أنها لِكثرة ما تعترى الأسد. والثانى: لأنَّ هذه العِلَّة تُجهِّم وجهَ صاحبها وتجعلُه فى سُحنةَ الأسد. والثالث: أنه يفترِسُ مَن يقرُبه، أو يدنو منه بدائه افتراسَ الأسد.
وهذه العِلَّة عند الأطباء من العلل المُعدية المتوارثة، ومقارِبُ المجذوم، وصاحبِ السِّل يَسْقَمُ برائحته، فالنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكمال شفقته على الأُمة، ونُصحه لهم نهاهم عن الأسباب التى تُعرِّضهم لوصول العيب والفساد إلى أجسامهم وقلوبهم، ولا ريب أنه قد يكون فى البدن تهيُّؤ واستعداد كامن لقبول هذا الداء، وقد تكون الطبيعةُ سريعة الانفعال قابلةً للاكتساب من أبدان مَن تُجاوِرُه وتُخالطه، فإنها نقَّالة، وقد يكون خوفُها من ذلك ووهمهُا مِن أكبر أسباب إصابة تلك العِلَّة لها، فإنَّ الوهم فعَّال مستَوْلٍ على القُوَى والطبائع، وقد تَصِلُ رائحة العليل إلى الصحيح فتُسقمه، وهذا

معايَن فى بعض الأمراض، والرائحةُ أحدُ أسباب العدوى، ومع هذا كله فلا بد من وجود استعدادِ البدن وقبوله لذلك الداء، وقد تزوَّج النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأةً، فلما أراد الدخولَ بها، وجَد بكَشْحها بياضاً، فقال: "الْحَقِى بأهْلِكِ".
وقد ظنَّ طائفة مِن الناس أنَّ هذه الأحاديث معارَضةٌ بأحاديثَ أُخَر تُبطلها وتُناقضها، فمنها: ما رواه الترمذى، من حديث عبد الله بن عمر (ان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيَدِ رجُلٍ مجذومٍ، فأدخلها معه فى القَصْعَةِ، وقال: "كُلْ باسم الله، ثِقَةً بالله، وتوكُّلاً عليه" ، ورواه ابن ماجه.
وبما ثبت فى "الصحيح"، عن أبى هُريرة، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا عَدوَى ولا طِّيَرَة".
ونحن نقول: لا تعارُض بحمد الله بين أحاديثه الصحيحة. فإذا وقع التعارضُ، فإما أن يكون أحدُ الحديثين ليس مِن كلامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد غَلِطَ فيه بعضُ الرواة مع كونه ثقةً ثَبتاً، فالثقةُ يَغْلَطُ، أو يكونُ أحدُ الحديثين ناسخاً للآخر إذا كان مما يَقْبَلُ النسخ، أو يكونُ التعارضُ فى فهم السامع، لا فى فى نفس كلامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بُدَّ مِن وجه من هذه الوجوه الثلاثة. وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان مِن كل وجه، ليس أحدُهما ناسخاً للآخر، فهذا لا يُوجد أصلاً، ومعاذَ اللهِ أن يُوجَدَ فى كلام الصادق المصدوق الذى لا يخرج من بين شفتيه إلا الحقُّ، والآفةُ مِن التقصير فى

معرفة المنقول، والتمييز بين صحيحه ومعلوله، أو من القُصور فى فهم مُراده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحمل كلامه على غير ما عناه به، أو منهما معاً. ومن ههنا وقع من الاختلاف والفساد ما وقع.. وبالله التوفيق.
قال ابن قتيبة فى كتاب "اختلاف الحديث" له حكايةً عن أعداء الحديث وأهله: قالوا: حديثان متناقضان رويتُم عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا عَدوَى ولا طِّيَرَة". وقيل له: إنَّ النُّقْبَةَ تقع بمِشْفَرِ البَعيرِ، فيجرَبُ لذلك الإبلُ،
قال: "فما أعدَى الأولَ" ؟، ثم رويتُم: " لا يُوردُ ذو عاهة على مُصِحٍّ" و"وفِرَّ من المجذومِ فِرارَك من الأسَدِ" ، وأتاه رجل مجذوم ليُبايَعه بَيْعة الإسلام، فأرسل إليه البَيْعةَ، وأمَره بالانصراف، ولم يأذن له، وقال: "الشُّؤمُ فى المرأة والدارِ والدَّابةِ".. قالوا: وهذا كُلُّه مختلِفٌ لا يُشبه بعضُه بعضاً.

قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه ليس فى هذا اختلافٌ، ولكل معنى منها وقتٌ وموضع، فإذا وُضِع موضعَه زال الاختلاف
والعدوى جنسان ؛ أحدهما: عدوى الجُذام، فإنَّ المجذوم تشتدُّ رائحتُه حتى يُسْقِمُ مَن أطال مجالسته ومحادثته، وكذلك المرأةُ تكونُ تحتَ المجذوم، فتُضاجِعُه فى شِعارَ واحد، فيُوصِل إليها الأذى، وربما جُذِمَتْ، وكذلك ولدُه يَنزِعُون فى الكِبر إليه، وكذلك مَن كان به سِلٌ ودِقٌ ونُقْبٌ. والأطباء تأمر ألا يُجالَس المسلول ولا المجذُوم، ولا يُريدون بذلك معنى العدوى، وإنما يُريدون به معنى تغيُّرِ الرائحة، وأنها قد تُسْقِمْ مَن أطال اشتمامَها، والأطباء أبعدُ الناس عن الإيمان بيُمن وشُؤم، وكذلك النُّقْبةُ تكون بالبعير وهو جَرَبٌ رَطبٌ فإذا خالط الإبلَ أو حاكَّها، وأوَى فى مَباركها، وصل إليها بالماء الذى يَسيل منه، وبالنَّطف نحو ما به، فهذا هو المعنى الذى قال فيه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُورَدُ ذو عاهة على مُصِح"، كَرِهَ أن يُخالط المَعْيُوه الصحيحَ، لئلا ينالَه مِن نَطَفه وحِكَّته نحو مما به.
قال: وأما الجنسُ الآخرُ من العدوى، فهو الطاعونُ ينزلُ ببلد، فيخرُج منه خوفَ العدوى، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا وقَعَ بِبَلَدٍ وأنْتُم به، فلا تَخْرُجُوا مِنْه، وإذا كان بِبَلَدٍ، فلا تَدْخُلُوه ". يريد بقوله: لا تَخْرُجُوا مِن البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أنَّ الفِرارَ مِن قَدَر الله يُنجيكم من الله، ويُريد بقوله:
"وإذا كان ببلد فلا تدخلوه "، أى: مُقامُكم فى الموضع الذى لا طاعون فيه أسْكنُ لقلوبكم، وأطيبُ لعيشكم، ومن ذلك المرأةُ تُعرف بالشؤم أو الدارُ، فينال الرجلَ مكروةٌ أو جائحةٌ، فيقول: أعدتْنى بشؤمها، فهذا هو العدوى الذى قال فيه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا عَدْوَى".
وقالت فِرْقة أُخرى: بل الأمرُ باجتنابِ المجذوم والفِرار منه على

الاستحباب، والاختيار، والإرشاد. وأما الأكل معه، ففَعلُه لبيانِ الجواز، وأنَّ هذا ليس بحرام.
وقالت فِرْقة أُخرى: بل الخطابُ بهذين الخطابين جزئى لا كلى. فكلُّ واحد خاطبه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يليق بحاله، فبعضُ الناس يكون قوىَّ الإيمان، قوىَّ التوكل تدفع قوةُ توكله قُوَّةَ العدوى، كما تدفع قوةُ الطبيعة قوةَ العِلَّة فتُبطلها، وبعضُ الناس لا يَقوى على ذلك، فخاطبه بالاحتياط والأخذ بالتحفظ، وكذلك هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعل الحالتين معاً، لتقتدى به الأُمة فيهما، فيأخذ مَن قَوى من أُمته بطريقة التوكل والقُوَّة والثقة بالله، ويأخذ مَن ضَعف منهم بطريقة التحفظ والاحتياط، وهما طريقان صحيحان. أحدهما: للمؤمن القوى، والآخر: للمؤمن الضعيف، فتكون لكل واحد من الطائفتين حُجَّةٌ وقُدوةٌ بحسب حالهم وما يناسبهم، وهذا كما أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوى، وأثنَى على تارِك الكىِّ، وقرن تركَه بالتوكل، وتَرَكَ الطِّيرة، ولهذا نظائرُ كثيرة، وهذه طريقة لطيفةٌ حسنة جداً مَن أعطاها حقَّها، ورُزِق فقْه نَفْسه فيها، أزالت عنه تعارضاً كثيراً يظنه بالسُّنَّةِ الصحيحة.
وذهبت فِرقة أُخرى إلى أنَّ الأمر بالفِرار منه، ومجانبتِه لأمر طبيعى، وهو انتقالُ الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة إلى الصحيح، وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة له، وأما أكلُه معه مقداراً يسيراً من الزمان لمصلحة راجحة، فلا بأس به، ولا تحصُل العدوى مِن مرَّةٍ واحدة ولحظة واحدة، فنَهى سداً للذريعة، وحِمايةً للصحة، وخالطه مخالطةً ما للحاجة والمصلحة، فلا تعارُضَ بين الأمرين.
وقالت طائفة أُخرى: يجوز أن يكونَ هذا المجذومُ الذى أكل معه به من الجُذام أمرٌ يسير لا يُعدى مثله، وليس الْجَذْمَى كُلُّهم سواءً، ولا

العدوى حاصلة من جميعهم، بل منهم مَن لا تضرُّ مخالطته، ولا تُعدى، وهو مَن أصابه من ذلك شىء يسير، ثم وقف واستمر على حاله، ولم يُعْدِ بقيةَ جسمه، فهو أن لا يعدِىَ غيره أولى وأحرى.
وقالت فِرقة أُخرى: إنَّ الجاهلية كانت تعتقد أنَّ الأمراض المعدية تُعدى بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه، فأبطل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتقادَهم ذلك، وأكل مع المجذوم ليُبَيِّنَ لهم أنَّ الله سبحانه هو الذى يُمرض ويَشفى، ونهى عن القُرب منه ليتبينَ لهم أنَّ هذا من الأسباب التى جعلها الله مُفضية إلى مسبباتها، ففى نهيه إثباتُ الأسباب، وفى فعله بيان أنها لا تستقِلُّ بشىء، بل الربُّ سبحانه إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثر شيئاً، وإن شاء أبقى عليها قُواها فأثَّرت.
وقالت فِرقة أُخرى: بل هذه الأحاديث فيها الناسخ والمنسوخ، فيُنظر فى تاريخها، فإن عُلِمَ المتأخر منها، حُكِمَ بأنه الناسخ، وإلا توقفنا فيها.
وقالت فِرقة أُخرى: بل بعضُها محفوظ، وبعضها غيرُ محفوظ، وتكلمت فى حديث: "لا عَدّوَى"، وقالت: قد كان أبو هريرة يرويه أوَّلاً، ثم شكَّ فيه فتركه، وراجعوه فيه، وقالوا: سمعناك تُحدِّث به، فأبى أن يُحدِّث به.
قال أبو سلمة: فلا أدرى، أنسىَ أبو هريرة، أم نَسخَ أحدُ الحديثين الآخَر ؟
وأما حديثُ جابر: أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيدِ مجذوم، فأدخلها معه فى القصعة، فحديثٌ لا يثبت ولا يَصِحُّ، وغاية ما قال فيه الترمذى: إنه غريب، لم يُصَحِّحْه ولم يُحَسِّنه. وقد قال شعبة وغيرُه: اتقوا هذه الغرائبَ. قال الترمذى: ويُروى هذا من فعل عمر، وهو أثبت، فهذا شأنُ هذين

الحديثين اللَّذين عُورض بهما أحاديثُ النهى، أحدهما: رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره، والثانى: لا يَصِحُّ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله أعلم، وقد أشبعنا الكلام فى هذه المسألة فى كتاب "المفتاح"، بأطولَ من هذا.. وبالله التوفيق.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المنع من التداوى بالمحرَّمات
روى أبو داود فى "سننه" من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاء، وَجَعَلَ لِكُلِّ داءٍ دواءً، فَتَدَاوَوْا، ولا تَدَاوَوْا بِالْمُحَرَّم".
وذكر البخارى فى "صحيحه" عن ابن مسعود: "إنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عليكم".

وفى "السنن" عن أبى هريرة، قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدَّوَاءِ الخَبِيثِ.
وفى "صحيح مسلم" عن طارق بن سُوَيد الجُعفىِّ، أنه سأل النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الخمر، فنهاه، أو كَرِهَ أن يصنَعَها، فقال: إنما أصنعُها للدواء، فقال: " إنَّه لَيْسَ بِدَوَاءٍ ولكنَّهُ دَاءٌ".
وفى "السنن" أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئل عن الخمر يُجْعَل فى الدَّواء، فقال: "إنَّهَا دَاءٌ ولَيسَتْ بِالدَّوَاءِ " رواه أبو داود، والترمذى.
وفى "صحيح مسلم" عن طارق بن سُويدٍ الحضرمى ؛ قال: قلت: يا رسول الله ؛ إنَّ بأرضنا أعناباً نَعتصِرُها فنشرب منها، قال: "لا". فراجعتُه، قلتُ: إنَّا نستشفى للمريض قال: "إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشِفَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ".
وفى "سنن النسائى" أنَّ طبيباً ذَكر ضِفْدَعاً فى دواءٍ عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنهاه عن قَتْلِها.

ويُذكر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "مَنْ تَدَاوَى بِالْخَمْرِ، فَلا شَفَاهُ اللهُ".
المعالجة بالمحرَّمات قبيحةٌ عقلاً وشرعاً، أمَّا الشرعُ فما ذكرْنا من هذه الأحاديثِ وغيرها. وأمَّا العقلُ، فهو أنَّ اللهَ سبحانه إنما حرَّمه لخُبثه، فإنه لم يُحَرِّم على هذه الأُمة طَيباً عقوبةً لها، كما حرَّمه على بنى إسرائيلَ بقوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}[النساء: 160]، وإنما حرَّم على هذه الأُمة ما حَرَّم لخبثه، وتحريمُه له حِمية لهم، وصيانة عن تناوله، فلا يُناسِبُ أن يُطلَبَ به الشِّفاءُ من الأسقام والعِلل، فإنه وإن أثَّر فى إزالتها، لكنه يُعْقِبُ سَقَماً أعظمَ منه فى القلب بقوة الخُبث الذى فيه، فيكون المُدَاوَى به قد سعى فى إزالة سُقْم البدن بسُقْم القلب.
وأيضاً فإنَّ تحريمه يقتضى تجنُّبه والبُعدَ عنه بكُلِّ طريق، وفى اتخاذه دواء حضٌ على الترغيب فيه وملابسته، وهذا ضِدُّ مقصود الشارع، وأيضاً فإنه داء كما نصَّ عليه صاحبُ الشريعة، فلا يجوز أن يُتخذ دواءً.
وأيضاً فإنه يُكْسِبُ الطبيعة والروح صفةَ الخبث، لأن الطبيعة تنفعِلُ عن كيفية الدواء انفعالاً بَيِّناً، فإذا كانت كيفيتُه خبيثةً، اكتسبت الطبيعةُ منه خُبثاً، فكيف إذا كان خبيثاً فى ذاته، ولهذا حرَّم الله سبحانه على عباده الأغذيةَ والأشربةَ والملابِسَ الخبيثة، لما تُكسب النفسَ من هيئة الخبث وصفته.
وأيضاً فإنَّ فى إباحة التداوى به، ولا سِيَّما إذا كانت النفوسُ تميل إليه ذريعةً إلى تناوله للشهوة واللَّذة، لا سِيَّما إذا عرفت النفوسُ أنه نافع لها مزيلٌ لأسقامِها جالبٌ لِشفائها، فهذا أحبُّ شىءٍ إليها، والشارعُ سدَّ الذريعة إلى تناوله

بكُلِّ ممكن، ولا ريبَ أنَّ بينَ سدِّ الذريعة إلى تناوله، وفَتْحِ الذريعة إلى تناوله تناقضاً وتعارضاً.
وأيضاً فإنَّ فى هذا الدواء المحرَّم من الأدواء ما يزيدُ على ما يُظَن فيه من الشِّفاء، ولنفرضْ الكلام فى أُمِّ الخبائث التى ما جعل الله لنا فيها شفاءً قَطُّ، فإنها شديدةُ المضرَّة بالدماغ الذى هو مركزُ العقل عند الأطباء، وكثير من الفقهاء والمتكلمين.
قال "أبقراط" فى أثناء كلامه فى الأمراض الحادة: ضرر الخمرة بالرأس شديد. لأنه يُسرع الارتفاع إليه. ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التى تعلو فى البدن، وهو لذلك يضر بالذهن.
وقال صاحب "الكامل": إنَّ خاصية الشَّراب الإضرارُ بالدماغ والعَصَب.
وأمَّا غيرُه من الأدوية المحرَّمة فنوعان:
أحدهما: تعافُه النفس ولا تنبعِثُ لمساعدته الطبيعةُ على دفع المرض به كالسموم، ولحوم الأفاعى وغيرها من المستقذرات، فيبقى كَلاً على الطبيعة مثقلاً لها، فيصير حينئذ داءً لا دواء.
والثانى: ما لا تَعافُه النفس كالشراب الذى تستعمِلُه الحوامل مثلاً، فهذا ضررُه أكثرُ من نفعه، والعقلُ يقضى بتحريم ذلك، فالعقلُ والفِطرةُ مطابقٌ للشرع فى ذلك.
وهاهنا سِرٌ لطيف فى كون المحرَّمات لا يُستشفَى بها، فإنَّ شرطَ الشفاء بالدواء تلقِّيه بالقبول، واعتقادُ منفعته، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء، فإنَّ النافعَ هو المبارَك، وأنفعُ الأشياءِ أبركُها، والمبارَكُ من الناس أينما كان هو الذى يُنتفَع به حيث حَلَّ، ومعلوم أنَّ اعتقاد المسلم تحريمَ هذه العَيْن مما يَحولُ بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها، وبين حُسن ظنه بها، وتلقِّى طبعه لها بالقبول، بل كلَّما كان العبدُ أعظمَ إيماناً، كان أكره لها

وأسوأ اعتقاداً فيها، وطبعُه أكره شىء لها، فإذا تناولها فى هذه الحال، كانت داءً له لا دواء إلا أن يزولَ اعتقادُ الخُبث فيها، وسوءُ الظن والكراهةُ لها بالمحبة، وهذا يُنافى الإيمان، فلا يتناولها المؤمن قَطُّ إلا على وجه داء.. والله أعلم.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج القَمْلِ الذى فى الرأس وإزالته
فى "الصحيحين" عن كعب بن عُجْرةَ، قال: كان بى أذىً مِن رأسى، فَحُمِلْتُ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقَمْلُ يَتناثَرُ على وجهى، فقال : "ما كنتُ أَرى الجَهْدَ قد بَلَغَ بِكَ ما أرَى" ، وفى رواية: فأمَرَه أن يَحْلِقَ رأسَه، وأن يُطعِمَ فَرقاً بَيْنَ سِتَّةٍ، أو يُهدِىَ شاة، أو يَصُومَ ثلاثةَ أيامٍ.
القمل يتولَّد فى الرأس والبدن من شيئين: خارج عن البدن وداخلٍ فيه، فالخارجُ: الوسخُ والدنس المتراكم فى سطح الجسد، والثانى: من خلط ردىء عفن تدفعُه الطبيعة بين الجلد واللَّحم، فيتعفَّنُ بالرُّطوبة الدموية فى البَشَرَةِ بعد خُروجها من المسام، فيكون مِنه القملُ، وأكثرُ ما يكون ذلك بعد العلل والأسقام، وبسبب الأوساخ، وإنما كان فى رؤوس الصبيان أكثر

لكثرة رطوباتهم وتعاطيهم الأسباب التى تُولِّد القمل، ولذلك حَلَقَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رؤوسَ بنى جعفر.
ومن أكبر عِلاجه حَلْقُ الرأس لِتنفتح مسامُّ الأبخرَة، فتتصاعد الأبخرة الرديئة، فتضعفُ مادة الخلط، وينبغى أن يُطلى الرأس بعد ذلك بالأدوية التى تقتل القمل، وتمنع تولُّده.
وحلقُ الرأس ثلاثة أنواع ؛ أحدها: نُسُك وقُربة. والثانى: بِدعة وشرك. والثالث: حاجة ودواء.
فالأول: الحلق فى أحد النُّسُكين، الحجِّ أو العُمرة.
والثانى: حلقُ الرأس لغير الله سبحانه. كما يحلِقها المريدُون لشيوخهم، فيقول أحدهم: أنا حلقتُ رأسى لفلان، وأنت حلقتَه لفلان، وهذا بمنزلة أن يقول: سجدتُ لفلان، فإنَّ حَلْقَ الرأس خضوعٌ وعُبودية وذُل، ولهذا كان من تمام الحجِّ، حتى إنه عند الشافعى ركنٌ من أركانه لا يَتِمُّ إلا به. فإنه وضعُ النواصى بين يدى ربها خضوعاً لعظمته، وتذللاً لعِزَّته، وهو من أبلغ أنواع العبودية، ولهذا كانت العربُ إذا أرادت إذلالَ الأسير منهم وعِتْقَه، حلقوا رأسه وأطلقُوه، فجاء شيوخُ الضلال والمزاحِمون للربوبية الذين أساسُ مشيختهم على الشِّرك والبدعة، فأرادوا مِن مريديهم أن يتعبَّدوا لهم، فزيَّنوا لهم حَلْقَ رؤوسهم لهم، كما زيَّنوا لهم السجودَ لهم، وسمَّوه بغير اسمه، وقالوا: هو وضعُ الرأس بين يدى الشيخ، ولعَمرُ الله إنَّ السجود لله هو وضعُ الرأس بين يديه سبحانه، وزيَّنوا لهم أن ينذُروا لهم، ويتوبُوا لهم، ويَحلِفُوا بأسمائهم، وهذا هو اتخاذُهم أرباباً وآلهةً مِن دُونِ الله، قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوْا عِبَاداً لِّى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ

تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً، أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران: 79-80].
وأشرفُ العبودية عبوديةُ الصلاة، وقد تقاسمها الشيوخُ والمتشبهون بالعلماء والجبابرة، فأخذ الشيوخُ منها أشرفَ ما فيها، وهو السجود، وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوعَ، فإذا لقىَ بعضُهم بعضاً ركع له كما يركع المُصَلِّى لربه سواء، وأخذ الجبابرةُ منهم القيامَ، فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبوديةً لهم، وهم جلوس، وقد نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الأُمور الثلاثة على التفصيل، فتعاطِيها مخالفةٌ صريحة له، فنَهى عن السجود لغير الله وقال: "لا يَنْبغِى لأَحَدٍ أنْ يَسْجُدَ لأحَدٍ" . وأنكر على مُعَاذٍ لَمَّا سَجد له وقال: "مَهْ". وتحريمُ هذا معلوم من دينه بالضرورة، وتجويزُ مَن جَوَّزه لغير الله مُراغمَةٌ للهِ ورسوله، وهو من أبلَغِ أنواع العبودية، فإذا جَوَّز هذا المُشرِكُ هذا النوعَ للبَشَر، فقد جوَّز العبودية لغير اللهِ، وقد صَحَّ

أنه قيل له: الرَّجُلُ يَلقَى أخاه أَيَنْحَنِى له ؟ قال: "لا". قيل: أَيَلْتَزِمُه ويُقَبِّلُهُ ؟ قال: "لا". قيل: أَيُصافِحُه ؟ قال: "نعم".
وأيضاً.. فالانحناءُ عند التحية سجود، ومنه قوله تعالى:
{وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً}[البقرة: 58] أى: منحنين، وإلا فلا يُمكن الدخول على الجباه، وصَحَّ عنه النهىُ عن القيام، وهو جالس، كما تُعَظِّم الأعاجمُ بعضُها بعضاً، حتى منع مِن ذلك فى الصلاة، وأمرَهم إذا صَلَّى جالساً أن يُصَلُّوا جلوساً، وهم أصحاء لا عُذرَ لهم، لئلا يقوموا على رأسه وهو جالس، مع أنَّ قيامَهم لله، فكيف إذا كان القيامُ تعظيماً وعبوديةً لغيره سبحانه.
والمقصود.. أنَّ النفوس الجاهلة الضالة أسقطتْ عبوديةَ الله سبحانه، وأشركت فيها مَن تُعَظِّمه مِن الخلق، فسجدت لغير الله، وركعت له، وقامت بين يديه قيامَ الصلاة، وحلفت بغيره، ونذرَتْ لغيره، وحَلَقَتْ لغيره، وذبحت لغيره، وطافت لِغير بيته، وعَظَّمته بالحب، والخوف، والرجاء، والطاعة، كما يُعَظَّم الخالقُ، بل أشد، وسوَّتْ مَن تعبُده من المخلوقين بربِّ العالمين، وهؤلاء هم المضادون لدعوة الرُّسُل، وهم الذين بربهم يَعدِلون، وهم الذين يقولون وهم فى النار مع آلهتهم يختصمون: {تَاللهِ إن كُنَّا لَفِى ضَلاَلٍ مُبِينٍ إذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء: 98]، وهم الذين قال الله فيهم :{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ}[البقرة: 165] وهذا كُلُّه مِن الشِّرك،

والله لا يغفر أَنْ يُشْرَكَ به. فهذا فصل معترض فى هَدْيه فى حلق الرأس، ولعله أهمُّ مما قُصِدَ الكلام فيه.. والله الموفق.

فصل فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العلاج بالأدوية الروحانية الإلهية المفردة، والمركَّبة منها، ومن الأدوية الطبيعية
...
[فصول: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العلاج بالأدوية الروحانية الإلهية المفردة، والمركَّبة منها، ومن الأدوية الطبيعية]
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج المصاب بالعَيْنِ
روى مسلم فى "صحيحه" عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "العَيْنُ حَقٌ ولو كان شَىْءٌ سَابَقَ القَدَرِ، لَسَبَقتْهُ العَيْنُ".
وفى "صحيحه" أيضاً عن أنس: "أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رخَّصَ فى الرُّقية مِن الحُمَةِ، والعَيْنِ والنَّملةِ"
وفى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "العَيْنُ حَقٌ".
وفى "سنن أبى داود" عن عائشة رضى الله عنها، قالت: كان يُؤمَرُ العائِنُ

فيتوضَّأ، ثم يَغْتَسِلُ منه المَعِينُ.
وفى "الصحيحين" عن عائشة قالت: أمرنى النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أَمَرَ أن نَسْتَرْقِىَ من العَيْن.
وذكر الترمذى، من حديث سفيان بن عُيَينةَ، عن عمرو بن دينار، عن عروة بن عامر، عن عُبيد بن رفاعة الزُّرَقىِّ، أنَّ أسماء بنت عُمَيْس قالت: يا رسولَ الله ؛ إنَّ بَنِى جعفر تُصيبُهم العَينُ، أفأسترْقِى لهم ؟ فقال: "نعم فَلَوْ كان شَىْءٌ يَسْبِقُ القضاءَ لسَبَقَتْهُ العَيْنُ" قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
وروى مالك رحمه الله، عن ابن شهابٍ، عن أبى أُمامةَ بن سهل بن حنيفٍ، قال: رأى عامرُ بن ربيعة سَهْلَ بن حُنَيف يغتسِلُ، فقال: واللهِ ما رأيتُ كاليوم ولا جِلْدَ مُخَبَّأة، قال: فلُبِطَ سَهْلٌ، فأتى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامراً، فتَغَيَّظَ عليه، وقال: "عَلامَ يَقْتُلُ أحدُكُم أخاهُ ؟ ألاَ بَرَّكْتَ ؟ اغْتَسِلْ له"، فغسل له عامرٌ وجهَه ويديه ومِرفَقَيْه ورُكبتيه، وأطرافَ رِجليه، وداخِلَة إزاره فى قدح، ثم صبَّ عليه، فراحَ مع الناس.
وروى مالك رحمه الله أيضاً عن محمد بن أبى أُمامة بن سهل، عن أبيه هذا الحديث، وقال فيه: " إنَّ العيْنَ حقٌ، توضَّأْ لهُ"، فتوضَّأ له.

وذكر عبد الرزَّاق، عن مَعْمَرٍ، عن ابن طاووس، عن أبيه مرفوعاً: "العَيْنُ حَقٌ، ولو كان شىءٌ سَابَقَ القَدَرَ، لَسَبَقَتْهُ العَيْنُ، وإذا اسْتُغْسِلَ أحدُكمْ، فَلْيَغْتَسِلْ" ، ووصْله صحيحٌ.
قال الزُّهْرى: يُؤْمَر الرجل العائن بقدح، فيُدخِلُ كفَّه فيه، فيتمضمض، ثم يَمُجّه فى القدح، ويغسِلُ وجهه فى القدح، ثم يُدخِل يده اليُسرى، فيصُبُّ على رُكبته اليُمنى فى القَدَح، ثم يُدخِلُ يده اليُمنى، فيصُبُّ على رُكبته اليُسرى، ثم يَغْسِلُ داخِلَة إزارِهِ، ولا يُوضع القَدَحُ فى الأرض، ثم يُصَبُّ على رأس الرجل الذى تُصيبه العينُ من خلفه صبةً واحدةً.
والعَيْن عَيْنان: عَيْنٌ إنسية، وعَيْنٌ جِنِّية. فقد صح عن أُمِّ سلمةَ، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى فى بيتها جاريةً فى وجهها سَفْعَةٌ، فقال: "اسْتَْرقُوا لها، فإنَّ بها النَّظرَة".
قال الحسين بن مسعود الفرَّاء: وقوله "سَفْعَة" أى: نظرة، يعنى من الجن، يقول: بها عينٌ أصابْتها من نظَرِ الجن أنفذُ من أسِّنَة الرِماح

ويُذكر عن جابر يرفعه: "إنَّ العَيْنَ لتُدْخِلُ الرجُلَ القَبْرَ، والجَمَلَ القِدْرَ".
وعن أبى سعيد، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتعوَّذ من الجان، ومن عَيْن الإنسان.
فأبطلت طائفةٌ ممن قلَّ نصيبُهم مِن السمع والعقل أمْرَ العَيْن، وقالوا: إنما ذلك أوهامٌ لا حقيقةَ لها، وهؤلاء مِن أجهل الناس بالسَّمعِ والعقل، ومِن أغلظهم حِجاباً، وأكثفِهم طِباعاً، وأبعدِهم معرفةً عن الأرواح والنفوسِ، وصفاتها وأفعالِها وتأثيراتها، وعقلاءُ الأُمم على اختلافِ مِللهم ونِحلهم لا تدفَعُ أمر العَيْن، ولا تُنكره، وإن اختلفوا فى سببه وجهة تأثير العَيْن.
فقالت طائفة: إنَّ العائن إذا تكيَّفت نفسُه بالكيفية الرديئة، انبعث مِن عينه قُوَّةٌ سُمِّيةٌ تتصل بالمَعِين، فيتضرر. قالوا: ولا يُستنكر هذا، كما لا يُستنكر انبعاثُ قوة سُمِّية من الأفعى تتصل بالإنسان، فيهلكِ، وهذا أمر قد اشتُهِرَ عن نوع من الأفاعى أنها إذا وقع بصرُها على الإنسان هلك، فكذلك العائنُ.
وقالت فِرقة أُخرى: لا يُستبعد أن ينبعِثَ من عَيْن بعضِ الناس جواهِرُ لطيفة غيرُ مرئية، فتتصل بالمَعِين، وتتخلل مسامَ جسمه، فيحصل له الضررُ.

وقالت فِرقة أُخرى: قد أجرى الله العادةَ بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عَيْنِ العائن لمن يَعِينه مِن غير أن يكون منه قوةٌ ولا سببٌ ولا تأثيرٌ أصلاً، وهذا مذهبُ منكرى الأسباب والقُوَى والتأثيرات فى العالَم، وهؤلاء قد سدُّوا على أنفسهم بابَ العِلل والتأثيرات والأسباب، وخالفوا العقلاء أجمعين.
ولا ريب أنَّ اللهَ سبحانه خلق فى الأجسام والأرواح قُوَى وطبائع مختلفة، وجعل فى كثير منها خواصَّ وكيفياتٍ مؤثرة، ولا يمكن لعاقل إنكارُ تأثير الأرواح فى الأجسام، فإنه أمر مُشاهَدٌ محسوس، وأنت ترى الوجهَ كيف يحمَرُّ حُمرةً شديدة إذا نظر إليه مَن يحتشِمُه ويَستحى منه، ويصفرُّ صُفرة شديدة عند نظر مَن يخافُه إليه، وقد شاهد الناسُ مَن يَسقَم من النظر وتضعُف قواه، وهذا كُلُّه بواسطة تأثير الأرواح، ولشدة ارتباطها بالعَيْن يُنسب الفعل إليها، وليست هى الفاعلة، وإنما التأثيرُ للرَّوح. والأرواحُ مختلفة فى طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها، فروحُ الحاسد مؤذية للمحسود أذىً بيِّناً. ولهذا أمر اللهُ سبحانه رسولَه أن يستعيذَ به من شره. وتأثيرُ الحاسد فى أذى المحسود أمرٌ لا يُنكره إلا مَن هو خارج عن حقيقةِ الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعَيْن، فإنَّ النفس الخبيثة الحاسدة تتكيَّفُ بكيفية خبيثة، وتُقَابِلُ المحسود، فتؤثِّرُ فيه بتلك الخاصِّية، وأشبهُ الأشياء بهذا الأفعى، فإن السُّمَّ كامِنٌ فيها بالقوة، فإذا قابلتْ عدوَّها، انبعثت منها قوة غضبية، وتكيَّفتْ بكيفية خبَيثةٍ مؤذية، فمنها ما تشتدُّ كيفيتُها وتقوى حتى تؤثر فى إسقاط الجنين، ومنها ما تؤثر فى طمس البصر، كما قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الأَبْتَر، وذى الطُّفْيَتَيْن مِنَ الحيَّات : "إنَّهمَا يَلتَمِسَان البَصَرَ، ويُسقطان الحَبَلَ".

ومنها: ما تُؤثر فى الإنسان كيفيتُها بمجرد الرؤية من غير اتصال به، لشدة خُبْثِ تلك النفس، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة، والتأثيرُ غيرُ موقوف على الاتصالات الجسمية، كما يظنُّه مَن قلَّ علمُه ومعرفته بالطبيعة والشريعة، بل التأثيرُ يكون تارةً بالاتصال، وتارةً بالمقابلة، وتارةً بالرؤية، وتارةً بتوجه الرَّوح نحوَ مَن يُؤثر فيه، وتارةً بالأدعية والرُّقَى والتعوُّذات، وتارةً بالوهم والتخيُّل، ونفسُ العائن لا يتوقفُ تأثيرُها على الرؤية، بل قد يكون أعمى، فيُوصف له الشىء، فتؤثِّرُ نفسه فيه، وإن لم يره، وكثيرٌ من العائنين يُؤثر فى المَعِين بالوصف من غير رؤية، وقد قال تعالى لنبيه:{ وَإن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ} [القلم: 51]وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ} فكلُّ عائنٌ حاسدٌ، وليس كلُّ حاسد عائناً
فلمَّا كان الحاسد أعمَّ من العائن، كانت الاستعاذةُ منه استعاذةً من العائن، وهى سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحوَ المحسود والمَعِين تُصيبُه تارةً وتُخطئه تارة، فإن صادفْته مكشوفاً لا وِقاية عليه، أثَّرتْ فيه، ولا بُدَّ، وإن صادفته حَذِراً شاكىَ السِّلاح لا منفذَ فيهِ للسهام، لم تُؤثر فيه، وربما رُدَّتْ السهامُ على صاحبها، وهذا بمثابة الرمى الحِسِّىّ سواء، فهذا مِن النفوس والأرواح، وذاك مِن الأجسام والأشباح. وأصلُه مِن إعجاب العائن بالشىء، ثم تتبعه كيفيةُ نفسِه الخبيثة، ثم تستعينُ على تنفيذ سُمِّها بنظرة إلى المَعِين، وقد يَعِينُ الرجلُ نفسَه، وقد يَعينُ بغير

إرادته، بل بطبعه، وهذا أردأ ما يكونُ من النوع الإنسانى، وقد قال أصحابُنا وغيرُهم من الفقهاء: إنَّ مَن عُرِفَ بذلك، حبَسه الإمامُ، وأجرَى له ما يُنفِقُ عليه إلى الموت، وهذا هو الصوابُ قطعاً.
فصل
والمقصودُ: العلاجُ النبوىُّ لهذه العِلَّة، وهو أنواعٌ، وقد روى أبو داود فى "سننه" عن سهل بن حُنَيفٍ، قال: مررْنا بَسيْلٍ، فدخلتُ، فاغتسلتُ فيه، فخرجتُ محموماً، فنُمِىَ ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "مُرُوا أبا ثابتٍ يَتَعَوَّذُ". قال: فقلتُ: يا سيدى ؛ والرُّقَى صالحة ؟ فقال: " لا رُقيةَ إلا فى نَفْسٍ، أو حُمَةٍ، أو لَدْغَةٍ".
والنَّفْس: العَيْن، يقال: أصابت فلاناً نفسٌ، أى: عَيْن. والنافِس: العائن. واللَّدْغة بدال مهملة وغين معجمة وهى ضربةُ العقرب ونحوها.
فمن التعوُّذاتِ والرُّقَى الإكثارُ من قراءة المعوِّذتين، وفاتحةِ الكتابِ، وآيةِ الكُرسى، ومنها التعوذاتُ النبوية.
نحو: "أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّاتِ مِن شرِّ ما خَلق".
ونحو: "أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّةِ، مِن كُلِّ شيطانٍ وهامَّةٍ، ومِن كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ".
ونحو: "أعوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ التى لا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌ ولا فاجرٌ، مِن شَرِّ ما خلق وذرَأ وبرَأ، ومِن شَرِّ ما ينزلُ من السماء، ومِن شَرِّ ما يَعرُجُ

فيها، ومِن شَرِّ ما ذرأ فى الأرض، ومِن شَرِّ ما يخرُج مِنها، ومِن شَرِّ فِتَنِ الليلِ والنهار، ومِن شَرِّ طَوَارق الليلِ، إلا طارقاً يَطرُق بخير يا رحمن".
ومنها: "أَعُوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّةِ مِن غضبه وعِقَابه، ومِن شرِّ عباده، ومِن هَمَزات الشياطينِ وأن يَحضُرونِ".
ومنها: "اللهُمَّ إنى أعوذُ بوجْهِكَ الكريم، وكلماتِك التامَّاتِ من شرِّ ما أنت آخِذٌ بناصيته، اللهُمَّ أنتَ تكشِفُ المأثَمَ والمَغْرَمَ، اللهُمَّ إنه لا يُهْزَمُ جُنْدُكَ، ولا يُخلَفُ وعدُك، سبحانَك وبحمدِك".
ومنها: "أَعُوذُ بوجه اللهِ العظيمِ الذى لا شىءَ أعظمُ منه، وبكلماتِه التامَّات التى لا يُجاوزُِهن بَرٌ ولا فاجرٌ، وأسماءِ الله الحُسْنَى، ما علمتُ منها وما لم أعلم، مِن شَرِّ ما خلق وذرَأ وبرأ، ومن شَرِّ كُلِّ ذى شرٍّ لا أُطيق شرَّه، ومِن شَرِّ كُلِّ ذى شَرٍّ أنتَ آخِذٌ بناصيته، إنَّ ربِّى على صِراط مستقيم".
ومنها: "اللهُمَّ أنت ربِّى لا إله إلا أنتَ، عليك توكلتُ، وأنتَ ربُّ العرشِ العظيم، ما شاء اللهُ كان، وما لم يشأْ لم يكن، لا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله، أعلم أنَّ اللهَ على كُلِّ شىء قديرٌ، وأنَّ الله قد أحاط بكل شىء علماً، وأحصَى كُلَّ شىءٍ عدداً، اللهُمَّ إنى أعوذُ بِكَ مِن شَرِّ نفسى، وشَرِّ الشيطانِ وشِرْكه، ومِن شَرِّ كُلِّ دابةٍ أنتَ آخذٌ بناصيتها، إنَّ ربِّى على صِراط مستقيم".
وإن شاء قال: "تحصَّنتُ باللهِ الَّذى لا إله إلا هُوَ، إلهى وإله كُلِّ شىء، واعتصمتُ بربى وربِّ كُلِّ شىء، وتوكلتُ على الحىِّ الذى لا يموتُ، واستَدْفَعتُ الشرَّ بلاحَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله، حسبىَ اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، حسبىَ الربُّ مِن العباد، حسبىَ الخَالِقُ من المخلوق، حسبىَ الرازقُ مِنَ المرزوق، حسبىَ الذى هو حسبى، حسبىَ الذى بيده ملكوتُ كُلِّ شىءٍ، وهو يُجيرُ

ولا يُجَارُ عليه، حسبىَ الله وكَفَى، سَمِعَ الله لمنْ دعا، ليس وراء اللهِ مرمَى، حسبىَ الله لا إله إلا هُوَ، عليه توكلتُ، وهُوَ ربُّ العرشِ العظيم".
ومَن جرَّب هذه الدعوات والعُوَذَ، عَرَفَ مِقدار منفعتها، وشِدَّةَ الحاجةِ إليها، وهى تمنعُ وصول أثر العائن، وتدفعُه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها، وقوةِ نفسه، واستعداده، وقوةِ توكله وثباتِ قلبه، فإنها سلاح، والسلاحُ بضاربه.
فصل
وإذا كان العائنُ يخشى ضررَ عينه وإصابتهَا للمَعين، فليدفع شرِّها بقوله: اللهُمَّ بَارِكْ عليه، كما قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حُنيف: " ألا برَّكْتَ" أى: قلتَ: اللهُمَّ بارِكْ عليه .
ومما يُدفع به إصابةَ العَيْن قولُ: "ما شاء الله لا قُوَّة إلا بالله"، روى هشام ابن عروة، عن أبيه، أنه كان إذا رأى شيئاً يُعجِبُه، أو دخل حائطاً مِن حِيطانه، قال: "ما شاء الله، لا قُوَّة إلا بالله".
ومنها رُقْيَةُ جِبريل عليه السَّلامُ للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التى رواها مسلم فى "صحيحه": "باسمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَىْءٍ يُؤذيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نفسٍ أو عَيْنِ حَاسدٍ اللهُ يَشفِيكَ، باسمِ اللهِ أرْقِيكَ".
ورأى جماعة من السَّلَف أن تُكتب له الآياتُ مِن القرآن، ثم يشربَها. قال مجاهد: لا بأس أن يكتُبَ القرآنَ، ويغسِلَه، وَيْسقِيَه المريضَ، ومثلُه عن أبى قِلابَةَ. ويذكر عن ابن عباس: أنه أمر أن يُكَتبَ لامرأة تَعَسَّرَ عليها

وِلادُها أثرٌ من القرآن، ثم يُغسل وتُسقى. وقال أيوب: رأيتُ أبا قِلابَةَ كتب كتاباً من القرآن، ثم غسله بماء، وسقاه رجلاً كان به وجعٌ.
فصل
[فى أمر العائن بغسل مَغابنِهِ وأطرافه وداخِلَةِ إزاره]
ومنها: أن يُؤمر العائِنُ بغسل مَغابنِهِ وأطرافه وداخِلَةِ إزاره، وفيه قولان ؛ أحدهما: أنه فرجُه. والثانى: أنه طرفُ إزاره الداخل الذى يلى جسدَه من الجانب الأيمن، ثم يُصَبُّ على رأس المَعِين مِن خلفه بغتة، وهذا مما لا ينالُه عِلاجُ الأطباء، ولا ينتفِعُ به مَن أنكره، أو سَخِرَ منه، أو شَكَّ فيه، أو فعله مجرِّباً لا يعتقد أنَّ ذلك ينفعُه.
وإذا كان فى الطبيعة خواصٌ لا تَعْرِفُ الأطباءُ عِلَلَها ألبتةَ، بل هى عندهم خارجةٌ عن قياس الطبيعة تفعل بالخاصِّية، فما الذى يُنكره زنادقتهم وجهلتُهم من الخواص الشرعية، هذا مع أنَّ فى المعالجة بهذا الاستغسال ما تشهدُ له العقولُ الصحيحة، وتُقِرُّ لمناسبته، فاعلم أنَّ تِرياق سُمِّ الحيَّة فِى لحمها، وأنَّ علاجَ تأثير النفس الغضَبية فى تسكين غضبها، وإطفاء ناره بوضع يَدِكَ عليه، والمسح عليه، وتسكينِ غضبه، وذلك بمنزلة رجل معه شُعلة من نار، وقد أراد أن يَقذِفَك بها، فصبِبِتَ عليها الماء، وهى فى يده حتى طُفئتْ، ولذلك أُمِرَ العائِنُ أن يقول: "اللهُمَّ بارِكْ عَلَيْه" ليدفع تلك الكيفية الخبيثة بالدعاء الذى هو إحسانٌ إلى المَعِين، فإنَّ دواء الشىء بضِدِّه. ولما كانت هذه الكيفيةُ الخبيثة تظهر فى المواضِع الرقيقة من الجسد، لأنها تطلب النفوذَ، فلا تجد أرقَّ مِن المغابن، وداخِلَةِ الإزار، ولا سِيَّما إن كان كنايةً عن الفَرْج، فإذا غُسِلَتْ بالماء، بطل تأثيرها وعملها، وأيضاً فهذه المواضع للأرواح الشيطانية بها اختصاص.

والمقصود: أنَّ غسلها بالماء يُطفىء تلك النارية، ويَذهبُ بتلك السُّمِّية.
وفيه أمر آخر، وهو وُصول أثرِ الغسل إلى القلب من أرقِّ المواضع وأسرعها تنفيذاً، فيُطفىء تلك النارية والسُّمِّية بالماء، فيشفى المَعِين، وهذا كما أنَّ ذواتِ السموم إذا قُتِلت بعد لَسعها، خَفَّ أثرُ اللسعة عن الملسوع، ووَجد راحة، فإن أنفسَها تمدُّ أذاها بعد لَسعها، وتُوصِله إلى الملسوع. فإذا قُتِلَتْ، خَفَّ الألم، وهذا مُشَاهَد. وإن كان من أسبابه فرحُ المَلسوع، واشتفاءُ نفسه بقتل عدوِّه، فتقوى الطبيعة على الألم، فتدفعه.
وبالجملة.. غسل العائن يُذهِبُ تلك الكيفية التى ظهرت منه، وإنما ينفع غسلُه عند تكيُّفِ نفسه بتلك الكيفية.
فإن قيل: فقد ظهرت مناسبةُ الغسل، فما مناسبةُ صبِّ ذلك الماء على المَعِين ؟
قيل: هو فى غاية المناسبة، فإنَّ ذلك الماء ماء طُفىء به تلك النارية، وأبطل تلك الكيفية الرديئة من الفاعل، فكما طُفئت به النارية القائمة بالفاعِل طُفئت به، وأبطلت عن المحل المتأثر بعد ملابسته للمؤثر العائِن، والماءُ الذى يُطفأ به الحديدُ يدخُل فى أدوية عِدَّة طبيعية ذكرها الأطباء، فهذا الذى طُفىء به نارية العائِن، لا يُستنكر أن يدخل فى دواء يُناسب هذا الداء.
وبالجملة.. فطب الطبائعية وعلاجُهم بالنسبة إلى العلاج النبوىِّ، كطب الطُّرقية بالنسبة إلى طبهم، بل أقل، فإنَّ التفاوتَ الذى بينهم وبين الأنبياء أعظمُ، وأعظمُ من التفاوت الذى بينهم وبين الطُّرقية بما لا يُدرِكُ الإنسان مقداره، فقد ظهر لك عقدُ الإخاء الذى بين الحِكمة والشرع، وعدمُ مناقضة أحدهما للآخر، واللهُ يهدى مَن يشاء إلى الصواب، ويفتحُ لمن أدام قرعَ باب التوفيق منه كُلَّ باب، وله النعمة السابغة، والحُجَّة البالغة.

فصل
ومن علاج ذلك أيضاً والاحتراز منه سترُ محاسن مَن يُخاف عليه العَيْن بما يردُّها عنه، كما ذكر البغوىُّ فى كتاب "شرح السُّنَّة": أنَّ عثمان رضى الله عنه رأى صبياً مليحاً، فقال: دَسِّمُوا نُونَتَه، لئلا تُصيبه العَيْن، ثم قال فى تفسيره: ومعنى "دسِّمُوا نونته" أى: سَوِّدُوا نونته، والنونة: النُّقرة التى تكون فى ذقن الصبىِّ الصغير.
وقال الخطَّابى فى "غريب الحديث" له عن عثمان: إنه رأى صبياً تأخذه العَيْن، فقال: دسِّموا نونته. فقال أبو عمرو: سألت أحمد بن يحيى عنه، فقال: أراد بالنونة: النُّقرة التى فى ذقنه. والتدسيمُ: التسويد. أراد: سَوِّدُوا ذلك الموضع من ذقنه، ليرد العَيْن. قال ومن هذا حديثُ عائشةَ ان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب ذاتَ يومٍ، وعلى رأسهِ عِمامةٌ دَسْماء أى: سوداء أراد الاستشهاد على اللَّفظة، ومن هذا أخذ الشاعرُ قَوله:
مَا كَانَ أَحْوَجَ ذَا الْكَمَالِ إلَى ... عَيبٍ يُوَقِّيهِ مِنَ الْعَيْنِ

فصل
ومن الرُّقَى التى تردُّ العَيْن ما ذُكر عن أبى عبد الله السَّاجى، أنه كان فى بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارِهَةٍ، وكان فى الرفقة رجل عائن، قلَّما نظر إلى شىء إلا أتلفه، قيل لأبى عبد الله: احفَظْ ناقَتكَ مِنَ العائِن، فقال: ليس له إلى ناقتى سبيل، فأُخْبِرَ العائِنُ بقوله، فتَحيَّنَ غَيبة أبى عبد الله، فجاء إلى رَحْله، فنَظر إلى الناقةَ، فاضطربتْ وسقطت، فجاء أبو عبد الله، فأُخْبِرَ أنَّ العائِنَ قد عانها، وهى كما ترى، فقال: دُلُّونى عليه. فدُلَّ، فوقف عليه، وقال: بسمِ اللهِ، حَبْسٌ حابسٌ، وحَجَرٌ يابِسٌ، وشِهابٌ قابِسٌ، ردَّت عين العائن عليه، وعلى أحبِّ الناس إليه، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك: 3-4] فخرجتْ حَدَقَتا العائنِ، وقامت الناقةُ لا بأسَ بها.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العلاج العام لكل شكوى بالرُّقية الإلهية
روى أبو داود فى "سننه": من حديث أبى الدرداء، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "مَن اشتكى منكم شيئاً، أو اشتكاهُ أخٌ له فلْيقُلْ: رَبَّنا اللهَ الذى فى السَّماء، تقدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فى السَّماء والأرضِ كما رَحْمَتُك فى السَّماءِ، فاجعل رحمتكَ فى الأرض، واغفر لنا حُوْبَنَا وخطايانا أنتَ ربُّ الطَّيِّبِين، أنْزِلْ رحمةً من رحمتك، وشفاءً من شفائك على هذا

الوَجَع، فيَبْرأ بإذْنِ اللهِ ".
وفى "صحيح مسلم" عن أبى سعيد الخُدْرِى، أنَّ جبريلَ عليه السلام أتى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمدُ ؛ أشتكيْتَ ؟ فقال: "نعم". فقال جبريلُ عليه السلام : "باسمِ اللهِ أَرقيكَ مِن كُلِّ شىءٍ يُؤذيكَ، مِن شَرِّ كُلِّ نفْسٍ أو عَيْن حاسدٍ اللهُ يَشفيكَ، باسمِ اللهِ أرقيكَ".
فإن قيل: فما تقولون فى الحديث الذى رواه أبو داود: "لا رُقيةَ إلا من عَيْنٍ، أو حُمَةٍ"، والحُمَةُ: ذوات السُّموم كلها ؟
فالجواب: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُرِدْ به نفىَ جواز الرُّقية فى غيرها، بل المرادُ به: لا رُقية أولى وأنفعُ منها فى العَيْن والحُمَة، ويدل عليه سياقُ الحديث، فإنَّ سهل ابن حُنيف قال له لما أصابته العَيْن: أوَ فى الرُّقَى خير ؟ فقال: "لا رُقيةَ إلا فى نَفْسٍ
أو حُمَةٍ" ويدل عليه سائرُ أحاديث الرُّقَى العامة والخاصة، وقد روى أبو داود من حديث أنس قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا رُقْيَةَ إلا مِن عَيْنٍ، أو حُمَةٍ، أو دَمٍ يَرْقأُ".
وفى "صحيح مسلم" عنه أيضاً:"رخَّص رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الرُّقية من العَيْن والحُمَةِ والنَّمْلَةِ".

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رُقْيَة اللَّدِيغ بالفاتحة
أخرجا فى "الصحيحين" من حديث أبى سعيد الخدرى، قال: "انْطلَقَ نَفَرٌ من أصحابِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سفرةٍ سافرُوها حتى نزلوا على حىٍّ مِن أحياءِ العرب، فاسْتَضَافوهم، فأبَوْا أن يُضَيِّفُوهُم، فلُدِغَ سَيِّدُ ذلك الحىِّ، فَسَعَوْا له بكُلِّ شىء لا يَنْفَعُه شىء، فقال بعضهم: لو أتيتُم هؤلاءِ الرَّهطَ الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شىء. فأتوهم، فقالوا: يا أيُّهَا الرَّهطُ ؛ إنَّ سَيِّدَنا لُدِغَ، وسَعينا له بكُلِّ شىء لا يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أحدٍ منكم من شىء ؟ فقال بعضُهم: نعم واللهِ إنى لأَرْقى، ولكن اسْتَضَفْناكُمْ، فلم تَضيِّفُونَا، فما أنا بَرَاقٍ حتى تَجْعَلُوا لنا جُعْلاً، فصالَحُوهم على قطيعٍ من الغنم، فانطلَقَ يَتْفُل عليه، ويقرأ: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فكأنما أُنشِطَ من عِقَالٍ، فانطلق يمشى وما به قَلَبَةٌ، قال: فأوفَوْهُم جُعْلَهُم الذى صالحوهم عليه، فقال بعضُهم: اقتسِمُوا، فقال الذى رَقَى: لا تفعلوا حتى نأتىَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنذكُرَ له الذى كان، فننظُرَ ما يأمرُنا، فَقَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكروا له ذلك، فقال: "وما يُدْريكَ أنَّها رُقْيَةٌ" ؟، ثم قال: "قد أصَبْتُم، اقسِمُوا واضْرِبوا لى مَعَكُم سهماً".
وقد روى ابن ماجه فى "سننه" من حديث على قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ الدَّوَاءِ القُرآنُ".

ومن المعلوم أنَّ بعض الكلام له خواصُّ ومنافعُ مُجرَّبة، فما الظنُّ بكلام ربّ العالمين، الذى فَضْلُهُ على كل كلامٍ كفضلِ اللهِ على خلقه الذى هو الشفاءُ التام، والعِصْمةُ النافعة، والنورُ الهادى، والرحمة العامة، الذى لو أُنزِلَ على جبل لتَصَدَّعَ من عظمته وجلالته. قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}[الإسراء: 82]. و"مِن" ههنا لبيان الجنس لا للتبعيض، هذا أصَحُّ القولين، كقوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرَاً عَظِيماً}[الفتح:29] وكُلُّهُمْ مِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فما الظنُّ بفاتحة الكتاب التى لم يُنزل فى القرآن، ولا فى التوراة، ولا فى الإنجيل، ولا فى الزَّبور مِثلُها، المتضمنة لجميع معانى كتب الله، المشتملة على ذكر أُصول أسماء الرب تعالى ومجامعها، وهى: الله، والرَّب، والرحمن، وإثبات المعاد، وذكرِ التوحيدين: توحيدِ الربوبية، وتوحيدِ الإلهية، وذكر الافتقار إلى الربِّ سُبحانه فى طلبِ الإعانة وطلب الهداية، وتخصيصه سبحانه بذلك، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعِهِ وأفرَضِه، وما العبادُ أحوج شىءٍ إليه، وهو الهدايةُ إلى صِراطه المستقيم، المتضمن كمالَ معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمرَ به، واجتنابِ ما نَهَى عنه، والاستقامة عليه إلى الممات، ويتضمن ذِكْر أصنافِ الخلائق وانقسامهم إلى مُنْعمٍ عليه بمعرفة الحق، والعمل به، ومحبته، وإيثاره، ومغضوب عليه بعدُوله عن الحق بعد معرفته له، وضال بعدم معرفته له. وهؤلاء أقسامُ الخليقة مع تضمنها لإثبات القَدَر، والشرع، والأسماء، والصفات، والمعاد، والنبوات، وتزكيةِ النفوس، وإصلاح القلوب، وذكر عدل الله وإحسانه، والرَّدِّ على جميع أهل البدع والباطل، كما ذكرنا ذلك فى كتابنا الكبير "مدارج السالكين" فى شرحها. وحقيقٌ بسورةٍ هذا بعضُ

شأنها، أن يُستشفى بها من الأدواء، ويُرقَى بها اللَّديغُ.
وبالجملة.. فما تضمنته الفاتحةُ مِن إخلاص العبودية والثناء على اللهِ، وتفويضِ الأمر كُلِّه إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وسؤاله مجامع النِّعَم كُلِّها، وهى الهداية التى تجلبُ النِّعَم، وتدفَعُ النِّقَم، من أعظم الأدوية الشافية الكافية.
وقد قيل: إنَّ موضع الرُّقْيَة منها :{إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 4]، ولا ريبَ أنَّ هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء، فإنَّ فيهما من عموم التفويض والتوكل، والالتجاء والاستعانة، والافتقارِ والطلبِ، والجمع بين أعلى الغايات، وهى عبادةُ الربِّ وحده، وأشرف الوسائل وهى الاستعانةُ به على عبادته ما ليس فى غيرها، ولقد مرَّ بى وقت بمكة سَقِمْتُ فيه، وفَقَدْتُ الطبيبَ والدواء، فكنت أتعالج بها، آخذ شربةً من ماء زمزم، وأقرؤها عليها مراراً، ثم أشربه، فوجدتُ بذلك البرءَ التام، ثم صِرتُ أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع، فأنتفع بها غايةَ الانتفاع.
فصل
وفى تأثير الرُّقَى بالفاتحة وغيرها فى علاج ذواتِ السُّموم سِرٌ بديع، فإنَّ ذواتِ السموم أثَّرت بكيفيات نفوسِها الخبيثة، كما تقدَّم، وسِلاحها حُماتها التى تلدَغُ بها، وهى لا تلدغ حتى تغضَب، فإذا غضبت، ثار فيها السُّمُّ، فتقذفه بآلتها، وقد جعل اللهُ سبحانه لكل داءٍ دواءً، ولكل شىءٍ ضِداً، ونفس الراقى تفعلُ فى نفس المرقى، فيقعُ بين نفسيهما فعلٌ وانفعالٌ، كما يقع

بين الداء والدواء، فتقوى نفسُ الراقى وقُوَّته بالرُّقية على ذلك الداء، فيدفعُه بإذن اللهِ، ومدارُ تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين، يقع بين الداء والدواء الروحانيين، والروحانى، والطبيعى، وفى النَّفْث والتَّفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء، والنفس المباشر للرُّقية، والذِكْر والدعاء، فإنَّ الرُّقية تخرُج مِن قلب الراقى وفمه، فإذا صاحبها شىءٌ من أجزاء باطنه من الرِّيق والهواء والنَّفَس، كانت أتمَّ تأثيراً، وأقوى فعلاً ونفوذاً، ويحصُل بالازدواج بينهما كيفيةٌ مؤثرة شبيهةٌ بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية.
وبالجملة.. فنفْسُ الراقى تُقابل تلك النفوس الخبيثة، وتزيدُ بكيفية نفسه، وتستعين بالرُّقية وبالنفثِ على إزالة ذلك الأثر، وكلَّما كانت كيفيةُ نَفَس الراقى أقوى، كانت الرُّقيةُ أتمَّ، واستعانتُهُ بنفْثه كاستعانة تلك النفوسِ الرديئة بلسعها.
وفى النفث سِرٌ آخر، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة، ولهذا تفعلُه السَّّحَرةُ كما يفعلَهُ أهلُ الإيمان. قال تعالى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ} ، وذلك لأن النفْس تتكيَّفُ بكيفية الغضب والمحاربة، وتُرسِلُ أنفاسَها سِهاماً لها، وتمدُّها بالنفْث والتفْل الذى معه شىء مِن الرِّيق مصاحب لكيفية مؤثرة، والسواحِرُ تستعين بالنفث استعانةً بيِّنةً، وإن لم تتصل بجسم المسحور، بل تنفثُ على العُقدة وتعقِدها، وتتكلم بالسِّحْر، فيعمل ذلك فى المسحور بتوسط الأرواح السُّفلية الخبيثة، فتقابِلُها الرَّوح الزكية الطيبة بكيفية الدفع والتكلم بالرُّقية، وتستعينُ بالنفث، فأيُّهُما قَوِىَ كان الحكمُ له، ومقابلةُ الأرواح بعضها لبعض، ومحاربتُها وآلتها مِن جنس مقابلة الأجسام، ومحاربتها وآلتها سواء، بل الأصلُ فى المحاربة والتقابلِ للأرواح والأجسام آلتها وجندها، ولكن مَن غلب عليه الحِسُّ

لا يشعرُ بتأثيرات الأرواح وأفعالِهَا وانفعالاتِهَا لاستيلاء سُلطان الحِسِّ عليه، وبُعْدِهِ من عالَم الأرواح، وأحكامها، وأفعالها.
والمقصود.. أنَّ الرَّوح إذا كانت قويةً وتكيَّفتْ بمعانى الفاتحة، واستعانت بالنفث والتفْل، قابلت ذلك الأثَر الذى حصل من النفوس الخبيثة، فأزالته.. والله أعلم.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج لدغة العقرب بالرُّقْيَة
روى ابن أبى شَيْبَةَ فى "مسنده"، من حديث عبد الله بن مسعود، قال: بينا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلِّى، إذ سجد فَلَدَغَتْه عقربٌ فى أُصبعه، فانصرفَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: "لَعَنَ اللهُ العَقْرَبَ ما تَدَعُ نبيّاً ولا غَيْرَه" ، قال: ثُمَّ دعا بإناءٍ فيه ماء ومِلح، فَجَعَلَ يَضَعُ موضِعَ اللَّدغة فى الماء والمِلحِ، ويقرأُ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، والمُعَوِّذَتَيْن} حتى سكنتْ.
ففى هذا الحديث العلاجُ بالدواء المركَّب مِنَ الأمرين: الطبيعىِّ والإلهىِّ، فإنَّ فى سورة الإخلاص مِن كمال التوحيد العِلمى الاعتقادى، وإثبات الأحَدِيَّة للهِ، المستلزِمة نفىَ كُلِّ شركة عنه، وإثباتِ الصَّمديَّةِ المستلزمةِ لإثبات كُلِّ كمال له مع كونِ الخلائق تَصمُدُ إليه فى حوائجها، أى: تقصِدُه الخليقةُ، وتتوجه إليه، عُلويُّها وسُفليُّها، ونفى الوالد

والولد، والكُفْءِ عنه المتضمن لنفى الأصل، والفرع والنظير، والمماثل مما اختصَّت به وصارت تعدِلُ ثُلُثَ القرآن، ففى اسمه "الصمد" إثباتُ كل الكمال، وفى نفى الكُفْءِ التنزيهُ عن الشبيه والمثال. وفى "الأحد" نفىُ كُلِّ شريك لذى الجلال، وهذه الأُصول الثلاثة هى مجامعُ التوحيد.
وفى المعوِّذتين الاستعاذةُ مِن كل مكروه جملةً وتفصيلاً، فإنَّ الاستعاذَة مِن شَرِّ ما خلق تَعُمُّ كُلَّ شَرٍّ يُستعاذ منه، سواء أكان فى الأجسام أو الأرواح، والاستعاذَةَ مِن شَرِّ الغاسق وهو اللَّيل، وآيتِهِ وهو القمر إذا غاب، تتضمن الاستعاذةَ مِن شَرِّ ما ينتشِرُ فيه من الأرواح الخبيثة التى كان نورُ النهار يحولُ بينها وبين الانتشار، فلما أظلم الليل عليها وغاب القمرُ، انتشرت وعاثت.
والاستعاذة مِن شَرِّ النفاثات فى العُقد تتضمن الاستعاذة من شَرِّ السواحر وسِحرهن.
والاستعاذة مِن شَرِّ الحاسد تتضمن الاستعاذَة مِن النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها ونظرها.
والسورةُ الثانية: تتضمن الاستعاذة مِن شَرِّ شياطين الإنس والجن، فقد جمعت السورتان الاستعاذة من كُلِّ شَرٍّ، ولهما شأنٌ عظيم فى الاحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها، ولهذا أوصى النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقبةَ بن عامر بقراءتهما عَقِبَ كُلِّ صلاةٍ، ذكره الترمذىُّ فى "جامعه" وفى هذا سِرٌ عظيم فى استدفاع الشرورِ من الصلاة إلى الصلاة. وقال: ما تَعَوَّذ المتعوِّذون بمثلهما. وقد ذُكر أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ فى إحدى عشرةَ عُقدة، وأنَّ جبريلَ

نزل عليه بهما، فجعَلَ كُلَّما قرأ آية منهما انحلَّتْ عُقدة، حتى انحلَّتْ العُقَد كُلُّها، وكأنما أُنْشِطَ من عِقَال.
وأما العلاج الطبيعى فيه، فإنَّ فى المِلح نفعاً لكثير من السُّموم، ولا سِيَّما لدغة العقرب، قال صاحب "القانون": يُضمَّد به مع بذر الكتان للسع العقرب، وذكره غيرُه أيضاً. وفى المِلح من القوة الجاذبة المحلِّلة ما يَجذِبُ السُّموم ويُحللها، ولَمَّا كان فى لسعها قوةٌ نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج جمع بين الماءِ المبرد لنار اللَّسعة، والمِلح الذى فيه جذبٌ وإخراج، وهذا أتم ما يكون من العلاج وأيسره وأسهله، وفيه تنبيه على أنَّ علاج هذا الداء بالتبريد والجذب والإخراج.. والله أعلم.
وقد روى مسلم فى "صحيحه" عن أبى هُريرة قال: جاء رجلٌ إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله ؛ ما لقيتُ مِنْ عقربٍ لَدَغْتنى البارحةَ فقال: "أما لو قُلْتَ حِينَ أمْسَيْتَ: أعُوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ،
لم تَضُرَّك".
واعلم أنَّ الأدوية الطبيعية الإلهية تنفعُ مِن الداء بعد حصوله، وتمنَعُ من وقوعه، وإن وقع لم يقع وقوعاً مضراً، وإن كان مؤذياً، والأدوية الطبيعية إنما تنفعُ، بعد حصول الداء، فالتعوُّذاتُ والأذكار، إما أن تمنعَ وقوعَ هذه الأسباب، وإما أن تحولَ بينها وبين كمالِ تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه، فالرُّقَى والعُوَذ تُسْتَعمل لحفظ الصحة، ولإزالة المرض، أما الأول: فكما فى "الصحيحين" من حديث عائشة كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أوى إلى فراشِهِ نَفَثَ فى كَفَّيْهِ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} و

المُعَوِّذَتَيْن. ثم يمسحُ بهما وجهه، وما بلغت يدُه من جسده".
وكما فى حديث عُوذة أبى الدرداء المرفوع: "اللهُمَّ أنت رَبِّى لا إله إلا أنت عليكَ تَوَكَّلْتُ وأنتَ رَبُّ العَرْشِ العظيم"، وقد تقدَّم وفيه: "مَن قالها أوَّل نهارِهِ لم تُصِبْهُ مُصيبة حتى يُمسى، ومَن قالها آخر نهارِهِ لم تُصِبْه مُصيبةٌ حتى يُصْبِح".
وكما فى "الصحيحين": "مَن قَرَأَ الآيَتَيْن مِن آخرِ سُورةِ البقرةِ فى لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ".
وكما فى "صحيح مسلم" عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن نَزَلَ مَنْزِلاً فقال: أَعُوذُ بكلمات ِاللهِ التَّامَّاتِ مِن شرَِّ ما خَلَقَ، لم يَضُرَّهُ شَىءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِن مَنْزِلهِ ذلِكَ".
وكما فى "سنن أبى داود" أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فى السفر يقول باللَّيل :"يا أرضُ ؛ رَبِّى ورَبُّكِ اللهُ، أَعُوذُ باللهِ مِن شَرِّكِ وشَرِّ ما فِيكِ، وشَرِّ ما يَدُبُّ عليكِ، أعوذُ باللهِ مِن أسَدٍ وأسْوَدٍ، ومِن الحَيَّةِ والعقربِ، ومِن ساكنِ البَلَدِ، ومن والدٍ وما وَلَدَ".

وأما الثانى: فكما تقدَّم من الرُّقية بالفاتحة، والرُّقية للعقرب وغيرها مما يأتى.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رُقْيَة النَّمْلَة
قد تقدَّم من حديث أنس الذى فى "صحيح مسلم" أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "رخَّص فى الرُّقْيَةِ مِنَ الحُمَةِ والعَيْنِ والنَّمْلَةِ".
وفى "سنن أبى داود" عن الشِّفَاء بنت عبد الله، قالت: دخل علىَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا عِند حَفْصَة، فقال: "ألا تُعَلِّمينَ هذه رُقية النَّمْلةِ كما عَلَّمْتِيها الكتابةَ".
النَّمْلَة: قُروح تخرج فى الجنبين، وهو داء معروف، وسُمِّى نملةً، لأن صاحِبَه يُحس فى مكانه كأنَّ نملة تَدِبُّ عليه وَتعضُّه، وأصنافها ثلاثة، قال ابن قتيبة وغيرُه: كان المجوسُ يزعمون أنَّ ولد الرجل من أُخته إذا خُطَّ على النَّملَةِ، شُفِىَ صاحبها، ومنه قول الشاعر:
وَلاَ عَيْبَ فِينَا غَيْرَ عُرْفٍ لِمَعْشَرٍ ... كِرامٍ وَأَنَّا لاَ نَخُطُّ عَلَى النَّمْلِ
وروى الخَلاَّل: أنَّ الشِّفَاء بنتَ عبد الله كانت تَرقى فى الجاهلية من النَّمْلَة، فلمَّا هاجرت إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانت قد بايعته بمكة، قالت: يا رسول الله ؛ إنِّى كنت أرقى فى الجاهلية من النَّمْلَة، وإنى أُريدُ أن أعْرِضَهَا عليكَ، فعرضت عليه فقالت: بسم اللهِ ضَلَّت حتى تعود مِن أفواهها،

ولا تَضُرُّ أحداً، اللهُمَّ اكشف البأسَ ربَّ الناسِ، قال: ترقى بِهَا عَلَى عُودٍ سبعَ مَرات، وتقصِدُ مَكاناً نظيفاً، وَتَدْلُكُهُ على حجر بخَلِّ خَمرٍ حاذق، وتَطْلِيه على النَّمْلَةِ. وفى الحديث: دليلٌ على جواز تعليم النساء الكتابة.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رُقْيَة الحَيَّة
قد تقدَّم قوله: "لا رُقْيَةَ إلا فى عَيْنٍ، أو حُمَةٍ"، الحُمَة: بضم الحاء وفتح الميم وتخفيفها.
وفِى "سنن ابن ماجه" من حديث عائشة: "رخَّص رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الرُّقْيَة من الحيَّةِ والعقرب".
ويُذكر عن ابن شهاب الزُّهْرى، قال: لَدَغَ بعض أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَّةٌ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "هَلْ مِن رَاقٍ" ؟ فقالوا: يا رسول الله ؛ إن آل حزم كانوا يَرْقُون رُقيةَ الحَيَّةِ، فلما نَهَيْتَ عن الرُّقَى تركوها، فقال: "ادْعُو عُمارة بن حزم" فدعوه، فعرضَ عليه رُقاه، فقال: "لا بأسَ بها" فأذن له فيها فرقاه.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رُقْيَة القَرْحة والجُرْح
أخرجا فى "الصحيحين" عن عائشة قالت: "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اشتكى الإنسانُ أو كانت به قَرحةٌ أو جُرحٌ، قال بأصبعه: هكذا ووضع سفيانُ سبَّابَتَهُ بالأرض، ثم رفعها وقال: "بسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أرضِنا بِرِيقَةِ بعضِنا، يُشْفَى سَقِيمُنا بإذنِ رَبِّنا".
هذا من العلاج الميسر النافع المركَّب، وهى معالجة لطيفة يُعالج بها القُروحُ والجِراحات الطرية، لا سِيَّما عند عدم غيرِها من الأدوية إذ كانت موجودة بكل أرض، وقد عُلِمَ أنَّ طبيعة التراب الخالص باردةٌ يابسة مجفِّفةٌ لرطوبات القروح والجراحات التى تمنع الطبيعةُ من جودة فعلها، وسرعةِ اندمالها، لا سِيَّما فى البلاد الحارَّة، وأصحاب الأمزجة الحارَّة، فإنَّ القُروح والجِراحات يتبعُها فى أكثر الأمر سوءُ مزاجٍ حارٍ، فيجتمِعُ حرارة البلد والمزاجُ والجِراحُ، وطبيعةُ التراب الخالص باردة يابسة أشدُّ مِن برودة جميع الأدوية المفردة الباردة، فتُقَابِلُ برودةُ الترابِ حرارةَ المرض، لا سِيَّما إن كان الترابُ قد غُسِلَ وجُفِّفَ، ويتبعها أيضاً كثرةُ الرطوبات الرديئة، والسيلان، والتُّراب مُجَفِفٌ لها، مُزِيلٌ لشدة يبسه وتجفيفه للرطوبة الرديئة المانعة من برئها، ويحصل به مع ذلك تعديلُ مزاج العضو العليل، ومتى اعتدل مزاج العضو قويت قواه المدبرة، ودفعت عنه الألم بإذن الله.

ومعنى الحديث: أنه يأخذ مِن ريق نفسه على أصبعه السبابة، ثم يضعها على التراب، فيعلَق بها منه شىء، فيمسح به على الجُرح، ويقول هذا الكلام لما فيه من بركة ذكر اسم الله، وتفويض الأمر إليه، والتوكل عليه، فينضَمُّ أحدُ العلاجين إلى الآخر، فَيقْوَى التأثير.
وهل المراد بقوله: "تُرْبَةُ أَرضِنا" جميع الأرض أو أرضُ المدينة خاصة ؟ فيه قولان، ولا ريبَ أنَّ مِن التُربة ما تكون فيه خاصية ينفع بخاصيته من أدواءٍ كثيرة، ويشفى بها أسقاماً رديئة.
قال "جالينوس": رأيتُ بالإسكندرية مَطحُولين، ومُستسقين كثيراً، يستعملون طين مصر، ويطلُون به على سُوقهم، وأفخاذهم، وسواعدهم، وظهورهم، وأضلاعهم، فينتفعون به منفعة بَيِّنة. قال: وعلى هذا النحو فقد ينفع هذا الطلاء للأورام العفنة والمترهِّلة الرخوة، قال: وإنِّى لأعرفُ قوماً ترهَّلَت أبدانُهم كُلُّها من كثرة استفراغ الدم من أسفل، انتفعوا بهذا الطين نفعاً بَيِّناً، وقوماً آخرين شَفَوْا به أوجاعاً مزمنة كانت متمكنة فى بعض الأعضاء تمكناً شديداً، فبرأت وذهبت أصلاً.
وقال صاحب "الكتاب المسيحى": قُوَّة الطين المجلوب من "كنوس" وهى جزيرة المصطكى قوة تجلو وتغسل، وتُنبت اللحمَ فى القروح، وتختم القُروح.. انتهى.
وإذا كان هذا فى هذه التُرْبات، فما الظنُّ بأطيبِ تُربة على وجه الأرض وأبركها، وقد خالطت ريقَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقارنت رُقيته باسم ربه، وتفويض الأمر إليه، وقد تقدم أن قُوَى الرُّقْيَة وتأثيرَها بحسب الراقى، وانفعال المرقى عن رُقْيَته، وهذا أمر لا يُنكره طبيب فاضل عاقل مسلم، فإن انتفى أحد الأوصاف، فليقل ما شاء.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في علاج الوجع بالرقية
روى مسلم في "صحيحه" عن عثمان بن أبي العاص، "أنه شكى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ضع يَدَكَ عَلَى الَّذي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ وقُل: بِسْمِ الله ثلاثاً، وقُلْ سبع مرات: أعوذُ بِعِزَّةِ الله وقُدرَتهِ منْ شَرِّ مِا أجدُ وأُحاَذِر" ففي هذا العلاج من ذكر الله، والتفويض إليه، والاستعاذة بعزته وقدرته من شر الألم ما يَذهب به، وتكراره ليكونَ أنجعَ وأبلغ، كتكرار الدواء لإخراج المادة، وفي السبع خاصية لا توجد في غيرها، وفي "الصحيحين": أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "كان يعوِّذُ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى، ويقول: "اللهمَّ رَبَّ الناس، أَذهِب الباَسَ، واشفِ أنت الشّافي، لا شِفَاء إلا شفاؤُك، شفاءً لا يغادرُ سَقَماً". ففي هذه الرُقية توسل إلى الله بكمال زبوبيته، وكما رحمته بالشفاء، وأنه وحده الشافي، وأنه لا شفاء إلا شِفاؤُه، فتضمنت التوسل إليه بتوحيده وإحسانه وربوبيته.
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في علاج حر المصيبة وحزنها
قال تعالى: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا

إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }[البقرة: 155] . وفي "المسند" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ما من أَحَدٍ تصيبُه مصِيبَةٌ فيقولُ: إنَّا لله وإنَّا إليه رَاجِعُونَ، اللهم أجرنِي في مُصيبَتى وأخلفْ لي خيراً منهَا، إلا أجاَرَه الله في مصِيبَتِهِ، وأخلفَ لهُ خَيراً منها".
وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته، فأنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته.
أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة، وقد جعله عند العبد عارية، فإذا أخذه منه، فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير، وأيضا فإنه محفوف بِعَدَمينِ: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير، وأيضا فإنه ليس الذي أوجده من عدمه، حتى يكون ملكه حقيقةً، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده، ولا يبقى عليه وجوده، فليس له فيه تأثير، ولا ملك حقيقي، وأيضا فإنه متصرف فيه بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي، لا تصرف الملاك، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي.
والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولاعشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد وما خُوِّله ونهايته، فكيف يفرح بموجود، أو يأسى على مفقود، ففكره فى مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء، ومن علاجه أن يعلم علم

اليقين أنَّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنْفُسِكُمْ إلاَّ فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا، إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[الحديد: 22].
ومن علاجه أن ينظر إلى ما أُصيبَ به، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله، أو أفضل منه، وادَّخر له إن صبرَ ورضِىَ ما هو أعظمُ من فوات تِلك المصيبةِ بأضعافٍ مُضاعفة، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هى.
ومن عِلاجه أن يُطفئَ نارَ مصيبته ببرد التأسِّى بأهل المصائب، وليعلم أنه فى كل وادٍ بنو سعد، ولينظر يَمْنةً، فهل يرى إلا مِحنةً ؟ ثم ليعطف يَسْرةً، فهل يرى إلا حسرةً ؟، وأنه لو فتَّش العالَم لم ير فيهم إلا مبتلىً، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأنَّ شرورَ الدنيا أحلامُ نوم أو كظلٍّ زائلٍ، إن أضحكتْ قليلاً، أبكتْ كثيراً، وإن سَرَّتْ يوماً، ساءتْ دهراً، وإن مَتَّعتْ قليلاً، منعت طويلاً، وما ملأت داراً خيرةً إلا ملأتها عَبْرة، ولا سرَّته بيومِ سرور إلا خبأتْ له يومَ شرور.
قال ابن مسعود رضى الله عنه: لكل فرحةٍ تَرْحة، وما مُلِىءَ بيتٌ فرحاً إلا مُلِىءَ تَرحاً.
وقال ابن سيرين: ما كان ضحكٌ قَطٌ إلا كان من بعده بُكاء.
وقالت هند بنت النُّعمان: لقد رأيتُنا ونحن مِن أعزِّ الناس وأشدِّهم مُلكاً، ثم لم تَغِبِ الشمسُ حتى رأيتُنا ونحن أقلُّ الناس، وأنه حقٌ على الله ألا يملأ داراً خَيْرة إلا ملأها عَبرة.

وسألها رجلٌ أن تُحَدِّثه عن أمرها، فقالت: أصبحنا ذا صباح، وما فى العرب أحدٌ إلا يرجونا، ثم أمسينا وما فى العرب أحد إلا يرحمُنا.
وبكت أختها حُرقَةُ بنت النُّعمان يوماً، وهى فى عِزِّها، فقيل لها: ما يُبكيكِ، لعل أحداً آذاك ؟ قالت: لا، ولكن رأيتُ غَضارة فى أهلى، وقلَّما امتلأت دارٌ سروراً إلا امتلأت حُزناً.
قال إسحاق بنُ طلحة: دخلتُ عليها يوماً، فقلتُ لها: كيف رأيتِ عبراتِ الملوك ؟ فقالت: ما نحنُ فيه اليومَ خيرٌ مما كنا فيه الأمس، إنَّا نجِدُ فى الكتب أنه ليس مِن أهل بيت يعيشون فى خيْرة إلا سيُعقَبون بعدها عَبرة، وأنَّ الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بَطَن لهم بيوم يكرهونه، ثم قالت:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا ... إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
فَأُفٍّ لِدُنْيَا لاَ يَدُومُ نَعِيمُهَا ... تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ الجزع لا يردها، بل يُضاعفها، وهو فى الحقيقة من تزايد المرض.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ فوت ثواب الصبر والتسليم، وهو الصلاةُ والرحمة والهداية التى ضمِنَها الله على الصبر والاسترجاع، أعظمُ مِن المصيبة فى الحقيقة.

ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ الجَزَعَ يُشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويُغضب ربه، ويَسرُّ شيطانه، ويُحبط أجره، ويُضعف نفسه، وإذا صبرَ واحتسب أنضى شيطانه، وردَّه خاسئاً، وأرضى ربه، وسرَّ صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه، وعزَّاهم هو قبل أن يُعَزُّوه، فهذا هو الثباتُ والكمال الأعظم، لا لطمُ الخدودِ، وشقُّ الجيوب، والدعاءُ بالوَيْل والثُّبور، والسخَطُ على المقدور.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ ما يُعقبه الصبرُ والاحتساب من اللَّذة والمسرَّة أضعافُ ما كان يحصُل له ببقاء ما أُصيبَ به لو بقى عليه، ويكفيه من ذلك بيتُ الحمد الذى يُبنى له فى الجنَّة على حمده لربه واسترجاعه، فلينظرْ: أىُّ المصيبتين أعظمُ ؟ مصيبةُ العاجلة، أو مصيبةُ فواتِ بيتِ الحمد فى جنَّة الخلد ؟
وفى الترمذى مرفوعاً: "يَوَدُّ ناسٌ يَوْمَ القيامة أنَّ جُلُودَهُم كانت تُقْرَضُ بالمقارِيض فى الدُّنيا لما يَرَوْنَ من ثوابِ أهلِ البلاءِ".
وقال بعضُ السَّلَف: لولا مصائبُ الدنيا لورَدْنا القيامة مفاليس.
ومِن عِلاجها: أن يُرَوِّح قلبه برَوْح رجاء الخَلَفِ من الله، فإنه من كُلِّ شىء عِوَض إلا الله، فما مِنه عِوَضٌ كما قيل:
مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ ... وَمَا مِنَ اللهِ إنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ
ومن عِلاجها: أن يعلم أنَّ حظه من المصيبة ما تُحدثه له، فمن رضى، فله الرِّضى، ومن سخِط، فله السَّخَط، فحظُّك منها ما أحدثته لك، فاختر خيرَ الحظوظ أو شرَّها، فإن أحدثت له سخطاً وكفراً، كُتِب

فى ديوان الهالكين، وإن أحدثت له جزعاً وتفريطاً فى ترك واجب، أو فى فعل مُحَرَّم، كُتِبَ فى ديوان المفرِّطين، وإن أحدثتْ له شكايةً وعدم صبرٍ، كُتِبَ فى ديوان المغبونين، وإن أحدثتْ له اعتراضاً على الله، وقدحاً فى حكمته، فقد قرع باب الزندقة أو ولَجه، وإن أحدثت له صبراً وثباتاً لله، كُتِبَ فى ديوان الصابرين، وإن أحدثت له الرِّضى عن الله، كُتِبَ فى ديوان الراضين، وإن أحدثت له الحمدَ والشكرَ، كُتِبَ فى ديوان الشاكرين، وكان تحتَ لواء الحمد مع الحمَّادين، وإن أحدثت له محبةً واشتياقاً إلى لقاء ربه، كُتِبَ فى ديوان المُحبِّين المخلصين.
وفى "مسند الإمام أحمد" والترمذىِّ، من حديثِ محمود بن لبيد يرفعه: "إنَّ اللهَ إذا أحبَّ قوماً ابتلاهُم، فمَن رَضِىَ فَلَهُ الرِّضى، ومَن سَخِط فَلَهُ السُّخْطُ". زاد أحمد: "ومَن جَزِع فَلَهُ الجَزَعُ".
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنه وإن بلغ فى الجَزَع غايتَه، فآخِرُ أمره إلى صبر الاضطرار، وهو غيرُ محمود ولا مُثاب، قال بعض الحكماء: العاقلُ يفعل فى أوَّل يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومَن لم يصبْر صَبْرَ الكِرَام، سلا سُلُوَّ البهائم
وفى "الصحيح" مرفوعاً: "الصَّبْرُ عند الصَّدْمَةِ الأُولى".
وقال الأشعث بن قيس: إنك إن صبرتَ إيماناً واحتساباً، وإلا سَلَوْتَ سُلُوَّ البهائِم.

ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ أنفع الأدوية له موافقةُ ربه وإلهه فيما أحبَّه ورضيه له، وأن خاصيَّة المحبة وسِرَّها موافقةُ المحبوب، فمَن ادَّعى محبة محبوب، ثم سَخِطَ مَا يُحِبُّه، وأحبَّ ما يُسخطه، فقد شهد على نفسه بكذبه، وتَمقَّتَ إلى محبوبه.
وقال أبو الدرداء: إنَّ الله إذا قضى قضاءً، أحب أن يُرضَى به.
وكان عِمران بن حصين يقول فى عِلَّته: أحَبُّهُ إلىَّ أحَبُّهُ إليه، وكذلك قال أبو العالية.
وهذا دواءٌ وعِلاجٌ لا يَعمل إلا مع المُحبِّين، ولا يُمكن كُلّ أحد أن يتعالج به.
ومِن عِلاجها: أن يُوازِن بين أعظم اللَّذتين والتمتعين، وأدْوَمِهما: لذَّةِ تمتعه بما أُصيب به، ولَذَّةِ تمتُّعه بثواب الله له، فإن ظهر له الرجحان، فآثر الراجِحَ، فليحمدِ الله على توفيقه، وإن آثر المرجوحَ مِن كل وجه، فليعلم أنَّ مصيبتَه فى عقله وقلبه ودينه أعظمُ مِن مصيبته التى أُصيب بها فى دنياه
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ الذى ابتلاه بها أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ الراحمين، وأنه سبحانه لم يُرسل إليه البلاءَ ليُهلكه به، ولا ليُعذبه به، ولا ليَجْتاحَه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه، وليسمع تضرُّعه وابتهالَه، وليراه طريحاً ببابه، لائذاً بجنابه، مكسورَ القلب بين يديه، رافعاً قصصَ الشكوى إليه.
قال الشيخ عبد القادر: يا بُنَىَّ ؛ إنَّ المصيبةَ ما جاءت لِتُهلِكَكَ، وإنَّما جاءت لتمتحِنَ صبرك وإيمانَك، يا بُنَىَّ ؛ القَدَرُ سَبُعٌ، والسَّبُعُ لا يأكل الميتةَ.
والمقصود: أنَّ المصيبة كِيرُ العبدِ الذى يُسبَك به حاصله، فإما أن

يخرج ذهباً أحمر، وإما أن يخرج خَبَثاً كله، كما قيل:
سَبَكْنَاه ونَحْسِبهُ لُجَيْناً ... فأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ
فإن لم ينفعه هذا الكِيرُ فى الدنيا، فبيْنَ يديه الكِيرُ الأعظم، فإذا علم العبد أنَّ إدخاله كِيرَ الدنيا ومَسبكَها خيرٌ له من ذلك الكِير والمسبك، وأنه لا بد من أحد الكِيرَين، فليعلم قدرَ نعمة الله عليه فى الكِير العاجل.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنه لولا مِحَنُ الدنيا ومصائبُها، لأصاب العبدَ مِن أدْواء الكِبْرِ والعُجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سببُ هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمةِ أرحم الراحمين أن يتفقَّده فى الأحيان بأنواع من أدوية المصائب، تكون حِمية له من هذه الأدواء، وحِفظاً لصحة عُبوديتهِ، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه، فسبحانَ مَن يرحمُ ببلائه، ويبتلى بنعمائه كما قيل:
قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بِالْبَلْوَى وَإنْ عَظُمَتْ ... وَيَبْتَلِى اللهُ بعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ
فلولا أنه سبحانه يداوى عباده بأدوية المحن والابتلاء، لطَغَوا، وبَغَوْا، وعَتَوْا، واللهُ سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرِغُ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه، أهَّلَه لأشرفِ مراتب الدنيا، وهى عبوديتُه، وأرفع ثواب الآخرة، وهو رؤيتُه وقُربه ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ مرارةَ الدنيا هى بعينها حلاوةُ الآخرة، يَقلِبُها الله سبحانه كذلك، وحلاوة الدنيا بعينها مرارةُ الآخرة، ولأَنْ ينتقل مِن مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خيرٌ له من عكس ذلك. فإن خَفِىَ عليك هذا، فانظر إلى قول الصادق المصدوق: "حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكَارهِ،

وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ"
وفى هذا المقام تفاوتت عقولُ الخلائق، وظهرت حقائقُ الرجال، فأكثرُهم آثرَ الحلاوةَ المنقطعة على الحلاوة الدائمة التى لا تزول، ولم يحتمل مرارةَ ساعةٍ لِحلاوة الأبد، ولا ذُلَّ ساعةٍ لِعزِّ الأبد، ولا مِحنةَ ساعةٍ لعافيةِ الأبد، فإنَّ الحاضر عنده شهادةٌ، والمنتظر غيبٌ، والإيمان ضعيفٌ، وسلطانُ الشهوة حاكم، فتوَلَّد من ذلك إيثارُ العاجلة، ورفضُ الآخرة، وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأُمور، وأوائلها ومبادئها، وأما النظر الثاقب الذى يَخرِق حُجُب العاجلة، ويُجاوزه إلى العواقب والغايات، فله شأنٌ آخرُ.
فادع نفسك إلى ما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم، والسعادة الأبدية، والفوز الأكبر، وما أعدَّ لأهل البطالة والإضاعة من الخزى والعقاب والحسرات الدائمة، ثم اخترْ أىُّ القسمَيْن أليقُ بك، وكُلٌ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ، وكُلُّ أحد يصبُو إلى ما يُناسبه، وما هو الأَوْلَى به، ولا تستطِلْ هذا العلاج، فشدةُ الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه، وبالله التوفيق.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج الكرب والهم والغم والحزن
أخرجا فى "الصحيحين" من حديث ابن عباس، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول عند الكَرْب: " لا إلهَ إلا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لا إلهَ

إلا اللهُ ربُّ العرشِ العَظِيمُ، لا إلهَ إلا اللهُ رَبُّ السَّمَواتِ السَّبْع، ورَبُّ الأرْض , رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمُ".
وفى "جامع الترمذىِّ" عن أنس، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "كان إذا حَزَبَهُ أمرٌ، قال : "يا حَىُّ يا قَيُّومُ برحمتِكَ أستغيثُ".
وفيه عن أبى هُريرة: "أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان إذا أهمَّهُ الأَمْرُ، رفع طرفه إلى السماء فقال: "سُبْحَانَ الله العظيمِ"، وإذا اجتهد فى الدعاء قال: "يا حَىُّ يا قَيُّومُ".
وفى "سنن أبى داود"، عن أبى بكر الصِّدِّيق، أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " دَعَواتُ المكروبِ: اللهُمَّ رَحْمَتَكَ أرجُو، فَلا تَكِلْنِى إلى نَفْسى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وأصْلِحْ لى شَأنى كُلَّهُ، لا إله إلا أنْتَ".
وفيها أيضاً عن أسماء بنت عُمَيس قالت: قال لى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا أُعلِّمُكِ كلماتٍ تقوليهِنَّ عِنْدَ الكَرْبِ أو فى الكَرْبِ: "اللهُ رَبِّى

لا أُشْرِكُ به شيئاً". وفى رواية أنها تُقال سبعَ مرات.
وفى "مسند الإمام أحمد" عن ابن مسعود، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما أصابَ عبداً هَمٌ ولا حُزْنٌ فقال: اللهُمَّ إنِّى عَبْدُكَ، ابنُ عَبْدِكَ، ابنُ أمتِكَ، ناصِيَتى بيَدِكَ، مَاضٍ فِىَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌْ فىَّ قضاؤكَ، اسألُكَ بكل اسْمٍ هُوَ لكَ سَمَّيْتَ به نَفْسَكَ، أو أنزلْتَه فِى كِتَابِكَ، أو عَلَّمْتَهُ أحداً من خَلْقِك، أو استأثَرْتَ به فى عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ: أن تَجْعَل القُرْآنَ العظيم رَبيعَ قَلْبِى، ونُورَ صَدْرى، وجِلاءَ حُزنى، وذَهَابَ هَمِّى، إلا أذْهَبَ اللهُ حُزْنَه وهَمَّهُ، وأبْدَلَهُ مكانَهُ فرحاً".
وفى "الترمذىِّ" عن سعد بن أبى وَقَّاص، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دعوةُ ذى النُّون إذْ دَعَا رَبَّهُ وهو فى بَطْنِ الحُوتِ: {لاَ إلهَ إلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، لَمْ يَدْعُ بها رجلٌ مسلمٌ فى شىءٍ قَطُّ إلا اسْتُجِيبَ له".

وفى رواية: "إنِّى لأعلمُ كِلْمَةً لا يقولُهَا مكْروبٌ إلا فرَّج الله عنه: كَلِمَةَ أخى يُونُس".
وفى "سنن أبى داود" عن أبى سعيد الخدرى، قال: دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يُقالُ له: أبو أُمَامة، فقال: "يا أبا أُمامة ؛ ما لى أرَاكَ فى المسجدِ فى غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ" ؟ فقال: هُمومٌ لَزِمَتْنى، وديونٌ يا رسولَ الله، فقال: "ألا أُعَلِّمُكَ كلاماً إذا أنت قُلْتَهُ أذهبَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ هَمَّكَ وقَضَى دَيْنَكَ" ؟ قال: قلتُ: بلى يا رسول الله، قال: " قُلْ إذا أصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ: اللهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ من الهَمِّ والحَزَنِ، وأعوذُ بِكَ من العَجْزِ والكَسَلِ، وأعوذُ بِكَ من الجُبْنِ والبُخْلِ، وأعُوذُ بِكَ من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَال"، قال: ففعلتُ ذلك، فأذهب الله عَزَّ وجَلَّ هَمِّى، وقَضى عنى دَيْنِى.
وفى "سنن أبى داود"، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن لَزِمَ الاستغفارَ، جَعَلَ اللهُ لَهُ من كلِّ هَمٍّ فَرَجاً، ومِن كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً، ورزَقَهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِب"
وفى "المسند": أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا حَزَبَه أمرٌ، فَزِعَ إلى الصَّلاة، وقد قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالْصَّلاَة}

وفى "السنن": "عَلَيْكُم بالجِهَادِ، فإنَّه بابٌ مِن أبوابِ الجَنَّةِ، يدفعُ اللهُ به عن النُّفُوسِ الهَمَّ والغَمَّ".
ويُذكر عن ابن عباس، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن كَثُرَتْ هُمُومُهُ وغُمُومُهُ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ".
وثبت فى "الصحيحين": أنها كَنزٌ من كنوز الجَنَّة.
وفى "الترمذى ": أنها بابٌ من أبواب الجَنَّة.
هذه الأدوية تتضمَّن خمسةَ عشرَ نوعاً من الدواء، فإن لم تقو على إذهاب داءِ الهَمِّ والغَمِّ والحزن، فهو داءٌ قد استحكم، وتمكنت أسبابه، ويحتاج إلى استفراغ كُلِّى..
الأول: توحيد الرُّبوبية.
الثانى: توحيد الإلهية.
الثالث: التوحيد العلمى الاعتقادى.
الرابع: تنزيه الرَّب تعالى عن أن يظلم عبده، أو يأخذه بلا سبب من العبد يُوجب ذلك.
الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم.

السادس: التوسُّل إلى الرَّب تعالى بأحبِّ الأشياء، وهو أسماؤه وصفاته، ومن أجمعها لمعانى الأسماء والصفات: الحىُّ القَيُّوم.
السابع: الاستعانة به وحده.
الثامن: إقرار العبد له بالرجاء.
التاسع: تحقيقُ التوكلِ عليه، والتفويضِ إليه، والاعترافُ له بأنَّ ناصيتَه فى يده، يُصرِّفُه كيف يشاء، وأنه ماضٍ فيه حُكمُه، عدلٌ فيه قضاؤه.
العاشر: أن يَرتَعَ قلبُه فى رياض القرآن، ويجعلَه لقلبه كالربيع للحيوان، وأن يَسْتَضِىءَ به فى ظُلُماتِ الشُّبهات والشَّهوات، وأن يَتسلَّى به عن كل فائت، ويَتعزَّى به عن كل مصيبة، ويَستشفِىَ به من أدواء صدره، فيكونُ جِلاءَ حُزْنِه، وشفاءَ همِّه وغَمِّه.
الحادى عشر: الاستغفار.
الثانى عشر: التوبة.
الثالث عشر: الجهاد.
الرابع عشر: الصلاة.
الخامس عشر: البراءة من الحَوْل والقُوَّة وتفويضُهما إلى مَن هُما بيدِه.
فصل: فى بيان جهة تأثير هذه الأدوية فى هذه الأمراض
خلق الله سبحانه ابن آدمَ وأعضاءَه، وجعل لكل عُضو منها كمالاً إذا فقده أحسَّ بالألم، وجعل لِمَلِكها وهو القلب كمالاً، إذا فقده، حضرتْه

أسقامُه وآلامُه من الهموم والغموم والأحزان.
فإذا فقدت العَيْنُ ما خُلِقَتْ له مِن قوة الإبصار، وفقدت الأُذنُ ما خُلِقتْ له مِن قوة السَّمْع، واللِّسَانُ ما خُلِقَ له مِن قُوَّة الكلام، فقدتْ كمالَها
والقلبُ: خُلِقَ لمعرفةِ فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به، والابتهاج بحبه، والرضى عنه، والتوكل عليه، والحب فيه، والبغض فيه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، ودوام ذكره، وأن يكون أحبَّ إليه مِن كل ما سواه، وأرْجَى عنده مِن كل ما سواه، وأجَلَّ فى قلبه مِن كل ما سواه، ولا نعيمَ له ولا سرورَ ولا لذَّةَ، بل ولا حياة إلا بذلك، وهذا له بمنزلة الغِذاء والصحة والحياة، فإذا فَقَدَ غذاءه وصحته وحياته، فالهمومُ والغموم والأحزان مسارعةٌ مِن كل صَوْبٍ إليه، ورهْنٌ مقيم عليه.
ومن أعظم أدوائه: الشِّركُ والذنوبُ والغفلةُ والاستهانةُ بِمَحابِّه ومَراضيه، وتركُ التفويض إليه، وقِلَّةُ الاعتماد عليه، والركونُ إلى ما سواهُ، والسخطُ بمقدوره، والشكُّ فى وعده ووعيده.
وإذا تأملتَ أمراض القلب، وجدتَ هذه الأُمور وأمثالها هى أسبابُها لا سببَ لها سِواها، فدواؤه الذى لا دواءَ له سواه ما تضمنتْهُ هذه العلاجات النبوية من الأُمور المضادة لهذه الأدواء، فإنَّ المرضَ يُزال بالضد، والصِّحةُ تُحفظ بالمِثْل، فصحتُه تُحفظ بهذه الأُمور النبوية، وأمراضُه بأضدادها.
فالتوحيد.. يفتح للعبد بابَ الخير والسرور واللَّذة والفرح والابتهاج، والتوبةُ استفراغٌ للأخلاط والمواد الفاسدة التى هى سببُ أسقامه، وحِميةٌ له من التخليط، فهى تُغْلِق عنه بابَ الشرور، فيُفتَح له بابُ السعادة والخير بالتوحيد، ويُغْلَق باب الشرور بالتوبة والاستغفار.
قال بعض المتقدمين من أئمة الطب: مَن أراد عافية الجسم، فليقلِّلْ

مِن الطعام والشراب، ومَن أراد عافية القلب، فليترُكْ الآثام.
وقال ثابت بن قُرَّةَ: راحةُ الجسم فى قِلَّة الطعام، وراحةُ الرَّوح فى قِلَّة الآثام، وراحةُ اللِّسان فى قِلَّة الكلام.
والذنوبُ للقلب، بمنزلة السُّموم، إن لم تُهلكْه أضعفتْه، ولا بُدَّ، وإذا ضعُفت قوته، لم يقدرْ على مقاومة الأمراض، قال طبيبُ القلوب عبدُ الله ابن المُبارَك:
رَأَيْتُ الذنُوبَ تُمِيتُ الْقُلوبَ ... وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمَانُها
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلوبِ ... وَخَيرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
فالهوى أكبرُ أدوائها، ومخالفتُه أعظمُ أدويتها، والنفس فى الأصل خُلِقَتْ جاهلة ظالمة، فهى لجهلِها تظن شِفاءَها فى اتباع هواها، وإنما فيه تلفُها وعطَبُها، ولظلمِها لا تقبل مِن الطبيب الناصح، بل تضَعُ الداء موضِعَ الدواء فتعتمده، وتضعُ الدواء موضع الداء فتجتنبه، فيتولَّدُ مِن بين إيثارِها للداء، واجتنابِها للدواء أنواعٌ من الأسقام والعِلل التى تُعيِى الأطباء، ويتعذَّرُ معها الشفاء. والمصيبةُ العظمى، أنها تُرَكِّبُ ذلك على القَدَر، فتُبرِّىء نفسَها، وتلومُ ربَّها بلسان الحال دائماً، وَيقوَى اللَّومُ حتى يُصرِّحَ به اللِّسان.
وإذا وصل العليلُ إلى هذه الحال، فلا يُطمَع فى بُرئه إلا أن تتداركه رحمة من ربه، فيُحييه حياةً جديدة، ويرزقُه طريقةً حميدة، فلهذا كان حديث ابن عباس فى دُعاء الكرب مشتملاً على توحيد الإلهية والربوبية، ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القُدرة والرحمة، والإحسان والتجاوز، ووصفِه بكمال ربوبيته للعالَم العُلوىِّ والسُّفلىِّ، والعرش الذى هو سقفُ المخلوقات وأعظمها. والرُّبوبية

التامة تستلزِمُ توحيدَه، وأنه الذى لا تنبغى العبادةُ والحبُّ والخوفُ والرجاء والإجلال والطاعة إلا له. وعظمتُه المطلقة تستلزمُ إثباتَ كل كمال له، وسلبَ كل نقص وتمثيل عنه. وحِلمُه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه.
فعِلْمُ القلب ومعرفتُه بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيدَه، فيحصل له من الابتهاج واللَّذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، وأنت تجدُ المريض إذا ورد عليه ما يسرُّهُ ويُفرحه، ويُقوِّى نفسه، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسِّى، فحصولُ هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى.
ثم إذا قابلتَ بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التى تضمَّنها دعاءُ الكرب، وجدته فى غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخروج القلب منه إلى سعَةِ البهجة والسرور، وهذه الأُمورُ إنما يُصدِّق بها مَن أشرقت فيه أنوارُها، وباشر قلبُه حقائقَها.
وفى تأثير قوله: "يا حىُّ يا قَيُّومُ، برحمتِك أستغيثُ" فى دفع هذا الداء مناسبة بديعة، فإنَّ صفة الحياة متضمِّنةٌ لجميع صفات الكمال، مستلزمة لها، وصفة القَيُّومية متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا كان اسمُ الله الأعظمُ الذى إذا دُعىَ به أجاب، وإذا سُئِلَ به أعطى: هو اسمُ الحَىّ القَيُّوم، والحياة التامة تُضاد جميعَ الأسقام والآلام، ولهذا لَمَّا كَمُلَتْ حياة أهل الجَنَّة لم يلحقهم هَمٌ ولا غَمٌ ولا حَزَنٌ ولا شىء من الآفات. ونقصانُ الحياة تضر بالأفعال، وتنافى القيومية، فكمالُ القيومية لكمال الحياة، فالحىُّ المطلق التام الحياة لا يفوتُه صِفة الكمال ألبتة، والقَيُّوم لا يتعذَّرُ عليه فعلٌ ممكنٌ ألبتة، فالتوسل بصفة الحياة والقَيُّومية

له تأثيرٌ فى إزالة ما يُضادُّ الحياة، ويضُرُّ بالأفعال.
ونظير هذا توسلُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ربه بربوبيته لجبريلَ ومِيكائيلَ وإسرافيلَ أن يَهدِيَه لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنه، فإنَّ حياة القلب بالهداية، وقد وكَّل الله سبحانه هؤلاء الأملاك الثلاثة بالحياة، فجبريلُ موَّكلٌ بالوحى الذى هو حياةُ القلوب، وميكائيل بالقَطْر الذى هو حياةُ الأبدان والحيوان، وإسرافيل بالنَّفْخ فى الصُّور الذى هو سببُ حياةِ العالَم وعَودِ الأرواح إلى أجسادها، فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة، له تأثير فى حصول المطلوب.
والمقصود: أن لاسم الحىّ القَيُّوم تأثيراً خاصاً فى إجابة الدعوات، وكشف الكُربات.
وفى "السنن" و"صحيح أبى حاتم" مرفوعاً: "اسمُ اللهِ الأعْظَم فى هاتَيْنِ الآيتين: {وَإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ، لا إلهَ إلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]، وفاتحةِ آلِ عمران: {آلم اللهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ}[آل عمران: 1-2] ، قال الترمذىُّ: حديث صحيح
وفى "السنن" و"صحيح ابن حِبَّان" أيضاً: من حديث أنس أنَّ رجلاً دعا، فقال: اللهُمَّ إنِّى أسألُكَ بأنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لا إلَهَ إلا أنتَ المنَّانُ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ، يا ذا الجلال والإكرام، يا حىُّ يا قَيُّومُ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

" لقد دَعَا اللهَ باسمِهِ الأعْظَم الذى إذا دُعِىَ به أجابَ، وإذا سُئِلَ به أعْطَى".
ولهذا كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اجتهد فى الدعاء، قال: "يَا حىُّ يا قَيُّومُ".
وفى قوله: "اللهُمَّ رَحْمَتَكَ أرْجُو، فلا تَكِلْنى إلى نفسى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وأصْلِحْ لى شأنى كُلَّهُ لا إلهَ إلاَّ أنتَ" من تحقيق الرجاء لمن الخيرُ كُلُّهُ بيديه والاعتمادُ عليه وحده، وتفويضُ الأمر إليه، والتضرع إليه، أن يتولَّى إصلاح شأنه، ولا يَكِلَه إلى نفسه، والتوسُّل إليه بتوحيده مما له تأثيرٌ قوى فى دفع هذا الداء، وكذلك قوله: "اللهُ ربِّى لا أُشْرِكُ بِه شَيْئاً".
وأما حديث ابن مسعود: "اللهُمَّ إنِّى عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ"، ففيه من المعارف الإلهية، وأسرارِ العبودية ما لا يتَّسِعُ له كتاب، فإنه يتضمَّن الاعترافَ بعبوديته وعبودية آبائه وأُمهاته، وأنَّ ناصيته بيده يُصرِّفها كيف يشاء، فلا يملِك ُ العبدُ دونه لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً، ولا نُشوراً، لأنَّ مَن ناصيتُه بيد غيره، فليس إليه شىءٌ من أمره، بل هو عانٍ فى قبضته، ذليل تحت سلطان قهرِه.
وقوله: "ماضٍ فىَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِىَّ قضاؤكَ" متضمنٌ لأصلين عظيمين عليهما مدارُ التوحيد.
أحدهما: إثباتُ القَدَر، وأنَّ أحكام الرَّبِّ تعالى نافذةٌ فى عبده ماضيةٌ فيه، لا انفكاكَ له عنها، ولا حِيلةَ له فى دفعها.
والثانى: أنه سبحانه عدلٌ فى هذه الأحكام، غير ظالم لعبده،

بل لا يخرُج فيها عن موجب العدل والإحسان، فإنَّ الظلم سببه حاجةُ الظالم، أو جهلُه،أو سفهُه، فيستحيلُ صدورهُ ممن هو بكل شىء عليمٌ، ومَن هو غنىٌ عن كل شىء، وكلُّ شىء فقيرٌ إليه، ومَنْ هو أحكم الحاكمين، فلا تخرُج ذَرَّةٌ مِن مقدوراته عن حِكمته وحمده، كما لم تخرج عن قُدرته ومشيئته، فحِكمته نافذة حيثُ نفذتْ مشيئته وقُدرته، ولهذا قال نبىُّ الله هودٌ صَلَّى الله على نبينا وعليه وسَلَّم، وقد خَوَّفه قومُه بآلهتهم:{ إنِّى أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ *مِن دُونِهِ، فَكِيدُونِى جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إنِّى تَوَكَّلْتُ علَى اللهِ رَبِّى وَرَبِّكُم * مَّا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[هود: 54-57] ، أى مع كونه سبحانه آخذاً بنَواصى خلقه وتصريفهم كما يشاء، فهو على صراطٍ مستقيمٍ لا يتصرَّفُ فيهم إلا بالعدل والحكمة، والإحسان والرحمة. فقوله: "ماضٍ فىَّ حُكْمُكَ"، مطابقٌ لقوله: {مَا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} ، وقولُه: "عَدْلٌ فِىَّ قضاؤكَ"، مطابقٌ لقوله:
{إنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 57] ، ثم توسَّلَ إلى رّبِّه بأسمائه التى سمَّى بها نفسه ما عَلِمَ العبادُ منها وما لم يعلموا. ومنها: ما استأثره فى علم الغيب عنده، فلم يُطلع عليه مَلَكاً مُقرَّباً، ولا نبيّاً مرسلاً، وهذه الوسيلةُ أعظمُ الوسائل، وأحبُّها إلى الله، وأقربُها تحصيلاً للمطلوب.
ثم سأله أن يجعلَ القرآن لِقلبه كالربيع الذى يرتَع فيه الحيوانُ، وكذلك القرآنُ ربيعُ القلوب، وأن يجعلَه شفاءَ هَمِّه وغَمِّه، فيكونُ له بمنزلة الدواء الذى يستأصِلُ الداء، ويُعيدُ البدن إلى صحته واعتداله، وأن يجعله لحُزنه كالجِلاء الذى يجلو الطُّبوعَ والأصديةَ وغيرها، فأحْرَى بهذا العلاج إذا صدق العليل فى استعماله أن يُزيلَ عنه داءه، ويُعقبه شفاءً تاماً، وصحةً وعافيةً.. والله الموفق.

وأما دعوةُ ذى النون.. فإنَّ فيها من كمال التوحيد والتنزيه للربِّ تعالى، واعترافِ العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدويةِ الكَربِ والهَمِّ والغَمِّ، وأبلغِ الوسائل إلى الله سبحانه فى قضاء الحوائج، فإنَّ التوحيدَ والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال للهِ، وسلبَ كُلِّ نقصٍ وعيب وتمثيل عنه. والاعترافُ بالظلم يتضمَّن إيمانَ العبد بالشرع والثواب والعقاب، ويُوجب انكسارَه ورجوعَه إلى الله، واستقالته عثرتَه، والاعترافَ بعبوديته، وافتقاره إلى ربه، فههنا أربعةُ أُمور قد وقع التوسلُ بها: التوحيد، والتنزيه، والعبودية، والاعتراف.
وأما حديث أبى أمامة: "اللهُمَّ إنِّى أعوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ"، فقد تضمَّن الاستعاذة من ثمانية أشياء، كُلُّ اثنين منها قَرينان مزدوجان، فالهمُّ والحَزَنُ أَخوان، والعجزُ والكسلُ أخوان، والجُبنُ والبُخلُ أَخوان، وضَلَعُ الدَّيْن وغلبةُ الرجال أخوان، فإنَّ المكروه المؤلم إذا ورد على القلب، فإما أن يكون سببهُ أمراً ماضياً، فيُوجب له الحزن، وإن كان أمراً متوقعاً فى المستقبل، أوجب الهم، وتخلفُ العبد عن مصالحه وتفويتها عليه، إما أن يكون مِن عدم القُدرة وهو العجز، أو من عدم الإرادة وهو الكسل، وحبسُ خيره ونفعه عن نفسه وعن بنى جنسه، إما أن يكونَ منعَ نفعه ببدنه، فهو الجُبن، أو بماله، فهو البخل، وقهرُ النَّاس له إما بحق، فهو ضَلَعُ الدَّيْن، أو بباطل فهو غَلبَةُ الرِّجال، فقد تضمَّن الحديثُ الاستعاذة من كل شَرٍّ.
وأما تأثيرُ الاستغفار فى دفع الهَّمِّ والغَمِّ والضِّيق، فلِمَا اشترَكَ فى العلم به أهلُ الملل وعقلاءُ كُلِّ أُمة أنَّ المعاصىَ والفسادَ تُوجب الهَمَّ والغَمَّ، والخوفَ والحُزن، وضيقَ الصدر، وأمراض القلب، حتى إنَّ أهلها إذا قضَوْا منها أوطارَهم، وسئمتها نفوسُهم، ارتكبوها دفعاً لما

يَجِدُونه فى صدورهم من الضيق والهَمِّ والغَمِّ، كما قال شيخُ الفسوق:
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ ... وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام فى القلوب، فلا دواءَ لها إلا التوبةُ والاستغفار
وأما الصَّلاةُ.. فشأنها فى تفريح القلب وتقويته، وشرحِه وابتهاجه ولذَّته أكبرُ شأن، وفيها من اتصالِ القلب والروح بالله، وقربه والتنعم بذكره، والابتهاجِ بمناجاته، والوقوفِ بين يديه، واستعمالِ جميع البدن وقُواه وآلاته فى عبوديته، وإعطاء كل عضو حظَّه منها، واشتغالهِ عن التعلُّق بالخلق وملابستهم ومحاوراتهم، وانجذابِ قُوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره، وراحتِه من عدوِّه حالةَ الصلاة ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرِّحات والأغذية التى لا تُلائم إلا القلوبَ الصحيحة. وأمَّا القلوبُ العليلة، فهى كالأبدان لا تُناسبها إلا الأغذية الفاضلة.
فالصلاةُ من أكبر العَوْن على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة، وهى منهاةٌ عن الإثم، ودافعةٌ لأدواء القلوب، ومَطْرَدَةٌ للداءِ عن الجسد، ومُنوِّرةٌ للقلب، ومُبيِّضَةٌ للوجه، ومُنشِّطةٌ للجوارح والنفس، وجالِبةٌ للرزق، ودافعةٌ للظلم، وناصِرةٌ للمظلوم، وقامِعةٌ لأخلاط الشهوات، وحافِظةٌ للنعمة، ودافِعةٌ للنِّقمة، ومُنزِلةٌ للرحمة، وكاشِفة للغُمَّة، ونافِعةٌ من كثير من أوجاع البطن.
وقد روى ابن ماجه فى "سننه" من حديث مجاهد، عن أبى هريرة قال: رآنى رسولُ

الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا نائم أشكو مِن وجع بطنى، فقال لى: "يا أبا هُرَيْرَة ؛ أشِكَمَتْ دَرْدْ" ؟ قال: قلتُ: نعم يا رسولَ الله، قال: "قُمْ فَصَلِّ، فإنَّ فى الصَّلاةِ شِفَاءً".
وقد رُوى هذا الحديثُ موقوفاً على أبى هُرَيرةَ، وأنه هو الذى قال ذلك لمجاهد، وهو أشبهُ. ومعنى هذه اللفظةِ بالفارسى: أيوجعُكَ بطنُكَ ؟
فإن لم ينشرح صدرُ زنديق الأطباء بهذا العلاج، فيُخاطَبُ بصناعة الطب، ويقالُ له: الصلاةُ رياضة النفس والبدن جميعاً، إذ كانت تشتمِلُ على حركات وأوضاع مختلفة مِن الانتصاب، والركوع، والسجود، والتورُّك، والانتقالات وغيرها من الأوضاع التى يتحرَّك معها أكثرُ المفاصل، وينغمِزُ معها أكثرُ الأعضاء الباطنة، كالمَعِدَة، والأمعاء، وسائر آلات النَّفَس، والغذاء، فما يُنكر أن يكونَ فى هذه الحركات تقويةٌ وتحليلٌ للمواد، ولا سِيَّما بواسطة قوةِ النفس وانشراحِها فى الصلاة، فتقوى الطبيعة، فيندفع الألم.
ولكن داء الزندقةِ والإعراض عما جاءت به الرُّسلُ، والتَّعوُّضِ عنه بالإلحاد داءٌ ليس له دواء إلا نارٌ تَلَظَّى لاَ يَصْلاَهَا إلاَّ الأشْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى
وأمَّا تأثيرُ الجهادِ فى دفع الهم والغم، فأمرٌ معلوم بالوجدان، فإنَّ النفس متى تركتْ صائِلَ الباطل وصَوْلته واستيلاءَه، اشتد همُّها وغمُّها، وكربُها وخوفها، فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك الهمَّ والحُزْنَ فرحاً ونشاطاً وقوةً، كما قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}[التوبة: 14-15]، فلا شىءَ أذهبُ لجوَى القلب وغَمِّه وهَمِّه وحُزنه من الجهاد..

والله المستعان.
وأمَّا تأثيرُ "لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله" فى دفع هذا الداءِ، فلِما فيها من كمالِ التفويضِ، والتبرِّى من الحَوْل والقُوَّة إلا به، وتسليمِ الأمر كله له، وعدمِ منازعته فى شىء منه، وعموم ذلك لكلِّ تحوُّلٍ من حَال إلى حال فى العالَم العُلوىِّ والسُّفلىِّ، والقوةِ على ذلك التحول، وأنَّ ذلك كُلَّه باللهِ وحدَه، فلا يقوم لهذه الكلمة شىء.
وفى بعض الآثار: إنه ما ينزِلُ مَلَكٌ من السماء، ولا يَصعَدُ إليها إلا ب "لاَ حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله"، ولها تأثيرٌ عجيب فى طرد الشيطان.. والله المستعان.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاجِ الفَزَع، والأرَقِ المانِع من النوم
روى الترمذىُّ فى "جامعه" عن بُريدةَ قال: شكى خالدٌ إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله ؛ ما أنام الليل مِن الأرَقِ، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إذا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فَقُلْ: اللهُمَّ رَبَّ السَّمَواتِ السَّبْع وَمَا أظَلَّتْ، ورَبَّ الأرَضِينَ، وَمَا أَقَلَّتْ، وربَّ الشَّيَاطينِ وما أضَلَّتْ، كُنْ لَى جاراً مِنْ شَرِّ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جميعاً أنْ يَفْرُطَ علىَّ أحدٌ مِنْهُمْ، أَوْ يَبْغىَ عَلَىَّ، عَزَّ جَارُك، وجَلَّ ثَنَاؤُكَ، ولا إلهَ غَيْرُك".
وفيه أيضاً: عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده أنَّ رسولَ

اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يُعَلِّمُهم مِنَ الفَزَعِ: " أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التامَّةِ مِنْ غَضِبهِ، وعِقَابِهِ، وَشرِّ عِبَادِه، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وأعُوذُ بِكَ رَبِّ أنْ يَحضُرُونِ" ، قال: وكان عبد الله بن عَمْرو يُعَلِّمُهنَّ مَن عَقَلَ من بنيه، ومَن لم يَعْقِلْ كتبه، فأعلقه عليه، ولا يخفى مناسبةُ هذه العُوذَةِ لعلاج هذا الداءِ.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج داء الحريق وإطفائه
يُذكر عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا رَأيتُمُ الحَرِيقَ فَكَبِّروا، فإنَّ التكبيرَ يُطفِئُهُ".
لما كان الحريقُ سببهُ النارُ، وهى مادةُ الشيطان التى خُلِقَ منها، وكان فيه من الفساد العام ما يُنَاسب الشيطان بمادته وفعلِه، كان للشيطان إعانةٌ عليه، وتنفيذ له، وكانت النارُ تطلبُ بطبعها العلوَ والفسادَ، وهذان الأمران وهما العلوُّ فى الأرض والفسادُ هما هَدْىُ الشيطان، وإليهما يدعو، وبهما يُهلِكُ بنى آدم، فالنار والشيطان كل منهما يُريد العلو فى الأرض والفسادَ، وكبرياءُ الرب عَزَّ وجَلَّ تَقمَعُ الشيطانَ وفِعلَهُ. ولهذا كان تكبيرُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ له أثرٌ فى إطفاء الحريق، فإنَّ

كبرياء الله عَزَّ وجَلَّ لا يقوم لها شىء، فإذا كبَّر المسلمُ ربَّه، أثَّر تكبيرُه فى خمودِ النار وخمودِ الشيطان التى هى مادته، فيُطفىءُ الحريقَ، وقد جرَّبنا نحن وغيرُنا هذا، فوجدناه كذلك.. والله أعلم.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حفظ الصحة
لما كان اعتدالُ البدن وصحته وبقاؤه إنما هو بواسطة الرطوبة المقاوِمةِ للحرارة، فالرطوبة مادته، والحرارةُ تُنضِجُهَا، وتدفع فضلاتِها، وتُصلحها، وتلطفها، وإلا أفسدتْ البدن ولم يمكن قيامُه، وكذلك الرطوبةُ هى غِذاءُ الحرارة، فلولا الرطُوبة، لأحرقتْ البدن وأيبَسَتْه وأفسدته، فقِوامُ كُلِّ واحدة منهما بصاحبتها، وقِوام البدنِ بهما جميعاً، وكُلٌ منهما مادة للأُخرى، فالحرارة مادة للرطوبة تحفظها وتمنعها من الفساد والاستحالة، والرطوبة مادة للحرارة تغذُوها وتحمِلُها، ومتى مالتْ إحداهما إلى الزيادة على الأُخرى، حصل لمزاج البدن الانحرافُ بحسب ذلك، فالحرارةُ دائماً تُحَلِّلُ الرطوبة، فيحتاجُ البدن إلى ما به يُخلَف عليه ما حلَّلتْه الحرارة لضرورة بقائهِ وهو الطعامُ والشرابُ، ومتى زاد على مقدار التحللِ، ضعُفتِ الحرارةُ عن تحليل فضلاته، فاستحالتْ موادَّ رديئة، فعاثتْ فى البدن، وأفسدتْ، فحصلت الأمراضُ المتنوعة بحسب تنوُّع موادِّها، وقبولِ الأعضاء واستعدادِها، وهذا كُلُّه مستفَادٌ من قوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} [الأعراف: 31]، فأرشدَ عِباده إلى إدخالِ ما يُقِيمُ البدنَ من الطعام والشراب عِوَضَ ما تحلَّل منه، وأن يكون بقدر ما ينتفعُ به البدنُ فى الكمِّية والكيفية، فمتى جاوز ذلك كان إسرافاً، وكلاهما

مانعٌ من الصحة جالبٌ للمرض، أعنى عدم الأكل والشرب، أو الإسراف فيه.
فحفظ الصحة كله فى هاتين الكلمتين الإلهيتين، ولا ريب أنَّ البدن دائماً فى التحلل والاستخلاف، وكُلَّما كثر التحلُّل ضعفت الحرارة لفناء مادتها، فإنَّ كثرةَ التحلل تُفنى الرطوبة، وهى مادة الحرارة، وإذا ضعفت الحرارة، ضعفَ الهضم، ولا يزال كذلك حتى تَفنى الرطوبةُ، وتنطفئ الحرارة جملةً، فيستكملُ العبدُ الأجلَ الذى كتب اللهُ له أن يَصِلَ إليه.فغايةُ علاج الإنسان لنفسه ولغيره حراسةُ البدن إلى أن يصل إلى هذه الحالة، لا أنه يستلزمُ بقاءَ الحرارة والرطوبة اللَّتين بقاءُ الشباب والصحة والقوَّة بهما، فإنَّ هذا مما لم يحصُلْ لبَشَر فى هذه الدار، وإنما غايةُ الطبيب أن يحمىَ الرطوبةَ عن مفسداتها من العفونة وغيرها، ويحمىَ الحرارة عن مُضعِفاتها، ويعدل بينهما بالعدل فى التدبير الذى به قام بدنُ الإنسان، كما أنَّ به قامت السمواتُ والأرضُ وسائرُ المخلوقات، إنما قوامُها بالعدل
ومَن تأمَّل هَدْىَ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجده أفضلَ هَدْى يُمكن حِفظُ الصِّحة به، فإنَّ حفظها موقوفٌ على حُسن تدبير المطعم والمشرب، والملبس والمسكن، والهواء والنوم، واليقظة والحركة، والسكون والمَنكَح، والاستفراغ والاحتباس، فإذا حصَلتْ هذه على الوجه المعتدل الموافق الملائم للبدن والبلد والسِّنِّ والعادة، كان أقربَ إلى دوام الصحة أو غلبتها إلى انقضاء الأجل
ولمَّا كانت الصحةُ والعافيةُ من أجَلِّ نِعَم الله على عبده، وأجزل عطاياه، وأوفر مِنحه، بل العافيةُ المطلقة أجَلُّ النِّعَمِ على الإطلاق، فحقيق لمن رُزق حظاً مِن التوفيق مراعاتها وحِفظها وحمايتُها عمَّا يُضادها.وقد

روى البخارىُّ فى "صحيحه" من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فيهما كثيرٌ مِنَ الناس: الصِّحَّةُ والفَرَاغُ".
وفى "الترمذى" وغيره من حديث عُبَيْد الله بن مِحصَن الأنصارى، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن أصْبَحَ مُعَافىً فى جَسَدِهِ، آمناً فى سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فكأنما حِيزَتْ لَهُ الدُّنيا". وفى "الترمذى" أيضاً من حديث أبى هريرة، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أوَّلُ ما يُسْألُ عنه العَبْدُ يومَ القيامَةِ مِنَ النَّعِيم، أن يُقال له: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، ونُرَوِّكَ مِنَ الماءِ البارد". ومن هاهنا قال مَن قال مِن السَّلَف فى قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر: 8] قال: عن الصحة
وفى "مسند الإمام أحمد": أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للعباس: "يا عباس، يا عَمَّ رسول اللهِ ؛ سَلِ اللهَ العافِيةَ فى الدُّنْيَا والآخِرَة".
وفيه عن أبى بكر الصِّدِّيق، قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " سَلُوا اللهَ اليَقينَ والمُعافاةَ، فما أُوتِىَ أحدٌ بَعْدَ اليقينِ خَيراً من العافية"،

فجمع بين عافيتى الدِّينِ والدنيا، ولا يَتِمُّ صلاح العبد فى الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا فى قلبه وبدنه.
وفى "سنن النسائى" من حديث أبى هريرة يرفعه: "سَلُوا اللهَ العَفْوَ والعافيةَ والمُعافاة، فما أُوتِىَ أحدٌ بَعْدَ يقينٍ خيراً من مُعافاةٍ". وهذه الثلاثة تتضمَّن إزالة الشرور الماضية بالعفو، والحاضرة بالعافية، وَالمستقبلة بالمعافاة، فإنها تتضمن المداومةَ والاستمرارَ على العافية.
وفى "الترمذى" مرفوعاً: "ما سُئِلَ اللهُ شيئاً أحبَّ إلَيْهِ من العافيةِ".
وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى: عن أبى الدرداء، قلت: يا رسول الله ؛ لأن أُعافَى فأشكُر أحبُّ إلىَّ من أن أُبتََلى فأصبر، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ورسولُ اللهِ يُحِبُّ مَعَكَ العافِيَةَ ".
ويُذكر عن ابن عباس أنَّ أعرابياً جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: ما أسألُ الله بعد الصلواتِ الخمس ؟ فقال: "سَلِ اللهَ العافيةَ" ، فأعاد عليه، فقال له فى الثالثة: "سَلِ اللهَ العَافِيةَ فى الدُّنيا والآخرَة".
وإذا كان هذا شأنَ العافية والصحةِ، فنذكُرُ من هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى مراعاة هذه الأُمور ما يتبيَّنُ لمن نظر فيه أنه أكملُ هَدْى على الإطلاق ينال به حفظَ صحةِ البدن والقلب، وحياة الدُّنيا والآخرة، والله المستعانُ، وعليه التُّكلان، ولا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله.

فصل
فأما المطعمُ والمشرب، فلم يكن مِن عادته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبسُ النفسِ على نوع واحد من الأغذية لا يتعدَّاه إلى ما سواه، فإنَّ ذلك يضر بالطبيعة جداً، وقد سيتعذَّر عليها أحياناً، فإن لم يتناول غيرَه، ضعفَ أو هلكَ، وإن تناول غيره، لم تقبله الطبيعة، واسْتضرَّ به، فقصرها على نوع واحد دائماً ولو أنه أفضل الأغذية خطرٌ مُضر.بل كان يأكل ما جرت عادةُ أهل بلده بأكله مِنَ اللَّحم، والفاكهة، والخُبز، والتمر، وغيره مما ذكرناه فى هَدْيه فى المأكول، فعليك بمراجعته هناك
وإذا كان فى أحد الطعامين كيفيةٌ تحتاجُ إلى كسرٍ وتعديلٍ، كسَرها وعدلها بضدها إن أمكن، كتعديل حرارة الرُّطَبِ بالبطيخ، وإن لم يجد ذلك، تناوَله على حاجة وداعيةٍ من النفس من غير إسراف، فلا تتضرر به الطبيعة
وكان إذا عافت نفسُه الطعامَ لم يأكله، ولم يُحمِّلْها إيَّاه على كُره، وهذا أصل عظيم فى حفظ الصحة، فمتى أكل الإنسان ما تعافه نفسه، ولا تشتهيه، كان تضرُّره به أكثر من انتفاعه.قال أنس: ما عابَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاماً قَطُّ، إن اشتهاه أكلَه، وإلا تركه، ولم يأكلْ منه. ولمَّا قُدِّمَ إليه الضَّبُّ المشوىُّ لم يأكلْ منه، فقيل له: أهو حرامٌ ؟

قال: "لا، ولكنْ لم يكن بأرضِ قَوْمى، فأجِدُنى أعافُه". فراعى عادتَه وشهوتَه، فلمَّا لم يكن يعتادُ أكله بأرضه، وكانت نفسُه لا تشتهيه، أمسَكَ عنه، ولم يَمنع مِن أكله مَن يشتهيه، ومَنْ عادتُه أكلُه.
وكان يحبُّ اللَّحم، وأحبُّه إليه الذراعُ، ومقدم الشاة، ولذلك سُمَّ فيه.وفى "الصحيحين": "أُتِىَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلحم، فرُفِع إليه الذراع، وكانت تُعجبُه".وذكر أبو عُبيدة وغيره عن ضباعَة بنت الزُّبير، أنها ذَبحتْ فى بيتها شاةً، فأرسل إليها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ أطعِمِينا من شاتكم، فقالت للرسول: ما بقىَ عندَنا إلاَّ الرَّقبةُ، وإنى لأستحى أنْ أُرسلَ بها إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرجع الرسولُ فأخبره، فقال: "ارْجِعْ إليها فقلْ لها: أَرْسِلى بِهَا، فإنَّها هاديةُ الشَّاةِ وأقْرَبُ إلى الخَيْر، وأبعدُها مِنَ الأذَى" ولا ريب أن أخفَّ لحمِ الشاة لحمُ الرقبة، ولحمُ الذراع والعَضُد، وهو أخفُّ على المَعِدَة، وأسرعُ انهضاماً، وفى هذا مراعاةُ الأغذية التى تجمع ثلاثةَ أوصاف ؛ أحدها: كثرةُ نفعها وتأثيرها فى القُوَى. الثانى: خِفَّتُها على المَعِدَة، وعدمُ ثقلها عليها. الثالث: سرعةُ هضمها، وهذا أفضل ما يكون من الغِذاء. والتغذِّى باليسير من هذا أنفعُ من الكثير من غيره.

وكان يُحب الحَلْواءَ والعسلَ، وهذه الثلاثة أعنى: اللَّحم والعسل والحلواء من أفضل الأغذية، وأنفعها للبدن والكَبِد والأعضاء، وللاغتذاء بها نفعٌ عظيم فى حفظ الصحة والقوة، ولا ينفِرُ منها إلا مَن به عِلَّةٌ وآفة.وكان يأكُلُ الخبز مأدُوماً ما وَجَدَ له إداماً، فتارةً يَأدِمُه باللَّحم ويقول: "هُوَ سَيِّدُ طعامِ أهلِ الدُّنيا والآخرةِ" رواه ابن ماجه وغيره "وتارة بالبطيخ، وتارةً بالتمر،فإنه وضع تمرة على كِسْرة شعير، وقال: "هذا إدامُ هذه". وفى هذا من تدبير الغذاء أنَّ خبز الشعير بارد يابس، والتمر حار رطب على أصح القولين، فأَدمُ خبزِ الشعير به من أحسن التدبير، لا سِيَّما لمن تلك عادتُهم، كأهل المدينة، وتارةً بالخَلِّ، ويقول: "نِعْمَ الإدَامُ الخَلُّ" ، وهذا ثناءٌ عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر، لا تفضيلٌ له على غيرِه، كما يظن الجُهَّالُ، وسببُ الحديث أنه دخَلَ على أهله يوماً، فقدَّموا له خبزاً، فقال: "هَل عِنْدَكُم مِن إدَامٍ" ؟ قالوا: ما عِندَنا إلاَّ خَل. فقال: "نِعْمَ الإدامُ الخَلُّ".والمقصود: أنَّ أكل الخبز مأدوماً من أسباب حِفظ الصحة، بخلاف الاقتصار على أحدهما وحده. وسُمِىَ الأُدمُ أُدماً: لإصلاحه الخبزَ، وجعلِه ملائماً لحفظ الصحة. ومنه قوله فى إباحته للخاطب النظرَ: "إنه

أحْرَى أنْ يُؤدَمَ بيْنَهما"، أى: أقربُ إلى الالتئام والموافقة، فإنَّ الزوجَ يدخل على بصيرة، فلا يندَم.
وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها، ولا يَحتمِى عنها، وهذا أيضاً من أكبر أسباب حفظ الصحة، فإنَّ الله سبحانه بحكمته جعل فى كل بلدةٍ من الفاكهة ما ينتفِعُ به أهلُها فى وقتِهِ، فيكونُ تناولُه من أسباب صحتِهم وعافيتِهم، ويُغنى عن كثير من الأدوية، وقَلَّ مَن احتَمى عن فاكهة بلده خشيةَ السُّقم إلا وهو مِن أسقم الناس جسماً، وأبعدِهم من الصحة والقوة.وما فى تلك الفاكهة من الرطوبات، فحرارةُ الفصل والأرض، وحرارةُ المَعِدَة تُنضِجُهَا وتدفع شرها إذا لم يُسْرِفْ فى تناولها، ولم يُحمِّلْ منها الطبيعةَ فوق ما تَحْتَمِله، ولم يُفسد بها الغذاء قبل هضمه، ولا أفسَدَها بشرب الماء عليها، وتناولِ الغذاء بعد التحلِّى منها، فإن القُولَنْج كثيراً ما يَحدث عند ذلك، فمَن أكل منها ما ينبغى فى الوقت الذى ينبغى على الوجه الذى ينبغى، كانت له دواءً نافعاً.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى هيئة الجلوسِ للأكل
صحَّ عنه أنه قال: "لا آكُلُ مُتَّكِئاً"، وقال: "إنما أجْلِسُ

كما يَجْلِسُ العبدُ، وآكُلُ كما يأكُلُ العبدُ".
وروى ابن ماجه فى "سننه" أنه نَهى أن يأكلَ الرجلُ وهو منبطحٌ على وجهه.وقد فُسِّر الاتكاءُ بالتربُّع، وفُسِّر بالاتكاء على الشىء، وهو الاعتمادُ عليه، وفُسِّر بالاتكاء على الجنب. والأنواعُ الثلاثة من الاتكاء، فنوعٌ منها يضرُّ بالآكل، وهو الاتكاء على الجنب، فإنه يمنعُ مجرَى الطعام الطبيعى عن هيئته، ويَعوقُه عن سرعة نفوذه إلى المَعِدَة، ويضغطُ المَعِدَةَ، فلا يستحكم فتحُها للغذاء، وأيضاً فإنها تميل ولا تبقى منتصبة، فلا يصل الغذاء إليها بسهولة.وأما النوعان الآخران: فمن جلوس الجبابرة المنافى للعبودية، ولهذا قال: "آكُلُ كما يأكُلُ العبد" وكان يأكل وهو مُقْعٍ، ويُذكر عنه أنه كان يجلس للأكل مُتَورِّكاً على ركبتيه، ويضعُ بطنَ قدمِه اليُسْرى على ظهر قدمه اليمنى تواضعاً لربه عَزَّ وجَلَّ، وأدباً بين يديه، واحتراماً للطعام وللمؤاكِل، فهذه الهيئة أنفعُ هيئات الأكل وأفضلُها، لأنَّ الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعى الذى خلقها الله سبحانه عليه مع ما فيها من الهيئة

الأدبية، وأجودُ ما اغتذى الإنسان إذا كانت أعضاؤه على وضعها الطبيعى، ولا يكون كذلك إلا إذا كان الإنسان منتصباً الانتصابَ الطبيعى، وأردأ الجلسات للأكل الاتكاءُ على الجنب، لما تقدم من أن المَرِىء، وأعضاء الازدراد تضيقُ عند هذه الهيئة، والمَعِدَةُ لا تبقى على وضعها الطبيعى، لأنها تنعصر مما يلى البطن بالأرض، ومما يلى الظهر بالحجاب الفاصل بين آلات الغذاء، وآلات التنفس
وإن كان المراد بالاتكاء الاعتماد على الوسائد والوطاء الذى تحت الجالس، فيكون المعنى أَنى إذا أكلت لم أقعد متكئاً على الأوْطِية والوسائد، كفعل الجبابرة، ومَن يُرِيد الإكثار من الطعام، لكنى آكُلُ بُلْغةً كما يأكل العبد.
فصل
وكان يأكُلُ بأصابعه الثَّلاث، وهذا أنفعُ ما يكون من الأكلات، فإنَّ الأكل بأصبع أو أُصبعين لا يَستلذُّ به الآكل، ولا يُمريه، ولا يُشبعه إلا بعدَ طول، ولا تفرحُ آلاتُ الطعام والمَعِدَةُ بما ينالها فى كل أكلة، فتأخذَها على إغماضٍ، كما يأخذ الرجل حقَّه حبَّةً أو حبَّتَين أو نحوَ ذلك، فلا يلتذُّ بأخذه، ولا يُسَرُّ به، والأكل بالخمسة والراحةِ يُوجب ازدحامَ الطعام على آلاته، وعلى المَعِدَةُ، وربما انسدَّت الآلات فمات، وتُغصبُ الآلاتُ على دفعه، والمَعِدَةُ على احتماله، ولا يجد له لذةً ولا استمراءً، فأنفعُ الأكل أكلُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأكلُ مَن اقتدى به بالأصابع الثلاث.

فصل
ومَن تدبَّر أغذيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما كان يأكلهُ، وجَده لم يجمع قَطُّ بين لبن وسمك، ولا بين لبن وحامض، ولا بين غذائين حارَّين، ولا بارِدين، ولا لَزِجَين، ولا قابضين، ولا مُسهلين، ولا غليظين، ولا مُرخيين، ولا مستحيلين إلى خلط واحد، ولا بين مختلفَين كقابض ومسهل، وسريع الهضم وبطيئه، ولا بين شَوىٍّ وطبيخ، ولا بين طَرىٍّ وقَديد،ولا بين لبن وبيض، ولا بين لحم ولبن، ولم يكن يأكل طعاماً فى وقت شدة حرارته، ولا طبيخاً بائتاً يُسخَّن له بالغد، ولا شيئاً من الأطعمة العَفِنَةِ والمالحة، كالكَوامخ والمخلَّلات، والملوحات. وكل هذه الأنواع ضار مولِّدٌ لأنواع من الخروج عن الصحة والاعتدال.وكان يُصلح ضرر بعض الأغذية ببعض إذا وَجد إليه سبيلاً، فيكسرُ حرارةَ هذا ببرودة هذا، ويُبوسةَ هذا برطُوبة هذا، كما فعل فى القِثَّاء والرُّطَب، وكما كان يأكل التمر بالسَّمن، وهو الحَيْسُ، ويشربُ نقيع التمر يُلطِّف به كَيْمُوساتِ الأغذية الشديدة وكان يأمر بالعَشاء، ولو بكفٍّ من تمر، ويقول: "تَرْكُ العَشاءِ مَهْرَمةٌ"، ذكره الترمذىُّ فى "جامعه"، وابن ماجه فى "سننه"
وذكر أبو نُعيم عنه أنه كان ينهى عن النوم على الأكل، ويذكر أنه يُقسى القلب، ولهذا فى وصايا الأطباء لمن أراد حفظ الصحة: أن يمشىَ بعد

العَشاء خُطواتٍ ولو مِائة خطوة، ولا ينام عَقِبه، فإنه مضر جداً، وقال مسلموهم: أو يُصلِّى عقيبَه ليستقرَّ الغِذاء بقعرِ المَعِدَة، فيسهلَ هضمه، ويجودَ بذلك. ولم يكن من هَدْيه أن يشربَ على طعامه فيُفسده، ولا سِيَّما إن كان الماء حاراً أو بارداً، فإنه ردىءٌ جداً. قال الشاعر:
لا تَكنْ عِنْدَ أَكْلِ سُخْنٍ وَبَرْدٍ ... وَدخُولِ الْحَمَّامِ تَشربُ مَاءَ
فَإذَا ما اجْتَنَبْتَ ذلكَ حَقّاً ... لَمْ تَخَفْ ما حَيِيتَ فِىالْجَوْفِ داءَ
ويُكره شرب الماء عقيبَ الرياضة، والتعبِ، وعقيبَ الجِمَاع، وعقيبَ الطعامِ وقبله، وعقيبَ أكل الفاكهة، وإن كان الشربُ عقيبَ بعضِها أسهلَ مِن بعض، وعقب الحمَّام، وعند الانتباه من النوم، فهذا كُلُّهُ منافٍ لحفظ الصحة، ولا اعتبار بالعوائد، فإنها طبائع ثوانٍ.
فصل
وأما هَدْيه فى الشراب، فمن أكمل هَدْىٍ يحفظ به الصحة، فإنه كان يشرب العسلَ الممزوجَ بالماء البارد، وفى هذا مِن حفظ الصحة ما لا يَهتدى إلى معرفته إلا أفاضلُ الأطباء، فإنَّ شُربه ولعقَه على الرِّيق يُذيب البلغم، ويغسِلُ خَمْل المَعِدَة، ويجلُو لزوجتها، ويدفع عنها الفضلات، ويُسخنها باعتدال، ويفتحُ سددها، ويفعل مثل ذلك بالكَبِد والكُلَى والمثَانة، وهو أنفع للمَعِدَة من كل حلو دخلها، وإنما يضر بالعَرَض لصاحب الصَّفراء لحدَّتِه وحِدَّة الصفراء، فربما هيَّجها، ودفعُ مضرَّته لهم بالخلِّ، فيعودُ حينئذ لهم نافعاً جداً، وشربه أنفع من كثير من الأشربة

المتخذة من السكر أو أكثرِها، ولا سِيَّما لمن لم يعتد هذه الأشربة، ولا ألِفَها طبعُه، فإنه إذا شربها لا تلائمه ملاءمةَ العسل، ولا قريباً منه، والمحكَّمُ فى ذلك العادة، فإنها تهدم أُصولاً، وتبنى أُصولاً
وأما الشراب إذا جَمَعَ وصْفَىْ الحلاوة والبرودة، فمن أنفع شىء للبدن، ومن أكبر أسباب حفظ الصحة، وللأرواح والقُوى، والكبد والقلب، عشقٌ شديدٌ له، واستمدادٌ منه، وإذا كان فيه الوصفانِ، حصَلتْ به التغذيةُ، وتنفيذُ الطعام إلى الأعضاء، وإيصاله إليها أتمَّ تنفيذ.
والماء البارد رطب يقمع الحرارة، ويحفظ على البدن رطوباته الأصلية، ويرد عليه بدل ما تحلَّل منها، ويُرقِّقُ الغِذاء ويُنفِذه فى العروق.
واختلف الأطباء: هل يُغذِّى البدن ؟ على قولين: فأثبتت طائفةٌ التغذية به بناءً على ما يشاهدونه من النمو والزيادة والقوة فى البدن به، ولا سِيَّما عند شدة الحاجة إليه.
قالوا: وبينَ الحيوانِ والنبات قدرٌ مشترك مِن وجوه عديدة منها: النموُّ والاغتذاءُ والاعتدال، وفى النبات قوةُ حِسٍّ تُناسبه، ولهذا كان غِذاءُ النبات بالماء، فما يُنكر أن يكون للحيوان به نوعُ غذاء، وأن يكون جزءاً من غذائه التام.
قالوا: ونحن لا ننكر أنَّ قوة الغذاء ومعظمه فى الطعام، وإنما أنكرنا أن لا يكون للماء تغذية ألبتة. قالوا: وأيضاً الطعام إنما يُغذِّى بما فيه من المائية، ولولاها لما حصلت به التغذيةُ.قالوا: ولأن الماء مادة حياة الحيوان والنبات، ولا ريب أنَّ ما كان أقربَ إلى مادة الشىء، حصلت به التغذية، فكيف إذا كانت مادته الأصلية، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ}[الأنبياء: 30]، فكيف

ننكِرُ حصولَ التغذية بما هو مادة الحياة على الإطلاق ؟
قالوا: وقد رأينا العطشان إذا حصل له الرِّىُّ بالماء البارد، تراجعت إليه قواه ونشاطُه وحركته، وصبرَ عن الطعام، وانتفع بالقدر اليسير منه، ورأينا العطشانَ لا ينتفِعُ بالقدرِ الكثير مِن الطعام، ولا يجد به القوة والاغتذاءَ، ونحن لا ننكِرُ أنَّ الماءَ يُنفِذُ الغذاء إلى أجزاء البدن، وإلى جميع الأعضاء، وأنه لا يتم أمر الغذاء إلا به، وإنما ننكر على مَن سلب قوةَ التغذية عنه ألبتة، ويكاد قولُه عندنا يدخُل فى إنكار الأُمورالوجدانية.
وأنكرت طائفةٌ أُخرى حصولَ التغذية به، واحتجَّت بأُمور يرجعُ حاصِلُها إلى عدم الاكتفاء به، وأنه لا يقومُ مقام الطعام، وأنه لا يزيد فى نموِّ الأعضاء، ولا يخلف عليها بدل ما حلَّلتْه الحرارةُ، ونحو ذلك مما لا ينكره أصحاب التغذية، فإنهم يَجعلون تغذيته بحسب جوهره، ولطافته ورقته، وتغذيةُ كل شىء بحسبه، وقد شُوهد الهواءُ الرَّطب البارد اللَّين اللَّذيذ يُغذِّى بحسبه، والرائحة الطيبة تُغذِّى نوعاً من الغذاء، فتغذية الماء أظهر وأظهر.
والمقصودُ: أنه إذا كان بارداً، وخالطه ما يُحليه كالعسل أو الزبيب، أو التمر أو السكر، كان من أنفع ما يدخل البدن، وحفِظَ عليه صحته، فلهذا كان أحبُّ الشرابِ إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البارِدَ الحلوَ. والماءُ الفاتِرُ ينفخ، ويفعل ضدَّ هذه الأشياء.
ولما كان الماء البائت أنفعَ من الذى يُشرب وقتَ استقائه، قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد دخل إلى حائط أبى الهيثم بن التيهان: "هَلْ من ماءٍ بات فى شَنَّة" ؟ فأتاه به، فشرب منه، رواه البخارى ولفظُه: "إنْ كان عِنْدَكَ

ماءٌ باتَ فى شَنَّة وإلاَّ كَرَعْنَا".والماء البائت بمنزلة العجين الخمير، والذى شُرِب لوقته بمنزلة الفطير، وأيضاً فإنَّ الأجزاء الترابية والأرضية تُفارقه إذا بات، وقد ذُكِر أنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُسْتَعْذَبُ له الماء، ويَختار البائت منه. وقالت عائشة: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُستقى له الماء العذب مِن بئر السقيا.
والماء الذى فى القِرَب والشنان، ألذُّ من الذى يكون من آنية الفَخَّار والأحجار وغيرهما، ولا سِيَّما أسقيةَ الأدمَ، ولهذا التَمسَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماءً بات فى شَنَّة دون غيرها من الأوانى، وفى الماء إذا وُضع فى الشِّنان، وقِرب الأدم خاصةٌ لطيفةٌ لما فيها من المسامِّ المنفتحةِ التى يرشَح منها الماء، ولهذا كان الماء فى الفَخَّار الذى يرشح ألذُّ منه، وأبردُ فى الذى لا يرشَح، فصلاةُ الله وسلامه على أكمل الخلق، وأشرفهم نفساً، وأفضلهم هَدْياً فى كل شىء، لقد دَلَّ أُمته على أفضل الأُمور وأنفعها لهم فى القلوب والأبدان، والدُّنيا والآخرة
قالت عائشةُ: كان أحبُّ الشرابِ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحُلوَ البارِدَ.

وهذا يحتمل أن يريد به الماءَ العذبَ، كمياه العيون والآبار الحلوة، فإنه كان يُستعذَب له الماء. ويحتملُ أن يريد به الماءَ الممزوجَ بالعسل، أو الذى نُقِعَ فيه التمرُ أو الزبيبُ. وقد يُقال وهو الأظهر: يعمُّهما جميعاً
وقولُه فى الحديث الصحيح: "إن كان عندكَ ماء باتَ فى شَنٍ وإلا كَرَعْنَا"، فيه دليلٌ على جواز الكَرْع، وهو الشرب بالفم من الحوضِ والمِقْراةِ ونحوها، وهذه والله أعلم واقعةُ عَيْن دعت الحاجةُ فيها إلى الكَرْع بالفم، أو قاله مبيِّناً لجوازه، فإنَّ مِن الناس مَنْ يكرهُه، والأطباءُ تكادُ تُحَرِّمُه، ويقولون: إنه يَُضرُّ بالمَعِدَة، وقد رُوى فى حديث لا أدرى ما حالُه عن ابن عمر، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهانا أنْ نشرب على بطوننا، وهو الكَرْعُ، ونهانا أنْ نغترِفَ باليد الواحدة وقال:
"لا يَلَغْ أحدُكُم كَمَا يَلَغُ الكلبُ، ولا يَشْرَبْ باللَّيْلِ مِن إنَاءٍ حَتَّى يَختبِرَه إلا أنْ يكونَ مُخَمَّراً"
وحديثُ البخارى أصحُّ من هذا، وإن صحَّ، فلا تعارُضَ بينهما، إذ لعلَّ الشربَ باليد لم يكن يمكن حينئذٍ، فقال: "وإلا كَرَعْنا"، والشربُ بالفم إنما يضرُّ إذا انكبَّ الشارِبُ على وجهه وبطنه، كالذى يشربُ من النهر والغدِير، فأمَّا إذا شرب مُنتصِباً بفمه من حوض مرتفع ونحوِه، فلا فَرْقَ بين أن يشرب بيده أو بفمه.

فصل
وكان من هَدِْيه الشُّربُ قاعداً، هذا كان هديَه المعتادَ وصحَّ عنه أنه نهى عن الشُّرب قائماً، وصحَّ عنه أنه أمر الذى شرب قائماً أن يَسْتَقىءَ، وصَحَّ عنه أنه شرب قائماً.
فقالت طائفةٌ: هذا ناسخٌ للنهى، وقالت طائفةٌ: بل مبيِّنٌ أنَّ النهىَ ليس للتحريم، بل للإرشاد وتركِ الأوْلى، وقالت طائفةٌ: لا تعارُضَ بينهما أصلاً، فإنه إنما شَرِبَ قائماً للحاجة، فإنه جاء إلى زمزمَ، وهم يَستَقُون منها، فاستَقَى فناولُوه الدَّلوَ، فشرب وهو قائم، وهذ كان موضعَ حاجة.
وللشرب قائماً آفاتٌ عديدة منها: أنه لا يحصل به الرِّىُّ التام، ولا يستَقِرُّ فى المَعِدَة حتى يَقْسِمَه الكبدُ على الأعضاء، وينزلُ بسرعة وَحِدَّة إلى المَعِدَة، فيُخشى منه أن يُبردَ حرارتَها، ويُشوشها، ويُسرع النفوذ إلى أسفل البدن بغير تدريج، وكلُّ هذا يَضُرُّ بالشارب، وأمَّا إذا فعله نادراً أو لحاجة، لم يَضره، ولا يُعترض بالعوائد على هذا، فإنَّ العوائد طبائعُ ثوانٍ، ولها أحكامٌ أُخرى، وهى بمنزلة الخارج عن القياس عند الفقهاء.
فصل
وفى "صحيح مسلم" من حديث أنس بن مالك، قال: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتنفَّسُ فى الشَّراب ثلاثاً، ويقولُ: "إنه أرْوَى وأمْرَأُ وأبْرَأُ "

الشراب فى لسان الشارع وحمَلَةِ الشرع: هو الماء، ومعنى تنفُّسِه فى الشراب: إبانتُه القَدَح عن فيه، وتنفُّسُه خارجَه، ثم يعود إلى الشراب، كما جاء مصرَّحاً به فى الحديث الآخر: " إذا شَرِبَ أحَدُكُم فَلا يَتنفَّسْ فى القَدَحِ، ولكنْ لِيُبِنِ الإناءَ عن فيهِ"
وفى هذا الشرب حِكمٌ جَمَّة، وفوائدٌ مهمة، وقد نبَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مَجامِعها، بقوله: " إنه أروَى وأمرَأ وأبرأ" فأروَى: أشدُّ ريَّاً، وأبلغُه وأنفعُه، وأبرأُ: أفعلُ من البُرء، وهو الشِّفاء، أى يُبرىء من شدة العطش ودائه لتردُّدِه على المَعِدَة الملتهبة دفعاتٍ، فتُسَكِّن الدفعةُ الثانية ما عجزت الأُولى عن تسكينه، والثالثةُ ما عجزت الثانية عنه، وأيضاً فإنه أسلمُ لحرارة المَعِدَة، وأبقَى عليها من أن يَهجُم عليها الباردُ وَهْلةً واحدة، ونَهْلةً واحدة.وأيضاً فإنه لا يُروِى
لمصادفته لحرارة العطش لحظةً، ثم يُقلع عنها، ولما تُكسَرْ سَوْرتُها وحِدَّتُها، وإن انكسرتْ لم تبطل بالكلية بخلاف كسرِها على التمهُّل والتدريج.
وأيضاً فإنه أسلمُ عاقبةً، وآمنُ غائلةً مِن تناوُل جميع ما يُروِى دفعةً واحدة، فإنه يُخاف منه أن يُطفىء الحرارة الغريزية بشدة برده، وكثرةِ كميته، أو يُضعفَها فيؤدِّى ذلك إلى فساد مزاج المَعِدَة والكَبِد، وإلى

أمراض رديئة، خصوصاً فى سكان البلاد الحارة، كالحجاز واليمن ونحوهما، أو فى الأزمنة الحارة كشدة الصيف، فإن الشرب وَهْلَةً واحدةً مَخُوفٌ عليهم جداً، فإنَّ الحار الغريزى ضعيف فى بواطن أهلها، وفى تلك الأزمنة الحارة.
وقوله: "وأمْرَأُ": هو أفعلُ مِن مَرِئ الطعامُ والشرابُ فى بدنه: إذا دخله، وخالطه بسهولة ولذة ونفع. ومنه: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً}[النساء: 4]، هنيئاً فى عاقبته، مريئاً فى مذاقه. وقيل: معناه أنه أسرعُ انحداراً عن المَرِىء لسهولته وخفته عليه، بخلاف الكثير، فإنه لا يسهُل على المرىء انحدارُه.
ومن آفات الشرب نَهْلَةً واحدة أنه يُخاف منه الشَّرَق بأن ينسدَّ مجرى الشراب لكثرة الوارد عليه، فيغَصَّ به، فإذا تنفَّس رُويداً، ثم شرب، أمِنَ من ذلك.
ومن فوائده: أنَّ الشارب إذا شرب أول مرة تصاعد البخارُ الدخانىُّ الحارُّ الذى كان على القلب والكبد لورود الماء البارد عليه، فأخرجَتْه الطبيعةُ عنها، فإذا شرِب مرةً واحدةً، اتفق نزولُ الماء البارد، وصعودُ البخار، فيتدافعان ويتعالجان، ومن ذلك يحدُث الشَرقُ والغصَّة، ولا يهْنأ الشاربُ بالماء، ولا يُمرئُه، ولا يتم رِيُّه.
وقد روى عبد الله بن المبارك، والبَيْهَقىُّ، وغيرُهما عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا شَرِبَ أحدُكُم فَلْيَمَُصَّ الماءَ مَصَّاً، ولا يَعُبَّ عبَّا، فإنَّه مِن الكُبَادِ ".والكُبَاد بضم الكاف وتخفيف الباء هو وجع الكبد، وقد عُلم بالتجرِبة أنَّ ورود الماء جملةً واحدة على الكبد يؤلمها ويُضعفُ حرارتَها، وسببُ ذلك المضادةُ التى بين حرارتها، وبين ما ورد عليها من كيفية المبرود

وكميته. ولو ورد بالتدريج شيئاً فشيئاً، لم يضاد حرارتَها، ولم يُضعفْها، وهذا مثالُه صَبُّ الماء البارد على القِدْر وهى تفور، لا يضرُّها صَبُّه قليلاً قليلاً.
وقد روى الترمذىُّ فى "جامعه" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تَشْرَبُوا نَفَساً واحداً كَشُرْبِ البَعيرِ، ولكن اشرَبُوا مَثْنَى وثُلاثَ، وسمُّوا إذا أنتم شَرِْبُتم واحْمَدُّوا إذَا أنتُمْ فَرَغْتُمْ".
وللتسمية فى أول الطعام والشراب، وحمد الله فى آخره تأثيرٌ عجيب فى نفعه واستمرائه، ودفع مَضَرَّته.
قال الإمام أحمد: إذا جمع الطعام أربعاً، فقد كَمُل: إذا ذُكِرَ اسمُ الله فى أوله، وحُمِدَ اللهُ فى آخره، وكثرتْ عليه الأيدى، وكان من حِلٍّ.
فصل
وقد روى مسلم فى "صحيحه" من حديث جابر بن عبد الله، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "غطُّوا الإناءَ، وأَوْكُوا السِّقاءَ، فإنَّ فى السَّنَةِ لَيْلَةً ينزِلُ فِيهَا وِباءٌ لا يَمُرُّ بإناءٍ ليس عليه غِطَاءٌ، أو سِقاءٍ ليس عليه وِكاءٌ إلا وَقَعَ فيه من ذلك الدَّاء".
وهذا مما لا تنالُه علوم الأطباء ومعارفُهم، وقد عرفه مَن عرفه من عقلاء الناس بالتجربة. قال اللَّيث بن سعد أحدُ رواة الحديث: الأعاجمُ عندنا يتَّقون تلك الليلة فى السنة، فى كانُونَ الأول منها.

وصَحَّ عنه أنه أمرَ بتخمير الإناء ولو أن يَعرِضَ عليه عُوداً. وفى عرض العود عليه من الحكمة، أنه لا ينسى تخميرَه، بل يعتادُه حتى بالعود، وفيه: أنه ربما أراد الدُّبَيِّب أن يسقط فيه، فيمرُّ على العود، فيكون العودُ جسراً له يمنعه من السقوط فيه.
وصَحَّ عنه أنه أمرَ عند إيكاءِ الإناء بذكر اسم الله، فإنَّ ذِكْر اسم الله عند تخمير الإناء يطرد عنه الشيطان، وإيكاؤُه يطرد عنه الهَوامَّ، ولذلك أمر بذكر اسم الله فى هذين الموضعين لهذين المعنيين.
وروى البخارى فى "صحيحه" من حديث ابن عباس، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الشُّرب مِنْ في السِّقاء.
وفى هذا آدابٌ عديدة، منها: أنَّ تردُّدَ أنفاس الشارب فيه يُكسبه زُهومة ورائحة كريهة يُعاف لأجلها.ومنها: أنه ربما غلب الداخِلُ إلى جوفه من الماء، فتضرَّر به. ومنها: أنه ربما كان فيه حيوان لا يشعر به،فيؤذيه. ومنها: أنَّ الماء ربما كان فيه قَذاةٌ أو غيرُها لا يراها عند الشرب، فتَلِج جوفه. ومنها: أنَّ الشرب كذلك يملأ البطن من الهواء، فيضيقُ عن أخذ

حظَّه من الماء، أو يُزاحمه، أو يؤذيه، ولغير ذلك من الحِكَم.
فإن قيل: فما تصنعون بما فى "جامع الترمذي": أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا بإداوة يومَ أُحُد، فقال: "اخْنُثْ فَمَ الإدَاوَة" ، ثُمَّ شَرِبَ منها مِن فَيّهَا.قلنا: نكتفى فيه بقول الترمذى: هذا حديثٌ ليس إسناده بصحيح، وعبد الله ابن عمر العُمرىُّ يُضعَّفُ من قِبلِ حفظه، ولا أدرى سمع من عيسى، أو لا... انتهى.يريد عيسى بن عبد الله الذى رواه عنه، عن رجل من الأنصار.
فصل
وفى "سنن أبى داود" من حديث أبى سعيد الخُدرىِّ، قال: "نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الشُّرب من ثُلْمَةِ القَدَحِ، وأن ينفُخَ فى الشَّراب". وهذا من الآداب التى تتم بها مصلحةُ الشارب، فإن الشُّرب من ثُلْمِة القَدَح فيه عِدَّةُ مفاسد:
أحدها: أنَّ ما يكون على وجه الماء من قَذىً أو غيره يجتمع إلى الثُّلْمة بخلاف الجانب الصحيح.
الثانى: أنَّه ربما شوَّش على الشارب، ولم يتمكن من حسن الشرب من الثُّلْمة.

الثالث: أنَّ الوسخ والزُّهومة تجتمِعُ فى الثُّلْمة، ولا يصل إليها الغَسلُ، كما يصل إلى الجانب الصحيح.
الرابع: أنَّ الثُّلْمة محلُّ العيب فى القَدَح، وهى أردأُ مكان فيه، فينبغى تجنُّبه، وقصدُ الجانب الصحيح، فإنَّ الردىء من كل شىء لا خير فيه، ورأى بعض السَّلَف رجلاً يشترى حاجة رديئة، فقال: لا تفعل، أما عَلِمتَ أنَّ اللهَ نزع البركة من كل ردىء.
الخامس: أنَّه ربما كان فى الثُّلْمة شقٌ أو تحديدٌ يجرح فم الشارب، ولغيرِ هذه من المفاسد.
وأما النفخ فى الشراب.. فإنه يُكسِبُه من فم النافخ رائحةٌ كريهةٌ يُعاف لأجلها، ولا سِيَّما إن كان متغيِّرَ الفم. وبالجملة: فأنفاس النافخ تُخالطه، ولهذا جمع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين النهى عن التنفُّس فى الإناء والنفخ فيه، فى الحديث الذى رواه الترمذىُّ وصحَّحه، عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُتنفَّسَ فى الإناء، أو يُنْفَخَ فيه.
فإن قيل: فما تصنعون بما فى "الصحيحين" من حديث أنس، "أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتنفَّسُ فى الإناء ثلاثاً" ؟.
قيل: نُقابلُه بالقبول والتسليم، ولا مُعارضة بينه وبين الأول، فإن معناه أنه كان يتنفس فى شربه ثلاثاً، وَذَكَرَ الإناءَ لأنه آلة الشرب، وهذا كما جاء فى الحديث

الصحيح: أنَّ إبراهيم ابن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات فى الثَّدْى، أى: فى مُدة الرَّضاع.
فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشرب اللَّبن خالصاً تارةً، ومُشَوباً بالماء أُخرى. وفى شرب اللَّبن الحلو فى تلك البلاد الحارة خالصاً ومَشوباً نفعٌ عظيم فى حفظ الصحة، وترطيبِ البدن، ورَىِّ الكبد، ولا سِيَّما اللبنَ الذى ترعى دوابُّه الشيحَ والقَيْصومَ والخُزَامَى وما أشبهها، فإن لبنها غذاءٌ مع الأغذية، وشرابٌ مع الأشربة، ودواءٌ مع الأدوية.
وفى جامع "الترمذى" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أكل أحدكم طعاماً فيلقُلْ: اللهُمَّ بارِكْ لنا فيه، وأطْعِمنا خيراً منه، وإذا سُقى لبناً فليقل: اللهُمَّ بارِكْ لنا فيه، وزِدْنا منه، فإنه ليس شىءٌ يُجْزِئُ منَ الطعام والشرابِ إلاَّ اللبنُ". قال الترمذى: هذا حديث حسن.
فصل
وثبت فى "صحيح مسلم" أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُنْبَذُ له أوَّل الليل، ويشربُه إذا أصبح يومَه ذلك، والليلةَ التى تجىءُ، والغَد، واللَّيلةَ الأُخرى،

والغَد إلى العصر، فإن بقى منه شىءٌ سقاه الخادِمَ، أو أمر به فَصُبَّ.
وهذا النبيذ: هو ما يُطرح فيه تمرٌ يُحليه، وهو يدخل فى الغذاء والشراب، وله نفع عظيم فى زيادة القوة، وحفظِ الصحة، ولم يكن يشربه بعدَ ثلاث خوفاً من تغيُّره إلى الإسكار.
فصل: فى تدبيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الملبس
وكان من أتم الهَدْى، وأنفعه للبدن، وأخفِّه عليه، وأيسره لُبساً وخَلعاً، وكان أكثر لُبسه الأردية والأُزُر، وهى أخفُّ على البدن من غيرها، وكان يلبسُ القميص، بل كان أحبَّ الثياب إليه.
وكان هَديُه فى لُبسه لما يلبَسُه أنفَعُ شىء للبدن، فإنه لم يكن يُطيل أكمامه، ويُوسِعُها، بل كانت كُمُّ قميصه إلى الرُّسْغ لا يُجاوز اليد، فتشق على لابسها، وتمنعُه خِفَّة الحركة والبطش، ولا تقصُرُ عن هذه، فتبرز للحر والبرد.
وكان ذيلُ قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين لم يتجاوز الكعبين، فيؤذىَ الماشى ويَؤُوده، ويجعله كالمقيَّد، ولم يقصُرْ عن عَضلة ساقيه، فتنكشفَ ويتأذَّى بالحر والبرد.
ولم تكن عِمامته بالكبيرة التى يؤذى الرأس حملُها، ويضعفُه ويجعله عُرْضةً للضعف والآفات، كما يُشَاهَد من حال أصحابها، ولا بالصغيرة التى تقصرُ عن وقاية الرأس من الحر والبرد ؛ بل وَسَطاً بين ذلك، وكان يُدخلها تحت حَنكه، وفى ذلك فوائدُ عديدة: فإنها تقى العنق الحر والبرد، وهو أثبت لها، ولا سِيَّما عِند ركوب الخيل والإبل،

والكرِّ والفرِّ، وكثير من الناس اتخذ الكلاَليب عوضاً عن الحنك، ويا بُعدَ ما بينهما فى النفع والزينة، وأنت إذا تأملت هذه اللُّبسة وجدتها من أنفع اللُّبسات وأبلغِها فى حفظ صحة البدن وقوته، وأبعدها من التكلف والمشقة على البدن.
وكان يلبسُ الخِفاف فى السفر دائماً، أو أغلب أحواله لِحاجة الرِّجلين إلى ما يقيهما من الحر والبرد، وفى الحَضَر أحياناً.
وكان أحبُّ ألوان الثياب إليه البياضَ، والحِبَرَة، وهى: البرود المحبَّرة.
ولم يكن مِن هَدْيه لُبس الأحمر، ولا الأسود، ولا المصبَّغ، ولا المصقول
وأما الحُلَّة الحمراء التى لبسها، فهى الرداءُ اليمانىُّ الذى فيه سوادٌ وحُمرة وبياض، كالحُلَّةِ الخضراء، فقد لبس هذه وهذه، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك، وتغليطُ مَن زعم أنه لبس الأحمر القانى بما فيه كفاية.
فصل: فى تدبيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمر المسكن
لمَّا علم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه على ظهرِ سيرٍ، وأن الدنيا مرحلةُ مسافرٍ ينزلُ فيها مُدَّة عمره، ثم ينتقلُ عنها إلى الآخرة، لم يكن من هَديه وهَدى أصحابه ومن تبعه الاعتناءُ بالمساكن وتشييدها، وتعليتها وزَخرفتها وتوسِيعها، بل كانت من أحسن منازل المسافر تقى الحر والبرد، وتسترُ عن العيون، وتمنعُ من ولوج الدوابِّ، ولا يُخاف سقوطُها لفرطِ ثقلها، ولا تُعشش فيها الهوام لِسعتها ولا تعتَوِرُ عليها الأهوية والرياح المؤذية لارتفاعها،

وليست تحت الأرض فتؤذىَ ساكنها، ولا فى غاية الارتفاع عليها، بل وسط، وتلك أعدلُ المساكن وأنفعُها، وأقلُّها حراً وبرداً، ولا تضيقُ عن ساكنها، فينحصِر، ولا تفضل عنه بغير منفعة ولا فائدة، فتأوَى الهوامُّ فى خلوها، ولم يكن فيها كُنُفٌ تُؤذى ساكنها برائحتها، بل رائحتها من أطيب الروائح لأنه كان يُحبُّ الطيب، ولا يزال عنده، وريحه هو من أطيب الرائحة، وعَرَقُه من أطيب الطيب، ولم يكن فى الدار كَنِيفٌ تظهر رائحتُه، ولا ريبَ أنَّ هذه من أعدل المساكن وأنفعها وأوفقها للبدن، وحفظِ صحته.
فصل: فى تدبيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمر النوم واليقظة
مَن تدبَّر نومه ويقظَته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجدَه أعدلَ نوم، وأنفعَه للبدن والأعضاء والقُوى، فإنه كان ينام أوَّلَ الليل، ويستيقظ فى أول النصف الثانى، فيقومُ ويَستاك، ويتوضأ ويُصَلِّى ما كتبَ اللهُ له، فيأخذُ البدن والأعضاء والقُوَى حظَّها من النوم والراحة، وحظَّها من الرياضة مع وُفورِ الأجر، وهذا غايةُ صلاح القلب والبدن، والدنيا والآخرة. ولم يكن يأخذ من النوم فوقَ القدر المحتاج إليه، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه، وكان يفعلُه على أكمل الوجوه، فينامُ إذا دعتْه الحاجةُ إلى النوم على شِقِّه الأيمن، ذاكراً الله حتى تغلبه عيناه، غيرَ ممتلئ البدنِ من الطعام والشراب، ولا مباشرٍ بجنبه الأرضَ، ولا متخذٍ للفُرش المرتفعة، بل له ضِجَاع من أُدم حشوهُ ليف، وكان يَضطجع على الوِسادة، ويضع يده تحت خدِّه أحياناً.

ونحن نذكر فصلاً فى النوم، والنافع منه والضار
فنقول: النوم حالة للبدن يَتبعُها غوْر الحرارةِ الغريزية والقُوى إلى باطن البدن لطلب الراحة، وهو نوعان: طبيعى، وغيرُ طبيعى.
فالطبيعى: إمساك القُوى النفسانية عن أفعالها، وهى قُوَى الحِسِّ والحركة الإرادية، ومتى أمسكتْ هذه القُوَى عن تحريك البدن اسْتَرخى، واجتمعتْ الرطوباتُ والأبخرةُ التى كانت تتحلَّل وتتفرَّق بالحركات واليقظة فى الدماغ الذى هو مبدأ هذه القُوَى، فيتخدَّرُ ويَسترخِى، وذلك النومُ الطبيعى.
وأمَّا النومُ غيرُ الطبيعى، فيكونُ لعَرض أو مرض، وذلك بأن تستولىَ الرطوباتُ على الدماغ استيلاءً لا تقدِرُ اليقظةُ على تفريقها، أو تصعد أبخرةٌ رَطبة كثيرة كما يكون عقيبَ الامتلاء مِن الطعام والشراب، فتُثقِلُ الدماغ وتُرخيه، فَيتخدَّرَ، ويقع إمساكُ القُوَى النفسانية عن أفعالها، فيكون النوم.
وللنوم فائدتان جليلتان، إحداهما: سكونُ الجوارح وراحتُها مما يَعرض لها من التعب، فيُريح الحواسَّ مِن نَصَب اليقظة، ويُزيل الإعياء والكَلال.
والثانية: هضم الغذاء، ونُضج الأخلاط لأن الحرارة الغريزية فى وقت النوم تَغور إلى باطن البدن، فتُعين على ذلك، ولهذا يبرد ظاهره ويحتاج النائم إلى فضل دِثَار.
وأنفعُ النوم: أن ينامَ على الشِّق الأيمن، ليستقرَّ الطعام بهذه الهيئة فى المَعِدَة استقراراً حسناً، فإن المَعِدَة أميَلُ إلى الجانب الأيسر قليلاً، ثم يَتحوَّل إلى الشِّق الأيسر قليلاً ليُسرعَ الهضم بذلك لاستمالة المَعِدَة على الكَبِد، ثم يَستقرُّ نومُه على الجانب الأيمن، ليكون الغِذاء أسرعَ انحداراً

عن المَعِدَة، فيكونُ النوم على الجانب الأيمن بُداءة نومه ونهايتَه، وكثرةُ النوم على الجانب الأيسر مضرٌ بالقلب بسبب ميل الأعضاء إليه، فتنصبُّ إليه المواد.
وأردأُ النومِ النومُ على الظهر، ولا يَضرُّ الاستلقاء عليه للراحة من غير نوم، وأردأُ منه أن ينامَ منبطحاً على وجهه، وفى "المسند" و"سنن ابن ماجه"، عن أبى أُمامةَ قال: مرَّ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رجُلٍ نائم فى المسجد منبطح على وجهه، فضرَبه برجله، وقال: " قُمْ أوِ اقْعُدْ فإنَّهَا نومةٌ جَهَنَّمِيَّةٌ".
قال "أبقراطٌ" فى كتاب "التَّقدِمة": وأما نومُ المريض على بطنه من غير أن يكون عادتُه فى صحته جرتْ بذلك، فذلك يدلُّ على اختلاط عقل، وعلى ألمٍ فى نواحى البطن، قال الشُرَّاح لكتابه: لأنه خالف العادة الجيدة إلى هيئة رديئة من غير سبب ظاهر ولا باطن.
والنومُ المعتدل ممكِّنٌ للقُوَى الطبيعية من أفعالها، مريحٌ للقوة النفسانية، مُكْثرٌ من جوهر حاملها، حتى إنه ربَّما عاد بإرخائه مانعاً من تحلُّل الأرواح. ونومُ النهار ردئٌ يُورث الأمراضَ الرطوبية والنوازلَ، ويُفسد اللَّون، ويُورث الطِّحال، ويُرخى العصبَ، ويُكسل، ويُضعف الشهوة، إلاَّ فى الصَّيفِ وقتَ الهاجِرة، وأردؤه نومُ أول النهار، وأردأُ منه النومُ آخره بعدَ العصر، ورأى عبد الله بن عباس ابناً له نائماً نومة الصُّبْحَةِ، فقال

له: قم، أتنام فى الساعة التى تُقسَّمُ فيها الأرزاق ؟
وقيل: نوم النهار ثلاثة: خُلقٌ، وحُرق، وحُمق. فالخُلق: نومة الهاجرة، وهى خُلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والحُرق: نومة الضحى، تُشغل عن أمر الدنيا والآخرة. والحُمق: نومة العصر. قال بعض السَّلَف: مَن نام بعد العصر، فاختُلِسَ عَقلُه، فلا يلومنَّ إلا نفسه. وقال الشاعر:
أَلاَ إنَّ نَوْمَاتِ الضُّحَى تُورِثُ الْفَتَى ... خَبَالاً وَنَوْمَاتُ الْعُصَيْرِ جُنُونُ
ونوم الصُّبحة يمنع الرزق، لأن ذلك وقتٌ تطلبُ فيه الخليقةُ أرزاقَها، وهو وقتُ قسمة الأرزاق، فنومُه حرمانٌ إلا لعارض أو ضرورة، وهو مضر جداً بالبدن لإرخائه البدن، وإفسادِه للفضلات التى ينبغى تحليلُها بالرياضة، فيُحدث تكسُّراً وَعِيّاً وضَعفاً. وإن كان قبل التبرُّز والحركة والرياضة وإشغالِ المَعِدَة بشىء، فذلك الداء العُضال المولِّد لأنواع من الأدواء.
والنومُ فى الشمس يُثير الداءَ الدَّفين، ونومُ الإنسان بعضُه فى الشمس، وبعضُه فى الظل ردىء، وقد روى أبو داود فى "سننه" من حديث أبى هريرة، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كان أحدكم فى الشَّمْسِ فَقَلَصَ عنه الظِّلُّ، فصار بَعْضُهُ فى الشَّمْسِ وبَعْضُهُ فى الظِّل، فَلْيَقُمْ".

وفى "سنن ابن ماجه" وغيره من حديث بُريدَةَ بن الحُصَيب، "أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أنْ يقعُدَ الرَّجُلُ بين الظِّلِّ والشمس"، وهذا تنبيه على منع النوم بينهما.
وفى "الصحيحين" عن البَرَاء بن عازِبٍ، أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ فتوضَّأْ وُضُوءَكَ للصَّلاة، ثم اضطَّجِعْ على شِقِّكَ الأيمنِ، ثم قل: اللهُمَّ إنِّى أسْلمتُ نَفْسِى إليكَ، ووَجَّهْتُ وجْهىِ إليكَ، وفَوَّضْتُ أمرى إليكَ، وألجأْتُ ظَهْرى إليكَ، رَغبةً ورَهبةً إليكَ، لا ملجأَ ولا مَنْجا منك إلاَّ إليكَ، آمَنتُ بكتابِكَ الذى أنْزَلْتَ، ونبيِّكَ الذى أرْسلتَ. واجعلْهُنَّ آخر كلامِكَ، فإن مِتَّ مِن ليلتِك، مِتَّ على الفِطْرة".
وفى "صحيح البخارى" عن عائشة أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "كان إذا صلَّى ركعتى الفجرِ يعنى سُنَّتَها اضْطَّجَعَ على شِقِّه الأيمنِ".
وقد قيل: إنَّ الحكمة فى النوم على الجانب الأيمن، أن لا يستغرقَ النائم فى نومه، لأن القلب فيه ميلٌ إلى جهة اليسار، فإذا نام على جنبه الأيمن، طلب القلبُ مُستقَرَّه من الجانب الأيسر، وذلك يمنع من استقرار النائم واستثقاله فى نومه، بخلاف قراره فى النوم على اليسار، فإنه مُستقَرُّه، فيحصُل بذلك الدَّعةُ التامة، فيستغرق الإنسان فى نومه، ويَستثقِل، فيفوتُه مصالح دينه ودنياه.

ولما كان النائمُ بمنزلة الميت، والنومُ أخو الموت ولهذا يستحيل على الحىِّ الذى لا يموت، وأهلُ الجنَّة لا ينامون فيها كان النائم محتاجاً إلى مَن يحرُس نفسه، ويحفظُها مما يَعْرِضُ لها من الآفات، ويحرُسُ بدنه أيضاً من طوارق الآفات، وكان ربُّه وفاطرُه تعالى هو المتولى لذلك وحدَه. علَّم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النائمَ أن يقولَ كلماتِ التفويضِ والالتجاء، والرغبة والرهبة، ليَستدعىَ بها كمال حفظِ الله له، وحراسته لنفسه وبدنه، وأرشده مع ذلك إلى أن يَستذكِرَ الإيمانَ، وينامَ عليه، ويجعلَ التكلُّمَ به آخرَ كلامه، فإنه ربما توفاه الله فى منامه، فإذا كان الإيمانُ آخِرَ كلامه دخل الجنَّة، فتضمَّن هذا الهَدْىُ فى المنام مصالحَ القلب والبدن والروح فى النوم واليقظة، والدنيا والآخرة، فصلواتُ الله وسلامُه على مَن نالتْ به أُمتُه كُلَّ خير
وقوله: "أسلَمتُ نفْسى إليكَ" ؛ أى: جعلتُها مُسلَّمَةً لك تسليمَ العبدِ المملوك نفسَه إلى سيده ومالكه.
وتوجيهُ وجهه إليه: يتضمَّن إقبالَه بالكلِّية على ربه، وإخلاص القصد والإرادة له، وإقراره بالخضوع والذل والانقياد، قال تعالى: {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}. وذكر الوجهَ إذ هو أشرفُ ما فى الإنسان، ومَجْمَعُ الحواس، وأيضاً ففيه معنى التوجُّهِ والقصدِ من قوله:
أسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبّ الْعِبَادِ إلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
وتفويض الأمر إليه: ردُّهُ إلى الله سبحانه، وذلك يُوجب سُكون القلب وطمأنينتَه، والرِّضى بما يقضيه ويختارُه له مما يحبه ويرضاه، والتفويضُ

من أشرف مقامات العبودية، ولا عِلَّة فيه، وهو من مقامات الخاصة خلافاً لزاعمى خلاف ذلك.
وإلجاءُ الظَّهر إليه سبحانه: يَتضَمَّنُ قوةَ الاعتماد عليه، والثقة به، والسكونَ إليه، والتوكلَ عليه، فإنَّ مَن أسند ظهره إلى ركن وثيقٍ، لم يخف السقوطَ.
ولمَّا كان للقلب قوَّتان: قوة الطلب، وهى الرغبة، وقوة الهرب، وهى الرهبة، وكان العبد طالباً لمصالحه، هارباً من مضارِّه، جمع الأمرين فى هذا التفويض والتوجُّه، فقال: "رغبةً ورهبةً إليك".
ثم أثنى على ربه، بأنه لا مَلجأ للعبد سواه، ولا منجا له منه غيره، فهو الذى يلجأ إليه العبدُ ليُنجِيَه من نفسه، كما فى الحديث الآخر: "أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وبمُعَافَاتِكَ من عُقُوبَتِكَ، وأعوذُ بِكَ مِنْكَ" ، فهو سبحانه الذى يُعيذ عبدَه ويُنجيه من بأسه الذى هو بمشيئته وقُدرته، فمنه البلاءُ، ومنه الإعانةُ، ومنه ما يُطلب النجاةُ منه، وإليه الالتجاءُ فى النجاة، فهو الذى يُلجأ إليه فى أن يُنجىَ مما منه، ويُستعاذُ به مما منه، فهو ربُّ كل شىء، ولا يكون شىء إلا بمشيئته: {وَإن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ}[الأنعام: 17]، {قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}[الأحزاب: 17]
ثُمَّ ختم الدعاءَ بالإقرار بالإيمان بكتابه ورسوله الذى هو مَلاكُ النجاة، والفوز فى الدنيا والآخرة، فهذا هَدْيُه فى نومه.
لَوْ لَمْ يَقُلْ إنِّى رَسُولٌ لَكَ ... انَ شَاهِدٌ فِى هَدْيِهِ يَنْطِقُ

فصل
وأمَّا هَدْيُه فى يقظته، فكان يَستيقظ إذا صاح الصَّارخُ وهو الدِّيك، فيحمَدُ اللهَ تعالى ويُكبِّره، ويُهلِّله ويدعوه، ثم يَستاك، ثم يقوم إلى وضُوئه، ثم يَقِفُ للصلاة بين يَدَى ربه، مُناجياً له بكلامه، مُثنياً عليه، راجياً له، راغباً راهباً، فأىُّ حفظٍ لصحةِ القلب والبدن، والرُّوح والقُوَى، ولنعيم الدنيا والآخرة فوقَ هذا.
فصل
وأمَّا تدبيرُ الحركة والسكون، وهو الرياضة، فنذكرُ منها فصلاً يُعلم منه مطابقةُ هَدْيِه فى ذلك لأكملِ أنواعِه وأحمدِها وأصوبِها، فنقول:
من المعلوم افتقارُ البدن فى بقائه إلى الغذاء والشراب، ولا يَصير الغذاءُ بجملته جزءاًمن البدن، بل لا بد أن يبقى منه عند كل هضم بقية ما، إذا كثُرتْ على ممر الزمان اجتمع منها شىء له كميةٌ وكيفية، فيضُرُّ بكميته بأن يسد ويُثقلَ البدن، ويُوجبَ أمراضَ الاحتباس، وإن استفرغ تأذَّى البدن بالأدوية، لأن أكثرها سُمِيَّة، ولا تخلو من إخراج الصالح المنتفَع به، ويضر بكيفيته، بأن يسخن بنفسه، أو بالعَفِن، أو يبردُ بنفسه، أو يضعف الحرارة الغريزية عن إنضاجه.
وسدد الفضلات لا محالةَ ضارةٌ، تُرِكَتْ أو استُفرِغَتْ، والحركةُ أقوى الأسباب فى منع تولُّدِها، فإنها تُسخِّن الأعضاء، وتُسيل فضلاتِها، فلا تجتمعُ على طول الزمان، وتُعوِّدُ البدنَ الخفةَ والنشاط، وتجعلُه قابلاً للغذاء، وتُصلِّب المفاصِل، وتُقوِّى الأوتارَ والرباطاتِ، وتُؤمن جميعَ الأمراض المادية وأكثر الأمراض المِزاجية إذا استُعمِلَ القدرُ المعتدل منها فى وقته، وكان باقى التدبير صواباً.

ووقتُ الرياضة بعدَ انحدار الغذاء، وكمال الهضم، والرياضةُ المعتدلة هى التى تحمرُّ فيها البَشْرة، وتربُو ويَتَنَدَّى بها البدنُ، وأما التى يلزمُها سيلانُ العرق فمفرِطةٌ، وأىُّ عضو كثرتْ رياضتُه قَوِىَ، وخصوصاً على نوع تلك الرياضة، بل كلُّ قوة فهذا شأنُها، فإنَّ مَن استكثَر من الحفظ قويتْ حافِظتُه، ومَن استكثرَ من الفكر قويتْ قُوَّتُه المفكِّرة، ولكل عضو رياضةٌ تخصُّه، فللصدرِ القراءةُ، فليبتدئ فيها من الخِفية إلى الجهر بتدريج، ورياضةُ السمع بسمعِ الأصوات، والكلام بالتدريج، فينتقل من الأخف إلى الأثقل، وكذلك رياضةُ اللِّسان فى الكلام، وكذلك رياضةُ البصر، وكذلك رياضةُ المشى بالتدريج شيئاً فشيئاً.
وأمَّا ركوبُ الخيل، ورمىُ النُّشَّاب، والصراعُ، والمسابقةُ على الأقدام، فرياضةٌ للبدن كلِّه، وهى قالعة لأمراض مُزمنةٍ، كالجُذام والاستسقاء والقولنج.
ورياضةُ النفوس بالتعلُّم والتأدُّب، والفرح والسرور، والصبر والثبات، والإقدام والسماحة، وفِعْل الخير، ونحو ذلك مما تَرْتاض به النفوسُ، ومن أعظم رياضتها: الصبرُ والحب، والشجاعة والإحسان، فلا تزالُ تَرتاض بذلك شيئاً فشيئاً حتى تَصيرَ لها هذه الصفاتُ هيآتٍ راسخةً، ومَلَكاتٍ ثابتةً.
وأنت إذا تأمَّلت هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذلك، وجدتَه أكملَ هَدْىٍ حافظٍ للصحة والقُوَى، ونافعٍ فى المعاش والمعاد.
ولا رَيْبَ أنَّ الصلاة نفسَها فيها من حِفظِ صحة البدن، وإذابةِ أخلاطه وفضلاته، ما هو من أنفع شىء له سوى ما فيها مِن حفظِ صحة الإيمان، وسعادةِ الدنيا والآخرة، وكذلك قيامُ الليل مِن أنفع أسباب حفظ الصحة،

ومن أمنع الأُمور لكثير من الأمراض المزمنة، ومن أنشط شىء للبدن والروح والقلب، كما فى "الصحيحين" عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: "يَعقِدُ الشَّيْطَانُ على قافِيَةِ رأسِ أحَدِكُم إذا هو نامَ ثلاثَ عُقَدٍ، يَضربُ على كُلِّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طويلٌ، فارقُدْ، فإنْ هو استيقَظ، فذكَرَ اللهَ انحلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ تَوَضَّأَ، انحلَّتْ عُقْدَةٌ ثانيةٌ، فإنْ صَلَّى انحلَّتْ عُقْدُهُ كُلُّهَا، فأصبحَ نشيطاً طَيِّبَ النفْسِ، وإلاَّ أصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ".
وفى الصوم الشرعى من أسبابِ حفظ الصحة ورياضةِ البدن والنفس ما لا يدفعُه صحيحُ الفطرة.
وأما الجهادُ وما فيه من الحركات الكلية التى هى من أعظم أسباب القوة، وحفظ الصحة، وصلابةِ القلب والبدن، ودفعِ فضلاتهما، وزوالِ الهم والغم والحزن، فأمر إنَّما يعرفه مَن له منه نصيبٌ، وكذلك الحجُّ، وفعلُ المناسك، وكذلك المسابقةُ على الخيل، وبالنِّصال، والمشىُ فى الحوائج، وإلى الإخوان، وقضاءُ حقوقهم، وعيادة مرضاهم، وتشييعُ جنائزهم، والمشىُ إلى المساجد للجُمُعات والجماعات، وحركةُ الوضوء والاغتسال، وغير ذلك.
وهذا أقلُّ ما فيه الرياضةُ المعينة على حفظِ الصحة، ودفع الفضلات، وأما ما شُرع له من التوصُّل به إلى خيرات الدنيا والآخرة، ودفع شرورهما، فأمرٌ وراء ذلك.
فعلمتَ أنَّ هَدْيَه فوق كل هَدْىٍ فى طبِّ الأبدان والقلوب، وحفظِ صحتها، ودفع أسقامهما، ولا مزيدَ على ذلك لمن قد أحضر رشده.. وبالله التوفيق.

فصل
[فى الجِماع والباه وهَدْى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه]
وأما الجِماعُ والباهُ، فكان هَدْيُه فيه أكملَ هَدْىٍ، يحفَظ به الصحة، وتتمُّ به اللَّذةُ وسرور النفس، ويحصل به مقاصدُه التى وُضع لأجلها، فإن الجِمَاع وُضِعَ فى الأصل لثلاثة أُمور هى مقاصدُه الأصلية:
أحدها: حفظُ النسل، ودوامُ النوع إلى أن تتكاملَ العُدة التى قدَّر الله بروزَها إلى هذا العالَم.
الثانى: إخراجُ الماء الذى يضر احتباسُه واحتقانُه بجملة البدن.
الثالث: قضاءُ الوَطر، ونيلُ اللَّذة، والتمتعُ بالنعمة، وهذه وحدَها هى الفائدةُ التى فى الجنَّة، إذ لا تناسُلَ هناك، ولا احتقانَ يستفرِغُه الإنزالُ.
وفضلاءُ الأطباء: يرون أنَّ الجِمَاع من أحد أسباب حفظ الصحة. قال "جالينوسُ": الغالبُ على جوهر المَنِىِّ النَّارُ والهواءُ، ومِزاجُه حار رطب، لأن كونه من الدم الصافى الذى تغتذى به الأعضاءُ الأصلية، وإذا ثبت فضلُ المَنِىِّ، فاعلم أنه لا ينبغى إخراجُه إلا فى طلب النسل، أو إخراجُ المحتقن منه، فإنه إذا دام احتقانُه، أحدث أمراضاً رديئة، منها: الوسواسُ والجنون، والصَّرْع، وغيرُ ذلك، وقد يُبرئ استعمالُه من هذه الأمراض كثيراً، فإنه إذا طال احتباسُه، فسد واستحال إلى كيفية سُمِّية تُوجب أمراضاً رديئة كما ذكرنا، ولذلك تدفعُه الطبيعةُ بالاحتلام إذا كثر عندها من غير جِمَاع.
وقال بعض السَّلَف: ينبغى للرجل أن يتعاهد من نفسه ثلاثاً: أن لا يدعَ المشىَ، فإن احتاج إليه يوماً قدَر عليه، وينبغى أن لا يدَع الأكل، فإن أمعاءه تضيق، وينبغى أن لا يدَع الجِمَاعَ، فإن البئر إذا لم تُنزحْ، ذهب ماؤها.
وقال محمد بن زكريا: مَن ترك الجِمَاعَ مدةً طويلة،

ضعفتْ قُوى أعصابه، وانسدَّت مجاريها، وتقلَّص ذَكرُه. قال: ورأيتُ جماعة تركوه لنوع من التقشف، فبرُدَتْ أبدانُهُم، وعَسُرَتْ حركاتُهُم، ووقعتْ عليهم كآبةٌ بلا سبب، وقَلَّتْ شهواتُهُم وهضمُهُم.. انتهى.
ومن منافعه: غضُّ البصر، وكفُّ النفس، والقدرةُ على العِفَّة عن الحرام، وتحصيلُ ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسه فى دنياه وأُخراه، وينفع المرأة، ولذلك كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعاهدُه ويُحبُه، ويقول: "حُبِّبَ إلىَّ مِن دُنْيَاكُمُ: النِّسَاءُ والطِّيبُ". وفى كتاب "الزهد" للإمام أحمد فى هذا الحديث زيادةٌ لطيفة، وهى: "أصبرُ عن الطعام والشراب، ولا أصبرُ عنهنَّ".
وحثَّ على التزويج أُمَّته، فقال: "تَزَوَّجوا، فإنِّى مُكاثرٌ بِكُمُ الأُمَمَ".
وقال ابن عباس: خيرُ هذه الأُمة أكثرُها نِساءً.
وقال: "إنِّى أتزوَّجُ النساءَ، وأنامُ وأقومُ، وأَصُومُ وأُفطِرُ، فمن رَغِبَ عن سُنَّتى فليس منِّى".
وقال: "يا معشرَ الشبابِ ؛ مَن استطاعَ منكم الباءَةَ فلْيَتَزَوَّجْ، فإنه

أغضُّ للبصرِ، وأحْفَظُ للْفِرْج، ومَن لم يستطعْ، فعليه بالصومِ، فإنه له وِجاءٌ"
ولما تزوج جابر ثيِّباً قال له: "هَلاَّ بِكْراً تُلاعِبُها وتُلاعِبُكَ".
وروى ابن ماجه فى "سننه" من حديث أنس بن مالك قال، قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن أراد أنْ يَلْقَى اللهَ طاهراً مُطَهَّراً، فَلْيَتَزَوَّج الحَرَائِرَ".وفى "سننه" أيضاً من حديث ابن عباس يرفعه، قال: "لم نَرَ للمُتَحابَّيْن مِثْلَ النِّكاحِ".
وفى "صحيح مسلم" من حديث عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدُّنيا مَتَاعٌ، وخَيْرُ متاع الدُّنْيا المرأةُ الصَّالِحَةُ".
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحرِّض أُمته على نكاح الأبكار الحسان، وذواتِ الدين، وفى "سنن النسائى" عن أبى هريرةَ قال: سُئل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أىُّ

النساءِ خير ؟ قال: "التى تَسُرُّهُ إذا نَظَرَ، وتُطِيعُهُ إذا أَمَرَ، ولا تُخَالِفُه فيما يَكَرَهُ فى نفسِها ومالِهِ ".
وفى "الصحيحين" عنه، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "تُنكَحُ المرأةُ لمالِها، ولِحَسَبِها، ولِجَمَالِها، ولِدِينِهَا، فاظْفَرْ بذاتِ الدِّين، تَرِبَتْ يَدَاكَ".
وكان يَحثُّ على نكاح الوَلُود، وَيَكرهُ المرأة التى لا تلد، كما فى "سنن أبى داودَ" عن مَعْقِل بن يَسار، أنَّ رجلاً جاء إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إنى أصَبتُ امرأةً ذاتَ حَسَبٍ وجمالٍ، وإنَّها لاَ تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُها ؟ قال: "لا"، ثم أتاه الثانيةَ، فَنَهَاه، ثم أتاه الثالثةَ، فقال: "تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ، فإنِّى مُكَاثِرٌ بِكُمْ".
وفى "الترمذى" عنه مرفوعاً: "أَرْبَعٌ من سُنن المُرْسَلِينَ: النِّكاحُ، والسِّواكُ، والتَّعَطُّرُ والحِنَّاءُ". رُوى فى "الجامع" بالنون ووالياء، وسمعتُ أبا الحجَّاج الحافظَ يقول: الصواب: أنه الخِتَان، وسقطت النونُ من الحاشية، وكذلك رواه المَحَامِلىُّ عن شيخ أبى عيسى الترمذى.

وممَّا ينبغى تقديُمُه على الجِماع ملاعبةُ المرأة، وتقبيلُها، ومصُّ لِسانها، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُلاعبُ أهله، ويُقَبلُها
وروى أبو داود فى "سننه": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كان يُقبِّلُ عائشةَ، ويمصُّ لِسَانَها".
ويُذكر عن جابر بن عبد الله قال: "نَهَى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المُواقعةِ قبلَ المُلاَعَبَةِ".
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربما جامع نساءَه كُلَّهن بغُسل واحد، وربما اغتَسَلَ عند كل واحدة منهن، فروى مسلم فى "صحيحه" عن أنس أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَطوفُ على نسائه بغُسْلٍ واحد.
وروى أبو داود فى "سننه" عن أبي رافع مولَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف على نسائه فى ليلة، فاغتَسَلَ عند كلِّ امرأةٍ منهنَّ غُسلاً، فقلتُ: يا رسول الله ؛ لو اغتسلتَ غُسلاً واحداً، فقال: "هذا أزكى وأطْهَرُ وأطْيَبُ".
وشُرع للمُجامِع إذا أراد العَودَ قبل الغُسل الوضوء بين الجِمَاعَيْن، كما روى مسلم فى "صحيحه" من حديث أبى سعيد الخدرىِّ، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أتى أحدُكُم أَهْلَهُ، ثم أرادَ أن يعودَ فلْيَتَوَضأ".

وفى الغُسْلِ والوضوء بعد الوطء من النشاطِ، وطيبِ النفس، وإخلافِ بعض ما تحلَّل بالجِماع، وكمالِ الطُهْر والنظافة، واجتماع الحار الغريزى إلى داخل البدن بعد انتشاره بالجِماع، وحصولِ النظافة التى يُحبها الله، ويُبغض خلافها ما هو مِن أحسن التدبير فى الجِماع، وحفظ الصحة والقُوَى فيه.
فصل
وأنفعُ الجِماع: ما حصلَ بعد الهضم، وعند اعتدال البدن فى حرِّه وبرده، ويُبوسته ورطوبته، وخَلائه وامتلائه. وَضَرَرُه عند امتلاء البدن أسهلُ وأقل من ضرره عند خُلوِّه، وكذلك ضررُه عند كثرة الرطوبة أقلُّ منه عند اليبوسة، وعند حرارته أقلُّ منه عند برودته، وإنما ينبغى أن يُجامِعَ إذا اشتدتْ الشهوةُ، وحصَلَ الانتشارُ التام الذى ليس عن تكلُّفٍ، ولا فكرٍ فى صورة، ولا نظرٍ متتابع.
ولا ينبغى أن يستدعىَ شهوةَ الجِماع ويتكلفها، ويحمل نفسه عليها، وليُبادْر إليه إذا هاجتْ به كثرةُ المَنِىِّ، واشتد شَبَقُهُ، وليحذرْ جِماعَ العجوز والصغيرةِ التى لا يُوطأُ مثلُها، والتى لا شهوة لها، والمريضةِ، والقبيحةِ المنظرِ، والبَغيضة، فوطءُ هؤلاء يُوهن القُوَى، ويُضعف الجِماع بالخاصِّية، وغلط مَن قال من الأطباء: إن جِماع الثيِّب أنفعُ من جِماع البكر وأحفظُ للصحة، وهذا من القياس الفاسد، حتى ربما حذَّر منه بعضُهم، وهو مخالف لِما عليه عقلاءُ الناسِ، ولِما اتفقتْ عليه الطبيعةُ والشريعة.
وفى جِماع البِكر من الخاصِّية وكمالِ التعلُّق بينها وبين مُجامعها، وامتلاءِ قلبها من محبته، وعدم تقسيم هواها بينه وبين غيره، ما ليس للثَيِّب. وقد قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجابر: "هلاَّ تَزوَّجتَ بِكراً "، وقد جعل الله سبحانه

من كمالِ نساء أهل الجنَّة من الحُور العين، أنَّهن لم يَطْمِثْهُنَّ أحدٌ قبلَ مَن جُعِلْنَ له، من أهل الجنَّة. وقالت عائشةُ للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرأيْتَ لو مَرَرْتَ بشجرةٍ قد أُرْتِعَ فيها، وشجرةٍ لم يُرْتَعْ فيها، ففى أيِّهما كنتَ تُرتِعُ بعيرَك ؟ قال: "فى التى لم يُرْتَعْ فيها". تريد أنه لم يأخذ بكراً غيرَها.
وجِماعُ المرأة المحبوبة فى النفس يَقِلُّ إضعافُهُ للبدن مع كثرةِ استفراغه للمَنِىِّ، وجماع البغيضة يُحِلُّ البدن، ويُوهن القُوَى مع قِلَّةِ استفراغه، وجِماعُ الحائض حرامٌ طبعاً وشرعاً، فإنه مضرٌ جداً، والأطباء قاطبةً تُحَذِّر منه.
وأحسنُ أشكالِ الجِماع أن يعلوَ الرجلُ المرأةَ، مُستفرِشاً لها بعدَ المُلاعبة والقُبلة، وبهذا سُميت المرأة فِراشاً، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الولَدُ لِلفِراش"، وهذا من تمام قَوَّامية الرجل على المرأة، كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]، وكما قيل:
إذَا رُمْتُهَا كَانَتْ فِرَاشَاً يُقِلُّنِى ... وَعِنْدَ فَرَاغِى خَادِمٌ يَتَمَلَّقُ
وقد قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187]، وأكملُ اللِّباس وأسبَغُه على هذه الحال، فإن فِراش الرجل لباسٌ له، وكذلك لِحَافُ المرأة لباسٌ لها، فهذا الشكلُ الفاضلُ مأخوذٌ من هذه الآية، وبه يَحسن موقعُ استعارةِ اللِّباس من كل من الزوجين للآخر.
وفيه وجه آخرُ، وهو أنها تَنعطِفُ عليه أحياناً، فتكونُ عليه كاللِّباس،

قال الشاعر:
إذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَها ... تَثَنَّتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا
وأردأُ أشكاله أن تعلُوَهُ المرأةُ، ويُجامِعَها على ظهره، وهو خلافُ الشكل الطبيعى الذى طبع الله عليه الرجل والمرأة، بل نوعَ الذكر والأُنثى، وفيه من المفاسد، أنَّ المَنِىَّ يتعسَّرُ خروجُه كلُّه، فربما بقى فى العضو منه فيتعفنُ ويفسد، فيضر.
وأيضاً: فربما سال إلى الذَّكر رطوباتٌ من الفَرْج.
وأيضاً: فإنَّ الرَّحِم لا يتمكن من الاشتمال على الماء واجتماعِهِ فيه، وانضمامِهِ عليه لتَخْلِيقِ الولد.
وأيضاً: فإنَّ المرأة مفعولٌ بها طبعاً وشرعاً، وإذا كانت فاعلة خالفتْ مقتضى الطبع والشرع.
وكان أهل الكتاب إنما يأتون النساء على جُنوبهن على حَرْفٍ، ويقولون: هو أيسرُ للمرأة.
وكانت قريش والأنصار تَشْرَحُ النِّساءَ على أقْفَائِهن، فعابَتِ اليهودُ عليهم ذلك، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
وفى "الصحيحين" عن جابر، قال: كانت اليهود تقولُ: إذا أتى الرجلُ امرأتَه من دُبُرِها فى قُبُلِها، كان الولدُ أَحوَلَ، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
وفى لفظ لمسلم: "إن شاء مُجَبِّيَة، وإن شاء غير مُجَيِّبَة، غَيْرَ أنَّ ذلك فى صِمِامٍ واحدٍ

و"المُجَبِّية": المُنْكَبَّة على وجهها، و"الصمام الواحد": الفَرْج، وهو موضع الحرْثِ والولد.
وأما الدُّبرُ: فلم يُبَحْ قَطُّ على لسان نبىٍّ من الأنبياء، ومَن نسب إلى بعض السَّلَف إباحة وطء الزوجة فى دُبُرها، فقد غلط عليه.
وفى "سنن أبى داود" عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ملعونٌ مَن أتى المرأةَ فى دُبُرِها".
وفى لفظ لأحمد وابن ماجه: "لا يَنْظُرُ اللهُ إلى رَجُلٍ جَامَعَ امرأتَه فى دُبُرِها".
وفى لفظ للترمذى وأحمد: " مَن أتى حائضاً، أو امرأةً فى دُبُرِها، أوْ كاهناً فَصَدَّقَهُ، فقد كَفَرَ بما أُنْزِلَ على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وفى لفظ للبيهقى: "مَنْ أتى شيئاً مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ فى الأدبار فقد كفر".
وفى "مصنَّف وكِيع": حدثنى زمْعة بن صالح، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن يَزيد ؛ قال: قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيى من الحقِّ، لا تأتُوا النِّسَاءَ فى أعجازِهِنَّ"، وقال مَرَّة: "فى أدبارِهِنَّ".

وفى "الترمذى": عن على بن طَلْق، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تأتوا النِّسَاءَ فى أعجازِهِنَّ، فإن الله لا يستحى من الحقِّ".
وفى "الكامل" لابن عَدِى: من حديثه عن المحامِلى، عن سعيد بن يحيى الأموىِّ، قال: حدَّثنا محمد بن حمزَةَ، عن زيد بن رَفيع، عن أبى عُبيدة، عن عبد الله بن مسعود يرفعه: "لا تأتوا النِّسَاءَ فى أعْجَازِهِنَّ".
وروينا فى حديث الحسن بن على الجوهرىِّ، عن أبى ذرٍّ مرفوعاً: "مَنْ أتى الرِّجَال والنِّسَاءَ فى أدْبَارِهنَّ، فقد كَفَرَ".
وروى إسماعيل بن عيَّاش، عن سُهيل بن أبى صالح، عن محمد ابن المُنْكَدِر، عن جابر يرفعه: "اسْتَحْيُوا مِنَ الله، فإنَّ اللهَ لا يَسْتَحيى مِنَ الحقِّ، لا تأْتُوا النِّسَاءَ فى حُشُوشِهِنَّ".
ورواه الدارقُطنِىُّ من هذه الطريق، ولفظه: "إنَّ الله لا يَسْتَحيى مِنَ الحق، لا يَحلُّ مَأْتَاك النِّسَاءَ فى حُشُوشِهِنَّ".
وقال البغوىُّ: حدثنا هُدْبَةُ، حدثنا همَّام، قال: سُئِل قتادة عن الذى يأتى امرأته فى دُبُرِها ؛ فقال: حَدَّثنى عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "تلك اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرى".

وقال أحمد فى "مسنده": حدَّثنا عبد الرحمن، قال: حدَّثنا همَّام، أُخبِرنا عن قتادَةَ، عن عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده، فذكره.
وفى "المسند" أيضاً: عن ابن عباس: أنزلت هذه الآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} [البقرة: 223] فى أُناسٍ من الأنصار، أتَوْا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألوه، فقال: "ائْتِها على كُلِّ حال إذا كان فى الفَرْج".
وفى "المسند" أيضاً: عن ابن عباس، قال: جاء عمرُ بنُ الخطاب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله: هلكتُ. فقال: "وما الذى أهلكَكَ" ؟ قال: حَوَّلْتُ رَحْلى البارِحَةَ، قال: فلم يَرُدَّ عليه شيئاً، فأوحى الله إلى رسوله: {نِسَاءُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أَقْبِلْ وأَدْبِرْ، واتَّقِ الحَيْضَةَ والدُّبُرَ".
وفى "الترمذى": عن ابن عباس مرفوعاً: "لا يَنْظُرُ اللهُ إلى رَجُلٍ أتى رَجُلاً أو امرأةً فى الدُّبُرِ".
وروينا من حديث أبى على الحسن بن الحسين بن دُومَا، عن البَراء

بن عازِب يرفعه: "كَفَرَ باللهِ العظيم عشرةٌ من هذه الأُمة: القاتِلُ، والسَّاحِرُ، والدُّيُّوثُ، وناكحُ المرأةِ فى دُبُرِها، ومانِعُ الزكاةِ، ومَن وَجَدَ سَعَةً فماتَ ولم يَحُجَّ، وشاربُ الخَمْرِ، والسَّاعِى فى الفِتَنِ، وبائعُ السِّلاحِ من أهلِ الحربِ، ومَن نكَح ذَاتَ مَحْرَمٍ منه".
وقال عبد الله بن وهب: حدَّثنا عبد الله بن لَهيعةَ، عن مِشرَح بن هاعانَ، عن عقبةَ بن عامر، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَلْعُونٌ مَن يأتى النِّسَاءَ فى محاشِّهِنَّ" ؛ يعنى: أدْبَارِهِنَّ.
وفى "مسند الحارث بن أبى أُسامة" من حديث أبى هريرة، وابن عباس قالا: خطبنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وفاته، وهى آخِرُ خُطبةٍ خطبها بالمدينة حتى لحق بالله عَزَّ وَجَلَّ، وعظنا فيها وقال : "مَن نَكَحَ امرأَةً فى دُبُرِها أو رجلاً أو صَبِيَّاً، حُشِرَ يَوْمَ القيامة، وريحُهُ أنْتَنُ مِنَ الجِيفةِ يتأذَّى به النَّاسُ حتى يَدْخُلَ النَّار، وأَحْبَطَ اللهُ أجرَهُ، ولا يَقْبَلُ منه صَرْفاً ولا عدلاً، ويُدْخَلُ فى تابوتٍ من نارٍ، ويُشَدُّ عليه مَساميرُ من نارٍ"، قال أبو هريرة: هذا لمن لم يتب.
وذكر أبو نعيم الأصبهاني، من حديث خزيمة بن ثابت يرفعه، "إنَّ الله لا يَسْتَحي مِنَ الحَق، لا تأتوا النِّساَء في أَعْجاَزِهِنَّ".
وقال الشافعي: أخبرني عمي محمد بن علي بن شافع، قال: أخبرني عبد الله بن علي بن السائب، عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح، عن خزيمة

بن ثابت، أن رجلا سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال: "حلال"، فلما ولى، دعاه فقال: "كيف قُلتَ، في أيِّ الخُرْبَتَينِ، أو في أي الخَرْزَتَينِ، أو في أيِّ الخَصْفَتَينِ أمنْ دُبُرهاَ في قُبُلهَا ؟ فَنَعَم. أم مِنْ دُبُرِهاَ في دُبُرِهاَ، فلا، إنَّ الله لا يَسْتَحيِي مِنَ الحَق، لا تأتوا النِّساَء في أَدبارهِنَّ".
قال الربيع: فقيل للشافعي: فما تقول ؟ فقال: عمي ثقة، وعبد الله بن علي ثقة، وقد أثنى على الأنصاري خيراً، يعني عمرو بن الجلاح، وخزيمة ممن لا يشك في ثقته، فلست أرخص فيه، بل انهي عنه.
قلت: ومن هاهنا نشأ الغلط على من نقل عنه الإباحة من السلف والأئمة، فإنهم أباحوا أن يكون الدُّبر طريقاً إلى الوطء في الفرج، فيطأ من الدبر لا في الدبر، فاشتبه على السامع "من" ب "في" ولم يظن بينهما فرقاً، فهذا الذي أباحه السلف والأئمة، فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه.
وقد قال تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] قال مجاهد: سألتُ ابن عَبَّاس عن قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222]، فقال: تأتيها من حيث أمرت أن تعتزلها يعني في الحيض. وقال علي بن أبي طلحة عنه يقول: في الفرج، ولا تعدُه إلى غيره.
وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دُبرها من وجهين: أحدهما: أنه أباح إتيانها في الحرث، وهو موضع الولد لا في الحُشّ الذي هو موضع الأذى، وموضع الحرث هو المراد من قوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] الآية قال: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] وإتيانُها في قبلها مِن دبرها مستفادٌ

من الآية أيضا، لأنه قال: أنى شئتم، أي: من أين شئتم من أمام أو من خلف. قال ابن عباس: فأتوا حرثكم، يعني: الفرج.
وإذا كان الله حرَّم الوطءَ في الفرج لأجل الأذى العارض، فما الظنُّ بالحشِّ الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جداً من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان.
وأيضاً: فللمرأة حق على الزوج في الوطء، ووطؤها في دُبرها يفوِّتُ حقها، ولا يقضي وطَرَها، ولا يُحَصِّل مقصودها.
وأيضاً: فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل، ولم يخلق له، وإنما الذي هيئ له الفرج، فالعادلون عنه إلى الدُّبُر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعاً.
وأيضاً: فإن ذلك مضر بالرجل، ولهذا ينهي عنه عقلاءُ الأطباء منِ الفلاسفة وغيرهم، لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه والوطءُ فى الدُّبُر لا يعين على اجتذاب جميع الماء، ولا يخرج كلَّ المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعى.
وأيضاً: يضر من وجه آخَر، وهو إحواجُه إلى حركات متعبةٍ جداً لمخالفته للطبيعة.
وأيضاً: فإنه محل القذر والنَّجْوِ، فيستقبلُه الرَّجل بوجهه، ويُلابسه.
وأيضاً: فإنه يضرُّ بالمرأة جداً، لأنه واردٌ غريب بعيدٌ عن الطباع، مُنافر لها غايةَ المنافرة.
وأيضاً: فإنه يُحِدثُ الهمَّ والغم، والنفرةَ عن الفاعل والمفعول.
وأيضاً: فإنه يُسَوِّدُ الوجه، ويُظلم الصدر، ويَطمِسُ نور القلب،

ويكسو الوجه وحشةً تصير عليه كالسِّيماء يعرِفُها مَن له أدنى فراسة.
وأيضاً: فإنه يُوجب النُّفرة والتباغض الشديد، والتقاطع بين الفاعل والمفعول، ولا بُدَّ.
وأيضاً: فإنه يُفسد حال الفاعل والمفعول فساداً لا يكادُ يُرجَى بعده صلاح، إلا أن يشاءَ الله بالتوبة النصوح.
وأيضاً: فإنه يُذهبُ بالمحاسن منهما، ويكسوهما ضِدَّها. كما يُذهب بالمَوَدَّة بينهما، ويُبدلهما بها تباغضاً وتلاعُناً.
وأيضاً: فإنه من أكبر أسباب زوال النِعَم، وحُلول النِقَم، فإنه يوجب اللَّعنةَ والمقتَ من الله، وإعراضه عن فاعله، وعدم نظره إليه، فأىُّ خير يرجوه بعد هذا، وأىُّ شر يأمنُه، وكيف حياة عبد قد حلَّتْ عليه لعنة الله ومقته، وأعرض عنه بوجهه، ولم ينظر إليه.
وأيضاً: فإنه يُذهب بالحياءِ جملةً، والحياءُ هو حياة القلوب، فإذا فقدها القلبُ، استحسَن القبيح، واستقبحَ الحسن، وحينئذٍ فقد استَحكَم فسادُه.
وأيضاً: فإنهُ يُحيل الطباعَ عما رَكَّبَها الله، ويُخرج الإنسانَ عن طبعه إلى طبع لم يُركِّب الله عليه شيئاً من الحيوان، بل هو طبع منكوس، وإذا نُكِسَ الطبعُ انتكس القلب، والعمل، والهدى، فيستطيبُ حينئذٍ الخبيثَ من الأعمال والهيئات، ويفسد حاله وعملُه وكلامه بغير اختياره.
وأيضاً: فإنه يُورِث مِنَ الوقاحة والجُرأة ما لا يُورثه سواه.
وأيضاً: فإنه يُورث مِنَ المهانة والسِّفال والحقَارة ما لا يورثه غيره.
وأيضاً: فإنه يكسو العبدَ مِن حُلَّة المقت والبغضاء، وازدراءِ الناس له،

واحتقارِهم إيَّاه، واستصغارِهم له ما هو مشاهَدٌ بالحسِّ، فصلاة الله وسلامه على مَن سعادةُ الدنيا والآخرة فى هَدْيِه واتباعِ ما جاء به، وهلاكُ الدنيا والآخرة فى مخالفة هَدْيِه وما جاء به.
فصل
والجِماع الضار: نوعان ؛ ضارٌ شرعاً، وضارٌ طبعاً.
فالضار شرعاً: المحرَّم، وهو مراتبُ بعضُها أشدُّ من بعض. والتحريمُ العارض منه أخفُّ من اللازم، كتحريم الإحرام، والصيام، والاعتكاف، وتحريم المُظاهِرِ منها قبل التكفير، وتحريمِ وطء الحائض... ونحو ذلك، ولهذا لا حدَّ فى هذا الجِمَاع.
وأما اللازمُ: فنوعان ؛ نوعٌ لا سبيل إلى حِلَّه ألبتة، كذواتِ المَحارم، فهذا من أضر الجِمَاع، وهو يُوجب القتل حداً عند طائفة من العلماء، كأحمد ابن حنبلٍ رحمه الله وغيرِه، وفيه حديث مرفوع ثابت.
والثانى: ما يمكن أن يكون حلالاً، كالأجنبية، فإن كانت ذاتَ

زوج، ففى وطئها حَقَّان: حقٌّ للهِ، وحقٌّ للزوج. فإن كانت مُكرَهة، ففيه ثلاثةُ حقوق، وإن كان لها أهل وأقاربُ يلحقهم العارُ بذلك صار فيه أربعةُ حقوق، فإن كانت ذات مَحْرَم منه، صار فيه خمسةُ حقوق. فمَضَرَّةُ هذا النوع بحسب درجاته فى التحريم.
وأما الضار طبعاً، فنوعان أيضاً: نوعٌ ضار بكيفيته كما تقدَّم، ونوعٌ ضار بكميته كالإكثار منه، فإنه يُسقط القُوَّة، ويُضر بالعصب، ويُحدث الرِّعشةَ، والفالج، والتشنج، ويُضعف البصر وسائرَ القُوَى، ويُطفئُ الحرارةَ الغريزية، ويُوسع المجارىَ، ويجعلها مستعدة للفضلات المؤذية.
وأنفعُ أوقاته، ما كان بعد انهضام الغذاء فى المَعِدَة وفى زمانٍ معتدلٍ لا على جوع، فإنه يُضعف الحار الغريزى، ولا على شبع، فإنه يُوجب أمراضاً شديدةً، ولا على تعب، ولا إثْرَ حمَّام، ولا استفراغٍ، ولا انفعالٍ نفسانى كالغمِّ والهمِّ والحزنِ وشدةِ الفرح.
وأجودُ أوقاته بعد هَزِيع من الليل إذا صادف انهضامَ الطعام، ثم يغتسل أو يتوضأ، وينامُ عليه، وينامُ عقبه، فَتَراجَعُ إليه قواه، وليحذرِ الحركة والرياضة عقبه، فإنها مضرة جداً.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى عِلاج العشق
هذا مرضٌ من أمراض القلب، مخالفٌ لسائر الأمراض فى ذاته وأسبابه وعِلاجه، وإذا تمكَّنَ واستحكم، عزَّ على الأطباء دواؤه، وأعيى العليلَ داؤُه، وإنَّما حكاه اللهُ سبحانه فى كتابه عن طائفتين من الناس: من النِّسَاء،

وعشاقِ الصبيان المُرْدان، فحكاه عن امرأة العزيز فى شأن يوسفَ، وحكاه عن قوم لوط، فقال تعالى إخباراً عنهم لمَّا جاءت الملائكةُ لوطاً: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إنَّ هَؤُلآءِ ضيفىَ فَلاَ تَفْضَحُونِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِى إن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الحجر: 68-73].
وأمَّا ما زعمه بعضُ مَن لم يقدرسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقَّ قدره أنه ابتُلِىَ به فى شأن زينب بنت جَحْش، وأنه رآها فقال: "سُبحانَ مُقَلِّبِ القُلُوبِ". وأخذتْ بقلبه، وجعل يقول لزيد بن حارثةَ: "أمْسِكْها" حتى أنزل الله عليه: {وَإذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}[الأحزاب: 37] ، فظنَّ هذا الزاعمُ أنَّ ذلك فى شأن العشق، وصنَّف بعضهم كتاباً فى العشق، وذكر فيه عشق الأنبياء، وذكر هذه الواقعة، وهذا من جهلِ هذا القائل بالقرآن وبالرُّسُل، وتحمِيلهِ كلامَ الله ما لا يحتمِلُه، ونسبتِه رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ما برَّأَه الله منه، فإنَّ زينبَ بنت جحش كانت تحتَ

زيدِ بن حارثةَ، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تبنَّاه، وكان يُدعى "زيد بن محمد"، وكانت زينبُ فيها شَممٌ وترفُّع عليه، فشاور رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى طلاقها، فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمْسِكْ عليكَ زوجَكَ واتَّقِ الله"، وأخفى فى نفسه أن يتزوَّجَها إن طلَّقها زيد، وكان يخشى من قالةِ الناس أنه تزوَّج امرأة ابنه، لأن زيداً كان يُدعى ابنَه، فهذا هو الذى أخفاه فى نفسه، وهذه هى الخشية من الناس التى وقعت له، ولهذا ذكر سبحانه هذه الآية يُعَدِّدُ فيها نعمه عليه لا يُعاتبه فيها، وأعلمه أنه لا ينبغى له أن يخشى الناسَ فيما أحلَّ الله له، وأنَّ اللهَ أحق أن يخشاه، فلا يتحرَّج ما أحَلَّه له لأجل قول الناس، ثم أخبره أنه سبحانه زوَّجه إيَّاها بعد قضاء زيدٌ وطرَه منها لتقتدىَ أُمَّتُه به فى ذلك، ويتزوج الرجل بامرأةِ ابنه من التبنِّى، لا امرأةِ ابنه لِصُلبه، ولهذا قال فى آية التحريم: { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ}[النساء:23]، وقال فى هذه السورة: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ}[الأحزاب: 40]، وقال فى أولها: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ، ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4]، فتأمَّلْ هذا الذبَّ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودَفْع طعنِ الطاعنين عنه، وبالله التوفيق.
نعم.. كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ نساءه، وكان أحبَّهن إليه عائشةُ رضى الله عنها، ولم تكن تبلُغُ محبتُه لها ولا لأحد سِوَى ربه نهايةَ الحب، بل صح أنه قال: "لو كنتُ مُتَّخِذاً من أهل الأرض خليلاً لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خليلاً"، وفى لفظ: "وإنَّ صَاحِبَكُم خَلِيلُ الرَّحْمَن".

فصل
وعشقُ الصُّوَر إنما تُبتلى به القلوبُ الفارغة مِن محبة الله تعالى، المُعْرِضةُ عنه، المتعوِّضةُ بغيره عنه، فإذا امتلأَ القلبُ من محبة الله والشوق إلى لقائه، دفَع ذلك عنه مرضَ عشق الصور، ولهذا قال تعالى فى حقِّ يوسف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ، إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[يوسف: 24]، فدلَّ على أن الإخلاص سببٌ لدفع العشق وما يترتَّبُ عليه من السوء والفحشاء التى هى ثمرتُه ونتيجتُه، فصرفُ المسبب صرفٌ لسببه، ولهذا قال بعضُ السَّلَف: العشقُ حركة قلب فارغ، يعنى فارغاً مما سوى معشوقه. قال تعالى: { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً}[القصص: 11]، إن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ أى: فارغاً من كل شىء إلا من موسى لفرطِ محبتها له، وتعلُّقِ قلبها به
والعشق مُرَكَّب من أمرين: استحسانٍ للمعشوق، وطمع فى الوصول إليه، فمتى انتفى أحدهُما انتفى العشقُ، وقد أعيتْ عِلَّةُ العشق على كثير من العقلاء، وتكلم فيها بعضهم بكلام يُرغَب عن ذكره إلى الصواب.
فنقول: قد استقرت حكمة الله عَزَّ وجَلَّ فى خلقه وأمره على وقوع التناسب والتآلف بين الأشباه، وانجذابِ الشىء إلى مُوافقه ومجانسه بالطبعِ، وهُروبه من مخالفه، ونُفرته عنه بالطبع، فسِرُّ التمازج والاتصال فى العالم العُلوى والسُّفلى، إنما هو التناسبُ والتشاكلُ، والتوافقُ، وسِرُّ التباين والانفصال، إنما هو بعدم التشاكل والتناسب، وعلى ذلك قام الخلق والأمر، فالمِثْلُ إلى مثلِه مائلٌ، وإليه صائرٌ، والضِّدُّ عن ضده هارب، وعنه نافرٌ، وقد قال تعالى: {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ

وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا} [الأعراف: 189]، فجعل سُبحانه عِلَّةَ سكون الرَّجل إلى امرأته كونَها مِن جنسه وجوهره، فعِلَّةُ السكون المذكور وهو الحب كونُها منه، فدل على أن العِلَّة ليست بحُسن الصورة، ولا الموافقة فى القصد والإرادة، ولا فى الخلق والهُدَى، وإن كانت هذه أيضاً من أسباب السكون والمحبة.
وقد ثبت فى "الصحيح" عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال : "الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدةٌ، فما تَعارَفَ منها ائْتلَف، وما تَناكَرَ منها اخْتَلَفَ". وفى "مسند الإمام أحمد" وغيره فى سبب هذا الحديث: أنَّ امرأة بمكةَ كانت تُضِحكُ الناسَ، فجاءت إلى المدينة، فنزلتْ على امرأة تُضِحكُ الناسَ، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الأرواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ"... الحديثَ.
وقد استقرتْ شريعتُه سُبحانه أنَّ حُكم الشىء حُكْمُ مثله، فلا تُفَرِّقُ شريعته بين متماثلين أبداً، ولا تجمعُ بين مضادَّين، ومَن ظنَّ خِلاف ذلك، فإمَّا لِقلَّة علمه بالشريعة، وإما لِتقصيره فى معرفة التماثُل والاختلاف، وإمَّا لنسبته إلى شريعته ما لم يُنزلْ به سلطاناً، بل يكونُ من آراء الرجال، فبحكمتِه وعدلِه ظهر خَلقُه وشرعُه، وبالعدل والميزان قام الخلقُ والشرع، وهو التسويةُ بين المتمائلَيْن، والتفريق بين المختلفَيْن.

وهذا كما أنه ثابت فى الدنيا، فهو كذلك يومَ القيامة. قال تعالى: {احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}[الصافات: 22].
قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه وبعدَه الإمامُ أحمد رحمه الله: أزواجهم أشباهُهم ونُظراؤهم.
وقال تعالى: {وَإذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}[التكوير: 7] أى: قُرِن كلُّ صاحب عملٍ بشكله ونظيره، فقُرِن بين المتحابِّين فى الله فى الجَنَّة، وقُرِن بين المتحابِّين فى طاعة الشيطان فى الجحيم، فالمرءُ مع مَن أَحَبَّ شاء أو أبَى، وفى "مستدرك الحاكم" وغيره عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُحِبُّ المَرءُ قَوْماً إلاَّ حُشِرَ مَعَهُم".
والمحبة أنواع متعددة ؛ فأفضلها وأجلُّها: المحبةُ فى الله ولله ؛ وهى تستلزِمُ محبةَ ما أحبَّ اللهُ، وتستلزِمُ محبةَ الله ورسوله.
ومنها: محبة الاتفاق فى طريقةٍ، أو دين، أو مذهب، أو نِحْلة، أو قرابة، أو صناعة، أو مرادٍ ما.
ومنها: محبةٌ لنَيْل غرض من المحبوب، إمَّا مِن جاهه أو من ماله أو مِن تعليمه وإرشاده، أو قضاء وطر منه، وهذه هى المحبة العَرَضية التى تزول بزوال

مُوجِبها، فإنَّ مَن وَدَّك لأمر، ولَّى عنك عند انقضائه.
وأمَّا محبةُ المشاكلة والمناسبة التى بين المحب والمحبوب، فمحبةٌ لازمة لا تزولُ إلا لعارض يُزيلها، ومحبةُ العشق مِن هذا النوع، فإنها استحسانٌ روحانى، وامتزاج نفسانى، ولا يَعرِض فى شىء من أنواع المحبةِ من الوَسْواس والنُّحول، وشَغْلِ البال، والتلفِ ما يعرضُ مِن العشق.
فإن قيل: فإذا كان سببُ العشق ما ذكرتم من الاتصال والتناسب الروحانى، فما بالُه لا يكون دائماً مِنَ الطرَفين، بل تجدُه كثيراً من طرف العاشق وحده، فلو كان سببُه الاتصالَ النفسى والامتزاجَ الروحانى، لكانت المحبةُ مشتركة بينهما.
فالجواب: أنَّ السبب قد يتخلَّفُ عنه مسبِّبه لفوات شرط، أو لوجود مانع، وتخلُّف المحبة من الجانب الآخر لا بد أن يكون لأحد ثلاثة أسباب:
الأول: عِلَّةٌ فى المحبة، وأنها محبة عَرَضية لا ذاتية، ولا يجب الاشتراكُ فى المحبة العَرَضية، بل قد يلزمها نُفرةٌ من المحبوب.
الثانى: مانعٌ يقوم بالمحِب يمنع محبة محبوبه له، إما فى خُلُقه، أو خَلْقِهِ أو هَدْيه أو فعله، أو هيئته أو غير ذلك.
الثالث: مانعٌ يقوم بالمحبوب يمنعُ مشاركته للمحبِ فى محبته، ولولا ذلك المانعُ، لقام به من المحبة لمحبه مثلَ ما قام بالآخر، فإذا انتفتْ هذه الموانعُ، وكانت المحبة ذاتيةً، فلا يكون قَطُّ إلا من الجانبين، ولولا مانعُ الكِبْر والحسد، والرياسة والمعاداة فى الكفار، لكانت الرُّسُلُ أحبَّ إليهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ولما زال هذا المانعُ من قلوب أتباعهم، كانت محبتُهم لهم فوقَ محبة الأنفس والأهل والمال.

فصل
والمقصود: أنَّ العشق لما كان مرضاً مِن الأمراض، كان قابلاً للعلاج، وله أنواع مِن العِلاج، فإن كان مما للعاشق سبيلٌ إلى وصل محبوبه شرعاً وقدْراً، فهو علاجه، كما ثبت فى
"الصحيحين" من حديث ابن مسعود رضى الله عنه، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا معشر الشَّبَاب ؛ مَن استطاع منكم الباءةَ فلْيتزوَّج، ومَن لم يستطِعْ فعليه بالصَّوْم، فإنَّه له وِجَاءٌ". فدَل المحبَّ على علاجين: أصلىٍّ، وبدلىٍّ. وأمره بالأصلى، وهو العلاج الذى وُضع لهذا الداء، فلا ينبغى العدولُ عنه إلى غيره ما وَجد إليه سبيلاً.
وروى ابن ماجه فى "سننه" عن ابن عباس رضى الله عنهما، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لَمْ نَرَ للمُتحابَّيْنِ مِثْلَ النِّكاح". وهذا هو المعنى الذى أشار إليه سبحانه عقيب إحلال النساء حرائرِهن وإمائهن عند الحاجة بقوله: {يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفاً}[النساء: 28] فذكرُ تخفيفِه فى هذا الموضع، وإخبارُه عن ضعف الإنسان يدل على ضعفه عن احتمال هذه الشهوة، وأنه سبحانه خفَّف عنه أمرها بما أباحه له من أطايب النساء مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ، وأباح له ما شاء مما ملكتْ يمينُه، ثم أباح له أن يتزوَّج بالإماء إن احتاج إلى ذلك علاجاً لهذه الشهوة، وتخفيفاً عن هذا الخُلق الضعيف، ورحمةً به.

فصل
وإن كان لا سبيلَ للعاشق إلى وِصال معشوقه قدْراً أو شرعاً، أو هو ممتنع عليهِ من الجهتين، وهو الداء العُضال، فمِن علاجه، إشعارُ نفسه اليأسَ منه، فإنَّ النفسَ متى يئستْ من الشىء، استراحت منه، ولم تلتفت إليه، فإن لم يَزلْ مرضُ العشق مع اليأس، فقد انحرف الطبعُ انحرافاً شديداً، فينتقل إلى عِلاج آخرَ، وهو علاجُ عقله بأن يعلم بأنَّ تعلُّق القلب بما لا مطمع فى حصوله نوعٌ من الجنون، وصاحبه بمنزلة مَن يعشق الشمس، وروحُه متعلقة بالصعود إليها والدَّوَرانِ معها فى فلكها، وهذا معدودٌ عند جميع العقلاء فى زُمرة المجانين.
وإن كان الوِصال متعذراً شرعاً لا قدراً، فعِلاجُه بأن يُنزله منزلة المتعذر قدراً، إذ ما لم يأذن فيه الله، فعِلاجُ العبد ونجاتُه موقوف على اجتنابه، فليُشعرْ نفسَه أنه معدوم ممتنع لا سبيلَ له إليه، وأنه بمنزلة سائر المحالات، فإن لم تُجبْه النَّفْسُ الأمَّارة، فليتركْه لأحد أمرين: إما خشية، وإما فواتِ محبوب هو أحبُّ إليه، وأنفع له، وخير له منه، وأدْوَمُ لَذَّةً وسروراً، فإن العاقل متى وازَنَ بين نَيْل محبوب سريع الزوال بفوات محبوب أعظمَ منه، وأدومَ، وأنفعَ، وألذَّ أو بالعكس، ظهر له التفاوتُ، فلا تبعْ لَذَّة الأبد التى لا خطرَ لها بلذَّة ساعة تنقلبُ آلاماً، وحقيقتُها أنها أحلامُ نائم، أو خيالٌ لا ثبات له، فتذهبُ اللَّذة، وتبقى التبعةُ، وتزولَ الشهوة، وتبقَى الشِّقوة.
الثانى: حصولُ مكروه أشقَّ عليه مِن فوات هذا المحبوب، بل يجتمع له الأمران، أعنى: فوات ما هُو أحبُّ إليه من هذا المحبوب، وحصولُ

ما هو أكرهُ إليه من فوات هذا المحبوب، فإذا تيقَّن أنَّ فى إعطاء النفسِ حظَّها من هذا المحبوب هذين الأمرين، هان عليه تركُه، ورأى أنَّ صبره على فوته أسهلُ من صبره عليهما بكثير، فعقلُه ودينه، ومروءته وإنسانيته، تأمُره باحتمال الضرر اليسير الذى ينقلِبُ سريعاً لذَّةً وسروراً وفرحاً لدفع هذين الضررين العظيمين. وجَهلُه وهواه، وظلمه وطيشه، وخفته يأمره بإيثار هذا المحبوب العاجل بما فيه جالباً عليه ما جلب، والمعصومُ مَن عصمه الله.
فإن لم تقبل نفسُه هذا الدواء، ولم تُطاوعه لهذه المعالجة، فلينظر ما تجلبُ عليه هذه الشهوةُ مِن مفاسد عاجِلته، وما تمنعه مِن مصالحها، فإنها أجلبُ شىء لمفاسد الدنيا، وأعظمُ شىء تعطيلاً لمصالحها، فإنها تحول بين العبد وبين رُشده الذى هو مِلاكُ أمره، وقِوامُ مصالحه.
فإن لم تقبل نفسُه هذا الدواء، فليتذكر قبائحَ المحبوب، وما يدعوه إلى النُّفرة عنه، فإنه إن طلبها وتأملها، وجدها أضعافَ محاسنه التى تدعو إلى حبه، وليسأل جيرانَه عما خفى عليه منها، فإنَّ المحاسن كما هى داعيةُ الحبِّ والإرادة، فالمساوئ داعيةُ البغضِ والنُّفرة، فليوازن بين الداعيَيْن، وليُحبَّ أسبَقهما وأقرَبَهما منه باباً، ولا يكن ممن غَرَّه لونُ جمال على جسم أبرصَ مجذوم وليُجاوِزْ بصره حُسنَ الصورة إلى قبح الفعل، ولْيَعبُرْ مِن حُسن المنظر والجسم إلى قبح المخبر والقلب.
فإن عجزت عنه هذه الأدوية كلها لم يبق له إلا صِدقُ اللجأ إلى مَن يُجيب المضطَر إذا دعاه، وليطرح نفسه بين يديه على بابه، مستغيثاً به، متضرعاً، متذللاً، مستكيناً، فمتى وُفِّقَ لذلك، فقد قرع باب التوفيق، فليَعِفَّ وليكتُم، ولا يُشَبِّبْ بذكر المحبوب، ولا يفضحْه بين الناس ويُعرِّضه

للأذى، فإنه يكون ظالماً متعدياً.
ولا يغترَّ بالحديث الموضوع على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذى رواه سُويد بن سعيد، عن علىّ بن مُسْهرٍ، عن أبى يحيى القَتَّات، عن مجاهد، عن ابن عباس رضى الله عنهما، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورواه عن أبى مسهر أيضاً، عن هشام بن عروةَ، عن أبيه، عن عائشة، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورواه الزُّبَيْر بن بَكَّار، عن عبد الملك ابن عبد العزيز بن الماجِشُون، عن عبد العزيز بن أبى حازم، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضى الله عنهما، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "مَنْ عَشِقَ، فعَفَّ، فماتَ فهو شهيدٌ" وفى رواية: "مَنْ عَشِقَ وكتم وعفَّ وصبرَ، غفر اللهُ لَهُ، وأدخَلَهُ الجنَّة".
فإنَّ هذا الحديثَ لا يصِحُّ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يجوز أن يكونَ من كلامه، فإنَّ الشهادة درجةٌ عالية عند الله، مقرونةٌ بدرجة الصِّدِّيقية، ولها أعمال وأحوال، هى شرط فى حُصُولها، وهى نوعان: عامةٌ وخاصةٌ.
فالخاصة: الشهادةُ فى سبيل الله.
والعامةُ خمسٌ مذكورة فى "الصحيح" ليس العشقُ واحداً منها.

وكيف يكون العشقُ الذى هو شِرْكٌ فى المحبة، وفراغُ القلب عن الله، وتمليكُ القلب والروح، والحب لغيره تُنال به درجةُ الشهادة، هذا من المحال، فإنَّ إفساد عشق الصور للقلب فوقَ كل إفساد، بل هو خمرُ الروح الذى يُسكرها، ويصدُّها عن ذكر الله وحبِّه، والتلذذِ بمناجاته، والأنسِ به، ويُوجب عبودية القلب لغيره، فإنَّ قلبَ العاشق مُتَعبِّدٌ لمعشوقه، بل العشقُ لُبُّ العبودية، فإنها كمال الذل، والحب والخضوع والتعظيم، فكيف يكون تعبُّد القلب لغير الله مما تُنال به درجةُ أفاضل الموحِّدين وساداتهم، وخواص الأولياء، فلو كان إسنادُ هذا الحديث كالشمسِ، كان غلطاً ووهماً، ولا يُحفظ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفظُ العشق فى حديث صحيح ألبتة.
ثم إنَّ العشق منه حلالٌ، ومنه حرامٌ، فكيف يُظَن بالنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يحكم على كُلِّ عاشقٍ يكتُم ويَعِفُّ بأنه شهيد، فترَى مَن يعشق امرأةَ غيره، أو يعشق المُرْدانَ والبغَايا، يَنال بعشقه درجةَ الشهداء، وهل هذا إلا خلافُ المعلوم من دينه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالضرورة ؟ كيف والعشقُ مرض من الأمراض التى جعل اللهُ سبحانه لها الأدويةَ شرعاً وقدراً، والتداوى منه إما واجب إن كان عشقاً حراماً، وإما مُسْتَحَب

وأنت إذا تأملت الأمراضَ والآفاتِ التى حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابها بالشهادة، وجدتها من الأمراض التى لا علاج لها، كالمطعون، والمَبْطُون، والمجنون، والحريقِ، والغرِيقِ، وموتِ المرأة يقتُلها ولدُها فى بطنها، فإنَّ هذه بلايَا من الله لا صُنع للعبد فيها، ولا عِلاجَ لها، وليست أسبابُها محرَّمة، ولا يترتب عليها مِن فساد القلب وتعبُّده لغير الله ما يترتب على العشق، فإن لم يكفِ هذا فى إبطال نسبة هذا الحديثِ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلِّدْ أئمةَ الحديث العالمين به وبعلله، فإنه لا يُحفظ عن إمام واحد منهم قَطُّ أنه شهد له بصحة، بل ولا بحُسن، كيف وقد أنكروا على سُويدٍ هذا الحديث، ورموه لأجله بالعظائم، واستحلَّ بعضُهم غزوَه لأجله. قال أبو أحمد بن عَدِىٍّ فى "كامله": هذا الحديث أحدُ ما أُنكر على سُويد، وكذلك قال البَيْهقى: إنه مما أُنكر عليه، وكذلك قال ابن طاهر فى "الذخيرة" وذكره الحاكم فى "تاريخ نيسابور"، وقال: أنا أتعجب من هذا الحديث، فإنه لم يحدَّث به عن غير سُويد، وهو ثقة، وذكره أبو الفرج بن الجوزى فى كتاب "الموضوعات"، وكان أبو بكر الأزرقُ يرفعه أوَّلاً عن سُويد، فعُوتب فيه، فأسقط النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان لا يُجاوِزُ به ابنَ عباس رضى الله عنهما.
ومن المصائب التى لا تُحتمل جعلُ هذا الحديث من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومَن له أدنى إلمام بالحديث وعلله، لا يحتمِلُ هذا البتة، ولا يحتمِلُ أن يكونَ من حديث الماجشون، عن ابن أبى حازم، عن ابن أبى نَجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضى الله عنهما مرفوعاً، وفى صحته موقوفاً على ابن عباس نظرٌ، وقد رمى الناسُ سويدَ بن سعيد راوىَ هذا الحديث بالعظائم، وأنكره عليه يحيى بن مَعِين وقال: هو ساقط كذَّاب، لو كان لى فرس ورمح كنت

أغزوه، وقال الإمام أحمد: متروك الحديث. وقال النسائى: ليس بثقة، وقال البخارى: كان قد عمىَ فيلقن ما ليس من حديثه، وقال ابن حِبَّان: يأتى بالمعضلات عن الثقات يجبُ مجانبةُ ما روى.. انتهى.
وأحسنُ ما قيل فيه قولُ أبى حاتم الرازىِّ: إنه صدُوق كثير التَّدْليس، ثم قولُ الدَّارَقُطنىِّ: هو ثقة غير أنه لما كَبِرَ كان ربما قُرئ عليه حديثٌ فيه بعضُ النكارة، فيُجيزه.. انتهى.
وعِيبَ على مسلم إخراجُ حديثه، وهذه حالُه، ولكن مسلم روى من حديثه ما تابعه عليه غيرُه، ولم ينفرِدْ به، ولم يكن منكراً ولا شاذاً بخلاف هذا الحديث.. والله أعلم.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حفظ الصحة بالطيب
لما كانت الرائحةُ الطيبة غذاءَ الروح، والروحُ مطيةُ القُوَى، والقُوَى تزداد بالطيب، وهو ينفعُ الدماغَ والقلب، وسائر الأعضاء الباطنية، ويُفرِّحُ القلب، ويَسُرُّ النفس ويَبسُطُ الروحَ، وهو أصدقُ شىء للروح، وأشدُّه ملاءمةً لها، وبينه وبين الروح الطيبة نِسبةٌ قريبة. كان أحدَ المحبوبَيْن من الدنيا إلى أطيب الطَيِّبين صلوات الله عليه وسلامه.
وفى "صحيح البخارى": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يَرُدُّ الطِّيبَ.
وفى "صحيح مسلم" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من عُرِضَ عليه رَيْحانٌ، فلا يَرُدَّهُ فإنه طَيِّبُ الرِّيح، خَفِيفُ المَحْمِلِ".

وفى "سنن أبى داود" و"النسائي"، عن أبى هريرةَ رضى الله عنه، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَن عُرِضَ عَلَيهِ طِيبٌ، فَلا يَرُدَّهُ، فَإنَّهُ خَفِيفُ المَحْمِلِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ".
وفى "مسند البزَّار": عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إنَّ اللهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطِّيبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الكَرَمَ، جَوادٌ يُحِبُّ الجُودَ، فَنَظِّفُوا أفْنَاءَكُم وسَاحَاتِكُم، ولا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ يَجْمَعُون الأكُبَّ فى دُورِهِمْ ". الأكُب: الزبالة.
وذكر ابن أبى شيبة، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لَهُ سُكَّةٌ يَتَطَيَّب منها.
وصَحَّ عنه أنه قال: "إنَّ للهِ حَقّاً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِى كُلِّ سَبْعَةِ أيَّامٍ، وَإنْ كَانَ لَهُ طِيبٌ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ".
وفى الطيب من الخاصية، أنَّ الملائكة تُحبه، والشياطين تنفِرُ عنه، وأحبُّ شيءٍ إلى الشياطين الرائحةُ المنتنة الكريهة، فالأرواحُ الطيبة تُحِبُّ الرائحة الطيبة، والأرواحُ الخبيثة تُحِبُّ الرائحة الخبيثة، وكل روح تميل إلى ما يناسبها، فالخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، والطيباتُ للطيبين، والطيبون للطيبات، وهذا

وإن كان فى النساء والرجال، فإنه يتناولُ الأعمالَ والأقوالَ، والمطاعم والمشارب، والملابس والروائح، إما بعموم لفظه، أو بعموم معناه.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حفظ صحة العَيْن
روى أبو داود فى "سننه": عن عبد الرحمن بن النُّعمان بن معبد بن هَوْذَةَ الأنصارى، عن أبيه، عن جده رضى الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بالإِثْمِدِ المُروَّحِ عِنْدَ النَّوْمِ وقال: "ليتَّقِهِ الصَّائِمُ". قال أبو عبيد: المروَّح: المطيَّب بالمسك.
وفى "سنن ابن ماجه" وغيره عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كانت للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنها ثلاثاً فى كُلِّ عَيْنٍ.
وفى "الترمذي": عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اكتحَلَ يجعلُ فى اليمنَى ثلاثاً، يبتدىء بها، ويختم بها، وفى اليُسْرى ثنتين.

وقد روى أبو داود عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ اكْتَحَلَ فلْيُوتِرْ" . فهل الوترُ بالنسبة إلى العينين كلتيهما، فيكون فى هذه ثلاث، وفى هذه ثنتان، واليُمنى أولى بالابتداء والتفضيل، أو هو بالنسبة إلى كُلِّ عَيْن، فيكون فى هذه ثلاث، وفى هذه ثلاث، وهما قولان فى مذهب أحمد وغيره.
وفى الكُحْلِ حفظ لصحة العَيْن، وتقويةٌ للنور الباصر، وجِلاءٌ لها، وتلطيفٌ للمادة الرديئة، واستخراجٌ لها مع الزينة فى بعض أنواعه، وله عند النوم مزيدُ فضل لاشتمالها على الكُحْلِ، وسكونها عقيبه عن الحركة المضرة بها، وخدمةِ الطبيعة لها، وللإثْمد مِن ذلك خاصيَّة.
وفى "سنن ابن ماجه" عن سالم، عن أبيه يرفعه: "عَلَيْكُم بالإثْمِدِ، فإنَّهُ يَجْلُو البَصَر، ويُنْبِتُ الشَّعرَ".
وفى كتاب أبى نُعيم: "فإنه مَنْبَتَةٌ للشَّعر، مذهبة للقذَى، مصْفاة للبصر".

وفى "سنن ابن ماجه" أيضاً: عن ابن عباس رضى الله عنهما يرفعه: "خيرُ أكْحالِكم الإثمد، يجلُو البَصَرَ، ويُنبت الشَّعرَ".

فصل: فى ذكر شىء من الأدوية والأغذية المفردة التى جاءت على لسانه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتبة على حروف المعجم
حرف الهمزة
إثْمِدٌ: هو حجر الكحل الأسود، يُؤْتَى به من أصبِهانَ، وهو أفضلُه، ويؤتَى به من جهة المغرب أيضاً، وأجودُه السريعُ التفتيتِ الذى لفُتاته بصيصٌ، وداخلُه أملسُ ليس فيه شىء من الأوساخ.
ومزاجُه بارد يابس ينفعُ العين ويُقوِّيها، ويشد أعصابَها، ويحفظُ صِحتها، ويُذهب اللَّحم الزائد فى القُروح ويُدملها، ويُنقِّى أوساخها، ويجلوها، ويُذهب الصداع إذا اكتُحل به مع العسل المائى الرقيق، وإذا دُقَّ وخُلِطَ ببعض الشحوم الطرية، ولُطخ على حرق النار، لم تعرض فيه خُشْكَرِيشةٌ، ونفع من التنفُّط الحادث بسببه، وهو أجود أكحال العين لا سِيَّما للمشايخ، والذين قد ضعفت أبصارُهم إذا جُعِلَ معه شىءٌ من المسك.
أُتْرُج: ثبت فى "الصحيح": عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "مَثَلُ المؤمن الذى يقرأ القرآن، كمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ، طعْمُها طَيِّبٌ، وريحُها طَيِّبٌ".

وفى الأُترج منافع كثيرة، وهو مركَّب من أربعة أشياء: قشر، ولحم، وحمض، وبزر، ولكل واحد منها مِزاج يخصُّه، فقشره حار يابس، ولحمُه حار رطب، وحمضُه بارد يابس، وبزرُه حار يابس.
ومن منافع قشره: أنه إذا جُعل فى الثياب منع السوسَ، ورائحتُهُ تُصْلِحُ فسادَ الهواء والوباء، ويُطيِّبُ النَّكْهَةَ إذا أمسكه فى الفم، ويُحلِّل الرياح، وإذا جُعِلَ فى الطعام كالأبازِير، أعان على الهضم. قال صاحب "القانون": وعُصَارة قشره تنفع مِن نهْش الأفاعى شرباً، وقِشرُه ضِمَادَاً، وحُرَاقةُ قِشره طِلاءٌ جيد للبَرَص.. انتهى.
وأمَّا لحمه: فملطِّف لحرارة المَعِدَة، نافعٌ لأصحاب المِرَّة الصفراء، قامِعٌ للبخارات الحارة. وقال الغافِقىُّ: أكل لحمه ينفع البواسير.. انتهى.
وأمّا حمضُه: فقابضٌ كاسر للصفراء، ومسكنٌ للخفقان الحار، نافعٌ من اليَرَقَان شرباً واكتحالاً، قاطعٌ للقىء الصفراوى، مُشَهٍّ للطعام، عاقل للطبيعة، نافع من الإسهال الصفراوى، وعُصَارَةُ حمضه يُسَكِّن غِلْمَةَ النساء، وينفع طِلاَءً من الكَلَفِ، ويُذهب بالقَوْباء، ويُستدَل على ذلك مِن فعله فى الحِبر إذا وقَعَ فى الثياب قَلَعَه، وله قوةٌ تُلطِّف، وتقطع، وتبرد، وتُطفئُ حرارة الكبد، وتُقوِّى المَعِدَة، وتمنع حِدَّة المِرَّة الصفراء، وتُزِيلُ الغمَّ العارض منها، وتسكن العطش.
وأمَّا بزره: فله قوة محلِّلة مجففة. وقال ابن ماسويه: خاصية

حَبِّه، النفع من السموم القاتلة إذا شُرِبَ منه وزنُ مثقال مقشَّراً بماء فاتر، وطِلاء مطبوخ. وإن دُقَّ ووضع على موضع اللَّسعة، نفع، وهو مُلَيِّنٌ للطبيعة، مُطَيِّبٌ للنكْهة، وأكثر ُهذا الفعل موجودٌ فى قشره.
وقال غيرُه: خاصية حَبُّه النفع مِن لَسعات العقارب إذا شُرِبَ منه وزنُ مثقالين مقشراً بماء فاتر، وكذلك إذا دُقَّ ووُضِعَ على موضع اللَّدغة.
وقال غيره: حَبُّه يصلُح للسُّموم كُلِّهَا، وهو نافع من لدغ الهوام كلها.
وذُكِرَ أنَّ بعض الأكاسرة غَضِبَ على قوم من الأطباء، فأمر بحبسهم، وخيَّرهم أُدماً لا يزيد لهم عليه، فاختارُوا الأترج، فقيل لهم: لِمَ اخترتموه على غيره ؟ فقالوا: لأنه فى العاجل ريحانٌ، ومنظره مفرح، وقشرُه طيب الرائحة، ولحمه فاكهة، وحَمْضُه أُدم، وحبُّه تِرياق، وفيه دُهنٌ.
وحقيقٌ بشىء هذه منافعه أن يُشَبَّهَ به خلاصةُ الوجود، وهو المؤمن الذى يقرأ القرآن، وكان بعضُ السَّلَف يُحِبُّ النظر إليه لما فى منظره من التفريح.
أَرُزُّ: فيه حديثان باطلان موضوعان على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ أحدهما: أنه "لو كان رجلاً، لكان حليماً"، الثانى: "كُلُّ شىء أخرجتْه الأرضُ ففيه داءٌ وشفاءٌ إلا الأَرُزَّ: فإنه شفاءٌ لا داءَ فيه" ذكرناهما تنبيهاً وتحذيراً من نسبتهما إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وبعد.. فهو حار يابس، وهو أغْذَى الحُبوبِ بعد الحِنْطَة، وأحمدُها خلطاً، يَشدُّ البطن شدّاً يسيراً، ويُقَوِّى المَعِدَة، ويَدبغُها، ويمكثُ فيها. وأطباءُ الهند تزعم أنه أحمدُ الأغذية وأنفعُها إذا طُبِخَ بألبان البقر، وله تأثيرٌ فى خِصب البدن، وزيادةِ المَنِىّ، وكثرةِ التغذية، وتصفيةِ اللون.
أَرْزٌ بفتح الهمزة وسكون الراء: وهو الصَّنَوْبَر. ذكره النبىُّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى قوله: "مَثَلُ المُؤمِنِ مَثَلُ الخامَةِ من الزرع، تُفيئُها الرِّياحُ، تُقيمُهَا مَرَّةً، وتُميلُهَا أُخْرى، ومَثَلُ المُنَافِقِ مَثَلُ الأَرْزَةِ لا تَزَالُ قائمةً على أصْلِها حتى يكونَ انْجِعَافُها مَرَّةً واحدةً".
وَحَبُّه حار رطب، وفيه إنضاجٌ وتليين، وتحليل، ولذعٌ يَذهب بنقعه فى الماء، وهو عَسِرُ الهضم، وفيه تغذيةٌ كثيرةٌ، وهو جيدٌ للسُّعال، ولتنقيةِ رطوبات الرِّئة، ويَزِيدُ فى المَنِىِّ، ويُولِدُ مغصاً، وتِرْيَاقُه حَبُّ الرُّمان المُزِّ.
إذْخِرٌ: ثبت فى "الصحيح"، عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال فى مكةَ: " لا يُختَلَى خَلاَها "، قال له العباس رضى الله عنه: إلا الإذْخِرَ يا رسولَ اللهِ؛ فإنه لِقَيْنِهم ولبيوتِهِم، فقال: "إلا الإذْخِرَ".
والإذْخِرُ حارٌ فى الثانية، يابسٌ فى الأُولى، لطيف مفتح للسُّددِ، وأفواه العروقُ، يُدرُّ البَوْل والطَّمْث، ويُفَتِّتُ الحصى، ويُحلِّل الأورام الصلبة فى المَعِدَة والكَبِد والكُلْيَتين شرباً وضِماداً، وأصلُه يُقوِّى عمودَ الأسنان والمَعِدَة، ويسكن الغَثَيان، ويَعْقِلُ البطن.
حرف الباء
بِطِّيخٌ: روى أبو داود والترمذىُّ، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يأكل

البِطيخَ بالرُّطَبِ، يقول: " نَكْسِرُ حَرَّ هَذَا ببَرْدِ هذا، وبَرْدَ هَذا بِحَرِّ هذا".
وفى البِطِّيخ عدةُ أحاديث لا يَصِحُّ منها شىء غيرُ هذا الحديث الواحد، والمرادُ به الأخضر، وهو باردٌ رطب، وفيه جِلاءٌ، وهو أسرعُ انحداراً عن المَعِدَة من القِثَّاء والخيار، وهو سريعُ الاستحالة إلى أى خلط كان صادفه فى المَعِدَة، وإذا كان آكَلُهُ مَحْرُوراً انتفع به جداً، وإن كان مَبْروداً دفع ضررُه بيسير من الزَّنْجَبيل ونحوه، وينبغى أكلُه قبل الطعام، ويُتْبَعُ به، وإلاّ غَثَّى وقيَّأَ. وقال بعض الأطباء: إنه قبل الطعام يَغسلُ البطن غسلاً، ويُذهب بالداء أصلاً.
بَلَحٌ: روى النسائى وابن ماجه فى "سننهما": من حديث هشام ابن عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُوا البلحَ بالتَّمْرِ، فإنَّ الشيطانَ إذا نظرَ إلى ابنِ آدمَ يأكُلُ البَلَحَ بالتمْرِ يقولُ: بَقِىَ ابنُ آدمَ حتى أكَلَ الحَديثَ بالعَتِيق".
وفى رواية: " كُلُوا البَلَحَ بالتَّمَرِ، فإنَّ الشَّيْطانَ يحزَنُ إذا رأى ابنَ آدمَ يأكُلُهُ يقولُ: عاشَ ابنُ آدمَ حتى أكل الجَديدَ بالخَلَقِ" رواه البزار فى "مسنده"، وهذا لفظه.
قلت: الباءُ فى الحديث بمعنى "مع"؛ أى: كُلُوا هذا معَ هذا. قال بعض أطباء الإسلام: إنَّما أمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأكل البلح بالتمر، ولم يأمُرْ

بأكل البُسْر مع التمر، لأن البلحَ بارد يابس، والتمرَ حار رطب، ففى كُلٍّ منهما إصلاحٌ للآخر، وليس كذلك البُسْر مع التَّمْرِ، فإنَّ كُلَّ واحد منهما حارٌ، وإن كانت حرارةُ التمر أكثر، ولا ينبغى من جهة الطِّبِّ الجمعُ بين حارَّين أو باردَين، كما تقدَّم.
وفى هذا الحديث: التنبيهُ على صحةِ أصل صناعة الطب، ومراعاةِ التدبير الذى يصلُح فى دفع كيفيات الأغذية والأدوية بعضِها ببعض، ومراعاةِ القانون الطبى الذى تُحفظ به الصحة.
وفى البلح برودةٌ ويبوسةٌ، وهو ينفع الفمَ واللِّثَة والمَعِدَة، وهو ردىءٌ للصدر والرِّئة بالخشونة التى فيه، بطىءٌ فى المَعِدَة يسيرُ التغذية، وهو للنخلة كالحِصْرِم لشجرة العنب، وهما جميعاً يُولِّدان رياحاً، وقَرَاقِرَ، ونفخاً، ولا سِيَّما إذا شُرب عليهما الماء، ودفعُ مضرتهما بالتَّمْر، أو بالعسل والزُّبد.
بُسْرٌ: ثبت فى "الصحيح": أنَّ أبا الهيثم بن التَّيْهان، لما ضافه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر رضى الله عنهما، جاءهم بِعذْقٍ وهو من النخلة كالعُنُقودِ من العنب فقال له: "هلاَّ انتقَيْتَ لنا من رُطَبهِ" فقال: أحببتُ أنْ تَنْتَقُوا من بُسْرِهِ ورُطَبِهِ.
البُسْر: حار يابس، ويُبسه أكثرُ من حرِّه، يُنشِّفُ الرطوبةَ، ويَدْبَغُ المعدة، وَيحبِسُ البطن، وينفع اللِّثة والفم، وأنفعه ما كان هشَّاً وحُلواً، وكثرةُ أكله وأكل البَلح يُحدث السَّدد فى الأحشاء.
بَيْضٌ: ذكر البيهقى فى "شُعَبِ الإيمان" أثراً مرفوعاً: أنَّ نبياً من

الأنبياء شكى إلى الله سبحانه الضعفَ، فأمره بأكل البيض. وفى ثبوته نظرٌ.
يُختار من البيض الحديثُ على العتيق، وبيضُ الدَّجاج على سائر بيض الطير، وهو معتدل يميل إلى البرودة قليلاً.
قال صاحب "القانون": ومُحُّهُ: حار رطب، يُولِّد دماً صحيحاً محموداً، ويُغذى غذاءً يسيراً، ويُسرعُ الانحدارَ من المعدة إذا كان رِخواً.
وقال غيره: مُحُّ البيض: مسكن للألم، مملسٌ للحلق وقصبة الرئة، نافع للحلق والسُّعال وقُروح الرئة والكُلَى والمثانة، مذهِبٌ للخشونة، لا سِيَّما إذا أُخِذَ بدُهن اللَّوز الحلو، ومنضجٌ لما فى الصدر، ملين له، مسهل لخشونة الحلق، وبياضه إذا قُطِرَ فى العين الوارمة ورماً حاراً، برَّده، وسكَّن الوجع، وإذا لُطخ به حرقُ النار أو ما يعرض له، لم يدَعه يتنفَّط، وإذا لُطخ به الوجع، منع الاحتراق العارض من الشمس، وإذا خُلِطَ بالكُنْدُر، ولُطخ على الجبهة، نفع من النزلة.
وذكره صاحب "القانون" فى الأدوية القلبية، ثم قال: وهو وإن لم يكن من الأدوية المطلقة فإنه مما له مدخل فى تقوية القلب جداً، أعنى الصفرةَ، وهى تجمع ثلاثة معان: سرعة الاستحالة إلى الدم، وقِلَّة الفضلة، وكون الدم المتولِّد منه مجانساً للدم الذى يغذو القلبَ خفيفاً مندفعاً إليه بسرعة، ولذلك هو أوفقُ ما يُتلافى به عاديةُ الأمراض المحلِّلة لجوهر الروح.
بَصَلٌ: روى أبو داودَ فى "سننه": عن عائشةَ رضى الله عنها، أنها سُئِلَتْ عن البصل، فقالت: "إنَّ آخرَ طعام أكلَهُ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فيه بَصَلٌ".

وثبت عنه فى "الصحيحين": "أنه منع آكِلَه من دُخُولِ المَسْجِدِ".
والبصل: حار فى الثالثة، وفيه رطوبة فَضليَّة ينفعُ من تغير المياه، ويدفعُ ريحَ السموم، ويفتِّق الشهوة، ويقوِّى المَعِدَة، ويُهَيج الباه، ويزيد فى المَنِىِّ، ويُحسِّن اللَّون، ويقطع البلغم، ويجلُو المَعِدَة، وبِزره يُذهب البَهَق، ويدلَّك به حول داء الثعلب، فينفع جداً، وهو بالملح يقلع الثآلِيل، وإذا شَمَّهُ مَن شَرِب دواءً مسهلاً منعه من القىء والغثيان وأذهب رائحة ذلك الدواء، وإذا استُعِطَ بمائه، نَقَّى الرأس، ويُقطَّر فى الأُذن لثقَل السمع والطَّنين والقيح، والماء الحادث فى الأُذنين، وينفع فى الماء النازل فى العينين اكتحالاً يُكتَحَل ببزره مع العسل لبياض العين، والمطبوخ منه كثيرُ الغذاء ينفع مِن اليَرَقانِ والسُّعال، وخشونةِ الصدر، ويُدِرُّ البَوْل، ويلين الطبع، وينفع مِن عضة الكلب غير الكَلِب إذا نُطِلَ عليها ماؤه بملح وسَذَاب، وإذا احتُمل، فتح أفواهَ البواسير.
وأما ضررُه: فإنه يورث الشَّقِيقة، ويُصدِّع الرأس، ويُولِّد أرياحاً، ويُظلم البصر، وكثرةُ أكله تُورث النسيان، ويُفسد العقل، ويُغيِّر رائحةَ الفم والنَّكْهة، ويُؤذى الجليسَ، والملائكة، وإماتتُه طبخاً تُذهب بهذه المضرَّاتِ منه.
وفى السنن: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أمَرَ آكِلَه وآكِلَ الثُّومِ أن يُميتَهُما طبخاً".
ويُذهب رائحته مضغُ ورق السَّذَاب عليه.

باذِنْجان: فى الحديث الموضوع المختلَق على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"الباذِنجانُ لما أُكِلَ له" ، وهذا الكلام مما يُستقبح نسبته إلى آحاد العقلاء، فضلاً عن الأنبياء، وبعد.. فهو نوعان: أبيضُ وأسودُ، وفيه خلاف، هل هو بارد أو حار ؟ والصحيحُ: أنه حار، وهو مُوَلِّد للسوداء والبواسير، والسُّدد والسرطان والجُذام، ويُفسد اللَّون ويُسوِّده، ويُضر بنتن الفم، والأبيضُ منه المستطيل عارٍ من ذلك.
حرف التاء
تَمْرٌ: ثبت فى "الصحيح" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَراتٍ" وفى لفظٍ: "مِن تَمْر العَاليةلم يَضُرَّه ذلك اليَوْمَ سُمٌ ولا سِحْرٌ".
وثبت عَنه أنه قال: "بيتٌ لا تَمْرَ فيه جِيَاعٌ أهْلُهُ".
وثبتَ عنه أنه أكل التَّمرَ بالزُّبدِ، وأكل التَمْرَ بالخبز، وأكله مفرداً.
وهو حار فى الثانية، وهل هو رَطب فى الأُولى، أو يابس فيها ؟. على قولين. وهو مقوٍّ للكبد، مُليِّن للطبع، يزيد فى الباه، ولا سِيَّما مع حَبِّ الصَّنَوْبر، ويُبرىء من خشونة الحلق، ومَن لم يعتدْه كأهل البلاد الباردة

فإنهُ يُورث لهم السّدد، ويُؤذى الأسنان، ويهيج الصُّداع. ودفعُ ضرره باللَّوز والخَشْخاش، وهو من أكثر الثمار تغذيةً للبدن بما فيه من الجوهر الحار الرطب، وأكلُه على الريق يقتُل الدود، فإنه مع حرارته فيه قوةٌ تِرْياقيَّة، فإذا أُدِيمَ استعمالُه على الريق، خفَّف مادة الدود، وأضعفه وقلَّله، أو قتله، وهو فاكهة وغذاء، ودواء وشراب وحَلوى.
تِينٌ: لما لم يكن التينُ بأرض الحجاز والمدينة، لم يأتِ له ذكرٌ فى السُّنَّة، فإنَّ أرضَه تُنافى أرضَ النخل، ولكن قد أقسم الله به فى كتابه، لكثرة منافعه وفوائِدِهِ، والصحيح: أنَّ المُقْسَمَ به: هو التينُ المعروف.
وهو حارٌ، وفى رطوبته ويبوسته قولان، وأجوده: الأبيض الناضج القشر، يجلُو رملَ الكُّلَى والمثانة، ويُؤمِّن من السُّموم، وهو أغْذَى من جميع الفواكه وينفع خشونَةَ الحلق والصدر، وقصبة الرئة، ويغسِلُ الكَبِدَ والطِّحَال، ويُنقِّى الخَلْطَ البلغمىَّ من المَعِدَة، ويَغذُو البدن غِذاءً جيداً، إلا أنه يُولِّدُ القملَ إذا أُكثر منه جداً.
ويابسُه يغذىوينفعُ العصب، وهو مع الجَوْز واللَّوز محمودٌ. قال
"جالينوسُ": "وإذا أُكل مع الجَوْز والسَّذَاب قبْلَ أخذِ السُّمِّ القاتل، نفع، وحَفِظَ من الضرر"
ويُذكر عن أبى الدَّرْداء: أُهْدِى إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طبقٌ من تينٍ، فقال:
"كُلُوا"، وأكل منه، وقال: "لو قُلْتُ: إنَّ فاكهةً نزلتْ من الجنَّة قلتُ هذه، لأنَّ فاكهة الجنَّةِ بلا عَجَمٍ، فكُلُوا منها فإنها تَقْطَعُ البَوَاسير،

وتنفعُ من النقْرِس" . وفى ثبوت هذا نظرٌ.
واللَّحمُ منه أجودُ، ويُعَطِّش المحرورين، ويسكن العطش الكائن عن البلغم المالح، وينفعُ السُّعَال المُزْمن، ويُدِرُّ البَوْل، ويفتحُ سدَدَ الكبد والطِّحَال، ويُوافق الكُلَى والمثانة، ولأكلِه على الريق منفعة عجيبة فى تفتيح مجارى الغذاء، وخصوصاً باللَّوز والجَوْز، وأكلُه مع الأغذية الغليظة ردىءٌ جداً، والتُّوت الأبيض قريبٌ منه، لكنه أقلُّ تغذيةً وأضرُّ بالمَعِدَة.
تَلبينةٌ: قد تقدَّم أنها ماءُ الشَّعير المطحون، وذكرنا منافعها، وأنها أنفعُ لأهل الحجاز من ماء الشَّعِير الصحيح.
حرف الثاء
ثَلْجٌ: ثبت فى "الصحيح" عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "اللهُمَّ اغْسِلْنى مِنْ خطاياىَ بالماءِ والثَّلْجِ والبَرَدِ".
وفى هذا الحديث من الفقه: أنَّ الداء يُداوَى بضده، فإنَّ فى الخطايا من الحرارة والحريق ما يُضاده الثلجُ والبَرَدُ، والماءُ البارد، ولا يقال: إنَّ الماء الحار أبلغُ فى إزالة الوسخ، لأنَّ فى الماء البارد من تصليب الجسم وتقويته ما ليس فى الحار، والخطايا تُوجب أثرين: التدنيس والإرخاء، فالمطلوبُ مداواتها بما ينظِّفُ القلب ويُصْلِّبُهُ، فذكر الماء البارد والثلج والبَرَد إشارةٌ إلى هذين الأمرين.

وبعد.. فالثلجُ بارد على الأصح، وغَلِطَ مَن قال: حارٌ، وشُبهته تَولُّد الحيوان فيه، وهذا لا يدل على حرارته، فإنه يتولَّد فى الفواكه الباردة، وفى الخَلِّ، وأما تعطيشه، فلتهييجه الحرارةَ لا لحرارتِه فى نفسه، ويضرُّ المَعِدَة والعصب، وإذا كان وجعُ الأسنانِ من حرارة مفرطة، سَكَّنها.
ثُومٌ: هو قريب من البصل، وفى الحديث: "مَن أكَلَهُما فلْيُمِتْهُمَا طَبْخاً". وأُهدى إليه طعامٌ فيه ثومٌ، فأرسل به إلى أبى أيوب الأنصارىِّ، فقال: يارسولَ الله؛ تَكْرهه وتُرْسِلُ به إلىَّ ؟ فقال: "إنىِّ أُناجى مَنْ لا تُنَاجِى"
وبعد فهو حار يابس في الرابعة، يسخن تسخنياً قوياً، ويجفف تجفيفاً بالغاً، نافع للمبرودين، ولمن مزاجه بلغمي، ولمن أشرف على الوقوع في الفالج، وهو مجفف للمني، مفتح للسدد، محلل للرياح الغليظة، هاضم للطعام، قاطع للعطش، مطلق للبطن، مدر للبول، يقوم في لسع الهوام وجميع الأورام الباردة مقام الترياق، وإذا دق وعمل

منه ضماد على نهش الحيات، أو على لسع العقارب، نفعها وجذب السموم منها، ويسخن البدن، ويزيد في حرارته، ويقطع البلغم، ويحلل النفخ، ويصفي الحلق، ويحفظ صحة أكثر الأبدان، وينفع من تغير المياه، والسعال المزمن، ويؤكل نيئاً ومطبوخاً ومشوياً، وينفع من وجع الصدر من البرد، ويخرج العلق من الحلق وإذا دق مع الخل والملح والعسل، ثم وضع على الضرس المتأكل، فتته وأسقطه، وعلى الضرس الوجع، سكن وجعه. وإن دق منه مقدار درهمين، وأخذ مع ماء العسل، أخرج البلغم والدود، وإذا طلي بالعسل على البهق، نفع.
ومن مضاره: أنه يصدع، ويضر الدماغ والعينين، ويضعف البصر والباه، ويعطش، ويهيج الصفراء، ويجيف رائحة الفم، ويذهب رائحته أن يمضغ عليه ورق السذاب.
ثريد: ثبت في "الصحيحين" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام".
والثريد وإن كان مركباً، فإنه مركب من خبز ولحم، فالخبز أفضل الأقوات، واللحم سيد الإدام، فإذا اجتمعا لم يكن بعدهما غاية.
وتنازع الناس أيهما أفضل ؟ والصواب أن الحاجة إلى الخبز أكثر وأعم، واللحم أجل وأفضل، وهو أشبه بجوهر البدن من كل ما عداه، وهو طعام أهل الجنة، وقد قال تعالى لمن طلب البقل: والقثاء، والفوم، والعدس، والبصل: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} [البقرة: 62]،

وكثير من السلف على أن الفوم الحنطة، وعلى هذا فالآية نص على أن اللحم خير من الحنطة.
حرف الجيم
جمار: قلب النخل، ثبت في "الصحيحين": عن عبد الله بن عمر قال: بينا نحن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلوس، إذ أتي بجمار نخلة، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن من الشجر شجرة مثل الرجل المسلم لا يسقط ورقها.. الحديث". والجمار: بارد يابس في الأولى، يختم القروح، وينفع من نفث الدم، واستطلاق البطن، وغلبه المرة الصفراء، وثائرة الدم، وليس برديء الكيموس، ويغذو غذاء يسيراً، وهو بطيء الهضم، وشجرته كلها منافع، ولهذا مثلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرجل المسلم لكثرة خيره ومنافعه.
جبن: في "السنن" عن عبد الله بن عمر قال: "أتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجبنة في تبوك، فدعا بسكين، وسمى وقطع" رواه أبو داود، وأكله الصحابة رضي الله عنهم بالشام، والعراق، والرطب منه غير المملوح جيد للمعدة، هين السلوك في الأعضاء، يزيد في اللحم، ويلين البطن تلييناً معتدلاً، والمملوح أقل غذاء من الرطب، وهو رديء للمعدة، مؤذ للأمعاء،

والعتيق يعقل البطن، وكذا المشوي، وينفع القروح ويمنع الإسهال. وهو بارد رطب، فإن استعمل مشوياً، كان أصلح لمزاجه، فإن النار تصلحه وتعدله، وتلطف جوهره، وتطيب طعمه ورائحته. والعتيق المالح، حار يابس، وشيه يصلحه أيضاً بتلطيف جوهره، وكسر حرافته لما تجذبه النار منه من الأجزاء الحارة اليابسة المناسبة لها، والمملح منه يهزل، ويولد حصاة الكلى والمثانة، وهو رديء للمعدة، وخلطة بالملطفات أردأ بسبب تنفيذها له إلى المعدة.
حرف الحاء
حناء: قد تقدمت الأحاديث في فضله، وذكر منافعه، فأغنى عن إعادته.
حبة السوداء: ثبت في "الصحيحين": من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " عليكم بهذة الحبة السوداء، فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام ". السام: الموت.
الحبة السوادء: هي الشونيز في لغة الفرس، وهي الكمون الأسود، وتسمى الكمون الهندي، قال الحربي، عن الحسن: إنها الخردل، وحكى الهروي: أنها الحبة الخضراء ثمرة البطم، وكلاهما وهم، والصواب: أنها الشونيز.
وهي كثيرة المنافع جداً، وقوله: "شفاء من كل داء"، مثل قوله تعالى: {تدمر كل شيء بأمر ربها} [الأحقاف: 25] أي: كل شيء

يقبل التدمير ونظائره، وهي نافعة من جميع الأمراض الباردة، وتدخل في الأمراض الحارة اليابسة بالعرض، فتوصل قوى الأدوية الباردة الرطبة إليها بسرعة تنفيذها إذا أخذ يسيرها.
وقد نص صاحب "القانون" وغيره، على الزعفران في قرص الكافور لسرعة تنفيذه وإيصاله قوته، وله نظائر يعرفها حذاق الصناعة، ولا تستبعد منفعة الحار في أمراض حارة بالخاصية، فإنك تجد ذلك في أدوية كثيرة، منها: الأنزروت وما يركب معه من أدوية الرمد، كالسكر وغيره من المفردات الحارة، والرمد ورم حار باتفاق الأطباء، وكذلك نفع الكبريت الحار جداً من الجرب.
والشونيز حار يابس في الثالثة، مذهب للنفخ، مخرج لحب القرع، نافع من البرص وحمى الربع، والبلغمية مفتح للسدد، ومحلل للرياح، مجفف لبلة المعدة ورطوبتها. وان دق وعجن بالعسل، وشرب بالماء الحار، أذاب الحصاة التي تكون في الكليتين والمثانة، ويدر البول والحيض واللبن إذا أديم شربه أياماً، وإن سخن بالخل، وطلي على البطن، قتل حب القرع، فإن عجن بماء الحنظل الرطب، أو المطبوخ، كان فعله في إخراج الدود أقوى، ويجلو ويقطع، ويحلل، ويشفي من الزكام البارد إذا دق وصير في خرقة، واشتم دائماً، أذهبه.
ودهنه نافع لداء الحية، ومن الثآليل والخيلان، وإذا شرب منه ثقال بماء، نفع من البهر وضيق النفس، والضماد به ينفع من الصداع

البارد، وإذا نقع منه سبع حبات عدداً في لبن امرأة، وسعط به صاحب اليرقان، نفعه نفعاً بليغاً.
وإذا طبخ بخل، وتمضمض به، نفع من وجع الأسنان عن برد، وإذا استعط به مسحوقاً، نفع من ابتداء الماء العارض في العين، وإن ضمد به مع الخل، قلع البثور والجرب المتقرح، وحلل الأورام البلغمية المزمنة، والأورام الصلبة، وينفع من اللقوة إذا تسعط بدهنه، وإذا شرب منه مقدار نصف مثقال إلى مثقال، نفع من لسع الرتيلاء، وإن سحق ناعماً وخلط بدهن الحبة الخضراء، وقطر منه في الأذن ثلاث قطرات، نفع من البرد العارض فيها والريح والسدد.
وإن قلي، ثم دق ناعماً، ثم نقع في زيت، وقطر في الأنف ثلاث قطرات أو أربع، نفع من الزكام العارض معه عطاس كثير.
وإذا أحرق وخلط بشمع مذاب بدهن السوسن، أو دهن الحناء، وطلي به القروح الخارجة من الساقين بعد غسلها بالخل، نفعها وأزال القروح.
وإذا سحق بخل، وطلي به البرص والبهق الأسود، والحزاز الغليظ، نفعها وأبرأها.
وإذا سحق ناعماً، واستف منه كل يوم درهمين بماء بارد من عضه كلب كلب قبل أن يفرغ من الماء، نفعه نفعاً بليغاً، وأمن على نفسه من

الهلاك. وإذا استعط بدهنه، نفع من الفالج والكزاز، وقطع موادهما، وإذا دخن به، طرد الهوام.
وإذا أذيب الأنزروت بماء، ولطخ على داخل الحلقة، ثم ذر عليها الشونيز، كان من الذرورات الجيدة العجيبة النفع من البواسير، ومنافعه أضعاف ما ذكرنا، الشربة منه درهمان، وزعم قوم أن الإكثار منه قاتل.
حرير: قد تقدم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أباحه للزبير، ولعبد الرحمن بن عوف من حكة كانت بهما، وتقدم منافعه ومزاجه، فلا حاجة إلى إعادته.
حرف: قال أبو حنيفة الدينوري: هذا هو الحب الذي يتداوى به، وهو الثفاء الذي جاء فيه الخبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونباته يقال له: الحرف، وتسميه العامة: الرشاد، وقال أبو عبيد: الثفاء: هو الحرف.
قلت: والحديث الذي أشار إليه، ما رواه أبو عبيد وغيره، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ماذا في الأمرين من الشفاء ؟ الصبر والثفاء " رواه أبو داود في المراسيل.
وقوته في الحرارة واليبوسة في الدرجة الثالثة، وهو يسخن، ويلين البطن، ويخرج الدود وحب القرع، ويحلل أورام الطحال، ويحرك شهوة الجماع، ويجلو الجرب المتقرح والقوباء.وإذا ضمد به مع العسل، حلل ورم الطحال، وإذا طبخ مع الحناء أخرج الفضول التي في الصدر، وشربه ينفع من نهش الهوام ولسعها،

وإذا دخن به في موضع، طرد الهوام عنه، ويمسك الشعر المتساقط، وإذا خلط بسويق الشعير والخل، وتضمد به، نفع من عرق النسا، وحلل الأورام الحارة في آخرها.
وإذا تضمد به مع الماء والملح أنضج الدماميل، وينفع من الاسترخاء في جميع الأعضاء، ويزيد في الباه، ويشهي الطعام، وينفع الربو، وعسر التنفس، وغلظ الطحال، وينقي الرئة، ويدر الطث، وينفع من عرق النَّسا، ووجع حقِّ الوَرِك مما يخرج من الفضول، إذا شرب أو احتقن به، ويجلو ما في الصدر والرئة من البلغم اللزج.
وإن شرب منه بعد سحقه وزن خمسة دراهم بالماء الحار، أسهل الطبيعة، وحلل الرياح، ونفع من وجع القولنج البارد السبب، وإذا سحق وشرب، نفع من البرص.
وإن لطخ عليه وعلى البهق الأبيض بالخل، نفع منهما، وينفع من الصداع الحادث من البرد والبلغم، وإن قلي، وشرب، عقل الطبع لا سيما إذا لم يسحق لتحلل لزوجته بالقلي، وإذا غسل بمائه الرأس، نقاه من الأوساخ والرطوبات اللزجة.
قال جالينوس: قوته مثل قوة بزر الخردل، ولذلك قد يسخن به أوجاع الوَرِك المعروفة بالنَّسا، وأوجاع الرأس، وكل واحد من العلل التي تحتاج إلى تسخين، كما يسخن بزر الخردل، وقد يخلط أيضاً في أدوية يسقاها أصحاب الربو من طريق أن الأمر فيه معلوم أنه يقطع الأخلاط الغليظة تقطيعاً قوياً، كما يقطعها بزر الخردل، لأنه شبيه به في كل شيء.
حلبة: يذكر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله

عنه بمكة، فقال: ادعوا لي طبيباً، فدعي الحارث بن كلدة، فنظر إليه فقال: ليس عليه بأس، فاتخذوا له فريقة، وهي الحلبة مع تمر عجوة رطب يطبخان، فيحساهما، ففعل ذلك، فبرئ وقوة الحلبة من الحرارة في الدرجة الثانية، ومن اليبوسة في الأولى، وإذا طبخت بالماء، لينت الحلق والصدر والبطن، وتسكن السعال والخشونة والربو، وعسر النفس، وتزيد في الباه، وهي جيدة للريح والبلغم والبواسير، محدرة الكيموسات المرتبِكَة في الأمعاء، وتحلل البلغم اللزج من الصدر، وتنفع من الدبيلات وأمراض الرئة، وتستعمل لهذا الأدواء في الأحشاء مع السمن والفانيذ.
وإذا شربت مع وزن خمسة دراهم فُوةٍ، أدرت الحيض، وإذا طبخت، وغسل بها الشعر جعدته، وأذهبت الحزاز.ودقيقها إذا خلط بالنطرون والخل، وضمد به، حلل ورم الطحال، وقد تجلس المرأة في الماء الذي طبخت فيه الحلبة، فتنتفع به من وجع الرحم العارض من ورم فيه. وإذا ضمد به الأورام الصلبة القليلة الحرارة، نفعتها وحللتها، وإذا شرب ماؤها، نفع من المغص العارض

من الرياح، وأزلق الأمعاء.
وإذا أكلت مطبوخة بالتمر، أو العسل، أو التين على الريق، حللت البلغم اللزج العارض في الصدر والمعدة، ونفعت من السعال المتطاول منه.
وهي نافعة من الحصر، مطلقة للبطن، وإذا وضعت على الظفر المتشنج أصلحته، ودهنها ينفع إذا خلط بالشمع من الشقاق العارض من البرد، ومنافعها أضعاف ما ذكرنا.
ويذكر عن القاسم بن عبد الرحمن، أنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "استشفوا بالحلبة" وقال بعض الأطباء: لو علم الناس منافعها، لاشتروها بوزنها ذهباً.
حرف الخاء
خُبْزٌ: ثبت فى "الصحيحين"، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال : "تكونُ الأَرضُ يَوْمَ القِيَامَةِ خُبْزَةً واحدةً يَتَكَفَّؤُها الجبَّارُ بيده كما يَكْفُؤُ أَحَدُكُم خُبْزَتَه فى السَّفَر نُزُلاً لأهل الجنَّةِ".
وروى أبو داود فى "سننه": من حديث ابن عباس رضى الله عنهما، قال: "كان أحبَّ الطعامِ إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثريدُ مِن الخُبز"،والثريدُ من الحَيْس.

وروى أبو داود فى (سننه) أيضا، من حديث ابن عمر رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَدِدْتُ أنَّ عندى خُبْزَةً بَيضاءَ من بُرَّةٍ سَمْراءَ مُلَبَّقَةٍ بسَمْنٍ ولَبنٍ" ، فقام رجلٌ من القوم فاتخذه، فجاء به، فقال: "فى أىِّ شىءٍ كان هذا السَّمْنُ" ؟ فقال: فى عُكَّةِ ضَبٍّ. فقال: "ارفَعْهُ".
وذكر البيهقى من حديث عائشة رضى الله عنها ترفعه: "أكرِمُوا الخُبْزَ، ومِنْ كرامتِه أن لا يُنتظرَ به الإدامُ". والموقوف أشْبَهُ، فلا يثبت رفعُه، ولا رفعُ ما قبله.
وأما حديثُ النهى عن قطع الخبز بالسكين، فباطل لا أصل له عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما المروىُّ: النهى عن قطع اللَّحم بالسِّكِّين، ولا يَصِحُّ أيضاً.
قال مُهَنَّا: "سألتُ أحمد عن حديث أبى معشرٍ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقطعوا اللَّحْمَ بالسِّكِّين، فإن ذلك من فِعْلِ الأعاجِم ". فقال: ليس بصحيح، ولا يُعرف هذا، وحديثُ عمرو بن أُميَّةَ خلاف هذا، وحديثُ المغيرة يعنى بحديث عمرو بن أُمية: كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحتزُّ مِن لحم الشاة. وبحديث

المغيرة أنه لمَّا أضافه أمَرَ بِجَنْبٍ فشُوِىَ، ثم أخذَ الشَّفْرَةَ، فجعل يَحُزُّ.
فصل
وأحمدُ أنواع الخبز أجودُها اختماراً وعجناً، ثم خبزُ التَّنُّور أجودُ أصنافه، وبعدَه خبزُ الفرن، ثم خبزُ المَلَّة فى المرتبة الثالثة، وأجودُه ما اتُّخِذَ من الحنطة الحديثة.
وأكثرُ أنواعه تغذيةً خبزُ السَّميذ، وهو أبطؤها هضماً لِقلَّة نخالته، ويتلُوه خبز الحُوَّارَى، ثم الخُشْكَار.
وأحمدُ أوقات أكله فى آخِر اليوم الذى خُبِزَ فيه، والليِّنُ منه أكثر تلييناً وغذاءً وترطيباً وأسرع انحداراً، واليابسُ بخلافه.
ومزاج الخبز من البُرِّ حار فى وسط الدرجة الثانية، وقريبٌ من الاعتدال فى الرطوبة واليُبُوسة، واليُبسُ يَغْلِبُ على ما جفَّفَتْه النارُ منه، والرطوبة على ضده.
وفى خبز الحِنْطة خاصيَّةٌ، وهو أنه يُسمِّن سريعاً، وخبز القطائف يُوَلِّد خلطاً غليظاً، والفَتيتُ نفَّاخ بطىءُ الهضم، والمعمول باللَّبن مسدِّد كثير الغذاء، بطىء الانحدار.
وخبزُ الشعير بارد يابس فى الأُولى، وهو أقل غذاءً من خبزَ الحِنْطة.
خَلٌ: روى مسلم فى "صحيحه": عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل أهلَه الإدَامَ، فقالوا: ما عندنَا إلا خَلٌ،

فدعا به، وجعل يأكُلُ ويقول: "نِعْمَ الإدَامُ الخَلُّ، نِعْمَ الإدَامُ الخَلُّ".
وفى "سنن ابن ماجه" عن أُمِّ سعد رضى الله عنها عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"نِعْمَ الإدَامُ الخَلُّ، اللهُمَّ بَارِكْ فى الخَلِّ، فإنه كان إدامَ الأنبياء قبلى، ولَمْ يَفْتَقِر بيتٌ فيه الخَلُّ".
الخَل: مركَّب من الحرارة، والبرودة أغلبُ عليه، وهو يابس فى الثالثة، قوىُّ التجفيف، يمنع من انصباب المواد، ويُلطِّف الطبيعة، وخَلُّ الخمر ينفع المعدة الملتهبة، ويَقْمَعُ الصَّفْرَاء، ويدفع ضَرَر الأدوية القتَّالة، ويُحَلِّل اللَّبنَ والدم إذا جَمَدا فى الجوف، وينفع الطِّحَالَ، ويدبغ المَعِدة، ويَعقِلُ البطن، ويقطعُ العطش، ويمنع الورمَ حيث يُريد أن يحدث، ويُعين على الهضم، ويُضاد البلغم، ويُلطِّف الأغذية الغليظة، ويُرِقُّ الدم.
وإذا شُرِب بالملح، نفع من أكل الفُطُر القتَّال، وإذا احتُسى، قطع العلق المتعلق بأصل الحنَكِ، وإذ تُمضمض به مُسَخَّناً، نفع من وجع الأسنان، وقوَّى اللِّثَة.
وهو نافع للدَّاحِس، إذا طُلِىَ به، والنملةِ والأورام الحارة، وحرق النار، وهو مُشَهٍّ للأكل، مُطيِّب للمَعِدة، صَالح للشباب، وفى الصيف لسكان البلاد الحارة.
خِلاَلٌ: فيه حديثان لا يَثبُتان، أحدهما: يُروى من حديث أبى أيوب الأنصارىِّ يرفعه:
"يا حَبَّذَا المُتَخَلِّلونَ من الطَّعَام، إنه ليس شىءٌ أشدَّ

على المَلَكِ من بَقيَّةٍ تَبْقَى فى الفم من الطَّعَامِ"، وفيه واصلُ بن السائب، قال البخارى والرازى: منكر الحديث، وقال النسائى والأَزْدِى: متروك الحديث.
الثانى: يُروى من حديث ابن عباس، قال عبد الله بن أحمد: سألت أبى عن شيخ روى عنه صالحٌ الوُحَاظىُّ يقال له: محمد بن عبد الملك الأنصارى، حدَّثنا عطاءُ عن ابن عباس، قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُتَخَلَلَ باللِّيط والآس، وقال: "إنهما يسقيان عُروقَ الجُذَام" ، فقال أبى: رأيتُ محمد ابن عبد الملك وكان أعمى يضعُ الحديث ويكذب.
وبعد.. فالخِلالُ نافع لِلِّثة والأسنان، حافظ لصحتها، نافع من تغير النكهة، وأجودُه ما اتُّخِذَ من عيدان الأخِلة، وخشب الزيتون والخِلاف، والتخللُ بالقصب والآس والرَّيحان والباذروج مُضِرٌ.
حرف الدال
دُهْنٌ: روى الترمذى فى كتاب "الشمائل" من حديث أنس بن مالك رضى الله عنهما، قال: "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكثِرُ دُهْنَ رأسِهِ،

وتسريحَ لِحيته، وُيكْثِرُ القِنَاعَ كأن ثَوْبَه ثَوْبُ زَيَّاتٍ".
الدُّهن يسد مسامَ البدن، ويمنع ما يتحلَّل منه، وإذا استُعْمِلَ بعد الاغتسال بالماء الحار، حسَّنَ البدنَ ورطَّبَهُ، وإن دُهن به الشَّعر حسَّنه وطوَّله، ونفع من الحَصْبَةِ، ودفع أكثر الآفاتِ عنه.
وفى الترمذى: من حديث أبى هريرة رضى الله عنه مرفوعاً: "كُلُوا الزِّيْتَ وادَّهِنُوابه".. وسيأتى إن شاء الله تعالى.
والدُّهْن فى البلاد الحارة كالحجاز ونحوه من آكد أسباب حفظ الصحة وإصلاح البدن، وهو كالضرورى لهم، وأما البلادُ الباردة، فلا يحتاجُ إليه أهلُها، والإلحاح به فى الرأس فيه خطرٌ بالبصر.
وأنفع الأدهان البسيطة: الزيت، ثم السمن، ثم الشَّيْرَج.
وأما المركَّبة: فمنها بارد رطب، كدُهن البنفسج ينفع من الصُّداع الحار، ويُنوِّم أصحاب السهر، ويُرطِّبُ الدماغ، وينفعُ مِن الشُّقاق، وغلبة اليبس، والجفاف، ويُطلَى به الجرب، والحِكَّة اليابسة فينفعُها، ويُسَهِّلُ حركة المفاصل، ويصلح لأصحاب الأمزجة الحارة فى زمن الصيف، وفيه حديثان باطلان موضوعان على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أحدُهما: "فضلُ دُهن البَنَفْسَج على سائر الأدهان، كَفَضْلى على سائرِ الناس ". والثانى: "فضلُ دُهن البنفسَج على سائر الأدهان، كفضل الإسلام على

سائر الأديان".
ومنها: حارٌ رطب، كدُهْن البان، وليس دُهنَ زهره، بل دُهن يُستخرج من حبٍّ أبيض أغبرَ نحو الفُسْتق، كثيرِ الدُّهنية والدسم، ينفع من صلابة العصب، ويُليِّنه، وينفع من البَرَش، والنَّمَش، والكَلَفِ، والبَهَقِ، ويُسَهِّلُ بلغماً غليظاً، ويُلين الأوتار اليابسة، ويُسخِّن العصب، وقد رُوى فيه حديث باطل مختلَق لا أصل له: "ادَّهِنُوا بالبانِ، فإنه أحظى لكم عند نسائكم".ومن منافعه أنه يَجلو الأسنان، ويُكسبَها بهجةً، ويُنَقِّيَها من الصدأ، وَمَن مسح به وجهَه وأطرافه لم يُصبه حصىً ولا شُقاق، وإذا دهن به حِقْوَه ومذَاكِيره وما والاها، نفع من برد الكُليَتَين، وتقطير البَوْل.
حرف الذال
ذَرِيرَةٌ: ثبت فى "الصحيحين": عن عائشة رضى الله عنها قالت: "طَيَّبتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدى، بذَرِيرَةٍ فى حَجَّةِ الوَدَاع لِحَلِّه وإحرامِهِ".
تقدم الكلام فى الذَّريرة ومنافعها وماهِيتها، فلا حاجة لإعادته.
ذُبَابٌ: تقدَّم فى حديث أبى هريرة المتفق عليه فى أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَمْسِ الذُّباب فى الطعام إذا سقط فيه لأجل الشِّفَاء الذى فى جناحه، وهو كالتِّرْياق للسُّمِّ الذى فى الجناح الآخر، وذكرنا منافع الذُّباب هناك.

ذَهَبٌ: روى أبو داود، والترمذى: "أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّص لعَرْفَجَةَ ابن أسعدَ لَمَّا قُطع أنفُهُ يومَ الكُلاب، واتَّخَذَ أنفاً من وَرِقٍ، فأَنْتَن عليه، فأمَرَه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يَتَّخِذَ أنفاً من ذَهبٍ". وليس لعَرْفَجَةَ عندهم غيرُ هذا الحديث الواحد.
الذهبُ: زينةُ الدنيا، وطِلَّسْمُ الوجود، ومفرِّح النفوس، ومقوِّى الظُّهور، وسِرُّ اللهِ فى أرضه، ومزاجُه فى سائر الكيفيات، وفيه حرارةٌ لطيفة تدخل فى سائر المعجونات اللطيفة والمفرحات، وهو أعدل المعادن على الإطلاق وأشرفُها.
ومن خواصه أنه إذا دُفِنَ فى الأرض، لم يضره الترابُ، ولم يَنقُصه شيئاً، وبُرَادتُهُ إذا خُلِطت بالأدوية، نفعتْ من ضعف القلب، والرَّجَفَان العارض من السوداء، وينفع من حديث النَفْس، والحزن، والغم، والفزع، والعشق، ويُسمِّن البدن، ويُقوِّيه، ويُذهب الصفار، ويُحسِّنِ اللَّون، وينفع من الجُذَام، وجميعِ الأوجاعِ والأمراض السَّوْدَاوِيَّةِ، ويَدخل بخاصيَّة فى أدوية داء الثعلب، وداء الحية شُرباً وطِلاءً، ويجلو العَيْن ويُقوِّيها، وينفع من كثير من أمراضها، ويُقوِّى جميع الأعضاء.
وإمساكُهُ فى الفم يُزيل البَخر، وَمَن كان به مرض يَحتاج إلى الَكىِّ، وكُوِىَ به، لم يتنفطْ موضِعُهُ، وَيَبرأْ سريعاً، وإن اتَّخذ منه ميلاً واكتَحَلَ به، قَوَّى العَيْن وجَلاها، وإن اتَّخذ منه خاتمٌ فَصُّه منه وأُحمىَ، وكُوِىَ

به قَوَادِمُ أجنحةِ الحمَام، ألِفَتْ أبراجَها، ولم تنتقِلْ عنها.
وله خاصيَّة عجيبة فى تقوية النفوس، لأجلِها أُبِيحَ فى الحرب والسِّلاحِ منه ما أُبيح، وقد روى الترمذى من حديث مَزِيدَة العَصَرى رضى الله عنه، قال: دخل رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ الفَتْح، وعلى سيفِهِ ذَهَبٌ وفِضةٌ.
وهو معشوقُ النفوس التى متى ظَفِرَتْ به، سلاها عن غيره من محبوباتِ الدنيا، قال تعالى :{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ}[آل عمران: 14].
وفى "الصحيحين": عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو كان لابنِ آدَمَ وادٍ من ذَهبٍ لابْتَغَى إليه ثانياً، ولو كان له ثانٍ، لابتَغَى إليه ثالثاً، ولا يَملأُ جَوفَ ابنِ آدَمَ إلاَّ التُّرَابُ، وَيتوبُ اللهُ عَلى مَن تابَ".
هذا وإنه أعظم حائلٍ بيْنَ الخلِيقةِ وبيْنَ فوزِهَا الأكبر يومَ مَعَادها، وأعظمُ شىء عُصِىَ اللهُ به، وبه قُطِعَتِ الأرحامُ، وأُرِيقتِ الدِّماءُ، واستُحِلَّتِ المحارمُ، ومُنِعَتِ الحقوق، وتَظَالَمَ العباد، وهو المُرَغِّب فى الدنيا وعاجِلِها، والْمزَهِّد فى الآخرة وما أعدَّه اللهُ لأوليائه فيها، فكم أُمِيتَ به من حقٍّ، وأُحيِىَ به من باطلٍ، ونُصِرَ به ظالمٌ، وقُهِرَ به مظلومٌ. وما أحسن ما قال فيه الحَرِيرىُّ:

تَبَّاً لَهُ مِنْ خَادِعٍ مُمَاذِقِ ... أصْفَرَ ذِى وَجْهَيْنِ كالْمُنَافِقِ
يَبْدُو بوَصْفَيْنِ لِعَينِ الرَّامِقِ ... زِينَة مَعشُوقٍ وَلَوْنِ عاشِقِ
وَحُبُّهُ عِنْدَ ذَوِى الْحَقَائِقِ ... يَدْعُو إلى إرْتِكَابِ سُخْطِ الْخالِقِ
لَوْلاَهُ لَمْ تُقْطَعْ يَمينُ السَّارِقِ ... وَلاَ بَدَتْ مَظْلِمَةٌ من فاسِقِ
وَلاَ اشْمأَزَّ باخِلٌ مِنْ طَارِقِ ... وَلاَ اشتكى الْمَمْطُولُ مَطْلَ الْعَائِقِ
وَلا اسْتُعِيذَ من حَسُودٍ رَاشِقِ ... وَشَرُّ ما فِيهِ مِنَ الْخَلاَئِقِ
أنْ ليْسَ يُغْنِى عَنْكَ فى الْمَضَايِقِ ... إلاَّ إذَا فَرَّ فِرَارَ الآبقِ
حرف الراء
رُطَبٌ: قال الله تعالى لمريَمَ: {وَهُزِّى إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْناً}[مريم: 25].
وفى "الصحيحين" عن عبد الله بن جعفر، قال: " رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكُلُ القِثَّاءَ بالرُّطَبِ ".
وفى "سنن أبى داود"، عن أنس قال: "كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ على رُطَباتٍ قَبْلَ أن يُصَلِّىَ، فإنْ لم تكُنْ رُطباتٍ فتمراتٍ، فإن لم تكن تَمَراتٍ، حَسَا حسْوَاتٍ من ماءٍ".

طبْعُ الرُّطَبِ طبعُ المياه حار رَطب، يُقوِّى المعدة الباردة ويُوافقها، ويزيد فى الباه، ويُخصِبُ البدنَ، ويوافق أصحابَ الأمزجة الباردة، ويَغذُو غِذاءً كثيراً.
وهو مِن أعظم الفاكهة موافقةً لأهلِ المدينة وغيرِها من البلاد التى هو فاكهتُهم فيها، وأنفعها للبدن، وإن كان مَن لم يَعْتَدْهُ يُسرعُ التعفُّن فى جسده، ويَتولَّدُ عنه دم ليس بمحمود، ويحدث فى إكثاره منه صُدَاعٌ وسوداءٌ، ويُؤذى أسنانه، وإصلاحُه بالسَّكنْجَبِين ونحوه.
وفى فِطر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصوم عليه، أو على التمر، أو الماء تدبيرٌ لطيفٌ جداً، فإن الصوم يُخلى المعدة من الغذاء، فلا تَجِدُ الكبدُ فيها ما تَجذِبُه وتُرسله إلى القُوَى والأعضاء، والحلوُ أسرع شىء وصولاً إلى الكبد، وأحبُّه إليها، ولا سِيَّما إن كان رطباً، فيشتدُّ قبولها له، فتنتفع به هى والقُوَى، فإن لم يكن، فالتمرُ لحلاوته وتغذيته، فإن لم يكن، فحسواتُ الماء تُطفىء لهيبَ المعدة، وحرارة الصوم، فتنتبهُ بعده للطعام، وتأخذه بشهوة.
رَيْحانٌ: قال تعالى: {فَأَمَّا إن كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ}[الواقعة: 88]. وقال تعالى: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}[الرحمن: 12]
وفى "صحيح مسلم" عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن عُرِضَ عليه رَيْحَانٌ، فَلا يَرُدَّهُ، فإنَّه خَفيفٌ المَحْمِلِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ".
وفى "سنن ابن ماجه": من حديث أُسامةَ رضى الله عنه، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ألا مُشَمِّرٌ للجَنَّةِ، فإنَّ الجَنَّةَ لا خَطَرَ لها، هى وربِّ الكَعْبَةِ،

نُورٌ يَتَلأْلأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وقَصْرٌ مَشِيدٌ، ونَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَثَمَرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلةٌ، وحُلَلٌ كثيرةٌ فِى مَقَامٍ أَبَداً، فى حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ، فى دُورٍ عالية سليمة بهيَّة" ، قالوا: نعمْ يا رسول الله، نحن المشمِّرون لها، قال: "قولوا: إنْ شاء الله تعالى"، فقال القوم: إنْ شاء الله.
الرَّيحان كلُّ نبت طيِّب الريح، فكلُّ أهل بلد يخصونه بشىء من ذلك، فأهلُ الغرب يخصونه بالآس، وهو الذى يعرِفُه العرب من الرَّيحان، وأهلُ العراق والشام يخصُّونه بالحَبَق.
فأما الآسُ، فمزاجُه بارد فى الأُولى، يابس فى الثانية، وهو مع ذلك مركَّب من قُوَى متضادة، والأكثرُ فيه الجوهرُ الأرضىُّ البارد، وفيه شىءٌ حار لطيف، وهو يُجفِّف تجفيفاً قوياً، وأجزاؤه متقاربةُ القُوَّة، وهى قوةٌ قابضة حابسة من داخل وخارج معاً.
وهو قاطع للإسهال الصفراوىّ، دافع للبخار الحار الرَّطب إذا شُمَّ، مفرِّح للقلب تفريحاً شديداً، وشمُّه مانع للوباء، وكذلك افتراشُه فى البيت.
ويُبرىء الأورام الحادثة فى الحالِبَيْن إذا وُضع عليها، وإذا دُقَّ ورقُه وهو غَضٌ وضُرِبَ بالخل، ووُضِعَ على الرأس، قطع الرُّعاف، وإذا سُحِقَ ورقه اليابس، وذُرَّ على القروح ذواتِ الرطوبة نفعها، ويُقوِّى الأعضاء الواهية إذا ضُمِّدَ به، وينفع داء الداحِس، وإذا ذُرَّ على البثورِ والقروحِ التى فى اليدين والرِّجْلين، نفعها.
وإذا دُلِكَ به البدنُ قطع العَرَق، ونشَّفَ الرطوباتِ الفضلية، وأذهب

نَتْنَ الإبط، وإذا جُلس فى طبيخه، نفع من خراريج المَقْعدة والرَّحم، ومن استرخاء المفاصل، وإذا صُبَّ على كسور العِظام التى لم تَلتحِمْ، نفعها.
ويجلو قشورَ الرأس وقروحَه الرَّطبة، وبُثورَه، ويُمسِكُ الشعر المتساقط ويُسَوِّدُه، وإذا دُقَّ ورقُه، وصُبَّ عليه ماء يسير، وخُلِطَ به شىءٌ من زيت أو دُهن الورد، وضُمِّدَ به، وافق القُروح الرَّطبة والنملة والحُمْرة، والأورام الحادة، والشرى والبواسير.
وحَبُّه نافع من نفْث الدم العارض فى الصدر والرِّئة، دابغٌ للمَعِدَة وليس بضارٍّ للصدر ولا الرئة لجلاوته، وخاصيتُه النفعُ من اسْتِطلاق البطن مع السُّعال، وذلك نادر فى الأدوية، وهو مُدِرٌ للبَوْل، نافع من لذع المثانة، وعضِّ الرُّتَيْلاء، ولسْع العقارب، والتخلل بعِرْقه مُضِر، فليُحذَر.
وأما الرَّيحانُ الفارسىُّ الذى يُسمَّى الحَبَق، فحارٌ فى أحد القولين، ينفع شمُّه من الصُّداع الحار إذا رُشَّ عليه الماء، ويبرد، ويرطب بالعرض، وباردٌ فى الآخر، وهل هو رطب أو يابس ؟ على قولين. والصحيحُ: أنَّ فيه من الطبائع الأربع، ويَجْلِبُ النوم، وبزره حابس للإسهال الصفراوىِّ، ومُسَكِّن للمغص، مُقَوٍّ للقلب، نافع للأمراض السوداويَّة.
رُمَّانٌ: قال تعالى :{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}[الرحمن: 68]
ويُذكر عن ابن عباس موقوفاً ومرفوعاً: "ما مِن رُمَّانٍ من رُمَّانِكم هذا إلا وهو مُلقَّحٌ بحبَّةٍ من رُمَّانِ الجَنَّةِ" والموقوفُ أشْبَهُ. وذكر حَربٌ وغيره عن علىٍّ أنه قال: "كُلُوا الرُّمَّانَ بِشحْمِه، فإنه دباغُ المَعِدَةِ".
حلوُ الرُّمَّان حار رطب، جيدٌ للمَعِدَة، مقوٍ لها بما فيه من قبْضٍ لطيف، نافع للحلق والصدر والرِّئة، جيدٌ للسُّعال، وماؤه مُلَيِّن للبطن، يَغْذى البدن غِذاءً فاضلاً يسيراً، سريعُ التحلُّل لرِّقَّته ولطافته، ويُولِّد حرارة

يسيرة فى المعدة وريحاً، ولذلك يُعين على الباه، ولا يصلح للمَحْمُومين، وله خاصيَّة عجيبة إذا أُكل بالخبز يمنعه من الفساد فى المعدة.وحامضه بارد يابس، قابض لطيف، ينفع المَعِدَة الملتهبة، ويُدِرُّ البَوْل أكثرَ من غيره من الرُّمَّان، ويُسكِّنُ الصَّفْراء، ويقطع الإسهال، ويمنع القىء، ويُلطِّف الفضول، ويُطفىءُ حرارة الكبد، ويُقَوِّى الأعضاء، نافع من الخَفَقان الصَّفراوى، والآلام العارضة للقلب، وفم المعدة، ويُقوِّى المَعِدَة، ويدفع الفُضول عنها، ويُطفئُ المِرَّة الصفراء والدم
وإذا استُخرجَ ماؤه بشَحْمه، وطُبِخَ بيسير من العسل حتى يصير كالمرهم، واكتُحِلَ به، قطع الصفرة من العَيْن، ونقَّاها من الرطوبات الغليظة، وإذا لُطخ على اللِّثَة، نفع من الأَكلة العارضة لها، وإن استُخرج ماؤهما بشحمهما، أطلَق البطن، وأحْدَر الرُّطوباتِ العَفِنَةَ المُرِّية، ونفع مِن حُميَّات الغب المُتطاوِلة.
وأما الرُّمَّان المزُّ، فمتوسط طبعاً وفعلاً بين النوعين، وهذا أمْيَلُ إلى لطافة الحامض قليلاً، وحَبُّ الرُّمَّان مع العسل طِلاءٌ للداحِس والقروح الخبيثة، وأقماعُه للجراحات، قالوا: ومَن ابتلع ثلاثةً من جُنبُذِ الرُّمَّان فى كل سنة، أمِنَ مِنَ الرَّمد سنته كلَّها.
حرف الزاي
زَيْتٌ: قال تعالى: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلاَ

غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ}[النور: 35]
وفى الترمذىِّ وابن ماجه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كُلُوا الزَّيتَ وادَّهِنُوا به، فإنَّه من شَجَرَةٍ مُبَارَكةٍ".
وللبَيْهَقِى وابن ماجه أيضاً: عن ابن عمر رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ائْتَدِمُوا بالزَّيتِ، وادَّهِنُوا به، فإنه من شَجَرَةٍ مُبَارَكةٍ".
الزَّيْتُ حار رطب فى الأُولى، وغَلِط مَن قال: يابسٌ، والزَّيت بحسب زيتونه، فالمعتصَرُ من النَّضيج أعدلُه وأجوده، ومن الفَجِّ فيه برودةٌ ويُبوسة، ومن الزيتون الأحمر متوسطٌ بين الزَّيتَيْن، ومن الأسود يُسخِّن ويُرطِّب باعتدال، وينفع من السُّموم، ويُطلق البطن، ويُخرج الدود، والعتيقُ منه أشد تسخيناً وتحليلاً، وما استُخْرِجَ منه بالماء، فهو أقلُّ حرارةً، وألطفُ وأبلغ فى النفع، وجميعُ أصنافه مليِّنة للبَشْرة، وتُبطىءُ الشَيْب.
وماء الزَّيتون المالح يمنع من تنفُّط حرق النار، ويَشُد اللِّثَةَ، وورقهُ ينفع من الحُمرة، والنَّملة، والقُروح الوَسِخة، والشَّرَى، ويمنع العَرَق، ومنافعه أضعاف ما ذكرنا.
زُبْدٌ: روى أبو داود فى "سننه"، عن ابنَىْ بُسْرٍ السُّلَميَّيْن رضى الله عنهما، قالا: دخل علينا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقدَّمنا له زُبداً وتمراً، وكان يُحِبُّ الزُّبدَ والتَّمْرَ.

الزُّبد حار رطب، فيه منافعُ كثيرة، منها الإنضاجُ والتحليل، ويُبرىء الأورامَ التى تكون إلى جانب الأُذُنَيْن والحالِبَيْن، وأورام الفم، وسائر الأورام التى تَعرِضُ فى أبدان النِّساء والصبيان إذا استُعمِلَ وحده، وإذا لُعِقَ منه، نفع في نفْث الدَّم الذى يكون مِن الرئة، وأنضَجَ الأَورام العارضة فيها
وهو مُلَيِّن للطبيعة والعصب والأورام الصلبة العارضة من المِرَّة السوداء والبلغم، نافعٌ من اليُبس العارض فى البدن، وإذا طُلِىَ به على منابت أسنان الطفل، كان معيناً على نباتها وطلوعها، وهو نافع من السُّعال العارض من البرد واليبس، ويُذهب القُوباء والخشونة التى فى البدن، ويُلَيِّن الطبيعة، ولكنه يُضْعف شهوة الطعام، ويذهب بوخامته الحلو، كالعسل والتمر، وفى جمعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين التمر وبينه من الحكمة إصلاحُ كل منهما بالآخر
.زَبيبٌ: رُوى فيه حديثان لا يَصِحَّان. أحدهما: "نِعْمَ الطعامُ الزَّبِيبُ يُطيِّبُ النَّكْهَةَ، ويُذيبُ البلغم". والثانى: "نِعْمَ الطعامُ الزَّبيبُ يُذهبُ النَصَبَ، ويَشُدُّ العَصَبَ، ويُطفىء الغضَبَ، ويُصفِّى اللَّونَ، ويُطيِّبُ النَّكْهةَ". وهذا أيضاً لا يصح فيه شىء عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وبعد.. فأجودُ الزَّبيب ما كَبُر جسمه، وسَمِن شحمه ولحمه، ورَقَّ قشره، ونُزِع عَجَمُه، وصَغُرَ حَبُّه.وجُرْم الزبيب حارٌ رطب فى الأُولى، وحَبُّه بارد يابس، وهو كالعنب المتَّخَذ منه: الحلوُ منه حار، والحامضُ قابض بارد، والأبيضُ أشد قبضاً من غيره، وإذا أُكِلَ لحمُه، وافق قصبة الرِّئة، ونفع من السُّعال، ووجع الكُلَى، والمثَانة، ويُقَوِّى المَعِدَة، ويُلَيِّن البَطْن.

والحلو اللَّحمِ أكثرُ غِذَاءً مِن العنب، وأقلُّ غِذاءً من التِّين اليابس، وله قوةٌ منضِجة هاضمة قابضة محلِّلة باعتدال، وهو بالجملة يُقَوِّى المَعِدَة والكَبِد والطِّحال، نافعٌ من وجع الحلق والصدر والرِّئة والكُلَى والمثانة، وأعدلُه أن يؤكل بغير عَجَمه.
وهو يُغذِّى غِذاءً صالحاً، ولا يسدِّد كما يفعل التَّمَرُ، وإذا أُكل منه بعَجَمِه كان أكثر نفعاً للمَعِدَة والكَبِدْ والطِّحال، وإذا لُصِقَ لحمُه على الأظافير المتحركة أسرع قلعَها، والحلوُ منه وما لا عَجَمَ له نافعٌ لأصحاب الرُّطوبات والبلغم، وهو يُخصب الكَبِدَ، وينفعُها بخاصيَّته.
وفيه نفعٌ للحفظ: قال الزُّهْرى: مَن أحبَّ أن يحفظ الحديث، فليأكل الزبيبَ. وكان المنصور يذكر عن جده عبد الله بن عباس: عَجَمُه داء، ولحمُه دواء.
زَنْجَبِيلٌ: قال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً}[الإنسان:17]
وذكر أبو نُعيم فى كتاب "الطب النبوى" من حديث أبى سعيد الخُدرىّ رضى الله عنه قال: أهدى ملك الرُّوم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَرَّةَ زَنجبيلٍ، فأطعمَ كلَّ إنسان قطعة، وأطعمنى قطعة.
الزنجبيل حارٌ فى الثانية، رطب فى الأُولى، مُسْخِّن مُعين على هضم الطعام، مُلَيِّن للبطن تلييناً معتدلاً، نافع من سدد الكَبِدِ العارِضةِ عن البرد والرُّطوبة، ومن ظُلمة البصر الحادثة عن الرُّطوبة أكلاً واكتحالاً، مُعين على الجِمَاع، وهو مُحلِّل للرياح الغليظة الحادثة فى الأمعاء والمَعِدَة.
وبالجملة.. فهو صالح للكَبِد والمَعِدَة الباردتَى المزاج، وإذا أُخِذَ منه مع السكر وزنُ درهمين بالماء الحار، أسهلَ فُضولاً لَزِجَةً لُعابية، ويقع فى المعجونات التى تُحلِّل البلغم وتُذيبه.

والمُزِّىُّ منه حارٌ يابس يهيج الجِمَاع، ويزيدُ فى المَنِىِّ، وُيسخِّن المَعِدَة والكَبِد، ويُعين على الاستمراء، ويُنشِّف البلغم الغالب على البدن، ويزيد فى الحفظ، ويُوافق برْدَ الكَبِد والمَعِدة، ويُزيل بلتها الحادثة عن أكل الفاكهة، ويُطيِّب النَّكْهة، ويُدفع به ضرر الأطعمة الغليظة الباردة.
حرف السين
سَنا: قد تقدَّم، وتقدَّم "سَنُّوت" أيضاً، وفيه سبعة أقوال:
أحدها: أنه العسل. الثانى: أنه رُبُّ عُكَّة السَّمْن يخرج خططاً سوداءَ على السَّمْن. الثالث: أنه حَبٌ يُشبه الكَمُّون، وليس بكمون. الرابع: الكمونُ الكِرَمْانىُّ. الخامس: أنه الشِّبِتُّ. السادس: أنه التَّمْر. السابع: أنه الرَّازْيَانج.
سَفَرْجَلٌ: روى ابن ماجه فى "سننه": من حديث إسماعيل ابن محمد الطلحى، عن نقيب بن حاجب، عن أبى سعيدِ، عن عبد الملك الزُّبيرى، عن طلحة بن عُبيد الله رضى الله عنه قال: دخلتُ على النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيدِه سَفَرْجَلة، فقال: "دُونَكَها يا طَلْحَةُ، فإنها تُجِمُّ الفُؤادَ".
ورواه النسائىٌّ من طريق آخرَ، وقال: "أتيتُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو فى جماعةٍ من أصحابه، وبيده سفرجلة يُقلِّبُها، فلمَّا جلستُ إليه، دحَا بها إِلىّ ثم قال:

"دُونَكَها أبا ذَرٍ؛ فإنَّها تَشُدُّ القَلْبَ، وتُطيِّبُ النَّفْسَ، وتَذهَبُ بِطَخَاءِ الصَّدْرِ"
وقد رُوى فى السفرجل أحاديثُ أُخر، هذه أمثَلُها، ولا تصح.
والسفرجل بارد يابس، ويختلفُ فى ذلك باختلاف طعمه، وكلُّه بارد قابض، جيد للمَعِدَة، والحلوُ منه أقلُّ برودة ويُبساً، وأمْيَلُ إلى الاعتدال، والحامِضُ أشدُّ قبضاً ويُبساً وبرودة، وكُلُّه يُسَكِّن العطشَ والقىء، ويُدِرُّ البَوْل، ويَعقِلُ الطبع، وينفع من قرحة الأمعاء، ونفْث الدَّم، والهيْضَة، وينفعُ من الغَثَيان، ويمنع من تصاعُدِ الأبخرة إذا استُعْمِلَ بعد الطعام، وحُرَاقةُ أغصانه وورقه المغسولة كالتوتياء فى فعلها.
وهو قبل الطعام يقبض، وبعده يُليِّن الطبع، ويُسرع بانحدار الثفل، والإكثارُ منه مُضِرٌ بالعصب، مُولِّد للقُولَنْج، ويُطْفىء المِرَّة الصفراء المتولدة فى المعدة.
وإن شُوِىَ كان أقلَّ لخشونته، وأخفَّ، وإذا قُوِّرَ وسطُه، ونُزِعَ حبُّه، وجُعِلَ فيه العسلُ، وَطُيِّنَ جُرمُه بالعجين، وأُودِع الرماد الحارَّ، نفع نفعاً حسناً.
وأجودُ ما أُكِلَ مشوياً أو مطبوخاً بالعسل، وحَبُّه ينفع من خشونة الحلق، وقصبة الرِّئة، وكثير من الأمراض، ودُهنه يمنع العَرَق، ويُقَوِّى المَعِدَة، والمربَّى منه يُقَوِّى المَعِدَة والكَبِد، ويشد القلب، ويُطيِّب النَّفَس.
ومعنى تُجِمُّ الفؤاد: تُريحه. وقيل: تفتحُه وتوسعه، مِن جمام الماءِ، وهو اتساعه وكثرته، والطَّخاء للقلبُ مِثلُ الغَيْم على السماء. قال أبو عُبيدٍ: الطَّخاء ثِقَلٌ وغَشْى، تقول: ما فى السماء طخاءٌ، أى: سحابٌ وظُلمة.

سِوَاكٌ: فى "الصحيحين" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلا أن أَشُقَّ على أُمَّتى لأَمَرْتُهُمْ بالسِّواكِ عند كُلِّ صلاةٍ ".
وفيهما: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قامَ من اللَّيل يَشُوصُ فَاهُ بالسِّوَاكِ.
وفى "صحيح البخارى" تعليقاً عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِِ، مَرْضَاةٌ للرَّبِّ".
وفى "صحيح مسلم": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا دَخَلَ بيته، بدأ بِالسِّوَاكِ.
والأحاديثُ فيه كثيرة، وصَحَّ عنه من حديث أنه استاك عند موته بسواك عبد الرحمن بن أبى بكر، وصَحَّ عنه أنه قال: "أكْثَرْتُ عَلَيْكُم فى السِّوَاكِ".
وأصلح ما اتُخِذَ السِّواكُ من خشب الأراك ونحوه، ولا ينبغى أن يُؤخذ من شجرة مجهولة، فربما كانت سُماً، وينبغى القصدُ فى استعماله، فإن بالغ فيه، فربما أذهب طَلاَوةَ الأسنان وصقالتها، وهيأَها لقبولِ الأبخرة

المتصاعدة من المَعِدَة والأوساخ، ومتى استُعمل باعتدال، جلا الأسنان، وقوَّى العمود، وأطلق اللِّسَان، ومنع الحَفَر، وطيَّب النَّكهة، ونقَّى الدِّمَاغ، وشَهَّى الطَّعام.
وأجود ما استُعمل مبلولاً بماء الورد، ومن أنفعه أُصولُ الجَوْز. قال صاحب "التيسير": "زعموا أنه إذا استاك به المستاك كلَّ خامسٍ من الأيام، نقَّى الرأس، وصفَّى الحواسَّ، وأحَدَّ الذهنَ"
وفى السِّوَاك عدة منافع: يُطيِّب الفم، ويشد اللِّثَةَ، ويقطع البلغم، ويجلو البصرَ، ويُذهب بالحَفَر، ويُصحُّ المَعِدَة، ويُصفِّى الصوت، ويُعين على هضم الطعام، ويُسَهِّل مجارى الكلام، ويُنَشِّطُ للقراءة، والذِّكر والصلاة، ويطرُد النوم، ويُرضى الرَّبَّ، ويُعْجِبُ الملائكة، ويُكثر الحسنات.
ويُستحَبُّ كلَّ وقت، ويتأكد عند الصلاة والوضوء، والانتباهِ من النوم، وتغيير رائحة الفم، ويُستَحب للمفطر والصائم فى كل وقت لعموم الأحاديث فيه، ولحاجة الصائم إليه، ولأنه مرضاةٌ للرَّبِّ، ومرضاتُه مطلوبة فى الصوم أشدَّ من طلبِها فى الفِطر، ولأنه مَطْهَرَةٌ للفم، والطهور للصائم من أفضل أعماله.
وفى "السنن": عن عامر بن ربيعة رضى الله عنه، قال: رأيتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لا أُحْصى يَستاكُ، وهو صائمٌ.
وقال البخارىُّ: قال ابن عمرَ: يستاكُ أول النَّهار وآخره.
وأجمع الناسُ على أنَّ الصائم يتمضمض وجوباً واستحباباً، والمضمضةُ

أبلغُ مِنَ السِّواك، وليس لله غرضٌ فى التقرُّب إليه بالرائحة الكريهة، ولا هى من جنس ما شُرِعَ التعبُّدُ به، وإنما ذكر طِيب الخُلوف عند الله يوم القيامة حثّاً منه على الصوم؛ لا حثاً على إبقاء الرائحة، بل الصائمُ أحوجُ إلى السِّوَاك من المْفطرِ.
وأيضاً فإنَّ رضوان الله أكبرُ من استطابتِه لخلوف فم الصائم.
وأيضاً فإنَّ محبَّته للسِّوَاك أعظمُ من محبته لبقاء خُلوف فم الصائم.
وأيضاً فإنَّ السِّوَاك لا يمنعُ طيبَ الخُلُوفِ الذى يُزيله السِّوَاكُ عند الله يوم القيامة، بل يأتى الصائمُ يوم القيامة، وخُلوفُ فمِه أطيبُ من المسك علامةً على صيامه، ولو أزاله بالسِّوَاك، كما أنَّ الجريحَ يأتى يوم القيامة، ولونُ دم جُرحه لونُ الدم، وريحُه ريحُ المسك، وهو مأمور بإزالته فى الدنيا.
وأيضاً فإنَّ الخُلوف لا يزولُ بالسِّوَاك، فإنَّ سبَبَه قائم، وهو خُلو المَعِدَة عن الطعام، وإنما يزولُ أثره، وهو المنعقِدُ على الأسنان واللِّثَة.
وأيضاً فإنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَّم أُمَّته ما يُسْتَحب لهم فى الصيام، وما يُكره لهم، ولم يجعلِ السِّوَاكَ من القسم المكروه، وهو يعلم أنهم يفعلونه، وقد حضَّهم عليه بأبلغ ألفاظِ العموم والشمول، وهم يُشاهدونه يَستاك وهو صائم مراراً كثيرة تَفُوتُ الإحصاء، ويعلم أنهم يقتدون به، ولم يقل لهم يوماً من الدهر: لا تستاكوا بعد الزوال، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع.. والله أعلم.
سَمْنٌ: روى محمد بن جرير الطبرى بإسناده، من حديث صُهيب يرفعُه "عليكم بألبان البقَرِ، فإنها شفاءٌ، وسَمْنُها دَواءٌ، ولُحومُها داء" رواه عن أحمد بن الحسن الترمذى، حدَّثنا محمد ابن موسى النسائى، حدَّثنا

دَفَّاع ابن دَغْفَلٍ السَّدوسى، عن عبد الحميد بن صَيفى بن صُهيب، عن أبيه، عن جده، ولا يثبت ما فى هذا الإسناد.
والسمن حار رطب فى الأُولى، وفيه جِلاء يسير، ولطافة وتفشية الأورام الحادثة مِن الأبدان الناعمة، وهو أقوى من الزُّبد فى الإنضاج والتليين، وذكر "جالينوس": أنه أبرأ به الأورامَ الحادثة فى الأُذن، وفى الأرنبة، وإذا دُلِكَ به موضعُ الأسنان، نبتت سريعاً، وإذا خُلِطَ مع عسل ولَوْزٍ مُرٍّ، جلا ما فى الصدر والرئة، والكَيموساتِ الغليظة اللَّزِجة، إلا أنه ضار بالمَعِدَة، سِيَّما إذا كان مزاجُ صاحبها بلغمياً.
وأما سمن البقر والمَعِزِ، فإنه إذا شُرِبَ مع العسل نفع من شرب السُّمِّ القاتل، ومِن لدغ الحيَّات والعقارب، وفى كتاب ابن السُّنى: عن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال: لم يَسْتشفِ الناسُ بشىءٍ أفضل مِنَ السمن.
سَمَكٌ: روى الإمام أحمد بن حنبل، وابن ماجه فى "سننه": من حديث عبد الله بن عمر، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتانِ ودَمَانِ: السَّمَكُ والجَرَادُ، والكَبِدُ والطِّحَالُ".
أصنافُ السَّمَك كثيرة، وأجودُه ما لذَّ طعمه، وطابَ ريحُه، وتوسَّط مقدارُه، وكان رقيقَ القشر، ولم يكن صلبَ اللَّحم ولا يابسه، وكان فى ماءٍ عذب جارٍ على الحصباء، ويتغذَّى بالنبات لا الأقذار، وأصلح

أماكنه ما كان فى نهر جيد الماء، وكان يأوِى إلى الأماكن الصخرية، ثم الرملية، والمياه الجارية العذبة التى لا قذرَ فيها، ولا حمأة، الكثيرة الاضطراب والتموج، المكشوفة للشمس والرِّياح.
والسَّمَك البحرى فاضل، محمود، لطيف، والطرى منه بارد رطب، عَسِر الانهضام، يُولِّد بلغماً كثيراً، إلا البحرىَ وما جرى مجراه، فإنه يُولِّد خلطاً محموداً، وهو يُخْصِبُ البدن، ويزيد فى المَنِىِّ، ويُصلح الأمزجة الحارة.
وأما المالح، فأجودُه ما كان قريبَ العهد بالتملُّح، وهو حار يابس، وكلما تقادم عهدُه ازداد حرُّه ويبسه، والسِّلور منه كثير اللزوجة، ويسمى الجِرِّىَّ، واليهودُ لا تأكله. وإذا أُكِلَ طريٍّا، كان مليِّناً للبطن، وإذا مُلِّحَ وعتق وأُكِلَ، صفَّى قصبة الرئة، وجوَّد الصوتَ، وإذا دُقَّ وَوُضِعَ مِن خارجٍ، أخرج السَّلَى والفضول من عُمق البدن من طريق أنَّ له قوة جاذبة.
وماء ملح الجِرِّىِّ المالح إذا جلسَ فيه مَن كانت به قرحة الأمعاء فى ابتداء العِلَّة، وافقه بجذبه الموادَّ إلى ظاهر البدن، وإذا احتُقِنَ به، أبرأ من عِرْق النَّسَا.
وأجودُ ما فى السَّمَك ما قرُب من مؤخرها، والطرىُّ السمين منه يُخصب البدن لحمُه ووَدَكُه.
وفى "الصحيحين": من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: "بعثنا النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ثلاثمائة راكب، وأميرُنا أبو عُبيدة بن الجرَّاح، فأتينا الساحِلَ، فأصابنا جوعٌ شديد، حتى أكلنا

الخَبَطَ، فألقى لنا البحرُ حوتاً يقال لها: عنبر، فأكلنا منه نِصفَ شهرٍ، وائتدمنا بوَدَكِه حتى ثابت أجسامُنا، فأخذ أبو عبيدة ضلعاً من أضلاعه، وحمل رَجُلاً على بعيره، ونصبه، فمرَّ تحته".
سِلْقٌ: روى الترمذىُّ وأبو داود، عن أُمِّ المُنذِر، قالت: دخل علىَّ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه على رضى الله عنه، ولنا دَوَالٍ معلَّقةٌ، قالت
: فجعل رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكُلُ وعلىٌ معه يأكُلُ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَهْ يا علىُّ فإنَّكَ ناقِهٌ" ، قالت: فجعلتُ لهم سِلْقاً وشعيراً، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا علىُّ؛ فأصِبْ من هذا، فإنه أوفَقُ لَكَ". قال الترمذىُّ: حديثٌ حسن غريب.
السِّلق حار يابس فى الأُولى، وقيل: رطب فيها، وقيل: مُرَكَّبٌ منهما، وفيه برودةٌ ملطِّفة، وتحليلٌ، وتفتيحٌ. وفى الأسود منه قبضٌ ونفعٌ من داء الثعلب، والكَلَف، والحَزَارِ، والثآليل إذا طُلِىَ بمائه، ويقتل القمل، ويُطلَى به القُوَبَاء مع العسل، ويفتح سُدَدَ الكَبِدِ والطِّحال.
وأسودُه يَعقِلُ البطن، ولا سِيَّما مع العدس، وهما رديئان، والأبيضُ: يُلَيِّن مع العدس، ويُحْقَن بمائه للإسهال، وينفع من القُولَنْج مع المَرِىِّ والتَّوَابِل
وهو قليل الغذاء، ردىء الكَيْمُوس، يحرق الدمَ، ويُصلحه الخل والخَرْدَل، والإكثار منه يُولِّد القبض والنفخ.

حرف الشين
شُونيزٌ: هو: الحبَّة السوداء، وقد تقدَّم فى حرف الحاء.
شُبْرُمٌ: روى الترمذىُّ وابن ماجه فى
"سننهما": من حديث أسماء بنت عُمَيْس، قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: "بماذا كُنْتِ تَسْتَمْشِينَ" ؟ قالت: بالشُّبْرُمِ. قال: "حارٌ جارٌ".
الشُّبْرُمُ شجر صغير وكبير، كقامة الرجل وأرجح، له قُضبانٌ حُمر ملمَّعة ببياض، وفى رؤوس قضبانه جُمَّةٌ مِن وَرق، وله نَوْرٌ صِغار أصفرُ إلى البياض، يسقط ويخلفه مراودُ صِغار فيها حَبٌ صغير مثل البُطْم، فى قدره، أحمرُ اللَّون، ولها عروقٌ عليها قُشورٌ حُمر، والمستعمَل منه قِشْرُ عرُوقه، ولبنُ قضبانه.
وهو حارٌ يابس فى الدرجة الرابعة، ويُسَهِّلُ السوداء، والكَيْمُوسات الغليظة، والماءَ الأصفر، والبلغم، مُكْرِبٌ، مُغَثٍّ، والإكثارُ منه يقتل، وينبغى إذا استُعمِلَ أن يُنقَعَ فى اللَّبن الحليب يوماً وليلة، ويُغيَّرَ عليه اللَّبنُ فى اليوم مرتين أو ثلاثاً، ويُخْرَج، ويُجفَّفُ فى الظل، ويُخلَطُ معه الورود والكَثِيراءُ، ويُشرب بماء العسل، أو عصير العِنَب، والشَّرْبَةُ مِنه ما بيْنَ أربع دوانِق إلى دانِقَيْن على حسب القوة، قال حُنَيْن: أمَّا لبنُ الشُّبْرُم، فلا خيرَ فيه، ولا أرى شُربه ألبتة، فقد قَتَلَ به أطباءُ الطُّرقاتِ كثيراً من الناس

شَعِيرٌ: روى ابن ماجه: من حديث عائشة، قالت: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أخذ أحداً من أهْلِهِ الوَعْكُ، أمَرَ بالحَسَاءِ مِنَ الشَّعيرِ، فصُنِعَ، ثم أمرهم فَحَسَوْا مِنْهُ، ثم يقول: "إنَّه ليَرْتُو فُؤادَ الحزينِ ويَسْرُو فُؤادَ السَّقِيم كما تَسْرُو إحداكُنَّ الوَسَخَ بالماءِ عن وَجْهِهَا".
ومعنى "يرتوه": يشُدُّه ويُقوِّيه. و"يَسرو": يكشِفُ ويُزِيلُ.
وقد تقدَّم أنَّ هذا هو ماء الشعير المغلى، وهو أكثرُ غِذاءً من سويقه، وهو نافع للسُّعال، وخشونةِ الحلق، صالح لقَمْع حِدَّة الفُضول، مُدِرٌ للبَوْلِ، جَلاء لما فى المَعِدَة، قاطِعٌ للعطش، مُطْفِىءٌ للحرارة، وفيه قوة يجلو بها ويُلَطِّف ويُحَلِّل.
وصفته: أن يُؤخذ مِن الشعير الجيدِ المرضوضِ مقدارٌ، ومن الماء الصافى العذبِ خمسةُ أمثاله، ويُلقى فى قِدْر نظيف، ويُطبخ بنار معتدلة إلى أن يَبقى منه خُمُساه، ويُصفَّى، ويُستعملَ منه مقدار الحاجة مُحَلاً.
شِوَاءٌ: قال الله تعالى فى ضيافة خليله إبراهيم عليه السلام لأضيافه: {فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}[هود: 79]
و"الحَنِيذ": المشوى على الرَّضْفِ، وهى الحجارةُ المحماة.
وفى الترمذى: عن أُمِّ سلمة رضى الله عنها، "أنها قرَّبت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جنباً مشوياً، فأكل منه ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ". قال الترمذى: حديثٌ صحيح.

وفيه أيضاً: عن عبد الله بن الحارث، قال: أكلنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِواءً فى المسجد.وفيه أيضاً: عن المغيرَة بن شُعبة قال: "ضِفتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة، فأمر بجنبٍ، فشُوِىَ، ثم أخذ الشِّفْرَة، فجعل يَحُزُّ لى بها منه، قال: فجاء بلال يُؤذِّن للصلاة، فألقى الشِّفْرَة فقال : "مَا لَه تَرِبَتْ يَدَاهُ".
أنفع الشِواء شِواء الضأن الحَوْلىِّ، ثم العِجلِ اللَّطيف السمين، وهو حارٌ رطب إلى اليبوسة، كثيرُ التوليد للسَّوداء، وهو من أغذية الأقوياء والأصحاء والمرتاضين، والمطبوخُ أنفع وأخف على المعدة، وأرطبُ منه، ومن المُطجَّن.
وأردؤه المشوى فى الشمس، والمشوى على الجمر خير من المشوى باللهب، وهو الحَنِيذ.
شَحْمٌ: ثبت فى "المسند" عن أنس"أنَّ يهودياً أضاف رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقدَّم له خُبزَ شَعِيرِ، وإهالَةً سَنِخَةً"، و"الإهالة": الشَّحْم المذاب، والألْية. و"السَّنِخَةُ": المتغيرة.
وثبت فى "الصحيح": عن عبد الله بن مُغَفَّل، قال:"دُلِّى جِرَابٌ من شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، فالتزمتُه وقلتُ: واللهِ لا أُعطى أحداً منه شيئاً،

فالتفتُّ، فإذا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ، ولم يقل شيئاً".
أجود الشحمِ ما كان مِن حيوان مكتمل، وهو حارٌ رطب، وهو أقلُّ رطوبةً من السمن، ولهذا لو أُذيب الشحمُ والسمن كان الشَحمُ أسرعَ جموداً.
وهو ينفع من خشونة الحلق، ويُرخى ويعفن، ويُدفع ضرره باللَّيْمون المملُوح، والزنجبيل، وشحمُ المَعز أقبضُ الشحوم، وشحم التُّيوس أشدُّ تحليلاً، وينفع مِن قروح الأمعاء، وشحمُ العَنز أقوى فى ذلك، ويُحتقَن به للسَّحَج والزَّحِير.
حرف الصاد
صَلاَةٌ: قال اللهُ تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ، وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}[البقرة: 45]
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ، إنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: 44].
وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا، لاَ نَسْئَلُكَ رِزْقاً، نَّحْنُ نَرْزُقُكَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}[طه: 132]
وفى "السنن": "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حَزَبَهُ أمْرٌ، فَزِعَ إلى الصَّلاةِ".

وقد تقدَّم ذكر الاستشفاء بالصلاة من عامة الأوجاع قبل استحكامها.
والصلاة مجلبةٌ للرزق، حافظة للصحة، دافعة للأذى، مطردة للأَدواء، مقوِّية للقلب، مبيِّضة للوجه، مُفْرِحةٌ للنفس، مُذهبة للكسل، منشِّطةٌ للجوارح، ممدَّة للقُوَى، شارحِة للصَّدر، مغذِّية للروح، مُنوِّرة للقلب، حافِظةٌ للنعمة، دافعة للنقمة، جالِبة للبركة، مُبعِدة من الشيطان، مُقرِّبة من الرحمن.
وبالجملة.. فلها تأثير عجيب فى حفظ صحة البدن والقلب، وقواهما، ودفع المواد الرديئة عنهما، وما ابتُلى رجلان بعاهةٍ أو داءٍ أو مِحنةٍ أو بَليةٍ إلا كان حظُّ المُصَلِّى منهما أقلَّ، وعاقبتُه أسلم.
وللصلاة تأثيرٌ عجيب فى دفع شُرور الدنيا، ولا سِيَّما إذا أُعطيت حقها من التكميل ظاهراً وباطناً، فما استُدْفِعَتْ شرورُ الدُّنيا والآخرة، ولا استُجْلِبَت مصالِحُهُمَا بمثل الصلاة، وسِرُّ ذلك أنَّ الصلاة صِلةٌ باللهِ عَزَّ وجَلَّ، وعلى قدر صِلَةِ العبد بربه عَزَّ وجَلَّ تُفتح عليه من الخيرات أبوابَها، وتُقطعُ عنه من الشرور أسبابَها، وتُفِيضُ عليه موادَ التوفيق مِن ربه عَزَّ وجَلَّ، والعافية والصحة، والغنيمة والغِنى، والراحة والنعيم، والأفراح والمسرَّات، كلها محضرةٌ لديه، ومسارِعةٌ إليه.
صَبْرٌ: "الصبر نِصفُ الإيمان"، فإنَّهُ ماهِيَّة مُركَّبة من صبر وشكر، كما قال بعضُ السَّلَف: الإيمانُ نصفان: نِصفٌ صَبْرٌ، ونِصفٌ شكرٌ، قال تعالى: {إنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}[إبراهيم: 5].

والصَّبْرُ من الإيمان بمنزلة الرأسِ مِنَ الجَسَدِ، وهو ثلاثةُ أنواع: صَبْرٌ على فرائض الله، فلا يُضَيِّعُها، وصبرٌ عن مَحارمه، فَلا يرتكِبُها، وصبرٌ على أقضيته وأقداره، فلا يتسخَّطُها، ومَن استكمَلَ هذهِ المراتبَ الثلاث، استكمَل الصبرَ. ولذةُ الدنيا والآخرة ونعيمها، والفوزُ والظفرُ فيهما، لا يَصِل إليه أحدٌ إلا على جِسْر الصبر، كما لا يَصِلُ أحد إلى الجنَّةِ إلا على الصِّراطِ، قال عمرُ ابن الخطاب رضى الله عنه: خيرُ عيشٍ أدركناه بالصَّبْرِ.
وإذا تأملتَ مراتِبَ الكمال المكتسَب فى العالَم، رأيتَها كلها مَنُوطةً بالصَّبْرِ، وإذا تأملتَ النُّقصان الذى يُذَمُّ صاحبُه عليه، ويدخُل تحتَ قُدرته، رأيتَه كله مِن عدمِ الصبر، فالشجاعةُ والعِفَّةُ، والجودُ والإيثارُ، كلُّه صبرُ ساعة.
فالصَّبْرُ طِلَّسْمٌ عَلَى كَنْزِ الْعُلَى مَنْ حَلَّ ذَا الطِّلَّسْمَ فَازَ بِكَنْزِهِ
وأكثرُ أسقام البدن والقلب، إنما تنشأ من عدم الصبر، فما حُفِظَتْ صِحَةُ القلوب والأبدان والأرواح بمثل الصَّبْر، فهو الفاروق الأكبر، والتِّرياق الأعظم، ولو لم يكن فيه إلا معيةُ اللهِ مع أهله، فإنَّ الله مع الصابرين ومحبتُه لهم، فإنَّ الله يُحب الصابرين، ونصرُهُ لأهله، فإنَّ النصرَ مع الصَّبْر، وإنه خير لأهله، {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ}[النحل: 126]، وإنه سببُ الفلاح: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران: 200]
صَبِرٌ: روى أبو داود فى كِتاب "المَرَاسيل" من حديث قيس ابن

رافع القَيْسىِّ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ماذا فى الأَمَرَّيْن من الشِّفَاءِ ؟ الصَّبِرُ والثُّفَّاءُ".
وفى "السنن" لأبى داود: من حديث أُمِّ سَلَمَة، قالت: دخلَ علىَّ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حين تُوفِّىَ أبو سلمةَ، وقد جعلتُ علىَّ صَبِرَاً، فقال: "ماذا يا أُمَّ سلمةَ" ؟ فقلت: إنما هو صَبِرٌ يا رسولَ اللهِ، ليس فيه طيِبٌ، قال: "إنَّهُ يَشُبُّ الوَجْهَ، فَلا تجعليه إلا بالليل" ونَهى عنه بالنهار.
الصَّبِرُ كثيرُ المنافع، لا سِيَّما الهندىَّ منه، يُنقِّى الفُضول الصفراوية التى فى الدماغ وأعصابِ البصر، وإذا طُلِىَ على الجبهة والصُّدغ بدُهن الورد، نفع من الصُّدَاع، وينفع من قُروح الأنف والفمِ، ويُسهل السَّوداء والمالِيخُولْيا.
والصَّبِرُ الفارسى يُذكى العقل، ويُمِدُّ الفؤاد، ويُنقِّى الفُضُول الصفراويةَ والبلغميَّةَ مِن المَعِدَة إذا شُرِبَ منه مِلْعقتان بماء، ويردُّ الشهوةَ الباطلة والفاسدة، وإذا شُرِب فى البرد، خِيف أن يُسهل دماً
صَوْمٌ: الصوم جُنَّةٌ من أدواء الروح والقلب والبدن، منافِعُه تفوت الإحصاء، وله تأثيرٌ عجيب فى حفظ الصحة، وإذابةِ الفضلاتِ، وحبْسِ النفسِ عن تناول مؤذياتها، ولا سِيَّما إذا كان باعتدالٍ وقصدٍ فى أفضلِ أوقاته شرعاً، وحاجَةُ البدنِ إليه طبعاً.
ثم إنَّ فيه من إراحة القُوَى والأعضاء ما يحفظُ عليها قُواها، وفيه خاصيةٌ تقتضى إيثارَه، وهى تفريحُه للقلب عاجلاً وآجلاً، وهو أنفعُ

شىءٍ لأصحاب الأمزجة البارِدةِ والرطبة، وله تأثيرٌ عظيم فى حفظ صحتهم.
وهو يدخلُ فى الأدوية الروحانية والطبيعية، وإذا راعى الصائمُ فيه ما ينبغى مراعاتُه طبعاً وشرعاً، عظُمَ انتفاعُ قلبه وبدنه به، وحبس عنه الموادَّ الغريبةَ الفاسدةَ التى هو مستعدٌ لها، وأزال الموادَّ الرديئة الحاصلة بحسب كماله ونقصانه، ويحفظ الصائمَ مما ينبغى أن يُتحفَّظَ منه، ويُعينه على قيامه بمقصود الصوم وسرّه وعلته الغائية، فإن القصدَ منه أمر آخر وراءَ تركِ الطعام والشراب، وباعتبار ذلك الأمر اختُصَّ من بين الأعمال بأنه لله سبحانه، ولمَّا كان وقايةً وجُنَّةً بين العبد وبين ما يؤذى قلبه وبدنه عاجلاً وآجلاً، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 188]. فأحدُ مقصودَى الصيام الجُنَّةُ والوِقاية، وهى حِمية عظيمةُ النفع، والمقصودُ الآخر: اجتماعُ القلب والهم على الله تعالى، وتوفيرُ قُوَى النفس على محابِّه وطاعته، وقد تقدَّم الكلامُ فى بعض أسرار الصوم عند ذكر هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه.
حرف الضاد
ضَبٌ: ثبت فى "الصحيحين" من حديث ابن عباس، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئل عنه لمَّا قُدِّم إليه، وامتنعَ من أكله: أحرامٌ هو ؟ فقال: "لا، ولكنْ لم يكن بأرضِ قَوْمِى، فأجِدُنِى أَعَافُهُ، وأُكِلَ بين يديه وعلى مائدته وهو يَنْظُرُ "

وفى "الصحيحين" من حديث ابن عمر رضى الله عنهما، عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"لا أُحِلُّه ولا أُحَرِّمُه".
وهو حارٌ يابس، يُقوِّى شهوة الجِماع، وإذا دُقَّ، ووُضِعَ على موضع الشَّوْكة اجتذَبها.
ضِفْدِعٌ: قال الإمام أحمدُ: الضِّفدَعُ لا يَحِل فى الدواء، نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتلها، يريدُ الحديثَ الذى رواهُ فى "مسنده" من حديث عثمان بن عبد الرحمن رضى الله عنه"أنَّ طبيباً ذكر ضِفدعاً فى دواء عندَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنهاه عن قتلها".
قال صاحب القانون: مَن أكل مِن دم الضِّفْدَع أو جُرمه، ورِم بدنُه، وكَمَدَ لونُه، وقذف المَنِىَّ حتى يموت، ولذلك ترك الأطباءُ استعماله خوفاً من ضرره.
وهى نوعان: مائيَّة وتُرابيَّة، والترابية يقتل أكلُها.
حرف الطاء
طِيبٌ: ثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "حُبِّبَ إلىَّ من دُنياكُم: النِّساءُ والطِّيبُ، وجُعلتْ قُرَّةُ عَيْنى فى الصَّلاة".
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكثِرُ التطيُّبَ، وتشتدُّ عليه الرائحةُ الكريهة، وتَشُقُّ عليه.
والطِّيبُ غِذَاءُ الروح التى هى مطيةُ القُوَى، والقُوَى تتضاعف وتزيدُ بالطِّيبِ، كما تزيدُ بالغذاء والشراب، والدَّعَةِ والسرورِ، ومعاشرةِ الأحبةِ،

وحدوثِ الأُمور المحبوبة، وغَيبةِ مَن تَسُرُّ غَيبتُه، ويَثقُلُ على الروح مشاهدتُه، كالثُّقلاء والبُغَضاء، فإنَّ مُعاشرتهم تُوهِنُ القُوَى، وتَجلب الهم والغم، وهى للروح بمنزلة الحُمَّى للبدن، وبمنزلة الرائحة الكريهة، ولهذا كان مما حبَّبَ الله سبحانَه الصحابةَ بنهيُهم عن التخلُّق بهذا الخُلُق فى معاشرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتأذِّيه بذلك، فقال: {إذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ * إنَّ ذلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحْيي مِنْكُمْ، وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيي مِنَ الْحَقِّ}[الأحزاب: 52-53]
والمقصود أنَّ الطِّيب كان من أحبِّ الأشياء إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وله تأثيرٌ فى حفظ الصحة، ودفع كثير من الآلام وأسبابها، بسبب قوة الطبيعة به.
طِينٌ: ورد فى أحاديث موضوعة لا يَصِحُّ منها شىء مثل حديث: "مَنْ أكل الطِّينَ، فقد أعانَ على قتلِ نفسِه" ، ومثلُ حديث: "يا حُمَيْراء؛ لا تأكلى الطِّينَ فإنه يَعصِمُ البَطْنَ، ويُصَفِّرُ اللَّونَ، ويُذهِبُ بَهاءَ الوَجْهِ".
وكلُّ حديث فى الطين فإنه لا يصح، ولا أصلَ له عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا أنه ردىءٌ مؤذٍ، يسُدّ مجارى العروق، وهو بارد يابس، قوىُّ التجفيف، ويمنع استطلاقَ البطن، ويُوجب نفْثَ الدَّم وقروحَ الفم.
طَلْحٌ: قال تعالى: {وَطَلْحٍ مَّنضْوُدٍ}[الواقعة: 29]، قال أكثر المفسِّرين: هو المَوْز. و"المنضودُ": هو الذى قد نُضِّدَ بعضُه على بعض، كالمُشْط. وقيل:
"الطلحُ": الشجرُ ذو الشَّوْك، نُضِّدَ مكانَ كل شَوْكة ثمرة، فثمرُه قد نُضِّدَ بعضُه إلى بعض، فهو مثل الموز، وهذا القولُ أصح، ويكون مَن ذكر الموزَ من السَّلَف أراد التمثيل لا التخصيصَ.. والله أعلم.

وهو حارٌ رطب، أجودُه النضيج الحلو، ينفع مِن خشونة الصدر والرئة والسُّعال، وقروح الكُلْيتَيْن، والمثانة، ويُدِرُّ البَوْل، ويزيد فى المَنِىِّ، ويُحَرِّكُ الشهوة للجِماع، ويُليِّن البطن، ويُؤكل قبل الطعام، ويَضر المَعِدَة، ويزيد فى الصفراء والبلغم، ودفعُ ضرره بالسكر أو العسل طَلْعٌ: قال تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}[ق: 10]، وقال تعالى: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}[الشعراء: 148]
طلعُ النخل: ما يبدو من ثمرته فى أول ظهوره، وقشرُه يسمى الكُفُرَّى، و"النضيدُ": المَنْضود الذى قد نُضِّدَ بعضُه على بعض، وإنما يُقال له
"نضيدٌ" ما دام فى كُفُرَّاه، فإذا انفتح فليس بنضيد.
وأما "الهضيم": فهو المنضم بعضُه إلى بعض، فهو كالنضيد أيضاً، وذلك يكون قبل تَشَقُّقِ الكُفُرَّى عنه.
والطلع نوعان: ذكرٌ وأُنثى، والتلقيح هو أن يُؤخَذ من الذكر وهو مثلُ دقيق الحِنطة فيُجعل فى الأُنثى، وهو "التأْبِير"، فيكون ذلك بمنزلة اللقاح بين الذكر والأُنثى.
وقد روى مسلم فى "صحيحه": عن طلحةَ بن عُبيد الله رضى الله عنه، قال: "مررتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى نخلٍ، فرأى قوماً يُلَقِّحُونَ، فقال: "ما يصنعُ هؤلاء" ؟ قالوا: يأخُذون من الذكر فيجعلونه فى الأُنثى. قال:
"ما أَظُنُّ ذلك يُغنى شيئاً"، فبلغهم، فتركوه، فلم يَصْلُحْ، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إنما هُوَ ظََنٌ، فإن كان يُغنى شيئاً، فاصنَعوهُ، فإنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وإنَّ الظَنَّ يُخطِئٌ ويُصيبُ، ولكنْ ما قلتُ لكم عنِ الله عَزَّ وجَلَّ، فلن أكذِبَ على اللهِ" .. انتهى.

طلعُ النخل ينفع من الباه، ويَزيد فى المُباضَعة. ودقيقُ طلعه إذا تحمَّلتْ به المرأةُ قبل الجِماع أعان على الحَبَل إعانةً بالغة، وهو فى البرودة واليُبوسة فى الدرجة الثانية، يُقَوِّى المَعِدَة ويُجفِّفها، ويُسَكِّن ثائرة الدم مع غلظةٍ وبطءِ هضم.
ولا يحتمِلُه إلا أصحابُ الأمزجة الحارَّة، ومَن أكثرَ منه فإنه ينبغى أن يأخذ عليه شيئاً من الجُوَراشات الحارَّة، وهو يَعقِلُ الطبع، ويُقوِّى الأحشاء، والجُمَّارُ يجرى مجراه، وكذلك البلحُ، والبُسْرُ، والإكثارُ منه يضرُّ بالمَعِدَة والصدر، وربما أورث القُولَنْج، وإصلاحُه بالسمن، أو بما تقدَّم ذكرُه.
حرف العين
عِنَبٌ: فى "الغَيْلانيَّات" من حديث حَبيب بن يَسَار، عن ابن عباس

رضى الله عنه قال: رأيتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكلُ العِنبَ خَرْطاً.
قال أبو جعفر العقيلىُّ: لا أصلَ لهذا الحديث، قلتُ: وفيه داودُ بن عبد الجبار أبو سُلَيم الكوفىُّ، قال يحيى بن مَعين: كان يكذب.
ويُذكر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يُحبُّ العنبَ والبِطيخَ.
وقد ذكر الله سبحانه العِنَبَ فى ستة مواضع مِن كتابه فى جملة نعمه التى أنعم بها على عباده فى هذه الدار وفى الجَنَّة، وهو من أفضلِ الفواكه وأكثرِها منافعَ، وهو يُؤكل رطباً ويابساً، وأخضرَ ويانعاً، وهو فاكهةٌ مع الفواكه، وقوتٌ مع الأقواتِ، وأُدمٌ مع الإدام، ودواءٌ مع الأدوية، وشرابٌ مع الأشربة، وطبعُه طبعُ الحَبَّات: الحرارة والرطوبةُ، وجيدُه الكُبَّارُ المائىُّ، والأبيضُ أحمدُ من الأسود إذا تساويا فى الحلاوة، والمتروكُ بعد قطفه يومين أو ثلاثة أحمدُ من المقطوف فى يومه، فإنه مُنفِخ مُطلِق للبطن، والمعلَّقُ حتى يَضمُرَ قشره جيدٌ للغذاء، مقوٍّ للبدن، وغِذاؤه كغذاء التِّين والزَّبيب، وإذا أُلقَى عَجَمُ العِنَب كان أكثر تلييناً للطبيعة، والإكثارُ منه مصدع للرأس، ودفع مضرته بالرُّمَّان المُزِّ.
ومنفعةُ العِنَب يُسَهِّل الطبع، ويُسَمِّن، ويَغذو جيدُه غِذاءً حسناً، وهو أحدُ الفواكه الثلاث التى هى ملوك الفواكه، هو والرُّطَب والتين.
عَسَلٌ: قد تقدَّم ذكر منافعه.
قال ابن جُرَيْج: قال الزُّهرىُّ: عليك بالعسل، فإنه جيد للحفظ.
وأجودُه أصفاه وأبيضُه، وألينُه حِدّةً، وأصدقه حلاوةً، وما يُؤخذ من الجبال والشجر له فضلٌ على ما يُؤخذ من

الخلايا، وهو بحسب مرعَى نَحْلِه
عَجْوَةٌ: فى "الصحيحين": من حديث سعد بن أبى وقَّاص رضى الله عنه، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " مَن تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَراتٍ عَجْوَةٍ، لَمْ يَضُرَّهُ ذلك اليومَ سُمٌ ولا سِحْرٌ".
وفى "سنن النسائى" وابن ماجه: من حديث جابر، وأبى سعيد رضى الله عنهما، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "العَجْوَةُ مِنَ الجَنَّةِ، وهى شِفاءٌ مِنَ السُّمِّ، والكَمْأةُ مِنَ المَنِّ، وماؤها شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ ".
وقد قيل: إنَّ هذا فى عجوة المدينة، وهى أحدُ أصناف التمر بها، ومن أنفع تمر الحجاز على الإطلاق، وهو صِنف كريم، ملذذ، متين للجسم والقوة، مِن ألين التمر وأطيبه وألذه.
وقد تقدَّم ذكرُ التمر وطبعه ومنافعه فى حرف التاء، والكلامُ على دفع العَجْوَة للسُّمِّ والسِّحْر، فلا حاجة لإعادته.
عَنبَرٌ: تقدَّم فى "الصحيحين" من حديث جابر، فى قصة أبى عُبيدةَ، وأكلِهم من العنبر شهراً، وأنهم تزوَّدُّوا من لحمه وشَائِقَ إلى المدينة، وأرسلوا منه إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أحدُ ما يدل على أنَّ إباحة ما فى البحر لا يَختصُّ بالسمك، وعلى أن ميتته حلال.
واعتُرِضَ على ذلك بأنَّ البحر ألقاه حياً، ثم جَزَرَ عنه الماء، فمات، وهذا حلال، فإنَّ موتَه بسبب

مفارقته للماء، وهذا لا يَصِحُّ، فإنهم إنما وجدوه ميتاً بالساحل، ولم يُشاهدوه قد خرج عنه حيَّاً، ثم جَزَرَ عنه الماء.
وأيضاً: فلو كان حياً لما ألقاه البحر إلى ساحله، فإنه من المعلوم أنَّ البحرَ إنما يقذِفُ إلى ساحله الميتَ من حيواناته لا الحىَّ منها.
وأيضاً: فلو قُدِّرَ احتمالُ ما ذكروه لم يجز أن يكون شرطاً فى الإباحة، فإنه لا يُباح الشىء مع الشك فى سبب إباحته، ولهذا مَنَعَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أكل الصيد إذا وجده الصائِدُ غريقاً فى الماء للشك فى سبب موته، هل هو الآلة
أم الماء ؟
وأما العنبرُ الذى هو أحدُ أنواع الطِّيب، فهو مِن أفخر أنواعه بعد المسك، وأخطأ مَن قدَّمه على المسك، وجعله سيدَ أنواع الطِّيب، وقد ثبت عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال فى المِسْك: "هُوَ أطْيَبُ الطِّيب"، وسيأتى إن شاء الله تعالى ذكرُ الخصائص والمنافع التى خُصَّ بها المسكُ، حتى إنه طِيبُ الجَنَّة، والكُثبانُ التى هى مقاعدُ الصِّدِّيقين هناك مِن مِسْكٍ لا من عَنبرٍ.
والذى غَرَّ هذا القائل أنه لا يدخله التغير على طول الزمان، فهو كالذهب، وهذا لا يَدُلُّ على أنه أفضل من المسك، فإنه بهذه الخاصية الواحدة لا يُقاوِم ما فى المسك من الخواص.
وبعد.. فضروبُه كثيرة، وألوانه مختلفة، فمنه الأبيضُ، والأشهبُ، والأحمرُ، والأصفرُ، والأخضرُ، والأزرقُ، والأسودُ، وذو الألوان.
وأجودُه: الأشهب، ثم الأزرق، ثم الأصفر. وأردؤه: الأسود.
وقد اختلف الناسُ فى عُنصره، فقالت طائفة: هو نبات يَنبُت فى قعر البحر،

فيبتلِعُه بعض دوابه، فإذا ثَمِلَتْ منه قَذَفتْه رَجِيعاً، فيقذِفُه البحر إلى ساحله.
وقيل: طَلٌ ينزل من السماء فى جزائر البحر، فتُلقيه الأمواج إلى الساحل.
وقيل: رَوْثُ دابة بحرية تُشبه البقرة.
وقيل: بل هو جُفَاء من جُفَاء البحر، أى: زَبَدٌ.
وقال صاحب "القانون": هو فيما يُظَن ينبع مِن عَيْن فى البحر، والذى يُقال: إنه زَبَد البحر، أو روثُ دابة بعيدٌ.. انتهى.
ومزاجه حار يابس، مقوٍّ للقلب، والدماغ، والحواس، وأعضاء البدن، نافع من الفالج واللَّقْوة، والأمراض البلغمية، وأوجاع المَعِدَة الباردة، والرياح الغليظة، ومن السُّدد إذا شُرب، أو طُلِىَ به من خارج، وإذا تُبُخِّر به، نفع من الزُّكام، والصُّداع، والشَّقِيقة الباردة.
عُودٌ: العود الهندى نوعان؛ أحدهما: يُستعمل فى الأدوية وهو الكُسْت، ويقال له: القُسْط، وسيأتى فى حرف القاف.
الثانى: يُستعمل فى الطِّيب، ويقال له: الأَلُوَّة
وقد روى مسلم فى "صحيحه": عن ابن عمر رضى الله عنهما، "أنه كان يَسْتَجْمِرُ بالأَلُوَّة غير مُطرَّاة، وبكافُور يُطْرَحُ معها"، ويقول: هكذا كان يستجمرُ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وثبت عنه فى صفة نعيم أهل الجَنَّة: "مجامِرُهُمُ الألُوَّةُ".
و"المجامر": جمع مِجْمَرٍ؛

وهو ما يُتجمَّر به مِن عود وغيره، وهو أنواع: أجودُها: الهندى، ثم الصِّينى، ثم القَمارى، ثم المنْدَلى.
وأجوده: الأسود والأزرق الصُّلب الرزينُ الدسم، وأقلَّه جودة: ما خفَّ وطفا على الماء.
ويقال: إنه شجر يُقطع ويُدفن فى الأرض سنة، فتأكل الأرض منه ما لا ينفع، ويبقى عودُ الطِّيب، لا تعمل فيه الأرض شيئاً، ويتعفَّن منه قِشرُه وما لا طِيبَ فيه.
وهو حارٌ يابس فى الثالثة، يفتح السُّدد، ويكسر الرياح، ويُذهب بفضل الرُّطوبة، ويُقوِّى الأحشاء والقلب ويُفرحه، وينفع الدماغ، ويُقوِّى الحواس، ويحبِسُ البطن، وينفع مِن سَلَس البَوْل الحادث عن برد المثانة.
قال ابن سمجون: العود ضروب كثيرة يجمعها اسم الأَلُوَّة، ويُستعمل من داخل وخارج، ويُتجمَّرُ به مفرداً ومع غيره، وفى الخلط للكافور به عند التجمير معنى طبى، وهو إصلاحُ كل منهما بالآخر، وفى التجمُّر مراعاةُ جوهر الهواء وإصلاحُه، فإنه أحدُ الأشياء الستة الضرورية التى فى صلاحها صلاحُ الأبدان.
عَدَسٌ: قد ورد فيه أحاديثُ كُلُّهَا باطلة على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يَقُلْ شيئاً منها، كحديث: "إنه قُدِّس على لسانِ سبعين نبياً"
وحديث: "إنه يرق القلب، ويُغْزِرُ الدَّمعة، وإنه مأكول الصالحين"، وأرفع شىء جاء فيه وأصحه، أنه شهوةُ اليهود التى قدَّموها على المنِّ والسلوَى، وَهُو قَرِينُ الثوم والبصل فى الذكر.
وطبعه طبعُ المؤنث، بارد يابس، وفيه قوتان متضادَّتان. إحداهما: يَعقِلُ الطبيعة. والأخرى: يُطلقها، وقشره حار يابس فى الثالثة، حِرِّيف

مُطْلِق للبطن، وترِياقُه فى قشره، ولهذا كان صِحاحهُ أنفعَ من مطحونه، وأخفَّ على المَعِدَة، وأقلَّ ضرراً، فإنَّ لُبَّه بطىءُ الهضم لبرودته ويُبوسته، وهو مولِّد للسَّوداء، ويَضُرُّ بالماليخوليا ضرراً بيِّناً، ويَضُرُّ بالأعصاب والبصر.
وهو غليظُ الدم، وينبغى أن يتجنبه أصحابُ السوداء، وإكثارهم منه يُولِّد لهم أدواء رديئة: كالوسواس، والجذام، وحُمَّى الربِّع، ويُقلل ضرره السلقُ، والإسفاناخ، وإكثار الدُّهن، وأردأ ما أُكِلَ بالنمكسود، وليُتجنب خلط الحلاوة به، فإنه يُورث سُدداً كبديَّة، وإدمانه يُظلم البصر لشدة تجفيفه، ويُعَسِّر البَوْل، ويُوجِبُ الأورام الباردة، والرياحَ الغليظة. وأجودُه: الأبيضُ السمينُ، السريع النُّضج.
وأما ما يظنُّه الجُهَّالُ أنه كان سِماطَ الخليل الذى يُقدِّمه لأضيافه، فَكَذِبٌ مفترَى، وإنما حكى الله عنه الضيافَة بالشِّوَاء، وهو العِجل الحَنِيذ.
وذكر البيهقى عن إسحاق قال: سُئل ابنُ المبارك عن الحديث الذى جاء فى العَدَس، أنه قُدِّسَ على لسان سبعين نبيّاً، فقال: ولا على لسان نبى واحد، وإنَّه لمؤذ منفخ، مَن حدثكم به ؟ قالوا: سَلم بن سالم، فقال: عمَّن ؟ قالوا: عنك. قال: وعنى أيضاً،،؟

حرف الغين
غَيْثٌ: مذكور فى القرآن فى عِدة مواضع، وهو لذيذ الاسم على السمع، والمسمَّى على الروح والبدن، تبتهجُ الأسماعُ بذكره، والقلوب بوروده، وماؤُه أفضلُ المياه، وألطفُهَا وأنفعُهَا وأعظمُهَا بركة، ولا سِيَّما إذا كان مِن سحاب راعد، واجتمع فى مستنقعات الجبال.
وهو أرطبُ من سائر المياه، لأنه لم تَطُلْ مُدَّته على الأرض، فيَكتسب من يُبوستها، ولم يُخالطه جوهر يابس، ولذلك يتغيَّر ويتعفَّن سريعاً للطافته وسرعة انفعاله.
وهل الغَيْثُ الرَّبيعى ألطفُ من الشتوى أو بالعكس ؟ فيه قولان.
قال مَن رجَّح الغَيْث الشتوى: حرارةُ الشمس تكون حينئذ أقلَّ، فلا تجتذِب من ماء البحر إلا ألْطفَه، والجوُّ صافٍ وهو خالٍ من الأبخرة الدخانيَّة، والغبار المخالط للماء، وكُلُّ هذا يوجب لطفه وصفاءه، وخُلوَّه من مخالط.
وقال مَن رجَّح الرَّبيعى: الحرارة تُوجب تحلُّلَ الأبخرة الغليظة، وتُوجب رِقة الهواء ولطافته، فيخِفُّ بذلك الماء، وتَقِلُّ أجزاؤه الأرضية، وتُصادِف وقتَ حياة النبات والأشجار وطِيب الهواء
وذكر الشافعى رحمه الله عن أنس بن مالك رضى الله عنهما، قال: كُنَّا مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأصابنا مطرٌ، فَحَسَر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثوبَه، وقال: "إنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّه" ، وقد تقدَّم فى هَدْيه فى الاستسقاء ذكر استمطاره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتبركه بماء الغَيْث عند أوَّلَ مجيئه.

حرف الفاء
فَاتِحَةُ الْكِتاب: وأُمُّ القرآن، والسبعُ المثانى، والشفاءُ التام، والدواءُ النافع، والرُّقيةُ التامة، ومفتاح الغِنَى والفلاح، وحافظةُ القوة، ودافعةُ الهم والغم والخوف والحزن لمن عرف مقدارَها وأعطاها حقَّها، وأحسنَ تنزيلها على دائه، وعَرَفَ وجهَ الاستشفاء والتداوى بها، والسرَّ الذى لأجله كانت كذلك.
ولما وقع بعضُ الصحابة على ذلك، رقى بها اللَّديغ، فبرأ لوقته. فقال له النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "وما أدراك أنَّها رُقْيَة".
ومَن ساعده التوفيق، وأُعين بنور البصيرة حتى وقف على أسرارِ هذه السورة، وما اشتملت عليه مِنَ التوحيد، ومعرفةِ الذات والأسماء والصفات والأفعال، وإثباتِ الشرع والقَدَر والمعاد، وتجريدِ توحيد الربوبية والإلهية، وكمال التوكل والتفويض إلى مَن له الأمر كُلُّه، وله الحمدُ كُلُّه، وبيده الخيرُ كُلُّه، وإليه يرجع الأمرُ كُلُّه، والافتقار إليه فى طلب الهداية التى هى أصلُ سعادة الدارين، وعَلِمَ ارتباطَ معانيها بجلب مصالحهما، ودفع مفاسدهما، وأنَّ العاقبةَ المطلقة التامة، والنعمةَ الكاملة مَنوطةٌ بها، موقوفةٌ على التحقق بها، أغنته عن كثير من الأدوية والرُّقى، واستفتح بها من الخير أبوابه، ودفع بها من الشر أسبابَه.
وهذا أمرٌ يحتاجُ استحداثَ فِطرةٍ أُخرى، وعقلٍ آخر، وإيمانٍ آخر، وتاللهِ لا تجدُ مقالةٌ فاسدة، ولا بدعةٌ باطلة إلا وفاتحةُ الكتابِ متضمِّنة لردها وإبطالها بأقرب الطُرُق، وأصحِّها وأوضحِها، ولا تجدُ

باباً من أبواب المعارف الإلهية، وأعمالِ القلوب وأدويتها مِن عللها وأسقامها إلا وفى فاتحة الكتاب مفتاحُه، وموضعُ الدلالة عليه، ولا منزلاً من منازل السائرين إلى ربِّ العالمين إلا وبدايتُه ونهايتُه فيها.
ولعَمْرُ الله إنَّ شأنها لأعظمُ من ذلك، وهى فوقَ ذلك. وما تحقَّق عبدٌ بها، واعتصم بها، وعقل عمن تكلَّم بها، وأنزلها شفاءً تاماً، وعِصمةً بالغةً، ونوراً مبيناً، وفهمها وفهم لوازمَها كما ينبغى ووقع فى بدعةٍ ولا شِركٍ، ولا أصابه مرضٌ من أمراض القلوب إلا لِماماً، غيرَ مستقر.
هذا.. وإنها المفتاح الأعظم لكنوز الأرض، كما أنها المفتاحُ لكنوز الجَنَّة، ولكن ليس كل واحد يُحسن الفتح بهذا المفتاح، ولو أنَّ طُلابَ الكنوز وقفوا على سر هذه السورة، وتحقَّقُوا بمعانيها، وركَّبوا لهذا المفتاح أسناناً، وأحسنُوا الفتح به، لوصلوا إلى تناول الكُنوزِ من غير معاوِق، ولا ممانع.
ولم نقل هذا مجازفةً ولا استعارةً؛، بل حقيقةً، ولكنْ لله تعالى حكمةٌ بالغة فى إخفاء هذا السر عن نفوس أكثر العالَمين، كما لَه حكمة بالغة فى إخفاء كنوز الأرض عنهم. والكنوزُ المحجوبة قد استُخدمَ عليها أرواحٌ خبيثة شيطانية تحولُ بين الإنس وبينها، ولا تقهرُها إلاَّ أرواحٌ عُلْوية شريفة غالبة لها بحالها الإيمانى، معها منه أسلحةٌ لا تقومُ لها الشياطين، وأكثرُ نفوس الناس ليست بهذه المَثابة، فلا يُقاوِمُ تلك الأرواح ولا يَقْهَرُها، ولا ينال من سلبِها شيئاً، فإنَّ مَن قتل قتيلاً فله سلبه
فَاغِيَةٌ: هى نَوْرُ الحِنَّاء، وهى من أطيب الرياحين، وقد روى البيهقى فى كتابه "شُعَب الإيمان" من حديث عبد الله بن بُريدَة، عن أبيه رضى الله

عنه يرفعه: "سيدُ الرَّياحين فى الدنيا والآخرة الفاغِيَةُ"، وروى فيه أيضاً، عن أنس بن مالك رضى الله عنه، قال: "كان أحَبَّ الرَّياحين إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفاغِيَةُ". والله أعلم بحال هذين الحديثين، فلا نشهد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما لا نعلم صِحته.
وهى معتدلةٌ فى الحر واليُبْس، فيها بعضُ القبض، وإذا وُضِعَتْ بين طىِّ ثياب الصوف حفظتْها من السوس، وتدخل فى مراهم الفالج والتمدد، ودُهنها يُحلِّل الأعضاء، ويُلَيِّن العصب.
فِضَّةٌ: ثبت أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان خاتِمُه من فِضَّة، وفَصُّه منه، وكانت قَبِيعةُ سيفِه فِضَّة، ولم يصح عنه فى المنع من لباس الفِضَّة والتحلِّى بها شىءٌ البتة، كما صَحَّ عنه المنع من الشُّرب فى آنيتها، وبابُ الآنية أضيقُ من باب اللباس والتحلى، ولهذا يُباح للنساء لباساً وحليةً ما يحرُم عليهن استعمالُه آنيةً، فلا يلزم من تحريم الآنية تحريمُ اللباس والحلية.
وفى "السنن" عنه: "وأما الفِضَّةُ فالعبوا بها لَعْباً". فالمنع يحتاجُ إلى دليل يُبينه، إما نصٌ أو إجماع، فإن ثبت أحدُهما، وإلا ففى القلب

من تحريم ذلك على الرجال شىء، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمسك بيده ذهباً، وبالأخرى حريراً، وقال: "هذان حرامٌ على ذُكُور أُمَّتى، حِلٌ لإناثهم".
والفِضَّة سِرٌ من أسرار الله فى الأرض وطلسم الحاجات، وإحسانُ أهل الدنيا بينهم، وصاحبُها مرموقٌ بالعيون بينهم، معظَّمٌ فى النفوس، مُصدَّرٌ فى المجالس، لا تُغلق دونه الأبواب، ولا تُمَلُّ مجالستُه، ولا معاشرتُه، ولا يُستثقل مكانه، تُشير الأصابعُ إليه، وتعقِد العيون نِطاقها عليه، إن قال سُمِعَ قوله، وإن شَفَعَ قُبِلَتْ شفاعتُه، وإن شهد زُكِّيتْ شهادتُه، وإن خَطَبَ فكُفء لا يُعاب، وإن كان ذا شيبة بيضاء فهى أجمل عليه من حِلية الشباب.
وهى من الأدوية المفرحة النافعةِ من الهمِّ والغمِّ والحزن، وضعف القلب وخفقانه، وتدخُلُ فى المعاجين الكُبَّار، وتجتذب بخاصيتها ما يتولَّد فى القلب من الأخلاط الفاسدة، خصوصاً إذا أُضيفت إلى العسل المصفَّى، والزعفران.
ومزاجُها إلى اليبُوسة والبُرودة، ويتولَّد عنها مِن الحرارة والرُّطوبة ما يتولَّد، والجِنَانُ التى أعدَّها الله عَزَّ وجَلَّ لأوليائه يومَ يلقونه أربعٌ: جنَّتانِ من ذهب، وجنَّتان مِن فِضَّة، آنيتهُما وحليتهما وما فيهما.
وقد ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فى "الصحيح" من حديث أُم سلمة أنه قال: " الذى يشربُ فى آنيةِ الذَّهَب والفِضَّة إنما يُجَرْجِرُ فى بَطْنِهِ نارَ جَهَنَّمَ".

وصحَّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا تشربوا فى آنيةِ الذَّهبِ والفِضَّةِ، ولا تأكُلُوا فى صِحَافِهما، فإنها لَهُم فى الدُّنْيا ولكم فى الآخِرَةِ".
فقيل: عِلَّةُ التحريم تضييقُ النقود، فإنها إذا اتُّخِذَتْ أوانىَ فاتت الحِكمةُ التى وُضعت لأجلها من قيام مصالح بنى آدم، وقيل: العِلَّةُ الفخر والخُيلاَء. وقيل: العِلَّةُ كسرُ قلوب الفقراء والمساكين إذا رأوها وعاينوها.
وهذه العللُ فيها ما فيها، فإنَّ التعليل بتضييق النقود يمنع من التحلى بها وجعلِها سبائكَ ونحوَها مما ليس بآنيةٍ ولا نقْدٍ، والفخرُ والخيلاءُ حرام بأى شىء كان، وكسر قلوب المساكين لا ضابطَ له، فإنَّ قُلوبَهم تنكسر بالدُّور الواسعة، والحدائق المعجبة، والمراكبِ الفارهة، والملابس الفاخرة، والأطعمة اللذيذة، وغير ذلك من المباحات، وكُلُّ هذه عللٌ منتقَضة، إذ تُوجد العِلَّةُ، ويَتَخلَّف معلولُها.
فالصواب أنَّ العِلَّة والله أعلم ما يُكْسِب استعمالُها القلبَ من الهيئة، والحالة المنافية للعبودية منافاةً ظاهرة، ولهذا عَلَّل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنها للكفار فى الدُّنْيا، إذ ليس لهم نصيب مِن العبودية التى ينالون بها فى الآخرة نعيمها، فلا يصلُح استعمالُها لعبيد الله فى الدنيا، وإنما يستعمِلُها مَنْ خرج عن عبوديته، ورَضِىَ بالدنيا وعاجِلهَا من الآخرة.

حرف القاف
قُرْآنٌ: قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82 ]
والصحيح: أنَّ "من" هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِى الصُّدُورِ}[يونس: 57].
فالقرآنُ هو الشِّفاء التام مِن جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواءِ الدنيا والآخرة، وما كُلُّ أحدٍ يُؤهَّل ولا يُوفَّق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوىَ به، ووضعَه على دائه بصدقٍ وإيمان، وقبولٍ تام، واعتقادٍ جازم، واستيفاءِ شروطه، لم يُقاوِمْهُ الداءُ أبداً.
وكيف تُقاوِمُ الأدواءُ كلامَ ربِّ الأرض والسماءِ الذى لو نزل على الجبال، لصَدَعَهَا، أو على الأرض، لقطعها، فما مِن مرضٍ من أمراض القُلُوبِ والأبدان إلا وفى القُرآن سبيلُ الدلالة على دوائه وسببه، والحِمية منه لمن رزقه الله فهماً فى كتابه.
وقد تقدَّم فى أول الكلام على الطب بيانُ إرشاد القرآن العظيم إلى أُصوله ومجامعه التى هى حفظُ الصحة والحِميةُ، واستفراغُ المؤذى، والاستدلالُ بذلك على سائر أفراد هذه الأنواع.
وأما الأدوية القلبية، فإنه يذكرها مُفصَّلةً، ويذكر أسبابَ أدوائها وعلاجها. قال: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}[العنكبوت: 51] ، فمَن لم يَشْفِه القرآنُ، فلا شفاه الله، ومَن لم يَكفِه، فلا كفاه الله.
قِثَّاءٌ: فى "السنن": من حديث عبد الله بن جعفر رضى الله عنه

"أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأكلُ القِثَّاءَ بالرُّطب". ورواه الترمذىُّ وغيره.
القِثَّاء بارد رطب فى الدرجة الثانية، مطفىءٌ لحرارة المَعِدَة الملتهبة، بطىء الفساد فيها، نافعٌ من وجع المثانة، ورائحتُه تنفع من الغَشْى، وبِزرُه يُدِرُّ البَوْل، وورقهُ إذا اتُّخِذ ضِماداً، نفع من عضة الكلب.
وهو بطىءُ الانحدار عن المَعِدة، وبرده مُضِرٌ ببعضها، فينبغى أن يُستعملَ معه ما يُصلحه ويكسر برودته ورطوبته، كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ أكله بالرُّطب، فإذا أُكل بتمر أو زبيب أو عسل عدَّله.
قُسْطٌ وكُسْت:
بمعنى واحد. وفى "الصحيحين": من حديث أنس رضى الله عنه، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خيرُ ما تداوَيْتُم به الحِجامةُ والقُسْطُ البَحْرِىُّ".
وفى "المسند": من حديث أُمِّ قيس، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عليكم بهذا العُود الهندىِّ، فإنَّ فيه سَبْعَةَ أشْفِيةٍ منها ذاتُ الجَنْبِ".
القُسْط: نوعان. أحدهما: الأبيضُ الذى يُقَال له: البحرىُّ. والآخر: الهندىُّ، وهو أشدُّهما حراً، والأبيضُ ألينهُما، ومنافعُهما كثيرة جداً.

وهما حاران يابسان فى الثالثة، يُنشِّفان البلغم، قاطعانِ للزُّكام، وإذا شُرِبَا، نفعا من ضعف الكَبِدِ والمَعِدَة ومن بردهما، ومِن حُمَّى الدَّوْرِ والرِّبع، وقطعا وجعَ الجنب، ونفعا مِن السُّمُوم، وإذا طُلِىَ به الوجهُ معجوناً بالماء والعسل، قَلَعَ الكَلَف.
وقال "جالينوسُ": ينفع من الكُزَاز، ووجع الجَنْبين، ويقتل حَبَّ القَرَع.
وقد خفىَ على جُهَّال الأطباء نفعُه من وجِعَ ذاتِ الجَنْب، فأنكروه، ولو ظَفِر هذا الجاهلُ بهذا النقل عن "جالينوس" لنزَّله منزلةَ النص، كيف وقد نصَّ كثيرٌ من الأطباء المتقدمين على أنَّ القُسْطَ يصلحُ للنوع البلغمىِّ من ذات الجنب، ذكره الخطَّابىُّ عن محمد بن الجَهْم.
وقد تقدَّم أنَّ طِبُّ الأطباء بالنسبة إلى طِبِّ الأنبياء أقلُّ من نسبةِ طِب الطُّرقيَّة والعجائز إلى طِبِّ الأطباء، وأنَّ بيْن ما يُلقَّى بالوحى، وبيْن ما يُلَقَّى بالتجربة، والقياسِ من الفرْق أعظمَ مما بَيْن القَدَم والفرق.
ولو أنَّ هؤلاء الجُهَّال وجدوا دواءً منصوصاً عن بعض اليهود والنصارى والمشركين من الأطباء، لتلقَّوْه بالقبول والتسليم، ولم يتوقَّفُوا على تجربته.
نعم.. نحن لا ننكِرُ أنَّ للعادة تأثيراً فى الانتفاع بالدواء وعدمه، فمَن اعتاد دواءً وغذاءً، كان أنفعَ له، وأوفقَ ممن لم يَعتدْه، بل ربما لم ينتفع به مَن لم يعتده.
وكلامُ فضلاء الأطباء وإن كان مطلَقاً فهو بحسب الأمزجة والأزمنة، والأماكن والعوائد، وإذا كان التقييدُ بذلك لا يقدح فى كلامهم ومعارفهم، فكيف يقدح فى كلام الصادق المصدوق، ولكن نفوس البَشَر مركبةٌ على الجهل والظلم، إلا مَن أيَّده الله بروح الإيمان، ونَوَّرَ بَصيرته بنور الهُدَى.

قَصَبُ السُّكَّرِ: جاء فى بعض ألفاظ السُّنَّة الصحيحة فى الحَوض: "ماؤه أحلى من السكَّر" ولا أعرف "السكر" فى الحديث إلا فى هذا الموضع.
والسكر حادث لم يتكلم فيه متقدِّمو الأطباء، ولا كانوا يعرفونه، ولا يَصِفونه فى الأشربة، وإنما يعرفون العسل، ويُدخلونه فى الأدوية.
وقصبُ السكر حارٌ رطب ينفع من السُّعال، ويجلو الرطوبةَ والمثانة، وقصبةَ الرِّئة، وهو أشدُّ تلييناً من السكر، وفيه معونةٌ على القىء، ويُدِرُّ البَوْل، ويزيد فى الباه. قال عفان بن مسلم الصفَّار: مَنْ مَصَّ قصبَ السكر بعد طعامه، لم يزل يومَه أجمعَ فى سرور.. انتهى.
وهو ينفع من خشونة الصدر والحلق إذا شُوِىَ، ويُولِّد رياحاً دفعُها بأن يُقشَّرَ ويُغسل بماء حار.
والسكر حارٌ رطب على الأصح، وقيل: بارد. وأجودُه: الأبيض الشفاف الطَّبَرْزَد، وعَتيقُه ألطفُ من جديده، وإذا طُبِخَ ونُزِعَتْ

رغوتُه، سكَّن العطشَ والسُّعال، وهو يضر المَعِدَة التى تتولَّد فيها الصفراءُ لاستحالته إليها، ودفعُ ضرره بماء اللَّيمون أو النارَنْجِ، أو الرُّمان اللفَّان.
وبعضُ الناس يُفضِّلُه على العسل لقِلَّة حرارته ولينه، وهذا تحامل منه على العسل، فإنَّ منافع العسل أضعافُ منافع السكر، وقد جعله الله شِفاءً ودواءً، وإداماً وحلاوةً، وأين نفعُ السكر مِن منافع العسل: مِن تقويةِ المَعِدَة، وتليين الطبع، وإحدادِ البصر، وجِلاءِ ظُلمته، ودفعِ الخوانيق بالغرغرةِ به، وإبرائِهِ من الفالج واللَّقْوة، ومِن جميع العلل الباردة التى تَحدُث فى جميع البدن من الرطوبات، فيجذِبُها من قعر البدن، ومن جميع البدن، وحفظِ صحته وتسمينه وتسخينه، والزيادةِ فى الباه، والتحليلِ والجِلاءِ، وفتح أفواهِ العروق، وتنقيةِ المِعَى، وإحدارِ الدُّود، ومنعِ التخم وغيره من العفن، والأُدم النافع، وموافقةِ مَن غلب عليه البلغمُ والمشايخ وأهلِ الأمزجة الباردة.. وبالجملة: فلا شىء أنفعُ منه للبدن، وفى العلاج وعجز الأدوية، وحفظِ قواها، وتقويةِ المَعِدة إلى أضعاف هذه المنافع، فأين للسُّكَّرِ مثلُ هذه المنافع والخصائص أو قريبٌ منها ؟
حرف الكاف
كِتَابٌ لِلحُمَّى: قال المرْوَزِىُّ: بَلَغَ أبا عبد الله أنى حُممتُ، فكتب لى من الحُمَّى رقعةً فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله، وبالله، محمدٌ رسول الله، {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلاَمَاً عَلَى إبْرَاهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ}[الأنبياء: 69-70] ، اللهُمَّ ربَّ جبرائيلَ، وميكائيلَ، وإسرافيلَ، اشفِ صاحبَ هذا الكتابِ بِحَوْلِك وقُوَّتِكَ وجَبَرُوتِكَ،

إله الحق آمين .
قال المروزي : وقرأ على أبي عبد الله - وأنا أسمع - أبو المنذر عمرو بن مجمع ، حدثنا يونس بن حبان ، قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي أن أعلق التعويذ ، فقال : إن كان من كتاب الله أو كلام عن نبي الله فعلقه واستشف به ما استطعت .
قلت : أكتب هذه من حمى الربع : باسم الله ، وبالله ، ومحمد رسول الله إلى آخره ؟ قال : أي نعم .
وذكر أحمد عن عائشة رضي الله عنها وغيرها ، أنهم سهلوا في ذلك .
قال حرب : ولم يشدد فيه أحمد بن حنبل ، قال أحمد : وكان ابن مسعود يكرهه كراهة شديدة جداً .
وقال أحمد وقد سئل عن التمائم تعلق بعد نزول البلاء ؟ قال : أرجو أن لا يكون به بأس .
قال الخلال : وحدثنا عبد الله بن أحمد ، قال : رأيت أبي يكتب التعويذ للذي يفزع ، وللحمى بعد وقوع البلاء .
كتاب لعسر الولادة : قال الخلال : حدثني عبد الله بن أحمد : قال رأيت أبي يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها في جام أبيض ، أو شئ نظيف ، يكتب حديث ابن عباس رضي الله عنه : لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله رب العرش العظيم ، الحمد لله رب العالمين : { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ } [ الأحقاف : 35 ] ، { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } [ النازعات : 46 ] .
قال الخلال : أنبانا أبو بكر المروزي ، أن أبا عبد الله جاءه رجل فقال : يا أبا عبد الله ! تكتب لامرأة قد عسر عليها ولدها منذ يومين ؟ فقال : قل له : يجيء بجام واسع ، وزعفران ، ورأيته يكتب لغير واحد

ويُذكر عن عِكرمةَ، عن ابن عباس، قال: مَرَّ عيسى صلَّى الله على نبيِّنا وعليه وسَلَّم على بقرة قد اعتَرَضَ ولدُها فى بطنها، فقالت: يا كلمةَ الله؛ ادعُ الله لى أن يُخَلِّصَنى مما أنا فيه. فقال: يا خالقَ النفسَ مِنَ النفسِ، ويا مخلِّصَ النفسَ مِنَ النفسِ، ويا مُخْرِجَ النفسَ مِنَ النفسِ، خَلِّصْهَا. قال: فرمتْ بولدها، فإذا هى قائمة تَشُمُّه. قال: فإذا عَسُرَ عَلى المرأة ولدُها، فاكتبْه لها. وكل ما تقدم من الرقى، فإن كتابته نافعة.
ورخص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشربه، وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه.
كتاب آخر لذلك: يكتب في إناء نظيف: { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ } [الانشقاق: 1-4]، وتشرب منه الحامل، ويرش على بطنها.
كتاب للرعاف: كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يكتب على جبهته: { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ } [هود: 44]. وسمعته يقول: كتبتها لغير واحد فبرأ، فقال: ولا يجوز كتابتها بدم الراعف، كما يفعله الجهال، فإن الدم نجس، فلا يجوز أن يكتب به كلام الله تعالى.
كتاب آخر له: خرج موسى عليه السلام برداء، فوجد شعيباً، فشده بردائه { يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [الرعد: 39].
كتاب آخر للحزاز: يكتب عليه: { فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } [البقرة: 266] بحول الله وقوته.
كتاب آخر له: عند اصفرار الشمس يكتب عليه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الحديد: 28].
كتاب آخر للحمى المثلثة: يكتب على ثلاث ورقات لطاف: بسم الله فرَّت، بسم الله مرت، بسم الله قلت، ويأخذ كل يوم ورقة، ويجعلها في فمه، ويبتلعها بماء.
كتاب آخر لعرق النسا: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم رب كل شيء، ومليك كل شيء، وخالق كل شيء، أنت خلقتني، وأنت خلقت النَّسا، فلا تسلطه علي بأذى، ولا تسلطني عليه بقطع، واشفني شفاء لا يغادر سقماً، لا شافي إلا أنت.
كتاب للعرق الضارب: روى الترمذي في "جامعه": من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعلمهم من الحمى، ومن الأوجاع كلها أن يقولوا: "بسم الله الكبير، أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار، ومن شر حر النار".
كتاب لوجع الضرس: يكتب على الخد الذي يلي الوجع: بسم الله الرحمن الرحيم: { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ } [النحل: 78]، وإن شاء كتب: { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الأنعام: 13].
كتاب للخراج: يكتب عليه: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } [طه: 105].
كمأة: ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الكمأة من المن وماؤها شفاء

للعين" ، أخرجاه في "الصحيحين".
قال ابن الأعرابي: الكمأة: جمع، واحده كمء، وهذا خلاف قياس العربية، فإن ما بينه وبين واحده التاء، فالواحد منه بالتاء، وإذا حذفت كان للجمع. وهل هو جمع، أو اسم جمع ؟ على قولين مشهورين، قالوا: ولم يخرج عن هذا إلا حرفان: كمأة وكمء، وجبأة وجبء، وقال غير ابن الأعرابي: بل هي على القياس: الكمأة للواحد، والكمء للكثير، وقال غيرهما: الكمأة تكون واحداً وجمعاً.
واحتج أصحاب القول الأول بأنهم قد جمعوا كمئاً على أكمؤ، قال الشاعر:
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلاولقد نهيتك عن بنات الأوبر
وهذا يدل على أن "كمء" مفرد، "وكمأة" جمع.
والكمأة تكون في الأرض من غير أن تزرع، وسميت كمأة لاستتارها، ومنه كمأ الشهادة: إذا سترها وأخفاها، والكمأة مخفية تحت الأرض لا ورق لها، ولا ساق، ومادتها من جوهر أرضي بخاري محتقن في الأرض نحو سطحها يحتقن ببرد الشتاء، وتنميه أمطار الربيع، فيتولد ويندفع نحو سطح الأرض متجسداً، ولذلك يقال لها: جدري الأرض، تشبيهاً بالجدري في صورته ومادته، لأن مادته رطوبة دموية، فتندفع

عند سن الترعرع في الغالب، وفي ابتداء استيلاء الحرارة، ونماء القوة.
وهي مما يوجد في الربيع، ويؤكل نيئاً ومطبوخاً، وتسميها العرب: نبات الرعد لأنها تكثر بكثرته، وتنفطر عنها الأرض، وهي من أطعمة أهل البوادي، وتكثر بأرض العرب، وأجودها ما كانت أرضها رملية قليلة الماء.
وهي أصناف: منها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة يحدث الاختناق.
وهي باردة رطبة في الدرجة الثالثة، رديئة للمعدة، بطيئة الهضم، وإذا أدمنت، أورثت القولنج والسكتة والفالج، ووجع المعدة، وعسر البول، والرطبة أقل ضرراً من اليابسة
ومن أكلها فليدفنها فى الطين الرَّطب، ويَسلِقها بالماء والملح والصَّعْتر، ويأكلها بالزيت والتوابِل الحارَّة، لأن جوهرها أرضى غليظ، وغِذاءها ردىء، لكن فيها جوهر مائى لطيف يدل على خفتها، والاكتحال بها نافع من ظلمة البصر والرَّمد الحار، وقد اعترف فضلاء الأطباء بأنَّ ماءها يجلو العَيْن. وممن ذكره المسيحىُّ، وصاحب القانون، وغيرهما.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الكَمْأَة من المَنِّ"، فيه قولان:
أحدهما: أنَّ المنَّ الذى أُنزل على بنى إسرائيل لم يكن هذا الحلو فقط، بل أشياءُ كثيرة مَنَّ الله عليهم بها من النبات الذى يُوجد عفواً من غير صنعة ولا عِلاج ولاحرث، فان المن مصدر بمعنى المفعول أى "ممنون" به فكل ما رزقه الله العبد عفوا بغير كسب منه ولا علاج، فهو مَنٌ محضٌ، وإن كانت سائر نعمه مَنّاً منه على عبده، فخصَّ منها ما لا كسب

له فيه، ولا صُنعَ باسم "المنِّ"، فإنه مَنٌ بلا واسطة العبد، وجعل سبحانه قُوتَهم بالتِّيه "الكمأة"، وهى تقومُ مقام الخبز، وجعل أُدمهم "السَّلْوى"، وهو يقوم مقام اللَّحم، وجعل حَلواهم "الطلَّ" الذى ينزلُ على الأشجار يقوم لهم مقام الحلوى. فكَمُل عيشهُم.
وتأمل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الكمأة من المنِّ الذى أنزله الله على بنى إسرائيل" فجعلها من جملته، وفرداً من أفراده، والترنْجبين الذى يسقط على الأشجار نوع من المَنِّ، ثم غلب استعمال المَنِّ عليه عُرْفاً حادثاً.
والقول الثانى: أنه شَبَّهَ الكمأةَ بالمَنِّ المُنَزَّل من السماء، لأنه يُجمع من غير تعب ولا كلفة ولا زرع بِزر ولا سقى.
فإن قلت: فإذا كان هذا شأنَ الكمأة، فما بالُ هذا الضرر فيها، ومن أين أتاها ذلك ؟
فاعلم أنَّ اللهَ سبحانه أتقن كُلَّ شىء صنعه، وأحسن كُلَّ شىء خلقه، فهو عند مبدإ خلقه برىءٌ من الآفات والعلل، تامُّ المنفعة لما هُيىء وخُلِقَ له، وإنما تعرِضُ له الآفاتُ بعد ذلك بأُمور أُخَر من مجاورة، أو امتزاج واختلاط، أو أسباب أُخَر تقتضى فسادَه، فلو تُرِكَ على خِلقته الأصلية من غير تعلق أسباب الفساد به، لم يفسد.
ومَنْ له معرفة بأحوال العالَم ومبدئه يعرِف أنَّ جميع الفساد فى جَوِّه ونباته وحيوانه وأحوالِ أهله، حادثٌ بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثَه، ولم تزل أعمالُ بنى آدَم ومخالفتُهم للرُّسُل تُحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام، والأمراض، والأسقام، والطواعين، والقحوط، والجدوب، وسلب بركات الأرض، وثمارها، ونباتها،
v

وسلب منافعها، أو نقصانها أُموراً متتابعة يتلو بعضُهَا بعضاً.
فإن لم يَتَّسِعْ علمك لهذا فاكتفِ بقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ}[الروم:41]، ونَزِّل هذه الآية على أحوالِ العالَم، وطابِقْ بين الواقع وبينها، وأنت ترى كيف تحدث الآفاتُ والعلل كل وقت فى الثمار والزرع والحيوان، وكيف يحدُث من تلك الآفات آفاتٌ أُخَرُ متلازمة، بعضُها آخذ برقاب بعض، وكُلَّما أحدث الناسُ ظلماً وفجوراً، أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل فى أغذيتهم وفواكههم، وأهويتهم ومياههم، وأبدانهم وخلقهم، وصُورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم.
ولقد كانت الحبوب من الحِنطة وغيرها أكبرَ مما هى اليوم، كما كانت البركةُ فيها أعظمَ. وقد روى الإمام أحمد بإسناده: أنه وجد فى خزائن بعض بنى أميةَ صرة فيها حِنطةٌ أمثال نوى التمر مكتوبٌ عليها: هذا كان ينبُت أيامَ العدل. وهذه القصة، ذكرها فى "مسنده" على أثر حديث رواه
وأكثرُ هذه الأمراض والآفات العامة بقيةُ عذاب عُذِّبتْ به الأُممُ السالفة، ثم بقيت منها بقية مُرصَدَةٌ لمن بقيت عليه بقيةٌ من أعمالهم، حكماً قسطاً، وقضاءً عدلاً، وقد أشار النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هذا بقوله فى الطاعون: "إنَّه بقيةُ رجز أو عذاب أُرسِلَ على بنى إسرائيلَ".
وكذلك سلَّط اللهُ سبحانه وتعالى الريحَ على قومٍ سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيام، ثم أبقَى فى العالَم منها بقيةً فى تلك الأيام، وفى نظيرها عِظةً وعِبرة.
وقد جعل اللهُ سبحانه أعمال البَرِّ والفاجر مقتضياتٍ لآثارها فى هذا

العالَم اقتضاءً لا بد منه، فجعل منعَ الإحسان والزكاة والصدقة سبباً لمنع الغَيْث من السماء، والقحطِ والجَدْبِ، وجعَلَ ظلمَ المساكين، والبخسَ فى المكاييل والموازين، وتعدِّى القَوِّىُّ على الضعيف سبباً لجَوْر الملوك والولاة الذين لا يَرحمون إن اسْتُرْحِموا، ولا يَعْطِفُون إن استُعطِفُوا، وهم فى الحقيقة أعمالُ الرعايا ظهرت فى صور وُلاتهم، فإنَّ اللهَ سبحانه بحكمته وعدله يُظهِرُ للناس أعمالَهم فى قوالِب وصورٍ تناسبها، فتارةً بقحط وجدب، وتارة بعدوٍّ، وتارةً بولاة جائرين، وتارةً بأمراضٍ عامة، وتارةً بهُموم وآلام وغموم تحضُرها نفوسُهم لا ينفكُّونَ عنها، وتارةً بمنع بركات السماء والأرض عنهم، وتارةً بتسليط الشياطين عليهم تَؤُزُّهم إلى أسباب العذاب أزَّاً، لِتَحِقَّ عليهم الكلمة، وليصيرَ كل منهم إلى ما خُلِقَ له. والعاقل يُسَيِّر بصيرته بين أقطار العالَم، فيُشاهدُه، وينظر مواقعَ عدل الله وحكمته، وحينئذ يَتَبيَّنُ له أنَّ الرُّسُلَ وأتباعَهُم خاصةً على سبيل النجاة، وسائر الخلق على سبيل الهلاك سائرون، وإلى دار البَوار صائرون، واللهُ بالغُ أمرِه، لا مُعَقِّبَ لحكمه، ولا رادَ لأمره.. وبالله التوفيق
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الكمأة: "وماؤها شفاء للعَيْنِ" فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنَّ ماءَها يُخلَط فى الأدوية التى يُعالَج بها العَيْنُ، لا أنه يُستعمل وحده، ذكره أبو عُبيد.
الثانى: أنه يُستعمل بحْتاً بعد شَيِّها، واستقطار مائها، لأنَّ النار تُلطِّفه وتُنضجه، وتُذِيبُ فضلاتِه ورطوبتَه المؤذية، وتُبقى المنافع.
الثالث: أنَّ المراد بمائها الماءُ الذى يحدث به من المطر، وهو أولُ قَطْر ينزل إلى الأرض، فتكون الإضافة إضافةَ اقتران، لا إضافة جزء، ذكره ابن الجوزى، وهو أبعدُ الوجوه وأضعفها.
وقيل: إن استُعمل ماؤها لتبريد ما فى العَيْن، فماؤها مجرَّداً شفاء، وإن كان لغير ذلك، فمركَّب مع غيره.
وقال الغافقى: ماء الكمأة أصلح الأدوية للعَيْن إذا عُجِنَ به الإثمِد واكتُحِلَ به، ويُقوِّى أجفانها، ويزيدُ الروحَ الباصرة قوةً وحِدَّة، ويدفع عنها نزول النوازل.
كَبَاثٌ: فى "الصحيحين": من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه، قال: كُنَّا مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَجْنِى الكَباثَ، فقال:
"عليكم بالأسْوَدِ مِنْهُ، فإنَّه أطْيَبُه".
الكَباث بفتح الكاف، والباء الموحدة المخففة، والثاء المثلثة ثمرُ الأراك. وهو بأرض الحجاز، وطبعُه حار يابس، ومنافعُه كمنافع الأراك: يُقَوِّى المعدة، ويُجيدُ الهضمَ، ويجلُو البلغمَ، وينفعُ مِن أوجاع الظهر، وكثيرٍ من الأدواء. قال ابن جُلْجُل: إذا شُرِبَ طحينُه، أدرَّ البَوْلَ، ونقَّى المثانة، وقال ابنُ رضوان: يُقَوِّى المَعِدَة، ويُمسكُ الطبيعة.

كَتَمٌ: روى البخارىُّ فى "صحيحه": عن عثمان بن عبد الله ابن مَوْهَب، قال: دخلنا على أُمِّ سَلَمة رضى الله عنها، فأخرجت إلينا شعَراً من شعر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا هو مخضوبٌ بالحِنَّاء والكَتَمِ.
وفى "السنن الأربعة": عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إنَّ أحسنَ ما غيَّرْتُم به الشَّيْبَ الحِنَّاءُ والكَتَمُ".
وفى "الصحيحين": عن أنس رضى الله عنه، أنَّ أبا بكر رضى الله عنه اختَضب بالحِنَّاءِ والكَتَمِ.
وفى "سنن أبى داود": عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: مَرَّ على النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ قد خَضَبَ بالحِنَّاء، فقال:
"ما أحْسَنَ هذا" ؟، فمرَّ آخرُ قد خَضَبَ بالحِنَّاءِ والكَتَم، فقال: "هذا أحسنُ من هذا"، فمرَّ آخَرُ قد خَضَبَ بالصُّفرة، فقال: "هذا أحسنُ من هذا كُلِّهِ".
قال الغافِقى: "الكَتَمُ نبتٌ ينبُت بالسهول، ورقُه قريب مِن ورق الزَّيْتون، يعلُو فوقَ القامة، وله ثمر قَدْرَ حَبِّ الفُلفُل، فى داخله نوى، إذا رُضِخَ اسودَّ، وإذا استُخرجَتْ عُصارة ورقه، وشُرِبَ منها قدرُ أُوقية، قَيَّأَ قيئاً شديداً، وينفع عن عضة الكلب. وأصلُه إذا طبِخَ بالماء كان منه مِدادٌ يُكتب به.

وقال الكِندى: بزر الكَتَم إذا اكتُحِلَ به، حلَّل الماء النازل فى العين وأبرأها.
وقد ظن بعض الناس أنَّ الكَتَمَ هو الوَسْمة، وهى ورق النِّيل، وهذا وهَمٌ، فإن الوَسْمة غير الكَتَم. قال صاحب "الصحاح": "الكَتَم بالتحريك: نبت يُخلط بالوَسْمة يُختضَب به. قيل: والوَسْمة نباتٌ له ورق طويل يَضرِبُ لونه إلى الزرقة أكبرُ من ورق الخِلاف، يُشبه ورق اللُّوبياء، وأكبرُ منه، يُؤتى به من الحجاز واليمن.
فإن قيل: قد ثبت فى "الصحيح" عن أنس رضى الله عنه، أنه قال: "لم يختضِب النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قيل: قد أجاب أحمد بن حنبلٍ عن هذا وقال: قد شَهِدَ به غيرُ أنس رضى الله عنه على النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خَضَبَ. وليس مَنْ شَهِدَ بمنزلة مَن لم يشهدْ، فأحمدُ أثبتَ خِضاب النبىّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعه جماعة من المحدِّثين، ومالك أنكره.
فإن قيل: قد ثبت فى "صحيح مسلم" النهىُ عن الخِضاب بالسواد فى شأن أبى قُحافةَ لمَّا أُتِىَ به ورأسُه ولحيتُه كالثَّغَامة بياضاً، فقال: "غَيِّرُوا هذا الشَّيْبَ وجَنِّبُوهُ السَّوَاد". والكتمُ يُسَوِّد الشعرَ.
فالجواب من وجهين، أحدهما: أنَّ النهى عن التسويد البحت،

فأمَّا إذا أُضيف إلى الحِنَّاء شىءٌ آخرُ، كالكَتَم ونحوه، فلا بأس به، فإنَّ الكَتَمَ والحِنَّاء يجعل الشعر بيْن الأحمر والأسود بخلاف الوَسْمة، فإنها تجعلُه أسود فاحماً، وهذا أصح الجوابين.
الجواب الثانى: أنَّ الخِضَاب بالسَّوَاد المنهى عنه خِضابُ التدليس، كخِضاب شعر الجارية، والمرأةِ الكبيرة تغرُّ الزوج، والسيدَ بذلك، وخِضَاب الشيخ يَغُرُّ المرأةَ بذلك، فإنه من الغش والخِداع، فأما إذا لم يتضمن تدليساً ولا خِداعاً، فقد صحَّ عن الحسن والحسين رضى الله عنهما أنهما كانا يخضِبان بالسَّواد، ذكر ذلك ابن جرير عنهما فى كتاب "تهذيب الآثار"، وذكره عن عثمان ابن عفان، وعبد الله بن جعفر، وسعد بن أبى وقاص، وعُقبةَ بن عامر، والمغيرة بن شعبة، وجرير بن عبد الله، وعمرو بن العاص.
وحكاه عن جماعة من التابعين، منهم: عمرو بن عثمان، وعلى بن عبد الله بن عباس، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن الأسود، وموسى بن طلحة، والزُّهْرى، وأيوب، وإسماعيل بن معدى كرب.
وحكاه ابن الجوزى عن محارب بن دِثار، ويزيد، وابن جُريج، وأبى يوسفَ، وأبى إسحاق، وابن أبى ليلى، وزياد بن عَلاقة، وغَيلان بن جامع، ونافع بن جُبير، وعمرو بن على المُقَدَّمى، والقاسم بن سلام
كَرْمٌ: شجرة العِنَب، وهى الحَبَلَةُ، ويُكره تسميتها كَرْماً، لما روى مسلم فى "صحيحه" عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " لا يقولَنَّ أحدُكُمْ للعِنَبِ الكَرْمَ، الكَرْمُ: الرَّجُلُ المُسْلِمُ". وفى رواية: "إنما الكَرْمُ قَلْبُ المُؤْمِنِ"، وفى أُخرى: "لا تقولوا: الكرمُ، وقُولُوا: العِنَبُ والحَبَلَةُ".

وفى هذا معنيان:
أحدهما: أنَّ العرب كانت تُسمى شجرة العِنَب الكَرْمَ، لكثرة منافعها وخيرها، فكره النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسميَتها باسم يُهيِّج النفوس على محبتها ومحبة ما يُتخذ منها من المسكر، وهو أُمُّ الخبائث، فكره أن يُسمَّى أصلُه بأحسن الأسماء وأجمعها للخير.
والثانى: أنه من باب قوله: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ"، و"لَيْسَ المِسْكينُ بالطَّوَّافِ". أى: أنكم تُسمون شجرةَ العِنَب كَرْماً لكثرة منافعه، وقلبُ المؤمن أو الرجل المسلم أولى بهذا الاسم منه، فإنَّ المؤمنَ خيرٌ كُلُّه ونفع، فهو من باب التنبيه والتعريف لما فى قلب المؤمن من الخير، والجود، والإيمان، والنور، والهدى، والتقوى، والصفات التى يستحق بها هذا الاسم أكثرُ من استحقاق الحَبَلَة له.وبعد.. فقوةُ الحَبَلَةِ باردة يابسة، وورقُها وعلائقها وعرمُوشها مبرد فى آخر الدرجة الأُولى، وإذا دُقَّت وضُمِّدَ بها من الصُّدَاع سكنته، ومن الأورام الحارة والتهاب المعدة. وعُصارةُ قضبانه إذا شُرِبت سكَّنت القىء، وعقلت البطن، وكذلك إذا مُضغت قلوبها الرطبة. وعُصارةُ ورقها،

تنفع من قروح الأمعاء، ونفْث الدم وقيئه، ووجع المَعِدَة. ودمعُ شجره الذى يُحمل على القضبان، كالصمغ إذا شُرِبَ أخرج الحصاة، وإذا لُطِخَ به، أبرأ القُوَبَ والجَرَبَ المتقرح وغيره، وينبغى غسل العضو قبل استعمالها بالماء والنَّطْرون، وإذا تمسَّح بها مع الزيت حلق الشعر، ورمادُ قضبانه إذا تُضمِّدَ به مع الخل ودُهْن الورد والسَّذاب، نفع من الورم العارض فى الطِّحال، وقوةُ دُهْن زهرة الكَرْم قابضة شبيهةٌ بقوة دُهْن الورد، ومنافعها كثيرة قريبة من منافع النخلة.
كَرَفْس: روى فى حديث لا يصِحُّ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: "مَن أكَلَهُ ثم نامَ عليه، نام ونَكْهتُهُ طَيِّبةٌ، وينامُ آمناً من وَجَعِ الأضراسِ والأسنانِ"، وهذا باطل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن البُسْتانىَّ منه يُطيِّب النكهة جدّاً، وإذا عُلِّق أصله فى الرقبة نفع من وجع الأسنان.
وهو حارٌ يابس، وقيل: رطب مفتِّح لسُداد الكَبِد والطِّحال، وورقُه رطباً ينفعُ المَعِدَة والكَبِدَ الباردة، ويُدِرُّ البَوْل والطَّمْث، ويُفتِّت الحصاة، وحَبّه أقوى فى ذلك، ويُهيِّج الباه، وينفعُ مِن البَخَر. قال الرازىُّ: وينبغى أن يُجتنب أكله إذا خِيفَ من لدغ العقارب.
كُرَّاثٌ: فيه حديث لا يصِحُّ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل هو باطل موضوع: " مََن أَكَلَ الكُرَّاث ثم نامَ عليه نام آمناً مِنْ ريح البَوَاسيرِ واعْتَزَلَهُ الملََكُ لِنَتَنِ نََكْهَتِه حتى يُصْبحَ".
وهو نوعان: نَبَطىٌّ وشامىٌّ، فالنبطىُّ: البقلُ الذى يوضع على المائدة. والشامىُّ: الذى له رؤوس، وهو حار يابس مُصدِّع، وإذا

طُبخَ وأُكِلَ، أو شُرِب ماؤه، نفع من البواسير الباردة. وإن سُحِقَ بزره، وعُجِنَ بقَطِرَانٍ، وبُخِّرَت به الأضراسُ التى فيها الدودُ نثرها وأخرجها، ويُسكِّن الوجع العارض فيها، وإذا دُخنت المقعدةُ ببزره خَفَّت البواسير، هذا كله فى الكُرَّاث النَبَطى.
وفيه مع ذلك فساد الأسنان واللِّثَة، ويُصَدِّع، ويُرى أحلاماً رديئةً، ويُظلم البصر، ويُنتن النَّكهة، وفيه إدرارٌ للبَوْل والطَّمث، وتحريكٌ للباه، وهو بطىءُ الهضم.
حرف اللام
لَحْمٌ: قال الله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ}[الطور: 22]، وقال: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ}[الواقعة: 21].
وفى "سنن ابن ماجه" من حديث أبى الدرداء، عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَيِّدُ طَعَامِ أهْلِ الدُّنيا وأهْلِ الجَنَّةِ اللَّحْمُ". ومن حديث بُريدةَ يرفعه: " خَيْرُ الإدَامِ فِى الدُّنيا والآخِرَةِ اللَّحْمُ ".
وفى "الصحيح" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فضلُ عائشةَ على النِّساءِ كفضلِ الثَّريدِ على سائِرِ الطَّعَامِ ".
و"الثريد": الخبز واللَّحم. قال الشاعر:

إذَا مَا الْخبْزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ ... فَذَاكَ أَمَانَةَ اللهِ الثّرِيدُ
وقال الزُّهْرى: أكل اللَّحْم يَزيدُ سبعين قوَّة، وقال محمد بن واسع: اللَّحْم يزيد فى البصر، ويُروى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه:
"كُلُوا اللَّحْمَ، فإنه يُصَفِّى اللَّوْنَ، ويُخْمِصُ البَطْنَ، ويُحَسِّنُ الخُلُقَ"، وقال نافع: كان ابن عمر إذا كان رمضانُ لم يَفُتْه اللَّحْم، وإذا سافر لم يفته اللَّحْمَ. ويُذكر عن علىٍّ: مَن تركه أربعين ليلة ساء خُلُقه.
وأما حديث عائشة رضى الله عنها، الذى رواه أبو داود مرفوعاً: "لا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بالسكِّين، فإنه من صَنِيع الأعَاجِم، وانْهشُوهُ، فإنه أَهْنَأُ وأمرأُ". فرده الإمام أحمد بما صحَّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن قَطعِه بالسِّكِين فى حديثين، وقد تقدَّما.
واللَّحمُ أجناس يختلِفُ باختلافِ أُصولِهِ وطبائعه، فنذكرُ حُكمَ كل جنس وطبعَه ومنفعَته ومضرَّته.
لحم الضأن: حار فى الثانية، رطب فى الأُولى، جيده الحَوْلىُّ، يُولِّدُ الدم المحمود القوى لمن جاد هضمُه، يصلح لأصحاب الأمزجة الباردة والمعتدلة، ولأهل الرياضات التامة فى المواضع والفصول الباردة، نافع لأصحاب المِرَّة السوداء، يُقوِّى الذهن والحفظ. ولحم الهَرِمِ والعَجيفِ ردىء، وكذلك لحمُ النِّعاج، وأجوده: لحمُ الذَّكَر الأسود

منه، فإنه أخف وألذ وأنفع، والخصىُّ أنفعُ وأجود، والأحمر من الحيوان السمين أخفُّ وأجودُ غذاءً، والجَذَعُ مِن المَعْز أقل تغذية، ويطفو فى المَعِدَة.
وأفضل اللَّحْم عائذه بالعظم، والأيمن أخف وأجود من الأيسر، والمقدم أفضل من المؤخر، وكان أحبُّ الشاة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقدمها، وكلُّ ما علا منه سوى الرأس كان أخفَّ وأجود مما سَفَل، وأعطى الفرزدقُ رجلاً يشترى له لحماً وقال له: "خذ المقدَّم، وإياك والرأسَ والبطنَ، فإنَّ الداء فيهما".
ولحم العنق جيد لذيذ، سريعُ الهضم خفيف، ولحم الذراع أخفُّ اللَّحْم وألذُّه وألطفه وأبعدُه من الأذى، وأسرعُه انهضاماً.
وفى "الصحيحين": أنه كان يُعجِب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولحم الظَّهْر كثير الغذاء، يُولِّد دماً محموداً. وفى "سنن ابن ماجه" مرفوعاً: "أطْيَبُ اللَّحْمِ لَحْمُ الظَّهْرِ".
لحمُ المَعْز: قليل الحرارة، يابس، وخِلْطُه المتولد منه ليس بفاضل وليس بجيد الهضم، ولا محمود الغذاء. ولحمُ التَّيْس ردىءٌ مطلقاً، شديد اليُبس، عَسِرُ الانهضام، مُولِّد للخلط السوداوى.
قال الجاحظ: قال لى فاضل من الأطباء: يا أبا عثمان؛ إياك ولحمَ المَعْز، فإنه يُورث الغم، ويُحرِّك السوادءَ، ويُورث النسيان، ويُفسد الدم، وهو واللهِ يَخْبِلُ الأولاد.

وقال بعض الأطباء: إنما المذمومُ منه المُسِنُّ، ولا سِيَّما للمُسنِّين، ولا رداءةَ فيه لمن اعتاده. و"جالينوس" جعل الحَوْلىَّ منه من الأغذية المعتدلة المعدِّلة للكَيْموس المحمود، وإناثُه أنفعُ من ذكوره.
وقد روى النسائى فى "سننه": عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أحْسِنوا إلى الماعِزِ وأمِيطُوا عنها الأذى، فإنها من دوابِّ الجَنَّةِ". وفى ثبوت هذا الحديث نظرٌ.
وحكمُ الأطباء عليه بالمضرَّة حكمٌ جزئىٌ ليس بكلىٍّ عام، وهو بحسب المَعِدَة الضعيفة، والأمزجة الضعيفة التى لم تعتده، واعتادت المأكولات اللطيفة، وهؤلاء أهل الرفاهية من أهل المدن، وهم القليلون من الناس.
لحم الجَدْى: قريب إلى الاعتدال، خاصةً ما دام رَضيعاً، ولم يكن قريبَ العهد بالوِلادة، وهو أسرعُ هضماً لما فيه من قُوَّة اللَّبن، مُليِّن للطبع، موافق لأكثر الناس فى أكثر الأحوال، وهو ألطفُ مِن لحم الجمل، والدمُ المتولد عنه معتدل.
لحم البَقَر: بارد يابس، عَسِرُ الانهضام، بطىءُ الانحدار، يُوَلِّدُ دماً سوداوياً، لا يصلُح إلا لأهلِ الكَدِّ والتعب الشديد، ويُورث إدمانُه الأمراضَ السوداوية، كالبَهَق والجَرَب، والقُوباء والجُذام، وداء الفيل، والسَّرَطانِ، والوسواس، وحُمَّى الرِّبع، وكثير من الأورام، وهذا لمن لم يعتده، أو لم يَدفعْ ضررَه بالفُلفُل والثُّوم والدارصينى والزنجبيل ونحوه، وَذَكَرُه أقلُّ بُرودةً، وأُنثاه أقلُّ يبساً.
ولحمُ العِجل ولا سِيَّما السمينَ مِن أعدل الأغذية وأطيبِها وألذها وأحمدِهَا، وهو حار رطب، وإذا انهضم غذَّى غذاءً قوياً.

لحم الفَرَس: ثبت فى "الصحيح" عن أسماءَ رضى الله عنها، قالت: نَحرْنا فرساً فأكلناه على عهدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أذن فى لحوم الخيل، ونَهى عن لحوم الحُمُرِ. أخرجاه فى الصحيحين.
ولا يثبت عنه حديثُ المِقدام بن معدى كرب رضى الله عنه أنه نهى عنه. قاله أبو داود وغيره من أهل الحديث
واقترانُه بالبغالِ والحَميرِ فى القرآن لا يدل على أنَّ حكم لحمه حكم لحومها بوجه من الوجوه، كما لا يدُلُّ على أنَّ حكمها فى السهم فى الغنيمة حكمُ الفَرَس، والله سبحانه يَقْرِنُ فى الذِّكْرِ بين المُتماثِلات تارةً، وبين المختلفات، وبين المتضادَّات، وليس فى قوله: {لِتَرْكَبُوهَا} ما يمنع من أكلها، كما ليس فيه ما يمنعُ من غير الركوب من وجوه الانتفاع، وإنما نَصَّ على أجلِّ منافعها، وهو الركوبُ، والحديثان فى حِلِّها صحيحان لا مُعَارِضَ لهما.
وبعد.. فلحمُهَا حارٌ يابس، غليظٌ سوداوىٌّ مُضِرٌ لا يصلح للأَبدان اللَّطيفة.
لحم الجَمل: فَرْقُ ما بين الرافضة وأهل السُّنَّة، كما أنه أحد الفروق بين اليهود وأهل الإسلام. فاليهود والرافضة تَذُمُّه ولا تأكله، وقد عُلِمَ بالاضطرار من دين الإسلام حِلُّه، وطالَما أكله رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه حَضَراً وسَفَراً

ولحم الفَصيل منه مِن ألذِّ اللُّحوم وأطيبها وأقواها غِذاءً، وهو لمن اعتاده بمنزلة لحم الضأن لا يضرُّهم ألبتة، ولا يُولِّد لهم داء، وإنما ذمَّه بعضُ الأطباء بالنسبة إلى أهل الرفاهية مِن أهل الحَضَر الذين لا يعتادوه، فإنَّ فيه حرارة ويُبْساً، وتوليداً للسَّوداء، وهو عَسِرُ الانهضام، وفيه قوةٌ غيرُ محمودة، لأجلها أمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوضوء مِن أكله فى حديثين صحيحين لا معارض لهما، ولا يصح تأويلهُمَا بغسل اليد، لأنه خلافُ المعهود من الوضوء فى كلامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لتفريقه بينه وبين لحم الغنم، فخيَّر بين الوضوء وتركه منها، وحتَّم الوضوء من لحوم الإبل. ولو حُمِلَ الوضوءُ على غسل اليد فقط، لحُمِلَ على ذلك فى قوله: "مَن مسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَأ".
وأيضاً: فإنَّ آكِلَهَا قد لا يباشر أكلها بيده بأن يوضع فى فمه، فإن كان وضوؤه غسلَ يده، فهو عبث، وحملٌ لكلام الشارع على غير معهوده وعُرْفه، ولا يَصِحُّ معارضته بحديث: "كان آخرُ الأمرين من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك الوضوء مما مسَّت النار" لعدة أوجه:
أحدها: أنَّ هذا عامٌ، والأمر بالوضوء منها خاص.
الثانى: أنَّ الجهة مختلفة، فالأمرُ بالوضوء منها بجهة كونها لحمَ

إبل سواء أكان نِيئاً، أو مطبوخاً، أو قديداً، ولا تأثيرَ للنار فى الوضوء. وأمَّا تركُ الوضوء مما مسَّتِ النَّار، ففيه بيانُ أنَّ مَسَّ النارِ ليس بسبب للوضوء، فأينَ أحدُهما مِن الآخر ؟ هذا فيه إثباتُ سبب الوضوء، وهو كونُه لحمَ إبل، وهذا فيه نفىٌ لسبب الوضوء، وهو كونُه ممسوسَ النار. فلا تعارضَ بينهما بوجه.
الثالث: أنَّ هذا ليس فيه حكايةُ لفظ عام عن صاحب الشرع، وإنما هو إخبارٌ عن واقعة فعل فى أمرين، أحدهما: متقدَّم على الآخر، كما جاء ذلك مبيَّناً فى نفس الحديث: "أنهم قرَّبوا إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحماً، فأكل، ثم حضرتِ الصلاة، فتوضأ فصلَّى، ثم قرَّبوا إليه فأكل، ثم صلَّى، ولم يتوضأ، فكان آخِرُ الأمرين منه تركَ الوضوءِ مما مسَّت النارُ"، هكذا جاء الحديثُ، فاختصره الراوى لمكان الاستدلالِ، فأين فى هذا ما يصلُح لنسخ الأمر بالوضوء منه، حتى لو كان لفظاً عاماً متأخراً مقاوِماً، لم يصلح للنسخ، ووجب تقديمُ الخاص عليه، وهذا فى غاية الظهور.
لحم الضَّب: تقدَّم الحديثُ فى حِلِّه، ولحمه حار يابس، يُقوِّى شهوة الجِماع.
لحم الغزال: الغزالُ أصلحُ الصيد وأحمدُه لحماً، وهو حارٌ يابس، وقيل: معتدل جداً، نافع للأبدان المعتدلة الصحيحة، وجيّدُه الخِشْف.
لحم الظَّبى: حارٌ يابس فى الأُولى، مجفِّف للبدن، صالح للأبدان الرطبة.
قال صاحب "القانون": وأفضلُ لحومِ الوحش لحمُ الظَّبىِ مع ميله إلى السوداوية.
لحم الأرانب: ثبت فى "الصحيحين": عن أنس بن مالك، قال:"أنْفَجْنَا أرنباً فَسَعَوْا فى طلبها، فأخذوها، فبعث أبو طلحة بِوَرِكِهَا

إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبِلَهُ".
لحم الأرنب: معتدل إلى الحرارة واليبوسة، وأطيبُها وَرِكُهَا، وأحمدُهُ أكل لحمها مشوياً، وهو يَعقِل البطن، ويُدِرُّ البَوْل، ويُفتِّت الحصى، وأكلُ رؤوسها ينفعُ مِن الرِّعشة.
لحم حمار الوَحْش: ثبت فى "الصحيحين": من حديث أبى قتادة رضى الله عنه: "أنهم كانوا مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى بعض عُمَرِهِ، وأنه صادَ حِمَارَ وحش، فأمَرُهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأكله وكانوا مُحْرِمِين، ولم يكن أبو قتادة مُحْرِماً".
وفى "سنن ابن ماجه": عن جابر قال: "أكلْنا زمنَ خيبرَ الخيلَ وحُمُرَ الوحش".
لحمه حار يابس، كثيرُ التغذية، مُولِّد دماً غليظاً سوداوياً، إلا أنَّ شحمَه نافع مع دُهْن القُسط لوجع الظَّهر والرِّيح الغليظة المرخية للكُلَى، وشحمُه جيد لِلْكَلَفِ طِلاءً، وبالجملة فلحومُ الوحوش كُلُّهَا تُولِّد دماً غليظاً سوداوياً، وأحمدُه الغزال، وبعده الأرنب.
لحوم الأجِنَّة: غير محمودة لاحتقان الدم فيها، وليست بحرام لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ذَكَاةُ الجَنِين ذَكَاةُ أُمِّهِ ".

ومنعَ أهلُ العراق مِن أكله إلا أن يُدْرِكَه حَيّاً فيُذَّكيه، وأوَّلوا الحديثَ على أن المراد به أنَّ ذكاته كذكاة أُمِّه. قالوا: فهو حُجَّة على التحريم، وهذا فاسد، فإنَّ أول الحديث أنهم سألوا رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالُوا: يا رسولَ الله؛ نذبحُ الشاةَ، فنجدُ فى بطنها جنيناً، أفنأكلهُ ؟ فقال: "كُلُوهُ إنْ شِئْتُم فإنَّ ذكاتَهُ ذَكاةُ أُمِّهِ".
وأيضاً: فالقياسُ يقتضى حِلَّهُ، فإنه ما دامَ حَمْلاً فهو جزء من أجزاء الأُم، فذكاتُهَا ذكاةٌ لجميع أجزائها، وهذا هو الذى أشار إليه صاحبُ الشرع بقوله: "ذكاتُه ذكاةُ أُمِّه"، كما تكون ذكاتُها ذكاةَ سائر أجزائها، فلو لم تأتِ عنه السُّنَّةُ الصريحة بأكله، لكان القياسُ الصحيحُ يقتضى حِلَّه.
لحم القَدِيد: فى "السنن": من حديث ثوبان رضى الله عنه قال: ذبحتُ لرسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاةً ونحن مسافرون، فقال: "أصْلِحْ لَحْمَها" فلم أزل أُطِعمُه منه إلى المدينة.
القديدُ: أنفع من النمكسود، ويُقوِّى الأبدان، ويُحدثُ حِكَّة، ودفعُ ضرره بالأبازير الباردة الرطبة، ويُصلح الأمزجة الحارة.
والنمكسودُ: حارٌ يابس مجفِّف، جيِّدُه من السمين الرطب، يضرُّ بالقُولنْج، ودفعُ مضرَّته طبخُه باللَّبن والدُّهْن، ويصلح للمزاج الحار الرطب.

فصل: فى لحوم الطير
قال الله تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ}[الواقعة: 21].
وفى "مسند البزَّار" وغيره مرفوعاً: "إنَّكَ لَتَنْظُرُ إلى الطَّيْرِ فى الجَنَّةِ، فَتَشْتَهيهِ، فيَخِرُّ مشويّاً بين يَدَيْكَ".
ومنه حلال، ومنه حرام. فالحرامُ: ذو المِخلَب، كالصَّقرِ والبازى والشاهِين، وما يأكلُ الجِيَفَ كالنَّسْر، والرَّخَم، واللَّقْلَق، والعَقْعَق، والغُراب الأَبْقع، والأسود الكبير، وما نُهىَ عن قتله كالهُدهُدِ، والصُّرَدِ، وما أُمِرَ بقتله كالحِدَأة والغراب.
والحلالُ أصناف كثيرة، فمنه:
الدَّجاج: ففى "الصحيحين" من حديث أبى موسى "أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكل لحمَ الدَّجاجِ".
وهو حارٌ رطب فى الأُولى، خفيفٌ على المَعِدَة، سريعُ الهضم، جيدُ الخَلْطِ، يَزيد فى الدِماغ والمَنِىِّ، ويُصفىِّ الصوت، ويُحَسِّنُ اللَّون، ويُقَوِّى العقل، ويُوَلِّد دماً جيداً، وهو مائل إلى الرطوبة، ويقال: إنَّ مداومَة أكله تُورث النِّقْرس، ولا يثبت ذلك.
ولحمُ الديك: أسخنُ مزاجاً، وأقلُّ رطوبة، والعتيقُ منه دواء

ينفع القُولنج والرَّبو والرِّياح الغليظة إذا طُبخَ بماء القُرْطُم والشِّبْث، وخصِيُّها محمودُ الغِذَاء، سريعُ الانهضام، والفَراريجُ سريعة الهضمِ، مُليِّنة للطبع، والدَّمُ المتولد منها دمٌ لطيف جيد.
لحم الدُّرَّاج: حارٌ يابس فى الثانية، خفيفٌ لطيف، سريعُ الانهضام، مُولِّد للدم المعتدل، والإكثارُ منه يُحِدُّ البصر.
لحم الحَجَل: يُوَلِّد الدم الجيد، سريعُ الانهضام.
لحم الإوَزِّ: حارٌ يابس، ردىء الغذاء إذا أُعتِيد، وليس بكثير الفضول.
لحم البَطِّ: حارٌ رطب، كثيرُ الفضول، عَسِرُ الانهضام، غيرُ موافق للمَعِدَة.
لحم الحُبَارَى: فى "السنن" من حديث بُرَيْهِ بن عمر بن سَفينةَ، عن أبيه، عن جدِّه رضى الله عنه قال :"أكلتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحْمَ حُبَارَى".
وهو حارٌ يابس، عَسِرُ الانهضام، نافِعٌ لأصحاب الرياضة والتعب.
لحم الكُرْكىِّ: يابسٌ خفيف، وفى حرِّه وبرده خلافٌ، يُوَلِّد دماً سوداوياً، ويصلُح لأصحاب الكَدِّ والتعب، وينبغى أن يُترك بعد ذبحه يوماً أو يومين، ثم يؤكل.
لحم العصافير والقَنَابِر: روى النسائِى فى "سننه": من حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنه، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما من إنسانٍ يَقْتُل عُصفوراً فما فوقَهُ بغير حَقِّهِ إلاَّ سألَهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ عنها". قيل: يا رسول الله؛ وما حقُّه ؟ قال: "تَذْبحُه فتأكُلُهُ، ولا تَقْطَعُ رأسهُ وتَرْمى به".

وفى "سننه" أيضاً: عن عمرو بن الشَّريد، عن أبيه قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "مَنْ قَتَلَ عُصْفُوراً عَبَثاً، عَجَّ إلى الله يقولُ: يا ربِّ؛ إنَّ فُلاناً قَتَلَنِى عَبَثاً، ولم يَقْتُلْنى لِمَنْفَعَةٍ".
ولحمُه حارٌ يابس، عاقِلٌ للطبيعة، يَزيدُ فى الباه، ومرقُه يُلَيِّن الطبع، وينفع المفاصِل، وإذا أُكِلَتْ أدمغتها بالزنجبيل والبصل، هيَّجَتْ شهوَة الِجماع، وخَلطُها غير محمود.
لحم الحَمَام: حارٌ رطب، وحشيُّه أقل رطوبةً، وفراخُه أرطب خاصية، ما رُبِّى فى الدُّور وناهضُه أخف لحماً، وأحمدُ غذاءً، ولحمُ ذكورها شفاءٌ من الاسترخاء والخَدَرِ والسَّكتة والرِّعشة، وكذلك شَمُّ رائحة أنفاسها. وأكلُ فِراخها معينٌ على النساء، وهو جَيِّد للكُلَى، يزيدُ فى الدم، وقد روى فيها حديثٌ باطل لا أصل له عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنَّ رجلاً شكى إليه الوَحدة، فقال: "اتَّخِذْ زوجاً مِن الحَمام". وأجودُ من هذا الحديث أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلاً يتبعُ حمامةً، فقال: "شَيْطانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانَةً".

وكان عثمان بن عفان رضى الله عنه فى خطبته يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام.
لحم القَطَا: يابس، يُولِّد السوداء، ويحبِسُ الطبع، وهو من شر الغذاء، إلا أنه ينفع من الاستسقاء.
لحم السُّمَانى: حارٌ يابس، ينفعُ المفاصل، ويضُرُّ بالكَبِدِ الحار، ودفعُ مضَّرته بالخَلِّ والكُسْفَرَة، وينبغى أن يُجتنبَ مِن لحوم الطير ما كان فى الآجام والمواضع العَفِنة.
ولحومُ الطير كلها أسرعُ انهضاماً من المواشى، وأسرعُها انهضاماً أقلُّها غذاءً، وهى الرِّقاب والأجنحة، وأدمغتُها أحمد من أدمغة المواشى.
الجراد: فى "الصحيحين": عن عبد الله بن أبى أوْفَى قال: "غزونا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعَ غَزَواتٍ، نأكُلُ الجَرَادَ".
وفى "المسند" عنه: "أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ ودَمَانِ: الحُوتُ والجرادُ، والكَبِدُ والطِّحالُ". يُروى مرفوعاً وموقوفاً على ابن عمر رضى الله عنه.
وهو حارٌ يابس، قليل الغذاء، وإدامةُ أكله تُورث الهزال، وإذا تُبُخِّرَ به نفع من تقطير البَوْل وعُسرِه، وخصوصاً للنساء، ويُتبخَّر به للبواسير، وسِمانُه يُشوى ويُؤكل للسع العقرب، وهو ضار لأصحابِ الصَّرع، ردىء الخَلط.
وفى إباحة ميتته بلا سبب قولان: فالجمهور على حِلِّه، وحرَّمه مالك، ولا خِلافَ فى إباحة ميتته إذا مات بسبب، كالكبسِ والتحريق ونحوه.

فصل: [فى ضرر المداومة على أكل اللَّحم]
وينبغى أن لا يُداوَمَ على أكل اللَّحم، فإنه يُورث الأمراض الدموية والامتلائية، والحمّياتِ الحادَّة، وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: إياكم واللَّحم، فإنَّ له ضَرَاوةً كضراوة الخَمر ،[وإنَّ الله يبغض أهل البيت اللَّحمين] (1). ذكره مالك فى الموطأ عنه.
وقال "أبقراط": لا تجعلوا أجوافكم مقبرةً للحيوان
فصل: فى الألبان
اللَّبن: قال الله تعالى: { وَإنَّ لَكُمْ فِى الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً، نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِّلشَّارِبينَ} [النحل: 66].
وقال فى الجنَّة: {فِيهَا أنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ}[محمد: 15]
وفى "السنن" مرفوعاً: "مَن أطْعَمَهُ اللهُ طَعاماً فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ بَارِكْ لنا فيه، وارزُقْنا خَيراً منه، وَمَن سقاه اللهُ لبناً، فَلْيَقُلْ: اللُّهُمَّ بَارِكْ لنا فيه، وزِدْنا منه، فإنى لا أعلم ما يُجْزِئ من الطعام والشرابِ إلا اللَّبَن".
اللَّبن: وإن كان بسيطاً فى الحس، إلا أنه مُركَّب فى أصل الخِلقة تركيباً طبيعياً من جواهرَ ثلاثةٍ: الجُبْنِيةِ، والسَّمنيةِ، والمائيَّةِ. فالجُبْنِيةُ: باردة رطبة، مُغذِّية للبدن. والسَّمنيةُ: معتدلة الحرارة والرطوبة ملائمة للبدن الإنسانى الصحيح، كثيرةُ المنافع. والمائيةُ: حارة رطبة، مُطْلِقة للطبيعة، مُرطِّبة للبدن. واللَّبنُ على الإطلاق أبردُ وأرطبُ مِنَ المعتدل.
__________
(1) قال منسق الكتاب للشاملة : ما بين المعكوفتين ليس في ط الرسالة ، ووجدته في مطبوعة أخرى لزاد المعاد .. ، ولم أجده في الموطأ

وقيل: قوَّتُه عند حلبه الحرارةُ والرطوبةُ، وقيل: معتدل فى الحرارة والبرودة.
وأجودُ ما يكون اللَّبن حين يُحلب، ثم لا يزال تنقصُ جُودتُه على ممر الساعات، فيكونُ حين يُحلب أقلَّ برودةً، وأكثرَ رطوبةً، والحامِض بالعكس، ويُختار اللَّبن بعد الولادة بأربعين يوماً، وأجودُه ما اشتد بياضُه، وطاب ريحُه، ولذَّ طعمُه، وكان فيه حلاوةٌ يسيرة، ودُسومةٌ معتدِلة، واعتدل قِوَامه فى الرِّقة والغِلَظِ، وحُلِبَ من حيوان فتيٍ صحيح، معتدِلِ اللَّحم، محمودِ المرعَى والمَشربَ.
وهو محمودٌ يُوَلِّد دماً جيداً، ويُرَطِّب البدنَ اليابس، ويغذو غِذَاءً حسناً، وينفع مِن الوَسواس والغم والأمراض السوداويَّة، وإذا شُرِبَ مع العسل نقَّى القُروح الباطنة من الأخلاط العفنة. وشُربُه مع السكر يُحسِّنُ اللَّون جداً.
والحليب يتدارك ضرر الجِماع، ويُوافق الصدر والرئة، جيد لأصحاب السُّل، ردىء للرأس والمَعِدَة، والكبد والطِّحال، والإكثارُ منه مضرٌ بالأسنان واللِّثَة، ولذلك ينبغى أن يُتمضمض بعدَه بالماء، وفى "الصحيحين": أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرب لبناً، ثم دعا بماء فتمضمض وقال: "إنَّ لَهُ دَسَماً".
وهو ردىء للمحمومين، وأصحاب الصُّداع، مؤذٍ للدماغ، والرأس الضعيف. والمُداومةُ عليه تُحدث ظلمة البصر والغِشاء، ووجع المفاصل،

وسُدة الكبد، والنفخ فى المعدة والأحشاء، وإصلاحُه بالعسل والزنجبيل المربى ونحوه، وهذا كُلُّهُ لمن لم يعتدْه.
لبن الضَّأْن: أغلظُ الألبان وأرطبُهَا، وفيه من الدُّسومة والزُّهومة ما ليس فى لبن الماعِز والبقر، يُوَلِّدُ فضولاً بلغميّاً، ويُحدِث فى الجلدِ بياضاً إذا أُدمن استعمالُه، ولذلك ينبغى أن يُشاب هذا اللَّبنُ بالماء ليكون ما نال البدنُ منه أقل، وتسكينُه للعطش أسرع، وتبريدُه أكثر.
لبن المَعْز: لطيف معتدل، مُطْلِق للبطن، مُرَطِّب للبدن اليابس، نافع مِن قروح الحلق، والسُّعال اليابس، ونفث الدم.
واللَّبنُ المطلَقُ أنفعُ المشروبات للبدن الإنسانىِّ لما اجتمع فيه من التغذية والدَّموية، ولاعتيادِهِ حالَ الطفولية، وموافقتِهِ للفطرة الأصلية.
وفى "الصحيحين": "أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتىَ ليلةَ أُسْرِىَ به بقَدَحٍ من خَمْرٍ، وقَدَحٍ من لَبَنٍ، فنظر إليهما، ثم أخذ اللَّبنَ، فقال جبريل: الحمدُ للهِ الذى هَدَاك لِلفِطْرَةِ، لو أخَذْتَ الخَمْرَ، غَوَتْ أُمَّتُكَ". والحامض منه بطىء الاستمراء، خامُ الخِلط، والمَعِدَة الحارة تهضِمُهُ وتنتفعُ به.
لبن البَقَر: يَغذُو البدن، ويُخصبه، ويُطلق البطن باعتدال، وهو من أعدل الألبان وأفضلها بين لبن الضأن ولبن المعز، فى الرِّقَة والغِلظ والدَّسم.
وفى "السنن": من حديث عبد الله بن مسعود يرفعه: " عليكم بألبانِ البَقَرِ، فإنها تَرُمُّ من كُلِّ الشَّجَرِ ". لبن الإبلِ: تقدَّم ذكره فى أول الفصل، وذكر منافعه، فلا حاجة

لإعادته.
لُبَانٌ: هو الكُنْدُرُ: قد ورد فيه عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَخِّروا بُيُوتَكُم باللُّبان والصَّعْتَرِ "، ولا يصحُّ عنه، ولكن يُروى عن علىٍّ أنه قال لرجل شكا إليه النسيانَ: عليك باللُّبان، فإنه يُشَجِّع القلبَ، ويَذْهَبُ بالنِّسيان. ويُذكر عن ابن عباس رضى الله عنهما أنَّ شُربه مع السُّكَّر على الريق جيدٌ للبَوْل والنِّسيان. ويُذكر عن أنس رضى الله عنه أنه شكا إليه رجلٌ النسيانَ، فقال: عليك بالكُنْدُر وانقَعْهُ مِن اللَّيل، فإذا أصبحتَ، فخُذْ منه شربةً على الرِّيق، فإنه جَيِّدٌ للنِّسيان.
ولهذا سبب طبيعى ظاهر، فإن النِّسيانَ إذا كان لسوء مزاج بارد رطب يغلبُ على الدماغ، فلا يحفَظُ ما ينطبعُ فيه، نفع منه اللُّبان، وأمَّا إذا كان النِّسيانُ لغلبة شىء عارض، أمكن زوالُه سريعاً بالمرطبات. والفرق بينهما أنَّ اليبوسىَّ يتبعه سهر، وحفظ الأُمور الماضية دون الحالية، والرُّطوبى بالعكس.
وقد يُحدِثُ النِّسيانَ أشياءُ بالخاصية، كحجامةُ نُقْرة القفا، وإدمانِ أكل الكُسْفُرَة الرطبة، والتفاحِ الحامض، وكثرةِ الهَمِّ والغَمِّ، والنظرِ فى الماء الواقف، والبَوْلِ فيه، والنظر إلى المَصلوب، والإكثارِ من قراءة ألواح القُبور، والمشى بين جَمَلين مقطُورَين، وإلقاء القملِ فى الحياض، وأكل سُؤْر الفأر، وأكثَرُ هذا معروف بالتجربة.
والمقصود: أنَّ اللُّبان مسخِّن فى الدرجة الثانية، ومجفِّف فى الأُولى، وفيه قبض يسير، وهو كثيرُ المنافع، قليل المضار، فمن منافعه: أن ينفع مِن قذف الدم ونزفه، ووجع المَعِدَة، واستطلاق البطن، ويهضِمُ الطعام،

ويطْرُدُ الرِّياح، ويجلُو قروح العَيْن، ويُنبت اللَّحم فى سائر القروح، ويُقَوِّى المَعِدَة الضعيفة، ويُسخِّنها، ويُجفف البلغم، ويُنَشِّف رطوباتِ الصدر، ويجلو ظُلمة البصر، ويمنع القروح الخبيثة من الانتشار، وإذا مُضِغَ وحدَه، أو مع الصَّعْتر الفارسىِّ جلب البلغم، ونفع من اعتقالِ اللِّسان، ويزيدُ فى الذهن ويُذكيه، وإن بُخِّرَ به ماء، نفع من الوباء، وطيَّبَ رائحة الهواء.
حرف الميم
ماءٌ: مادةُ الحياة، وسَيِّدُ الشَّراب، وأحد أركان العالَم، بل ركنُه الأصلى، فإنَّ السمواتِ خُلِقَتْ من بُخَارِه، والأرضَ مِن زَبَده، وقد جعل الله منه كُلَّ شىءٍ حىٍّ.
وقد اختُلِف فيه: هل يَغذُو، أو يُنفذ الغذاءَ فقط ؟ على قولين، وقد تقدَّما، وذكرنا القول الراجح ودليله.
وهو بارد رطب، يَقمعُ الحرارة، ويحفظ على البدن رطوباتِهِ، ويرُد عليه بدلَ ما تحلَّلَ منه، ويُرقِّق الغذاء، ويُنفذه فى العروق.
وتُعتبر جودةُ الماء من عشرة طرق:
أحدها: مِن لونه بأن يكون صافياً.
الثانى: مِن رائحته بأن لا تكون له رائحة البتة.
الثالث: مِن طعمه بأن يكون عذبَ الطعم حُلوَه، كماء النِّيل والفُرَات.
الرابع: مِن وزنه بأن يكون خفيفاً رقيقَ القِوام.

الخامس: مِن مجراه، بأن يكون طيِّبَ المجرى والمسلك.
السادس: مِن منْبَعه بأن يكون بعيدَ المنبع.
السابع: مِن برُوزه للشمس والرِّيح، بأن لا يكون مختفياً تحت الأرض، فلا تتمكن الشمس والريح من قُصارته.
الثامن: مِن حركته بأن يكونَ سريع الجرى والحركة.
التاسع: مِن كثرته بأن يكونَ له كثرة يدفع الفضلاتِ المخالطة له.
العاشر: مِن مصبه بأن يكون آخذاً من الشَّمال إلى الجنوب، أو من المغرب إلى المشرق.
وإذا اعتبرتَ هذه الأوصاف، لم تجدها بكمالها إلا فى الأنهار الأربعة: النيلِ، والفُرات، وسَيْحونَ، وجَيْحونَ.
وفى "الصحيحين" من حديث أبى هُريرة رضى الله عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَيْحَانُ، وجَيْحَانُ، والنِّيلُ، والفُرَاتُ، كُلٌ من أنهارِ الجنَّة".
وتُعتبر خِفة الماء من ثلاثة أوجه، أحدها: سُرعة قبوله للحر والبرد. قال "أبقراط": المَاء الذى يسخُن سريعاً، ويبرُد سريعاً أخفُّ المياه.
الثانى: بالميزان.
الثالث: أن تُبَل قُطنتان متساويتا الوزنِ بماءين مختلفين، ثم يُجففا بالغاً، ثُم توزنا، فأيتهما كَانت أخفَّ، فماؤها كذلك.
والماءُ وإن كان فى الأصل بارداً رطباً، فإن قُوَّته تنتقِلُ وتتغيَّرُ لأسباب عارضة تُوجب انتقالها، فإن الماء المكشوفَ للشَّمال المستورَ عن الجهات

الأُخَر يكون بارداً، وفيه يبس مكتسب من ريح الشَّمال، وكذلك الحكمُ على سائر الجهات الأُخَر.
والماءُ الذى ينبُع من المعادن يكونُ على طبيعة ذلك المَعْدِنِ، ويؤثر فى البدن تأثيره.
والماءُ العذب نافع للمرضى والأصحاء، والباردُ منه أنفعُ وألذُّ، ولا ينبغى شربُه على الريق، ولا عَقيبَ الجِمَاع، ولا الانتباهِ من النوم، ولا عَقيبَ الحمَّام، ولا عَقيبَ أكل الفاكهة، وقد تقدَّم. وأما على الطعام، فلا بأس به إذا اضطُّر إليه، بل يتعيَّنُ ولا يُكثر منه، بل يتمصَّصُه مصّاً، فإنه لا يضرُّه ألبتة، بل يُقَوِّى المعدة، ويُنهض الشهوة، ويُزيل العطش.
والماء الفاتر ينفخ ويفعل ضِدَّ ما ذكرناه، وبائتُه أجودُ مِن طريِّه وقد تقدَّم. والباردُ ينفع من داخل أكثرَ مِن نفعه من خارج، والحارُّ بالعكسِ، وينفعُ الباردُ مِن عفونة الدم، وصعود الأبخرة إلى الرأس، ويدفع العفوناتِ، ويُوافق الأمزجةَ والأسنان والأزمانَ والأماكنَ الحارَّة، ويضر على كل حالة تحتاج إلى نُضج وتحليل، كالزكام والأورام، والشديدُ البرودةِ منهُ يُؤذى الأسنان، والإدمانُ عليه يُحدث انفجارَ الدَّم والنزلاتِ، وأوجاعَ الصدر.
والبارد والحار بإفراط ضارَّان للعصب ولأكثر الأعضاء، لأن أحدَهما محلِّل، والآخر مُكَثِّف، والماء الحار يُسَكِّن لذع الأخلاط الحادة، ويُحلِّل ويُنضج، ويُخرج الفضول، ويُرطِّب ويُسَخِّن، ويُفسد الهضمَ شربُه، ويَطفُو بالطعام إلى أعلى المعدة ويُرخيها، ولا يُسرع فى تسكين العطش، ويُذبل البدن، ويُؤدى إلى أمراض رديئة، ويضرُّ فى أكثر الأمراض على أنه صالح للشيوخ، وأصحاب الصَّرْعِ، والصُّداع البارد،

والرَّمد. وأنفعُ ما استُعمل مِن خارج.
ولا يصحُّ فى الماء المسخَّن بالشمس حديثٌ ولا أثر، ولا كرهه أحدٌ من قدماء الأطباء، ولا عابوه، والشديدُ السخونةِ يُذيب شحم الكُلَى.
وقد تقدَّم الكلام على ماء الأمطار فى حرف الغين.
ماء الثَّلْجِ والبَرَد: ثبت فى "الصحيحين": عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يدعو فى الاستفتاح وغيره: "اللهُمَّ اغْسِلنى من خطاياى بماءِ الثَّلْجِ والبَرَدِ".
الثلج له فى نفسه كيفية حادة دُخانية، فماؤه كذلك، وقد تقدَّم وجهُ الحكمة فى طلب الغسل مِن الخطايا بمائه لما يحتاج إليه القلبُ من التبريد والتَّصْلِيب والتقوية، ويُستفاد من هذا أصلُ طبِّ الأبدان والقلوب، ومعالجةُ أدوائها بضدها.
وماء البَرَد ألطف وألذُّ من ماء الثلج، وأما ماءُ الجَمَد وهو الجليد فبحسب أصله.والثلج يكتسب كيفية الجبالِ والأرضِ التى يسقُط عليها فى الجودة والرداءة، وينبغى تجنُّب شربِ الماء المثلوج عقيبَ الحمَّام والجِمَاع، والرياضة والطعام الحار، ولأصحاب السُّعَال، ووجع الصدر، وضعف الكَبِد، وأصحاب الأمزجة الباردة.
ماء الآبار والقُنِىِّ: مياهُ الآبار قليلة اللَّطافة، وماء القُنِىِّ المدفونة تحت الأرض ثقيل، لأن أحدهما محتقِنٌ لا يخلو عن تعفُّن، والآخر محجوبٌ عن الهواء، وينبغى ألا يُشربَ على الفور حتى يصمدَ للهواء، وتأتىَ عليه ليلةٌ، وأردؤه ما كانت مجاريه مِن رَصاص، أو كانت بئره معطَّلة، ولا سِيَّما إذا كانت تربُتَها رديئَةٌ، فهذا الماء وبىءٌ وخيم.

ماء زمزمَ: سيِّدُ المياه وأشرفُهَا وأجلُّهَا قدراً، وأحبُّها إلى النفوس وأغلاها ثمناً، وأنَفَسُهَا عند الناس، وهو هَزْمَةُ جبريلَ، وسُقيَا الله إسماعيلَ.
وثبت فى "الصحيح": عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال لأبى ذَرٍّ وقد أقام بين الكعبة وأستارِهَا أربعينَ ما بين يومٍ وليلةٍ، ليس له طعامٌ غيرُه؛ فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنها طَعَامُ طُعْمٍ". وزاد غيرُ مسلم بإسناده: "وشفاءُ سُقْمٍ".
وفى "سنن ابن ماجه": من حديث جابر بن عبد الله، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ماءُ زَمْزَمَ لِما شُرِبَ له". وقد ضعَّف هذا الحديثَ طائفةٌ

بعبد الله ابن المؤمَّل راويه عن محمد بن المنكدر. وقد روينا عن عبد الله بن المبارَك، أنه لمَّا حَجَّ، أتى زَمْزَمَ، فقال: اللهُمَّ إنَّ ابن أبى الموالى حدَّثنا عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر رضى الله عنه، عن نبيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ماءُ زمزمَ لما شُرِبَ له"، وإنِّى أشربُه لظمإ يوم القيامة.. وابن أبى الموالى ثقة، فالحديث إذاً حسن، وقد صحَّحه بعضُهم، وجعله بعضُهم موضوعاً، وكِلا القولين فيه مجازفة.
وقد جربتُ أنا وغيرى من الاستشفاء بماء زمزمَ أُموراً عجيبة، واستشفيتُ به من عدة أمراض، فبرأتُ بإذن الله، وشاهدتُ مَن يتغذَّى به الأيامَ ذواتِ العدد قريباً من نصف الشهر، أو أكثر، ولا يجِدُ جوعاً، ويطوفُ مع الناس كأحدهم، وأخبرنى أنه ربما بقى عليه أربعين يوماً، وكان له قوةٌ يجامع بها أهله، ويصوم، ويطوف مراراً.
ماء النِّيل: أحد أنهارِ الجنَّة، أصلُه مِن وراء جبال القمر فى أقصى بلاد الحبشة مِن أمطار تجتمِعُ هناك، وسيول يمدُّ بعضُها بعضاً، فيسوقُه الله تعالى إلى الأرض الجُرُزِ التى لا نبات لها، فيُخرج به زرعاً، تأكل منه الأنعام والأنام.ولما كانت الأرضُ التى يسوقه إليها إبْليزاً صلبة، إن أُمطرت مطر العادة، لم ترو، ولم تتهيأ للنبات، وإن أُمطرت فوق العادة، ضرَّتْ المساكنَ والسَّاكِن، وعطَّلتْ المعايشَ والمصالح، فأمطرَ البلادَ البعيدة، ثم ساق تلك الأمطارَ إلى هذه الأرض فى نهر عظيم، وجعل سبحانه زيادَته فى أوقات معلومة على قدرِ رِىِّ البلاد وكِفايتها، فإذا أروى البلادَ وعمَّها، أذن سبحانَه بتناقُصِهِ وهُبوطه لتتم المصلحةُ بالتمكن مِن الزرع، واجتمع فى هذا الماء الأمورُ العشرة التى تقدَّم ذكرُها، وكان

من ألطف المياه وأخفها وأعذبها وأحلاها.
ماء البحر: ثبت عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال فى البحر: "هو الطَّهورُ ماؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُه". وقد جعله الله سبحانه مِلْحاً أُجَاجاً مُرّاً زُعَاقاً لتمام مصالح مَنْ هو على وجه الأرض مِن الآدميين والبهائم، فإنه دائمٌ راكدٌ كثيرُ الحيوان، وهو يموتُ فيه كثيراً ولا يُقبر، فلو كان حلواً لأنتَنَ من إقامته وموت حيواناته فيه وأجافَ، وكان الهواءُ المحيطُ بالعالَم يكتسِبُ منه ذلك، وينتُن ويجيف، فيفسُد العالَمِ، فاقتضت حكمةُ الرَّب سبحانه وتعالى أن جعله كالملاحة التى لو أُلقِىَ فيه جِيَفَ العالَم كلُّها وأنتانُه وأمواتُه لم تُغيره شيئاً، ولا يتغير على مُكثهِ مِن حين خُلق، وإلى أن يَطْوِىَ اللهُ العالَم، فهذا هو السبب الغائي الموجب لملوحته. وأمَّا الفاعلىُّ، فكونُ أرضِه سَبِخَةً مالحةً.
وبعد.. فالاغتسالُ به نافع من آفات عديدة فى ظاهر الجلد، وشربُه مُضِرٌ بداخله وخارجه، فإنه يُطلق البطن، ويُهزل، ويُحدث حِكَّة وجرباً، ونفخاً وعطشاً، ومَن اضطر إلى شربه فله طرق من العلاج يدفعُ به مضرتَه.
منها: أن يُجعل فى قدِر، ويُجعل فوق القِدر قصباتٌ وعليها صوفٌ جديد منفوش، ويُوقد تحت القِدر حتى يرتفع بخارُها إلى الصُّوف، فإذا كثُر عَصَره، ولا يزال يفعل ذلك حتى يجتمع له ما يريد، فيحصل فى الصُّوف من البُخار ما عَذُبَ، ويبقى فى القِدْرِ الزُّعاق.
ومنها: أن يُحفر على شاطئه حُفرة واسعة يرشُح ماؤه إليها، ثم إلى جانبها قريباً منها أُخرى ترشَح هى إليها، ثم ثالثةٌ إلى أن يعذُبَ الماءُ. وإذا ألجأتْه الضرورةُ إلى شُرب الماء الكَدِرِ، فعِلاجُه أن يُلقَى فيه نَوى المِشمش،

أو قطعة من خشب الساج، أو جمراً ملتهباً يُطفأُ فيه، أو طيناً أرْمَنِيّاً، أو سَويقَ حِنطة، فإنَّ كُدرته ترسبُ إلى أسفل.
مِسْكٌ: ثبت فى "صحيح مسلم"، عن أبى سعيد الخُدرىِّ رضى الله عنه، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أطيبُ الطِّيبِ المِسْكُ".
وفى "الصحيحين" عن عائشة رضى الله عنها: "كنتُ أُطيِّبُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يَحْرِمَ ويومَ النَّحْرِ قبل أن يطوفَ بالبيت بطيبٍ فيه مِسْكٌ".
المِسك: مَلِكُ أنواعِ الطيب، وأشرُفهَا وأطيُبَها، وهو الذى تُضرب به الأمثال، ويُشَبَّه به غيرُه، ولا يُشبَّه بغيره، وهو كُثبان الجنَّة، وهو حارٌ يابس فى الثانية، يَسُرُّ النفس ويُقَوِّيها، ويُقَوِّى الأعضاء الباطنة جميعها شُرباً وشمّاً، والظاهرةَ إذا وُضِعَ عليها. نافع للمشايخ، والمبرودين، لا سِيَّما زمن الشتاء، جيد للغَشْى والخفقانِ، وضعف القوة بإنعاشه للحرارة الغريزية، ويجلو بياضَ العين، ويُنشِّف رطوبتها، ويَفُشُّ الرياح منها ومن جميع الأعضاء، ويُبطل عملَ السموم، وينفعُ مِن نَهْش الأفاعى، ومنافِعُه كثيرة جداً، وهو أقوى المفرِّحات.
مَرْزَنْجُوش: ورد فيه حديث لا نعلم صحته: "عليكم بالْمَرْزَنْجُوش، فإنه جيدٌ لِلخُشامِ". و"الخُشام": الزُّكام.
وهو حارٌ فى الثالثة يابس فى الثانية، ينفع شمُّه من الصُّداع البارد،

والكائن عن البلغم، والسوداء، والزُّكام، والرياح الغليظة، ويفتح السُّدد الحادثة فى الرأس والمنخرين، ويُحلِّل أكثرَ الأورام الباردة، فينفعُ مِن أكثر الأورام والأوجاع الباردة الرَّطبة، وإذا احتُمِل، أدرَّ الطَّمث، وأعان على الحَبَل، وإذا دُقَّ ورقُه اليابس، وكُمِدَ به، أذهب آثارَ الدَّم العارض تحت العَيْن، وإذا ضُمِّد به مع الخل، نفع لسعة العقرب. ودُهنه نافع لوجع الظهر والرُّكبتين، ويُذهب بالإعياء، ومَن أدْمَن شمَّه لم ينزل فى عينيه الماء، وإذا استُعِطَ بمائه مع دُهن اللَّوز المُر، فتح سُدد المنخرين، ونفع مِن الريح العارضة فيها، وفى الرأس
مِلحٌ: روى ابن ماجه فى "سننه": من حديث أنس يرفعه: "سَيِّدُ إدامِكُم المِلحُ". وسيد الشىء: هو الذى يُصلحه، ويقومُ عليه، وغالبُ الإدام إنما يصلح بالملح.
وفى "مسند البزَّار" مرفوعاً: "سَيُوشِكُ أن تكونوا فى النَّاس مِثْلَ المِلْحِ فى الطَّعَام، ولا يَصلُحُ الطَّعَامُ إلا بالمِلْحِ".
وذكر البغوىُّ فى "تفسيره": عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما مرفوعاً: "إنَّ اللهَ أنزلَ أربعَ بركاتٍ من السَّمَاء إلى الأرْضِ: الحَدِيدَ، والنارَ، والماءَ، والمِلْحَ". والموقوف أشبَهُ.
المِلْحُ يُصلِح أجسام الناس وأطعمتهم، ويُصلِح كُلَّ شىء يُخالطه حتى الذَّهبَ والفِضَّة، وذلك أن فيه قوةً تزيدُ الذهبَ صُفرةً، والفِضَّةَ بياضاً، وفيه جِلاءٌ وتحليل، وإذهابٌ للرطوبات الغليظة، وتنشيفٌ لها، وتقويةٌ للأبدان، ومنعٌ من عفونتها وفسادها، ونفعٌ من الجرب المتقرِّح.

وإذا اكتُحِلَ به، قلع اللَّحم الزائد من العَيْن، ومحَقَ الظَّفَرَة. والأندرانى أبلغُ فى ذلك، ويمنعُ القروحَ الخبيثة من الانتشار، ويُحدِرُ البراز، وإذا دُلِكَ به بطونُ أصحابِ الاستسقاء، نفعهم، ويُنقى الأسنانَ، ويدفعُ عنها العُفُونة، ويشُدُّ اللِّثة ويُقويها، ومنافعه كثيرة جدّاً
حرف النون
نَخْلٌ: مذكور فى القرآن فى غير موضع، وفى "الصحيحين": عن ابن عمر رضى الله عنهما، قال: بيْنَا نحن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ أُتِىَ بجُمَّارِ نخلة، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ مِن الشَّجَرِ شَجَرةً مَثَلُها مَثَلُ الرَّجُلِ المسلِمِ لا يَسقُطُ وَرَقُها، أخْبِرُونى ما هِىَ ؟ فوقع الناسُ فى شجر البوادى، فوقع فى نفسى أنها النخلة، فأردتُ أن أقول: هى النخلة، ثم نظرتُ فإذا أنا أصغرُ القوم سِنّاً، فسكتُّ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هى النَّخْلَةُ "، فذكرتُ ذلك لعمرَ، فقال: لأَنْ تكونَ قُلْتَهَا أحبُّ إلىَّ من كذا وكذا.ففى هذا الحديث إلقاءُ العالِمُ المسائلَ على أصحابه، وتمرينُهم، واختبارُ ما عندهم.
وفيه ضربُ الأمثال والتشبيه.
وفيه ما كان عليه الصحابةُ من الحياء من أكابرهم وإجلالهم

وإمساكهم عن الكلام بين أيديهم. وفيه فرحُ الرجل بإصابة ولده، وتوفيقه للصوابوفيه أنه لا يُكره للولد أن يُجيبَ بما يَعْرِفُ بحضرة أبيه، وإن لم يَعرفه الأبُ، وليس فى ذلك إساءةُ أدب عليه.وفيه ما تضمنه تشبيهُ المسلم بالنخلة من كثرة خيرها، ودوامِ ظلها، وطيبِ ثمرها، ووجودِهِ على الدوام.
وثمرُها يؤكل رطباً ويابساً، وبلحاً ويانعاً، وهو غذاء ودواء وقوت وحَلْوى، وشرابٌ وفاكهة، وجذُوعها للبناء والآلات والأوانى، ويُتخَذ مِن خُوصها الحُصُر والمكاتِل والأوانى والمراوح، وغير ذلك، ومن ليفها الحبالُ والحشايا وغيرها، ثم آخر شىء نواها علفٌ للإبل، ويدخل فى الأدوية والأكحال، ثم جمالُ ثمرتها ونباتها وحسنُ هيئتها، وبهجةُ منظرها، وحسنُ نضد ثمرها، وصنعته وبهجته، ومسرَّةُ النفوس عند رؤيته، فرؤيتها مذكِّرة لفاطرها وخالقها، وبديع صنعته، وكمالِ قدرته، وتمامِ حكمته، ولا شىء أشبَهُ بها من الرجل المؤمن، إذ هو خيرٌ كُلُّهُ، ونفعٌ ظاهرٌ وباطن.
وهى الشجرة التى حَنَّ جِذعُها إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فارقه شوقاً إلى قُربه، وسماع كلامه، وهى التى نزلتْ تحتها مريمُ لما ولدتْ عيسى عليه السلام.
وقد ورد فى حديث فى إسناده نظرٌ: "أكرِمُوا عَمَّتَكُم النخلَةَ، فإنها خُلِقَتْ من الطِّين الذى خُلق منه آدَمُ".

وقد اختلف الناسُ فى تفضيلها على الحَبْلَةِ أو بالعكس على قولين، وقد قرن اللهُ بينهما فى كتابه فى غير موضع، وما أقْربَ أحدَهما من صاحبه، وإن كان كُلُّ واحد منهما فى محل سلطانه ومَنبِته، والأرض التى توافقه أفضلَ وأنفعَ.
نرجس: فيه حديث لا يصح: "عليكم بِشَمِّ النَّرجِس فإنَّ فى القَلْبِ حَبَّةَ الجنونِ والجُذام والبَرَصِ، لا يقطعُها إلا شمُّ النَّرجِسِ".
وهو حارٌ يابس فى الثانية، وأصلُه يُدمل القروحَ الغائرة إلى العَصَب، وله قوة غَسَّالة جَالِيَةٌ جَابِذَةٌ، وإذا طُبِخَ وشُرِبَ ماؤه، أو أُكِلَ مسلوقاً، هَيَّج القىء، وجذبَ الرطوبة من قعر المَعِدَة، وإذا طُبِخَ مع الكِرْسِنَّة والعسل، نقَّى أوساخَ القُروح، وفجَّر الدُّبَيْلاَتِ العَسِرَةِ النضج.
وزهرُه معتدل الحرارة، لطيفٌ ينفع الزُّكام البارد، وفيه تحليل قوى، ويفتحُ سُدد الدماغ والمنخرين، وينفعُ من الصُّداع الرطب والسَّوداوى، ويصدَعُ الرؤوس الحارة، والمُحْرَقْ منه إذا شُقَّ بصلُه صَلِيباً، وغُرِسَ، صار مضاعَفاً، ومَن أدْمَن شمَّه فى الشتاء أمِنَ من البِرْسام فى الصيف، وينفعُ مِن أوجاع الرأس الكائنة من البلغم والمِرَّة السوداء، وفيه من العِطرية ما يُقوِّى القلبَ والدماغ، وينفعُ من كثير من أمْراضها. وقال صاحب "التيسير": "شمُّه يُذهب بصَرْع الصبيان".
نُوَرةٌ: روى ابن ماجه: من حديث أُمِّ سلمة رضى الله عنها، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا اطََّلى بدأ بعورتِه، فطَلاَها بالنُّوَرة، وسائِرَ جسدِه أهلُه، وقد ورد فيها عدةُ أحاديث هذا أمثَلُها.

وقد قيل: إنَّ أولَ مَن دخل الحمَّام، وصُنِعَتْ له النُّوَرةُ: سليمانُ بن داودَ.
وأصلُها: كِلْسٌ جزآن، وزِرْنيخ جزء، يُخلطان بالماء، ويُتركان فى الشمس أو الحمَّام بقدر ما تَنْضَجُ، وتشتد زُرقته. ثم يُطلى به، ويجلِس ساعة رَيْثَما يعمل، ولا يُمَس بماء، ثم يُغسل، ويُطلى مكانها بالحِنَّاء لإذهاب ناريَّتِها.
نَبِقٌ: ذكر أبو نعيم فى كتابه "الطب النبوى" مرفوعاً: "إنَّ آدمَ لَمَّا أُهْبِطَ إلى الأرض كان أولَ شىء أكل مِن ثمارها النَّبِقُ".
وقد ذكر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِقَ فى الحديث المتفق على صحته: أنه رأى سِدْرَة المُنتهى ليلةَ أُسْرِىَ به، وإذا نَبِقُها مِثْلُ قِلالِ هَجَرٍ.
والنَبِق: ثمر شجر السدر يعقِل الطبيعة، وينفع من الإسهال، ويدبُغ المَعِدَة، ويُسَكِّن الصفراء، ويَغذو البدنَ، ويُشهِّى الطَّعام، ويُولِّد بلغماً، وينفع الذَّرَب الصفراوىَّ، وهو بطىء الهضم، وسَويقُه يُقوِّى الحشا، وهو يُصْلِحُ الأمزجة الصفراوية، وتُدفع مضرتُه بالشهد.واختُلِفَ فيه، هل هو رطب أو يابس ؟ على قولين. والصحيح: أنَّ رطبه بارد رطب، ويابسه بارد يابس.
حرف الهاء
هِنْدَبَا: ورد فيها ثلاثةُ أحاديث لا تصِحُّ عن رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يثبُت مثلها، بل هى موضوعة.. أحدها: "كُلُوا الهِندَبَاءَ ولا تَنْفُضُوهُ

فإنه ليس يومٌ مِنَ الأيام إلا وقَطَراتٌ من الجَنَّةِ تَقْطُر عليه". الثانى: "مَن أكَلَ الهِندبَاء، ثم نام عليها لم يَحِلَّ فيهِ سَمٌ ولا سِحرٌ". الثالث: "ما مِنْ وَرَقةٍ من وَرَقِ الهِنْدبَاء إلا وعليها قَطْرَةٌ من الجَنَّةِ".
وبعد.. فهى مستحيلة المزاج، منقلبةٌ بانقلاب فصول السنة، فهى فى الشتاء باردة رطبة، وفى الصيف حارة يابسة، وفى الرَّبيعِ والخريفِ معتدِلة، وفى غالب أحوالِها تميلُ إلى البرودة واليُبْس، وهى قابضة مبردةٌ، جيدةٌ للمَعِدَة، وإذا طُبِخَت وأُكلت بِخَلٍّ، عقَلتِ البطن وخاصةٌ البَرىَّ منها، فهى أجود للمَعِدَة، وأشد قبضاً، وتنفع مِن ضعفها.
وإذا تُضمِّد بها، سلبت الالتهاب العارض فى المَعِدَة، وتنفع من النقْرس، ومن أورام العَيْن الحارة. وإذا تُضمِّد بَوَرَقِها وأُصولها، نفعت من لسع العقرب.وهى تُقَوِّى المَعِدَة، وتفتح السُّدد العارضة فى الكَبِد، وتنفع مِن أوجاعها حارِّها وباردِها، وتفتح سُدَد الطِّحال والعروق والأحشاء، وتُنَقِّى مجارى الكُلَى.
وأنفعُهَا للكَبِدِ أمرُّها، وماؤها المعتَصَر ينفع من اليَرَقان السدَدى، ولا سِيَّما إذا خُلِط به ماء الرَّازَيَانَج الرطب، وإذا دُقَّ ورقُها، ووُضِع على الأورام الحارة برَّدها وحلَّلها، ويجلو ما فى المَعِدَة، ويُطفئُ حرارة الدَّم والصفراء.
وأصلحُ ما أُكلت غير مغسولة ولا منفوضة، لأنها متى غُسلت أو نُفِضَت، فارقتها قُوَّتُها، وفيها مع ذلك قوة تِرياقية تنفعُ مِن جميع السموم.

وإذا اكتُحِلَ بمائها، نفع من العَشَا، ويدخل ورقُها فى الترياق، وينفعُ من لدغ العقرب، ويُقاوِم أكثرَ السموم، وإذا اعتُصِرَ ماؤها، وصُبَّ عليه الزيتُ، خلَّص من الأدوية القتَّالة، وإذا اعتُصِرَ أصلُهَا، وشُرِبَ ماؤه، نفع من لسع الأفاعى، ولسع العقرب، ولسع الزنبور، ولبن أصلها يجلو بياضَ العَيْن.
حرف الواو
وَرْسٌ: ذكر الترمذى فى "جامعه": من حديث زيد بن أرْقمَ، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أنه كان ينعَتُ الزَّيْتَ والوَرْسَ من ذات الجَنْبِ"، قال قتادةُ: يُلَدُّ به، ويُلَدُّ من الجانبِ الذى يشتكِيه.
وروى ابن ماجه فى "سننه" من حديث زيد بن أرقم أيضاً، قال: "نعتَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن ذَاتِ الجَنْبِ وَرْساً وقُسْطاً وزيتاً يُلَدُّ به".
وصَحَّ عن أُمِّ سلمة رضى الله عنها قالت: "كانت النُّفَسَاءُ تَقْعُدُ بعدَ نِفاسِهَا أربعينَ يوماً، وكانت إحدانا تَطْلى الوَرْسَ على وَجْهِهَا من الكَلَف".

قال أبو حنيفة اللُّغوىُّ: الوَرْسُ يُزرع زرعاً، وليس ببَرِّىٍّ، ولستُ أعرفه بغيرِ أرضِ العربِ، ولا مِن أرض العرب بغير بلاد اليمن.وقوتُه فى الحرارة واليُبوسة فى أوَّل الدرجة الثانية، وأجودُه الأحمرُ اللَّيِّن فى اليد، القليلُ النُّخالة، ينفع من الكَلَفِ، والحِكَّة، والبثور الكائنة فى سطح البدن إذا طُلِىَ به، وله قوةٌ قابضة صابغة، وإذا شُرِبَ نفع مِن الوَضَحِ، ومقدارُ الشربة منه وزنُ درهم.وهو فى مزاجه ومنافعه قريبٌ من منافع القُسْط البحرىِّ، وإذا لُطخ به على البَهَق والحِكَّة والبثورِ والسُّفعة نفع منها، والثوبُ المصبوغ بالوَرْس يُقوِّى على الباه.
وسْمَةً: هى: ورق النيل، وهى تُسوِّد الشعر، وقد تقدَّم قريباً ذكرُ الخلاف فى جواز الصبغ بالسواد ومَن فعله.
حرف الياء
يَقْطِينٌ: وهو الدُّبَّاء والقرع، وإن كان اليقطينُ أعمَّ، فإنه فى اللُّغة: كل شجر لا تقومُ على ساق، كالبِّطيخ والقِثاء والخيار. قال الله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ}[الصافات:146]
فإن قيل: ما لا يقومُ على ساق يُسمى نَجْماً لا شجراً، والشجر: ما له ساق قاله أهل اللُّغة فكيف قال: {شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ}[الصافات:146] ؟ .فالجواب: أنَّ الشجر إذا أُطلِقَ، كان ما له ساق يقوم عليه، وإذا قُيِّدَ بشىءٍ تقيَّد به، فالفرقُ بين المطلقَ والمقيَّد فى الأسماء باب مهمٌ عظيم النفع فى الفهم، ومراتب اللُّغة.

واليقطين المذكور فى القرآن: هو نبات الدُّبَّاء، وثمره يُسمى الدُّبَّاء والقرْعَ، وشجرة اليقطين.وقد ثبت فى "الصحيحين": من حديث أنس بن مالك، أنَّ خياطاً دعا رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لطعام صنَعه، قال أنسٌ رضى الله عنه: فذهبتُ مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقرَّب إليه خُبزاً من شعير، ومرَقاً فيه دُبَّاءٌ وقَدِيدٌ، قال أنس: فرأيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتتبَّعُ الدُّبَّاء من حَوالى الصَّحْفَةِ، فلم أزل أُحِبُّ الدُّبَّاءَ من ذلك اليوم.وقال أبو طالُوتَ: دخلتُ على أنس بن مالك رضى الله عنه، وهو يأكل القَرْع، ويقول: يا لكِ من شجرةٍ ما أحبَّك إلىَّ لحُبِّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاكِ.
وفى "الغَيْلانيَّات": من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشةَ رضى الله عنها قالت: قال لى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا عائشةُ؛ إذا طبَخْتُم قِدْراً، فأكثِروا فيها من الدُّبَّاء، فإنَّهَا تَشُدُّ قَلْبَ الحَزِين".
اليقطين: بارد رطب، يغذو غِذاءً يسيراً، وهو سريعُ الانحدارِ، وإن لم يفسُد قبل الهضم، تولَّد منه خِلْطٌ محمود، ومِن خاصيته أنه يتولَّد منه خِلط محمود مجانس لما يصحبُه، فإن أُكِلَ بالخَرْدل، تولَّد منه خِلطٌ حِرِّيف، وبالملح خِلطٌ مالح، ومع القابض قابضٌ، وإن طُبخَ بالسفرجل غَذَا البدن غِذاءً جيداً.
وهو لطيفٌ مائىٌ يغذو غذاءً رطباً بلغمياً، وينفع المَحْرورين، ولا يُلائم المَبْرودين، ومَن الغالبُ عليهم البلغمُ، وماؤه يقطعُ العطش، ويُذهبُ الصُّداع الحار إذا شُرِبَ أو غُسِلَ به الرأسُ، وهو مُليِّن للبطن

كيف استُعْمِل، ولا يتداوَى المحرورون بمثله، ولا أعجلَ منه نفعاً.ومن منافعه: أنه إذا لُطِخَ بعجين، وشُوِىَ فى الفرن أو التَّنُّور، واستُخْرِج ماؤه وشُرِبَ ببعض الأشربة اللَّطيفة، سَكَّن حرارة الحُمَّى الملتهبة، وقطع العطش، وغذَّى غِذاءً حسناً، وإذا شُرِبَ بترنْجبين وسَفَرْجَل مربَّى أسهل صفراءَ محضةً.
وإذا طُبِخَ القرعُ، وشُرِبَ ماؤه بشىءٍ من عسل، وشىءٍ من نَطْرون، أحدَرَ بلغماً ومِرَّة معاً، وإذا دُقَّ وعُمِلَ منه ضِمادٌ على اليافوخ، نفع من الأورام الحارة فى الدماغ.
وإذا عُصِرَت جُرَادتُه، وخُلِطَ ماؤها بدُهن الورد، وقُطِر منها فى الأُذن، نفعتْ مِن الأورام الحارة، وجُرادتُه نافعة من أورامِ العَيْن الحارة، ومن النِّقْرِس الحار.وهو شديدُ النفع لأصحاب الأمزجة الحارة والمحمومين، ومتى صادف فى المَعِدَة خِلطاً رديئاً، استحال إلى طبيعته، وفسد، وولَّد فى البدن خِلْطاً رديئاً، ودفعُ مضرته بالخلِّ والمُرِّى.وبالجملةِ.. فهو من ألطفِ الأغذيةِ، وأسرعِهَا انفعالاً، ويُذكر عن أنس رضى الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُكثرُ مِن أكلِه.

[فصول متفرقة من الوصايا النافعة فى العِلاج والتدبير ]
فصل
وقد رأيتُ أن أختِمَ الكلامَ فى هذا البابِ بفصلٍ مختصر عظيمِ النفع

فى المحاذِرِ، والوصايا الكلية النافعةِ لِتتمَّ منفعةُ الكتاب
ورأيتُ لابن ماسَوَيْه فصلاً فى كتاب "المحاذير" نقلتُه بلفظه، قال:"مَن أكل البصلَ أربعين يوماً وكَلِفَ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه.ومَن افتَصد، فأكل مالِحاً فأصابه بَهَقٌ أو جَرَبٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه.
ومَن جمع فى مَعِدَته البيض والسمكَ، فأصابه فالِج أو لَقْوةٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه.
ومَن دخلَ الحمَّامَ وهو ممتلئ، فأصابه فالجٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسه.
ومَن جمع فى مَعِدته اللَّبنَ والسَّمكَ، فأصابه جُذام، أو بَرَصٌ أو نِقْرِسٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه.
ومَن جمع فى مَعِدَتِهِ اللَّبنَ والنِّبيذَ، فأصابه بَرَصٌ أو نِقْرِسٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه.
ومَن احتَلَم، فلم يغتسلْ حتى وَطِىءَ أهلَه، فولدتْ مجنوناً أو مَخَبَّلاً، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه.
ومَن أكل بَيْضاً مسلوقاً بارداً، وامتلأ منه، فأصابه رَبوٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه.ومَن جامَعَ، فلم يَصْبِر حتى يُفْرِغَ، فأصابه حصاة، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه.
ومَن نظر فى المرآة ليلاً، فأصابه لَقْوة، أو أصابه داء، فلا يلومَنَّ إلاَّ نفسَه".

فصل [فى التحذير من الجمع بين البَيْض والسَّمَك]
وقال ابن بَخْتَيَشُوع: "احذرْ أن تجمعَ البَيْضَ والسَّمكَ، فإنهما يُورثان القُولنْج والبواسير، ووجعَ الأضراس"
وإدامةُ أكل البَيْض يُوَلِّد الكَلَف فى الوجه، وأكلُ الملوحة والسَّمَك المالح والافتصاد بعد الحمَّام يُولِّد البَهَق والجَرَب.
إدامةُ أكل كُلَى الغنم يَعقِرُ المثانة.
الاغتسالُ بالماء البارد بعد أكل السَّمَكِ الطرىِّ يُولِّدُ الفالج.
وطءُ المرأة الحائض يُولِّدُ الجُذام.
الجماعُ من غير أن يُهَرِيقَ الماء عقيبَه يُولِّد الحصاة.
"طولُ المُكث فى المَخْرج يُولِّد الداءَ الدَّوِىَّ".
وقال أبقراط: "الإقلال مِن الضار، خيرٌ مِن الإكثار من النافع"، وقال: "استديموا الصحة بتركِ التكاسل عن التعب، وبتركِ الامتلاء من الطعام والشراب".
وقال بعضُ الحكماء: "مَن أراد الصِّحة، فليجوِّد الغِذاء، وليأكل على نقاء، وليشرب على ظمإٍ، وليُقلِّلْ مِن شُرب الماء، ويتمدَّدْ بعد الغداء، ويَتَمشَّ بعدَ العَشاء، ولا ينم حتى يَعْرِضَ نفسَه على الخَلاء، وليحذر دخول الحمَّام عقيبَ الامتلاء، ومرةٌ فى الصيف خيرٌ من عشرٍ فى الشتاء، وأكلُ القديد اليابس بالليل مُعِينٌ على الفناء، ومجامعةُ العجائز تُهْرِمُ أعمارَ الأحياءِ، وتُسقِم أبدان الأصحاء".
ويُروى هذا عن علىٍّ رضى الله عنه، ولا يَصِحُّ عنه، وإنما بعضُه مِن كلام الحارث بن كلَدَةَ طبيبِ العرب، وكلامِ غيره.

وقال الحارث: "مَن سَرَّه البقاء ولا بقاء فليُباكِرِ الغَداء، وليُعَجِّل العَشَاء، وليُخفِّف الرِّداء، وليُقِلَّ غِشيان النساء".
وقال الحارث: "أربعةُ أشياءَ تهدِمُ البدن: الجِماعُ على البِطْنة، ودخولُ الحمَّام على الامتلاء، وأكلُ القديد، وجِماعُ العجوز".ولما احتُضِرَ الحارث اجتمع إليه الناسُ، فقالوا: مُرْنا بأمر ننتهى إليه مِن بعدك. فقال: "لا تتزوجوا من النساء إلا شابةً، ولا تأكلوا من الفاكهة إلا فى أوان نُضجها، ولا يتعالجَنَّ أحدُكم ما احتمل بدنه الداء، وعليكم بتنظيف المَعِدَة فى كل شهر، فإنها مُذيبة للبلغم، مُهلكة للمِرَّة، مُنبتة للحم، وإذا تَغدَّى أحدكم، فلينم على إثر غدائه ساعة، وإذا تعشَّى فليمشِ أربعين خطوةً".
وقال بعض الملوك لطبيبه: لعلَّك لا تبقَى لى، فصِفْ لى صِفة آخذُها عنك، فقال: "لا تنكِحْ إلا شابةً، ولا تأكُلْ مِن اللَّحم إلا فَتِّياً، ولا تشربِ الدواء إلا من عِلَّة، ولا تأكُلِ الفاكهةَ إلا فى نُضجها، وأجِدْ مضغَ الطعام، وإذا أكلتَ نهاراً فلا بأس أن تنامَ، وإذا أكلتَ ليلاً فلا تنم حتى تمشىَ ولو خمسين خطوة، ولا تأكلنَّ حتى تجوع، ولا تتكارَهَنَّ على الجِمَاع، ولا تحبِس البَوْل، وخُذ مِن الحَمَّام قبلَ أن يأخُذَ منك، ولا تأكلَنَّ طعاماً وفى مَعِدَتِك طعامٌ، وإياكَ أن تأكل ما تعجز أسنانُك عن مضغِه، فتعجِزَ مَعِدَتُك عن هضمه، وعليك فى كل أسبوعٍ بقيئة تُنقِّى جسمَك، ونِعْمَ الكنزُ الدمُ فى جسدك، فلا تُخْرِجْه إلا عند الحاجة إليه، وعليك بدخول الحمَّام، فإنه يُخرج مِن الأطباق ما لا تَصِلُ الأدوية إلى إخراجه".
وقال الشافعى: "أربعةٌ تُقوِّى البدن: أكلُ اللَّحم، وشمُّ الطِّيب، وكثرةُ الغسلِ

مِن غير جِماع، ولُبْسُ الكَتَّان"
وأربعةُ تُوهِن البدن: كثرةُ الجِماع، وكثرةُ الهم، وكثرةُ شرب الماء على الرِّيق، وكثرةُ أكل الحامِض.
وأربعةُ تُقوِّى البصر: الجلوسُ حِيالَ الكعبة، والكحلُ عند النوم، والنظرُ إلى الخُضرة، وتنظيف المجلس.
وأربعةُ توهِنُ البصر: النظرُ إلى القذَرِ، وإلى المصلوبِ، وإلى فَرْجِ المرأة، والقعودُ مستدبِرَ القِبْلَة.
وأربعةُ تزيدُ فى الجِمَاع: أكلُ العصافير، والإطْرِيفل، والفُسْتُق، والخرُّوب.
وأربعةُ تزيد فى العقل: تَرْكُ الفُضول مِن الكلام، والسِّواكُ، ومجالسةُ الصَّالحين، ومجالسةُ العلماء".
وقال أفلاطون: "خمسٌ يُذبنَ البدنَ وربما قتلن: قِصَرُ ذاتِ اليد، وِفراقُ الأحِبَّة، وتجرُّع المغايظ، وردُّ النصح، وضحكُ ذوى الجهل بالعُقلاء".
وقال طبيبُ المأمون: "عليك بخصالٍ مَنْ حَفِظَها فهو جديرٌ أن لا يعتلَّ إلا عِلَّة الموت: لا تأكُلْ طعاماً وفى مَعِدَتِك طعام، وإيَّاكَ أن تأكل طعاماً يُتْعِبُ أضراسكَ فى مضغه، فتعجزُ مَعِدَتُك عن هضمه، وإياكَ وكثرةَ الجِماع، فإنه يُطفىء نور الحياة، وإياك ومجامعة العجوز، فإنه يُورث موت الفَجْأة، وإياكَ والفصدَ إلا عند الحاجة إليه، وعليك بالقىء فى الصَّيف".

ومن جوامع كلمات أبقراط قوله: "كُلُّ كثيرٍ فهو مُعادٍ للطبيعة".
وقيل لجالينوسَ: ما لَكَ لا تمرَضُ ؟ فقال: "لأنى لم أجمع بين طعامَين رديئين، ولم أُدْخِلْ طعاماً على طعام، ولم أَحْبِسُ فى المَعِدَة طعاماً تأذَّيتُ به".
فصل
وأربعةُ أشياء تُمرض الجسم: الكلامُ الكثير، والنومُ الكثير، والأكلُ الكثير، والجِماعُ الكثير.
فالكلامُ الكثير: يُقلِّل مخَّ الدِّماغ ويُضعفه، ويُعجِّل الشيب.
والنومُ الكثير: يُصفِّرُ الوجه، ويُعمى القلب، ويُهيِّجُ العَيْن، ويُكسِلُ عن العمل، ويُولِّد الرطوباتِ فى البدن.
والأكلُ الكثيرُ: يُفسِدُ فمَ المَعِدَة، ويُضْعِفُ الجسم، ويُولِّدُ الرياح الغليظة، والأدواء العَسِرة.
والجِماعُ الكثير: يَهُدُّ البدن، ويُضعفُ القُوَى، ويُجفِّف رطوباتِ البدن، ويُرخى العصبَ، ويُورث السُّدد، ويَعُمُّ ضررُه جميعَ البدن، ويخصُّ الدماغ لكثرة ما يتحلَّل به من الروح النفسانىِّ، وإضعافُه أكثر من إضعاف جميع المستفرِغات، ويَستفرغ مِن جوهر الروح شيئاً كثيراً.
وأنفعُ ما يكون إذا صادف شهوةً صادقة مِن صورة جميلة حديثةِ السِّنِ حلالاً مع سِنِّ الشُّبوبية، وحرارةِ المزاج ورطوبته، وبُعدِ العهد به وخَلاءِ القلب من الشواغل النفسانية، ولم يُفْرطْ فيه، ولم يُقارنه ما ينبغى تركُه معه مِن امتلاء مفرط، أو خَوَاء، أو استفراغ، أو رياضة تامة،

أو حَرٍّ مفرِط، أو بردٍ مفرِط، فإذا راعى فيه هذه الأُمور العشرة، انتفعَ به جداً، وأيُّها فُقِدَ فقد حصلَ له من الضرر بحسبه، وإن فُقِدَتْ كلُّها أو أكثرها، فهو الهلاك المعجَّل.
فصل
والحِمْيَةُ المفرطة فى الصحة، كالتخليط فى المرض. والحِمْيَةُ المعتدلة نافعة.وقال جالينوسُ لأصحابه: "اجتنِبوا ثلاثاً، وعليكم بأربع، ولا حاجةَ بكم إلى طبيب: اجتنبوا الغُبار، والدخان، والنَّتن، وعليكم بالدَّسم، والطِّيب، والحَلْوى، والحمَّام، ولا تأكلوا فوقَ شِبعكم، ولا تتخلَّلوا بالباذَرُوج والرَّيحان، ولا تأكلوا الجَوزَ عند المساء، ولا ينمْ مَن به زُكمةٌ على قفاه، ولا يأكل مَن به غَمٌ حامِضاً، ولا يُسرعِ المشىَ مَن افتَصد، فإنه مخاطرةُ الموت، ولا يتقيَّأ مَن تؤلمه عينُه، ولا تأكلُوا فى الصيف لحماً كثيراً، ولا ينمْ صاحبُ الحُمَّى الباردة فى الشمسِ، ولا تقرَبُوا الباذَنجان العتيق المبزر، ومَن شرب كُلَّ يوم فى الشتاء قدحاً من ماء حار، أمِنَ من الأعلال، ومَن دَلَكَ جسمه فى الحمَّام بقشُور الرُّمَّان أمِنَ مِنَ الجرَب والحِكَّة، ومَن أكل خمسَ سَوْسنات مع قليل من مُصْطَكى رومى، وعودٍ خام، ومسك، بقى طولَ عمره لا تضعُفَ مَعِدَتُه ولا تفسُد، ومَن أكل بِزر البطِّيخ مع السكر، نظَّف الحَصَى مِن مَعِدَته، وزالت عنه حُرْقة البَوْل".

فصل
أربعةٌ تَهدِم البدن: الهمُّ، والحزنُ، والجوعُ، والسهرُ.
وأربعةٌ تُفرح: النظرُ إلى الخُضرةِ، وإلى الماءِ الجارى، والمحبوب، والثمار.
وأربعةٌ تُظلم البصر: المشىُ حافياً، والتصبُّحُ والتمسى بوجه البغيض والثقيل والعدو، وكثرةُ البكاء، وكثرةُ النظر فى الخط الدقيق.
وأربعةٌ تُقوِّى الجسم: لُبْسُ الثوب الناعم، ودخولُ الحمَّام المعتدل، وأكلُ الطعام الحلو والدَّسم، وشَمُّ الروائح الطيبة.
وأربعةٌ تُيبس الوجه، وتُذهب ماءه وبهجته وطلاوته: الكَذِبُ، والوقاحةُ، وكثرةُ السؤال عن غير علم، وكثرةُ الفجور
وأربعةٌ تَزيد فى ماء الوجه وبهجتِهِ: المروءةُ، والوفاءُ، والكرمُ، والتقوى.وأربعةٌ تَجلِبُ البغضاء والمقت: الكِبرُ، والحَسَدُ، والكَذِبُ، والنَّميمةُ.
وأربعةٌ تَجلِبُ الرِّزق: قيامُ اللَّيل، وكثرةُ الاستغفار بالأسحار، وتعاهُدُ الصَدَقة، والذِكْرُ أولَ النهارِ وآخرَه.
وأربعةٌ تمنع الرِّزق: نومُ الصُّبْحة، وقِلَّةُ الصلاة، والكَسَلُ، والخيانةُ.وأربعةٌ تَضُرُّ بالفهم والذهن: إدمانُ أكل الحامض والفواكه، والنومُ على القفا، والهمُّ، والغمُّ.

وأربعةٌ تَزيد فى الفهم: فراغُ القلب، وقِلَّةُ التملِّى من الطعام والشراب، وحُسنُ تدبير الغذاء بالأشياء الحُلوة والدَّسِمة، وإخراجُ الفَضلات المُثْقِلَةِ للبدن.
وممَّا يضرُّ بالعقل: إدمانُ أكل البصل، والباقِلا، والزَّيتون، والباذِنجان، وكَثرةُ الجِماع، والوحدةُ، والأفكارُ، والسُّكْرُ، وكَثْرةُ الضَّحِك، والغم.
قال بعضُ أهل النظر: "قُطِعتُ فى ثلاث مجالسَ، فلم أجِد لذلك عِلَّةً إلاَّ أنى أكثرتُ من أكل الباذنجان فى أحد تلك الأيام، ومن الزيتون فى الآخر، ومن الباقِلا فى الثالث".
فصل
قد أتَيْنا على جُملة نافعة من أجزاء الطبِّ العلمىِّ والعملىّ، لعلَّ الناظرَ لا يظفرُ بكثير منها إلا فى هذا الكتاب، وأرَيْناك قُربَ ما بينها وبينَ الشريعة، وأنَّ الطبَّ النبوى نسبةُ طِبِّ الطبائعيين إليه أقلُّ مِن نسبة طب العجائز إلى طبهم.
والأمر فوق ما ذكرناه، وأعظمُ مما وصفناه بكثير، ولكن فيما ذكرناه تنبيهٌ باليسير على ما وراءه، ومَن لم يرزُقه اللهُ بصيرة على التفصيل، فليعلمْ ما بيْنَ القوَّةِ المؤيَّدةِ بالوحى من عند اللهِ، والعلومِ التى رزقها اللهُ الأنبياءَ، والعقولِ والبصائر التى منحهم الله إياها، وبين ما عند غيرهم.

ولعل قائلاً يقولُ: ما لهَدْىِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما لِهذا الباب، وذكْرِ قُوى الأدوية، وقوانين العِلاج، وتدبيرِ أمر الصحة ؟وهذا مِن تقصير هذا القائل فى فهم ما جاء به الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنَّ هذا وأضعافَه وأضعافَ أضعافه مِن فهم بعض ما جاء به، وإرشادِه إليه، ودلالته عليه، وحُسنُ الفهم عن الله ورسوله مَنٌ يَمُنُّ اللهُ به على مَنْ يشاءُ من عباده.
فقد أوجدناك أُصولَ الطِّب الثلاثة فى القرآن، وكيف تُنكر أن تكونَ شريعةُ المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة مشتملةً على صلاح الأبدان، كاشتمالها على صلاح القلوب، وأنها مُرشدة إلى حِفظ صحتها، ودفع آفاتها بطُرق كُليَّة قد وُكِلَ تفصيلُها إلى العقل الصحيح، والفِطرة السليمة بطريق القياس والتنبيه والإيماء، كما هو فى كثير من مسائل فروع الفقه، ولا تكن ممن إذا جهل شيئاً عاداه.ولو رُزِقَ العبدُ تضلُّعاً مِن كتاب الله وسُنَّة رسوله، وفهماً تاماً فى النصوص ولوازمها، لاستغنَى بذلك عن كُلِّ كَلامٍ سواه، ولاستنبَطَ جميعَ العلومِ الصحيحة منه.
فمدارُ العلوم كلها على معرفة الله وأمره وخَلْقِه، وذلك مُسْلَّم إلى الرُّسُل صلوات الله عليهم وسلامه، فهم أعلمُ الخلق بالله وأمرِه وخَلْقِه وحِكمته فى خلقه وأمره.
وطبُّ أتباعهم: أصحُّ وأنفعُ مِن طبِّ غيرهم، وطِبُّ أتباع خاتمهم وسيدهم وإمامهم محمَّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم: أكملُ الطِّب وأصحُّه وأنفعُه.
ولا يَعْرِفُ هذا إلا مَن عرف طبَّ الناسِ سواهم وطِبَّهم، ثم وازن بينهما، فحينئذٍ يظهُر له التفاوتُ، وهم

أصَحُّ الأُمم عقولاً وفِطَراً، وأعظمُهم علماً، وأقربُهم فى كل شىء إلى الحَقِّ لأنهم خِيرة الله من الأُمم، كما أنَّ رسولهم خيرتُه مِن الرُّسُل، والعلمُ الذى وهبهم إيَّاه، والحلمُ والحكمةُ أمرٌ لا يدانيهم فيه غيرُهم.
وقد روى الإمامُ أحمد فى "مسنده": من حديث بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنتُمْ تُوَفُّون سبعين أُمَّةً أنتُم خَيرُها وأكْرَمُها على اللهِ". فظَهَر أثرُ كرامتها على الله سبحانه فى علومهم وعقولهم، وأحلامهم وفِطَرهم، وهم الذين عُرِضَتْ عليهم علومُ الأُمم قبلَهم وعقولهم، وأعمالُهم ودرجاتُهم، فازدادوا بذلك عِلماً وحلماً وعقولاً إلى ما أفاض اللهُ سبحانه وتعالى عليهم مِن علمه وحلمه
ولذلك كانت الطبيعة الدمويَّةُ لهم، والصفراويَّةُ لليهود، والبلغميَّةُ للنصارى، ولذلك غَلَبَ على النصارى البلادةُ، وقِلَّةُ الفهم والفِطنةِ، وغَلَبَ على اليهود الحزنُ والهمُّ والغمُّ والصَّغار، وغَلَبَ على المسلمين العقلُ والشجاعةُ والفهمُ والنجدةُ، والفرحُ والسرور.
وهذه أسرارٌ وحقائق إنما يَعرِفُ مقدارَها مَنْ حَسُنَ فهمُه، ولَطُفَ ذِهنُه، وغَزُرَ عِلمُه، وعرف ما عند الناس.. وبالله التوفيق.

وبعونه تعالى تم الجزء الرابع من زاد المعاد في هدي خير العباد ويليه الجزء الخامس وأوله فصل في هدية صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أقضيته وأحكامه

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأقضِيَة والأنكِحَة والبُيُوع

وليس الغرضُ من ذلك ذكر التشريع العام وإن كانت أقضيتهُ الخاصةُ تشريعاً عاماً، وإنما الغرضُ ذكرُ هديه فى الحكومات الجزئية التى فصل بها بينَ الخصوم، وكيف كان هديهُ فى الحكم بين الناس، ونذكرُ مع ذلك قضايا مِن أحكامه الكلية.
فصل
ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث بهزِ بن حكيم، عن أبيه، عن جده، " أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رجلاً فى تُهْمةٍ". قال أحمد وعلى بن المدينى: هذا إسناد صحيح.
وذكر ابنُ زياد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى "أحكامه": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجن رجلاً أعتق شِرْكاً له فى عبد، فوجب عليه استتمام عتقه حتى باع غُنَيْمَةً له.

فصل: فى حكمه فيمن قَتَلَ عبده
روى الأوزاعى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدَّه، أن رجلاً قتل عبدَه متعِّمداً، فجلده النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مائة جلدةً، ونفاه سنةً، وأمره أن يعتِقَ رقبةً ولم يُقِدْهُ به.
وروى الإمام أحمد: من حديث الحسن، عن سَمُرَةَ رضىَ اللهُ عنه، عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاه " فإن كان هذا محفوظاً، وقد سمعه منه الحسن، كان قتلُه تعزيزاً إلى الإمام بحسب ما يراه من المصلحة.
وأمرَ رجلاً بملازمة غريمه، كما ذكر أبو داود، عن النَّضر بن شُميل، عن الهِرماس بن حبيب، عن أبيه، عن جدِّه رضى الله عنه قال: أتيتُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغريم لى، فقال لى: "الْزَمْهُ" ثم قال لى: "يا أخا بنى سَهْم ما تُريدُ أنْ تَفْعَلَ بِأسِيرك"؟ وروى أبو عبيدٍ، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بقتل القاتل، وصبْرِ الصابر. قال أبو عبيد: أى: بحبسه للموتِ

حتى يموت.
وذكر عبدُ الرزاق فى "مصنفه" عن على: يُحبس المُمْسِكُ فى السِّجْنِ حتى يَموتَ.
فصل: فى حكمه فى المحاربين
حَكم بقطع أيدِيهم، وأرجُلهِم، وسَمْلِ أعينهم، كما سملُوا عينَ الرِّعاء، وتركهم حتى ماتُوا جوعاً وعطشاً كما فعلوا بالرِّعاء.
فصل: فى حكمه بين القاتل وولى المقتول
ثبت فى "صحيح مسلم": عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رجلاً ادَّعى على آخر أنه قتلَ أخاهُ، فاعترف، فقالَ: "دُونَكَ صَاحِبَكَ"، فلما ولَّى، قال: "إنْ

قَتَلَهُ، فهو مِثْلُه" ، فرجعَ فقال: إنما أخذتُه بأمرك، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمَا تُريدُ أَن يَبوءَ بإثْمِكَ وإِثْم صَاحِبَكَ"؟ فقال: بلى فخلّى سبيلَه.
وفى قوله: "فهو مثلُه"، قولان، أحدهما: أن القاتل إذا قِيد منه، سقط ما عليه، فصار هو والمستفيدُ بمنزلةٍ واحدة، وهو لم يقل: إنه بمنزلته قبل القتل، وإنما قال: "إن قتله فهو مثلُه"، وهذا يقتضى المماثلةَ بعد قتله، فلا إشكالَ فى الحديث، وإنما فيه التعريضُ لصاحب الحقّ بترك القود والعفو.
والثانى: أنه إن كان لم يُرد قتلَ أخيه قتلَه به، فهو متعدٍّ مثله إذ كان القاتل متعدياً بالجناية، والمقتصُّ متعدٍ بقتل من لم يتعمدِ القتلَ، ويدلُّ على التأويل ما روى الإمام أحمد فى "مسنده": من حديث أبى هُريرة رضى الله عنه قال: قُتِلَ رجل على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرُفِعَ إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدفَعه إلى ولىَّ المقتول، فقال القاتِلُ: يا رسولَ الله، ما أردتُ قتلَه، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للولى: "أمَا إنَّهُ إذَا كَانَ صَادِقاً، ثم قَتَلْتَه دَخَلْتَ النَّار" ، فخلَّى سبيله. وفى كتاب ابن حبيب فى هذا الحديث زيادةُ، وهى: قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"عَمْدُ يَدٍ، وخَطَأُ قَلْبٍ".

فصل: فى حكمه بالقَوَدِ على من قتل جاريةً، وأنه يُفعَلُ به كما فَعَلَ
ثبت فى "الصحيحين": "أن يهودياً رضَّ رأسَ جاريةٍ بينَ حجريْنِ على أوضاحٍ لها، أى: حُلِىٍّ، فأُخِذَ، فاعْتَرَفَ، فأمر رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُرَضَّ رأسُه بين حَجَرَيْنِ".
وفى هذا الحديثِ دليلٌ على قتلِ الرجل بالمرأة، وعلى أن الجانىَ يُفعل به كمَا فَعَلَ، وأن القتل غيلة لا يُشترط فيه إذنُ الولى، فإنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يدفعه إلى أوليائها، ولم يقل: إن شِئتُم فاقتلُوه، وإن شئتم فاعفوا عنه، بل قتله حتماً، وهذا مذهبُ مالك، واختيارُ شيخِ الإسلام ابن تيمية، ومن قال: إنه فعل ذلك لِنقض العهد، لم يَصِحَّ، فإن ناقض العهد لا تُرضخُ رأسهُ بالحجارة، بل يُقتل بالسيف.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن ضرب امرأةً حامِلاً فَطرحهَا
فى "الصحيحين": "أن امرأتينِ من هُذيل رمت إحداهُما الأُخرى بحجَرٍ فقتلتها وما فى بطنها، فقضى فيها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغُرَّةً: عَبْدٍ أَو ولِيدَةٍ فى الجنين، وجعل دِيةَ المقتولةِ على عَصَبة القاتِلةِ"، هكذا

فى "الصحيحين". وفى النسائى: "فقضى فى حملها بغُرَّة، وأن تُقتل بها"، وكذلك قال غيرُه أيضاً: إنه قتلها مكانها، والصحيح: أنه لم يقتلها لما تقدم. وقد روى البخارىُّ فى "صحيحه" عن أبى هريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قضى فى جنينِ امرأةٍ من بنى لَحيان بغُرَّةٍ: عبدٍ أو وليدةٍ، ثم إن المرأة التى قضى عليها بالغُرة تُوفيت، فقضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقلَ على عصبتها".
وفى هذا الحكم أن شِبهَ العمدِ لا يُوجب القود، وأن العاقِلَة تحمل الغُرَّةَ تبعاً للدية، وأن العاقلة هم العصبةُ، وأن زوجَ القاتلة لا يدخُلُ معهم، وأن أولادهَا أيضاً ليسوا مِن العاقِلة.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقَسامة فيمن لم يُعرف قاتِلُه
ثبت فى "الصحيحين": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بها بين الأنصار واليهود،

وقال لِحُوَيِّصَةَ ومُحَيِّصَةَ وعَبْدِ الرحمن: "أتَحْلِفُونَ وتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبكُم"؟ وقال البخارى: "وتستحقون قَاتِلَكُم أو صاحِبَكُم"، فقالوا: أمرُ لم نشهده ولم نره، فقال: "فَتُبْرئكُم يَهُودُ بأَيْمَانِ خَمْسِينَ "، فَقَالُوا: كيف نقبلُ أيمان قَوْمٍ كفار؟ فوداه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عنده.
وفى لفظ: ويُقْسِمُ خمسون منكم على رجل منهم، فيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ إليه".
واختلف لفظُ الأحاديث الصحيحة فى محل الدِّية، ففى بعضها أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وداه مِن عنده، وفى بعضها وداه من إبل الصدقة.
وفى "سنن أبى داود": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ألقى ديتَه على اليهود، لأنه وُجِدَ بينهم".
وفى "مصنف عبد الرزاق": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بدأ بيهود، فأبَوْا أن يحلِفُوا، فردَّ القسامةَ على الأنصار، فأبوا أن يحلِفُوا فجعل عَقلَه على يهود".
وفى "سنن النسائى": "فجعل عقله على اليهود، وأعانهم ببعضِها".
وقد تضمنت هذه الحكومة أموراً:

منها: الحكمُ بالقَسامة، وأنها مِن دين الله وشرعه.
ومنها: القتلُ بها لِقوله: "فيدفع بُرمَّتِهِ إليه"، وقوله فى لفظ آخر: "وتستحِقُّونَ دمَ صاحبكم"، فظاهرُ القرآن والسنة القتلُ بأيمان الزوج الملاعن وأيمانِ الأولياء فى القسامة، وهو مذهبُ أهل المدنية، وأما أهلُ العراق، فلا يقتلُونَ فى واحد منهما، وأحمدُ يقتل فى القسامةِ دون اللعان، والشافعى عكسه.
ومنها: أنه يبدأ بأيمان المُدَّعِينَ فى القَسامة بخلاف غيرِها من الدَّعاوى.
ومنها: أن أهلَ الذِّمة إذا منعوا حقاً عليهم، انتقضَ عهدُهم لِقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إما أن تدوه، وإما أن تأذنُوا بحرب".
ومنها: أن المدَّعىَ عليه إذا بَعُدَ عن مجلس الحكم، كَتَبَ إليه، ولم يُشْخِصْهُ.
ومنها: جوازُ العملِ والحُكم بِكتابِ القاضى وإن لم يُشهد عليه.
ومنها: القضاء على الغائب.
ومنها: أنه لا يُكتفى فى القَسامة بأقلَّ من خمسين إذا وُجدوا.
ومنها: الحكمُ على أهل الذمة بحكم الإسلام، وإن لم يتحاكموا إلينا إذا كان الحكمُ بينهم وبينَ المسلمين.
ومنها: وهو الذى أشكل على كثيرٍ من الناس إعطاؤه الدية مِن إبل الصدقةِ، وقد ظنَّ بعضُ الناس أن ذلك مِن سهم الغارمين، وهذا لا يصِح، فإن غارِمَ أهلِ الذمة لا يُعطى من الزكاة، وظن بعضُهم أن ذلك مما فَضَل مِن الصدقة عن أهلها، فللإمام أن يصرِفه فى المصالح، وهذا أقربُ مِن الأول، وأقربُ منه: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وداه مِن عنده، واقترضَ الدية

من إبل الصدقة، ويدل عليه:
"فواده من عنده" وأقربُ من هذا كُلِّه أن يُقال: لما تحمَّلَها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإصلاح ذات البين بين الطائفتين، كان حكمُها حكمَ القضاء على الغرم لما غرمه لإصلاح ذاتِ البين، ولعل هذا مرادُ من قَال: إن قضاها مِن سهم الغارمين، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأخذ منها لنفسه شيئاً، فإن الصدقةَ لا تحِلُّ له، ولكن جرى إعطاءُ الدية منها مجرى إعطاء الغارم منها لإصلاح ذات البين. والله أعلم.
فإن قيل: فكيف تصنعون بقوله "فجعل عقلَه على اليهود"؟ فيقال: هذا مجمل لم يحفظ راويه كيفيةَ جعله عليهم، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كتب إليهم أن يدوا القتيلَ، أو يأذنوا بحربٍ، كان هذا كالإلزام لهم بالدِّية، ولكن الذى حفظوا أنهم أنكروا أن يكونوا قتلوا، وحلفوا على ذلك، وأن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وداه من عنده، حفِظُوا زيادة على ذلك، فهم أولى بالتقديم.
فإن قيل: فكيف تصنعون برواية النسائى: "أنه قسمها على اليهود، وأعانهم ببعضها"؟ قيل: هذا ليس بمحفوظ قطعاً، فإن الدية لا تلزم المدّى عليهم بمجرد دعوى أولياءِ القتيل، بل لا بُد من إقرار أو بينة، أو أيمان المدعين، ولم يُوجد هنا شىء من ذلك، وقد عرضَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيمانَ القسامة على المدعين، فأَبَوْا أن يحلِفُوا، فكيف يلزم اليهود بالدية بمجرد الدعوى.
فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أربعةً سقطُوا فى بئر، فتعلَّق بعضُهم ببعض، فهلكُوا
ذكر الإمام أحمد، والبزار، وغيرُهما، أن قوماً احتفروا بئراً باليمن،

فسقط فيها رجلٌ، فتعلَّق بآخر، الثانى بالثالث، والثالث بالرابع، فسقطُوا جميعاً، فماتُوا، فارتفع أولياؤُهم إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال: اجمعُوا مَنْ حفر البئرَ مِن النَّاسِ، وقضى للأول بُربع الدية، لأنه هلك فوقَه ثلاثة، وللثانى بُثلثها لأنه هلك فوقه اثنان، وللثالث بنصفهما لأنه هلك فوقَه واحد، وللرابع بالدية تامة، فأَتوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العامَ المقبلَ، فقصُّوا عليه القِصَّة، فقال : "هُوَ مَا قضَى بَيْنكُمْ "، هكذا سياقُ البزار.
وسياق أحمد نحوه، وقال: "إنهم أَبَوْا أَن يرضوا بقضاء على، فَأَتْوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عند مقام إبراهيم عليه السلام، فقصُّوا عليه القِصة، فأجازه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعل الدية على قبائل الذين ازدحموا".
فصل: فيمن تزوج إمرأة أبيه
روى الإمام أحمد، والنسائى وغيرُهما: عن البراء رضى الله عنه، قال: لقيتُ خالى أبا بُردة ومعه الراية، فقال: "أرسلنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رجلٍ تزوَّج امرأة أبيه أن أقتُله وآخذ ماله".

وذكر ابن أبى خيثمة فى "تاريخه"، من حديث معاوية بن قُرة، عن أبيه، عن جده، رضى الله عنه، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى رجل أعْرسَ بامرأةِ أبيه، فضرب عنقَه، وخمَّسَ ماله. قال يحيى بن معين: هذا حديث صحيح.
وفى "سنن ابن ماجه" من حديث ابن عباس قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَنْ وَقَعَ عَلى ذَاتِ مَحْرمٍ فَاقْتُلُوهُ".
وذكر الجوزجانى، أنه رُفِعَ إلى الحجاجِ رجلٌ اغتصبَ أختَه على نفسها، فقال: احبِسُوهُ، وسلوا مَنْ هاهنا من أصحابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألوا عبد الله بن أبى مطرِّف رضى الله عنه، فقال: سمعتُ رسول الله يقول: "مَنْ تَخَطَّى حُرَمَ المُؤْمِنِينَ، فَخُطُّوا وَسَطَه بالسَّيفِ".
وقد نص أحمد فى رواية إسماعيل بن سعيد، فى رجل تزوَّج امرأة أبيه أو بذاتِ محرم، فقال: يُقتل، ويُدخل مالُه فى بيت المال.
وهذا القولُ هو الصحيح، وهو مقتضى حكمِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الشافعى ومالك وأبو حنيفة: حدُّه حدُّ الزانى، ثم قال أبو

حنيفة: إن وطئها بعد، عُزِّرَ، ولا حد عليه، وحكمُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقضاؤه أحق وأولى.
فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل من اتُّهِمَ بأم ولده فلما ظهرت براءتُه، أمسك عنه
روى ابن أبى خيثمة وابن السكن وغيرُهما من حديث ثابت، عن أنس رضى الله عنه، أن ابنَ عمِّ ماريةَ كان يُتَّهم بها، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه: "اذْهَبْ فَإنْ وَجَدْتَهُ عِنْدَ مَارِيَةَ، فاضْرِبْ عُنُقَهُ"، فأتاهُ علىٌّ فإذا هو فى رَكِىٍّ يتبَرَّدُ فيها، فقال له على: اخرج، فناوله يده، فأخرجه، فإذا هو مجبوبٌ ليس له ذكر، فكفَّ عنه على، ثم أتى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله: إنه مجبوب، ماله ذكر. وفى لفظ آخر: أنه وجده فى نخلة يجمع تمراً، وهو ملفوفٌ بخرقة، فلما رأى السيفَ، ارتعد وسقطت الخِرقة، فإذا هو مجبوبٌ لا ذكر له.
وقد أشكلَ هذا القضاءُ على كثيرٍ من الناس، فطعن بعضُهم فى الحديث، ولكن ليس فى إسناده من يتعلَّق عليه، وتأوَّله بعضُهم على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُردْ حقيقةَ القتل، إنما أرادَ تخويفَه ليزدجِرَ عن مجيئه إليها. قال: وهذا كما قال سليمان للمرأتين اللتين اختصمتا إليه فى الولد: "على بالسِّكين حتى أشُقَّ الولد بينهما"، ولم يرد أن يفعل ذلك، بل قصد استعلامَ الأمر من هذا القول، ولذلك كان مِن تراجم الأئمة على هذا الحديث:

باب الحاكم يُوهم خلاف الحق لِيتوصل به إلى معرفة الحق، فأحبَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يَعرِفَ الصحابة براءته، وبراءة مارية، وعلم أنه إذا عاين السيفَ، كشف عن حقيقة حاله، فجاء الأمرُ كما قدَّره رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأحسنُ من هذا أن يقال: إن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر علياً رضى الله عنه بقتله تعزيراً لإقدامه وجرأته على خلوته بأم ولده، فلما تبيَّن لعلى حقيقة الحال، وأنه برىء من الريبة، كفَّ عن قتله، واستغنى عن القتل بتبيين الحال، والتعزيرُ بالقتل ليس بلازم كالحدِّ، بل هو تابعٌ للمصلحة دائرٌ معها وجوداً وعدماً.
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى القتيل يُوجد بينَ قريتين
روى الإمام أحمد، وابن أبى شيبة، من حديث أبى سعيد الخدرى رضىَ الله عنه قال: "وُجدَ قتيلٌ بَينَ قريتينِ، فأمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَرَعَ ما بينهما، فوُجِدَ إلى أحدهما أقرب، فكأنى أنظر إلى شِبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فألقاهُ عَلَى أقربِهِمَا".وفى "مصنف عبد الرزاق" قال عمرُ بن عبد العزيز: "قضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما بلغنا فى القتيل يُوجد بين ظهرانى دِيارِ قومٍ: أنَّ الأيمانَ على المدَّعى عليهم، فإن نَكَلُوا، حُلِّفَ المدعون، واستحقُّوا، فإن نكل الفريقانِ،

كانت الديةُ نِصفُها على المدَّعى عليهم، وبطل النصفُ إذا لم يحلِفُوا".
وقد نص الإمام أحمد فى رواية المروَزى على القول بمثل رواية أبى سعيد، فقال: قلت لأبى عبد الله: القومُ إذا أعطوا الشىء، فتبينوا أنه ظُلِمَ فيه قوم؟ فقال: يُرد عليهم إن عُرِفَ القوم. قلت: فإن لم يُعرفوا؟ قال: يُفرَّق على مساكين ذلك الموضع، فقلت: فما الحُجة فى أن يُفرَّق على مساكين ذلك الموضع؟ فقال: عمر بنُ الخطاب رضى الله عنه جعل الديةَ على أهل المكانِ يعنى القرية التى وُجِدَ فيها القتيل، فأراه قال: كما أن عليهم الدية هكذا يُفرَّقُ فيهم، يعنى: إذا ظُلِمَ قوم منهم ولم يُعرفوا، فهذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه قد قضى بموجب هذا الحديث، وجعل الديةَ على أهل المكان الذى وُجِدَ فيه القتيلِ، واحتج به أحمد، وجعل هذا أصلاً فى تفريق المال الذى ظُلم فيه أهلُ ذلك المكان عليهم إذا لم يُعرفوا بأعيانهم.
وأما الأثر الآخر، فمرسل لا تقومُ بمثله حجة، ولو صحَّ تعيَّن القولُ بمثله، ولم تَجُز مخالفته، ولا يُخالف باب الدعاوى، ولا باب القسامة، فإنه ليس فيهم لَوْثٌ ظاهر يُوجب تقديم المدعين، فيقدم المدَّعى عليهم فى اليمين، فإذا نَكَلُوا، قوىَ جانبُ المدَّعين من وجهين: أحدهما: وجودُ القتيل بين ظهرانيهم. والثانى: نكولُهم عن براءة ساحتهم باليمن، وهذا يقومُ مقامَ اللوثِ الظاهر، فَيَحْلِفُ المدَّعون، ويستحقون، فإذا نكل الفريقانِ كلاهما، أورث ذلك شبهةً مركبة من

نكول كُلِّ واحد منهما، فلم ينهض ذلك سبباً لإيجاب كمال الدية عليهم إذا لم يحلِف غرماؤهم، ولا إسقاطُها عنهم بالكلية حيث لم يحلِفُوا، فجعلت الدية نصفين، ووجب نصفُها على المدَّعى عليهم لثبوت الشبهة فى حقهم بترك اليمين، ولم تَجِب عليهم بكمالها، لأن خُصومَهم لم يحلِفُوا، فلما كان اللوثُ متركباً من يمين المدعين، ونكول المدَّعى عليهم، ولم يتمَّ، سقط ما يقابل أيمان المدعين وهو النصفُ، ووجب ما يُقابل نكول المدَّعى عليهم وهو النصف، وهذا مِن أحسن الأحكام وأعدِلها، وبالله التوفيق.
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتأخير القِصاصِ من الجُرح حتى يَنْدَمِلَ
ذكر عبد الرزاق فى "مصنفه" وغيرُه: من حديث ابن جريج، عن عمرو بن شعيب قال: "قضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رجل طعن آخر بقرن فى رجله، فقال: يا رسول الله: أقِدْنى، فقال: "حَتَّى تَبْرَأَ جِرَاحُكَ"، فأبى الرجل إلاَّ أن يستقيده، فأقاده النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصحَّ المستقادُ منه، وعرج المستقيد، فقال: عرجتُ وبرأ صاحبى، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَمْ آمُرْكَ أَن لا تَستَقيدَ حَتَّى تَبْرأَ جِراحُكَ فَعَصَيْتَنى، فَأَبعدَكَ اللهُ وبطل عَرجك "، ثم أمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كان به جُرح بعد الرجل الذى عَرَجَ أن لا يُستقاد منه حتى يبرأ جرح صاحبه. فالجراح على ما بلغ حتى يبرأ، فما كان مِن عَرَج أو شللَ، فلا قود فيه، وهو عقل، ومن استقاد جرحاً، فأصيب المستقادُ منه، فعقل ما فضل من دِيته على جُرح صاحبه له.

قلت: الحديثُ فى "مسند الإمام أحمد". من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه متصل،"أن رجلاً طعن بِقَرْن فى رُكْبَتِهِ فجاء إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أقدنى. فقال : حَتَّى تَبْرَأَ"، جاء إليه فقال: أَقِدْنى. فأقاده، ثم جاء إليه، فقال: يا رسولَ الله، عرجتُ، فقال: " قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنى، فَأَبْعَدَكَ الله وبَطَّلَ عَرْجَتَكَ" ، ثم نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُقتصَّ مِن جُرح حتى يبَرأ صاحبه".
وفى سنن الدارقطنى: عن جابر رضى الله عنه، "أن رجلاً جُرِحَ، فأرادَ أَن يستقيدَ، فنهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُستقاد مِن الجارح حتى يبرَأ المجروحُ".وقد تضمنتَ هذه الحكومةُ، أنه لا يجوز الاقتصاصُ مِن الجُرح حتى يسِتقرَّ أمرُه، إما باندمالٍ، أو بسِراية مستقرة، وأنَّ سراية الجناية مضمونة بالقود، وجوازِ القِصاص فى الضربة بالعصا والقَرن ونحوهما، ولا ناسخ لهذه الحكومة، ولا مُعارِضَ لها، والذى نسخ بها تعجيلُ القصاص قبل الاندمال لا نفسُ القصاص فتأمله، وأن المجنى عليه إذا بادر واقتصَّ من الجانى، ثم سرتِ الجناية إلى عُضو من أعضائه، أو إلى نفسه بعد القصاص، فالسرايةُ هدر.

وأنه يُكتفى بالقصاص وحدَه دون تعزير الجانى وحبسِه، قال عطاء: الجروحُ قِصاص، وليس للإمام أن يضرِبَه ولا يسجِنه، إنما هو القصاص، وما كان ربك نسياً، ولو شاء، لأمر بالضرب والسجن. وقال مالك: يُقتص منه بحقِّ الآدمى، ويُعاقب لجرأته.
والجمهور يقولون: القصاصُ يُغنى عن العقوبة الزائدة، فهو كالحدِّ إذا أُقيم على المحدود، لم يحتج معه إلى عقوبة أخرى.
والمعاصى ثلاثة أنواع: نوعٌ عليه حدٌّ مقدَّر، فلا يُجمع بينه وبين التعزير. ونوعٌ لا حدَّ فيه، ولا كفارة، فهذا يُردع فيه بالتعزير، ونوع فيه كفارة، ولا حد فيه، كالوطء فى الإحرام والصيام، فهل يُجمع فيه بين الكفارة والتعزير؟ على قولين للعلماء، وهما وجهان لأصحاب أحمد، والقِصاص يجرى مجرى الحدِّ، فلا يُجمع بينه وبين التعزير.
فصل: فى قضائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقِصاصِ فى كسرِ السن
فى "الصحيحين": من حديث أنس، أن ابنة النضر أختَ الرُّبَيِّعِ لطمَتْ جَارِية، فكسرت سِنَّها، فاختصمُوا إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر بالقِصاصِ، فقالت أُمُّ الرُّبَيِّعِ: يا رسول الله، أَيقتص مِن فُلانة، لا والله لا يُقْتَصُّ منها، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبحان الله يا أم الربيع كتاب الله القصاص فقالت لا والله لا يقتص منها أبدا فعفا القوم وقبلوا الدية فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ".

فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن عضَّ يدَ رَجُلٍ، فانتزع يده من فيه، فسقطت ثنية العاض بإهدارها
ثبت فى "الصحيحين": أن رجلاً عضَّ يدَ رجل، فنزع يدَه من فيه، فوقعت ثناياه، فاختصمُوا إلى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "يَعَضُّ أحَدُكُم أَخَاهُ كما يَعَضُّ الفَحْلُ، لا دِيةَ لَكَ".
وقد تضمَّنتْ هذه الحكومةُ أن مَنْ خلَّص نَفَسَه مِن يدِ ظالمٍ له، فَتَلِفَتْ نَفْسُ الظالم، أو شىءٌ مِنْ أطرافه أو مَالِهِ بذلك، فهو هَدْرٌ غَيْرُ مضمون.
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن أطلع فى بيت رجُلٍ بغير إذنه، فَحذَفَهُ بحَصَاةٍ أَو عُود، ففقأ عينه، فلا شىء عليه
ثبت فى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَوْ أَنَّ امرءاً اطَّلعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْن، فَحذَفْتَهُ، بِحَصَاةٍ، فَفَقَأَتْ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ".

وفى لفظ فيهما: "مَنِ اطَّلعَ فى بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَفَقَؤُوا عَيْنَهُ، فَلاَ دِيةَ لَهُ ولا قِصَاصِ".
وفيهما: "أن رجلاً اطلعَ من جُحْرٍ فى بعضِ حُجَرِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام إليهِ بمِشْقَصٍ، وجعلَ يختِلهُ لِيطعَنه"، فذهب إلى القول بهذه الحكومة، إلى التى قبلها فقهاءُ الحديث، منهم: الإمامُ أحمد، والشافعى ولم يقل بها أبو حنيفة ومالك.
فصل
وقضَى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أن الحامِلَ إذا قَتَلَت عمداً لا تُقتل حتى تضَعَ ما فى بطنها وحتَّى تُكَفِّلَ وَلَدَهَا". ذكره ابن ماجه فى "سننه".
وقضى "أن لا يُقتل الوالدُ بالولَدِ". ذكره النسائى وأحمد.

وقضى "أن المؤمنين تتكافأ دماؤهم، ولا يُقْتَل مؤمِنٌ بكافر".
وقضى أن من قُتِلَ له قتيل، فأهله بَيْنَ خِيرَتَيْنِ، إما أن يقتلُوا أو يأخذوا العقل.وقضى أن فى دية الأصابع من اليدين والرِّجلين فى كل واحدة عشراً مِن الإبل. وقضى فى الأسنان فى كل سِن بخمسٍ من الإبل، وأنها كلها سواء، وقضى فى المواضح بخمسٍ خمسٍ.

وقضى فى العين السَّادة لمكانها إذا طُمِسَتْ بثلث ديتها، وفى اليد الشلاء إذا قُطِعَتْ بثلث ديتها، وفى السِّنِّ السوداء إذا نُزعَتْ بثلث ديتها.
وقضى فى الأنف إذا جُدِعَ كُلُّه بالدية كاملة، وإذا جُدِعَتْ أرنبتُه بنصف الدية.
وقضى فى المأمومة بثُلُث الدية، وفى الجائفة بثلثها، وفى المُنَقِّلَةِ بخمسةَ عشرَ من الإبل. وقضى فى اللسان بالدية، وفى الشفتين بالدية، وفى البَيْضَتَيْنِ بالدية، وفى الذَّكَرِ بالدية، وفى الصُّلْب بالدية، وفى العينين بالدية، وفى إحداهما بنصفها، وفى الرجل الواحدة بنصف الدية، وفى اليد بنصف الدية، وقضى أن الرجل يُقتل بالمرأة.
وقضى أن دية الخطأ على العاقلة مائة من الإبل، واختلفت الرواية

عنه فى أسنانها، ففى السنن الأربعة عنه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "ثَلاَثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وثَلاَثُونَ بِنْتَ لَبُون، وثَلاَثُونَ حِقَّةً، وعَشَرةُ بنى لَبُونٍ ذَكَرٍ".
قال الخطابى: ولا أعلم أحداً مِن الفقهاء قال بهذا.
وفيها أيضا من حديث ابن مسعود: أنها أخماسٌ:"عِشرون بنتَ مَخَاضٍ، وعشرون بنت لَبون، وعشرون ابن مخاض، وعشرون حِقَّة، وعِشرونَ جَذَعَة".
وقضى فى العمد إذا رضُوا بالدَّية ثلاثين حِقَّة، وثلاثين جَذَعة،

وأربعين خَلِفَة، وما صُولحوا عليه، فهو لهم.
فذهب أحمد وأبو حنيفة إلى القول بحديث ابن مسعودٍ رضى الله عنهما، وجعل الشافعى ومالك بدل ابن مخاض ابن لبون، وليس فى واحد من الحديثين.
وفرضها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتى بقرة، وعلى أهلِ الشاءِ ألفى شاة، وعلى أهل الحُلَلِ مائتى حُلة.
وقال عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضى الله عنه أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "جعلها ثمانمائة دينار، أو ثمانمائة آلاف درهم".
وذكر أهل السنن الأربعة من حديث عكرمة، عن ابن عباس رضى الله عنهما،"أن رجلاً قُتِلَ، فجعلَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ديتَه اثنى عشَرَ أَلفاً".
وثبت عن عمر أنه خطب فقال: إن الإبلَ قد غلت، ففرضها على أهلِ الذهب ألفَ دينار، وعلى أهل الوَرِقِ عشر ألفاً، وعلى أهلِ البقر مائتى بقرة، وعلى أهل الشاءِ ألفى شاة، وعلى أهل الحُلل مائتى حلة، وترك دِية أهل الذمة، فلم يرفعها فيما رَفَعَ مِن الدية.

وقد روى أهلُ السنن الأربعة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"دِيَةُ المعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الحُرِّ. ولفظ ابن ماجه: قضى أن عقلَ أَهْلِ الكِتَابينِ نِصْفُ عَقْلِ المسلمين، وهم اليهود والنصارى".
واختلف الفقهاء فى ذلك، فقال مالك: ديتهم نصفُ دية المسلمين فى الخطأ والعمد، وقال الشافعى: ثلثُها فى الخطأ والعمد. وقال أبو حنيفة: بل كِدَية المسلم فى الخطأ والعمد. وقال الإمام أحمد: مثلُ دية المسلم فى العمد. وعنه فى الخطأ روايتان، إحداهما: نصفُ الدية، وهى ظاهر مذهبه. والثانية: ثلثها، فأخذ مالك بظاهر حديث عمرو بن شعيب، وأخذ الشافعىُّ بأن عُمَرَ جعل ديته أربعة آلاف، وهى ثلثُ دية المسلم، وأخذ أحمدُ بحديث عمرو إلا أنه فى العمدِ ضَعَّفَ الدية عقوبة لأجل سقوط القصاص، وهكذا عنده مَنْ سقط عنه القصاص، ضُعِّفت عليه الدية عقوبة، نص عليه توفيقاً، وأخذ أبو حنيفة بما هو أصلُه من جريان القصاص بينهما، فتتساوى ديتُهما.
وقضى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أن عقلَ المرأة مِثْلُ عقل الرجل إلى الثلث من ديتها" ذكره النسائى. فتصير على النصف من ديته، وقَضى بالدية على العاقلة، وبرأ منها الزوج، وولد المرأة القاتلة.

وقضى فى المكاتب أنه إذا قُتِلَ يُودى بقدر ما أَدَّى من كتابته دية الحر، وما بقى فدية المملوك، قلت: يعنى قيمته، وقضى بهذا القضاء علىُّ بن أبى طالب، وإبراهيم النَّخعى، ويُذكر رواية عن أحمد، وقال عمر: إذا أَدَّى شطرَ كتابته كان غريماً، ولا يرجع رقيقاً، وبه قضى عبدُ الملك بن مروان. وقال ابن مسعود: إذا أدَّى الثلث، وقال عطاء: إذا أدَّى ثلاثة أرباع الكتابة، فهو غريم، والمقصود: أن هذا القضاء النبوىَّ لم تُجمع الأمةُ على تركه، ولم يُعلم نسخه.
وأما حديث "المكَاتبُ عَبْدٌ مَا بَقِىَ عَلَيْهِ دِرْهَم" فلا معارضة بينه وبين هذا القضاء، فإنه فى الرق بعد، ولا تحصل حريته التامة إلا بالأداء.
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من أقر بالزنى
ثبت فى صحيح البخارى ومسلم أن رجلاً من أسلم جاء إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاعترف بالزنى، فأعرض عنه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى شَهِدَ على نفسه أربعَ مرَّاتٍ، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبِكَ جُنونٌ"؟ قال: لا. قال: "أَحْصَنْتَ"؟ قَالَ: نعم، فأمَرَ بهِ، فَرُجمَ فى المصلَّى، فلمَّا أذلَقَتْهُ الحجارةُ، فرَّ فأَدْرِكَ، فُرجِم حتى مات، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيراً، وصلىَّ عليه.
وفى لفظ لهما: أنه قال: له "أَحَقُّ مَاَ بَلَغَنى عَنْكَ"، قال: وما بلغك

عنى، قال: بَلَغَنى أنَّكَ وَقَعْتَ بجَارِيَةِ بنى فُلاَنٍ" فقال: نعم، قال: فَشَهِدَ على نفسه أربعَ شهاداتٍ، ثم دعاه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "أبِكَ جُنُونٌ"، قال: لا، قَالَ: "أحْصَنْتَ" ؛ قال: نعم، ثم أمَرَ بِهِ فَرُجِمَ.
وفى لفظ لهما: فلما شهد على نفسه أربَعَ شهادات، دعاه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "أبِكَ جنُونٌ" ؛ قال: لا. قال: "أَحْصَنْتَ"؟ قال: نعم. قالَ: اذْهَبُوا بهِ، فَارجُمُوه".وفى لفظ للبخارى: أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أو غَمَزْتَ، أو نَظَرْتَ"، قال: لا يا رسول الله. قال: "أَنِكْتَهَا" لا يَكْنى، قال: نعم، فَعِنْدَ ذلك أمر برجمه.
وفى لفظ لأبى داود: أنه شَهد على نفسه أربعَ مرات، كُلُّ ذلك يُعْرِضُ عنه، فَأَقبِل فى الخامسة، قال: "أَنِكْتَهَا"؟ قال: نعم. قال: "حَتَّى غَاب ذلِكَ مِنْكَ فى ذلِكَ مِنْهَا"؟ قال: نعم. قال: "كَمَا يغِيبُ المِيلُ فى المُكْحُلَةِ والرِّشاء فى البئرِ"؟ قال: نعم. قال: "فَهَلْ تَدْرى مَا الزِّنَى"؟ قال: نعم أتيتُ منها حراماً ما يأتى الرجلُ من امرأته حلالاً. قال: "فَمَا تُريدُ بِهذا القَوْلِ"؟ قال: أريدُ أن تطهِّرنى قال: فأَمَرَ به فَرُجِمَ.

وفى "السنن": أنه لما وجدَ مسَّ الحِجارة، قال: يا قومُ رُدُّونى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن قومى قتلونى، وغرُّونى من نفسى، وأخبرونى أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيرُ قاتلى.
وفى "صحيح مسلم": "فجاءت الغامدية فقالت: يا رسولَ اللِّه إنى قد زنيتُ فطهِّرنى، وأنه ردَّها، فلما كان مِن الغد، قالت: يا رسول اللِّهِ ثم تَرُدُّنى، لعلك أن تَرُدَّنى كما رددتَ ماعزاً؟ فوالله إنى لحبلى، قال: إمَّا لاَ، فاذْهبى حَتَّى تَلِدى"، فلما ولدت، أتته بالصبىِّ فى خِرقة، قالت: هذا قد ولدتُه، قال: "اذْهبى فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ"، فلما فطمته، أتته بالصبىِّ فى يده كِسرة خبز، فقالت: هذا يا نبىَّ الله قد فطمتُه، وقد أكل الطعامَ، فدفع الصبىَّ إلى رجل من المسلمين، ثم أَمَرَ بها، فَحُفِرَ لها إلى صدرها، وأمر الناسِ فرجموها، فأقبل خالدُ بن الوليدِ بحجرٍ، فرمى رأسها، فانتضحَ الدمُ على وجهِ، فسبَّها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَهْلاً يا خَالِدُ فَوَالَّذى نَفْسى بيَده، لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا، صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ" ثم أمر بها، فصلى عليها، ودُفنت. وفى "صحيح البخارى": أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى فيمن زنى، ولم يُحْصِنْ بنفى عامٍ، وإقامةِ الحدِّ عليه.وفى "الصحيحين": أن رجلاً قال له: أنشُدُكَ باللِّهِ إلا قضيتَ بيننا

بكتابِ الله، فقام خصمه، وكان أفقَه مِنه، فقال: صَدَقَ اقْضِ بيننا بكتابِ اللهِ، وائذن لى، فقال:"قل" قال: إن ابنى كانَ عسيفاً على هذا، فزنى بامرأته، فافتديتُ منه بمائة شاةٍ وخادِم، وإنى سألتُ أهلَ بالعلم، فأخبرونى أن على ابنى جَلْدَ مائةٍ وتغريبَ عام، وأن على امرأةِ هذا الرجم، فقال: "والَّذِى نَفْسِى بَيَدِهِ لأَقْضِيْنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، المائَةُ والخَادِمُ رَدُّ عَلَيْكَ، وعلى ابْنِكَ جَلْدُ مائَةٍ وتَغٌرِيبُ عَامٍ، واغْدُ يا أُنيسُ عَلَى امْرَأَةِ هذَا، فاسْأَلْهَا، فإن اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْها"، فاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَها.
وفى "صحيح مسلم" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الثِّيبُ بالثَّيب جلدُ مائةٍ والرجْمُ، والبِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مائَةٍ وتغريب عام ".
فتضمنت هذه الأقضية رجمَ الثيب، وأنه لا يُرجم حتى يُقِرَّ أربع مراتٍ، وأنه إذا أقر دون الأربع، لم يلزم بتكميل نصاب الإقرار، بل للإمام أن يُعْرِضَ عنه، ويعرض له بعدم تكميل الإقرار.

وأن إقرارَ زائل العقل بجنون، أو سكر ملغى لا عِبرة به، وكذلك طلاقهُ وعِتقُه، وأيمانُه ووصيتُه.
وجواز إقامة الحد في المصلى وهذا لا يناقض نهيه أن تقام الحدود في المساجد
وأن الحر المحصَن إذا زنى بجارية، فحده الرجم، كما لو زنى بحرة.
وأن الإمام يُستحب له أن يُعرِّض للمقر بأن لا يُقِرّ، وأنه يجب استفسارُ المقرِّ فى محل الإجمال، لأن اليدَ والفمَ والعين لما كان استمتاعُها زنى استفسر عنه دفعاً لاحتماله.
وأن الإمام له أن يصرح باسم الوطء الخاص به عند الحاجة إليه كالسؤال عن الفعل.
وأن الحد لا يجبَ على جاهل بالتحريم، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأله عن حكم الزنى، فقال: أأتيتُ منها حراماً ما يأتى الرجل مِن أهله حلالاً.
وأن الحد لا يُقام على الحامل، وأنها إذا ولدت الصبىَّ، أمهلَتْ حتى تُرضِعَه وتَفطِمَه، وأن المرأةَ يُحفَر لها دون الرجل، وأن الإمام لا يجِبُ عليه أن يبدأ بالرجم.
وأنه لا يجوز سبُّ أهلِ المعاصى إذا تابوا، وأنه يُصلَّى على من قُتِلَ فى حدِّ الزنى، وأن المُقِرَّ إذا استقال فى أثناء الحد، وفَّر، ترك ولم يتمم عليه الحد، فقيل: لأنه رجوع. وقيل: لأنه توبة قبل تكميل الحد، فلا يقام عليه كما لو تاب قبل الشروع فيه، وهذا اختيار شيخنا.
وأن الرجل إذا أقرَّ أنه زنى بفلانة، لم يُقم عليه حَدُّ مع حد الزنى.
وأن ما قُبِضَ من المال بالصلح الباطلِ باطل يجبُ ردُّه.

وأن الإمام له أن يُوكِّل فى استيفاء الحد.
وأن الثيب لا يُجمع عليه بين الجلدِ والرجم، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجلد ماعزاً ولا الغامدية، ولم يأمر أنيسَاً أن يَجْلِدَ المرأة التى أرسله إليها، وهذا قول الجمهور، وحديث عبادة:
"خذُوا عنى قَدْ جَعَلَ اللُّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً: الثَّيِّبُ بالثَّيبِ جَلْدُ مِائَةٍ والرجم منسوخ". فإن هذا كان فى أول الأمر عند نزول حد الزانى، ثم رجم ماعزاً والغامدية، ولم يجلدهما، وهذا كان بعد حديث عبادة بلا شك، وأما حديث جابر فى "السنن": أن رجلاً زنى، فأمرَ به النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ الحَدَّ، ثم أقرَّ أنه محصَن، فأمر به فرجم. فقد قال جابر فى الحديث نفسه: إنه لم يعلم بإحصانه، فجلد، ثم علم بإحصانه فرجم. رواه أبو داود.
وفيه: أن الجهل بالعقوبة لا يسقط الحد إذا كان عالماً بالتحريم، فإن ماعزاً لم يعلم أن عقوبتَه بالقتل، ولم يُسقط هذا الجهلُ الحدَّ عنه.
وفيه: أنه يجوز للحاكم أن يحكم بالإقرار فى مجلسه، وإن لم يسمعه معه شاهدان، نص عليه أحمد، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل لأنيس: فإن اعْتَرَفَتْ بحضرة شاهدين فارجمها.
وأن الحكم إذا كان حقاً محضاً لله لم يشترط الدعوى به عند الحاكم.
وأن الحدَّ إذا وجب على امرأة، جاز للإمام أن يبعث إليها من يُقيمه عليها، ولا يحضرها، وترجم النسائى على ذلك: صوناً للنساء عن مجلس الحكم.
وأن الإمام والحاكم والمفتىَ يجوزُ الحَلِفُ على أن هذا حكمُ الله عز وجل إذا تحقق ذلك، وتيقنه بلا ريب، وأنه يجوز التوكيلُ فى إقامة الحدود، وفيه نظر، فإن هذا استنابةُ من النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتضمن تغريب

المرأة كما يغرب الرجل، لكن يغرب معها محرمُها إن أمكن، وإلا فلا، وقال مالك: ولا تغريب على النساء، لأنهن عورة.
فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أهلِ الكتاب فى الحدود بحُكم الإسلام
ثبت فى "الصحيحين" و"المسانيد": "أن اليهودَ جاؤوا إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكروا له أن رجلاً مِنهم وامرأةً زنيا، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا تَجِدُونَ فى التَّوْرَاةِ فى شَأْن الرَّجْمِ"؟ "قالوا: نفضحُهم ويُجْلَدُون، فقال عبدُ الله بن سلام: كذبتُم إن فيها الرَّجمَ، فَأَتَوْا بالتوارة، فنشرُوها، فوضَعَ أحدُهم يدَه على آيةِ الرجم، فقرأ ما قبلَها وما بعدَها، فقال له عبدُ الله بنُ سلام: ارفَعْ يدَك، فرفع يدَه، فإذا فيها آيةُ الرجم، فقالوا: صَدَقَ يا محمد، إن فيها الرجم، فأَمَرَ بهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا".
فتضمنت هذه الحكومةُ أن الإسلام ليس بشرط فى الإحصان، وأن الذِّمى يُحصِّن الذميةَ، وإلى هذا ذهب أحمدُ والشافعىُّ، ومن لم يَقُلْ بذلك اختلفوا فى وجه هذا الحديث، فقال مالك فى غير "الموطأ": لم يكن اليهودُ بأهل ذمة. والذى فى "صحيح البخارى": أنهم أهلُ ذمة، ولا شكَّ أن هذا كان بعدَ العهد الذى وقع بين النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبينهم، ولم يكونوا إذ ذاك حرباً، كيف وقد تحاكمُوا إليه، ورضُوا بحكمه؟ وفى بعضِ طُرق

الحديث: أنهم قالوا: اذهبوا بنا إلى هذا النبىِّ، فإنه بعث بالتخفيف، وفى بعض طرقه: أنهم دعوه إلى بيت مِدْرَاسِهِم، فأتاهم وحكم بينهم، فهم كانوا أهلَ عهد وصُلح بلا شك.
وقالت طائفة أخرى: إنما رجمهم بحُكم التوراة. قالوا: وسياقُ القًصة صريحٌ فى ذلك، وهذا مما لا يُجدى عليهم شيئاً ألبتة، فإنه حكم بينهم بالحقِّ المحضِ، فيجبُ اتباعُه بكلِّ حال، فماذا بعد الحقِّ إلا الضلال.
وقالت طائفة: رجمهما سياسةً، وهذا مِن أقبح الأقوال، بل رجمهما بحُكم الله الذى لا حُكم سِواه.
وتضمنت هذه الحكومةُ أن أهل الذَّمة إذا تحاكَموا إلينا لا نحكُم بينهم إلا بحُكم الإسلام.
وتضمنت قبولَ شهادة أهلِ الذمة بعضهم على بعض لأن الزانيينِ لم يُقِرَّا، ولم يشهد عليهما المسلمون، فإنهم لم يحضُروا زِناهما، كيف وفى "السنن" فى هذه القصة، فدعا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشُّهودِ، فجاؤوا أربعة، فشهدوا أنهم رأوا ذكره فى فرجها مِثل المِيل فى المُكحلة.
وفى بعض طرق هذا الحديث: فجاء أربعةٌ منهم، وفى بعضها: فقال لليهود: "ائْتُونى بِأَرْبَعَةٍ مِنْكُم".

وتضمنت الاكتفاءَ بالرجم، وأن لا يجمع بينَه وبين الجلد، قال ابنُ عباس: الرجمُ فى كتاب الله لا يغوصُ عليه إلا غوَّاصٌ، وهو قوله تعالى: {يَأَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُم تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ} [المائدة: 15] واستنبطه غيرهُ مِن قوله: {إنَّا أَنْزَلْنا التَّوْراةَ فيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُم بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] قال الزهرى في حديثه: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً ونُورٌ يحْكُم بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم.
[الحكم في الزنى واللواطة وشرب الخمر]
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الرجل يزنى بجارية امرأته
فى "المسند" و"السنن" الأربعة: من حديث قتادة، عن حبيب بن سالم، أن رجلاً يقال له: عبد الرحمن بن جُنين، وقع على جارية امرأته، فَرُفِعَ إلى النعمان بن بشير، وهو أمير على الكوفة، فقال: لأقضينَّ فيكَ بقضيةِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن كانت أحلَّتها لك، جلدتُك مائة جلدة، وإن لم تكن أحلتها، رجمتُك بالحجارة، فوجدوه أحلتها له، فجلده مائة.
قال الترمذى: فى إسنادِ هذا الحديثِ اضطرابٌ، سمعتُ محمداً يعنى البخارىَّ يقول: لم يسمع قتادةُ مِن حبيب بنِ سالم هذا الحديثَ، إنما رواه

عن خالد بن عُرفُطة، وأبو بشر لم يسمعه أيضاً من حبيب بن سالم، إنما رواه عن خالد بن عرفطة، وسألت محمداً عنه؟ فقال: أنا أنفى هذا الحديثَ. وقال النسائى: هو مضطرب، وقال أبو حاتم الرازى: خالد ابن عرفطة مجهول.
وفى "المسند" و"السنن": عن قَبِصَة بن حُريثٍ، عن سَلَمَةَ بن المُحَبِّقِ، أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى فى رجل وقَع على جارية امرأته، إن كان استكرهها، فهى حرَّة، وعليه لسيدتها مثلُها، وإن كانت طاوعته، فهى له، وعليه لسيدتِها مثلُها.
فاختلف الناسُ فى القول بهذا الحكم، فأخذ به أحمد فى ظاهر مذهبه، فإن الحديثَ حسن، وخالد بن عُرفطة قد روى عنه ثقتان: قتادة، وأبو بشر، ولم يُعرف فيه قدح، والجهالة ترتفِعُ عنه برواية ثقتين، القياسُ وقواعدُ الشريعة يقتضى القولَ بموجب هذه الحكومة، فإن إحلال الزوجة شبهةْ تُوجب سقوطَ الحد، ولا تُسقِط التعزيزَ، فكانت المائةُ تعزيزاً، فإذا لم تكن أحلتها، كان زنىً لا شبهة فيه، ففيه الرجمُ، فأى شىء فى هذه

الحكومة مما يُخالف القياس.
وأما حديث سَلَمة بن المحبِّق: فإن صحَّ، تعيَّن القولُ به ولم يُعدَل عنه، ولكن قال النسائى: لا يَصِحُّ هذا الحديثُ.قال أبو داود: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: الذى رواه عن سلمة بن المحبق شيخٌ لا يُعرف، ولا يُحدث عنه غيرُ الحسن يعنى قَبيصة بن حريث. وقال البخارى فى "التاريخ": قَبيصة بن حُريث سمع سلمة بن المحبق، فى حديثه نظر، وقال ابن المنذر: لا يثُبتُ خبرُ سلمة بن المحبق، وقال البيهقى: وقبيصة ابن حُريث غير معروف، وقال الخطابى: هذا حديث منكر، وقبيصة غير معروف، والحجة لا تقوم بمثله، وكان الحسن لا يُبالى أن يروىَ الحديثَ ممن سمع.
وطائفة أخرى قبلت الحديثَ، ثم اختلفوا فيه، فقالت طائفة: منسوخ، وكان هذا قبلَ نزول الحدود.
وقالت طائفة: بل وجهه أنه إذا استكرهها، فقد أفسدها على سيدتها، ولم تبق ممن تصلُح لها، ولَحِقَ بها العارُ، وهذا مُثْلَةٌ معنوية، فهى كالمُثْلَةِ الحِسية، أو أبلغُ منها، وهو قد تضمن أمرين: إتلافها على سيدتها، والمثلة المعنوية بها، فيلزمه غرامتُها لسيدتها، وتُعتق عليه، وأما إن طاوعته، فقد أفسدها على سيدتها، فتلزمه قيمتُها لها، ويملِكُها لأن القيمة قد استحقت عليه، وبمطاوعتِها وإرادتِها خرجت عن شُبهة المثلة. قالوا: ولا بُعْد فى تنزيل الإتلاف المعنوى منزلة الإتلافِ الحِسى، إذ كلاهما يحولُ بينَ المالك وبين الانتفاع بمُلكه، ولا ريبَ أن جاريةَ الزوجة إذا صارت موطوءة لزوجها، فإنها لا تبقى لسيدتها كما كانت قبلَ الوطء، فهذا الحكمُ مِن أحسن الأحكام، وهو موافق للقياس الأصولى.

وبالجملة: فالقول به مبنى على قبولِ الحديث، ولا تضُرُّ كثرةُ المخالفين له، ولو كانوا أضعافَ أضعافهم.
فصل
ولم يثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قضى فى اللواط بشىء، لأن هذا لم تكن تعرِفُه العربُ، ولم يُرفع إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن ثبتَ عنه أنه قال: "اقْتُلُوا الفَاعِلَ والمَفْعُولَ بِهِ". رواه أهل السنن الأربعة، وإسناده صحيح، وقال الترمذى: حديث حسن.
وحكم به أبو بكر الصِّديق، وكتب به إلى خالد بعد مشاورةِ الصحابة، وكان علىٌّ أشدَّهم فى ذلك.
وقال ابنُ القصار: وشيخنا: أجمعتِ الصحابةُ على قتله، وإنما اختلفُوا فى كيفية قتله، فقال أبو بكر الصديق: يُرمى من شاهق، وقال علىٌّ رضى الله عنه: يُهدم عليه حائط. وقال ابنُ عباس: يُقتلان بالحجارة. فهذا اتفاقٌ منهم على قتله، وإن اختلفوا فى كيفيته، وهذا وافق لحُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن وطىء ذات محرم، لأن الوطء فى الموضعين لا يُباح للواطىء بحال، ولهذا جمع بينهما فى حديث ابن عباس رضى الله عنهما، فإنه روى

عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "مَنْ وَجَدْتُّموه يَعْمَلُ عَمَلَ قوم لُوطِ فَاقْتُلُوهُ "، وروى أيضاً عنه: "مَنْ وَقَعَ عَلى ذَاتِ مَحْرَمٍ، فاقْتُلُوه"، وفى حديثه أيضاً بالإسناد: "مَنْ أَتى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ واقْتُلُوها مَعَهُ".
وهذا الحكم على وفق حكم الشارع، فإن المحرماتِ كلَّما تغلَّظت، تغلَّظت عقوباتُها، ووطءُ من لا يُباح بحال أعظمُ جرماً مِن وطء من يُباح فى بعض الأحوال، فيكون حدُّه أغلظَ، وقد نصَّ أحمدُ فى إحدى الروايتين عنه، أن حُكم من أتى بهيمةً حكْمُ اللواط سواء، فيُقتل بكل حال، أو يكون حدُّه حدَّ الزانى.
واختلف السلفُ فى ذلك، فقال الحسن: حدُّه حدُّ الزانى. وقال أبو سلمة عنه: يقتل بكل حال، وقال الشعبى والنخعى: يُعزَّر، وبه أخذ الشافعى ومالك وأبو حنيفة وأحمد فى رواية، فإن ابن عباس رضى الله عنه أفتى بذلك، وهو راوى الحديث.
فصل
وحكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من أقرَّ بالزِّنى بامرأة معينة بحدِّ الزنى دون القذف، ففى "السنن": من حديث سهلِ بنِ سعد، أن رجلاً أتى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

" فأقرَّ عنده أنه زنى بامرأةٍ سمَّاها، فبعثَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المرأة فسألها عن ذلك، فأنكرَتْ أَنْ تكونَ زنت، فجلده الحدَّ وتركها".
فتضمنت هذه الحكومةُ أمرين:
أحدهما: وجوبُ الحدِّ على الرجل، وإن كذَّبته المرأة خلافاً لأبى حنيفة وأبى يوسف أنه لا يُحَّد.
الثانى : أنه لا يجب عليه حدُّ القذف للمرأة.
وأما ما رواه أبو داود فى "سننه": من حديث ابن عباس رضى الله عنه، أن رجلاً أتى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،"فأقر أن زنى بامرأةٍ أربعَ مرات، فجلده مائةَ جلدة وكان بكرا، ثم سأله البينةَ على المرأة فقالت: كذب والله يا رسول الله، فجلد حد الفرية ثمانين" ؛ فقال النسائىُّ: هذا حديث منكر. انتهى. وفى إسناده القاسم بن فياض الأنبارى الصنعانى، تكلم فيه غير واحد، وقال ابن حبان: بطل الاحتجاجُ به.
فصل
وحَكَم فى الأمة إذا زنت ولم تُحصنْ بالجلد. وأما قوله تعالى فى

الإماء :{فَإذَا أُحْصِنَّ فَإنْ أتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلْيهِنَّ نِصْفُ مَا عَلى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ} [النساء: 25]، فهو نص فى أن حدَّها بعد التزويج نصفُ حدَّ الحرة من الجد، وأما قبل التزويج، فأمرَ بجلدها.
وفى هذا الحد قولان:
أحدهما: أنه الحد، ولكن يختلِفُ الحال قبل التزويج وبعده، فإن للسيد إقامتَه قبله، وأما بعده، فلا يُقيمه إلا الإمام.
والقول الثانى: أن جلدهما قبل الإحصان تعزير لا حد، ولا يُبطل هذا ما رواه مسلم فى "صحيحه": من حديث أبى هريرة رضى الله عنه يرفعُه: "إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَلْيَجْلِدْهَا وَلاَ يُعَيِّرْها ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فإِنْ عَادَتْ فى الرَّابِعَةِ فَلْيَجْلِدْهَا وَلْيَبِعْها وَلَوْ بِضَفِير"، وفى لفظ "فَلْيَضْرِبْها كتاب الله".
وفى "صحيحه" أيضاً: من حديث على رضى الله عنه أنه قال: أَيُّها الناسُ أقيمُوا على أرقائكم الحدَّ، مَنْ أحصنَ مِنهن، ومن لم يُحصنْ، فإن أمةً لِرَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَنَتْ، فأمرنى أن أجلِدَهَا، فإذا هى حديثةُ عهدٍ بِنِفاس، فخشيتُ إن أنا جلدتُها أن أقتُلَها، فذكرت ذلك للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "أحسنتَ".
فإن التعزير يدخلُ لفظُ الحد فى لسان الشارع، كما فى قوله

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُضرَبُ فوقَ عشرةِ أسواطٍ إلا فى حدٍّ مِن حدُود الله تعالى ".
وقد ثبت التعزيرُ بالزيادة على العشرة جنساً وقدراً فى مواضِع عديدة لم يَثْبُتْ نسخُها، ولم تُجْمِع الأمةُ على خِلافها.
وعلى كل حال، فلا بد أن يُخالِفَ حالُها بعد الإحصان حالها قبله، وإلا لم يكن للتقييد فائدة، فإما أن يُقال قبل الإحصان: لا حدَّ عليها، والسنة الصحيحةُ تبطِلُ ذلك، وإما أن يقال: حدُّها قبل الإحصان حدُّ الحرة، وبعده نصفه، وهذا باطل قطعاً مخالف لقواعد الشرع وأصوله، وإما أن يُقال: جلدُها قبل الإحصان تعزير، وبعده حد، وهذا أقوى، وإما أن يُقال: الافتراقُ بين الحالتين فى إقامة الحدِّ لا فى قدرِه، وأنه فى إحدى الحالتين للسيد، وفى الأخرى للإمام، وهذا أقربُ ما يُقال.
وقد يقال: إن تنصيصه على التنصيفِ بعد الإحصان لئلا يتوهَّم متوهم أن بالإحصان يزولُ التنصيفٌ، ويصيرُ حدها حدَّ الحرة، كما أن الحدَ زال عن البِكر بالإحصان، وانتقل إلى الرجم، فبقى على التنصيف فى أكمل حالتيها، وهى الإحصان تنبيهاً على أنه إذا اكتُفِىَ به فيها، ففيما قبل الإحصان أولى وأحرى، والله أعلم.
وقضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى "مريض زنى ولم يَحتَمِلْ إقامةَ الحد، بأن يُؤخذ له [عِثْكَالٌ] فيه مائة شِمْرَاخٍ، فيُضربَ بها ضربةً واحدة".

فصل
وحكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحدِّ القذفِ، لما أنزل اللهُ سبحانه براءةَ زوجتهِ مِن السماء، فجلد رجلين وامرأةً. وهما: حسانُ بن ثابت، ومِسطَحُ بنُ أُثَانَة. قال أبو جعفر النُّفيلى: ويقولون: المرأة حَمنة بنتُ جحش.
وحكم فيمن بدل دينه بالقتل، ولم يخص رجلاً من امرأة، وقتل الصديقُ امرأةً ارتدت بعد إسلامها يقال لها: أم قِرفة.
وحكم فى شارب الخمر بضربه بالجريدِ والنِّعال، وضربه أربعينَ،

وتبعه أبو بكر رضى الله عنه على الأربعين.
وفى "مصنف عبد الرزاق": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "جلد فى الخمر ثمانين".
وقال ابنُ عباس رضى الله عنه: "لم يُوقِّتْ فيها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً".
وقال على رضى الله عنه: "جلد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الخمر أربعين، وأبو بكر أربعينَ، وكمَّلها عمرُ ثمانيَ، وكُلٌّ سنة".
وصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أمر بقتله فى الرابعة أو الخامسة. واختلف الناسُ فى ذلك، فقيل: هو منسوخ، وناسخه "لا يَحِلُّ دمُ امرىء مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث". وقل: هو محكم، ولا تعارضَ بين الخاص والعام، ولا سيما إذا لم يُعلم تأخُّر العام. وقيل: ناسخُه حديث عبد الله حِمارٍ، فإنه أُتِىَ به مراراً إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجلده ولم يقتُله.

وقيل: قتله تعزيزٌ بحسب المصلحة، فإذا كثر منه ولم ينهه الحدُّ، واستهان به، فللإمام قتلُه تعزيزاً لا حداً، وقد صحَّ عن عبد الله بن عمر رضى الله. عنهما أنه قال: أئتونى به فى الرابعة فعلىَّ أن أقتُلَه لكم، وهو أحدُ رواة الأمر بالقتل عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم: معاويةُ، وأبو هريرة، وعبدُ الله ابن عمر، وعبدُ الله بن عمرو، وقَبيصة بن ذؤيب رضى الله عنهم.
وحديث قبيصة: فيه دلالة على أن القتلَ ليس بحد، أو أنه منسوخ، فإنه قال فيه: فأُتيِ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برجل قد شرب، فجلده، ثم أتى به، فجلده، ثم أتى به فجلده، ورفع القتل، وكانت رخصة. رواه أبو داود.
فإن قيل: فما تصنعون بالحديث المتفق عليه، عن على رضى الله أنه قال: ما كنت لأدرى من أقمتُ عليه الحدَّ إلا شاربَ الخمر، فإنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَسُنَّ فيه شيئاً، إنما هو شىءُ قلناه نحن. لفظ أبى داود. ولفظهما:

فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات ولم يَسُنَّه.
قيل: المرادُ بذلك أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُقَدِّرْ فيه بقوله تقديراً لا يُزاد عليه ولا يُنقص كسائر الحدود، وإلا فعلى رضى الله عنه قد شَهِدَ أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ضرب فيها أربعين.
وقوله: إنما هو شىء قلناه نحن، يعنى التقديرَ بثمانين، فإن عمرَ رضى الله عنه جمع الصحابة رضي الله عنهم واستشارهم، فأشاروا بثمانين، فأمضاها، ثم جلد على فى خلافته أربعين، وقال: هذا أحبُّ إلىَّ.
ومن تأمَّل الأحاديثَ، رآها تدل على أن الأربعينَ حد، والأربعون الزائدة عليها تعزيزٌ اتفق عليه الصحابةُ رضى الله عنهم، والقتلُ إما منسوخ، وإما أنه إلى رأى الإمام بحسب تهالكِ الناسِ فيها واستهانتهم بحدها، فإذا رأى قتلَ واحد لينزجر الباقون، فله ذلك، وقد حلق فيها عمرُ رضى الله عنه وغرَّب، وهذا من الأحكام المتعلقة بالأئمة، وبالله التوفيق.

فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى السارق
قطع سارقاً فى مِجَنٍّ قيمته ثلاثةُ دراهم.
وقضى أنه لا تُقطع فى أقلَّ من رُبُع دينار.
وصح عنه أنه قال : "اقْطَعُوا فى رُبْعِ دينَارٍ، ولا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذلِك" ذكره الإمام أحمد رحمه الله.
وقالت عائشة رضىَ اللهُ عنها: لم تكن تقطع يدُ السارق فى عهد رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أدنى من ثمن المِجَنِّ، تُرْسٍ أو جَحَفَةٍ، وكان كلٌ منهما ذا ثمن.
وصح عنه أنه قال: "لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقَ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ويَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَع يَدُهُ". فقيل: هذا حبلُ السفينة، وبَيْضَة الحديد، وقيل: بل كل حَبْل وبَيْضَةٍ، وقيل: هو إخبار بالواقع، أى: إنه يسرق هذا، فيكون سبباً لقطع يده بتدرُّجه منه إلى ما هو أكبرُ منه. قال الأعمش: كانوا يرونَ بأنه بَيْضُ الحديد، والحَبْلُ كانوا يرون أن منه ما يُساوى دراهم.

وحكم فى امرأة كانت تستعيرُ المتاع وتَجْحَدُه بقطع يدها.
وقال أحمد رحمه الله: بهذه الحكومة ولا معارض لها.
وحكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسقاط القطع عن المنْتَهب، والمُخْتَلِس، والخائن. والمراد بالخائن: خائن الوديعة.
وأما جاحدُ العارَّية، فيدخلُ فى اسم السارق شرعاً، لأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كلَّموه فى شأن المستعيرة الجاحدة، قطعها، وقال: "والَّذِى نَفْسِى بيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا".
فإدخاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاحِد العارَّية فى اسم السارق، كإدخاله سائر أنواع المسكر فى اسم الخمر، فتأمله، وذلك تعريف للأمة بمراد الله من كلامه.
وأسقط صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القطعَ عن سارق الثَّمَرِ والكَثَرِ، وحكم أن من أصاب منه شيئاً بفمه وهو محتاج، فلا شىء عليه، ومن خرج منه بشىء، فعليه غرامة مثليه والعقوبَة، ومن سَرق منه شيئاً فى جَرينه وهو بيدره، فعليه

القطع إذا بلغ ثَمَنَ المجنِّ فهذا قضاؤه الفصلُ، وحُكمُه العدل.
وقضى فى الشاة التى تُؤخذ مِن مراتِعها بثمنها مرتين، وضرب نكال، وما أُخِذَ من عَطَنه، ففيه القطعُ إذا بلغ ثمن المجن.
وقضى بقطع سارق رِداء صفوان بن أمية، وهو نائم عليه فى المسجد، فأراد صفوانُ أن يَهبَه إياه، أو ربيعَه منه، فقال: "هَلاَّ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِينى به".
وقطع سارقاً سرق تُرساً من صُفة النساء فى المسجد.
ودَرَأَ القطع عن عبد مِن رقيق الخُمُس سَرَقَ مِن الخمس. وقَالَ: "مَالُ اللهِ سَرَقَ بَعْضُه بَعْضاً" رواه ابن ماجه.
ورُفعَ إليه سارق، فاعترف، ولم يُوجد معه متاع، فقال له: "مَا إخَالُه سَرَقَ"؟ قال: بلى فأعادَ عليه مرتين أو ثلاثاً، فأمر به فُقطِع.

ورفع إليه آخر فقال: "مَا إخَالُهُ سَرَقَ"؟ فقال: بلى، فقال: " اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوهُ، ثُمَّ أئتُونى بِهِ" ، فقطع، ثم أتى به النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: "تُبْ إلى الله"، فقال: تبتُ إلى الله، فقال: "تابَ اللهُ عَلَيْكَ".
وفى الترمذى عنه أن قطع سارقاً وعلق يده فى عُنُقه. قال: حديث حسن.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من اتَّهم رجلاً بسرقة
روى أبو داود: عن أزهر بن عبد الله "أن قوماً سُرِقَ لهم متاع، فاتَّهموه ناساً مِن الحَاكَة، فأتوا النعمانَ بْن بشيرٍ صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحبسهم أياماً ثم خلَّى سبيلهم، فأَتُوْه فقالُوا: خلَّيْتَ سبيلَهم بغير ضرب ولا امتحان، فقال: ما شئتُم، إن شئتُم أن أضربَهم، فإن خرجَ متاعُكم فذاكَ، وإلا أخذتُ مِن ظُهورِكُم مثلَ الذى أخذتُ مِن ظهورهم. فقالوا:

هذا حُكْمُكَ؟ فقال : حُكْمُ اللهِ وحُكْمُ رَسُولِه ".
فصل
وقد تضمنت هذه الأقضيةُ أموراً:
أحدها: أنه لا يقطع فى أقل من ثلاثةِ دراهم، أو رُبع دينار.
الثانى: جوازُ لعنِ أصحابِ الكَبائِر بأنواعهم دونَ أعيانهم، كما لَعَنَ السارِقَ، ولعن آكِل الرّبا وموكلَه، ولعن شاربَ الخمر وعاصِرها، ولعن من عمل عمل قومِ لوط، ونهى عن لعن عبد الله حِمار وقد شرب الخمر، ولا تعارضُ بين الأمرين، فإن الوصف الذى علق اللعن مقتض. وأما المعين، فقد يقوم به ما يمنعُ لحوقَ اللعن به مِن حسنات ماحية، أو توبة، أو مصائب مكفرة، أو عفوٍ من الله عنه، فتُلعن الأنواعُ دون الأعيان.
الثالث: الإشارة إلى سد الذرائع، فإنه أخبر أن سرقة الحبلِ والبيضة لا تدعُه حتى تقطعَ يده.
الرابع: قطعُ جاحد العارية، وهو سارق شرعاً كما تقدم.

الخامس: أن من سرق مالاً قطع فيه، ضُوعِفَ عليه الغرمُ، وقد نص عليه الإمام أحمد رحمه الله، فقال: كل مَنْ سقط عنه القطعُ، ضُوعِفَ عليه الغرم، وقد تقدَّم الحكمُ النبوىُّ به فى صورتين: سرقةِ الثمار المعلقة، والشاةِ من المرتع.
السادس: اجتماعُ التعزيز مع الغُرم، وفى ذلك الجمعُ بين العقوبتين: مالية وبدنية.
السابع: اعتبارُ الحِرز، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسقط القطعَ عن سارق الثمار من الشجرة، وأوجبه على سارقة من الجرين، وعند أبى حنيفة أن هذا لنقصان ماليته، لإسراع الفسادِ إليه، وجعل هذا أصلاً فى كل ما نقصت ماليتُه بإسراع الفساد إليه، وقولُ الجمهور أصحُّ، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل له ثلاثة أحوال: حالةً لا شىء فيها، وهو ما إذا أكل منه بفيه، وحالةً يُعَزَّم مثليه، ويُضرب مِن غير قطع، وهو ما إذا أخذه من شجره وأخرجه، وحالةً يُقطع فيها، وهو ما إذا سرقه مِن بيدره سواء كان قد انتهى جفافُه أو لم ينته، فالعبرةُ للمكان والحرز لا لُيبسه ورطوبته، ويدل عليه أن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسقط القطعَ عن سارق الشاةِ من مرعاها، وأوجبه على سارقها مِن عطنها فإنه حرزُها.
الثامن: إثبات العقوبات المالية، وفيه عدة سنن ثابتة لا مُعارِضَ لها، وقد عمل بها الخلفاءُ الراشدون وغيرُهم مِن الصحابة رضى الله عنهم، وأكثرُ من عمل بها عمر رضى الله عنه.
التاسع: أن الإنسان حِرز لثيابه ولفراشه الذى هو نائم عليه أين كان، سواء كان فى المسجد أو فى غيره.
العاشر: أن المسجد حِرز لما يعتاد وضعُه فيه، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطع مَن سرق منه ترساً، وعلى هذا فيُقطع من سرق مِن حصيره وقناديله وبسطه،

وهو أحدُ القولين فى مذهب أحمد وغيره. ومن لم يقطعه، قال: له فيها حق، فإن لم يكن فيها حق، قطع كالذمى.
الحادى عشر: أن المطالبةُ فى المسروقِ شرط فى القطعِ، فلو وهبه إياه، أو باعه قبل رفعه إلى الإمام، سقط عنه القطع، كما صرح به النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: "هَلاَّ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِينى بِهِ".
الثانى عشر: أن ذلك لا يُسقط القطعَ بعد رفعه إلى الإمام، وكذلك كُلُّ حد بلغ الإمام، وثبت عنده لا يجوز إسقاطُه، وفى "السنن": عنه: " إذا بَلَغَتِ الحُدُودُ الإمَامَ، فَلَعَنَ اللهُ الشافِعَ والمُشَفِّعَ".
الثالث عشر: أن من سرق من شيء له فيه حقٌّ لم يُقطع.
الرابع عشر: أنه لا يقطع إلا بالإقرار مرتين، أو بشهادةِ شاهدين، لأن السارق أقرَّ عنده مرة، فقال: "ما إخالك سرقت"؟ فقال: بي، فقطعه حينئذ، ولم يقطعه حتى أعاد عليه مرتين.
الخامس عشر: التعريضُ للسارق بعدم الإقرار، وبالرجوع عنه، وليس هذا حُكمَ كل سارق، بل من السُّراق من يُقرُّ بالعقوبة والتهديد، كما سيأتى إن شاء الله تعالى.
السادس عشر: أنه يجب على الإمام حسمُه بعد القطع لئلا يتلَفَ. وفى

قوله: "احسموه"، دليل على أن مؤنة الحسم ليست على السارق.
السابعُ عشر: تعليق يد السارق فى عنقه تنكيلاً له وبه ليراه غيره.
الثامن عشر: ضربُ المتهم إذا ظهر منه أمارات الرِّيبة، وقد عاقَبَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تُهمة، وحبس فى تُهمة.
التاسع عشر: وجوبُ تخلية المتَّهم إذا لم يظهر عنده شىء مما اتُّهم به، وأن المتَّهِمَ إذا رضي بضرب المتُهم، فإن خرج ماله عنده، وإلا ضُرِبَ هو مثل ضرب من اتهمه إن أجيب إلى ذلك، وهذا كُلُه مع أمارات الرِّيبة، كما قضى به النعمان بن بشير رضى الله عنه، وأخبر أنه قضاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
العشرون: ثبوت القصاص فى الضربة بالسوط والعصا ونحوهما.
فصل
وقد روى عنه أبو داود: أنه أمر بقتل سارقٍ فقالُوا: إنما سرق، فقال: "اقْطَعُوهُ"، ثم جىء به ثانياً، فأمر بقتله، فقالوا: إنما سرق، فقال "اقْطَعُوهُ"، ثم جىء به فى الثالثة، فأمر بقتله، فقالوا: إنما سرق، فقال: "اقْطَعُوهُ" ثم جىء به رابعة، فقال: "اقْتُلُوهُ"، فقالوا: إنما سرق، فقال: "اقْطَعُوهُ"، فأتى به فى الخامسة، فأمر بقتله، فقتلُوه.
فاختلف الناسُ فى هذه الحكومة: فالنسائىُّ وغيرُه لا يصححون هذا الحديث. قال النسائى: هذا حديثٌ منكَر، ومُصعب بنُ ثابت ليس

بالقوى، وغيرُه يُحسنه ويقول: هذا حكم خاص بذلك الرجل وحدَه، لما علم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن المصلحة فى قتله، وطائفة ثالثة تقبلُهُ، وتقول به، وأن السارق إذا سرق خمسَ مرات قتل فى الخامسة، وممن ذهب إلى هذا المذهب أبو مصعب من المالكية.
وفى هذه الحكومة الإتيانُ على أطراف السارق الأربعة. وقد روى عبد الرزاق فى "مصنفه": أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أتى بعبد سرق، فأُتِىَ به أربعَ مرات، فتركه، ثم أتَى به الخامسة، فقطع يده، ثم السادسة فقطع رجله، ثم السابعة فقطع يده، ثم الثامنة فقطع رجله".
واختلف الصحابة ومَنْ بعدهم، هل يُوتى على أطرافِه كُلِّها، أم لا؟ على قولين. فقال الشافعىُّ ومالكٌ وأحمدُ فى إحدى روايتيه: يُؤتى عليها كُلِّها، وقال أبو حنيفة وأحمد فى رواية ثانية: لا يُقطع منه أكثرُ من يد ورجل، وعلى هذا القول، فهل المحذورُ تعطيلُ منفعة الجنس، أو ذهابُ عضوين من شق؟ فيه وجهان ظهر أثرُهما فيما لو كان أقطعَ اليد اليُمني فقط، أو أقطعَ الرجل اليسرى فقط، فإن قلنا: يُؤتى على أطرافه، لم يؤثر ذلك، وإن قلنا: لا يُؤتى عليها، قُطِعَتْ رجلُه اليسرى فى الصورة الأولى، ويدُه اليمنى فى الثانية على العِلتين، وإن كان أقطعَ اليد اليُسرى مع الرجل اليُمنى لم يُقطع على العِلتين، وإن كان أقطعَ اليد اليُسرى فقط، لم تقطع يُمناه على العلتين، وفيه نظر، فتأمل.
وهل قطع رجله اليُسرى يبتنى على العلتين؟ فإن عللنا بذهاب منفعة الجنس، قُطِعَت رجلُه، وإن عللنا بذهاب عضوين مِن شق، لم تُقطع.

وإن كان أقطعَ اليدين فقط، وعللنا بذهاب منفعة الجنس قُطِعَت رجلُه اليسرى، وإن عللنا بذهاب عضوين مِن شق، لم تُقطع، هذا طردُ هذه القاعدة. وقال صاحب "المحرر" فيه: تقطع يُمنى يديه على الروايتين، وفرق بينها وبين مسألة مقطعوع اليدين، والذى يقال فى الفرق: إنه إذا كان أقطعَ الرجلين، فهو كالمُقعد، وإذا قُطِعَت إحدى يديه، انتفع بالأخرى فى الأكل والشرب والوضوء والاستجمار وغيره، وإذا كان أقطعَ اليدين لم ينتفع إلا برجليه، فإذا ذهبت إحداهما، لم يمكنه الانتفاعُ بالرجل الواحدة بلا يد، ومن الفرق أن اليدَ الواحدة تنفع مع عدم منفعة المشىء، والرجل الواحدة لا تنفعُ مع عدم منفعة البطش.
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن سبَّه مِن مسلم أو ذِمِّى أو مُعَاهَدٍ
ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قضى بإهدار دم أمِّ ولد الأعمى لما قتلَها مولاها على السبِّ.
وقتل جماعة من اليهود على سبِّه وأذاه، وأمِّن الناسَ يوم الفتح إلا نفراً ممن كان يُوذيه ويهجوه، وهم أربعة رجال وامرأتان. وقال:

"مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشرَف، فَإِنَّهُ قَدْ آذى الله ورَسُولهُ" وأهدر دمه ودم أبى رافع.
وقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه لأبى برزة الأسلمى، وقد أراد قتل من سبَّه: ليس هذا لأحد بعدَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فهذا قضاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقضاءُ خلفائِه مِن بعده، ولا مخالف لهم من الصحابة، وقد أعاذهم الله من مخالفة هذا الحكم.
وقد روى أبو داود فى "سننه": عن على رضى الله عنه أن يهوديةً كانت تشتِمُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دمَها.
وذكر أصحابُ السير والمغازى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: هجتِ امرأةُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "مَنْ لى بِهَا"؟ فقال رجل مِن قومها: أنا، فنهضَ فقتلها، فأُخبِرَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "لا يَنْتَطِحُ فيها عَنزانِ".

وفى ذلك بضعة عشر حديثاً ما بين صحاح وحِسان ومشاهير، وهو إجماع الصحابة.وقد ذكر حرب فى "مسائله": عن مجاهد قال: أتَي عمرُ رضى الله عنه برجُلِ سبَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقتله، ثم قال عمر رضي الله عنه: من سبَّ الله ورسوله، أو سبَّ أحداً من الأنبياء فاقتلُوه. ثم قال مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما: أيُّما مسلم سبَّ الله ورسوله، أو سبَّ أحداً من الأنبياء، فقد كذَّبَ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهى رِدة، يُستتاب، فإن رجع، وإلا قُتِل، وأيُّما مُعَاهَدٍ عاند، فسبَّ اللهَ أو سبَّ أحداً من الأنبياء، أو جهر به، فقد نقضَ العهد فاقتلوه.
وذكر أحمد، عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه مرَّ به راهب، فقيل له: هذا يسبُّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال ابنُ عمر رضى الله عنه: لو سمعتُه، لقتلته إنا لم نُعطهم الذمة على أن يسبوا نبيَّنا. والآثارُ عن الصحابة بذلك كثيرة، وحكى غيرُ واحد من الأئمة الإجماع على قتله. قال شيخُنا: وهو محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين. والمقصود: إنما هو ذكر حكم النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقضائه فيمن سبه.
وأما تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل مَن قدح فى عدله بقوله: " اعْدِلْ فَإنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ "، وفى حكمه بقوله: "أن كان ابن عمَّتِك"، وفى قصده بقوله: "إن هذهِ قِسْمَةٌ ما أُرِيدَ بِها وَجْهُ الله أو فى خلوته بقوله: "يَقُولُونَ إنَّكَ تنهى عن

الغى وتستخلى به" وغير ذلك، فذلك أن الحقَّ له، فله أن يستوفِيَه، وله أن يترُكه، وليس لأمته تركُ استيفاء حقِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأيضاً فإن هذا كان فى أول الأمر حيث كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مأموراً بالعفوِ والصفح.
وأيضاً فإنه كان يعفو عن حقِّه لمصلحة التأليف وجمعِ الكلمة، ولئلا يُنَفِّرَ الناسَ عنه، ولئلا يتحدثوا أنه يقتلُ أصحابه، وكل هذا يختصُّ بحياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن سمَّه
ثبت فى "الصحيحين": " أن يهوديةً سمته فى شاة، فأكل منها لُقمة، ثم لفظها، وأكل معه بِشر بنُ البراء، فعفا عنها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يُعاقبها" ، هكذا فى "الصحيحين".

وعند أبى داود: أنه أمر بقتلها، فقيل: إنه عفا عنها فى حقِّه، فلما مات بشر بنُ البراء، قتلها به.
وفيه دليل على أن من قدَّم لغيره طعاماً مسموماً، يعلم به دون آكله، فماتَ به، أُقيدَ منه.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الساحر
فى الترمذى. عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ" . والصحيح أنه موقوف على جُنْدُبِ بن عبد الله.
وصح عن عمر رضى الله عنه أنه أمر بقتله، وصح عن حفصة رضى الله عنها، أنها قتلت مدبَّرةً سَحَرَتْها، فأنكر عليها عثمانُ إذ فعلته دون أمره. ورُوى عن عائشة رضى الله عنها أيضاً أنها قتلت مدبَّرة سحرتها، وروى أنها باعتها، ذكره ابنُ المنذر وغيره.
وقد صح أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقتُل مَن سحره من اليهود، فأخذ بهذا الشافعى، وأبو حنيفة رحمهما الله، وأما مالك، وأحمد رحمهما الله، فإنهما يقتلانه، ولكن منصوصُ أحمد رحمه الله، أن ساحر أهل الذمة

لا يُقتل، واحتج بأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقتل لبيد بن الأعصم اليهودى حين سحره، ومن قال بقتل ساحرهم يُجيب عن هذا بأنه لم يُقِرَّ، ولم يُقم عليه بينة، وبأنه خشى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يثير على الناس شراً بترك إخراجِ السحر مِن البئر، فكيف لو قتله.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أول غنيمة كانت فى الإسلام وأوَّل قتيل
لما بعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبدَ الله بن جَحْشٍ ومن معه سريةً إلى نخلةَ تَرْصُد عِيراً لقريش، وأعطاه كِتاباً مختوماً، وأمره أن لا يقرأه إلا بعدَ يومين، فقتلوا عمرو بن الحضرمى، وأسروا عثمان بنَ عبد الله، والحكمَ بن كيسان، وكان ذلك فى الشهر الحرام، فعنَّفهم المشركون، ووقف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغنيمةَ والأسيرين حتى أنزل الله سبحانه وتعالى:{ يَسْأَلُونَكَ عَن الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرَامِ وإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ} [البقرة: 217] فأخَذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العِير والأسيرين، وبعثت إليه قريشٌ فى فدائهما، فقال: لا، حتى يَقْدَمَ صاحبانا - يعنى سعد بن أبى وقاص، وعُتبة بن غزوان -، فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما، نقتُلْ صاحِبيكم، فلما قَدِمَا، فأداهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثمان والحكم، وقسم الغنيمة.
وذكر ابنُ وهب: أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردَّ الغنمية، وودَى القتيل.

والمعروفُ فى السير خلاف هذا.
وفى هذه القصة مِن الفقه إجازةُ الشهادة على الوصية المختومة، وهو قولُ مالك، وكثير من السلف، ويدل عليه حديث ابن عمر رضى الله عنهما فى "الصحيحين ": "ما حقُّ امْرِىءً مُسْلِم لَهُ شَىء يُوصى به يبيتُ لَيْلَتَيْنِ إلا وَوَصِيَّتُه مكْتُوبَة عِنْدَهُ".
وفيها: أنه لا يُشترط فى كتاب الإمام والحاكم البينة، ولا أن يقرأه الإمام والحاكم على الحامل له، وكُلُّ هذا لا أصل له فى كتاب ولا سنة، وقد كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدفع كُتبه مع رُسله، ويُسيرها إلى من يكتب إليه، ولا يقرؤها على حاملها، ولا يُقيم عليها شاهدين، وهذا معلوم بالضرورة مِن هديه وسنته.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الجاسوس
ثبت أن حاطب بن أبى بَلتعة لما جسَّ عليه، سأله عمرُ رضى الله عنه ضربَ عنقه، فلم يُمكنه، وقال: "مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". وقد تقدم حكم المسألة مستوفى.
واختلف الفقهاء فى ذلك، فقالَ سحنون: إذا كاتب المسلمُ أهلَ

الحرب، قُتِلَ، ولم يُستتب، ومالُه لورثته، وقال غيرُه من أصحاب مالك رحمه الله: يُجلد جلداً وجيعاً، ويُطال حبسه، ويُنفى مِن موضع يقرب من الكفار. وقال ابن القاسم: يُقتل ولا يعرف لهذا توبة، وهو كالزنديق.
وقال الشافعى، وأبو حنيفة، وأحمد رحمهم الله: لا يُقتل، والفريقان احتجوا بقصة حاطب، وقد تقدم ذِكرُ وجه احتجاجهم، ووافق ابنُ عقيل من أصحاب أحمد مالكاً وأصحابه.
فصل: فى حكمه فى الأسرى
ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الأسرى أنه قَتَل بَعْضَهم، ومَنَّ على بعضهم، وفادى بعضَهم بمال، وبعضَهم بأسرى مِن المسلمين، واسترقَّ بعضَهم، ولكن المعروف، أنه لم يَسْتَرِقَّ رجلاً بالغاً.
فقتل يومَ بدر من الأسرى عُقبةَ بن أبى معيط، والنضر بن الحارث.
وقتل مِن يهود جماعةً كثيرين من الأسرى، وفادى أسرى بدر بالمال بأربعةِ آلاف إلى أربعمائةٍ، وفادى بعضَهم على تعليم جماعة من المسلمين الكتابة، ومنَّ على أبى عَزَّةَ الشاعر يومَ بدر، وقال فى أسارى بدر: "لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِىٍّ حَيَّاً، ثُمَّ كَلَّمَنِى فى هُؤلاَء النَّتْنى لأَطْلَقْتُهُمْ لَهُ".

وفدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين.
وفدى رجالاً من المسلمين بامرأة من السبى، استوهبها مِن سلمة بن الأكوع.
ومنَّ على ثُمامة بن أُثال، وأطَلَق يوم فتح مكة جماعةً مِن قريش، فكان يقال لهم: الطُّلقاء.
وهذه أول أحكام لم يُنسخ منها شىء، بل يُخير الإمامُ فيها بحسبِ المصلحة، واسترقَّ مِن أهل الكِتاب وغيرهم، فسبايا أوطاس، وبنى المصطَلِق لم يكونوا كتابين، وإنما كانوا عبدة أوثان مِن العرب، واسترق الصحابةُ مِنْ سبى بنى حنيفة، ولم يكونوا كتابيين. قال ابن عباس رضى الله عنهما: خيَّرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الأسرى بينَ الفداء والمنِّ والقتلِ والاستعباد، يفعلُ ما شاء، وهذا هو الحق الذى لا قول سواه.
فصل
وحكم فى اليهود بعدة قضايا، فعاهدَهم أوَّل مقدمه المدينة، ثم حاربه بُنو قَيْنُقَاع، فظَفِرَ بهم، ومنَّ عليهم، ثم حاربه بنو النضير، فظفِرَ بهم، وأجلاهم، ثُمَّ حارَبه بنو قُريظة، فظفِرَ بهم وقتلهم، ثم حاربه أهلُ

خيبر، فظَفِرَ بهم وأقرَّهم فى أرض خيبرَ ما شاء سِوى مَنْ قتل مِنهم.
ولما حكم سعدُ بن معاذ فى بنى قُريظة بأن تُقتَل مقاتلتُهم، وتُسبى ذراريهم وتُغنم أموالُهم، أخبره رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن هذا حُكْمُ اللهِ عزَّ وجلَّ مِن فوق سَبْعِ سَمَاوات.
وتضمَّن هذا الحكم: أن ناقضى العهدِ يسرى نقضُهم إلى نسائهم وذُرِّيَّتِهم إذا كان نقضُهم بالحرب، ويعودون أهلَ حرب، وهذا عينُ حكمِ اللهِ عزَّ وجل.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى فتح خيبر
حكمَ يومئذ بإقرار يهودَ فيها على شطرِ ما يخرُج منها مِن ثمر أو زرع.
وحكم بقتل ابنى أبى الحُقَيْقِ لما نقضُوا الصّلح بينَهم وبينَه: على أن لا يكتُموا ولا يُغيِّبوا شيئاً من أموالهم، فكتمُوا وغيَّبوا، وحكم بعقوبة المتَّهم بتغييبِ المال حتى أقرَّ به، وقد تقدَّم ذلك مستوفى فى غزوة خيبر.
وكانت لأهل الحُديبية خاصة، ولم يَغِبْ عنها إلا جابرُ بن عبد الله، فقسم له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سهمَه.

فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى فتح مكة
حكم بأنَّ من أغلقَ بابَه، أو دخلَ دارَ أبى سفيان، أو دخلَ المسجد، أو وضع السلاح، فهو آمن، وحكم بقتل نفر ستةٍ، منهم: مِقْيس بن صبُابة، وابنُ خطل، ومغنيتان كانتا تغنيان بهجائه، وحكم بأنه لا يُجهز على جريح، ولا يُتبعُ مدبر، ولا يُقتل أسير، ذكره أبو عبيد فى "الأموال". وحكم لخُزاعة أن يبذلُوا سُيوفَهم فى بنى بكر إلى صلاة العصر، ثم قال لهم: "يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ القَتْل".
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى قسمة الغنائم
حكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن للفارِس ثلاثَةَ أسهم، وللرَّاجِلِ سهم، هذا حكمُه الثابتُ عنه فى مغازيه كُلِّها، وبه أخذ جمهورُ الفقهاء.
وحكم أن السَّلبَ للقاتل.
وأما حُكمه بإخراج الخمس، فقال ابن إسحاق: كانت الخيلُ يومَ بنى قريظة ستةً وثلاثين فرساً، وكان أوَّلَ فىء وقعت فيه السهمان، وأخرج منه الخمس، ومضت به السنة، ووافقه على ذلك القضاء إسماعيل بن

إسحاق، فقال إسماعيل: وأحْسِبُ أن بعضَهم قال: ترك أمرَ الخُمس بعد ذلك، ولم يأت فى ذلك من الحديث ما فيه بيانٌ شاف، وإنما جاء ذكرُ الخمس يقيناً فى غنائم حُنين.
وقال الواقدى: أول خُمسٍ فى غزوة بنى قَيْنُقاع بعدَ بدرٍ بشهر وثلاثة أيام، نزلُوا على حُكمه، فصالحهم على أن له أموالَهم، ولهم النساءُ والذرية، وخمَّس أموالهم.
وقال عُبادة بن الصامت: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بدر، فلما هَزَمَ الله العدُوَّ، تبعتهم طائفةٌ يقتلونهم، وأحدقَتْ طائفةٌ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطائفةٌ استولت على العسكر والغنيمة، فلما رجع الَّذِين طلبوهم، قالوا: لنا النَّفَلُ نحن طلبنا العدُوَّ، وقال الذين أحدقوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نحن أحقُّ به، لأنا أحدقنا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا ينال العدُوُّ غِرَّتَه، وقال الذين استَولَوْا على العسكر: هُوَ لنا، نحن حَوْيَنَاهُ. فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَن الأُنفالِ قُلِ الأَنْفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ} [الانفال: 1]، فقسمه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بَوَاءٍ قبل أن ينزل: {واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُم مِنْ شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41].

وقال القاضى إسماعيل: إنما قسم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أموالَ بنى النضير بينَ المهاجرين، وثلاثةً من الأنصار: سهلِ بنِ حُنيف، وأبى دُجانة، والحارث بن الصِّمة لأن المهاجرين حين قدموا المدينة، شاطرهم الأنصارُ ثمارَهم، فقال لهم رسول الله: "إنْ شِئْتُم قَسَمْتُ أَمْوَالَ بَنِى النَّضِيرِ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ، وأَقَمْتُم عَلَى مُوَاسَاتِهم فى ثِمَارِكُم، وإنْ شِئْتُمْ أَعْطَيْنَاها لِلْمُهَاجِرينَ دُونَكُمْ، وقَطَعْتُم عَنْهُمْ مَا كُنْتُم تُعْطُونَهُمْ مِنْ ثِمَارِكُمْ"، فقالوا: بل تُعطيهم دوننا، ونُمْسِكُ ثمارنا، فأعطاها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجرينَ، فاستغنوا بما أخذوا، واستغنى الأنصارُ بما رجع إليهم من ثمارهم، وهؤلاء الثلاثة من الأنصار شَكَوْا حَاجَةً.
فصل
وكان طلحةُ بنُ عبيد الله، وسعيدُ بن زيد رضى الله عنهما بالشام لم

يشهد بدراً، فقسم لهما رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سهميهما، فقالا: وأجورُنا يا رسولَ الله؟ فقال: "وأُجُوركُمَا".
وذكر ابن هشام، وابن حبيب أن أبا لبابة، والحارث بنَ حاطب، وعاصِمَ بنَ عدى خرجُوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فردَّهم، وأمَّرَ أبا لبابة على المدينة، وابن أم مكتوم على الصلاة، وأسهم لهم.
والحارث بن الصِّمة كُسِرَ بالروحاء، فضرب له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسهمه.
قال ابن هشام: وخّواتُ بن جُبير ضرب له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسهمه.
ولم يختِلف أحدٌ أن عثمان ابن عفان رضى الله عنه تخلف على امرأته رقية بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضرب له بسهمه، فقال: وأجرى يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وأَجْرُكَ" ؛ قال ابن حبيب: وهذا خاصٌ للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأجمع المسلمون أن لا يُقسم لغائب.
قلتُ: وقد قال أحمدُ ومالك، وجماعةٌ من السلف والخلف: إن الإمامَ إذا بعث أحداً فى مصالح الجيش، فله سهمُه.
قال ابن حبيب: ولم يكن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْهِمُ للنساء والصبيان والعبيد، ولكن كان يحذيهم مِن الغنيمة.

فصل
وعدل فى قسمة الإبل والغنم كُلُّ عشرة منها ببعير، فهذا فى التقويم، وقسمة المال المشترك. وأما فى الهدى، فقد قال جابر: نحرنا مَع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الحُديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة فهذا في الحديبية . وأما فى حجة الوداع، فقال جابر أيضاً: "أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نشترك فى الإبل والبقر كُلُّ سبعة منا فى بدنة" ؛ وكلاهما فى الصحيح.
وفى "السنن" من حديث ابن عباس، أن رجلاً: أتى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "إن علىَّ بدنة وأنا موسِر بها ولا أجدها فأشتريها، فأمره أن يبتاعَ سبعَ شياه، فيذبحهن".
فصل
حكم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسَّلَبِ كله للقاتل، ولم يُخمِّسْه، ولم يجعله مِن الخُمس، بل مِن أصل الغنيمة، وهذا حكمه وقضاؤه.
قال البخارى فى "صحيحه": السلبُ للقاتل إنما هو مِن غير الخُمس،

وحكم به بشهادة واحد، وحكم به بعد القتل، فهذه أربعة أحكام تضمَّنها حكمُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسَّلَبِ لمن قتل قتيلاً.
وقال مالك وأصحابهُ: السلبُ لا يكون إلا من الخمس، وحكمه حُكمُ النفل، قال مالك: ولم يبلُغْنَا أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك، ولا فعلَه فى غيرِ يوم حُنين، ولا فعلَه أَبُو بكر، ولا عُمر رضى الله عنهما. قال ابن الموَّاز: ولم يُعط غير البراء بن مالك سلبَ قتيله، وخمَّسه.
قال أصحابه: قال الله تعالى: {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِنْ شَىءٍ فأنَّ للَّهِ خُمُسَهُ}، فجعل أربعة أخماس الغنيمة لمن غنمها، فلا يجوز أن يُؤخذ شىء مما جعله الله لهم بالاحتمال.
وأيضاً فلو كانت هذه الآيةُ إنما هى فى غير الأسلاب، لم يُؤخر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكمها إلى حُنين، وقد نزلت فى قصة بدر، وأيضاً إنما قال: "مَنْ قَتَلَ قَتِلاً فلَهُ سَلَبُه"، بعد أن برد القتالُ، ولو كان أمراً متقدماً، لعلمه أبو قتادة فارسُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأحدُ أكابر أصحابه، وهو لم يطلبه حتى سَمِعَ منادىَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ ذلك.
قالوا: وأيضاً فالنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطاه إياه بشهادة واحد بلا يمين، فلو كان مِن رأس الغنيمة، لم يخرج حقُّ مغنم إلا بما تخرج به الأملاكُ من البيِّنات، أو شاهد ويمين.
قالوا: وأيضاً فلو وجب للقاتل ولم يجد بيِّنة لكان يُوقف، كاللقطة ولا يُقسم، وهو إذا لم تكن بينة يُقسَم، فخرج من معنى الملك، ودل على أنه إلى اجتهاد الإمام يجعلُه من الخمس الذى يجعل فى غيره، هذا مجموعُ ما احتُجَّ به لهذا القول.

قال الآخرون: قد قال ذلك رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفعله قبل حُنين بستة أعوام، فذكر البخارى فى "صحيحه": أن معاذَ بن عمرو بنِ الجموح، ومُعاذَ بن عفراء الأنصاريين، ضرباً أبا جهل بن هشام يوم بدر بسيفهما حتى قتلاه، فانصرفا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبراه، فقال: "أَيُّكُمَا قَتَلَهُ"؟ فقال كُلُّ واحد منهما: أنا قتلته، فقال: "هَلْ مَسَحْتُما سَيْفَيْكُمَا"؟ قالا: لا، فنظر إلى السيفين، فقال: "كِلاَكُمَا قَتَلَهُ"، وسَلَبُه لمعاذ بْنِ عَمْرو بْنِ الجَمُوح، وهذا يدل على أن كونَ السلب للقاتل أمرٌ مقرر معلومٌ مِن أول الأمر، وإنما تجدَّد يومَ حنين الإعلامُ العام، والمناداة به لا شرعيتُه.
وأما قول ابنِ الموَّاز: إن أبا بكر وعمر لم يفعلاه، فجوابُه من وجهين ؛ أحدُهما: أن هذا شهادةٌ على النفى، فلا تُسمع، الثانى: أنه يجوز أن يكون تركُ المناداة بذلك على عهدهما اكتفاءً بما تقرر، وثبت مِن حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقضائه، وحتى لو صحَّ عنهما تركُ ذلك تركاً صحيحاً لا احتمالَ فيه، لم يُقَدَّم على حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما قولُه: ولم يُعط غيرَ البراء بن مالك سلبَ قتيله، فد أعطى السلبَ لسلمة ابنِ الأكوع، ولمعاذ بن عمرو، ولأبى طلحة الأنصارى، قَتَلَ عِشرين يَوْمَ حنين، فأخذ أسلاَبهم، وهذه كلها وقائع صحيحة معظمُها فى الصحيح، فالشهادةُ على النفى لا تكاد تسلمُ من النقض.
وأما قولُه: "وخمَّسَه"، فهذا لم يُحفظ به أثر البتة، بل المحفوظُ

خلافه، ففى "سنن أبى داود": عن خالد، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يُخَمِّس السَّلَب.
وأما قولُه تعالى: {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِنْ شَىءٍ فأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، فهذا عام، والحكم بالسلب للقاتل خاص، ويجوز تخصيصُ عمومِ الكتاب بالسنة، ونظائرُه معلومة، ولا يُمكن دفعُها.
وقوله: "لا يجعل شىء من الغنيمةِ لغير أهلها بالاحتمال"، جوابُه من وجهين، أحدهما: أنا لم نجعل السلب لغير الغانمين. الثانى: إنما جعلنا للقاتل بقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بالاحتمال، ولم يؤخِّر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكمَ الآية إلى يوم حُنين كما ذكرتم، بل قد حكم بذلك يومَ بدر، ولا يمنع كونه قاله بعد القتالِ مِن استحقاقه بالقتل.وأما كون أبى قتادة لم يطلبه حتى سَمِعَ منادى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوله، فلا يدُلُّ على أنه لم يكن متقرراً معلوماً، وإنما سكت عنه أبو قتادة لأنه لم يكن يأخُذه بمجرد دعواه، فلما شهد له به شاهد أعطاه.
والصحيح: أن يُكتفى فى هذا بالشاهد الواحد، ولا يحتاج إلى شاهد آخر، ولا يمين، كما جاءت به السنةُ الصحيحةُ الصريحة التى لا مُعارِضَ لها، وقد تقدم هذا فى موضعه. وأما قولُه: "إنه لو كان للقاتل، لوقف، ولم يُقسم كاللقطة"، فجوابُه أنه للغانمين، وإنما للقاتل حقُّ التقديم، فإذا لم تُعلم عين القاتل اشترك فيه الغانمين، فإنه حقهم، ولم يظهر مستحق التقديم منهم، فاشتركوا فيه.

فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما حازه المشركون من أموال المسلمين، ثم ظهر عليه المسلمون، أو أسلم عليه المشركون
فى البخارى: أن فرساً لابن عمر رضى الله عنه ذهب، وأخذه العدو، فظهرَ عليه المسلمون، فَرُدَّ عليه فى زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَبَقَ له عبد، فلحق بالروم، فظهر عليه المسلمون، فردَّه عليه خالد فى زمن أبى بكر رضى الله عنه.
وفى "سنن أبى داود": أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذى رَدَّ عليه الغلام. وفى "المدونة" و"الواضحة" أن رجلاً من المسلمين وجد بعيراً له فى المغانم، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنْ وَجدْتَه لم يُقْسَمْ، فَخُذْهُ، وإنْ وجدْتَهُ قَدْ قُسِمَ فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ إن أرَدْتَهُ".
وصح عنه: أن المهاجرين طلبوا منه دُورَهم يوم الفتح بمكة، فلم يرد على أحد دارَه. وقل له: أين تَنْزِلُ غداً من دارك بمكة؟، فقال: "وهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلاً"، وذلك أن الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما هاجر إلى المدينة، وثب عقل على رباع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة، فحازها كُلَّها، وحوى عليها، ثم أسلم وهى فى يده، وقضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن من أسلم على شىء فهو له، وكان عقيل ورث أبا طالب، ولم يرثه على لتقدُّم إسلامه على موت

أبيه، ولم يكنْ لرسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميراثٌ مِن عبد المطلب، فإن أباه عبدَ الله مات، وأبوه عبدُ المطلب حىٌّ، ثمَّ مات عبدُ المطلب، فَورِثه أولاده، وهم أعمامُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومات أكيرُ أولاده، ولم يعقبوا، فحاز أبو طالب رِباعه، ثم مات، فاستولى عليها عَقيلٌ دونَ على لاختلاف الدين، ثم هاجر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستولى عقيل على داره، فلذلك قال رسول الله: "وهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلاً".
وكان المشركون يَعْمِدُونَ إلى من هاجر من المسلمين ولحق بالمدينة، فيستولُون على داره وعقاره، فمضت السنةُ أن الكفارَ المحاربين إذا أسلموا، لم يضمنُوا ما أتلفُوه على المسلمين مِن نفس أو مال، ولم يَرُدُّوا عليهم أموَالهم التى غَصبُوهَا عليهم، بل من أسلم على شىء، فهو له ؛ هذا حكمه وقضاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما كان يُهدى إليه
كان أصحابُه رضى الله عنهم يُهدون إليه الطعامَ وغيره، فيقبلُ منهم، ويُكافئهم أضعافَها.
وكانت الملوكُ تُهدى إليه، فيقبلُ هداياهم، ويَقْسِمُها بينَ أصحابه، ويأخُذُ منها لنفسه ما يختارُه، فيكون كالصفىِّ الذى له من المغنم.
وفى "صحيح البخارى": أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُهدِيَتْ إليه أَقْبِية دِيباجٍ مزرَّرَة بالذهب، فقسمها فى ناس مِن أصحابه، وعزل منها واحداً لِمخْرَمة بنِ نوفل، فجاء ومعه المِسور ابنُه، فقام على الباب، فقال: ادْعُهُ لى، فسمِع

النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوتَه، فتلقاه به فاستقبلَه، وقال: "يا أَبا المِسْوَرِ خَبَأْتُ هذَا لَكَ".
وأهدى له المُقَوْقِسُ ماريةً أمَّ ولده، وسِيرين التى وهبها لحسان، وبغلةً شهباء، وحماراً.
وأهدى له النجاشىُّ هديةً، فَقبِلَها منه، وبعث إليه هديةً عوضها، وأخبر أنَّه مات قبلَ أن تَصِلَ إليه، وأنها تَرْجعُ، فكان الأمر كما قال.
وأهدى له فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ الجذَامِى بغلةً ببيضاء ركبها يوم حُنين، ذكره مسلم.
وذكر البخارى: أن مَلِكَ أيلةَ أهدى له بغلةً بيضاء، فكساه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُردة، وكتب له بِبَحْرِهِم.
وأهدى له أبو سفيان هدية فقبلها.
وذكر أبو عبيد: أن عامرَ بن مالك مُلاعِبَ الأْسِنة، أهدى للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرساً فرده، وقال: "إنَّا لا نَقْبَلُ هَدِيَّةَ مُشْرِكٍ" وكذلك قال

لعياض المجاشعى: "إنَّا لا نَقْبَلُ زَبَدَ المُشْرِكِين" يعنى: رِفدهم.
قال أبو عبيد: وإنما قبل هدية أبى سفيان لأنها كانت فى مدةِ الهُدنة بينه وبين أهل مكة، وكذلك المقوقِسُ صاحبُ الإسكندرية إنما قبل هديته لأنه أكرمَ حاطبَ بن أبى بلتعة رسوله إليه، وأقرَّ بنبوته، ولم يُؤيسه من إسلامه، ولم يقبل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هديةَ مشركٍ محاربٍ له قطُّ.
فصل
وأما حكم هدايا الأئمة بعده، فقال سُحنون من أصحاب مالك: إذا أهدى أميرُ الروم هديةً إلى الإمام، فلا بأس بقبولها، وتكون له خاصة، وقال الأوزاعى: تكون للمسلمين، ويُكافئه عليها مِن بيت يالمال. وقال الإمام أحمد رحمه الله وأصحابه: ما أهداه الكفار للإمام، أو لأمير الجيش، أو قواده، فهو غنيمة، حكمها حكمُ الغنائم.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى قسمة الأموال
الأموال التى كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسِمُها ثلاثة: الزكاةُ، والغنائم، والفىء فأما الزكاة والغنائم، فقد تقدم حكمها، وبيَّنا أنه لم يكن يُستوعِبُ الأصنافَ الثمانية، وأنه كان رُبما وضعها فى واحد.

وأما حُكمه فى الفىء، فثبت فى الصحيح، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم يومَ حُنين فى المؤلفة قلوبُهم من الفىء، ولم يُعطِ الأنصارَ شيئاً، فَعَتِبُوا عليه، فقال لهم: " ألاَ تَرْضَونَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاءِ والبَعِيرِ، وتَنْطَلِقُونَ بِرَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُودُونَهُ إلى رِحَالِكُمْ، فَوَاللهِ لما تنقلبونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ" وقد تقدَّم ذكرُ القصة وفوائدها فى موضعها.
والقصة هنا أن الله سبحانه أباح لرسولهِ من الحكم فى مال الفىء ما لم يُبحه لغيره، وفى "الصحيح" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنى لأَعْطِى أَقْوَاماً، وَأَدْعُ غَيْرَهُم، والَّذِى أَدَعُ أَحَبُّ إلىَّ مِنَ الَّذِى أُعْطى" وفى (الصحيح) عنه: "إنِّى لأَعْطى أَقْوَاماً أَخَافُ ظَلَعَهُمْ وجَزَعَهُمْ، وأَكِلُ أَقْوَاماً إلى مَا جَعَلَ اللهُ فى قُلُوبِهِمْ مِنَ الغِنى والخَيْرِ، مِنْهم عَمْرُو بْن تَغٌلِب ". قال عمرو بن تغلب: فما أُحِبُّ أن لى بكلمةِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُمرَ النَّعَمِ.وفى "الصحيح": أن علياً بعث إليه بِذُهَيْبَةً من اليمن، فقَسمها أرباعاً، فأعطى الأقرعَ بنَ حابس، وأعطى زيدَ الخيل، وأعطى عَلْقَمَةَ بنَ عُلاثة وعُيَيْنَةَ بنَ حِصن، فقام إليه رجلٌ غائرُ العينين، ناتىءُ الجبهة، كثُّ اللِّحية، محلوقُ الرأس، فقال: يا رسول الله اتق الله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"ويلك أو لست أحقَّ أهلِ الأرض أن يتقىَ الله" ؟، الحديث.
وفى "السنن": أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضع سهم ذى القُربى فى بنى هاشم، وفى بنى المطلب، وتَرَكَ بنى نوفل، ونبى عبدِ شمس، فانطلق جُبير بن مُطعم، وعثمانُ ابن عفان إليه، فقالا: يا رسولَ اللهِ، لا نُنْكِرُ فضلَ بنى هاشم لموضعهم منك، فما بالُ إخوانِنا بنى عبد المطلب، أعطيتَهم وتركتنا، وإنما نحنُ وهم بمنزلةً واحدة، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّا وبَنُوا المُطَّلِبِ لا نَفْتَرِقُ فى جَاهِليَّةً وَلاَ إسْلامٍ، إنَّما نَحْنُ وَهُمْ شَىءٌ واحدٌِ " وشَبَكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
وذكر بعضُ الناس بأن هذا الحكمَ خاص بالنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن سهمَ ذوى القُربى يُصرف بعدَه فى بنى عبد شمس، ونبى نوفل، كما يُصرف فى بنى هاشم، وبنى المطلب، قال: لأن عبد شمس، وهاشما، والمطلب، ونوفلاً إخوة، وهُم أولادُ عبد مناف. ويقال: إن عبدَ شمس، وهاشما توأمان.
والصواب: استمرارُ هذا الحكم النبوى، وأنَّ سهمَ ذوى القربى لبنى هاشم ونبى المطلب حيث خصَّه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهم، وقولُ هذا القائل: إن هذا خاصُ بالنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باطل، فإنه بيَّن مواضِعَ الخُمس الذى جعله الله لذوى القُربى، فلا يُتعدَّى به تلك المواضع، ولا يُقصر عنها، ولكن لم يكن يقسِمُه بينهم على السواء بين أغنيائهم وفقرائهم، ولا كان

يقسِمُه قِسمَة الميراث للذكر مثلُ حظِّ الأنثيين، بل كان يَصرفُه فيهم بحسب المصلحة والحاجة، فيزوِّجُ منه عزبَهم، ويقضِى منه عن غارِمهم، ويُعطى منه فقيرَهم كفايته.
وفى "سنن أبى داود": عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: "ولاَّنى رسول الله خُمْسَ الخمس، فوضعتُه مواضِعَه حياةَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحياةَ أبى بكر رضى الله عنه، وحياةَ عمر رضى الله عنه".
وقد استدِلَّ به على أنه كان يُصْرَفُ فى مصارفه الخمسةِ، ولا يقوى هذا الاستدلال، إذ غايةُ ما فيه أنه صرفه فى مصارفه التى كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصرِفُه فيها، ولم يَعُدها إلي سواها، فأين تعميمُ الأصناف الخمسة به؟، والذى يدل عليه هدىُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحكامُه أنه كان يجعل مصارِفَ الخمس كمصارِفِ الزكاة، ولا يخرجُ بها عن الأصناف المذكورة لا أنه يقسِمُه بينهم كقِسمة الميراث، ومن تأمل سيرته وهديَه حقَّ التأمل لم يشك فى ذلك.
وفى "الصحيحين": عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: كانَتْ أموالُ بنى النضير مما أفاء اللهُ على رسوله مما لم يُوجِفِ المسلمون عليه بخيل ولا رِكاب، فكانت لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة يُنفِقُ منها على أهله نفقةَ سنة، وفى لفظ: "يحبِسُ لأهله قوت سنتهم، ويجعلُ ما بقى فى الكراع والسلاح عُدة فى سبيل الله".
وفى "السنن": عن عوف بن مالك رضى الله عنه، قال: كان رسولُ

الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتاه الفىء، قسمه مِن يومه، فأعطى الآهِل حَظَّيْنِ، وأعطى العَزَب حظاً.فهذا تفصيل منه للآهِلِ بحسب المصلحة والحاجة، وإن لم تكن زوجُه من ذوى القربى.
وقد اختلف الفقهاءُ فى الفىء، هل كان مِلكاً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتصرف فيه كيف يشاء، أو لم يكن ملكاً له؟ على قولين فى مذهب أحمد وغيره.
والذى تدل عليه سنتُه وهديه، أنه كان يتصرَّف فيه بالأمر، فيضعه حيثُ أمره الله، ويقسِمُه على من أُمِرَ بقسمته عليهم، فلم يكن يتصرَّف فيه تصرُّفَ المالك بشهوته وإرادته، يُعطى من أحبَّ، ويمنعُ من أحبَّ، وإنما كان يتصرَّف فيه تصرُّفَ العبدِ المأمور يُنفِّذُ ما أمره به سيده ومولاه، فيعطى من أمر بإعطائه، ويمنع من أُمِرَ بمنعه، وقد صرح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا فقال: "واللهِ إنِّى لا أُعطِى أحداً ولا أمنعهُ، إما أنا قاسِمٌ أَضَعُ حِيْثُ أُمِرْتُ"، فكان عطاؤه ومنعُه وقسمُه بمجرد الأمر، فإن الله سبحانه خيَّره بين أن يكونَ عبداً رسولاً، وبين أن يكون ملكاً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً.
والفرقُ بينهما أن العبدَ الرسولَ لا يتصرَّفُ إلا بأمر سيِّده ومُرْسِله، والمَلِكُ الرسولُ له أن يُعطِىَ مَن يشاء، ويمنعُ من يشاء كما قال تعالى للملك الرسول سليمان: {هذا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39] أى: أعطِ مَن شئتَ، وامنع من شئت، لا نحاسِبُك ؛ وهذه المرتبة هى التى عُرَضَتْ على نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرغِبَ عنها إلى ما هو أعلى منها، وهى مرتبةُ

العبودية المحضة التى تَصرُّفُ صاحبها فيها مقصورٌ على أمرِ السيد فى كُلِّ دقيق وجليل.
والمقصود: أن تصرفه فى الفىء بهذه المثابة، فهو ملك يُخالف حكم غيره من المالكين، ولهذا كان ينفق مما أفاء الله عليه مما لم يُوجِفِ المسلمون عليه بخيل ولا ركاب على نفسه وأهله نفقةَ سنتهم، ويجعل الباقى فى الكُراع والسِّلاح عدة فى سبيل الله عز وجل، وهذا النوعُ مِن الأموال هو السهمُ الذى وقع بعده فيه مِن النزاع ما وقع إلى اليوم.
فأما الزكاوات والغنائم، وقسمة المواريث، فإنها معينة لأهلها لا يَشُركُهم غيرُهم فيها، فلم يُشكل على ولاة الأمر بعدَه مِن أمرها ما أشكل عليهم مِن الفىء، ولم يقع فيها مِن النزاع ما وقع فيه، ولولا إشكالُ أمره عليهم، لما طلبت فاطمةُ بنتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميراثها مِن تركته، وظنت أنه يُورث عنه ما كان ملكاً له كسائر المالكين، وخفى عليها رضى الله عنها حقيقةُ الملك الذى ليس مما يُورث عنه، بل هو صدقة بعده، ولما علِمَ ذلك خليفتهُ الراشدُ البار الصِّدِّيق، ومَن بعده من الخلفاء الراشدين لم يجعلوه ما خلفه من الفىء ميراثاً يُقسم بين ورثته، بل دفعوه إلى على والعباس يعملان فيه عملَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى تنازعا فيه، وترافعا إلى أبى بكر الصديق، وعمر، ولم يَقسم أحد منهما ذلك ميراثاً، ولا مكَّنا منه عباساً وعليَّا، وقد قال الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَللّهِ ولِلرّسُولِ وَلذِى القُرْبى وَاليَتَامَى والمَسَاكِين وابْنِ السَّبِيلِ كَيْلاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغَنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخَذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا واتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ ورِضْوَاناً ويَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ

والَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ والإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ} [الحشر: 7-9] إلى قوله: {والَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]، إلى آخر الآية. فأخبر سبحانه أن ما أفاء على رسوله بجملته لِمَن ذُكِرَ فى هذِهِ الآيات، ولم يَخُصَّ منه خمسة بالمذكورين، بل عمَّمَ وأطلق واستوعب.
ويُصرف على المصارف الخاصة، وهم أهلُ الخمس، ثم على المصارف العامة، وهم المهاجرون والأنصار وأتباعهم إلى يوم الدين. فالذى عمل به هو وخلفاؤه الراشدون، هو المرادُ من هذه الآيات، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه فيما رواه أحمد رحمه الله وغيره عنه: ما أحدٌ أحقَّ بهذا المالِ مِن أحد، وما أنا أحقَّ به من أحد، والله ما مِن المسلمين أحد إلا وله فى هذا المال نصيب إلا عبد مملوك، ولكنا على منَازِلنا مِن كتاب الله، وقسمنا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالرجلُ وبلاؤُه فى الإسلام، والرجل وقِدَمُه فى الإسلام، والرجل وغَناؤه فى الإسلام، والرجل وحاجتُه، والله لئن بقيت لهم ليأتين الراعى بجبل صنعاء حظُّه مِن هذا المال، وهو يَرعى مكانه. فهؤلاء المسمَّوْن فى آية الفىء هم المسمَّون فى آية الخمس، ولم يدخُل المهاجرون والأنصارُ وأتباعُهم فى آية الخمسِ، لأنهم المستحقون لجملة الفىء، وأهلُ الخمس لهم استحقاقان: استحقاقٌ خاص مِن الخمس، واستحقاقٌ عام من جملة الفىء، فإنهم داخلون فى النَّصِيبَيْنِ.
وكما أن قِسمته من جملة الفىء بين مَن جعل له ليس قسمة الأملاك التى يشترك فيها المالكون ؛ كقِسمةِ المواريث والوصايا والأملاك المطلقة، بل بحسب الحاجة والنفع والغَناء فى الإسلام والبلاء فيه، فكذلك قِسمة الخمسِ فى أهله، فإن مخرجَهما واحد فى كتاب الله، والتنصيصُ على الأصناف

الخمسة يُفيد تحقيق إدخالهم. وأنهم لا يُخرجون من أهل الفىء بحال، وأن الخمس لا يعدوهم إلى غيرهم، كأصناف الزكاة لا تعدوهم إلى غيرهم، كما أن الفىء العام فى آية الحشر للمذكورين فيها لا يتعداهم إلى غيرهم، ولهذا أفتى أئمة الإسلام، كمالك، والإمام أحمد وغيرهما، أن الرافضة لا حقَّ لهم فى الفىء لأنهم ليسوا من المهاجرين، ولا من الأنصار، ولا من الذين جاؤوا من بعدهم يقولون :{رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، وهذا مذهبُ أهل المدينة، واختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية، وعليه يدل القرآن، وفعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفائه الراشدين.
وقد اختلف الناسُ فى آية الزكاةِ وآيةِ الخمس، فقال الشافعى: تجب قسمةُ الزكاة والخمس على الأصناف كلِّها، ويُعطى مِن كل صنف مَن يطلق عليه اسم الجمع.
وقال مالك رحمه الله وأهلُ المدينة: بل يُعطى فى الأصناف المذكورة فيهما، ولا يعدوهم إلى غيرهم، ولا تجب قسمةُ الزكاة ولا الفىء فى جميعهم.
وقال الإمام أحمد وأبو حنيفة: بقول مالك رحمهم الله فى آية الزكاة، وبقول الشافعى رحمه الله فى آية الخمس.
ومن تأمل النصوصَ، وعَمَلَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفائه، وجده يدل على قول أهل المدينة، فإن الله سبحانه جعل أهل الخمس هم أهل الفىء، وعيَّنهم اهتماماً بشأنهم، وتقديماً لهم، ولما كانت الغنائمُ خاصة بأهلها لا يشركهم فيها سواهم، نصَّ على خمسها لأهل الخمس، ولما كان الفىء لا يختصُ بأحد دون أحد، جعل جملته لهم، وللمهاجرين والأنصار وتابعيهم، فسوَّى بينَ الخمسِ وبين الفىء فى المصرِف، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصِرفُ سهم الله وسهمَه فى مصالح الإسلام، وأربعةَ أخماس الخمس

فى أهلها مقدماً لِلأهم فالأهم، والأحوج فالأحوج، فيزوج منه عزابَهم، ويقضى منه ديونهم، ويُعين ذا الحاجة منهم، ويُعطى عزبهم حظاً، ومتزوجَهم حظَّين، ولم يكن هو ولا أحدٌ من خلفائه يجمعون اليتامى والمساكين وأبناء السبيل وذوى القربى، ويقسمون أربعة أخماس الفىء بينهم على السوية، ولا على التفضيل، كما لم يكونوا يفعلون ذلك فى الزكاة، فهذا هديُه وسيرتُه، وهو فصلُ الخطاب، ومحضُ الصواب.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الوفاء بالعهد لعدوِّه وفى رسلهم، أن لا يُقتلوا ولا يُحبسوا، وفى النبذ إلى من عاهده على سواء إذا خافَ منه نقضَ العهد
ثبت عنه أنه قال لرسولى مسلمَة الكذاب لما قالا: نقول: إنه رسولُ اللهِ: "لَوْلاَ أَنَّ الرُّسُلَ لاَ تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمَا".
وثبت عنه أنه قال لأبى رافع وقد أرسلته إليه قريش، فأراد المقامَ عنده، وأنه لا يرجع إليهم، فقال: "إنى لاَ أَخِيسُ بِالعَهْدِ، ولا أَحْبِسُ البُرُدَ، وَلكِنِ ارْجِعْ إلى قَوْمِكَ، فَإنْ كَانَ فى نَفْسِكَ الَّذِى فيها الآن فارْجِعْ".

وثبت عنه أنه ردَّ إليهم أبا جندل للعهد الذى كان بينه وبينهم أن يَرُدَّ إليهم من جاءه منهم مسلماً، ولم يرد النساء، وجَادت سُبَيْعَةُ الأسلميةُ مسلمةً، فخرج زوجُها فى طلبها، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُم المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ، فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِهِنَّ فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] فاستحلفها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لم يُخرجها إلا الرغبة فى الإسلامِ، وأنها لم تخرج لحدث أحدثته فى قومها، ولا بغضاً لزوجها، فحلفت، فأعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوجَها مهرَها، ولم يردها عليه. فهذا حكمه الموافق لحكم الله، ولم يجىء شىء ينسخه البتة، ومن زعم أنه منسوخ، فليس بيده إلا الدعوى المجردة، وقد تقدم بيان ذلك فى قصة الحُديبية.
وقال تعالى:{ وإمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَومٍ خِيَانةً فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ إنَّ اللهَ لا يُحبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَحُلَّنَّ عَقْداً، ولاَ يُشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِىَ أَمَدُهُ، أَوْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاء". قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
ولما أسرت قريشٌ حذيفة بن اليمان وأباه أطلقوهما، وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم معَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا خارجَيْن إلى بدر، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انْصَرِفا، نَفَىِ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، ونَستَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ".

فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الأمان الصادر من الرجال والنساء
ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُم وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ".
وثبت عنه أن أجارَ رجلينَ أجارتْهُما أم هانىء ابنة عمه ؛ وثبت عنه أنه أجار أبا العاص بن الربيع لما أجارته ابنتُه زينب، ثم قال: "يُجيرُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ". وفى حديث آخر: "يُجِيرُ على المُسْلِمِينَ أَدْنَاهُم وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقصَاهُمْ".
فهذه أربع قضايا كلية ؛ أحَدها: تكافؤ دمائهم، وهو يمنع قتل مسلمهم بكافرهم.

والثانية: أنه يَسعى بذمتهم أدناهم، وهو يُوجب قبول أمان المرأة والعبد.
وقال ابن الماجشون. لا يجوز الأمان إلا لوالى الجيش، أو والى السرية. قال ابنُ شعبان: وهذا خلافُ النَّاس كُلِّهم.
والثالثة: أن المسلمين يد على من سواهم، وهذا يمنعُ مثن تولية الكفار شيئاً من الولايات، فإن للوالى يداً على المولَّى عليه.
والرابعة: أنه يرد عليهم أقصاهم، وهذا يُوجب أن السَّرِيَّة إذا غنمت غنيمة بقوة جيش الإسلام كانت لهم، وللقاصى من الجيش إذ بقوته غنموها، وأن ما صار فى بيت المال من الفىء كان لقاصيهم ودانيهم، وإن كان سبب أخذه دانيهم، فهذه الأحكام وغيرها مستفادة من كلماته الأربعة صلوات الله وسلامه عليه.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الجزية ومقدارها وممن تقبل
قد تقدم أنَّ أول ما بعث الله عز وجل به نبيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدعوة إليه بغير قتال ولا جزية، فأقام على ذلك بِضْعَ عشرة سنة بمكة. ثم أذِنَ له فى القتال لما هاجر من غير فرض له، ثم أمره بقتال من قاتله، والكفِّ عمن لم يقاتله، ثم لما نزلت "براءة" سنة ثمان أمره بقتال جميع من لم يُسلم من العرب: مَن قالته، أو كفَّ عن قتاله إلا من عاهده، ولم يَنْقُصْهُ من عهده شيئاً، فأمره أن يفىَ له بعهده، ولم يأمره بأخذ الجزية من المشركين، وحارب اليهود مراراً، ولم يُؤمر بأخذ الجزية منهم.

ثمَّ أمره بقتال أهل الكتاب كلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، فامتثل أمر ربه، فقاتلهم، فأسلم بعضهم، وأعطى بعضُهم الجزية، واستمرَّ بعضُهم على محاربته، فأخذها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن أهل نجران وأيلة، وهم من نصارى العرب، ومن أهل دُومَة الجندل وأكثرُهم عرب، وأخذها مِن المجوس ومن أهل الكتاب باليمن، وكانوا يهوداً.
ولم يأخذها من مشركى العرب، فقال أحمد، والشافعى: لا تؤخذ إلا من الطوائف الثلاث التى أخذها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم، وهم: اليهود، والنصارى، والمجوس. ومن عداهم فلا يُقبل منهم إلا الإسلامُ أو القتل. وقالت طائفة: فى الأمم كلها إذا بذلوا الجزية، قُبِلَتْ منهم: أهل الكتابين بالقرآن، والمجوس بالسنة، ومن عداهم ملحَقٌ بهم لأن المجوس أهل شرك لا كتاب لهم، فأخذُها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين، وإنما لم يأخذها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عبدة الأوثان من العرب لأنهم أسلموا كلهم قبل نزول آية الجزية، فإنها نزلت بعدَ تبوك، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد فرغ من قتال العرب، واستوثقت كُلُّها له بالإسلام، ولهذا يأخذها مِن اليهود الذين حاربوه، لأنها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت، أخذها من نصارى العرب، ومن المجوس، ولو بقى حينئذ أحدٌ من عبدة الأوثان بذلها لقبلها منه، كما قبلها من عبدة الصلبان والنيران، ولا فرق ولا تأثير لتغليظِ كفر بعض الطوائف على بعض، ثم إن كفر عبدةِ الأوثان ليس أغلظ مِن كفر المجوس، وأىُّ فرق بين عبدة الأوثان والنيران، بل كفرُ المجوس أغلظ، وعبادُ الأوثان كانوا يُقرون بتوحيد الربوبية، وأنه لا خالق إلا الله، وأنهم إنما يعبدون آلهتهم لِتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يكونوا يُقِرُّون بصانعَيْنِ للعالم، أحدهما: خالق للخير، والآخر للشر، كما تقوله المجوس، ولم يكونوا يستحلون نكاح الأمهات والبنات والأخوات،

وكانوا على بقايا من دين إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.
وأما المجوس، فلم يكونوا على كتاب أصلاً، ولا دانوا بدين أحد من الأنبياء لا فى عقائدهم ولا فى شرائِعهم، والأثر الذى فيه أنه كان لهم كتاب فَرُفعَ، ورُفِعَت شريعتُهم لما وقع مَلِكُهم على ابنته لا يَصِحُّ البتة، ولو صحَّ لم يكونوا بذلك من أهل الكتاب، فإن كتابَهم رُفِعَ، وشريعتهم بطلت، فلم يبقوا على شىء منها.
ومعلوم أن العربَ كانوا على دين إبراهيم عليه السلام، وكان له صحف وشريعة، وليس تغييرُ عبدة الأوثان لدينِ إبراهيم عليه السلام وشريعته بأعظم من تغيير المجوس لدين نبيهم وكتابهم لو صحَّ، فإنه لا يُعرف عنهم التمسك بشىء من شرائع الأنبياء عليهم الصلوات والسلام، بخلاف العرب، فكيف يجعل المجوس الذين دينُهم أقبحُ الأديان أحسنَ حالاً من مشركى العرب، وهذا القول أصحُّ فى الدليل كما ترى.
وفرقت طائفة ثالثة بين العرب وغيرهم، فقالوا: تُؤخذ مِن كل كافر إلا مشركى العرب.ورابعة: فرقت بين قريش وغيرهم، وهذا لا معنى له، فإن قريشاً لم يبق فيهم كافر يحتاج إلى قتاله وأخذ الجزية منه البتة، وقد كتب النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهل هَجَر، إلى المنذر بن ساوى، وإلى ملوك الطوائف يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، ولم يفرق بين عربى وغيره.
أما حُكمُه فى قدرها، فإنه بعث معاذاً إلى اليمن، وأمره أن يأخذ مِن كُلِّ حالم ديناراً أو قِيمته مَعَافِر، وهى ثياب معروفة باليمن. ثم

زاد فيها عمر رضى الله عنه، فجعلها أربعةً دنانير على أهل الذهب، وأربعينَ درهماً على أهل الوَرِقِ فى كل سنة، فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم ضعفَ أهل اليمن، وعمرُ رضى الله عنه علم غِنى أهل الشام وقوتهم.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الهدنة وما ينقضها
ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه صالح أهلَ مكة على وضع الحرب بينه وبينهم عشرَ سنين، ودخل حلفاؤهم من بنى بكر معهم، وحلفاؤه من خزاعة معه، فَعَدَتْ حلفاءُ قريش على حلفائه. فغدروا بهم، فرضيت قريش ولم تُنكره، فجعلهم بذلك ناقضين للعهد، واستباح غزوهم مِن غير نبذ عهدهم إليهم، لأنهم صاروا محاربين له، ناقضين لعهده برضاهم وإقرارهم لحلفائهم على الغدر بحلفائه، وألحق رِدأهم فى ذلك بمباشرهم.
وثبت عنه أنه صالح اليهود، وعاهدهم لما قَدِمَ المدينة، فغدروا به، ونقضوا عهده مراراً، وكل ذلك يُحاربهم ويظفر بهم، وآخرُ ما صالح يهود خيبر على أن الأرض له، ويُقرهم فيها عمالاً له ما شاء، وكان هذا الحكمُ منه فيهم حجةً على جواز صلح الإمام لعدوه ما شاء مِن المدة، فيكون

العقدُ جائزاً، له فسخه متى شاب، وهذا هو الصواب، وهو موجب حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذى لا ناسخَ له.
فصل
وكان فى صلحه لأهل مكة أن من أحبَّ أن يدخل فى عهد محمد وعقده دخل، ومن أحب أن يدخل فى عهد قريش وعقدهم دخل، وأن من جاءهم من عنده لا يردُّونه إليه، ومن جاءه منهم رده إليهم، وأنه يدخل العام القابل إلى مكة، فيخلونها له ثلاثاً، ولا يدخلها إلا بِجُلُبَّانِ السلاح، وقد تقدم ذِكرُ هذه القصة وفقهها فى موضعه.

ذكر أقضيته وأحكامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى النكاح وتوابِعه
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الثَّيِّبِ والبِكر يُزوِّجُهما أبوهما
ثبت عنه فى "الصحيحين": أن خنساء بنت خِدَام زوَّجَها أبوها وهى كارِهةٌ، وكانت ثيباً، فأَتَتْ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فردّ نِكاحَهَا.وفى السنن: من حديث ابن عباس: أن جاريةً بكراً أتت النَّبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكرت لَهُ أنَّ أباها زوّجها وَهِىَ كَارِهَةٌ، فخيرها النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذه غير خنساء، فهما قضيتان قضى فى إحداهما بتخيير الثِّيب، وقضى فى الأخرى بتخيير البكر.
وثبت عنه فى "الصحيح" أنه قال: " لا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ،

قالوا: يا رسولَ الله: وكيف إذنُها؟ قال: "أَنْ تَسْكُتَ".
وفى صحيح مسلم: "البِكْرُ تُستأذن فى نَفْسِهَا، وإذْنُهَا صُمَاتُها".
وموجب هذا الحكم أنه لا تُجبر البِكرُ البالغُ على النكاح، ولا تُزوج إلا برضاها، وهذا قولُ جمهور السلف، ومذهبُ أبى حينفة وأحمد فى إحدى الروايات عنه، وهو القولُ الذى ندين الله به، ولا نعتقِدُ سواه، وهو الموافِقُ لحكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمرِه ونهيه، وقواعد شريعته، ومصالح أمته.
أما موافقتُه لِحكمه، فإنه حَكَم بتخيير البِكرِ الكارِهة، وليس روايةُ

هذا الحديث مرسلةً بعلة فيه، فإنه قد رُوى مسنداً ومرسلاً. فإن قلنا بقول الفقهاء: إن الاتصال زيادة، ومَنْ وصله مقدَّمٌ على من أرسله، فظاهر وهذا تصرفهم فى غالب الأحاديث، فما بالُ هذا خرج عن حكم أمثاله، وإن حكمنا بالإرسال، كقول كثير من المحدثين، فهذا مرسل قوى قد عضدته الآثارُ الصحيحة الصريحة، والقياسُ وقواعِدُ الشرع كما سنذكره، فيتعين القولُ به.
وأما موافقة هذا القول لأمره، فإنه قال: "والبِكْرُ تُستأذن، وهذا أمر مؤكّد، لأنه ورد بصيغة الخبرِ الدال على تحقُّقِ المخبر به وثبوتِه ولزومِه، والأصل فى أوامره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تكون للوجوب ما لم يَقُمْ إجماع على خلافه.
وأما موافقته لنهيه، فلقوله: "لاَ تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأَذَنَ" ، فأمر ونهى، وحكم بالتخيير، وهذا إثبات للحكم بأبلغ الطرق.
وأما موافقته لِقواعد شرعِه، فإنَّ البِكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرَّف أبوها فى أقلِّ شىء من مالها إلا برضاها، ولا يُجبرها على إخراج اليسيرِ منه بدون رضاها، فكيف يجوز أن يُرِقَّها، ويُخرِجَ بُضعها منها بغير رضاها إلى من يُريد هو، وهى مِن أكره الناس فيه، وهو مِن أبغض شىء إليها؟ ومع هذا فيُنكِحها إياه قهراً بغير رضاها إلى من يُريده، ويجعلُها أسيرةً عنده، كما قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اتَّقُوا اللهَ فى النِّسَاءِ فَإنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ" أى: أسرى، ومعلومٌ أن إخراجَ مالها كُلِّه بغير رضاها أسهلُ عليها من تزويجها بمن لا تختارُه بغير رضاها، ولقد أبطلَ مَنْ قال: إنها عينت كُفْئاً تُحبه، وعيَّن أبوها كُفْئاً، فالعبرةُ بتعيينه، ولو كان بغيضاً إليها،

قبيحَ الخِلقة.
وأما موافقتُه لمصالح الأمة، فلا يخفى مصلحة البنت فى تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصولُ مقاصد النكاح لها به، وحصولُ ضد ذلك بمن تُبغِضُه وتنفِرُ عنه، فلو لم تأت السنة الصريحة بهذا القول، لكان القياسُ الصحيح، وقواعدُ الشريعة لا تقتضى غيره، وبالله التوفيق.
فإن قيل: قد حكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفرق بين البكر والثيب، وقال: "ولا تُنكَحُ الأِّيم حتى تُستأمر، ولا تُنكح البِكُر حتى تُستأذن" وقال: "الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِها مِنْ وَلِيِّها، والبِكْرُ يَسْتَأْذَنُها أَبُوها " فجعل الأَيَّمَ أحقَّ بنفسها من وليِّها، فعلم أن ولىَّ البكرِ أحقُّ بها مِن نفسها، وإلا لم يكن لتخصيصِ الأَيِّم بذلك معنى.
وأيضاً فإنه فرَّق بينهما فى صفة الإذن، فجعل إذنَ الثَّيِّبِ النطقَ، وإذن البِكرِ الصَّمتَ، وهذا كُلُّه يدل على عدم اعتبار رضاها، وأنها لا حقَّ لها مع أبيها.
فالجواب: أنه ليس فى ذلك ما يَدُلُّ على جواز تزويجها بغير رضاها مع بلوغها وعقلها ورُشدها، وأن يزوجها بأبغضِ الخلق إليها إذا كان كُفْئاً، والأحاديث التى احتججتُم بها صريحةٌ فى إبطال هذا القول، وليس معكم أقوى مِن قوله: "الأِّيم أحق بنفسها من وليِّها"، هذا إنما يدلُ بطريق المفهوم، ومُنازِعوكم يُنازعونكم فى كونه حجة، ولو سلم أنه حجة، فلا يجوز تقديمُه على المنطوق الصريح، وهذا أيضاً إنما يدل إذا قلت: إن للمفهوم عموماً، والصواب أنه لا عموم له، إذ دلالتُه ترجعُ

إلى أن التخصيصَ بالمذكور لا بُدَّ له من فائدة، وهى نفىُ الحكم عما عداه، ومعلوم أن انقسام ما عداه إلى ثابت الحكم ومنتفيه فائدة، وأن إثبات حكم آخرَ للمسكوت عنه فائدة وإن لم يكن ضدَّ حكم المنطوق، وأن تفصيله فائدة، كيف وهذا مفهومٌ مخالفٌ للقياس الصريح، بل قياس الأولى كما تقدم، ويُخالف النصوصَ المذكورة.
وتأمل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والبكر يستأذنها أبوها" عقيبَ قوله: "الأِّيم أحق بنفسها من وليها"، قطعاً لتوهم هذا القول، وأن البكر تُزوج بغير رضاها ولا إذنها، فلا حق لها فى نفسها البتة، فوصل إحدى الجملتين بالأخرى دفعاً لهذا التوهم. ومن المعلوم أنه لا يلزمُ مِن كون الثيِّب أحق بنفسها من وليها أن لا يكون للِبكر فى نفسها حق البتة.
وقد اختلف الفقهاء فى مناط الإجبار على ستة أقوال.
أحدُها: أنه يُجبر بالبكارة، وهو قولُ الشَافعى ومالك وأحمد فى رواية.
الثانى: أنه يُجبر بالصغر، وهو قولُ أبى حنيفة، وأحمد فى الرواية الثانية.
الثالث: أنه يجبر بهما معاً، وهو الروايةُ الثالثة عن أحمد.
الرابع: أنه يُجبر بأيِّهما وجد وهو الرواية الرابعة عنه.
الخامس: أنه يُجبر بالإيلاد، فُتجبَرُ الثيب البالغ، حكاه القاضى إسماعيل عن الحسن البصرى قال: وهو خلاف الإجماع. قال: وله وجه حسن من الفقه، فيا ليتَ شعرى ما هذا الوجه الأسودُ المظلمُ؟،
السادس: أنه يُجبر من يكون فى عياله، ولا يَخفى عليك الراجحُ مِن هذه المذاهب.

فصل
وقضى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن إذن البكر الصُّمات، وإذن الثيب الكلام، فإن نطقت البكر بالإذن بالكلام فهو آكد، وقال ابنُ حزم: لا يَصِحُّ أن تزوج إلا بالصمات، وهذا هو اللائق بظاهريته.
فصل
وقضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن اليتيمةَ تُستأمر فى نفسها، ولا يُتمَ بَعْدَ احْتِلامٍ، فدلَّ ذلك على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ، وهذا مذهبُ عائشة رضى الله عنها، وعليه يَدُلُّ القرآن والسنة، وبه قال أحمد وأبو حنيفة وغيرُهما.
قال تعالى :{ويَسْتَفتُونَكَ فى النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُم فيهنَّ وَمَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فى الكِتَابِ فى يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتى لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127].
قالت عائشةُ رضى الله عنها: هى اليتيمةُ تكون فى حجر وليها، فيرغبُ فى نكاحها، ولا يُقْسِطُ لها سُنَّةَ صَدَاقِها، فَنُهوا عن نكاحهن إلا أن يُقْسِطُوا لهن سُنَّةَ صداقِهن.
وفى السنن الأربعة: عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اليَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ فى نَفْسِهَا فَإنْ صَمَتَتْ

فَهُوَ إذْنُها وإنْ أَبتْ، فَلاَ جَوَازَ عَلَيْهَا".
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى النكاح بلا ولى
فى "السنن" عنه من حديث عائشة رضى الله عنها: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَها بِغَيْر إذْن وَلِّيها فَنِكَاحُها بَاطِلٌ، فَنِكَاحُها باطِلٌ، فَنِكَاحُها بَاطِلُ، فَإن أَصَابَها فَلَها مَهْرُهَا بمَا أَصَابَ مِنْها، فَإنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلى مَنْ لاَ وَلِىَّ لَهُ " قال الترمذى حديث حسن.
وفى السنن الأربعة: عنه: " لاَ نِكَاحَ إِلاَّبِوَلى".

وفيها عنه: "لاَ تُزوِّجُ المَرْأَةُ المرأةَ، ولا تُزَوِّجُ المَرْأَةُ نَفْسَها، فَإن الزَّانِيَةَ هِىَ الَّتى تَزُوِّجُ نَفْسَهَا ".
فصل
وحكم أن المرأة إذا زوجها الوليان، فهى للأول منهما، وأن الرجل إذا باع للرجلين، فالبيعُ للأول منهما.
فصل: فى قضائه فى نكاح التفويض
ثبت عنه أنه قضى فى رجل تزوَّج امرأة، ولم يَفْرِضْ لها صداقاً، ولم يدخل بها حتَّى ماتَ أن لها مَهْرَ مِثْلِهَا، لا وَكْسَ ولا شَطَطَ، ولها الميراثُ، وعليها العِدةُّ أربعة أشهر وعشراً.

وفى سنن أبى داود عنه: أنه قال لرجل: "أَتَرْضى أَنْ أُزَوِّجَكَ فلانَة"؟ قال: نعم، وقال للمرأة: "أَتَرْضَيْنَ أَنْ أَزَوَّجَكِ فُلاَناً"؟ قالت: نعم، فزوَّج أحدهما صاحبه، فدخل بها الرجلُ، ولم يَفْرِضْ لها صَداقاً، ولم يُعطِها شيئاً، فلما كان عند موته عوَّضَها مِن صداقها سهماً له بخيبر.
وقد تضمَّنت هذه الأحكام جوازَ النكاح مِن غير تسمية صداق، وجوازَ الدخول قبل التسمية، واستقرارَ مهر المثل بالموت، وإن لم يدخُلْ بها، ووجوبَ عِدة الوفاةِ بالموت، وإن لم يدخُلْ بها الزوج، وبهذا أخذ ابنُ مسعود وفقهاءُ العِراق. وعلماءُ الحديث، منهم: أحمد، والشافعى فى أحد قوليه.وقال على بن أبى طالب، وزيد بن ثابت رضى الله عنهما: لا صداقَ لها، وبه أخذَ أهلُ المدينة، ومالك، والشافعى فى قوله الآخر.

وتضمَّنت جواز تولِّى الرجل طَرَفى العقد، كوكيل مِن الطرفين، أو ولى فيهما، أول ولى وكَّلَه الزوجُ، أو زوجٍ وكَّلَه الولى، ويكفى أن يقول: زوجتُ فلاناً فلانة مقتصراً على ذلك، أو تزوجت فلانة إذا كان هو الزوج، وهذا ظاهر مذهب أحمد، وعنه رواية ثانية: لا يجوز ذلك إلا للولى المجبر، كمن زوَّج أمته أو ابنته المجبرة بعبده المجبر، ووجه هذه الرواية أنه لا يُعتبر رضى واحد من الطرفين.
وفى مذهبه قول ثالث: أنه يجوز ذلك إلا للزوج خاصة، فإنه لا يصِحُّ منه تولى الطرفين لتضاد أحكامِ الطرفين فيه.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن تزوج امرأةً فوجدها فى الحَبَلِ
فى "السنن" "والمصنَّف": عن سعيد بن المسيب، عن بصرة بن أكثم، قال: تزوجت امرأة بكراً فى سترها، فدخلتُ عليها، فإذا هى حُبلى، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "لَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَالوَلَدُ عَبْدُ لَكَ، وإذا وَلَدَتْ فَاجْلِدوُهَا" ، وفرَّق بينَهما.

وقد تضمَّن هذا الحكم بطلانَ نِكاح الحامل مِن زنى، وهو قولُ أهل المدينة، والامام أحمد، وجمهور الفقهاء، ووجوبُ المهر المسمى فى النكاح الفاسد، وهذا هو الصحيح من الأقوال الثلاثة. والثانى: يجب مهر المثل، وهو قول الشافعى رحمه الله. والثالث: يجبُ أقلُّ الأمرين.
وتضمنت وجوبَ الحد بالحَبَل وإن لم تقُمْ بينة ولا اعتراف، والحبل من أقوى البينات، وهذا مذهبُ عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وأهل المدينة، وأحمد فى إحدى الروايتين عنه.
وأما حكمه بكون الولد عبداً للزوج، فقد قيل: إنه لما كان ولد زنى لا أب له، وقد غرَّته من نفسها، وغَرِمَ صداقها أخدمه ولدها، وجعله له بمنزلة العبد لا أنه أرقَّه، فإنه انعقد حراً تبعاً لحرية أمه، وهذا محتمل، ويحتمِلُ أن يكون أرقَّه عقوبة لأمه على زناها وتغريرها للزوج، ويكون هذا خاصاً بالنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبذلك الولد لا يتعدَّى الحكم إلى غيره، ويحتمِلُ أن يكون هذا منسوخاً. وقد قيل: إنه كان فى أول الإسلام يُسترق الحر فى الدَّين، وعليه حمل بيعُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسُرَّقٍ فى دَينه. والله أعلم.

فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الشُّروط فى النِّكاح
فى "الصحيحين": عنه: "إنَّ أحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا ما اسْتَحْلَلْتُم بِهِ الفُرُوجَ".
وفيهما عنه: "لا تَسْأَلِ المَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتها لِتَسْتَفْرغَ صَحْفَتَها ولِتَنْكِحَ، فإنَّما لَهَا ما قُدِّرَ لها".وفيهما: أنه نهى أن تَشْترِطَ المرأةُ طلاقَ أختها.
وفى مسند أحمد: عنه: "لا يَحِلُّ أَنْ تُنْكَحَ امْرَأَةُ بِطَلاقِ أُخْرى".
فتضمن هذا الحكمُ وجوبَ الوفاء بالشروط التى شُرِطَتْ فى العقد إذا لم تتضمَّن تَغييراً لحكم الله ورسوله. وقد اتُّفق على وجوب الوفاء بتعجيل المهر أو تأجيله والضمين والرهن به، ونحو ذلك، وعلى عدم الوفاء باشتراط ترك الوطء، والإنفاق، الخلو عن المهر، ونحو ذلك.
واختُلِفَ فى شرط الإقامة فى بلد الزوجة، وشرط دار الزوجة،ر

وأن لا يتسَّرى عليها، ولا يتزوجَ عليها، فأوجب أحمدُ وغيرُه الوفاء به، ومتى لم يَفِ به فلها الفسخ عند أحمد.
واختُلِف فى اشتراط البكارة والنسب، والجمال والسَّلامة من العيوب التى لا يُفسخ بها النكاحُ، وهل يؤثِّرُ عدمها فى فسخه؟ على ثلاثة أقوال.
ثالثها: الفسخ عند عدم النسب خاصة.
وتضمن حكمُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطلانَ اشتراط المرأة طلاقَ أختها، وأنه لا يجب الوفاءُ به. فإن قيل: فما الفرق بين هذا وبين اشتراطها أن لا يتزوج عليها حتى صححتم هذا وأبطلتم شرط الضرة؟ قيل: الفرقُ بينهما أن فى اشتراط طلاقِ الزوجة من الإضرار بِها، وكسرِ قلبها، وخرابِ بيتها، وشماتةِ أعدائها ما ليس فى اشتراط عدمِ نكاحها، ونكاحِ غيرها، وقد فرق النصُّ بينهما، فقياس أحدهما على الآخر فاسد.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى نِكاح الشّغارِ والمُحلِّل، والمُتعَةِ ونِكاحِ المُحرِم، ونِكاح الزانيةِ
أما الشِّغار: فصحَّ النهى عنه مِن حديث ابن عمر، وأبى هُريرة، ومعاوية.
وفى صحيح مسلم: عن ابن عمر مرفوعاً "لا شِغَارَ فى الإسْلاَمِ".
وفى حديث ابن عمر: والشِّغار: أن يُزوِّجَ الرجلُ ابنتَه على أنَ يُزوِّجَه

الآخرُ ابنتَه وليس بينهما صداق.
وفى حديث أبى هُريرة: والشِّغارُ: أن يقولَ الرجُلُ للِرجل: زوجنى ابنتَك وأُزوِّجك ابنتى، أو زوَّجنى أختك وأزوجُك أختى.
وفى حديث معاوية: أنَّ العباسَ بنَ عبد الله بن عباس أنكحَ عبدَ الرحمن ابنَ الحكم ابنَته، وأنكحه عبدُ الرحمن ابنتَه، وكانا جعلا صَدَاقاً، فكتب معاويةُ رضى الله عنه إلى مروان يأمُره بالتفريقِ بينهما، وقال: هذا الشِّغَارُ الذى نهى عنه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فاختلف الفقهاء فى ذلك، فقال الإمام أحمد: الشِّغار الباطل أن يزوِّجه وليته على أن يزوِّجه الآخر وليته، ولا مهر بينهما على حديثِ ابن عمر، فَإن سمَّوا مع ذلك مهراً، صحَّ العقدُ بالمسمَّى عنده، وقَال الخرقى: لا يَصِحُّ ولو سمَّوا مهراً على حديث معاوية. وقال أبو البركات ابن تيمية وغيرُه مِن أصحاب أحمد: إن سمَّوْا مهراً وقالوا: مع ذلك: بُضع كل واحدة مهر الأخرة لم يَصِحَّ، وإن لم يقولوا ذلك، صح.
واختُلِفَ فى علة النهى، فقيل: هى جعلُ كل واحدٍ من العقدين شرطاً فى الآخر وقيل: العلة التشريكُ فى البُضع، وجعلُ بُضع كلِّ واحدة مهراً للأخرى، وهى لا تنتفِعُ به، فلم يرجع إليها المهر، بل عاد المهرُ إلى الولى، وهو مُلكه لبُضع زوجته بتمليكه لبُضع مُولِّيته، وهذا

ظلم لكل واحدة مِنَ المرأتين، وإخلاءٌ لنكاحهما عن مهر تنتفع به، وهذا هو الموافق للغة العرب، فإنهم يقوْلون: بلد شاغر مِن أمير، ودار شاغرة مِن أهلها: إذا خلت، وشغر الكلبُ: إذا رفع رجله، وأخلى مكانَها. فإذا سمَّوا مهراً مع ذلك زال المحذور، ولم يبق إلا اشتراطُ كلِّ واحد على الآخر شرطاً لا يُؤثر فى فساد العقد، فهذا منصوص أحمد.
وأما من فرق، فقال: إن قالوا مع التسمية: إن بُضع كُل واحدة مهرٌ للأخرى، فسد، لأنها لم يرجعْ إليها مهرُها، وصار بُضعها لغير المستحق، وإن لم يقولوا ذلك، صحَّ، والذى يجىء على أصله أنهم متى عقدُوا على ذلك وإن لم يقولوه بألسنتهم أنه لا يصح، لأن القصود فى العقود معتبرة، والمشروط عرفاً كالمشروط لفظاً، فيبطل العقدُ بشرط ذلك، والتواطؤ عليه ونيته، فإن سمَّى لِكل واحدة مهرَ مثلها، صح، وبهذا تظهر حكمةُ النهى واتفاقُ الأحاديث فى هذا الباب.
فصل
وأما نكاح المُحَلِّل، ففى "المسند" والترمذى من حديث ابن مسعود رضىَ الله عنه قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُحَلِّلَ وَالمُحَلَّلَ له". قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح.
وفى "المسند": من حديث أبى هريرة رضى الله عنه مرفوعاً "لَعَنَ

الله المُحَلَّلَ لَهُ". وإسناده حسن.
وفيه: عن على رضى الله عنه، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله.
وفى سنن ابن ماجه: مِن حديث عُقبة بن عامر رضى الله عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلاَ أُخْبِرُكُم بالتَّيْسِ المُسْتَعَارِ"؟ قالُوا: بلى يا رَسُولَ اللهِ. قال: "هُوَ المتُحَللُ لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ والمَحَلَّلَ لَهُ".
فهؤلاء الأربعةُ مِن سادات الصحابة رضى الله عنهم، وقد شهِدُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلعنه أصحابَ التحليل، وهم: المُحَلِّلُ والمُحَلَّلُ لَه وهذا خبرٌ عن الله فهو خبرُ صِدق، وإما دُعاء فهو دُعاء مستجاب قطعاً، وهذا يُفيد أنه مِن الكبائر الملعون فاعِلُها، ولا فرقَ عند أهل المدينة وأهلِ الحديث وفُقهائهم بين اشتراط ذلك بالقول أو بالتواطؤ، والقصدِ، فإن القُصود فى العُقود عندهم معتبرة، والأعمالُ بالنيَّات، والشرطُ المتواطَأُ عليه دخل عليه المتعاقدان كالملفوظِ عندهم، والألفاظُ لا تُراد لعينها، بل لِلدلالَة على المعانى، فإذا ظهرت المعانى والمقاصدُ، فلا عِبْرَة بالألفاظ، لأنها وسائل، وقد تحقَّقت غاياتُها، فترتَّبَتْ عليها أحكامُها.

فصل
وأما نِكاحُ المُتعة، فثبت عنه أنه أحلَّها عامَ الفتح، وثبت عنه أنَّه نهى عنها عَامَ الفتح واختُلِفَ هل نهى عنها يومَ خيبر؟ على قولين، والصحيح: أن النهى إنما كان عامَ الفتح، وأن النهى يومَ خيبر إنما كان عن الحُمُرِ الأهلية، وإنما قال على لابن عباس: إنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى يومَ خيبرَ عن مُتعة النساء، ونهى عن الحمر الأهلية محتجاً عليه فى المسألتين، فظنَّ بعضُ الرواة أن التقييدَ بيوم خيبر راجع إلى الفَصْلَين، فرواه بالمعنى، ثم أفرد بعضُهم أحدَ الفصلين وقيَّده بيومِ خيبر، وقد تقدَّم بيانُ المسألة فى غزاة الفتح.
وظاهِرُ كلامِ ابن مسعود إباحتُها، فإن فى "الصحيحين": عنه: كنا نغزو مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس معنا نِساء، فقلنا: يا رسول الله، ألا نَسْتَخْصِى؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخَّصَ لنا بعدُ أن نَنْكِحَ المرأة بالثَّوْب إلى أجَل، ثم قرأ عبدُ الله: {يَا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أحَلَّ اللهُ لَكُم وَلاَ تَعْتَدُوا إنَّ الله لاَ يُحبُّ المُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] ولكن فى "الصحيحين": عن على رضى الله عنه، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرَّم مُتْعَةَ النِّسَاءِ.

وهذا التحريمُ: إنما كان بعد الإباحة، وإلا لزم منه النسخُ مرتين ولم يحتج به على علي بن عباس رضى الله عنهم، ولكن النظر: هل هو تحريمُ بَتَاتٍ، أو تحريمُ مِثْلُ تحريمِ الميتة والدم وتحريم نكاح الأمة فيُباح عند الضرورة وخوفِ العنت؟ هذا هو الذى لحظه بنُ عباس، وأفتى بِحِلِّها للضرورة، فلما توسَّع الناسُ فيها، ولم يقتصِرُوا على موضع الضرورة، أمسك عن فُتياه، ورجع عنها.
فصل
وأما نكاحُ المُحْرِمِ، فثبت عنه فى "صحيح مسلم" من رواية عثمان بن عفان رضى الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يَنْكِحُ المُحْرِمُ وَلاَ يُنْكَحُ".
واختُلِفَ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هل تزوَّج ميمونةَ حلالاً أو حراماً؟ فقال ابنُ عباس: تزوَّجها مُحْرِمَاً، وقال أبو رافع: تزوَّجها حلالاً، وكنتُ الرسولَ بينهما. وقولُ أبى رافع أرجح لعدة أوجه.
أحدها: أنه إذ ذاك كان رجلاً بالغاً، وابنُ عباس لم يكن حينئذ ممن بلغ الحُلم، بل كان له نحو العشر سنين، فأبو رافع إذ ذاك كان أحفظَ منه.

الثانى: أنه كان الرسولَ بين رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبينها، وعلى يده دارَ الحديثُ، فهو أعلم به مِنه بلا شك، وقد أشار بنفسه إلى هذا إشارةَ متحقِّق له، ومتيقِّن، لم ينقله عن غيره، بل باشره بنفسه.
الثالث: أن ابن عباس لم يكن معه فى تلك العُمرة، فإنها كانت عُمرةَ القضية، وكان ابنُ عباس إذ ذاك من المستضعفين الذين عَذَرَهُمُ اللهُ مِن الوِلدان، وإنما سمع القِصَّة مِن غير حضور منه لها.
الرابع: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دخل مكة، بدأ بالطواف بالبيت، ثم سعى بينَ الصفا والمروة، وحلق، ثم حَلَّ.
ومن المعلوم: أنه لم يتزوج بها فى طريقه، ولا بدأ بالتزويج بها قبلَ الطواف بالبيت، ولا تزوَّج فى حال طوافه، هذا من المعلوم أنه لم يقع، فصحَّ قولُ أبى رافع يقيناً.
الخامس: أن الصحابة رضى عنهم غَلَّطُوا ابنَ عباس، ولم يُغلِّطُوا أبا رافع.
السادس: أن قولَ أبى رافع موافِقٌ لنهى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نِكاح المُحْرِمِ، وقول ابن عباس يُخالفه، وهو مستلزِم لأحد أمرين، إما لنسخه، وإما لتخصيص النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجواز النِّكاحِ محرماً، وكلا الأمرين مخالِف للأصل ليس عليه دليل، فلا يُقبل.
السابع: أن ابنَ أختها يزيد بن الأصم شهد أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوَّجها حلالاً قال وكانت خالتى وخالة ابنِ عباس. ذكره مسلم.

فصل
وأما نكاحُ الزانية، فقد صرَّح الله سبحانه وتعالى بتحريمه فى سُورة النور، وأخبر أن مَنْ نكحها، فهو إما زانٍ أو مشرك، فإنه إما أن يلتزِمَ حُكمَه سبحانه ويعتقد وجوبه عليه، أولا، فإن لم يلتزِمْه ولم يعتقده، فهو مشرك. وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه، فهو زانٍ، ثم صرَّح بتحريمه فقال: {وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلىَ المؤْمِنينَ} [النور: 3].
ولا يخفى أن دعوى نسخ الآية بقوله :{وَأَنْكِحُوا الأَيَامى مِنْكُم} [النور:32] ، مِن أضعفِ ما يُقال، وأضعف منه حملُ النكاح على الزنى إذ يصير معنى الآية: الزانى لا يزنى إلا بزانية أو مشركة، والزانية لا يزنى بها إلا زانٍ أو مشرك، وكلام الله ينبغى أن يُصان عن مثل هذا.
وكذلك حملُ الآية على امرأة بغى مشركة فى غاية البعد عن لفظها وسياقها، كيف وهو سبحانه إنما أباح نكاحَ الحرائر والإماءِ بشرط الإحصان، وهو العِفَّة، فقال: {فانْكِحُوهُنَّ بإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدانٍ} [النساء: 25]، فإنما أبح نكاحَها فى هذه الحالة دُون غيرها، وليس هذا من باب دلالة المفهوم، فإن الأبضاع فى الأصل على التحريم، فيُقتصرُ فى إباحتها على ما ورد به الشرعُ، وما عداه، فعلى أصل التحريم.
وأيضاً، فإنه سبحانه قال: { الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثينَ والخَبِيثُونَ للْخَبِيثَاتِ} [النور: 26] والخَبِيثَاتُ: الزوانى. وهذا يقتضى أن من تزوَّج بهن، فهو خبيثٌ مثلهن.
وأيضاً. فمن أقبح القبائح أن يكون الرجلُ زوجَ بغى، وقُبْحُ هذا

مستقر فى فطر الخلق، وهو عندهم غاية المسبَّة.
وأيضاً: فإن البَغِىَّ لا يُؤمَن أن تُفْسِدَ على الرجل فِرَاشه، وتعلِّق عليه أولاداً مِن غيره، والتحريم يثبت بدونْ هذا.
وأيضاً: فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرق بين الرجل وبين المرأة التى وجدها حُبلى من الزنى.
وأيضاً فإن مرثد بن أبى مرثد الغنوى استأذن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتزوج عَنَاق وكانت بغيَّاً، فقرأ عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية النور وقال: " لا تَنْكِحْهَا".
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن أسلم على أكثر مِن أربع نِسوة أو على أختين
فى الترمذى عن ابن عمر رضى الله عنهما: أن غَيلان أسلم وتحتَه عَشْرُ نِسوةٍ، فقال له النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اختر مِنْهُنَّ أَرْبَعاً". وفى طريق أخرى: "وفَارِقْ سَائِرهُنَّ"

وأسلم فيروز الدَّيلمى وتحته أختان، فقال له النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اخْتَرْ أَيَّتَهُما شِئتَ". فتضمن هذا الحكم صِحةَ نكاح الكفار، وأنه له أن يختار مَنْ شاء مِن السوابق واللواحق لأنه جعل الخِيرة إليه، وهذا قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: إن تزوجهن فى عقد واحد، فسد نكاحُ الجميع، وإن تزوجهن مترتباتٍ، ثبت نكاح الأربع، وفسد نكاح من بعدهن ولا تخيير.

فصل
وحكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن العبد "إذا تزوَّج بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيه، فهو عَاهِرٌ". قال الترمذى: حديث حسن.
فصل
واستأذنه بنو هشام بن المُغيرة أن يُزوِّجوا علىَ بنَ أبى طالب رضى الله عنه ابنةَ أبى جهل، فلم يأذن فى ذلك، وقال: "إلاَّ أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أبى طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتى ويَنْكِحَ ابْنَتَهُم، فإنَّمَا فَاطِمَة بَضْعَةٌ مِنِّى يَرِيبُنى ما رَابَها، ويُؤْذِينى ما آذاهَا، إنِّى أَخَافُ أَنْ تُفْتَنَ فَاطِمَةُ فى دِينِها، وإنى لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلاَلاً، ولاَ أُحِلُّ حَراماً، ولكِنْ واللهِ لا تَجْتَمِع بِنْتُ رَسُولِ الله وبِنْتُ عدوِّ الله فى مَكانٍ وَاحِدٍ أَبداً"
وفى لفظ فذكر صِهراً له فأثنى عليه، وقال: حَدَّثَنى فَصَدَقَنى، وَوَعَدَنى فوفى لى.
فتضمَّن هذا الحكمُ أموراً.
أحدُها: أن الرجل إذا شرط لزوجته أن لا يتزوج عليها، لزمه الوفاءُ بالشرط، ومتى تزوَّج عليها، فلها الفسخ، ووجه تضمن الحديث لذلك أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أن ذلك يُؤذى فاطمة ويَريبها، وأنه يؤذيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويريبه،

ومعلوم قطعاً أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما زوجه فاطمة رضى الله عنها على أن لا يُؤذيها ولا يَريبها، ولا يؤذى أباها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يَريبه، وإن لم يكن هذا مشترطاً فى صُلب العقد، فإنه مِن المعلوم بالضرورة أنه إنما دخل عليه، وفى ذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِهره الآخر، وثناءَه عليه بأنه حدَّثه فصدقه، ووعده فوفى له تعريضٌ بعلى رضى الله عنه، وتهييجٌ له على الاقتداء به، وهذا يُشعر بأنه جرى منه وعد له بأنه يَريبها ولا يُؤذيها، فهيَّجه على الوفاء له، كما وفى له صهرُه الآخر.
فيُؤخذ مِن هذا أن المشروطَ عُرفاً كالمشروطِ لفظاً، وأن عدمَه يُملِّك الفسخ لمشترطه، فلو فُرِضَ من عادة قوم أنهم لا يُخرجون نساءهم من ديارهم ولا يُمكنو أزواجَهم من ذلك البتة، واستمرت عادتُهم بذلك كان كالمشروط لفظاً، وهو مطَّرد على قواعد أهل المدينة، وقواعِد أحمد رحمه الله: أن الشرط العرفى كاللفظى سواء، ولهذا أوجبوا الأجرةَ على من دفع ثوبه إلى غسَّال أو قصار، أو عجينَه إلى خباز، أو طعامَه إلى طباخ يعملُون بالأجرة، أو دخل الحمامَ، أو استخدم من يغسله ممن عادته يغسِل بالأجرة ونحو ذلك، ولم يشرط لهم أجرة أنه يلزمه أجرة المثل. وعلى هذا، فلو فُرِضَ أن المرأة من بيت لا يتزوجُ الرجلُ على نسائهم ضرةً، ولا يُمكنونه مِن ذلك، وعادتهم مستمرة بذلك، كان كالمشروط لفظاً.
وكذلك لو كانت ممن يعلم أنها لا تُمكِّن إدخالَ الضرةِ عليها عادةً لشرفها وحسبها وجَلالتها كان تركُ التزوُّج عليها كالمشروط لفظاً سواء.
وعلى هذا فسيِّدةُ نساء العالمين، وابنةُ سيد ولد آدمَ أجمعين أحقُّ النساء بهذا، فلو شرطه على فى صُلب العقد كان تأكيدا لا تأسيساً.

فى منع على من الجمع بين فاطمة رضى الله عنها، وبين بنتِ أبى جهل حِكمةٌ بديعة، وهى أن المرأةَ مع زوجها فى درجته تبعٌ له، فإن كانت فى نفسها ذاتَ درجة عالية، وزوجُها كذلك، كانت فى درجة عالية بنفسها وبزوجها، وهذا شأنُ فاطمة وعلى رضى الله عنهما، ولم يكن اللهُ عز وجل لِيجعل ابنةَ أبى جهل مع فاطمة رضى الله عنها فى درجة واحدة لا بنفسها ولا تبعاً وبينَهما من الفرق ما بينهما، فلم يكن نكاحُها على سيدة نساء العالمين مستحسناً لا شرعاً ولا قدراً، وقد أشار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هذا بقوله: "والله لا تَجْتَمِعُ بِنتُ رَسُولِ اللهِ وبنت عَدُوِّ الله فى مَكَانٍ وَاحِدٍ أَبداً"، فهذا إما أن يتناولَ درجة الآخر بلفظه أو إشارته.
فصل: فيما حَكَم اللهُ سبحانه بتحريمه مِن النساء على لسان نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حرَّم الأمهاتِ، وهن كل من بينك وبينه إيلاد مِن جهة الأمومة أو الأبوة، كأُمهاته، وأمهاتِ آبائه وأجدادِه من جهة الرجال والنساء وإن علون.
وحرَّم البناتِ وهُنَّ كُلُّ من انتسب إليه بإيلاد، كبناتِ صُلبه وبناتِ بناته، وأبنائِهن وإن سَفُلْنَ.
وحرَّم الأخواتِ مِن كل جهة، وحرَّم العَّماتِ وهُنَّ أخواتُ آبائه وإن عَلَوْنَ مِن كل جهة.
وأما عمةُ العمِّ فإن كان العمُّ لأبٍ، فهى عمة أبيه، وإن كان لأم، فعمتُه أجنبية منه، فلا تدخُل فى العمات، وأما الأم، فهى داخلة

فى عماته، كما دخلت عمةُ أبيه فى عماته.
وحرَّم الخالاتِ وهُنَّ أخواتُ أمهاتِه وأمهات آبائه وإن عَلَوْنَ.
وأما خالةُ العمة، فإن كانت العمةُ لأب فخالتُها أجنبية، وإن كانت لأم فخالتها حرامٌ، لأنها خالة، وأما عمةُ الخالة، فإن كانت الخالةُ لأم، فعمتُها أجنبية، وإن كانت لأبٍ، فعمتها حرام، لأنها عمة الأم.
وحرَّم بناتِ الأخ، وبناتِ الأخت، فيعُمُّ الأخَ والأخت مِن كل جهة وبناتهما وإن نزلت درجتُهن.
وحرَّم الأمَّ مِن الرضاعة، فيدخُل فيه أمهاتُها مِن قبل الآباء والأمهاتِ وإن علون وإذا صارت المرضعةُ أمَّه، صار صاحب اللبن وهو الزوجُ أو السيد إن كانت جارية أباه، وآباؤه أجداده، فنبَّه بالمرضعة صاحبة اللبن التى هى مُودع فيها للأب، على كونه أبَاً بطريق الأولى، لأن اللبن له، وبوطئه ثابَ، ولهذا حكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحريم لبن الفحل، فثبت بالنص وإيمائه انتشارُ حرمة الرضاع إلى أم المرتضع وأبيه مِن الرضاعة، وأنه قد صار ابناً لهما، وصارا أبوينِ له، فلزم من ذلك أن يكون إخوتهما وأخواتُهما خالات له وعماتٍ، وأبناؤهما وبناتُهما إخوة له وأخوات، فنبه بقوله :{وأَخَوَاتُكُم مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] على انتشار حرمة الرضاع إلى إخوتهما وأخواتهما، كما انتشرت منهما إلى أولادهما فكما صاروا إخوةً وأخوت للمرتضع، فأخوالهُما وخالاتُهما أخوالٌ وخالاتٌ له، وأعمامٌ وعمات له: الأول بطريق النص، والآخر بتنبيهه، كما أن الانتشار إلى الأم بطريق النص، وإلى الأب بطريق تنبيهه.
وهذه طريقة عجيبة مطَّردة فى القرآن لا يقعُ عليها إلا كُلُّ غائص على معانيه، ووجوهِ دلالاته، ومن هنا قضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه "يَحْرُمُ مِنَ

الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" ولكن الدلالة دلالتان: خفيَّةٌ وجليَّةٌ، فجمعهما للأمة، ليتم البيانُ ويزول الالتباسُ، ويقع على الدلالة الجلية الظاهرة مَنْ قَصُرَ فهمُه عن الخفية.
وحَرَّم أمهاتِ النساء، فدخل فى ذلك أمُّ المرأة وإن علت مِن نسب أو رضاع، دخل بالمرأة أو لم يدخل بها، لصدق الاسم على هؤلاء كلِّهن.
وحرَّم الربائِبَ اللاتى فى حُجور الأزواج وهُنَّ بناتُ نسائهم المدخول بهن، فتناول بذلك بناتِهن، وبناتِ بناتهن، وبنات أبنائهن، فإنهنّ داخلاتٌ فى اسم الربائب، وقيد التحريم بقيدين، أحدُهما: كونُهن فى حجور الأزواج والثانى: الدخولُ بأمهاتهن. فإذا لم يُوجد الدخول لم يثبت التحريم، وسواء حصلت الفرقةُ بموت أو طلاق، هذا مقتضى النص.
وذهب زيد بن ثابت، ومَن وافقه، وأحمد فى رواية عنه: إلى أن موتَ الأم فى تحريم الربيبة كالدخول بها، لأنه يُكمل الصداق، ويُوجب العدة والتوارث، فصار كالدخول، والجمهور أبَوْا ذلك، وقالوا: الميتة غير مدخول بها، فلا تحرم ابنتها، والله تعالى قيَّد التحريم بالدخول، وصرح بنفيه عند عدم الدخول.
وأما كونها فى حَجره، فلما كان الغالبُ ذلك ذكره لا تقييداً للتحريم به، بل هو بمنزلة قوله: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم خَشْيَةَ إمْلاَق} [الإسراء: 31] ولما كان مِن شأن بنت المرأة أن تكون عند أمِّها، فهى فى حجر الزوج وقوعاً وجوازاً، فكأنه قال: اللاتى من شأنهن أن يكُنَّ فى حُجوركم،

ففى ذكر هذا فائدة شريفة، وهى جوازُ جعلها فى حَجره، وأنه لا يجب عليه إبعادُها عنه، وتجنب مؤاكلتها، والسفر، والخلوة بها، فأفاد هذا الوصفُ عدمَ الامتناع مِن ذلك.
ولما خفى هذا على بعض أهلِ الظاهر، شرط فى تحريم الربيبة أن تكون فى حَجر الزوج، وقيَّد تحريمها بالدخول بأمها، وأطلق تحريمَ أمِّ المرأة ولم يُقيده بالدخول، فقال جمهورُ العلماء من الصحابة ومن بعدهم: إن الأم تحرم بمجرد العقد على البنت دخل بها أو لم يدخل، ولا تحرم البنتُ إلا بالدخول بالأم، وقالوا: أبهِمُوا ما أبهمَ الله. وذهبت طائفة إلى أن قوله: {اللاَّتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وصف لنسائكم الأولى والثانية، وأنه لا تحرم الأم إلا بالدخول بالبنت، وهذا يردُّه نظمُ الكلام، وحيلولة المعطوف بين الصفة والموصوف، وامتناعُ جعل الصفة للمضاف إليه دون المضاف إلا عند البيان، فإذا قلت: مررت بغلام زيد العاقلِ، فهو صفة للغلام لا لزيد إلا عند زوال اللبس، كقولك: مررت بغلام هند الكاتِبة، ويردُّه أيضاً جعله صفة واحدة لموصوفين مختلفى الحكم والتعلُّق والعامل، وهذا لا يُعرف فى اللغة التى نزل بها القرآنُ.
وأيضاً فإن الموصوف الذى يلى الصفَة أولى بها لجواره، والجارُ أحق بصَقَبه ما لم تدعُ ضرورةٌ إلى نقلها عنه، أو تخطِّيها إياه إلى الأبعد.
فإن قيل: فمن أين أدخلتم ربيبَته التى هى بنتُ جاريته التى دخل بها، وليست مِن نسائه؟.
قلنا: السرية قد تدخل فى جملة نسائه، كما دخلت فى قوله :{نِسَاؤُكُم حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُم أَنَّى شِئْتُم}[البقرة: 223] ، ودخلت فى قوله:

{أُحِلَّ لَكُم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسَائِكُم} [البقرة: 187] ،ودخلت فى قوله: { وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22].
فإن قيل: فليزمُكم على هذا إدخالها فى قوله: {وأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] فتحرم عليه أمُّ جاريته؟
قلنا: نعم وكذلك نقول: إذا وطىء أمته، حَرُمَتْ عليه أمُّها وابنتها.
فإن قيل: فأنتم قد قررتم أنه لا يُشترط الدخولُ بالبنت فى تحريم أمِّها فكيف تشترطونه هاهنا؟
قلنا: لتصير من نسائه، فإن الزوجة صارت من نسائه بمجرد العقد، وأما المملوكة، فلا تصيرُ مِن نسائه حتى يطأها، فإذا وطئها، صارت من نسائه، فحرمت عليه أمُّها وابنتُها.
فإن قيل: فكيف أدخلتم السُّرِّيَّةَ فى نسائه فى آية التحريم، ولم تُدخلوها فى نسائه فى آية الظهار والإيلاء؟
قيل: السياقُ والواقع يأبى ذلك، فإن الظهار كان عندهم طلاقاً، وإنما محلُّه الأزواج لا الإماء، فنقله الله سبحانه من الطلاق إلى التحريم الذى تُزيله الكفَّارة، ونقل حُكمَه وأبقى محله، وأما الإيلاء، فصريح فى أن محله الزوجات، لقوله تعالى: { لِلَّذين يُؤْلُون مِنْ نِسَائِهمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُو فَإِنَّ الله غَفُورُ رَحِيمُ * وإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226-227].
وحرَّم سبحانه حلائل الأبناء، وهن موطوآتُ الأبناء بنكاح أو ملك يمين، فإنها حليلة بمعنى محلَّلة، ويدخل فى ذلك ابنُ صلبه، وابن ابنه، وابن ابنته، ويخرج بذلك ابن التَّبَنِّى، وهذا التقييدُ قُصِدَ به إخراجُه.

وأما حليلةُ ابنه من الرضاع، فإن الأئمة الأربعة ومَنْ قال بقولهم يدخلونها فى قوله :{وحَلاَئِلُ أَبْنائِكُم} [النساء: 23] ولا يخرجونها بقوله: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} [النساء: 23] ويحتجون بقول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاع مَا تُحَرِّمُونَ مِنَ النَّسَبِ"، قالوا: وهذه الحليلة تحرم إذا كانت لابن النسب، فتحرم إذا كانت لابن الرضاع. قالوا: والتقييد لإخراج ابن التبنِّى لا غير، وحرموا من الرضاع بالصهر نظيرَ ما يَحْرُمُ بالنسب. ونازعهم فى ذلك آخرون، وقالوا: لا تحرُم حليلةُ ابنه مِن الرضاعة، لأنه ليس مِن صُلبه، والتقييد كما يُخرج حليلة ابن التبنِّى يُخرج حليلةَ ابن الرضاع سواء، ولا فرق بينهما. قالوا: وأما قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" فهو من أكبر أدلتنا وعمدتنا فى المسألة، فإن تحريمَ حلائلِ الآباء والأبناء إنما هو بالصِّهر لا بالنَسب، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قصر تحريمَ الرضاع على نظيره مِن النسب لا على شقيقه من الصهر، فيجبُ الاقتصارُ بالتحريم على مورد النص.
قالوا: والتحريمُ بالرضاع فرع على تحريم النسب، لا على تحريم المصاهرة، فتحريمُ المصاهرة أصلٌ قائم بذاته، والله سبحانه لم ينُصَّ فى كتابه على تحريم الرضاع إلا من جهة النسب، ولم ينبه على التحريم به مِن جهة الصهر ألبتة، لا بنص ولا إيماءٍ ولا إشارة، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أن يُحرم به ما يحرُم من النسب، وفى ذلك إرشاد وإشارة إلى أنه لا يحرم به ما يحرم بالصهرِ، ولولا أنه أراد الاقتصار على ذلك لقال: "حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعِ ما يحرم من النَّسَبِ والصِّهر"

قالوا: وأيضاً فالرَّضاع مشبَّه بالنسب، ولهذا أخذ منه بعض أحكامه وهو الحرمةُ والمحرمية فقط دون التوارث، والإنفاق وسائر أحكام النسب، فهو نسبٌ ضعيف، فأخذ بحسب ضعفه بعضَ أحكام النسب، ولم يقوى على سائر أحكام النسب، وهو ألصق به من المصاهرة، فكيف يقوى على أخذ أحكام المصاهرة مع قصوره عن أحكام مشبهه وشقيقه؟.
وأما المصاهرة والرضاع، فإنه لا نسبَ بينهما ولا شبهة نسب، ولا بعضية، ولا اتصال. قالوا: ولو كان تحريمُ الصهرية ثابتاً لبينه الله ورسوله بياناً شافياً يُقيم الحجة ويقطع العذر، فَمِنَ الله البيانُ، وعلى رسولِه البلاغُ، وعلينا التسليمُ والانقياد، فهذا منتهى النظر فى هذه المسألة، فمن ظفِر فيها بحجة، فليرشد إليها وليدل عليها، فإنا لها منقادون، وبها معتصِمون، والله الموفق للصواب.
فصل
وحرَّم سبحانه وتعالى نكاح من نكحهُنَّ الآباء، وهذا يتناولُ منكوحاتِهم بملك اليمين أو عقد نكاح، ويتناول آباء الآباء، وآباء الأمهات وإن عَلَوْن، والاستثناء بقوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]، من مضمون جملة النهى وهو التحريم المستلزم للتأثيم والعقوبة، فاستثنى منه ما سلف قبل إقامة الحجة بالرسول والكتاب.
فصل
وحرَّم سبحانه الجمعَ بين الأختينِ، وهذا يتناولُ الجمعَ بينهما فى عقدِ

النكاح، وملكِ اليمين، كسائر محرَّمات الآية، وهذا قولُ جمهور الصحابة ومَن بعدهم، وهو الصوابُ، وتوقفت طائفةٌ فى تحريمه بملك اليمين لمعارضة هذا العموم بعموم قوله سبحانه :{والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5-6] ولهذا قال أميرُ المؤمنين عثمان بن عفانَ رضى الله عنه: أحلَّتهما آية، وحرَّمتهما آية.
وقال الإمام أحمد فى رواية عنه: لا أقول: هو حرام، ولكن ننهى عنه، فمن أصحابه من جعل القولَ بإباحته رواية عنه. والصحيح: أنه لم يبُحه، ولكن تأدَّب مع الصحابة أن يُطلِق لفظ الحرامِ على أمرٍ توقَّفَ فيه عثمانُ، بل قال: ننهى عنه.
والذين جزموا بتحريمه، رجَّحوا آيةَ التحريم من وجوه.
أحدها: أن سائرَ ما ذُكِرَ فيها من المحرَّمات عام فى النكاح وملك اليمين، فما بالُ هذا وحدَه حتى يخرُجَ منها، فإن كانت آيةُ الإباحة مقتضية لِحلِّ الجمع بالملك، فلتكن مقتضية لِحل أمِّ موطوءته بالملك، ولموطوءة أبيه وابنه بالملك، إذ لا فرق بينهما ألبتة، ولا يُعلم بهذا قائل.
الثانى: أن آيةَ الإباحة بملك اليمين مخصوصةٌ قطعاً بصورٍ عديدة لا يختلِفُ فيها اثنان، كأمه وابنته، وأختِه وعمتِه وخالتِه من الرضاعة، بل كأخِته وخالته مِن النسب عند من لا يرى عتقهن بالملك، كمالك والشافعى، ولم يكن عموم قوله : {أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} [النساء: 3] ومعارضاً لعموم تحريمهن بالعقد والملك، فهذا حُكْمُ الأختين سواء.
الثالث: أن حِلَّ الملك ليس فيه أكثرُ من بيان جهة الحل وسببه، ولا تعُّرض فيه لشروط الحِلِّ، ولا لموانعه، وآيةُ التحريم فيها بيانُ موانعِ

الحِلِّ من النسب والرضاع والصهر وغيره، فلا تعارض بينهما البتة، وإلا كان كُلُّ موضع ذكر فيه شرطُ الحل وموانعه معارضاً لمقتضى الحل، وهذا باطل قطعاً، بل هو بيان لما سكت عنه دليلُ الحِل من الشروط والموانع.
الرابع: أنه لو جاز الجمعُ بين الأختين المملوكتين فى الوطء، جاز الجمعُ بين الأم وابنتها المملوكتين، فإن نص التحريم شامِلٌ للصورتين شمولاً واحداً، وأن إباحة المملوكات إن عمت الأختين، عمَّت الأم وابنتها.
الخامس: أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، فَلاَ يجْمعْ مَاءَهُ فى رَحِمِ أُخْتَيْنِ " ولا ريب أن جمع الماء كما يكون بعقد النكاح يكون بملك اليمين، والإيمان يمنَع منه.
فصل
"وقضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحريم الجمعِ بينَ المرأة وعمتها، والمرأةِ وخالتها" وهذا التحريمُ مأخوذ من تحريم الجمع بينَ الأختين، لكن

بطريق خفىِّ، وما حرَّمه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلُ ما حرَّمه الله، ولكن هو مستنبط مِن دلالة الكتاب.
وكان الصحابةُ رضى الله عنهم أحرصَ شىء على استنباط أحاديثِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القُرآن، ومَن ألزم نفسَه ذلك، وقرعَ بابه، ووجَّه قلبه إليه، واعتنى به بفطرةٍ سليمة، وقلب ذكى، رأى السنة كُلَّها تفصيلاً للقرآن، وتبييناً لدلالته، وبياناً لمراد اللهِ منه، وهذا أعلى مراتب العلم، فمن ظفر به، فليحمد الله، ومن فاته، فلا يلومَنَّ إلا نفسه وهِمتَّه وعَجْزَه.واستُفِيدَ من تحريم الجمع بين الأختين وبينَ المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، أن كل امرأتين بينهما قرابة لو كان أحدُهما ذَكَراً، حَرُمَ على الآخر، فإنه يحرُم الجمعُ بينهما، ولا يُستثنى من هذا صورةُ واحدة، فإن لم يكن بينهما قرابةُ، لم يحرم الجمع بينهما. وهل يكره؟ على قولين، وهذا كالجمع بين امرأةِ رجل وابنتِه من غيرها.
واستُفِيدَ مِن عموم تحريمه سبحانه المحرَّماتِ المذكورة: أنَّ كل امرأة حَرُمَ نكاحُها حَرُمَ وطؤها بملك اليمين إلا إماءَ أهلِ الكتاب، فإن نكاحَهُنَّ حرام عند الأكثرين، ووطؤهن بملك اليمين جائز، وسوَّى أبو حنيفة بينهما، فأباح نكاحهن كما يُباح وطؤهن بالملك.
والجمهور: احتجوا عليه بأن الله سُبْحَانه وتعالى إنما أباح نِكاح الإماء بوصف الإيمان. فقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُم طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمُ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ واللهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِكُم} [النساء: 25] وقالَ تعالى: {ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] خصَّ ذلك بحرائرِ أهل الكتاب، بقى الإماءُ على قضية التحريم، وقد فهم عمر رضى الله عنه وغيرُه من الصحابة

إدخال الكتابيات فى هذه الآية، فقال: لا أعلم شِركاً أعظَم من أن نقول: إن المسيح إلهها.
وأيضاً فالأصلُ فى الإبضاعِ الحرمة، وإنما أبيح نِكاحُ الإماءِ المؤمناتِ، فَمَن عداهُنَّ على أصل التحريم، وليس تحريمُهنَّ مستفاداً مِن المفهوم.
واستُفِيدَ مِن سياق الآية ومدلولِها أن كُلَّ امرأةٍ حرمت، حرمت ابنتها إلا العمة والخالة، وحليلةَ الابن، وحليلَةَ الأب، وأمَّ الزوجة، وأن كُلَّ الأقارب حرام إلا الأربعة المذكوراتِ فى سورة الأحزاب، وهن بناتُ الأعمام والعمات، وبناتُ الأخوال والخالات.
فصل
ومما حرَّمه النص، نِكاحُ المزوَّجاتِ، وهُنَّ المحصَناتُ، واستثنى من ذلك ملكَ اليمين، فأشكل هذا الاستثناء على كثير من الناس، فإن الأمَةَ المزوَّجَةَ يحرُم وطؤُها على مالكها، فأين محلُّ الاستثناء ؟.
فقالت طائفة: هو منقطع، أى لكن ما ملكت أيمانُكم، ورُدَّ هذا لفظاً، ومعنى أما اللفظُ فإن الانقطاعَ إنما يقعُ حيث يقعُ التفريغ، وبابهُ غير الإيجاب مِن النفى والنهى والاستفهام، فليس الموضعُ موضع انقطاع، وأما المعنى: فإن المنقطع لابد فيه من رابط بينه وبين المستثنى منه بحيث يخرج ما تُوهِّمَ دخولُه فيه بوجهٍ ما، فإنك إذا قلت: ما بالدار مِن أحد، دل على انتفاء من بها بدوابّهم وأمتعتهم، فإذا قلت: إلا حماراً، أو إلا الأثافىَّ ونحو ذلك، أزلت توهَّمَ دخولِ المستثنى فى حكم المستثنى منه. وأبْيَنُ من هذا قولُه تعالى :{لا يَسْمَعُونَ فِيَها لَغْواً إلا سلاماً} [مريم: 62]

فاستثناءُ السلام أزال توهُّمَ نفى السماعِ العام، فإن عدم سماع اللغو يجوزُ أن يكونَ لعدم سماع كلام ما، وأن يكونَ مع سماع غيره، وليس فى تحريم نكاحِ المزوَّجة ما يُوهم تحريم وطء الإماء بملك اليمين حتى يُخرجه
وقالت طائفة: بل الاستثناء على بابه، ومتى ملك الرجلُ الأمة المزوَّجة كان ملكه طلاقاً لها، وحلَّ له وطؤها، وهى مسألةُ بيع الأمة: هل يكون طلاقاً لها، أم لا؟ فيه مذهبان للصحابة، فابنُ عباس رضي الله عنه يراه طلاقاً، ويحتج له بالآية، وغيرُه يأبى ذلك، ويقول: كما يُجامع الملك السابق للنكاح اللاحق اتفاقاً ولا يتنافيان، كذلك الملكُ اللاحق لا يُنافى النكاحَ السابقَ، قالوا: وقد خيَّرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ لما بِيعت ولو انفسخ نِكاحُها لم يُخيِّرها. قالوا: وهذا حجة على ابن عباس رضى الله عنه، فإنه هو راوى الحديث، والأخذُ برواية الصحابى لا برأيه.
وقالت طائفة ثالثة: إن كان المشترى امرأة، لم ينفسخ النكاح، لأنها لم تمِلكِ الاستمتاع ببُضع الزوجة، وإن كان رجلاً انفسخ، لأنه يملك الاستمتاع َ به، وملكُ اليمين أقوى مِن مُلك النكاح، وهذا الملك يُبطل النكاح دون العكس، قالوا: وعلى هذا فلا إشكال فى حديث بريرة.
وأجاب الأولون عن هذا بأن المرأةَ وإن لم تملك الاستمتاع ببُضع أمتها، فهى تمِلكُ المعاوضة عليه، وتزويجَها، وأخذَ مهرها، وذلك

كملك الرجل، وإن لم تستمتع بالبُضع.
وقالت فرقة أخرى: الآية خاصة بالمسبيَّاتِ، فإن المسبية إذا سُبِيَتْ، حَلَّ وطؤها لِسابيها بعد الاستبراء، وإن كانت مزوجة، وهذا قولُ الشافعى وأحدُ الوجهين لأصحاب أحمد، وهو الصحيح، كما روى مسلم فى "صحيحه" عن أبى سعيد الخُدرى رضى الله عنه، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث جيشاً إلى أوطاس، فلقى عدواً، فقاتلوهم، فظهرُوا عليهم، وأصابُوا سبايا، وكأنَّ ناساً مِن أصحابِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحرَّجُوا مِن غِشيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أزواجِهِنَّ مِن المشركين، فأنزل الله عز وجل فى ذلك {وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} [النساء: 24] أى فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهنَّ.
فتضمَّن هذا الحكمُ إباحة وطء المسبيَّةِ وإن كان لها زوجٌ من الكفار، وهذا يدل على انفساخِ نكاحه، وزوالِ عصمة بُضع امرأته، وهذا هو الصوابُ، لأنه قد استولى على محلِّ حقه، وعلى رقبة زوجته، وصار سابيها أحقَّ بها منه، فكيف يَحْرُمُ بُضعها عليه، فهذا القولُ لا يُعارِضُه نصٌّ ولا قياس.
والذين قالوا من أصحاب أحمد وغيرهم: إن وطأها إنما يُباح إذا سُبِيَتْ وحدَها. قالوا: لأن الزوجَ يكون بقاؤه مجهولاً، والمجهول كالمعدوم، فيجوز وطؤها بعد الاستبراء، فإذا كان الزوجُ معها، لم يجز وطؤُها مع بقائه، فأُوردَ عليهم ما لو سُبِيَتْ وحدَها وتيقنَّا بقاءَ زوجها فى دار الحرب، فإنهم يُجوِّزُون وطأها فأجابُوا بما لا يُجدى شيئاً، وقالوا: الأصل إلحاقُ الفرد بالأعم الأغلب، فيُقال لهم: الأعمُّ الأغلبُ بقاءُ

أزواج المسبيات إذا سُبين منفرداتٍ، وموتُهم كلُّهم نادر جداً، ثم يُقال: إذا صارت رقبةُ زوجها وأملاكُه مِلكاً للسابى، وزالَت العصمةُ عن سائر أملاكه وعن رقبته، فما الموجبُ لِثبوت العصمة فى فرج امرأته خاصة وقد صارت هى وهو وأملاكُهما للسابى؟
ودلَّ هذا القضاءُ النبوىُّ على جواز وطء الإماء الوثنيات بملك اليمين، فإن سبايا أوطاس لم يكنَّ كتابيات، ولم يشترِطْ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى وطئهن إسلامَهن، ولم يجعل المانع منه إلا الاستبراء فقط، وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة ممتنع مع أنهم حديثو عهدٍ بالإسلام حتَّى خفىَ عليهم حُكمُ هذه المسألة، وحصولُ الإسلام من جميع السبايا وكانوا عدةَ آلافٍ بحيثُ لم يتخلَّفْ منهم عن الإسلام جاريةٌ واحدة مِما يُعلم أنه فى غاية البُعد، فإنهن لم يُكْرَهْنَ على الإسلام، ولم يكن لهن مِن البصيرة والرغبة والمحبة فى الإسلام ما يقتضى مبادرتُهن إليه جميعاً، فمقتضى السنةِ، وعمل الصحابة فى عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعده جوازُ وطء المملوكات على أىِّ دين كُنَّ، وهذا مذهبُ طاووس وغيره، وقواه صاحبُ "المغنى" فيه، ورجح أدلته وبالله التوفيق.
ومما يدلُّ على عدم اشتراط إسلامهن، ما روى الترمذى فى "جامعه" عن عِرباض بن سَارية، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ وَطْء السَّبايا حَتَّى يَضَعْنَ ما فى بُطُونِهِنَّ. فجعل للتحريم غاية واحدة وهى وضعُ الحمل، ولو كان متوقفاً على الإسلام، لكان بيانُه أهمَّ من بيان الاستبراء.
وفى "السنن" و"المسند" عنه: "لاَ يَحِلُّ لامْرئ يُؤْمِنُ بِالله واليَوْمِ

الآخر أَنْ يَقَعَ عَلى امْرَأةِ مِنَ السَّبْى حَتَّى يَسْتَبْرِئها".ولم يقل: حتى تُسلِمَ، وَلأحمد: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِر فَلاَ يَنْكِحَنَّ شَيئاً مِنَ السَّبَايَا حَتَّى تَحِيضَ" ولم يقل: وتسلم.
وفى "السنن" عنه: أنه قال فى سبايا أوطاس: "لا تُوطأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلا غَيْرُ حَامِلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَة وَاحِدَةً". ولم يقل: وتسلم، فلم يجئ عنه اشتراطُ إسلام المسبية فى موضع واحد البتة.
فصل: فى حُكمِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الزوجين يُسِلمُ أحدُهما قبل الآخر
قال ابنُ عباس رضى الله عنهما: ردَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينَب ابنَته على أبى العاص بْنِ الرَّبيعِ بالنِّكاحِ الأوَّلِ، ولم يُحْدِثْ شيئاً. رواه

أحمد، وأبو داود، والترمذى. وفى لفظ: بعد ست سنين ولم يُحدِثْ نِكاحاً قال الترمذى: ليس بإسناده بأس، وفى لفظ: كان إسلامُها قبل إسلامه بستِّ سنين، ولم يُحِدثْ شهادةً ولا صَداقاً.
وقال ابنُ عباس رضى الله عنهما: "أسلمت امرأةٌ على عهدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتزوَّجت، فجاء زوجُها إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، إنى كنتُ أسلمتُ، وعلمتْ بإسلامى، فانتزعها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن زوجها الآخر، وردَّها على زوجها الأول" رواه أبو داود.
وقال أيضا: "إن رجلاً جاء مسلماً على عهد رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم جاءت امرأتُه مسلمة بعدَه، فقال: يا رسولَ الله: إنها أسلمت معى، فردَّها عليه". قال الترمذى: حديث صحيح. وقال مالك إن أم حكيم بنت الحارث بن هشام أسلمت يومَ الفتح بمكة، وهرب زوجها عكرمةُ بن أبى جهل من الإسلام حتى قدمَ اليمن

فارتحلت أمُّ حكيم حتى قَدِمَتْ عليه باليمن، فدعته إلى الإسلام، فأسلم فَقَدِمَ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَ الفتح، فلما قَدِمَ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وثب إليه فرحاً وما عليه رِداء حتى بايعه، فثبتا على نكاحهما ذلك، قال: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزوجُها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرَّقت هجرتُها بينها وبينه إلا أن يَقْدمَ زوجُها مهاجراً قبل أن تنقضىَ عِدَّتُها، ذكره مالك رحمه الله فى "الموطأ" فتضمَّن هذا الحكمُ أن الزوجين إذا أسلما معاً فهما على نكاحهما، ولا يُسأل عن كيفية وقوعه قبل الإسلام، هل وقع صحيحاً أم لا؟ ما لم يكن المبطلُ قائماً، كما إذا أسلما وقد نكحها وهى فى عِدة مِن غيره، أو تحريماً مجمعاً عليه، أو مؤبَّداً كما إذا كانت محرماً له بنسب أو رضاع، أو كانت مما لا يجوزُ له الجمعُ بينها وبينَ من معه كالأختين والخمس وما فوقَهن، فهذه ثلاثُ صور أحكامُها مختلفة.
فإذا أسلما وبينها وبينَه محرميةٌ مِن نَسَبٍ أو رضاع، أو صِهر، أو كانت أختَ الزوجة أو عمَّتها أو خالَتها، أو من يَحرُمُ الجمعُ بينها وبينها، فُرِّقَ بينهما بإجماع الأمة، لكن إن كان التحريمُ لأجل الجمع، خُيِّرَ بينَ إمساك أيَّتهِما شاء، وإن كانت بنته من الزنى، فرِّق بينهما أيضاً عند الجمهور، وإن كان يعتقد ثبوتَ النسب بالزنى فرق بينهما اتفاقاً، وإن أسلم أحدهما وهى فى عدة مِن مسلم متقدِّمة على عقده، فُرِّق بينهما اتفاقاً، وإن كانت العدةُ مِن كافر، فإن اعتبرنا دوامَ المفسد أو الإجماع عليه، لم يُفرَّق بينهما لأن عدة الكافر لا تدومُ، ولا تمنعُ النكاح عند من يُبطِلُ

أنكحةَ الكفار، ويجعل حكمها حكم الزنى.
وإن أسلم أحدُهما وهى حُبلى من زنى قبلَ العقد، فقولان مبنيان على اعتبار قيامِ المفسد أو كونه مجمعاً عليه.
وإن أسلما وقد عقداه بلا ولى، أو بلا شهود، أو فى عِدة وقد انقضت، أو على أخت وقد ماتت، أو على خامسة كذلك، أُقِرَّا عليه، وكذلك إن قهر حربىٌ حربيةً، واعتقداه نكاحاً ثم أسلما، أُقِرَّا عليه.
وتضمن أن أحدَ الزوجين إذا أسلَم قبل الآخر، لم ينفسِخِ النكاحُ بإسلامه، فَرَّقت الهجرة بينهما، أو لم تُفرِّق، فإنه لا يُعرف أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جدَّدَ نكاح زوجين سبق أحدهما الآخر بإسلامه قطُّ، ولم يزل الصحابةُ يُسْلِمُ الرجلُ قبل امرأته، وامرأتُه قبله، ولم يُعرف عن أحد منهم البتة أنه تلفَّظ بإسلامه هو وامرأتُه، وتساويا فيه حرفاً بحرف، هذا مما يُعلم أنه لم يقع البتة، وقد ردَّ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنَته زينَب على أبى العاص بن الربيع، وهو إنما أسلم زمنَ الحُديبية، وهى أسلمت من أول البعثة، فبين إسلامهما أكثرُ مِن ثمانى عشرة سنة.
وأما قوله فى الحديث: كان بين إسلامها وإسلامِهِ ستُّ سنين، فوهم إنما أراد: بينَ هجرتها وإسلامه.
فإن قيل: وعلى ذلك فالعِدةُ تنقضى فى هذه المدة، فكيف لم يُجدِّد نكاحها؟ قيل: تحريمُ المسلمات على المشركين إنما نزل بعد صُلْحِ الحُديبية لا قبلَ ذلك، فلم ينفسِخِ النكاح فى تلك المدة لعدم شرعية هذا الحكم فيها، ولما نزل تحريمهُن على المشركين، أسلم أبو العاص، فَرُدَّت عليه.
وأما مراعاة زمن العِدة، فلا دليلَ عليه مِن نص ولا إجماع. وقد ذكر حمادُ بن سلمة، عن قتادة، عن سعيدِ بن المسيِّب، أن على بن أبى طالب

رضى الله عنه قال فى الزوجين الكافرين يسلِمُ أحدُهما: هو أملكُ ببُضعها ما دامت فى دار هجرتها.
وذكر سفيانُ بن عيينة، عن مُطرِّف بن طريف، عن الشعبى، عن على: هو أحقُّ بها ما لم يخرج مِن مِصرها.
وذكر ابنُ أبى شيبة، عن معتمِر بن سليمان، عن معمر، عن الزُّهرى، إن أسلمت ولم يُسلم زوجُها، فهُمَا على نكاحهما إلا أن يُفرِّقَ بينهما سلطان.
ولا يُعرف اعتبارُ العِدة فى شىء من الأحاديث، ولا كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل المرأة هل انقضت عدتُها أم لا، ولا ريبَ أن الإسلام لو كان بمجردهِ فرقة، لم تكن فرقةً رجعية بل بائنة، فلا أثر لِلعدة فى بقاء النكاح، وإنما أثرُها فى منع نكاحها للغير فلو كان الإسلامُ قد نجز الفُرقة بينهما، لم يكن أحقَّ بها فى العِدة، ولكن الذى دلَّ عليه حُكمُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن النكاح موقوف، فإن أسلم قبلَ انقضاء عِدتها، فهى زوجتُه وإن انقضت عدتها، فلها أن تنكِحَ من شاءت، وإن أحبَّت، انتظرته، فإن أسلم، كانَتْ زوجته مِن غير حاجة إلى تجديد نكاح.
ولا نعلم أحداً جدَّد للإسلام نكاحَه ألبتة، بل كان الواقعُ أحد أمرين: إما افتراقُهما ونكاحها غيره، وإما بقاؤُها عليه وإن تأخر إسلامُها أو إسلامُه، وإما تنجيزُ الفُرقة أو مراعاة العِدة، فلا نعلم أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بواحدة منهما مع كثرة من أسلم فى عهده من الرجال وأزواجهن، وقرب إسلام أحد الزوجين من الآخر وبعده منه، ولولا إقرارُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزوجين على نكاحهما وإن تأخر إسلامُ أحدهما عن الآخر بعدَ صلح الحديبية وزمن الفتح، لقلنا بتعجيل الفُرقة بالإسلام مِن غير اعتبار عدة، لقوله تعالى:

{لاَ هُنَّ حِلُّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] وقوله: {ولاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وأن الإسلام سَبَبُ الفُرقة، وكل ما كان سبباً للفرقة تعقبه الفرقة، كالرضاع والخلع والطلاق، وهذا اختيار الخلال، وأبى بكر صاحِبه، وابنِ المنذر، وابنِ حزم، وهو مذهب الحسن، وطاووس، وعكرمة، وقتادة، والحكم. قال ابن حزم: وهو قولُ عمرَ بن الخطاب رضى الله عنه، وجابِر ابن عبد الله، وابنِ عباس، وبه قال حمادُ بن زيد، والحكمُ بن عُتيبة، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز، وعدى بن عدى الكندى، والشعبى، وغيرهم. قلت: وهو أحدُ الروايتين عن أحمد، ولكن الذى أُنزِلَ عليه قولُه تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعصَمِ الكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وقوله: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] لم يحكم بتعجيل الفرقة، فروى مالك فى "موطئه" عن ابن شهاب، قال: كان بين إسلام صفوان بن أمية، وبين إسلام امرأته بنت الوليد بن المغيرة نحوٌ من شهر، أسلمت يومَ الفتح، وبقى صفوانُ حتى شهد حُنيناً والطائف وهو كافر، ثم أسلم، ولم يفرِّق النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما، واستقرَّت عنده امرأته بذلك النكاح. وقال ابنُ عبد البر: وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده.
وقال ابنُ شهاب: أسلمت أُمُّ حكيم يومَ الفتح، وهرب زوجُها عكرمة حتى أتى اليمن، فدعته إلى الإسلام، فأسلم وقدم، فبايعَ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبقيا على نكاحهما.
ومن المعلوم يقيناً، أن أبا سفيان بن حرب خرج، فأسلم عام الفتح

قبل دخولِ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة، ولم تُسلم هند امرأته حتى فتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة، فبقيا على نكاحهما، وأسلم حكيمُ بنُ حِزام قبل امرأته، وخرج أبو سفيان بن الحارث، وعبد الله بن أبى أمية عامَ الفتح، فلقيا النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأبواء، فأسلما قبل منكوحتيهما، فبقيا على نكاحهما، ولم يعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرَّق بين أحد ممن أسلم وبين امرأته.
وجواب من أجاب بتجديد نكاح من أسلم فى غاية البطلان، ومن القول على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا علم، واتفاقُ الزوجين فى التلفظ بكلمة الإسلام معاً فى لحظة واحدة معلومُ الانتفاء.
ويلى هذا القول مذهبُ من يقف الفُرقة على انقضاء العدة مع ما فيه، إذ فيه آثار وإن كانت منقطعة، ولو صحت لم يجزِ القول بغيرها. قال ابن شُبْرُمَةَ: كان الناسُ على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسلم الرجلُ قبل المرأة، والمرأة قبل الرجل، فأيُّهما أسلم قبل انقضاء عِدة المرأة، فهى امرأتُه وإن أسلم بعد العدة، فلا نِكاح بينهما، وقد تقدَّم قولُ الترمذى فى أول الفصل، وما حكاه ابنُ حزم عن عمر رضى الله عنه فما أدرى مِن أين حكاه؟ والمعروف عنه خلافُه، فإنه ثبت عنه من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب وقتادة كلاهما عن ابن سيرين، عن عبد الله بن يزيد الخطمى، أن نصرانياً أسلمت امرأته، فَخيَّرها عمرُ بن الخطاب رضى الله عنه إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت عليه. ومعلوم بالضرورة، أنه إنما خيرها بين انتظاره إلى أن يسلم، فتكون زوجته كما هى أو تُفارقه، وكذلك صحَّ عنه: أن نصرانياً أسلمت امرأته، فقال عمرُ رضي الله عنه: إن أسلم فهىَ امرأتُه، وإن لم يُسلم، فرقَ بينهما، فلم يُسلم، ففرق بينهما.

وكذلك قال لعُبادة بن النعمان التغلبى وقد أسلمت امرأتُه: إما أن تسلم، وإلا نزعتها منكَ، فأبى، فنزعها منه.
فهذه الآثار صريحة فى خلاف ما حكاه أبو محمد ابن حزم عنه، وهو حكاها، وجعلها روايات أخر، وإنما تمسَّك أبو محمد بآثار فيها، أن عمر، وابن عباس، وجابراً، فرَّقوا بين الرجلِ وبينَ امرأته بالإسلام، وهى آثار مجملة ليست بصريحة فى تعجيل التفرقة، ولو صحت، فقد صحَّ عن عمر ما حكيناه، وعن على ما تقدم وبالله التوفيق.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العَزْلِ
ثبت فى "الصحيحين": عن أبى سعيد قال: أصبنا سبياً، فكُنَّا نَعْزِلُ، فسألنا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "وإنَّكُمْ لَتَفْعَلُون؟" قالها ثلاثاً. "مَا مِنْ نَسَمة كَائِنَةٍ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ إلا وَهِى كَاَئِنَةٌ".
وفى السنن: عنه، أن رجلاً قال: يا رسولَ الله إن لى جاريةً وأنا أَعْزِلُ عنها، وأنا أكره أن تحمِلَ، وأنا أريدُ ما يُريدُ الرجال، وإنَّ اليهودَ تُحدِّثُ أن العزلَ الموؤدةُ الصُّغرى، قال: "كَذَبَتْ يهودُ لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرفَهُ".

وفى "الصحيحين": عن جابر قال: كنا نَعزِلُ على عهدِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقُرآنُ يَنْزِلُ.
وفى "صحيح مسلم" عنه: كناَ نَعزِلُ على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبلغ ذلك رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَنْهَنَا.
وفى "صحيح مسلم" أيضاً: عنه قال: سألَ رجلٌ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إنَّ عِندى جاريةً، وأنا أعزِلُ عنها، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إنَّ ذلِكَ لاَ يَمْنَعُ شَيْئاً أرَادَهُ اللهُ" ، قال: فجاء الرجلُ فقال: يا رسولَ الله إن الجاريَة التى كُنْتُ ذكرتُها لك حَمَلَتْ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُه".
وفى "صحيح مسلم" أيضاً: عن أسامة بن زيد، أن رجلاً جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسولَ الله، إنى أعزِلُ عَنِ امرأتى، فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِمَ تَفْعَلُ ذلِكَ؟ فقال الرجُلُ: أُشْفِقُ عَلَى ولدها، أو قال: على أولادِها، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "لَوْ كَانَ ضَارّاً ضَرَّ فَارِسَ وَالرُّومَ".
وفى مسند أحمد، وسنن ابن ماجه، من حديث عُمَرَ بنِ الخطاب رضى الله عنه قال : نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُعزَلَ عَنِ الحُرَّةِ إلا بإذْنِهَا.

وقال أبو داود: سمعتُ أبا عبد الله ذكر حديث ابن لَهِيعة، عن جعفر ابن ربيعة عن الزهرى، عن المُحَرَّر بن أبى هريرة، عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُعْزَلُ عَنِ الحُرَّةِ إلاَّ بإذْنها"، فقال: ما أنكَرَهُ.
فهذه الأحاديثُ صريحةٌ فى جواز العزلِ، وقد رُوِيتِ الرخصةٌ فيه عن عشرة من الصحابة: على، وسعدِ بن أبى وقاص، وأبى أيوب، وزيدِ بن ثابت، وجابرٍ، وابنِ عباس، والحسنِ بن على، وخبَّابِ بن الأرتِّ، وأبى سعيد الخدرى، وابنِ مسعود، رضى الله عنهم.
قال ابن حزم: وجاءت الإباحة للعزل صحيحة عن جابر، وابن عباس، وسعدِ بن أبى وقاص، وزيدِ بن ثابت، وابنِ مسعود، رضى الله عنهم، وهذا هو الصحيحُ.
وحرَّمه جماعة، منهم أبو محمد ابن حزم وغيرُه.
وفرَّقت طائفة بين أن تأذن له الحرَّةُ، فيبُاح، أولا تأذن فيحرُم، وإن كانت زوجته أمةً، أبيحَ بإذن سيدها، ولم يبح بدون إذنه، وهذا منصوصُ أحمد، ومن أصحابه من قال: لايُباح بحال، ومنهم من قال: يُباح بكُلِّ حال. ومنهم من قال: يباح بإذن الزوجة حرةً كانت أو أمة، ولا يُباح بدون إذنها حرة كانت أو أمة.
فمن أباحه مطلقاً، احتج بما ذكرنا من الأحاديث، وبأن حقَّ المرأة فى ذوق العسيلة لا فى الإنزال، ومن حرَّمه مطلقاً احتج بما رواه مسلم فى "صحيحه" من حديث عائشة رضى الله عنها، عن جُدَامة بنتِ وهبٍ أختِ عُكَّاشة، قالت: حضرتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أناسٍ، فسألُوه عن العَزْلِ،

فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "ذلِكَ الوَأدُ الخَفِىُّ "، وهى :{وإِذَا المَوْءُدَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8].
قالوا: وهذا ناسخٌ لأخبار الإباحة، فإنه ناقل عن الأصل، وأحاديثُ الإباحة على وفق البراءة الأصلية، وأحكامُ الشرع ناقلة عن البراءة الأصلية. قالوا: وقولٌ جابر رضي الله عنه: كنا نعِزلُ والقرآنُ ينزِلُ، فلو كان شيئاً ينهى عنه، لنهى عنه القرآن.
فيقال: قد نهى عنه مَنْ أُنْزِلَ عليه القرآنُ بقوله: "إنَّه المَوءُدةُ الصُّغرى" والوأد كله حرام. قالوا: وقد فهِم الحسنُ البصرى، النهىَ مِن حديث أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه لما ذُكِرَ العزلُ عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا عَلَيْكُم ألاَّ تَفْعَلُوا ذَاكُمْ، فإما هُوَ القَدَرُ" قال ابنُ عون: فحدَّثتُ به الحسنَ، فقال: والله لكأنَّ هذا زجرٌ. قالوا: ولأن فيه قطعَ النسلِ المطلوبِ مِن النكاح، وسوء العشرة، وقطعَ اللذة عندَ استدعاء الطبيعة لها.
قالوا: ولهذا كان ابنُ عمر رضي الله عنه لا يعزِلُ، وقال: لو علمتُ أن أحداً من ولدى يَعْزِلُ، لنكَّلْتُه، وكان علىُّ يكره العزل، ذكره شعبة عن عاصم عن زرٍّ عنه وصح عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال فى العزل: هو الموؤودةُ الصغرى. وصح عن أبى أُمامة أنه سئل عنه فقال: ما كُنْتُ أرى مسلماً يفعلُه. وقال نافع عن ابن عمر: ضرب عمر على العزل بَعْضَ بنيه. وقال يحيى بن سعيد الأنصارى، عن سعيد بن المسيِّب، قال: كان عمرُ وعثمانُ ينهيان عن العزل.

وليس فى هذا ما يُعارضُ أحاديث الإباحة مع صراحتها وصحتها أما حديثَ جُدَامة بنت وهب، فإنه وإن كان رواه مسلم، فإن الأحاديث الكثيرةَ على خلافه، وقد قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدثه، أنَّ رِفاعة حدثه عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه، أن رجلاً قال: يا رسولَ الله، إن لى جاريةً، وأنا أعزِلُ عنها، وأنا أكره أن تحمِلَ، وأنا أُريدَ ما يُريد الرجال، وإن اليهودَ تُحدِّث أن العزل الموؤودة الصغرى، قال: "كَذَبَتْ يهودُ، لَوْ أَرَادَ اللهُ أنْ يَخْلُقَه مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَه" وحسبك بهذا الإسناد صحة، فكُلُّهم ثقات حفاظ، وقد أعلَّه بعضُهم بأنه مضطرب فإنه اختلف فيه على يحيى بن أبى كثير، فقيل: عنه، عن محمد ابن عبد الرحمن ابن ثوبان، عن جابر بن عبد الله، ومن هذه الطريق: أخرجه الترمذى والنسائى. وقيل: فيه عن أبى مُطيع بن رِفاعة، وقيل: عن أبى رفاعة، وقيل: عن أبى سلمة عن أبى هُريرة، وهذا لا يقدحُ فى الحديث، فإنه قد يكونُ عند يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن، عن جابر، وعنده عن ابن ثوبان عن أبى سلمة عن أبى هريرة، وعنده عن ابن ثوبان عن رفاعة عن أبى سعيد. ويبقى الاختلافُ فى اسم أبى رفاعة، هل أبو رافع، أو ابنُ رِفاعة، أو أبُو مطيع؟ وهذا لا يَضُرُّ مع العلم بحال رفاعة.
ولا ريبَ أن أحاديثَ جابر صريحةٌ صحيحة فى جواز العزل، وقد قال الشافعىُّ رحمه الله: ونحن نروى عن عدد من أصحابِ النبى

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم رخَّصوا فى ذلك، ولم يَرَوْا به بأساً. قال البيهقى: وقد روينا الرخصةَ فيه، عن سعد بن أبى قاص، وأبى أيوب الأنصارى، وزيد ابن ثابت، وابن عباس وغيرهم، وهو مذهب مالك، والشافعى، وأهلِ الكوفة، وجمهورِ أهلِ العلم.
وقد أُجيب عن حديث جُدَامة، بأنه على طريق التنزيه، وضعفته طائفةٌ، وقالوا: كيفَ يَصِحُّ أن يكونَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذَّبَ اليهودَ فى ذلك، ثم يُخبر به كخبرهم؟، هذا من المحال البيِّن، وردَّت عليه طائفةٌ أخرى، وقالوا: حديثُ تكذيبهم فيه اضطراب وحديثُ جُدَامة فى "الصحيح".
وجمعت طائفةٌ أخرى بين الحديثين، وقالت: إن اليهودَ كانت تقولُ: إن العزلَ لا يكون معه حمل أصلاً، فكذَّبهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذلك، ويَدُلُّ عليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَه لَمَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَه"، وقوله: "إنَّهُ الوَأْدُ الخَفِىُّ" ، فإنه وإن لم يمنع الحملَ بالكلية، كتركِ الوطء، فهو مؤثر فى تقليله.
وقالت طائفة أخرى: الحديثان صحيحان، ولكن حديث التحريم ناسخ، وهذه طريقة أبى محمد ابن حزم وغيره. قالوا: لأنه ناقل عن الأصل والأحكام كانت قبل التحريم على الإباحة، ودعوى هؤلاء تحتاج إلى تاريخ محقَّق يبيِّن تأخُّر أحدِ الحديثين عن الآخر وأنَّى لهم به، وقد اتفق عُمَرُ وَعلى رضي الله عنهما على أنها لا تكونُ موؤودةً حتى تَمُرَّ عليها التاراتُ السبع، فروى القاضى أبو يعلى وغيرهُ بإسناده، عن عُبيد بن رفاعة، عن أبيه، قال جلس إلى عمر علىٌّ والزبيرُ وسعدٌ رضى الله عنهم فى نفر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتذاكروا العزلَ، فقالوا: لا بأس به،

فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموؤدةُ الصغرى، فقال على رضى الله عنه: لا تكون موؤدةً حتى تمرَّ عليها التاراتُ السبع: حتى تكون مِنْ سُلالة من طين، ثم تكونَ نُطفةً، ثم تكون عَلقةً، ثم تكونَ مضغةً، ثم تكون عظاماً، ثم تكون لحماً، ثم تكون خلقاً آخر، فقال عمر رضى الله عنه: صدقتَ أطال الله بقاءك. وبهذا احتجَّ من احتج على جواز الدعاء للرجل بطول البقاء.
وأما من جوَّزه بإذن الحُرَّةِ، فقال: للمرأة حقٌّ فى الولد، كما للرجل حقٌّ فيه، ولهذا كانت أحقَّ بحضانته، قالُوا: ولو يُعتَبَرْ إذنُ السُّرِّيَّةِ فيه لأنها لا حقَّ لها فى القسم، ولهذا لا تُطالبه بالفيئة، ولو كان لها حقٌّ فى الوطء لطُولِب المؤلى منها بالفيئة.
قالوا: وأما زوجتُه الرقيقة، فله أن يَعْزِلَ عنها بغير إذنها صيانةً لولده عن الرِّقِّ ولكن يُعتبر إذنُ سيدها، لأن له حقاً فى الولد، فاعتُبِرَ إذنُه فى العزل كالحرة، ولأن بدلَ البُضع يحصل للسيدِ كما يحصل للحرة، فكان إذنه فى العزل كإذن الحرة.
قال أحمد رحمه الله فى رواية أبى طالب فى الأمة إذا نكحها: يستأذِنُ أهَلها، يعنى فى العزل، لأنهم يُريدون الولد، والمرأةُ لها حق، تُريد الولد، وملكُ يمينه لا يستأذنها.
وقال فى رواية صالح، وابن منصور، وحنبل، وأبى الحارث، والفضل ابن زياد والمروذى: يَعزِلُ عن الحرة بإذنها، والأمةِ بغير إذنها، يعنى أمَته، وقال فى رواية ابن هانىء: إذا عزل عنها، لزمه الولد، قد يكُونُ الولدُ مع العزل. وقد قال بعضُ من قال: ما لى ولد إلا من العزل. وقال فى رواية المروذى: فى العزل عن أم الولد: إن شاء، فإن قالت: لا يَحِلُّ لك؟ ليس لها ذلك.

فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الغَيل، وهو وطءُ المرضِعَة
ثبت عنه فى "صحيح مسلم": أنه قال: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهى عَنِ الغِيْلَةِ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذلكَ فَلاَ يَضُرُّ أَوْلاَدَهُم" وفى سنن أبى داود عنه، من حديث أسماء بنت يزيد: "لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم سِرّاً فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إنَّه لَيُدْرِك الفَارِسَ فَيُدَعْثِرُهُ".
قال: قلت: ما يعنى؟ قلت: الغيلة: يأتى الرجلُ امرأتَه وهى ترضع.
قلت: أما الحديثُ الأول، فهو حديثُ جُدَامة بنت وهب، وقد تضمَّن أمرين لِكلٍّ منهما معارض: فصدرُه هو الذى تقدَّم: "لقد هممتُ أن أنهى عن الغِيلة"، وقد عارضه حديث أسماء، وعجزه: ثم سألوه عن العزل، فقال: "ذلك الوأد الخفى" وقد عارضه حديث أبى سعيد: "كذبت يهود"، وقد يُقال: إن قوله: "لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ سِرّاً" نهى أن يتسبب إلى ذلك، فإنه شبَّه الغَيل بقتل الولد، وليس بقتلٍ حقيقة، وإلا كان من الكبائر، وكان قرينَ الإشراك بالله، ولا ريبَ أن وطء المراضع

مما تَعُمُّ به البلوى، ويتعذَّر على الرجل الصبر عن امرأته مدة الرضاع ولو كان وطؤُهن حراماً لكان معلوماً من الدين، وكان بيانُه مِن أهمِّ الأمور، ولم تُهمِلْه الأُمَّةُ، وخيرُ القرون، ولا يُصرِّحُ أحدٌ منهم بتحريمه، فَعُلِمَ أن حديث أسماء على وجه الإرشاد والاحتياط للولد، وأن لا يُعَرِّضَه لفساد اللبن بالحمل الطارىء عليه، ولهذا كان عادةُ العرب أن يسترضِعُوا لأولادهم غيرَ أمهاتهم، والمنع غايُته أن يكون من باب سد الذرائع التى قد تُفضى إلى الإضرار بالولد، وقاعدةُ باب سد الذرائع إذا عارضه مصلحة راجحة، قُدِّمَتْ عليه، كما تقدَّم بيانُه مراراً والله أعلم.
فصل
فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى قسم الابتداء والدوام بين الزوجات
ثبت فى "الصحيحين": عن أنس رضى الله عنه أنه قال: مِنَ السُّنةِ إذا تزوَّج الرَّجُلُ البِكْرَ على الثَّيِّبِ، أَقام عِنْدَهَا سَبْعاً وقَسَمَ، وإذا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثلاثاً، ثم قَسَمَ. قال أبو قلابة: ولو شئتُ، لقُلْتُ: إن أنساً رفعه إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا الذى قاله أبو قِلابة، قد جاء مصرَّحاً به عن أنس، كما رواه البزار فى "مسنده"، من طريق أيوب السَّختيانى، عن أبى قِلابة، عن أنس رضى الله عنه أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلبِكرِ سبعاً، وللثَّيِّب ثلاثاً.

وروى الثورى، عن أيوب، وخالد الحذَّاء، كِلاهما عن أبى قِلابة، عن أنس، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا تَزَوَّجَ البِكْرَ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعاً، وإِذا تَزَوَّجَ الثَّيِّيبَ، أقَامَ عِنْدَها ثلاثاً".
وفى صحيح مسلم: عن أمِّ سلمة رضى الله عنها، لما تزوَّجها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخل عليها، أقامَ عندها ثلاثاً، ثم قال: "إنَّهُ لَيْسَ بِكِ عَلى أَهْلِكِ هَوانٌ، إنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وإنْ سَبَّعْتُ لَكِ، سَبَّعْتُ لِنِسَائى ". وله فى لفظ: "لما أراد أن يخرج، أخَذَتْ بثوبه فقال: "إنْ شِئْتِ زِدْتُكِ وَحَاسَبْتكِ بِهِ، لِلْبِكْرِ سَبْعٌ، وللثَّيُب ثَلاَثٌ".
وفى السنن: عن عائشة رضى الله عنها، كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ، ويقول: "اللهُمَّ إِنَّ هذا قَسْمى فِيما أَمِلكُ، فَلاَ تَلُمْنى فيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ "، يعنى القلبَ.
وفى "الصحيحين": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أرادَ سفراً، أقرعَ بين نسائه، فأيَّتُهن خرج سهمُها، خَرَجَ بها معه.
وفى "الصحيحين": أن سودةَ وهبت يومها لِعائشة رضى الله عنها، وكان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لعائشة يَوْمَها ويَوْمَ سودة.

وفى السنن: عن عائشة رضى الله عنها، كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا على بَعْضٍ فى القَسْمِ مِن مُكثِه عندنا، وكان قَلَّ يَوْمٌ إلا وهُوَ يَطُوفُ علينا جميعاً، فيدنو مِنْ كُلِّ امرأة مِنْ غير مسيس حتى يَبْلُغَ إلى التى هُوَ يَومُها، فَيبِيتُ عِنْدَهَا.
وفى "صحيح مسلم": إنهنَّ كُنَّ يجتمِعْنَ كل ليلة فى بيت التى يأتيها.
وفى "الصحيحين": عن عائشة رضىَ الله عنها، فى قوله: {وإنِ امْرَأةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أو إعْراضاً} [النساء:128] أُنْزِلَت في المرأة تكونُ عند الرجل فتطولُ صحبتُها، فُيريد طلاقَها، فتقول: لا تُطلِّقنى وأمسِكنى، وأَنت فى حثلٍّ من النفقة علىَّ والقَسْمِ لى، فذلك قولُه :{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً والصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128].
وقضى خليفتُه الراشدُ، وابنُ عمه علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه، أنه إذا تزوَّج الحرَّة على الأمة قسمَ للأمة ليلة، وللحُرَّة ليلتين. وقضاءُ خلفائه وإن لم يكن مساوياً لقضائه، فهو كقضائه فى وجوبه على الأمة، وقد احتجَّ الإمام أحمدُ بهذا القضاءِ عن على رضي الله عنه، وقد ضعَّفه أبو محمد بن حزم بالمنهال بن عمرو، وبابنِ أبى ليلى، ولم يصنع شيئاً، فإنهما ثِقتان حافِظانِ جليلان، ولم يزلِ الناسُ يحتجُّونَ بابن أبى ليلى على شىء ما فى حفظه يُتَّقى منه ما خالف فيه الأثبات، وما تفرَّد به عن الناس، وإلا فهو غيرُ مدفوع عن الأمانة والصدق.

فتضمَّن هذا القضاءُ أموراً.
منها وجوبُ قسم الابتداء، وهو أنه إذا تزوَّج بكراً على ثيب، أقام عندها سبعاً ثم سوَّى بينهما، وإن كانت ثيِّباً، خيَّرها بين أن يُقيم عندها سبعاً، ثم يقضِيها للبواقى، وبين أن يُقيم عندها ثلاثاً ولا يُحاسبها، هذا قول الجمهور، وخالف فيه إمامُ أهل الرأى، وإمامُ أهل الظاهر، وقالوا: لا حقَّ للجديدة غيرَ ما تستحقه التى عنده، فيجب عليه التسوية بينهما.
ومنها. أن الثيِّبَ إذا اختارت السبعَ، قضاهُن للبواقى، واحتسبَ عليها بالثلاث، ولو اختارتِ الثلاثَ، لم يحتسِبْ عليها بها، وعلى هذا من سُومح بثلاث دون ما فوقَها، ففعل أكثرَ منها، دخلت الثلاث فى الذى لم يُسامح به بحيث لو ترتب عليه إثم، أثِمَ على الجميع، وهذا كما رخَّص النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمُهاجِرِ أن يُقيم بعد قضاء نسكه ثلاثاً. فلو أقام أبداً، ذُمَّ على الإقامة كُلِّها.
ومنها: أنه لا تجب التسويةُ بينَ النساء فى المحبة، فإنها لا تُمْلَكُ، وكانت عائشةُ رضى الله عنها أحبَّ نسائه إليه. وأُخِذَ من هذا أنه لا تجبُ التسوية بينهن فى الوطء، لأنه موقوف على المحبةِ والميل، وهى بيد مقلِّب القلوب.
وفى هذا تفصيل، وهو أنه إن تركه لعدم الداعى إليه، وعدم الانتشار، فهو معذور، وإن تركه مع الداعى إليه، ولكن داعيه إلى الضرة أقوى، فهذا مما يدخُلُ تحت قُدرته وملكه، فإن أدى الواجبَ عليه منه، لم يَبْقَ لها حق، ولم يلزمه التسويةُ، وإن ترك الواجبَ منه، فلها المطالبةُ به.
ومنها: إذا أراد السفرَ، لم يجز له أن يُسافِر بإحداهن إلا بقُرعة.
ومنها: أنه لا يقضى للبواقى إذا قَدِمَ، فإن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن

يقضى للبواقى.
وفى هذا ثلاثة مذاهب.
أحدها: أنه لا يقضى، سواء أقرَعَ أو لم يُقرع، وبه قال أبو حنيفة، ومالك.
والثانى: أنه يقضى للبواقى أقرع أو لم يُقرع، وهذا مذهب أهل الظاهر.
والثالث: أنه إن أقرع لم يقض، وإن لم يُقرع قضى، وهذا قولُ أحمد والشافعى.
ومنها: أن للمرأةِ أن تَهَبَ ليلتها لِضرتها، فلا يجوزُ له جعلُها لغير الموهبة، وإن وهبتها للزوج، فله جعلُها لمن شاء منهن، والفرقُ بينهما أن الليلةَ حقٌّ للمرأة فإذا أسقطتها، وجعلتها لضرتها، تعينت لها، وإذا جعلتها للزوج، جعلها لمن شاء مِن نسائه، فإذا اتفق أن تكون ليلةُ الواهبة تلى ليلة الموهوبة، قسم لها ليلتين متواليتين، وإن كانت لا تليها فهل له نقلُها إلى مجاورتها، فيجعل الليلتين متجاورتين؟ على قولين للفقهاء، وهما فى مذهب أحمد والشافعى.
ومنها: أن الرجلَ له أن يَدْخُلَ على نسائه كُلَّهِنَّ فى يوم إحداهن ولكن لا يطؤها في غير نوبتها.
ومنها: أن لِنسائه كُلِّهِنَّ أن يجتمِعن فى بيت صاحبة النوبة يتحدَّثن إلى أن يجىء وقتُ النوم، فتؤوب كُلُّ واحدة إلى منزلها.
ومنها: أن الرجل إذا قضَى وطراً من امرأته، وكرهتْها نفسُه، أو عَجَزَ عن حقوقها، فله أن يُطلِّقها، وله أن يُخَيِّرها، إن شاءت أقامت عنده ولا حقَّ لها في القسم والوطء والنفقة، أو فى بعضِ ذلك بحسب ما

يصطلحان عليه، فإذا رضيت بذلك، لزم، وليس لها المطالبةُ به بعد الرضى.
هذا موجب السنة ومقتضاها، وهو الصوابُ الذى لا يسوغُ غيره، وقولُ من قال: إن حقها يتجدد، فلها الرجوع فى ذلك متى شاءت، فاسد، فإن هذا خرج مخرجَ المعاوضة، وقد سماه الله تعالى صالحاً، فيلزم كما يلزم ما صالح عليه من الحقوق والأموال، ولو مُكِّنَتْ مِن طلب حقِّها بعد ذلك، لكان فيه تأخيرُ الضرر إلى أكمل حالتيه، ولم يكن صلحاً، بل كان مِن أقرب أسباب المعاداة، والشريعةُ منزَّهة عن ذلك، ومن علامات المنافق أنه إذا وعد، أخلف، وإذا عاهد، غدر، القضاء النبوي يردُّ هذا.
ومنها: أن الأمة المزوَّجة على النصف من الحرة، كما قضى به أمير المؤمنين على رضى الله عنه، ولا يُعرف له فى الصحابة مخالف، وهو قولُ جمهور الفقهاء إلا رواية عن مالك: أنهما سواء، وبها قال أهل الظاهر، وقولُ الجمهور هو الذى يقتضيه العدلُ، فإن الله سبحانه لم يسو بين الحرة والأمة، لا فى الطلاق، ولا فى العدة، ولا فى الحدِّ، ولا فى الملك، ولا فى الميراث، ولا فى مدة الكونِ عند الزوج ليلاً ونهاراً، ولا فى أصلِ النكاح، بل جعل نكاحها بمنزلة الضرورة، ولا فى عددِ المنكوحات، فإن العبد لا يتزوج أكثر من اثنتين، هذا قولُ الجمهور، وروى الإمام أحمد بإسناده: عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: يتزوَّجُ العبد ثنتين، ويطلق ثنتين، وتعتدُّ امرأتُه حيضتين، واحتج به أحمد. ورواه أبو بكر عبد العزيز، عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: لا يَحِلُّ للعبد من النساء إلا ثنتان.
وروى الإمام أحمد بإسناده، عن محمد بن سيرين قال: سأل عمر رضى

الله عنه الناس: كم يتزوجُ العبد؟ فقال عبد الرحمن: ثنتين وطلاقه ثنتين فهذا عمر، وعلى، وعبد الرحمن، رضى الله عنهم، ولا يعرف لهم مخالف فى الصحابة مع انتشار هذا القول وظهوره، وموافقته للقياس.
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تحريم وطء المرأة الحبلى من غير الوَاطىء
ثبت فى "صحيح مسلم": من حديث أبى الدرداء رضىَ الله عنه، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى بامرأةٍ مُجِحِّ على بَابِ فُسْطَاطٍ، فقال: "لَعَلَّهُ يُريدُ أَنْ يُلِمَّ بها". فقالُوا: نَعَمْ، فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنًا يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ، كَيْفَ يُوَرِّثُه وهُوَ لا يَحِلُّ لهُ، كَيْفَ يَسْتَخْدِمُه وهُوَ لاَ يَحِلُّ لهُ".
قال أبو محمد ابن حزم: لا يَصِحُّ فى تحريم وطءِ الحامِلِ خبرٌ غيرُ هذا. انتهى. وقد روى أهل "السنن" من حديث أبى سعيد رضى الله عنه، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فى سبايا أوطاس: "لا تُوَطأْ حَامِلُ حَتَّى تَضَعَ، ولا غَيْرُ حَامِلٍ حَتَّى تَحيضَ حَيْضَةً".
وفى الترمذى وغيره: من حديث رُويفع بن ثابت رضى الله عنه،

عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلا يَسْقِ مَاءَه وَلَدَ غَيْرِهِ " قال الترمذى حديث حسن.
وفيه عن العِرباضِ بن سَارِيَةَ رضى الله عنه، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرَّم وطءَ السبايا حتى يَضَعْنَ ما فى بُطونهن.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كيف يُورِّثه وهو لا يَحلُّ له، كيف يستخدِمُه وهو لا يَحِلُّ له"، كان شيخُنا يقولُ فى معناه: كيف يجعلُه عبداً مَوروثاً عنه، ويستخدِمُه استخدامَ العبيدِ وهو ولدُه، لأن وطأه زاد فى خَلْقِه؟ قال الإمام أحمد: الوطء يزيد فى سمعه وبصره. قال فيمن اشترى جاريةً حاملاً من غيره، فوطئها قبل وضعها، فإن الولد لا يلحَقُ بالمشترى، ولا يتبعُه، لكن يعتِقُه لأنه قد شرك فيه، لأن الماءَ يزيدُ فى الولد، وقد روى عن أبى الدرداء رضى الله عنه، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مرَّ بامرأة مُجِحٍّ على باب فسطاط، فقال: "لعله يُريد أن يُلِمَّ بها" وذكر الحديثَ. يعنى: أنه إن استلحقه وشرِكه فى ميراثه، لم يحل له، لأنه ليس بولده، وإن أخذه مملوكاً يستخدِمُه لم يَحلَّ له لأنه قد شرك فيه لكون الماء يزيدُ فى الولد.
وفى هذا دلالة ظاهرةٌ على تحريم نكاح الحامِل، سواء كان حملُها مِن زوج أو سيِّدٍ أو شُبهة أو زنى، وهذا لا خلاف فيه إلا فيما إذا كان الحملُ مِن زنى، ففى صحة العقد قولان، أحدهما: بطلانُه وهو مذهبُ أحمد ومالك، والثانى: صحتُه وهو مذهب أبى حنيفة والشافعى ثم اختلفا، فمنع أبو حنيفة مِن الوطء حتى تنقضىَ العِدَّةُ، وكرهه الشافعى، وقال أصحابُه: لا يحرم.

فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الرجل يعتِقُ أمتَه ويجعل عِتقها صداقَها
ثبت عنه فى "الصحيح": " أنه أعتق صفيَّةَ وجعل عِتْقَها صَدَاقَها". قيل لأنس: ما أَصْدَقَها؟ قال: أَصْدَقَها نَفْسَها وذهبَ إلى جواز ذلك علىُّ ابن أبى طالب، وفعله أنس بن مالك، وهو مذهبُ أعلم التابعين، وسيِّدهم سعيدِ بن المسيِّب، وأبى سلمة بن عبد الرحمن، والحسنِ البَصرى، والزهري، وأحمد، وإسحاق.
وعن أحمد رواية أخرى، أنه لا يَصِحُّ حتى يستأنِفَ نكاحها بإذنها، فإن أبت ذلك، فعليها قيمتُها.
وعنه رواية ثالثة: أنه يُوَكِّلُ رجلاً يزوِّجه إياها.
والصحيح: هو القول الأول الموافق للسنة، وأقوالِ الصحابة والقياس، فإنه كان يمِلك رقبتها، فأزال ملكه عن رقبتها، وأبقى ملكَ المنفعة بعقد النكاح، فهو أولى بالجواز مما لو أعتقها، واستثنى خِدمتها، وقدم تقدَّم تقريرُ ذلك فى غزاة خيبر.
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى صحة النكاح الموقوفِ على الإجازة
فى "السنن": عن ابن عباس رضى الله عنهما، "أن جاريةً بكراً أتت

النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت أنَّ أباها زوَّجَها وهى كَارِهَة، فخيَّرها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
وقد نصَّ الإمامُ أحمد على القول بمقتضى هذا، فقال فى رواية صالح فى صغير زوَّجه عمه، قال: إن رضى به فى وقت من الأوقات، جاز، وإن لم يرض فسخ.
ونقل عنه ابنه عبد الله، إذا زوجت اليتيمةُ، فإذا بلغت فلها الخيارُ، وكذلك نقل ابنُ منصور عنه حُكى له قولُ سفيانَ فى يتيمة زُوِّجَت ودَخَلَ بها الزوجُ، ثم حاضت عند الزوج بعدُ، قال: تُخيَّرُ، فإن اختارت نفسَها لم يقع التزويجُ، وهى أحقُّ بنفسها، وإن قالت: اخترتُ زوجى؟ فليشهدوا على نكاحهما. قال أحمد: جيد.
وقال فى رواية حنبل فى العبد إذا تزوَّج بغير إذن سيده، ثم علم السيدُ بذلك: فإن شاء يُطلِّق عليه، فالطلاقُ بيد السيد، وإذا أذن له فى التزويج، فالطلاقُ بيد العبد، ومعنى قوله: يطلق، أى: يُبْطِلُ العقد، ويمنع تنفيذَه وإجازته، هكذا أوَّله القاضى، وهو خلاف ظاهر النص، وهذا مذهبُ أبى حنيفة ومالك على تفصيل فى مذهبه، والقياسُ يقتضى صحةَ هذا القول، فإن الإذن إذا جاز أن يتقدَّم القبولَ والإيجابَ جاز أن يتراخى عنه.
وأيضاً فإنه كما يجوز وقفُه على الفسخ يجوزُ وقفُه على الإجازة كالوصية، ولأن المعتبرَ هو التراضى، وحصولُه فى ثانى الحال كحصولِه فى الأول، ولأن إثباتَ الخيار فى عقد البيع هو وقفٌ للعقد فى الحقيقة على إجازة من له الخيار وردّه، وبالله التوفيق.

فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الكفاءة فى النكاح
قال الله تعالى: { يَأَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم} [الحجرات: 13] وقال تعالى: {إِنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وقال: {والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُم أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وقال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195].
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا فَضْلَ لِعَرَبىٍّ عَلى عَجَمِى، وَلاَ لِعَجَمِىٍّ عَلى عَرَبى، ولا لأَبْيَضَ عَلى أَسْوَدَ ولا لأسود عَلى أبْيَضَ، إِلاَّ بِالتَّقْوَى، النّاسُ مِنْ آدَمَ، وآدَمُ منْ تُرابٍ".
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ آلَ بنِى فُلاَنٍ لَيْسُوا لى بِأَوْليَاءَ، إِنَّ أَوْلِيائى المتَّقُونَ حَيْثُ كَانُوا وأَيْنَ كَانُوا".

وفى الترمذى: عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضُوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إلاَّ تَفْعَلوه، تَكُنْ فِتْنَةٌ فى الأَرْضِ وفَسَادٌ كَبِيرٌ". قالوا: يارسولَ الله، وإن كان فيه؟ فقال: "إذَا جَاءَكُم مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوه "، ثلاث مرات.
وقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبنى بَيَاضَة : "أَنْكِحُوا أَبا هِنْدٍ، وأَنْكِحُوا إلَيْهِ". وكان حجَّاماً.
وزوَّج النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينبَ بنتَ جَحْشٍ القُرشية مِن زيد بن حارثة مولاه، وزوَّج فاطمة بنت قيس الفِهرية القرشية. من أسامة ابنه، وتزوَّج بلالُ ابن رباح بأخت عبد الرحمن بن عوف، وقد قال الله تعالى:{ والطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِين والطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] وقد قال تعالى :{فانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3].
فالذى يقتضيه حُكمُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتبارُ الدِّين فى الكفاءة أصلاً. وكمالاً، فلا تُزوَّجُ مسلمةٌ بكافر، ولا عفيفةٌ بفاجر، ولم يعتبرِ القرآنُ والسنةُ فى الكفاءة أمراً وراءَ ذلك، فإنه حرَّم على المسلمة نكاحَ الزانى الخبيثِ، ولم يعتبر نسباً ولا صِناعة، ولا غِنىً ولا حريَّةً، فجوَّز للعبد القِنَّ نكاحَ الحرَّةِ النسيبة الغنيةِ إذا كان عفيفاً مسلماً، وجوز لغير القرشيين نكاحَ القرشيات،

ولغير الهاشميين نكاحَ الهاشميات وللفقراءِ نكاحَ الموسرات.
وقد تنازع الفقهاءُ فى أوصاف الكفاءة:
فقال مالك فى ظاهر مذهبه: إنها الدِّينُ، وفى رواية عنه: إنها ثلاثة: الدِّين، والحريَّة، والسلامةُ من العيوب.
وقال أبو حنيفة: هى النسبُ والدين.
وقال أحمد فى رواية عنه: هى الدِّين والنسب خاصة. وفى رواية أخرى: هى خمسة: الدِّين، والنسب، والحرية، والصناعة، والمال. وإذا اعتبر فيها النسب، فعنه فيه روايتان. إحداهما: أن العرب بعضُهم لبعض أكفاء. الثانية: أن قريشاً لا يكافئهم إلا قرشى، وبنو هاشم لا يُكافئهم إلا هاشمى.
وقال أصحابُ الشافعى: يُعتبر فيها الدِّينُ، والنسبُ، والحُرية، والصِّناعة، والسلامةُ من العيوب المُنَفِّرَةِ.
ولهم فى اليسار ثلاثة أوجه: اعتبارُه فيها، وإلغاؤُه، واعتبارُه فى أهل المدن دون أهلِ البوادى، فالعجمىُّ ليس عندهم كُفْئَاً للعربى، ولا غيرُ القرشى للقرشية، ولا غيرُ الهاشمى للهاشمية، ولا غيرُ المنتسبة إلى العلماء والصلحاء المشهورين كفئاً لمن ليس منتسباً إليهما، ولا العبدُ كُفْئَاً للحرة، ولا العتيق كفئاً لحرة الأصل، ولا من مَسَّ الرِّقُّ أحدَ آبائه كفئاً لمن لم يمسَّها رِق، ولا أحداً من آبائها، وفى تأثير رِق الأمهات وجهان، ولا مَن به عيب مثبت للفسخ كُفْئَاً للسليمة منه، فإن لم يثبت الفسخ وكان منفِّراً كالعمى والقطع، وتشويهِ الخِلقة، فوجهان. واختار الرُّويانى أن صاحبه ليس بكفءٍ، ولا الحجام والحائك والحارس كُفْئَاً لبنت التاجر والخياط ونحوهما، ولا المحترف لبنت العالم، ولا الفاسق كفئاً

للعفيفة، ولا المبتدعُ للسنية ولكن الكفاءة عند الجمهور هي حق المرأة والأولياء.
ثم اختلفوا، فقال أصحاب الشافعى: هى لمن له ولاية فى الحال. وقال أحمد فى رواية: حق لجميع الأولياء، قريبهم وبعيدِهم، فمن لم يرض منهم، فله الفسخ وقال أحمد فى رواية ثالثة: إنها حقُّ اللهِ، فلا يَصِحُّ رضاهم بإسقاطه، ولكن على هذه الرواية لا تُعتبر الحريةُ ولا اليسار، ولا الصناعة ولا النسبُ، إنما يُعتبر الدِّينُ فقط، فإنه لم يقل أحمد، ولا أحدٌ من العلماء: إن نكاح الفقير للموسرة باطل وإن رضيت، ولا يقولُ هو ولا أحدٌ: إن نكاح الهاشمية لغير الهاشمى، والقرشية لغير القرشى باطل، وإنما نبهنا على هذا لأن كثيراً من أصحابنا يحكُون الخلاف فى الكفاءة، هل هى حق لله أو للآدمى؟ ويطلقون مع قولهم: إن الكفاءة هى الخصالُ المذكورة، وفى هذا من التساهلِ وعدمِ التحقيق ما فيه.
فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ثُبوتِ الخيارِ للمعتَقة تحتَ العبدِ
ثبت فى "الصحيحين"، والسنن: أن بَرِيرَةَ كاتبت أهلَها، وجاءت تسألُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى كتِابتها، فقالت عائشةُ رضى الله عنها: إن أحَبَّ أهلُك أن أعُدَّها لهم، ويكونُ ولاؤك لى فعلتُ، فذكرت ذلك لأهلها، فأبَوْا إلا أن يكونَ الولاءُ لهم فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة رضى الله عنها: "اشْتَرِيها واشْتَرِطى لَهُمُ الوَلاءُ لِمنْ أعْتَقَ "، ثم خطبَ الناسَ فقال: " مَا بَالُ أقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شروطاً لَيْسَتْ فى كِتَابِ اللهِ، مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطاً

ليْسَ فى كِتَابِ اللهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وإِنْ كَانَ مِائَة شَرْطٍ، قَضَاءُ الله أحَقُّ، وشَرْطُ اللهِ أوْثَقُ، وإِنَّمَا الولاء لِمَنْ أْعْتَقَ "، ثم خيَّرها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أن تَبْقَى على نكاح زوجها، وبين أن تَفْسَخَهُ، فاختارت نفسَها، فقال لها: "إنَّهُ زَوْجُكِ وأبُو وَلَدِكِ" ، فقالت: يا رسولَ الله، تأمُرُنى بذلك؟ قال: " لاَ، إِنمَا أَنَا شَافِعٌ "، قالت: فلا حاجة لى فيه، وقال لها إذْ خيَّرها: "إن قَرُبَكِ، فلا خِيارَ لك"، وأمرها أن تعتد، وتُصُدِّقَ عليها بلحم، فأكل منه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: "هُوَ عَلَيْها صَدَقَةٌ، ولَنَا هَدِيَّةٌ".
وكان فى قِصةِ بريرة من الفقه جوازُ مكاتبة المرأة، وجوازُ بيعِ المكاتبِ وإن لم يُعجِّزْه سِّيدُه، وهذا مذهبُ أحمد المشهورُ عنه، وعليه أكثرُ نصوصه، وقال فى رواية أبى طالب: لا يطأ مكاتبته، ألا ترى أنه لا يقدر أن يبيعَها. وبهذا قال أبو حنيفة، ومالكٌ، والشافعى. والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقرَّ عائشة رضى الله عنها على شرائها، وأهلَها على بيعها، ولم يسأل: أعجزت أم لا، ومجيئُها تستعينُ فى كتابتها لا يستلزِمُ عجزَها، وليس فى بيع المكاتب محذور، فإن بيعه لا يُبطل كِتابته، فإنه يبقى عند المشترى كما كان عند البائع، إن أدى إليه، عَتَقَ، وإن عجز عن الأداء، فله أن يُعِيدَه إلى الرِّق كما كان عند بائعه، فلو لم تأت السنةُ بجواز بيعه، لكان القياسُ يقتضيه.

وقد ادعى غيرُ واحد الإجماعَ القديمَ على جواز بيعِ المكاتَب. قالوا: لأن قصة بريرة وردت بنقل الكافَّة، ولم يبق بالمدينة منْ لم يَعْرِفْ ذلك، لأنها صفقةٌ جرت بين أْمِّ المؤمنين، وبينَ بعضِ الصحابة رضي الله عنهم، وهم موالى بريرة، ثم خطبَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناسَ فى أمر بيعها خُطبةُ فى غير وقت الخطبة، ولا يكون شىء أشهر مِن هذا، ثم كان مِن مشى زوجِها خلفَها باكياً فى أزِقَّة المدينةِ ما زاد الأمرَ شهرةً عند النساء والصبيان، قالوا: فظهر يقيناً أنه إجماعٌ من الصحابة، إذ لا يُظن بصاحبٍ أنه يُخالف مِن سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلَ هذا الأمر الظاهر المستفيضِ قالوا: ولا يُمكن أن تُوجِدُونا عن أحدٍ من الصحابة رضى الله عنهم المنعَ من بيع المكاتب إلا روايةً شاذة عن ابن عباس لا يُعرف لها إسناد.
واعتذر مَنْ منع بيعَه بعُذرين. أحدهما: أن بريرَةَ كانت قد عجزَت، وهذا عذرُ أصحاب الشافعى، والثانى: أن البيعَ ورد على مال الكِتابة لا علي رقبتها، وهذا عذرُ أصحابِ مالك.
وهذان العُذران أحوجُ إلى أن يُعتذر عنهما مِن الحديث، ولا يَصِحُّ واحد منهما، أما الأول: فلا ريبَ أن هذه القصة كانت بالمدينة، وقد شهدها العباسُ وابنُه عبد الله، وكانت الكِتابة تسع سنين فى كل سنة أوقية، ولم تكن بعدُ أدَّت شيئاً، ولا خلاف أن العباس وابنَه إنما سكنا المدينة بعد فتح مكة، ولم يعشِ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك إلا عامينِ، وبعضَ الثالث، فأين العجزُ وحلولُ النجوم؟،
وأيضاً، فإن بريرة لم تَقُلْ: عجزتُ، ولا قالت لها عائشةُ: أعجزتِ؟ ولا اعترف أهلُها بعجزها، ولا حكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعجزها، ولا وَصَفَها به، ولا أخْبَرَ عنها البتة، فمن أين لكم هذا العجزُ الذى تعجِزُونَ

عن إثباته؟.
وأيضاً، فإنها إنما قالت لعائشة: كاتبت أهلى على تسع أواق فى كل سنة أوقية، وإنى أُحِبُّ أن تُعينينى، ولم تقل: لم أؤدِّ لهم شيئاً، ولا مضت علىَّ نجوم عِدَّةٌ عجزت عن الأداء فيها، ولا قالت: عجَّزنى أهلى.
وأيضاً فإنهم لو عجَّزوها، لعادت فى الرّق، ولم تكن حينئذ لِتسعى فى كتابتها، وتستعِينَ بعائشة على أمر قد بَطَلَ.
فإن قيل: الذى يدل على عَجْزِهَا قولُ عائشة: إن أحب أهلك أن اشتريَك وأعِتقَك، ويكون ولأؤكِ لى فعلتُ. وقول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة رضى الله عنها: "اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقيها" ، وهذا يدلُّ على إنشاء عتق من عائشة رضى الله عنها، وعتقُ المكاتب بالأداء لا بإنشاء مِن السيد. قيل: هذا هو الذى أوجبَ لهم القولَ ببطلانِ الكِتابة. قالوا: ومِنَ المعلوم أنها لا تبطلُ إلا بعجز المكاتب أو تعجِيزِه نفسه، وحينئذ فيعود فى الرِّق، فإنما ورد البيعُ على رقيق، لا على مكاتَب.
وجوابُ هذا: أن ترتيب العِتق على الشراء لا يدُلُّ على إنشائه، فإنه ترتيبٌ للمسبب على سببه، ولا سيما فإن عائشة لما أرادت أن تُعجِّل كتابتها جملة واحدة كان هذا سبباً فى إعتاقها، وقد قلُتم أنتم: إن قولَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ يَجْزى وَلَدٌ وَالِدَهُ إلاَّ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ".
إن هذا من ترتيب المسبب على سببه، وأنه بنفس الشراء يُعتق عليه لا يحتاج إلى إنشاء عتق.
وأما العذرُ الثانى: فأمرُه أظهرُ، وسياقُ القصة يُبطِلُه، فإن أمَّ المؤمنين اشترتْها، فأعتقتها، وكان ولاؤُها لها، وهذا مما لا ريبَ فيه، ولم تشترِ

المالَ، والمال كان تسعَ أوراق منجَّمة، فعدَّتها لهم جملةً واحدة، ولم تتعرَّض للمال الذى فى ذمتها، ولا كان غرضها بوجهِ ما، ولا كان لعائشة غرض في شراء الدراهم المؤجَّلة بعددها حالَّة.
وفى القصة جوازُ المعاملة بالنقود عدداً إذا لم يختلِفْ مقدارها، وفيها أنه لا يجوزُ لأحدٍ من المتعاقدَين أن يشترِطَ على الآخر شرطاً يُخالف حكم الله ورسوله، وهذا معنى قوله: "ليس فى كتاب الله"، أى: ليس فى حكم الله جوازُه، وليس المرادُ أنه ليس فى القرآن ذِكرُه وإباحته، ويدل عليه قولُه: "كتابُ الله أحق وشرطُ الله أوثق".
وقد استدل به من صحيح العقد الذى شرط فيه شرط فاسد، ولم يبطل العقدُ به وهذا فيه نزاع وتفصيلٌ يظهر الصواب منه فى تبيين معنى الحديث، فإنه قد أشكل على الناس قوله: "اشترطى لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق"، فأذن لها فى هذا الاشتراط، وأخبر لا يفيد. والشافعى طعن فى هذه اللفظة وقال: إن هشام ابن عروة انفردَ بها، وخالفه غيرُه، فردها الشافعى، ولم يثبتْها، ولكن أصحاب "الصحيحين" وغيرَهم أخرجوها، ولم يطعنوا فيها، ولم يُعللها أحد سوى الشافعى فيما نعلم.
ثم اختلفوا فى معناها، فقالت طائفة: اللام ليست على بابها، بل هى بمعنى "على"، كقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أى: فعليها، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ومَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46].
ورَدَّتْ طائفة هذا الاعتذار بخلافه لسياق القصة، ولموضوع الحرف، وليس نظير الآية، فإنها قد فرَّقت بين ما للنفس وبين ما عليها، بخلاف قوله: "اشترطى لهم".

وقالت طائفة: بل اللام على بابها، ولكن فى الكلام محذوف تقديره: اشترطى لهم، أو لا تشترطى، فإن الاشتراط لا يُفيد شيئاً لمخالفته لكتاب الله.
وردَّ غيرُهم هذا الاعتذارَ لاستلزامه إضمارَ ما لا دليل عليه، والعلمُ به مِن نوع علم الغيب.
وقالت طائفة أخرى: بل هذا أمرُ تهديد لا إباحة، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} [فصلت: 40] وهذا فى البطلان من جنس ما قبله وأظهرُ فساداً، فما لعائشة، وما للتهديد هنا؟، وأين فى السياق ما ينقضى التهديد لها؟ نعم هُمْ أحقُّ بالتهديد، لا أمُّ المؤمنين.
وقالت طائفة: بل هو أمر إباحة وإذن، وأنه يجوزُ اشتراط مثلِ هذا، ويكونُ ولاءُ المكاتب للبائع، قاله بعضُ الشافعية، وهذا أفسدُ مِن جميع ما تقدم، وصريحُ الحديث يقتضى بطلانَه وردَّه.
وقالت طائفة: إنما أذِنَ لها فى الاشتراط، ليكون وسيلة إلى ظهور بطلانِ هذا الشرط، وعلم الخاص والعام به، وتقررَّ حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان القومُ قد علِمُوا حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذلك، فلم يقنعوا دون أن يكون الولاءُ لهم، فعاقبهم بأن أذِنَ لعائشة فى الاشتراط، ثم خطبَ الناس فأذَّن فيهم ببطلان هذا الشرط، وتضمَّن حكماً من أحكام الشريعة، وهو أن الشرطَ الباطل إذا شُرِطَ فى العقد، لم يجز الوفاء به، ولولا الإذن فى الاشتراط لما عُلِمَ ذلك، فإن الحديثَ تضمَّن فسادَ هذا الحكم، وهو كَونُ الولاءِ لغير المعتقِ.
وأما بطلانُه إذا شرط، فإنما استُفِيدَ مِن تصريح النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببطلانه بعد اشتراطه ولعلَّ القومَ اعتقدوا أن اشتراطه يُفيد الوفاءَ به، وإن كان خلافَ مقتضى العقد المطلق، فأبطله النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن شرط كما أبطله

بدون الشرط.
فإن قيل: فإذا فات مقصودُ المشترط ببطلان الشرط، فإنه إما أن يُسلَّط على الفسخ، أو يُعطى من الأرش بقدر ما فات من غرضه، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَقْضِ بواحدٍ من الأمرين.
قيل: هذا إنما يثبت إذا كان المشترط جاهلاً بفساد الشرط. فأما إذا علم بطلانَه ومخالفتَه لحكم الله، كان عاصياً آثماً بإقدامه على اشتراطه، فلا فسخ له ولا أرش، وهذا أظهرُ الأمرين فى موالى بريرة، والله أعلم.
فصل
وفى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إنما الولاء لمن أعتق " مِن العموم ما يقتضى ثبوتَه لمن أعتق سائبةً، أو فى زكاة، أو كفارة، أو عتقٍ واجب، وهذا قولُ الشافعى وأبى حنيفة، وأحمد فى إحدى الروايات، وقال فى الرواية الأخرى: لا ولاء عليه، وقال فى الثالثة: يُرد ولاؤه فى عتق مثله، ويحتجُّ بعمومه أحمد ومن وافقه فى أن المسلم إذا أعتق عبداً ذميِّاً، ثم مات العتيق، ورثه بالولاء، وهذا العمومُ أخصُّ من قوله: "لا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ" فيخصصه أو يقيده، وقال الشافعى ومالك وأبو حنيفة: لا يَرِثُه بالولاء إلا أن يموتَ العبدُ مسلماً، ولهم أن يقولوا: إن عموم قوله: "الولاء لمن أعتق"، مخصوص بقوله: "لا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ".

فصل
وفى القصة مِن الفقه تخييرُ الأمة المزوَّجة إذا أُعتقت وزوجُها عبدٌ، وقد اختلفت الروايةُ فى زوج بَريرة، هل كان عبداً أو حراً؟ فقال القاسم، عن عائشة رضى الله عنها: كان عبداً ولو كان حراً لم يُخيَّرها. وقال عروة عنها: كان حراً. وقال ابنُ عباس: كان عبداً أسودَ يقال له: مغيث، عبداً لبنى فلان، كأنى أنظر إليه يطوف وراءها فى سكك المدينة، وكل هذا فى الصحيح. وفى سنن أبى داود عن عروة عن عائشة: كان عبداً لآل أبى أحمد، فخيَّرها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال لها: "إنْ قَرُبَكِ، فَلاَ خيارَ لَكِ".
وفى مسند أحمد، عن عائشة رضى الله عنها، أن بَريرة كانت تحتَ عبد، فلما أعتقها، قال لها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اخْتارِى فَإنْ شِئْتِ أَنْ تَمْكُثِى تَحْتَ هذا العَبْدِ، وإن شِئْتِ أنْ تُفَارِقِيهِ ".
وقد روى فى "الصحيح": أنه كان حراً.
وأصحُّ الروايات، وأكثرُها: أنه كانَ عبداً، وهذا الخبرُ رواه عن عائشة رضى الله عنها ثلاثة: الأسود، وعروةُ، والقاسمُ، أما الأسود، فلم يختلفْ عنه عن عائشة أنه كان حراً، وأما عروة، فعنه روايتان صحيحتان متعارضتان، إحداها: أنه كان حراً ؛ والثانية: أنه كان عبداً، وأما عبد الرحمن بن القاسم، فعنه روايتان صحيحتان، إحداها: أنه كان حراً، والثانية: الشك. قال داود بن مقاتل: ولم تختلِفِ الروايةُ عن ابن عباس أنه كان عبداً.

واتفق الفقهاءُ على تخيير الأمةِ إذا أُعتِقَت وزوجُها عبد، واختلفوا إذا كان حراً ؛ فقال الشافعىُّ ومالك وأحمد فى إحدى الروايتين عنه: لا يخيرَ، وقال أبو حنيفة وأحمد فى الرواية الثانية: تُخيَّر.
وليست الروايتان مبنيتين على كون زوجها عبداً أو حراً، بل على تحقيق المناط فى إثبات الخيار لها، وفيه ثلاثةُ مآخذ للفقهاء ؛ أحدها: زوالُ الكفاءة، وهو المعبَّرُ عنه بقولهم: كملت تحتَ ناقص، الثانى: أن عتقها أوجبَ للزوج ملكَ طلقة ثالثة عليها لم تكن مملوكة له بالعقد، وهذا مأخذُ أصحابِ أبى حنيفة، وبنوا على أصلهم أن الطلاقَ معتبرٌ بالنساء لا بالرجال، الثالث: ملكُها نفسها، ونحن نبين ما فى هذه.
المأخذ الأول: وهو كمالُها تحت ناقص، فهذا يرجع إلى أن الكفاءَة معتبرةٌ فى الدوام، كما هى معتبرة فى الابتداء، فإذا زالت، خُيِّرتِ المرأةُ، كما تخيَّر إذا بان الزوجُ غيرَ كفءٍ لها، وهذا ضعيف من وجهين.
أحدهما: أن شروطَ النكاح لا يُعتبر دوامُها واستمرارها، وكذلك توابعه المقارِنَةُ لعقدة لا يُشترط أن تكون توابعَ فى الدوام، فإن رضى الزوجة غير المجبَرة شرط فى الابتداء دونَ الدوامِ، وكذلك الولىُّ والشاهدانِ، وكذلك مانعُ الإحرام والعدة والزنى عند من يمنع نكاحَ الزانية، إنما يمنع ابتداء العقد دون استدامته، فلا يلزم مِن اشتراط الكفاءة ابتداءُ اشتراط استمرارها ودوامها..
الثانى: أنه لو زالت الكفاءة فى أثناء النكاح بفسقِ الزوج، أو حدوثِ عيب موجبٍ للفسخ، لم يَثْبُت الخيارُ على ظاهر المذهب، وهو اختيارُ قدماء الأصحاب، ومذهب مالك. وأثبت القاضى الخيارَ بالعيب الحادِثَ، ويلزم إثباتُه بحدوث فسق الزوج، وقال الشافعى: إن حدث بالزوج،

ثبت الخيار، وإن حدث بالزوجة، فعلى قولين.
وأما المأخذُ الثانى وهو أن عتقها أوجب للزوج عليها مِلكَ طلقة ثالثة، فمأخذٌ ضعيف جداً، فأىُّ مناسبة بين ثبوت طلقة ثالثة، وبينَ ثبوت الخيارِ لها؟ وهل نصبَ الشارعُ مِلك الطلقة الثالثة سبباً لملك الفسخ، وما يُتوهم من أنها كانت تَبينُ منه باثنتين فصارت لا تَبينُ إلا بثلاث، وهو زيادةُ إمساك وحبس لم يقتضِهِ العقدُ فَاسِدٌ، فإنه يَمْلِكُ ألاَّ يُفارِقَها ألبتة، ويُمسكها حتى يُفرِّق الموتُ بينهما، والنكاحُ عقد على مدة العمر، فهو يَمْلِكُ استدامة إمساكِها، وعتقها لا يسلُبُه هذا الملك، فكيف يسلبه إياه ملكه عليها طلقةً ثالثة، وهذا لو كان الطلاق معتبراً بالنساء، فكيف والصحيحُ أنه معتبر بمن هو بيده وإليه، ومشروع فى جانبه.
وأما المأخذُ الثالث: وهو ملكُها نفسهَا، فهو أرجح المآخذِ وأقربُها إلى أصول الشرع، وأبعدُها من التناقض، وسر هذا المأخذ أن السيد عقدَ عليها بحكم الملك حيث كان مالكاً لرقبتها ومنافعها، والعتق يقتضى تمليكَ الرقبة والمنافع للمعتق، وهذا مقصوده وحكمته، فإذا ملكت رقبتها، ملكت بُضعها ومنافعها، ومن جملتها منافِع البُضع، فلا يملك عليها إلا باختيارها، فخيَّرها الشارعُ بين أن تُقيم مع زوجها، وبين أن تفسخَ نكاحه، إذ قد ملكت منافع بُضعها، وقد جاء فى بعض طرق حديث بريرة، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: "مَلَكْتِ نَفْسَكِ فَاخْتَارى".
فإن قيل: هذا ينتقِضُ بما لو زوّجها ثم باعها، فإن المشترى قد ملك رقبتها وبُضعها ومنافِعَه، ولا تسلِّطُونه على فسخ النكاح. قلنا لا يَرِدُ هذا نقضاً، فإن البائع نقل إلى المشترى ما كان مملوكاً له، فصار المشترى خليفته، هو لما زوَّجها، أخرج منفعة البُضع عن ملكه إلى الزوج، ثم نقلها إلى

المشترى مسلوبةً منفعة البُضع، فصار كما لو آجر عبده مدة، ثم باعه. فإن قيل: فهب أن هذا يستقيم لكم فيما إذا باعها، فهلا قلتم ذلك إذا أعتقها، وأنها ملكت نفسَها مسلوبة البُضع، كما لو آجرها، ثم أعتقها، ولهذا ينتقِضُ عليكم هذا المأخذ؟
قيل: الفرقُ بينهما: أن العتق فى تمليك العتيق رقبتَه ومنافعه أقوى من البيع، ولهذا ينفذ فيما لم يعتقه ويسرى فى حصة الشريك، بخلاف البيع، فالعتق إسقاطُ ما كان السيد يملِكهُ من عتيقه، وجعله له محرراً، وذلك يقتضى إسقاط مُلكِ نفسه ومنافِعها كُلِّها. وإذا كان العتق يسرى في ملك الغير المحض الذي لا حق له فيه البتة، فكيف لا يسري إلى مُلكه الذى تعلَّق به حقُّ الزوج، فإذا سرى إلى نصيب الشريكِ الذي لا حقَّ للمعتق فيه، فسريانُه إلى مُلك الذى يتعلق به حقُّ الزوج أولى وأحرى، فهذا محضُ العدل والقياس الصحيح.
فإن قيل: فهذا فيه إبطال حقِّ الزوج من هذه المنفعة بخلاف الشريك، فإنه يرجِعُ إلى القيمة.
قيل: الزوج قد استوفى المنفعة بالوطء، فطريانُ ما يُزيل دوامَها لا يُسقط له حقاً، كما لو طرأ ما يُفسِدُ أو يفسخُه برضاع أو حدوث عيب، أو زوالِ كفاءة عند من يفسخُ به.
فإن قيل: فما تقولون فيما رواه النسائى، من حديث ابن مَوْهَب، عن القاسم بن محمد، قال: كان لعائشة رضى الله عنها غلام وجارية، قالت: فأردت أن أعتِقَهما، فذكرتُ ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال "ابدَئى بالغُلاَم قَبْلَ الجَارِيَةَ" . ولولا أن التخيير يمنع إذا كان الزوج

حراً لم يكن للبداءة بعتق الغلام فائدة، فإذا بدات به، عتقت تحت حر، فلا يكون لها اختيار.
وفى سنن النسائى أيضاً: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أيُّمَا أَمَةٍ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَعُتِقَتْ، فَهِىَ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَطَأْهَا زَوْجُها".
قيل: أما الحديث الأول: فقال أبو جعفر العقيلى وقد رواه: هذا خبرٌ لا يعرف إلا بعبيد الله بن عبد الرحمن بن مَوْهَب وهوضعيف. وقال ابن حزم: هو خبر لا يصح. ثم لو صحَّ لم يكن فيه حجة، لأنه ليس فيه أنهما كانا زوجين، بل قال: كان لها عبدٌ وجارية. ثم لو كانا زوجين لم يكن فى أمره لها بعتق العبد أولاً ما يُسقط خيارَ المعتقة تحتَ الحر، وليس فى الخبر أنه أمرها بالابتداء بالزوج لهذا المعنى، بل الظاهر أنه أمرها بأن تبتدىء بالذَّكَرِ لفضل عتقه على الأنثى، وأن عتق أنثيين يقومُ مقامَ عتق ذَكَرٍ، كما فى الحديث الصحيح مبيناً.
وأما الحديث الثانى: فضُعِّف، لأنه من رواية الفضل بن حسن بن عمرو بن أمية الضمرى وهو مجهول. فإذا تقرر هذا، وظهر حكمُ الشرع فى إثبات الخيار لها، فقد روى الإمام أحمد بإسناده، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِذَا أُعْتِقَتِ الأَمَةُ فهى بِالخِيارِ مَا لَمْ يَطَأْهَا، إن شَاءتْ فَارَقَتْهُ، وإِنْ وَطِئَها فَلاَ خَيارَ لَها وَلاَ تَسْتَطِيعُ فِرَاقَهُ".

ويُستفاد من هذا قضيتان:
إحداهما: أن خيارَها على التراخى ما لم تُمَكِّنْهُ مِن وَطئها، وهذا مذهب مالك وأبى حنيفة. وللشافعى ثلاثةُ أقوال. هذا أحدُها. والثانى: أنه على الفور ؛ والثالث: أنه إلى ثلاثة أيام.
الثانية: أنها إذا مكَّنته من نفسها، فوطئها، سقط خيارُها، وهذا إذا علمت بالعتق وثبوتِ الخيار به، فلو جهلتهما، لم يسقط خيارُها بالتمكين من الوطء. وعن أحمد رواية ثانية: أنها لا تُعذر بجهلها بملك الفسخ، بل إذا علمت بالعتق، ومكَّنته مِن وطئها، سقط خيارها ولو لم تعلم أن لها الفسخ، والرواية الأولى أصح فإن عتق الزوج قبل أن تختار وقلنا: إنه لا خيار للمعتقة تحت حر بطلَ خيارُها لمساواة الزوج لها، وحصول الكفاءة قبل الفسخ. قال الشافعى فى أحد قوليه وليس هو المنصور عند أصحابه: لها الفسخ لتقدُّم ملك الخيار على العتق فلا يبطله، والأوّل أقيسُ لزوال سبب الفسخ بالعتق، وكما لو زال العيبُ فى البيع والنكاح قبل الفسخ به، وكما لو زال الإعسار فى زمن ملك الزوجة الفسخَ به. وإذا قلنا: العلة ملكها نفسها، فلا أثر لذلك، فإن طلقها طلاقاً رجعياً، فعتقت فى عدتها، فاختارت الفسخَ، بطلت الرجعةُ، وإن اختارت المقام معه، صح، وسقط اختيارُها للفسخ، لأن الرجعية كالزوجة.
وقال الشافعى وبعضُ أصحاب أحمد: لا يسقُط خيارُها إذا رضيت بالمقام دون الرجعة، ولها أن تختار نفسها بعد الارتجاع، ولا يَصِحُّ اختيارُها فى زمن الطلاق فإن الاختيارَ فى زمن هى فيه صائرة إلى بينوتة، ممتنع فإذا راجعها، صحَّ حينئذ أن تختارَه وتُقيم معه، لأنها صارت زوجة، وعمل الاختيار عمله، وترتَّبَ أثرُه عليه. ونظيرُ هذا إذا ارتدَّ زوجُ الأمة

بعد الدخول، ثم عتقت فى زمن الرِّدَّة، فعلى القول الأول لها الخيار قبل إسلامه، فإن اختارته، ثم أسلم، سقط ملكُها للفسخ، وعلى قول الشافعى: لا يَصِحُّ لها خيار قبل إسلامه، لأن العقد صائر إلى البطلان فإذا أسلم، صحَّ خِيارُها.
فإن قيل: فما تقولون إذا طلقها قبل أن تفسخ، هل يقع الطلاق أم لا؟
قيل: نعم يقع، لأنها زوجة ؛ وقال بعضُ أصحاب أحمد وغيرهم: يُوقف الطلاق، فإن فسخت، تبينّا أنه لم يقع، وإن اختارت زوجها تبينّا وقوعه. فإن قيل: فما حكم المهر إذا اختارت الفسخ؟
قيل: إما أن تفسخ قبل الدخول أو بعده. فإن فسخت بعدَه، لم يسقط المهر، وهو لِسيدها سواء فسخت أو أقامت، وإن فسخت قبله ففيه قولان، هما روايتان عن أحمد إحداهما: لا مهر، لأن الفرقة من جهتها، والثانية، يجب نصفُه، ويكون لسيدها لا لها.
فإن قيل: فما تقولون فى المعتَق نِصفُها، هل لها خيار؟ قيل: فيه قولان، وهما روايتان عن أحمد، فإن قلنا: لا خيارَ لها كزوج مدبَّرة له لا يمِلك غيرها وقيمُتها مائة، فعقد على مائتين مهراً، ثم مات، عتقت، وَلم تمِلك الفسخَ قبل الدخول، لأنها لو ملكت، سقطَ المهرُ، أو انتصف، فلم تخرُجْ مِن الثلث، فيرق بعضُها، فيمتنِعُ الفسخُ قبل الدخول، بخلاف ما إذا لم تملكه، فإنها تخرُج من الثلث، فيعتق جميعُها.

فصل
فى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو راجَعْتِهِ" فقالت: أتأمُرنى؟ فقال: "لا، إنَّما أَنَا شافع"، فقالت: لا حاجة لى فيه، فيه ثلاث قضايا.
إحداها: أن أمره على الوجوب، لهذا فرَّق بين أمره وشفاعته، ولا ريبَ أن امتثال شفاعته من أعظم المستحبات.
الثانية: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَغْضَبْ على بريرة، ولم يُنكر عليها إذ لم تقبل شفاعته، لأن الشفاعة فى إسقاط المشفوع عنده حقه، وذلك إليه، إن شاء أسقطه، وإن أبقاه فلذلك لا يحرُم عصيانُ شفاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحرم عصيانُ أمره.
الثالثة: أن اسم المراجعة فى لسان الشارع قد يكونُ مع زوال عقد النكاح بالكلية، فيكون ابتداءَ عقد، وقد يكون مع تشعثه، فيكون إمساكاً، وقد سمَّى سبحانه ابتداء النكاح للمطلق ثلاثاً بعد الزوج الثانى مُراجعتةً، فقال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230] أى: إن طلقها الثانى، فلا جناح عليها، وعلى الأول أن يتراجعا نكاحاً مستأنفاً.
فصل
وفى أكله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن اللحم الذى تُصدِّقَ به على برَيرة، وقال: "هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ ولَنا هَدِيَّةٌ"، دليلٌ على جواز أكل الغنى، وبنى هاشم، وكل من تحرم عليه الصدقة مما يُهديه إليه الفقير من الصدقة لاختلاف جهة المأكول، ولأنه قد بلغ محلَّه وكذلك يجوزُ له أن يشتريَه منه بماله. هذا إذا لم تكن==

6.  زاد المعاد في هدي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى : 751هـ)

صدقَة نفسه، فإن كانت صدقَته، لم يجز له أن يشتريَهَا، ولا يَهبَها، ولا يقبلها هديةً. كما نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر رضى الله عنه عن شِراء صدقته وقال: "لا تَشْتَرِه وإنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَم".
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الصداق بما قلَّ وكَثُرَ وقضائه بصحة النكاح على ما مع الزوج مِن القُرآن
ثبت فى "صحيح مسلم": عن عائشة رضى الله عنها: كانَ صَدَاقُ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَزواجه ثنتى عشرة أوقية ونشَّاً، فذلك خمسمائة.
وقال عُمَرُ رضى الله عنه: ما عَلِمْتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ شيئاً مِن نسائه، ولا أَنْكَحَ شيئاً مِن بناتِه على أكثرَ مِن ثِنتى عشرةَ أُوقية. قال الترمذى: حديث حسن صحيح. انتهى.
وفى "صحيح البخارى": من حديث سهل بن سعد، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لرجل: "تَزَوَّجْ وَلَوْ بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ".

وفى سنن أبى داود: مِن حديث جابر، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ أعْطى فى صَداقٍ مِلءَ كفيه سَويقاً أوْ تَمراً، فَقَدِ اسْتَحَلَّ".
وفى الترمذى: أن امرأةً مِن بنى فَزارة تزوَّجت على نعلينِ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ ومَالِكِ بنعلين" ؟ قالت: نعم، فأجازه. قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
وفى مسند الإمام أحمد: من حديث عائشة رضىَ الله عنها، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّ أَعْظَمَ النِّكَاحِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُ مَؤُونَة".
وفى "الصحيحين": أن امرأةً جاءت إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسولَ الله، إنى قد وهبتُ نفسى لكَ، فقامَت طويلاً، فقال رجل: يا رسول الله، زَوِّجْنِيهَا إن لم يَكُن لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىءٍ تُصْدِقُها إيَّاهُ"؟ قال: ما عندى إلا إزارى هذا، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّكَ إنْ أَعْطَيْتَها إزَارَكَ جَلَسْتَ وَلاَ إزَارَ لَكَ،

فَالْتَمِسْ شَيْئاً" ، قال: لا أجد شيئاً، قال: "فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ"، فالتمس فلم يَجِدْ شيئاً، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ مَعَكَ شىء مِنَ القُرْآنِ"؟ قال: نعم سورةُ كذا وسورةُ كذا لِسور سماها، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ زَوَّجْتُكَها بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآن".
وفى النسائى: أن أبا طلحة خطب أُمَّ سُلَيْمٍ، فقالت: واللهِ يا أَبَا طلحة، ما مِثْلُكَ يُرَدُّ ولكنَّك رجلٌ كافِر، وأنا امرأةٌ مسلمة، ولا يَحِلُّ لى أن أتزوَّجَك، فإن تُسْلِم، فَذاك مَهْرِى، وما أسألك غيرَه، فأسلَمَ فكان ذَلكَ مَهْرَهَا. قال ثابت: فما سمعنا بامرأةٍ قَطُّ كانت أكرمَ مهراً من أمِّ سُليم، فدخل بها، فولدت له.
فتضمن هذا الحديثُ أن الصداق لا يتقدَّر أقلُّه، وأن قبضةَ السويق وخاتمَ الحديد والنعلينِ يَصِحُّ تسميتُها مهراً، وتَحِلُّ بها الزوجة.
وتضمَّن أن المُغالاة فى المهر مكروهة فى النكاح، وأنها مِن قلة بركته وعُسره.
وتضمَّن أن المرأةً إذا رَضِيت بعلم الزوج، وحِفظه للقرآن أو بعضه مِن مهرها، جاز ذلك، وكان ما يحصُل لها من انتفاعها بالقرآن والعلم هو صَداقها، كما إذا جَعَل السيدُ عِتْقَها صداقَها وكان انتفاعُها بحريَّتها ومُلكها لرقبتها هو صداقَها، وهذا هو الذى اختَارته أمُّ سليم من انتفاعها بإسلام أبى طلحة، وبذلِها نفسها له إن أسلم، وهذا أحبُّ إليها من المال الذى يبذُلُه الزوجُ، فإن الصداقَ شُرِعَ فى الأصل حقاً للمرأة تنتفع به،

فإذا رضيت بالعلم والدِّين، وإسلام الزوج، وقراءته للقرآن، كان هذا من أفضل المهور وأنفعها وأجلِّها، فما خلا العقد عن مهر، وأين الحكم بتقدير المهر بثلاثة دراهم، أو عشرة من النص؟ والقياس إلى الحكم بصحة كون المهر ما ذكرنا نصاً وقياساً، وليس هذا مستوياً بين هذه المرأة وبين الموهبة التى وهبت نفسها للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهى خالصة له من دون المؤمنين، فإن تلك وهبت نفسها هبةً مجردة عن ولى وصداق، بخلاف ما نحن فيه، فإنه نكاح بولى وصداق، وإن كان غير مالى، فإن المرأة جعلته عوضاً عن المال لما يرجع إليها من نفعه، ولم تهب نفسها للزوج هِبةً مجرَّدَةً كهبة شىء من مالها بخلاف الموهوبة التى خصَّ الله بها رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا مقتضى هذه الأحاديث.
وقد خالف فى بعضه من قال: لا يكون الصداقُ إلا مالاً، ولا تكون منافع أخرى، ولا علمه، ولا تعليمه صداقاً، كقول أبى حنيفة وأحمد فى رواية عنه. ومن قال: لا يكون أقلَّ مِن ثلاثة دراهم كمالك، وعشرة دراهم كأبى حنيفة، وفيه أقوال أخر شاذة لا دليل عليها من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس، ولا قولِ صاحب.
ومن ادعى فى هذه الأحاديث التى ذكرناها اختصاصَها بالنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو أنها منسوخة، أو أن عملَ أهل المدينة على خلافها، فدعوى لا يقومُ عليها دليلٌ. والأصل يردُّها، وقد زوَّج سيدُ أهل المدينة من التابعين سعيدُ بن المسيب ابنتَه على درهمين، ولم يُنكر عليه أحد، بل عُدَّ ذلك فى مناقبه وفضائله، وقد تزوَّج عبد الرحمن بن عوف على صداق خمسة دراهم، وأقرَّه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا سبيل إلى إثبات المقادير إلا من جهة صاحب الشرع.

فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفائه فى أحد الزوجين يجد بصاحبه برصاً أو جنوناً أو جذاماً، أو يكون الزوج عِنِّيناً
فى "مسند أحمد": من حديث يزيد بن كعب بن عُجرة رضى الله عنه، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوَّجَ امرأةً من بنى غِفَار، فلما دَخَلَ عَلَيْهَا، وَوَضَعَ ثوبَه، وقَعَدَ على الفِراش، أبصَرَ بِكَشْحِهَا بياضاً ؛ فامّازَ عَنِ الفِرَاشِ، ثم قال: "خُذِى عَلَيكِ ثِيَابَكِ، " ولم يأخذ مما آتاها شيئاً.
وفى "الموطأ": عن عمر أنه قال: أَيُّما امْرَاَةٍ غرَّ بها رجُلٌ، بِها جُنُونُ أَوْ جُذامٌ أوْ بَرَصُ، فَلَهَا المَهْرُ بما أصَابَ مِنْهَا، وصَدَاقُ الرَّجُلِ عَلى مَنْ غَرَّهُ".
وفى لفظ آخر: "قضَى عمر فى البَرْصاء، والجذماء، والمجنونة، إذا دخَل بها فَرَّقَ بينَهما، والصَّداقُ لها بمَسِيسِه إياها، وهو له على وَلِيِّها"
وفى سنن أبى داود: مِن حديث عِكرمة، عن ابن عباس رضى الله عنهما: طلَّق عبدُ يزيد أبو رُكانة زوجتَه أمَّ رُكانة، ونَكَحَ امرأةً مِنْ مُزِيْنَةَ، فجاءت إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: ما يُغْنِى عَنِّى إلاَّ كَما تُغْنِى هذِهِ الشَّعْرَةُ

لِشَعْرَةٍ أَخَذَتْها مِنْ رَأْسِها، فَفَرِّق بينى وبينَه، فأخذت النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمِيَّةُ، فذكر الحديثَ. وفيه: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له "طَلِّقْها" ، ففعل، ثم قال: "رَاجِع امْرَأَتُكَ أُمَّ رُكَانَةَ" ، فقال: إنى طلقتُها ثلاثاً يا رَسُولَ اللهِ، قال: "قَدْ عَلِمْتُ، ارْجِعْهَا"، وتلا: {يَأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
ولا عِلَّة لهذا الحديث إلا روايةُ ابن جُريج له عن بعض بنى أبى رافع، وهو مجهول، ولكن هو تابعى، وابنُ جريج من الأئمة الثقات العدولِ، وروايةُ العدل عن غيره تعديلٌ له ما لم يُعلم فيه جرحٌ، ولم يكن الكذبُ ظاهراً فى التابعين، ولا سيما التابعين مِن أهل المدينة، ولا سيما موالى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا سيما مثل هذه السنة التى تشتد حاجةُ النَّاس إليها لا يُظن بابن جريج أنه حملها عن كذَّاب، ولا عن غيرِ ثقة عنده، ولم يُبيِّنْ حاله.
وجاء التفريقُ بالعُنَّةِ عن عمر، وعثمانَ، وعبدِ الله بن مسعود، وسمرةَ بنِ جندب، ومعاويةَ بن أبى سفيان، والحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة، والمغيرة بن شعبة، لكن عمر، وابن مسعود، والمغيرة، أجَّلُوه سنة، وعثمان ومعاوية وسمرة لم يؤجِّلوه، والحارث بن عبد الله أجَّلَه عشرة أشهر.
وذكر سعيدُ بن منصور: حدثنا هُشيم، أنبأنا عبدُ الله بن عوف، عن ابن سيرين أن عمرَ بنَ الخطاب رضى الله عنه بعثَ رجلاً على بعضِ السِّعَاية، فتزوَّج امرأةً وكان عقيماً، فقال له عمرُ: أعْلَمْتَها أنَّكَ عَقِيمُ؟

قال: لا، قال: فانطلق فأعْلِمْها، ثم خيِّرها.
وأجَّلَ مجنوناً سنة، فإن أفاق وإلا فرَّق بينه وبين امرأته.
فاختلف الفقهاءُ فى ذلك، فقال داود، وابنُ حزم، ومَنْ وافقهما: لا يُفْسَخْ النكاحُ بعيب ألبتة، وقال أبو حنيفة: لا يفسخ إلا بالجَبِّ والعُنَّةِ خاصة. وقال الشافعى ومالك: يُفْسَخُ بالجنونِ والبَرَصِ، والجُذامِ والقَرَن، والجَبِّ والعُنَّةِ خاصة، وزاد الإمام أحمد عليهما: أن تكونَ المرأة فتقاءَ منخرِقة ما بينَ السبيلين، ولأصحابه فى نَتَنِ الفرج والفم، وانخراقِ مخرجى البول والمنى فى الفرج، والقروح السيالة فيه، والبواسير، والنَّاصور، والاستحاضة، واستطلاقِ البول، والنجو، والخصى وهو قطعُ البيضتينِ، والسَّل وَهو سَلُّ البيضتين، والوجء وهو رضُّهما، وكونُ أحدهما خُنثى مشكلاً، والعيبِ الذى بصاحبه مثلُه مِن العيوب السبعة، والعيبِ الحادث بعد العقد، وجهان.
وذهب بعضُ أصحابِ الشافعى إلى ردِّ المرأة بكُلِّ عيبٍ تُردُّ به الجاريةُ فى البيع وأكثرُهم لا يَعْرِفُ هذا الوجهَ ولا مظِنَّتَه، ولا مَنْ قاله. وممن حكاه: أبو عاصم العبادانى فى كتاب طبقات أصحاب الشافعى، وهذا القولُ هو القياس، أو قولُ ابن حزم ومن وافقه.
وأما الاقتصارُ على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساو لها، فلا وجه له، فالعمى والخرس والطرش، وكونُها مقطوعة اليدين أو الرجلين، أو إحداهُما، أو كونُ الرجل كذلك من أعظم المنفِّرات، والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش، وهو مُنافٍ للدين، والإطلاق

إنما ينصرف إلى السلامة، فهو كالمشروط عرفاً، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه لمن تزوج امرأة وهُو لا يولد له: أَخْبِرْهَا أنَّكَ عَقِيمٌ وخيِّرْهَا. فماذا يقول رضى الله عنه فى العيوب التى هذا عندها كمالٌ لا نقص؟
والقياس: أن كُلَّ عيب ينفِرُ الزوجُ الآخر منه، ولا يحصُل به مقصودُ النكاح مِن الرحمة والمودَّة يُوجبُ الخيارَ، وهو أولى مِن البيع، كما أن الشروطَ المشترطة فى النكاح أولى بالوفاءِ مِن شروط البيع، وما ألزم اللهُ ورسولُه مغروراً قطُّ، ولا مغبوباً بما غُرَّ به وغُبِنَ به، ومن تدبَّر مقاصد الشرع فى مصادره وموارِده وعدله وحِكمته، وما اشتمل عليه مِن المصالح لم يخفَ عليه رجحانُ هذا القول، وقربُه من قواعد الشريعة.
وقد روى يحيى بن سعيد الأنصارى، عن ابن المسيب قال: قال عمر: أيُّما امرأةٍ زُوِّجَتْ وبها جنونٌ أو جُذام أو بَرَصٌ فدخل بها ثم اطَّلع على ذلك، فلها مهرها بمسيسه إياها، وعلى الولى الصَّداقُ بما دلس كما غرَّه.
ورَدُّ هذا بأن ابن المسيِّب لم يسمع من عمر من باب الهذيان البارد المخالف لإجماع أهل الحديث قاطبة، قال الإمام أحمد: إذا لم يُقبل سعيد بن المسيب عن عمر، فمن يقبل، وأئمة الإسلام وجمهورهُم يحتجون بقول سعيد بن المسيب: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فكيف بروايته عن عُمَرَ رضى الله عنه، وكان عبد الله بن عمر يرسل إلى سعيد يسأله عن قضايا عمر، فيُفتى بها، ولم يطعن أحدٌ قطُّ من أهل عصره، ولا مَنْ بعدهم ممن له فى الإسلام قولٌ معتبر فى رواية سعيد بن المسيب عن عمر، ولا عبرة بغيرهم.
وروى الشعبى عن على: أيُّما امرأةٍ نكحت وبها بَرَصٌ أو جُنون أو جُذام أو قَرَنٌ فزوجُها بالخيار ما لم يمسها، إن شاء أمسك، وإن شاء طلق،

وإن مسَّها فلها المهرُ بما استحل من فرجها.
وقال وكيع: عن سفيان الثورى، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسِّيب، عن عُمَرَ، قال: إذا تزوَّجها برصاء، أو عميَاء، فدخل بها، فلها الصداقُ، ويرجعُ به على مَنْ غرَّه. وهذا يدل على أن عمر لم يذكر تلك العيوب المتقدِّمة على وجه الاختصاص والحصر دونَ ما عداها، وكذلك حكم قاضى الإسلام حقاً الذى يُضرب المثلُ بعلمِه ودِينه وحُكمه: شريحٍ قال عبد الرزاق: عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، خاصم رجلٌ إلى شُرَيْح، فقال: إن هؤلاء قالوا لى: إنا نُزوِّجُك بأحْسَنِ الناسِ، فجاؤونى بامرأة عمشاءَ، فقال شُريح: إن كان دلِّس لك بعيب لم يَجُز، فتأمل هذا القضاء، وقوله: إن كان دلِّس لك بعيب، كيف يقتضى أن كل عيب دلست به المرأةُ، فللزوج الردُّ به؟ وقال الزهرىُّ يُردُّ النكاح مِن كل داءٍ عُضالٍ.
ومن تأمل فتاوى الصحابة والسلف، علم أنهم لم يخصُّوا الردَّ بعيب دون عيب إلا رواية رُويت عن عمر رضى الله عنه: لا تُردُّ النساء إلا من العُيوب الأربعة: الجنون، والجذام، والبرص، والداء فى الفرج. وهذه الرواية لا نعلم لها إسناداً أكثر من أصبغ عن ابن وهب، عن عُمَرَ وعَلى. رُوى عن ابن عباسِ ذلك بإسناد متصل، ذكره سفيان، عن عمرو بن دينار عنه. هذا كُلُّه إذا أطلقَ الزوجُ، وأما إذا اشترط السلامةَ، أو شرطَ الجمَال، فبانت شوهاء، أو شرطَها شابةً حديثةَ السن، فبانت عجوزاً شمطاء، أو

شرطها بيضاءَ، فبانت سوداء، أو بِكراً فبانت ثيباً، فله الفسخُ فى ذلك كُلِّه.
فإن كان قبلَ الدخول، فلا مهرَ لها، وإن كان بعدَه، فلها المهرُ، وهو غُرْمٌ على وليها إن كان غرَّه، وإن كانت هى الغارَّة، سقط مهرُها أو رَجَعَ عليها به إن كانت قبضته، ونص على هذا أحمد فى إحدى الروايتين عنه، وهو أقيسُهما وأولاهما بأصوله فيما إذا كان الزوج هو المشترط.
وقال أصحابُه: إذا شرطت فيه صفةً، فبان بخلافها، فلا خيار لَها إلا فى شرط الحفرية إذا بان عبداً، فلها الخيارُ، وفى شرط النسب إذا بان بخلافه وجهان، والذى يقتضيه مذهبُه وقواعده، أنه لا فرق بين اشتراطه واشتراطها، بل إثباتُ الخيار لها إذا فات ما اشترطته أولى، لأنها لا تتمكَّنُ من المفارقة بالطلاق، فإذا جاز له الفسخُ مع تمكنهِ من الفراق بغيره، فلأن يجوزَ لها الفسخُ مع عدم تمكُّنها أولى، وإذا جاز لها الفسخ إذا ظهر الزوجُ ذا صناعة دنيئة لا تشينُه فى دِينه ولا فى عرضه، وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به، فإذا شرطته شاباً جميلاً صحيحاً فبان شيخاً مشوهاً أعمى أطرش أخرس أسود، فكيف تلزم به، وتمنع من الفسخ؟ هذا فى غاية الامتناع والتناقض، والبعدِ عن القياس، وقواعد الشرع، وبالله التوفيق.
وكيف يمكَّن أحدُ الزوجين من الفسخ بقدر العدسَةِ من البَرَصِ، ولا يُمكَّن منه بالجرب المستحكم المتمكِّن وهو أشدُّ إعداءَ من ذلك البرص اليسير وكذلك غيرُه مِن أنواع الداء العُضال؟
وإذا كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرَّم على البائع كِتمانَ عيب سلعته، وحرَّم على مَنْ علمه أن يكتُمَه مِن المشترى، فكيف بالعيوب فى النكاح، وقد قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفاطمة بنتِ قيس حين استشارته فى نكاح معاوية، أو أبى الجهم:

"أمَّا مُعَاوِيَةُ، فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ، وأمَّا أبُو جَهْمِ، فَلا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِه" ، فعُلِمَ أن بيانَ العيب فى النكاح أولى وأوجب، فكيف يكون كتمانُه وتدليسُه والغِشُّ الحرَامُ به سبباً للزومه، وجعل ذا العيب غُلاً لازماً فى عُنق صاحبه مع شِدة نُفرته عنه، ولا سيما مع شرط السلامة منه، وشرطِ خلافه، وهذا مما يُعلم يقيناً أن تصرفات الشريعة وقواعدَها وأحكامَها تأباه والله أعلم.
وقد ذهب أبو محمد ابن حزم إلى أن الزوجَ إذا شرط السلامةَ مِن العيوب، فوجِدَ أىّ عيبٍ كان، فالنكاح باطل من أصله غير منعقد، ولا خيار له فيه، ولا إجازة ولا نفقة، ولا ميراث. قال: لأَن التى أدخلت عليه غير التى تزوج، إذ السالمةُ غيرُ المعيبة بلا شك، فإذا لم يتزوجها، فلا زوجيةَ بينهما.
فصل: فى حُكم النبىِّ صَلَّى الله عليه وسلم فى خِدْمَةِ المرأةِ لزوجها
قال ابنُ حبيب فى "الواضحة": حكم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين على بن أبى طالب رضى الله عنه، وبين زوجته فاطمة رضى الله عنها حين اشتكيا إليه الخِدمة، فحكم على فاطمة بالخدمة الباطنة خدمة البيت، وحكم على عليٍّ بالخدمة الظاهرة، ثم قال ابنُ حبيب: والخدمة الباطنة: العجينُ، والطبخُ، والفرشُ، وكنسُ البيت، واستقاءُ الماء، وعمل البيت كلِّه.

فى "الصحيحين": أن فاطمة رضى الله عنها أتتِ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشكُو إليه ما تَلْقى فى يَدَيْهَا مِن الرَّحى، وتسألُه خادماً فلم تَجِدْه، فذكرت ذلك لِعائشة رضى الله عنها، فلما جاء رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرتْه. قال على: فجاءنا وقد أخذنا مَضَاجِعَنَا، فذهبنا نقومُ، فقال: "مَكَانكُمَا"، فجاء فقعَدَ بينَنَا حتى وجدت بَرْدَ قَدَمَيْهِ على بطْنى، فقال: " أَلاَ أدُلُّكُمَا عَلى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَا، إذا أَخَذْتُما مَضَاجِعَكُما فَسَبِّحا الله ثَلاثَاً وثَلاثِينَ، واحْمَدا ثلاثاً وثلاثينَ، وكَبِّرا أربعاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادِم. قال عَلُّى: فما تركتُها بَعْدُ، قِيلَ: ولا ليلةَ صفين؟ قال: ولا ليلة صِفِّين".
وصحَّ عن أسماء أنها قالت: كنت أخدِمُ الزُّبَيْرَ خِدْمَةَ البَيْتِ كُلِّه، وكان لَه فَرَسٌ وكُنْتُ أَسُوسُه، وكُنْتُ أَحْتشُّ لَهُ، وأَقُومُ عَلَيْهِ.
وصحَّ عنها أنها كانت تَعْلِفُ فرسَه، وتَسْقِى الماءَ، وتَخْرِزُ الدَّلْوَ وتَعْجِنُ، وتَنْقُلُ النَّوى عَلَى رَأْسِهَا مِنْ أَرضٍ لَهُ عَلَى ثُلُثَى فَرْسَخ.
فاختلف الفقهاءُ فى ذلك، فأوجب طائفةٌ مِن السَّلفِ والخَلَفِ خِدمَتها له فى مصالح البيت، وقال أبو ثور: عليها أن تَخْدِمَ زوجها فى كل شىء،

ومنعت طائفةً وجوبَ خدمته عليها فى شىء، وممن ذهب إلى ذلك مالك، والشافعى، وأبو حنيفة، وأهلُ الظاهر، قالوا: لأن عقدَ النكاح إنما اقتضى الاستمتاع، لا الاستخدام وبذل المنافع، قالوا: والأحاديث المذكورة إنما تدلُّ على التطوُّع ومكارِمِ الأخلاق، فأين الوجوبُ منها؟
واحتج من أوجب الخدمة، بأن هذا هو المعروف عند من خاطبهم الله سبحانه بكلامه، وأما ترفيهُ المرأةِ، وخدمةُ الزوج، وكنسُه، وطحنُه، وعجنُه، وغسيلُه، وفرشُه، وقيامُه بخدمة البيت، فَمِنَ المنكر، والله تعالى يقول:{ ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَليْهنَّ بِالمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] وقال :{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلى النِّسَاءِ} [النساء: 34] وإذا لم تخدِمْه المرأةُ، بل يكون هو الخادِمَ لها، فهى القَوَّامَةُ عليه.
وأيضاً: فإن المهر فى مقابلة البُضع، وكُلٌّ مِن الزوجين يقضى وطرَه مِن صاحبه فإنما أوجبَ الله سبحانه نفقتَها وكُسوتها ومسكنَها فى مقابلة استمتاعه بها وخدمتها، وما جرت به عادةُ الأزواج.
وأيضاً فإن العقود المطلقة إنما تُنَزَّلُ على العرف، والعُرفُ خدمةُ المرأة، وقيامُها بمصالح البيت الداخلة، وقولُهم: إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعاً وإحساناً يردُّه أن فاطمة كانت تشتكى ما تلقى مِن الخِدمة، فلم يَقُلْ لعلتى: لا خِدمة عليها، وإنما هى عليك، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُحابى فى الحكم أحداً، ولما رأى أسماء والعلفُ على رأسها، والزبيرُ معه، يقل له: لا خِدمةَ عليها، وأن هذا ظلمٌ لها، بل أقرَّه على استخدامها، وأقرَّ سائِرَ أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارِهَة والراضية، هذا أمر لا ريب فيه.
ولا يَصِحُّ التفريقُ بين شريفة ودنيئة، وفقيرةٍ وغنية، فهذه أشرفُ

نساء العالمين كانت تَخْدِمُ زوجها، وجاءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشكُو إليه الخدمة، فلم يُشْكِهَا، وقد سمَّى النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الحديث الصحيح المرأة عانيَةُ، فقال: "اتَّقُوا اللهَ فى النّساءِ، فإِنَّهُنَّ عَوانٍ عِنْدَكُم". والعانى: الأسير، ومرتبة الأسير خدمةُ من هو تحت يده، ولا ريبَ أن النكاح نوعٌ من الرِّق، كما قال بعضُ السلف: النكاح رِق، فلينظر أحدُكم عند من يُرِقُّ كريمته، ولا يخفى على المنصف الراجحُ من المذهبين، والأقوى من الدليلين.
حُكْمُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الزوجين يَقَعُ الشِّقَاقُ بينهما
روى أبو داود فى "سننه": من حديث عائشة رضى الله عنها، أن حبيبةَ بنتَ سهل كانت عند ثابت بنِ قيس بن شمَّاس، فضربها، فكَسَرَ بعضَها، فأَتَتِ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدَ الصُّبْحِ، فدعا النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثابتاً، فقال: " خُذْ بَعْضَ مَالِها وفَارِقْها" ، فقال: ويصلُح ذلك يا رسولَ الله؟ قال: "نعم"، قال: فإنى أَصدقتُها حَديقتَينِ، وهُما بيدها، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُذْهُما وفَارِقْها" ، فَفَعَل.
وقد حكم الله تعالى بين الزوجين يقعُ الشِّقاقُ بينهما بقوله تعالى :{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهمَا فَابْعَثْوا حَكَماً مِنْ أهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبيراً} [النساء: 35].
وقد اختلف السلفُ والخَلَفُ فى الحَكَمين: هل هُما حاكمان، أو

وكيلان؟ على قولين.
أحدهما: أنهما وكيلان، وهو قولُ أبى حنيفة، والشافعى فى قول، وأحمد فى رواية.
والثانى: أنهما حاكمان، وهذا قولُ أهلِ المدينة، ومالك، وأحمد فى الرواية الأخرى، والشافعى فى القول الآخر، وهذا هو الصحيح.
والعجبُ كُلُّ العجب ممن يقول: هما وكيلان لا حاكمان، والله تعالى قد نصبهما حَكَمين، وجعل نصَبهما إلى غير الزوجين، ولو كانا وكيلين، لقال: فليبعث وكيلاً مِن أهله، ولتبعث وكيلاً من أهلها.
وأيضاً فلو كانا وكيلين، لم يختصا بأن يكونا مِن الأهل.
وأيضاً فإنه جعل الحُكْمَ إليهما فقال: {إن يُريدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] والوكيلان لا إرادة لهما، إنما يتصرَّفان بإرادة موَكِّليهما.
وأيضاً فإن الوكيل لا يُسمى حَكماً فى لغة القرآن، ولا فى لسان الشارع، ولا فى العُرف العام ولا الخاص.
وأيضاً فالحَكَمُ مَنْ له ولاية الحُكْمِ والإلزام، وليس للوكيل شىء من ذلك.
وأيضاً فإن الحَكَم أبلغُ مِن حاكم، لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت، ولا خلاف بين أهل العربية فى ذلك، فإذا كان اسمُ الحاكم لا يصدُق على الوكيل المحض، فكيف بما هو أبلغُ منه.
وأيضاً فإنه سبحانه خاطب بذلك غيرَ الزوجين، وكيف يَصِحُّ أن يُوكِّل عن الرجل والمرأة غيرَهما، وهذا يُحوِجُ إلى تقدير الآية هكذا :{وإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35] فمروهما أن يُوكِّلا وكيلين: وكيلاً من أهله ووكيلاً من أهلها،

ومعلومٌ بُعْدُ لفظِ الآية ومعناها عن هذا التقدير، وأنها لا تدلُّ عليه بوجه، بل هى دالة على خلافه، وهذا بحمد الله واضح.
وبعث عثمانُ بنُ عفان عبد الله بنَ عباس ومعاويةَ حَكَمَيْنِ بين عقيل بن أبى طالب وامرأته فاطمةَ بنت عُتبة بن ربيعة، فقيل لهما: إن رأيتُما أن تُفَرِّقا فرقتما.
وصحَّ عن على بن أبى طالب أنه قال لِلحكَمَيْنِ بين الزوجين: عَلَيْكُمَا إن رأيتُما أن تفرِّقا، فرَّقتما، وإن رأيتُمَا أن تَجْمَعَا، جمعتُما.
فهذا عثمانُ، وعلىُّ، وابنُ عباس، ومعاوية، جعلوا الحكم إلى الحكمين، ولا يُعرف لهم من الصحابة مخالف، وإنما يُعرف الخلاف بين التابعين فمن بعدهم. والله أعلم.
وإذا قلنا: إنهما وكيلان، فهل يُجبر الزوجانِ على توكيل الزوج فى الفُرقة بعوضٍ وغيره، وتوكيلِ الزوجة فى بذل العِوَضِ، أو لا يُجبران؟ على روايتين، فإن قلنا: يجبران، فلم يوكلا، جعل الحاكمُ ذلك إلى الحكمين بغير رضى الزوجين وإن قلنا: إنهما حكمان، لم يحتج إلى رضى الزوجين.
وعلى هذا النزاع ينبنى ما لو غاب الزوجان أو أحدُهما، فإن قيل: إنهما وكيلان لم ينقطع نظرُ الحكمين، وإن قيل: حكمان، انقطع نظرهُما لعدم الحكم على الغائب، وقيل: يبقى نظرهما على القولين لأنهما يتطرفان لحظهما، فهما كالناظرين. وإن جُنَّ الزوجانِ، انقطع نظرُ الحكمين،

إن قيل: إنهما وكيلان، لأنهما فرعُ الموكلين، ولم ينقطع إن قيل: إنهما حكمان، لأن الحاكم يلى على المجنون، وقيل: ينقطع أيضاً لأنهما منصوبان عنهما، فكأنهما وكيلانِ، ولا ريبَ أنهما حكمان فيهما شائبة الوكالة، ووكيلان منصوبان للحكم، فمِن العلماء من رجَّح جانب الحكم، ومنهم من رجح جانب الوكالة، ومنهم من اعتبر الأمرين.
حُكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخُلع
فى صحيح البخارى: عن ابن عباس رضى الله عنه، أن امرأة ثابت بن قيس بن شمَّاس، أَتَتِ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسولَ الله، ثابتُ بنُ قيس ما أَعِيبُ عليه فى خُلُقٍ، ولا دِين، وَلكِنِّى أكُرهُ الكُفْرَ فى الإِسْلامِ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَرُدِّين عَلَيْهِ حَدِيقَتَه؟" قالت: نعم، قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقُبَل الحَديقَةَ وطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً".
وفى سنن النسائى، عن الرُّبَيِّع بِنْتِ مُعَوِّذ، أن ثابتَ بن قيس بن شماس ضَرَبَ امرأته فَكَسَرَ يدها، وهى جميلة بنت عبد الله بن أبى، فأتى أخوها يشتكيه إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل إليه، فقال: "خُذْ الذى لَهَا عَلَيْكَ وخَلِّ سَبِيلَها"، قال : نعم، فأمرها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تتربَّصَ حيضةً وَاحِدَةً وتلحق بأهلها.

وفى سنن أبى داود: عن ابن عباس، أنَّ امرأة ثَابتِ بن قيسِ بن شمَّاس اختلعت من زوجها، فأمرها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تعتدَّ حَيْضَة.
وفى سنن الدارقطنى فى هذه القصة: فقال النبىٌّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَرُدِّين عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتى أَعْطَاكِ"؟ قالت: نَعَمْ وَزِيادَة، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا الزِّيادَةُ، فَلا ولكِنْ حَدِيقَتَهُ "، قالت: نعم، فأخذ مالَه، وخلَّى سبيلها، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال: قد قبلتُ قضاءَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الدارقطنى: إسناده صحيح.
فتضمَّن هذا الحكم النبوى عدة أحكام.
أحدُها: جوازُ الخُلْع كما دلَّ عليه القرآن، قال تعالى :{وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إلاَّ أَنْ يَخَافَا أَنْ لاَ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بهِ} [البقرة: 229].
ومنع الخلعَ طائفةٌ شَاذَّة من الناس خالفتِ النصَّ والإجماعَ.
وفى الآية دليل على جوازه مطلقاً بإذن السلطان وغيره، ومنعه طائفة بدون إذنه، والأئمة الأربعة والجمهورُ على خلافه.
وفى الآية دليل على حصول البينونة به، لأنه سبحانه سمَّاه فدية، ولو كان رجعياً كما قاله بعضُ الناسِ لم يحصل للمرأة الافتداءُ من الزوج بما بذلته له، ودلَّ قولُه سبحانه: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه} [البقرة: 229] على جوازِه بما قل وكثُر وأن له أن يأخُذَ منها أكثرَ مما أعطاها.
وقد ذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل،

أن الرُّبَيِّعَ بنْتَ مُعَوِّذِ بنِ عفراء حدثته، أنها اختلعت مِن زوجها بِكُلِّ شىء تملكه، فخُوصِمَ فى ذلك إلى عثمان بن عفان، فأجازه، وأمره أن يأخُذ عِقَاصَ رأسها فما دُونَه.
وذكر أيضاً عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع، أن ابن عمر جاءته مولاة لامرأته اختلعت مِن كل شىء لها وكلِّ ثوب لها حتى نُقبتِها.
ورفعت إلى عمر بن الخطاب امرأة نشزت عَنْ زوجها، فقال: اخلعها ولو مِن قُرطها، ذكره حماد بن سلمة، عن أيوب، عن كثير بن أبى كثير عنه.
وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن ليث، عن الحكم بن عُتيبة عن على بن أبى طالب رضى الله عنه: لا يأخُذُ منها فوقَ ما أعطاها.
وقال طاووس: لا يَحِلُّ أن يأخُذَ منها أكثَر مما أعطاها، وقال عطاء: إن أخذ زيادةً على صداقها فالزيادةُ مردودة إليها. وقال الزهرى: لا يَحلُّ له أن يأخذ منها أكثرَ مما أعطاها. وقال ميمون بن مهران: إن أخذ منها

أكثر مما أعطاها لم يُسَرِّحُ بإِحسان. وقال الأوزاعي: كانت القضاةُ لا تُجيز أن يأخُذ منها شيئاً إلا ما ساق إليها.
والذين جوَّزوه احتجوا بظاهر القرآن، وآثارِ الصحابة، والذين منعوه، احتجوا بحديث أبى الزبير، أن ثابت بن قيس بن شماس لما أراد خَلْعَ امرأته، قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ"؟ قالت: نعم وَزِيادة، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما الزيادة، فلا. قال الدارقطنى: سمعه أبو الزبير من غير واحد، وإسناده صحيح.
قالوا: والآثار من الصحابة مختلِفَة، فمنهم من رُوِىَ عنه تحريمُ الزيادة، ومنهم من رُوِىَ عنه إباحتها، ومنهم مَنْ رُوِىَ عنه كراهتُها، كما روى وكيع عن أبى حنيفة، عن عمار بن عمران الهمدانى، عن أبيه، عن على رضى الله عنه، أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، والإمامُ أحمد أخذ بهذا القولِ، ونصَّ على الكراهة، وأبو بكر من أصحابه حرَّم الزيادة، وقال: ترد عليها.
وقد ذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قال لى عطاء: أتت امرأة رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسولَ الله، إنى أُبْغِضُ زوجى وأُحِبُّ فراقه، قال: "فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ التى أَصْدَقَكِ"؟ قالت: نعم وَزِيادة مِن مالى، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا الزِّيادَةُ منْ مَالِك فَلا ولكِنِ الحَدِيقَةُ"، قالت: نعم، فقضى بذلك على الزوج وهذا وإن كان مرسلاً، فحديث أبى الزبير مُقَوٍّ له، وقد رواه جريج عنهما.

فصل
وفى تسميتة سبحانه الخلعَ فديةً، دليل على أن فيه معنى المعاوضةِ، ولهذا اعتُبر فيه رضى الزوجين، فإذا تَقَايَلا الخلعَ وردَّ عليها ما أخذ منها، وارتجعها فى العِدة، فهل لهما ذلك؟ منعه الأئمة الأربعة وغيرهم وقالوا قد بانت منه بنفس الخلع، وذكر عبد الرازق، عن معمر، عن قتادة، عن سعيد بن المسيِّب أنه قال فى المختلعة: إن شاء أن يُراجِعَها، فليردَّ عليها ما أخذ منها فى العدة، وليشهد على رجعتها. قال معمر: وكان الزهرى يقول مثل ذلك. قال قتادة: وكان الحسن يقول: لا يُراجعها إلا بخطبة.
ولقولِ سعيد بن المسيب، والزهرى وجهٌ دقيق مِن الفقه، لطيفُ المأخذ، تتلقاه قواعِدُ الفقِه وأصوله بالقبول، ولا نكارة فيه، غير أن العملَ على خلافه، فإن المرأة ما دامت فى العدة فهى فى حبسه، ويلحقُها صريحُ طلاقه المنجز عند طائفة من العلماء، فإذا تقايلا عقد الخلع، وتراجعا إلى ما كان عليه بتراضيهما، لم تمنع قواعدُ الشرع ذلك، وهذا بخلاف ما بعدَ العِدة، فإنها قد صارت منه أجنبية محضة، فهو خاطبٌ من الخطاب، ويدل على هذا أن له يتزوجها فى عدتها منه بخلاف غيره.
فصل
وفى أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المختلعة أن تعتدَّ بحيضة واحدة، دليل على حُكمين أحدهما: أنه لا يجبُ عليها ثلاثُ حيض، بل تكفيها حيضة واحدة، وهذا

كما أنه صريحُ السنة، فهو مذهبُ أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، والرُّبَيِّع بِنْت مُعَوِّذ، وعمها وهو مِن كبار الصحابة، لا يُعرف لهم مخالفٌ منهم، كما رواه الليث بن سعد، عن نافع مولى ابن عمر، أنه سمع الرُّبَيِّعَ بنتَ معوِّذِ بن عفراء وهى تُخبِرُ عبد الله بن عمر رضى الله عنه أنها اختلعت مِن زوجها على عهد عثمان بن عفان، فجاء عمُّها إلى عثمان ابن عفان، فقال له: إن ابنة مُعَوِّذٍ اختلعت من زوجها اليوم، أفتنتقل؟ فقال عثمان: لِتنتقِلْ ولا ميراثَ بينهما، ولا عِدة عليها إلا أنها لا تَنْكِحُ حتى تحيضَ حيضةُ خشيةَ أن يكون بها حبل. فقال عبد الله بن عمر: فعثمان خيرُنا وأعلمُنا ؛ وذهب إلى هذا المذهب إسحاق بن راهوية، والإمام أحمد فى رواية عنه، اختارها، شيخُ الإسلام ابن تيمية.
قال من نصر هذا القول: هو مقتضى قواعِدِ الشريعة، فإن العدة إنما جُعِلَتْ ثلاثَ حيضِ ليطولَ زمن الرجعة، فيتروَّى الزوج، ويتمكَّن من الرجعة فى مدة العِدة فإذا لم تكن عليها رجعة، فالمقصودُ مجردُ براءة رَحِمِها من الحمل، وذلك يكفى فيه حيضة، كالاستبراء. قالوا: ولا ينتقضُ هذا علينا بالمطلقةِ ثلاثاً، فإن باب الطلاق جُعِلَ حكمُ العدة فيه واحداً بائنة ورجعية.
قالوا: وهذا دليل على أن الخلع فسخ، وليس بطلاق، وهو مذهبُ ابن عباس، وعثمان، وابن عمر، والرُّبيع، وعمها، ولا يَصِحُّ عن صحابى أنه طلاق ألبتة، فروى الإمام أحمد، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن عمرو، عن طاووس، عن ابن عباس رضى الله عنهم أنه قال: الخُلْعُ

تفريقٌ، وليس بطلاق.
وذكر عبد الرزاق، عن سُفيان، عن عمرو، عن طاووس، أن إبراهيم بن سعد ابن أبى وقاص سأله عن رجل طلَّق امرأته تطليقتين، ثم اختلعت منه، أينكِحُها؟ قال ابنُ عباس: نعم ذكر الله الطلاقَ فى أوَّل الآية وآخِرها، والخلعَ بين ذلك.
فإن قيل: كيف تقولون: إنه لا مخالف لمن ذكرتُم مِن الصحابة، وقد روى حمادُ ابن سلمة، عن هشام بنِ عُروة، عن أبيه، عن جُمْهَانَ، أن أم بكرة الأسلمية كانت تحتَ عبد الله بن أُسيد واختلعت منه، فَندِما، فارتفعا إلى عُثمان بن عفان، فأجاز ذلك، وقال: هى واحدة إلا أن تكونَ سمَّت شيئاً، فهو على ما سمَّت.
وذكر ابنُ أبى شيبة: حدثنا على بن هاشم، عن ابن أبى ليلى، عن طلحة بن مصرِّف، عن إبراهيم النَّخعى، عن علقمة، عن ابن مسعود، قال: لا تكون تطليقة بائنة إلا فى فدية أو إيلاء. وروُى عن على بن أبى طالب، فهؤلاء ثلاثةُ مِن أجلاء الصحابة رضى الله عنهم.
قيل: لا يَصِحُّ هذا عن واحد منهم، أما أثر عثمان رضى الله عنه، فطعن فيه الإمام أحمد، والبيهقى، وغيرُهما، قال شيخنا: وكيف يَصِحُّ عن عثمان، وهو لا يرى فيه عِدة، وإنما يرى الاستبراء فيه بحيضة؟ فلو كان عنده طلاَقاً، لأوجب فيه العدة، وجُمْهَانُ الراوى لهذه القصة عن عثمان لا نعرفه بأكثر من أنه مولى الأسلميين.

وأما أثر على بن أبى طالب، فقال أبو محمد ابن حزم: رويناه من طريق لا يصح عن على رضى الله عنه. وأمثلها: أثر ابنِ مسعودَ على سوء حفظ ابن أبى ليلى، ثم غايتُه إن كان محفوظاً أن يدُلَّ على أن الطلقة فى الخلع تقع بائنة لا أن الخلع يكون طلاقاً بائناً، وبين الأمرين فرق ظاهر.
والذى يَدُلُّ على أنه ليس بطلاق أن الله سبحانه وتعالى رتَّبَ على الطَّلاقِ بعد الدُّخولِ الذى لم يَستوفِ عدده ثلاثة أحكام، كلُّها منتفية عن الخلع. أحدها: أن الزوجَ أحقُّ بالرجعة فيه. الثانى: أنه محسوب مِن الثلاث، فلا تَحِلُّ بعد استيفاء العدد إلا بعد زوج وإصابة. الثالث: أن العدة فيه ثلاثةُ قروء، وقد ثبت بالنصِّ والإجماع أنه لا رجعة فى الخُلع وثبت بالسنة وأقوالِ الصحابة أن العِدة فيه حيضةٌ واحدة، وثبت بالنص جوازه طلقتين، ووقوع ثالثة بعده، وهذا ظاهر جداً فى كونه ليس بطلاق، فإنه سبحانه قال :{الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكُ بِمَعرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُم أن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إلاَّ أنْ يَخَافَا أنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُم أنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ الله فلا جُناحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وهذا وإن لم يختص بالمطلقة تطليقتين، فإنه يتناولها وغيرَهما، ولا يجوزُ أن يعودَ الضميرُ إلى من لم يذكر، ويُخلى منه المذكور، بل إما أن يختصَّ بالسابق أو يتناوله وغيره، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَها فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230] وهذا يتناولُ مَنْ طلقت بعد فديةٍ وطلقتين قطعاً لأنها هى المذكورة، فلا بُدَّ من دخولها تحت اللفظ، وهكذا فَهِمَ ترجُمانُ القرآن الذى دعا له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُعلِّمَه اللهُ تأويلَ القُرآن، وهى دعوة مستجابة بلا شكٍّ.
وإذا كانت أحكامُ الفدية غيرَ أحكامِ الطَّلاقِ، دَلَّ على أنها من غيرِ جِنسه، فهذا مقتضى النصِّ، والقياسِ، وأقوالِ الصحابة، ثم من نظر

إلى حقائقِ العقود ومقاصِدها دون ألفاظها يَعُدُّ الخلع فسخاً بأى لفظٍ كان حتى بلفظ الطَّلاقِ، وهذا أحدُ الوجهين لأصحاب أحمد، وهو اختيارُ شيخنا. قال: وهذا ظاهرُ كلامِ أحمد، وكلام ابن عباس وأصحابه. قال ابنُ جريج: أخبرنى عمروُ بنُ دينار، أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول: ما أجازَه المالُ، فليسَ بطلاقٍ. قال عبدُ الله بنُ أحمد: رأيتُ أبى كان يذهبُ إلى قول ابن عباس. وقال عمرو، عن طاووس عن ابن عباس: الخلعُ تفريقٌ وليس بطلاق، وقال ابنُ جريج، عن ابن طاووس: كان أبى لا يرى الفداء طلاقاً ويُخِّيرُه.
ومن اعتبر الألفاظ ووقفَ معها، واعتبرها فى أحكام العُقودِ، جعله بلفظ الطلاق طلاقاً، وقوَاعِدُ الفقه وأصولُه تشهد أن الرْعِىَّ فى العقود حقائقُها ومعانيها لا صورُها وألفاظُها، وبالله التوفيق.ومما يَدُلُّ على هذا، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر ثابتَ بنَ قيس أن يُطلِّق امرأتَه فى الخُلعِ تطليقةً، ومع هذا أمرها أن تعتدَّ بحيضة، وهذا صريحُ فى أنه فسخ، ولو وقع بلفظ الطلاق.
وأيضاً فإنه سبحانه علَّق عليه أحكامَ الفدية بكونه فدية، ومعلومُ أنَّ الفِدية لا تختص بلفظ، ولم يُعين الله سبحانه لها لفظاً معيَّناً، وطلاقُ الفداء طلاقُ مقيَّد، ولا يدخل تحت أحكام الطلاق المطلق، كما لا يدخلُ تحتها فى ثبوت الرجعة والاعتداد بثلاثة قروء بالسنة الثابتة، وبالله التوفيق.

ذكرُ أحكام رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الطلاق
ذكر حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى طلاق الهازل، وزائل العقل، والمكرَه والتطليق فى نفسه
فى "السنن": من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، "ثَلاَثُ جِدُّهُنَّ جِدُّ، وهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، والطَّلاَقُ، والرَّجْعَةُ".
وفيها: عنه من حديث ابن عباس: " إنَّ الله وَضَعَ عَنْ أُمَّتِى الخَطَأَ والنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ".
وفيها: عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " لا طَلاَقَ ولا عتاق فى إِغْلاقٍ".

وصح عنه أنه قال للمُقِرِّ بالزنى: "أبِكَ جُنُونُ"؟
وثبت عنه أنه أمرَ بِهِ أن يُستنكه.
وذكر البخارى فى "صحيحه": عن على، أنه قال لِعُمَر: ألم تعلم أَنَّ القلم رُفِعَ عن ثلاث: عن المجنونِ حتى يُفيقَ، وعن الصَّبِىِّ حتى يُدرِكَ، وعن النائم حتى يستيقظ.
وفى "الصحيح" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّ الله تَجَاوَزَ لأُمَّتِى عَمَّا حَدَّثت بِهِ أنفُسَها مَا لَمْ تكَلَّمْ، أَو تَعْملْ بِه ".

فتضمَّنت هذه السنن، أن ما لم يَنْطِقْ به اللسان مِن طلاق أو عِتاق، أو يمين، أو نذر ونحوِ ذلك، عفوٌ غيرُ لازم بالنية والقصد، وهذا قولُ الجمهور، وفى المسألة قولان آخرانِ.
أحدهما: التوقف فيها، قال عبد الرزاق، عن معمر: سئل ابنُ سيرين عمن طلَّق فى نفسه، فقال: أليس قد عَلِمَ الله ما فى نفسك؟ قال: بلى، قال: فلا أقولُ فيها شيئاً.
والثانى: وقوعُه إذا جزَم عليه، وهذا روايةُ أشهب عن مالك، ورُوى عن الزهرى وحجةُ هذا القول قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ"، وأن من كفر فى نفسه، فهو كفر، وقوله تعالى:{ وإنْ تُبْدُوا مَا فى أَنْفُسِكُم أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} [البقرة: 284]، وأن المصرَّ على المعصية فاسق مؤاخذ وإن لم يفعلها، وبأن أعمالَ القلوب فى الثواب والعقاب كأعمالِ الجوارح، ولهذا يُثاب على الحبِّ والبُغض، والموالاة والمعاداة فى الله، وعلى التوكُّل والرِّضى، والعزمِ على الطاعة ويُعاقَبُ على الكِبر والحَسَدِ، والعُجب والشكِّ، والرِّياءِ وظنِّ السوء بالأبرياء.
ولا حُجة فى شىء من هذا على وقوعِ الطلاق والعتاق بمجرد النيةِ مِن غير تلفظ أما حديثُ "الأعمال بالنيات": فهو حجةٌ عليهم، لأنه أخبر فيه أن العملَ مع النية هو المعتبرُ، لا النية وحدَها، وأما من اعتقد الكُفْرَ بقلبه أو شكَّ، فهو كافر لِزوال الإيمان الذى هو عقدُ القلب مع الإقرار، فإذا زالَ العقدُ الجازمُ، كان نفسُ زواله كفراً، فإن الإيمانَ أمر وجودى ثابتٌ قائم بالقلب، فما لم يَقُمْ بالقلب، حَصَلَ ضده وهو كفر، وهذا كالعلم والجهل إذا فقد العلم، حصل الجهل، وكذلك كلُّ نقيضين زال أحدُهما خلفه الآخر.

أما الآية فليس فيها أن المحاسبةَ بما يُخفيه العبدُ إلزامه بأحكامه بالشرع، وإنما فيها محاسبتُه بما يُبديه أو يُخفيه، ثم هو مغفور له أو معذَّب، فأين هذا من وقوع الطلاق بالنية. وأما أن المصرَّ على المعصية فاسقٌ مؤاخذ، فهذا إنما هو فيمن عَمِلَ المعصية، ثم أصرَّ عليها، فهُنا عمل اتصل به العزمُ علي معاودته، فهذا هو المُصِرُّ، وأما مَنْ عزم على المعصية ولم يَعْمَلْها، فهو بين أمرينِ، إما أن لا تُكتب عليه، إما أن تُكتب له حسنة إذا تركها للَّه عز وجل. وأما الثوابُ والعقابُ على أعمال القلوب فحقٌّ، والقرآنُ والسنة مملوآن به، ولكن وقوعُ الطلاق والعتاق بالنية من غير تلفُّظ أمر خارج عن الثواب والعقاب، ولا تلازم بين الأمرين، فإن ما يُعاقب عليه مِن أعمال القلوب هو معاصٍ قلبية يستحقُّ العقوبة عليها، كما يستحقُّه على المعاصى البدنية إذ هى مُنافية لعبودية القلب، فإن الكِبر والعُجب والرياء وظنَّ السوء محرَّمات على القلب، وهى أمور اختيارية يمكن اجتنابُها فيستحق العقوبة على فعلها، وهى أسماءٌ لمعان مسمياتها قائمةٌ بالقلب.
وأما العِتاق والطلاق، فاسمان لمسميين قائمين باللسان، أو ما نابَ عنه من إشارة أو كتابة، ولبسا اسمين لما فى القلب مجرداً عن النطق.
وتضمنت أن المكلف إذا هَزَلَ بالطلاق، أو النِّكاح، أو الرجعة، لَزِمَهُ ما هَزَلَ به فدل ذلك على أن كلامَ الهازل معتبر وإن لم يُعتبر كلامُ النائم والناسى، وزائلِ العقل والمكرَه، والفرقُ بينهما أن الهازلَ قاصدُ للفظ غيرُ مريد لحكمه، وذلك ليس إليه، فإنما إلى المكلَّف الأسباب، وأما ترتُّبُ مسبَّباتها وأحكامها، فهو إلى الشارع قصده المكلفُ أو لمَ يقصِدْه، والعبرةُ بقصده السبب اختياراً فى حال عقله وتكليفه، فإذا قصده، رتَّبَ الشارعُ عليه حُكمه جدَّ به أو هَزَلَ، وهذا بخلاف النائم والمُبَرْسَمِ، والمجنون

والسكرانِ وزائل العقل، فإنهم ليس لهم قصد صحيح، وليسوا مكلفين، فألفاظُهم لغو بمنزلة ألفاظِ الطفل الذى لا يعقِلُ معناها، ولا يقصِدُه.
وسِرُّ المسألة الفرقُ بين من قصد اللفظ، وهو عالِم به ولم يُرد حكمه، وبين من لم يَقصِدْ اللفظ ولم يعلم معناه، فالمراتبُ التى اعتبرها الشارع أربعةُ.
إحداها: أن يَقصدَ الحكم ولا يَتَلَفَّظ به.
الثانية: أن لا يَقصِدَ اللفظ ولا حُكمَه.
الثالثة : أن يَقْصِدَ دُون حكمه.
الرابعة : أن يقصِدَ اللفظ والحكم. فالأوليان لغو، والآخرتان معتبرتان. هذا الذى أستُفِيدَ مِن مجموع نصوصه وأحكامِه، وعلى هذا فكلامُ المكرَه كُلُّه لغو لا عِبرةَ به.
وقد دلّ القرآن على أن من أُكْرِهَ على التكلم بكلمة الكفر لا يَكْفُرُ، ومن أكره على الإسلام لا يصيرُ به مسلماً، ودلَّتِ السنةُ على أن الله سبحانه تجاوز عن المكره، فلم يُؤاخِذْه بما أُكْرِهَ عليه، وهذا يُراد به كلامه قطعاً، وأما أفعالهُ، ففيها تفصيلٌ، فما أبيح منها بالإكراه فهو متجاوز عنه، كالأكل فى نهار رمضان، والعملِ فى الصلاة، ولبس المخيط فى الإحرام ونحو ذلك، وما لا يُباح بالإكراه، فهو مُؤَاخذ به، كقتل المعصوم، وإتلافِ ماله، وما اختلف به كشُرب الخمر والزنى والسرقة هل يُحَدُّ به أو لا؟ فالاختلافُ، هل يباح ذلك بالإكراه أو لا؟ فمن لم يُبِحْه حدَّه به، ومن أباحه بالإكراه لم يحُدَّه، وفيه قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد.
والفرق بين الأقوال والأفعال فى الإكراه ؛ أن الأفعالَ إذا وقعت، لم ترتفعْ مفسدتُها، بل مفسدتُها معها بخلاف الأقوال، فإنها يمكن إلغاؤها.

وجعلُها بمنزلة أقوالِ النائم والمجنون، فمفسدةُ الفعل الذى لا يُباح بالإكراه ثابتة بخلاف مفسدة القول، فإنها إنما تثبت إذا كان قائلُه عالماً به مختاراً له. وقد روى وكيع عن ابن أبى ليلى، عن الحكم بن عتيبة، عن خيثمة ابن عبد الرحمن، قال: قالت امرأةٌ لزوجها: سمنى، فسمَّاها الظبية، فقالت: ما قلت شيئاً، قال: فهاتِ ما أُسميك به، قالت: سمنى خليةً طالقاً، قال: أنت خَلِيَّةٌ طالق، فأتت عمر ابن الخطاب، فقالت: إن زوجى طلَّقنى، فجاء زوجُها، فقصَّ عليه القصة، فأوجع عمر رأسَها، وقال لزوجها: خذ بيدها، وأوجعْ رأسها.
فهذا الحكمُ من أمير المؤمنين بعدم الوقوع لما لم يقصد الزوجُ اللفظ الذى يقع به الطلاقُ، بل قصد لفظاً لا يُريد به الطلاق، فهو كما لو قال لأمتِه أو غُلامِه: إنها جرة، وأراد أنها ليست بفاجِرة، أو قال لامرأته: أنت مسرَّحة، أو سرحتُك، ومرادُه تسريح الشعر ونحو ذلك، فهذا لا يقع عتقُه ولا طلاقُه بينه وبينَ الله تعالى، وإن قامت قرينةٌ أو تصادقا فى الحكم لم يقع به.
فإن قيل: فهذا من أى الأقسام؟ فإنكم جعلتم المراتبَ أربعة، ومعلومٌ أن هذا ليس بمكرَه ولا زائل العقل، ولا هازل، ولا قاصدٍ لحكم اللفظ؟ قيل: هذا متكلم باللفظ مريد به أحدَ معنييه، فلزم حكم ما أراده بلفظه دون ما لم يرده، فلا يلزم بما لم يرده باللفظ إذا كان صالحاً لما أراده، وقد استحلف النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكانَة لما طلَّق امرأته ألبتة، فقال: ما أردتَ؟ قال: واحدة، قال: آللَّهِ، قال: هو ما أردتَ، فقبل منه

نيَّته فى اللفظ المحتمل.
وقد قال مالك: إذا قال: أنت طالق البتة، وهو يُريد أن يحلِفَ على شىء ثم بدا له، فترك اليمين، فليست طالقاً، لأنه لم يُرد أن يطلقها، وبهذا أفتى الليث بن سعد، والإمامُ أحمد، حتى إن أحمد فى رواية عنه: يُقبل منه ذلك فى الحكم.
وهذه المسألة لها ثلاثُ صور.
إحداها : أن يرجع عن يمينه ولم يكن التنجيزُ مرادَه، فهذه لا تطلُق عليه فى الحال، ولا يكون حالفاً.
الثانية : أن يكون مقصودُه اليمينَ لا التنجيزَ، فيقول: أنت طالق، ومقصودُه: إن كلمت زيداً.
الثالثة : أن يكونَ مقصودُه اليمينَ مِن أول كلامه، ثم يرجعُ عن اليمين فى أثناء الكلام، ويجعل الطلاق منجزاً، فهذا لا يقعُ به، لأنه لا ينو به الإيقاع، وإنما نوى به التعليق، فكان قاصراً عن وقوع المنجز، فإذا نوى التنجيزَ بعد ذلك لم يكن قد أتى فى التنجيز بغير النية المجردة، وهذا قولُ أصحاب أحمد. وقد قال تعالى :{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فى أَيْمَانِكُم ولكِنْ يُؤْاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225].
واللغو: نوعان، أحدهما: بأن يحلِفَ على الشىء يظنُّه كما حلف عليه، فيتبينُ بخلافه. والثانى: أن تجرى اليمين على لِسانه من غير قصد للحلف، كَلاَ واللهِ، وبَلَى واللهِ فى أثناء كلامه، وكلاهما رفع الله المؤاخذة به، لعدم قصد الحالف إلى عقد اليمين وحقيقتها، وهذا تشريعٌ منه سبحانَه لعباده ألا يرتِّبوا الأحكامَ على الألفاظ التى لم يقصِدِ المتكلمُ بها حقائقَها ومعانيهَا، هذا غيرُ الهازل حقيقةَ وحكماً.

وقد أفتى الصحابةُ بعدم وقوع طلاق المكرَه وإقرارِه، فصحَّ عن عمر أنه قال: ليس الرجلُ بأمينٍ على نفسه إذا أوجعتَه أو ضربتَه أو أوثقتَه، وصحَّ عنه أن رجلاً تدلَّى بحبل ليَشْارَ عسلاً، فأتت امرأته فقالت: لأقطعنَّ الحبل، أو لتُطلِّقنى، فناشدها الله، فأبت، فطلَّقَها، فأتى عمر، فذكر له ذلك، فقال له: ارجع إلى امرأتك، فإن هذا ليس بطلاق. وكان علىُّ لا يُجيز طلاقَ الكره، وقال ثابت الأعرج: سألت ابنَ عمر، وابنَ الزبير عن طلاق المكره، فقالا جميعاً: ليس بشىءٍ.
فإن قيل: فما تصنعون بما رواه الغازى بن جَبَلة، عن صفوان بن عمران الأصم، عن رجلٍ من أصحاب رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن رجلاً جلست امرأتُه على صدره، وجعلت السكينَ على حلقه، وقالت له: طلقنى أو لأذبحنَّك، فناشدها، فأبت، فطلقها ثلاثاً، فذُكِرَ ذلك للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "لا قَيْلُولَة فى الطَّلاق" رواه سعيد بن منصور فى "سننه". وروى عطاءُ ابن عجلان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " كُلُّ الطَّلاقِ جَائِزٌ إلاَّ طَلاقَ المَعْتُوهِ والمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ".
وروى سعيد بن منصور: حدثنا فرج بن فضَالة، حدثنى عمرو بن شراحِيل المعافرى، أن امرأة استلَّتْ سيفاً، فوضعته على بطن زَوْجِهَا، وقالت: والله لأنفذنَّك، أو لُتطلِّقنِّى، فطلقها ثلاثاً، فرُفِعَ ذلِك إلى عمر بن الخطاب، فأمضى طلاقها. وقال على. كل الطلاقِ جائزٌ إلا طلاقَ المعتوه.
قيل: أما خبر الغازى بن جبلة، ففيه ثلاث علل. إحداها: ضعف صفوان بن عمرو، والثانية: لين الغازى بن جبلة، والثالثة. تدليس بقية

الراوى عنه، ومثل هذا لا يحتج به. قال أبو محمد ابن حزم: وهذا خبر فى غاية السقوط.
وأما حديث ابن عباس "كل الطلاق جائز" فهو من رواية عطاء بن عجلان، وضعفُه مشهور، وقد رُمى بالكذب. قال أبو محمد ابن حزم: وهذا الخبر شر من الأول.
وأما أثر عمر، فالصحيح عنه خلافه كما تقدم، ولا يُعلم معاصرة المعافرى لعمر، وفرج بن فضالة فيه ضعف.
وأما أثر على، فالذى رواه عنه الناس أنه كان لا يُجيز طلاق المكره وروى عبد الرحمن بن مهدى، عن حماد بن سلمة، عن حُميد، عن الحسن، أن على ابن أبى طالب رضى الله عنه، كان لا يُجيز طلاق المكره. فإن صح عنه ما ذكرتم، فهو عام مخصوص بهذا.
فصل
وأما طلاق السَّكرانِ، فقال تعالى :{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] ، فجعل سُبحانه قول السكران غيرَ معتبر، لأنه لا يَعْلَمُ ما يقولُ، وصحَّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّه أمر بالمُقِرِّ بالزِّنى أن يُسَتنْكَهَ لِيعتبر قولُه الذى أقرَّ به أو يُلغى.
وفى صحيح البخارى فى قصة حمزة، لما عَقَرَ بَعْيِرَىْ عَلى، فجاء النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَقَفَ عليه يَلُومُه، فصعَّدَ فيه النَّظرَ وصوَّبه وهو سكران،

ثم قال: هلْ أَنْتُمْ إلا عَبيدٌ لأبى، فنكص النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عَقِبيْةِ. وهذا القولُ لو قاله غيرُ سكران، لكان رِدةً وكُفراً، ولم يُؤاخذ بذلك حمزة.
وصح عن عُثمانَ بنِ عفان رضى الله عنه أنه قال: ليس لِمجنون، ولا سكران طلاق. رواه ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن ابن أبى ذئب، عن الزهرى، عن أبان بن عثمان، عن أبيه.
وقال عطاء: طلاقُ السكران لا يجوزُ، وقال ابنُ طاووس عن أبيه: طلاقُ السكران لا يجوز. وقال القاسم بن محمد: لا يجوزُ طلاقه.
وصحَّ عن عمر بن عبد العزيز أنه أُتى بِسَكْرَان طلَّق، فاستحلفه باللهِ الذى لا إله إلا هو: لقد طلَّقها وهو لا يَعْقِلُ، فحلف، فرَدَّ إليه امرأته، وضربه الحد.
وهو مذهبُ يحيى بن سعيد الأنصارى، وحُميدِ بن عبد الرحمن، وربيعة، والليثِ بن سعد، وعبدِ الله بن الحسن، وإسحاق بن راهويه، وأبى ثور، والشافعى فى أحد قوليه، واختاره المزنىُّ وغيرُه من الشافعية، ومذهب أحمد فى إحدى الروايات عنه، وهى التى استقرَّ عليها مذهبُه، وصرَّح برجوعه إليها ؛ فقال فى رواية أبى طالب: الذى لايأمر بالطلاق، إنما أتى خصلةً واحدة، والذى يأمر بالطلاق، فقد أتى خصلتيْنِ حرَّمها

عليه، وأحلَّها لغيره، فهذا خيرٌ مِن هذا، وأنا أتقى جميعاً. وقال فى رواية الميمونى: قد كنتُ أقولُ: إن طلاق السكران يجوزُ تبينتُه، فغلب على: أنه لا يجوزُ طلاقه، لأنه لو أقر، لم يلزمه، ولو باع، لم يجز بيعُه، قال: وألزمه الجناية، وما كان من غير ذلك، فلا يلزمُه. قال أبو بكر عبد العزيز: وبهذا أقولُ، وهذا مذهبُ أهلِ الظاهر كُلِّهم، واختاره من الحنفية أبو جعفر الطحاوىُّ، وأبو الحسن الكرخىُّ.
والذين أوقعوه لهم سبعة مآخذ.
أحدُها: أنه مكلِّف، ولهذا يُؤاخذ بجناياته.
والثانى : أن إيقاع الطلاق عقوبةٌ له.
والثالث : أنَّ ترتب الطلاق على التطليق مِن باب ربط الأحكام بأسبابها، فلا يُؤثر فيه السُكر.
والرابع : أنَّ الصحابة أقاموه مقام الصَّاحى فى كلامه، فإنهم قالوا: إذا شرب، سَكِرَ، وإذا سَكِرَ، هذى، وإذا هَذَى، افترى، وحَدُّ المفترى ثمانون.
والخامس : حديث: "لا قيلولة فى الطلاق" وقد تقدم.
السادس : حديث "كُلُّ طلاقٍ جائِز إلا طلاقَ المعتوه"، وقد تقدم.
والسابع : أن الصحابة أوقعوا عليه الطلاق، فرواه أبو عُبيد عن عمر، معاوية، ورواه غيرُه عن ابن عباس. قال أبو عبيد: حدثنا يزيد بن هارون، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن الحارث، عن أبى لَبيد، أن رجلاً طلَّق امرأتَه وهو سكران، فَرُفِعَ إلى عمر بن الخطاب، وشهد عليه أربعُ

نِسوة ففرق عمر بينهما.قال: وحدثنا ابنُ أبى مريم، عن نافع بن يزيد، عن جعفر بن ربيعة، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيِّب، أن معاوية أجاز طلاقَ السكران. هذا جميعُ ما احتجوا به، وليس فى شىء منه حجةٌ أصلاً.
فأما المأخذُ الأوَّلُ، وهو: أنه مكلف، فباطل، إذ الإجماع منعقِدٌ على أن شرطَ التكليفِ العقلُ، ومن لا يعقِلُ ما يقول، فليس بمكلَّف.
وأيضاً فلو كان مكلفاً، لوجب أن يقع طلاقُه إذا كان مكرهاً على شُربها، أو غيرَ عالم بأنها خمر، وهم لا يقولون به.
وأما خطابُه، فيجب حملُه على الذى يعقِلُ الخطاب، أو على الصاحى، وأنه نُهى عن السكر إذا أراد الصلاة، وأما من لا يَعْقِلُ، فلا يُؤمر ولا ينهى.
وأما إلزامُه بجناياته، فمحلُّ نزاع لا محل وفاق، فقال عثمان البَتِّى: لا يلزمُه عقدٌ ولا بيع، ولا حدٌّ إلا حدَّ الخمر فقط، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد أنه كالمجنون فى كُلِّ فعل يُعتبر له العقلُ.
والذين اعتبروا أفعالَه دونَ أقواله، فرَّقوا بفرقين، أحدهما: أن إسقاطَ أفعاله ذريعةٌ إلى تعطيل القِصاص، إذ كُلُّ من أراد قتل غيره أو الزنى أو السرقة أو الحِراب، سَكِرَ وفعل ذلك، فيقام عليه الحدُّ إذا أتى جرماً واحداً، فإذا تضاعف جُرمُه بالسكر كيف يسقط عنه الحدُّ؟ هذا مما تأباه قواعدُ الشريعة وأصولها، وقال أحمد منكراً على من قال ذلك: وبعضُ من يرى طلاق السكران ليس بجائز، يزعم أن سكران لو جنى

جناية، أو أتى حداً، أو تركَ الصيام أو الصلاةَ، كان بمنزلة المْبَرسَمِ والمجنون، هذا كَلامْ سوء.
والفرق الثانى: إن إلغاء أقواله لا يتضمَّن مفسدة، لأن القول المجردَ مِن غير العاقل لا مفسدة فيه بخلاف الأفعال، فإن مفاسدها لا يُمكن إلغاؤها إذا وقعت، فإلغاءُ أفعاله ضررٌ محض، وفسادٌ منتشر بخلاف أقواله، فإن صحَّ هذان الفرقان، بطلَ الإلحاق، وإن لم يصحا، كانت التسويةُ بين أقواله وأفعاله متعينة.
وأما المأخذ الثانى وهو أن إيقاع الطلاق به عقوبةٌ له ففى غاية الضعف، فإن الحدَّ يكفيه عقوبة، وقد حصل رضى الله سُبحانه من هذه العقوبة بالحد، ولا عهد لنا فى الشريعة بالعُقوبة بالطلاق، والتفريق بين الزوجين.
وأما المأخذُ الثالث: أن إيقاعَ الطلاق به من ربط الأحكام بالأسباب، ففى غاية الفساد والسقوط، فإن هذا يُوجب إيقاعَ الطلاق ممن سكر مُكرهاً، أو جاهلاً بأنها خمر، وبالمجنون والمُبَرْسَم، بل وبالنائم، ثم يُقال: وهل ثبت لكم أن طلاقَ السكران سببٌ حتى يُربط الحكمُ به، وهل النزاعُ إلا فى ذلك؟
وأما المأخذ الرابع: وهو أن الصحابة جعلوه كالصاحى فى قولهم: إذا شرب، سَكِرَ، وإذا سَكِرَ، هذى. فهو خبر لا يصح البتة.
قال أبو محمد ابن حزم: وهو خبر مكذوب قد نزه الله علياً وعبد

الرحمن بن عوف منه، وفيه من المناقضة ما يدل على بُطلانه، فإن فيه إيجاب الحد على من هذى، والهاذى لا حدَّ عليه.
وأما المأخذْ الخامس، وهو حديث: "لا قيلولة فى الطلاق"، فخبر لا يَصِحُّ، لو صحَّ، لوجب حملُه على طلاق مكلِّف يعقِلُ دون من لا يعقِل، ولهذا لم يدخل فيه طلاقُ المجنون والمُبرْسَم والصبى.وأما المأخذ السادس، وهو خبر: "كلُّ طلاق جائز إلا طلاق المعتوه"، فمثله سواء لا يصح، ولو صح، لكان فى المكلف، وجواب ثالث: أن السكران الذى لا يَعقِلُ إما معتوه، وإما مُلحق به، وقد ادعت طائفة أنه معتوه. وقالوا: المعتوه فى اللغة: الذى لا عقل له، ولا يدرى ما يتكلم به.وأما المأخذ السابعُ: وهو أن الصحابة أوقعوا عليه الطلاقَ، فالصحابةُ مختلفون فى ذلك، فصح عن عثمان ما حكيناه عنه.
وأما أثر ابنِ عباس، فلا يَصِحُّ عنه، لأنه من طريقين، فى أحدهما الحجاج بن أرطأة، وفى الثانية إبراهيم بن أبى يحيى، وأما ابنُ عمر ومعاوية، فقد خالفهما عثمان بن عفان.
فصل
وأما طلاق الإغلاق، فقد قال الإمام أحمد فى رواية حنبل: وحديثُ عائشة رضى الله عنها: سمعت النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول : "لا طَلاقَ ولا عِتاق فى إغلاق" ، يعنى الغضبَ، هذا نصُّ أحمد حكاه عنه الخلال، وأبو بكر فى "الشافى" و"زاد المسافر". فهذا تفسير أحمد.

وقال أبو داود فى سننه: أظنه الغضب، وترجم عليه: "باب الطلاق على غلط" وفسره أبو عُبيد وغيرُه: بأنه الإكراه، وفسره غيرهما: بالجنون، وقيل: هو نهىُ عن إيقاع الطلقات الثلاث دفعةً واحدة، فُيغْلَقُ عليه الطلاقُ حتى لا يبقى منه شىء، كغَلَقِ الرهن، حكاه أبو عُبيد الهروى.
قال شيخُنا: وحقيقةُ الإغلاق: أن يُغلق على الرجل قلبُه، فلا يقصِدُ الكلام، أو لا يعلم به، كأنه انغلق عليه قصدُه وإرادتُه. قلت: قال أبو العباس المبرِّد: الغَلَق: ضيقُ الصدر، وقلةُ الصبر بحيث لا يجد مخلصاً قال شيخنا: ويدخل فى ذلك طلاقُ المكرَه والمجنون، ومن زال عقلُه بسُكر أو غضب، وكُلُّ من لا قصد له ولا معرفة له بما قال.
والغضب على ثلاثة أقسام.
أحدها : ما يُزيل العقل، فلا يشعُرُ صاحبُه بما قال، هذا لا يقعُ طلاقه بلا نزاع.
الثانى : ما يكون فى مباديه بحيث لا يمنع صاحِبَه مِن تصور ما يقولُ وقصده، فهذا يقع طلاقُه.
الثالث : أن يستحكِمَ ويشتدَّ به، فلا يُزيل عقله بالكلية، ولكن يحولُ بينه وبين نيته بحيث يندَمُ على ما فرط منه إذا زال، فهذا محلُّ نظر، وعدمُ الوقوع فى هذه الحالة قوى متجه.

حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الطلاق قبل النكاح
فى السنن: من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نَذْرَ لابْن آدَمَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، ولاَ عِتْقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، ولا طَلاَقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ". قال الترمذى: هذا حديث حسن، وهو أحسنُ شىء فى هذا الباب، وسَألت محمد بن إسماعيل. فقلت: أىُّ شىء أصحُّ فى الطلاق قبل النكاح؟ فقال: حديثُ عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وروى أبو داود: " لا بَيْعَ إلاَّ فِيمَا يَمْلِكُ، ولا وَفَاءَ نَذْرِ إلاَّ فِيما يَمْلِكُ".
وفى سنن ابن ماجه: عن المِسور بنِ مَخْرَمَة رضى الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ وَلاَ عِتْق قَبْلَ مِلْكِ".
وقال وكيع: حدثنا ابنُ أبى ذئب، عن محمد بن المنكدِر، وعطاء بن أبى رباح، كلاهما عن جابر بن عبد الله يرفعه: "لاَ طَلاَقَ قَبْلَ نكاح".
وذكر عبدُ الرزاق، عن ابن جريج، قال: سمعتُ عطاءً يقول: قال ابنُ عباس رضى الله عنه: لا طلاقَ إلا من بعدِ نكاح.
قال ابنُ جريج: بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول: إن طلَّق ما لم ينكِحْ فهو جائز، فقال ابن عباس: أخطأ فى هذا، إن الله تعالى يقول :{إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، ولم يقل: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن

وذكر أبو عُبيد: عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه سُئِل عن رجل قال: إن تزوجتُ فلانه، فهى طالق، فقال على: ليس طلاقٌ إلا من بعد ملك.
وثبت عنه رضى الله عنه أنه قال: لا طلاق إلا من بعد نكاح وإن سماها.
وهذا قولُ عائشة، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق وأصحابُهم، وداود وأصحابُه، وجمهورُ أهل الحديث.
ومِن حجة هذا القول: أن القائل: إن تزوجتُ فلانه، فهى طالق مُطَلِّقٌ لأجنبية، وذلك محال، فإنها حِينَ الطلاق المعلَّق أجنبية، والمتجدِّدُ هو نِكاحُها، والنكاح لا يكون طلاقاً، فعُلِمَ أنها لو طلقت، فإنما يكون ذلك استناداً إلى الطلاق المتقدِّم معلقاً، وهى إذا ذاك أجنبية، وتجدُّدُ الصفة لا يجعلُه متكلماً بالطلاق عند وجودها فإن وجودها مختار للنكاح غيرُ مريد للطلاق، فلا يَصِبحُّ، كما لو قال لأجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلَتْ وهى زوجتُه، لم تطلق بغير خلاف.
فإن قيل: فما الفرقُ بين تعليق الطلاق وتعليق العِتق؟ فإنه لو قال: إن ملكت فلاناً، فهو حر، صَحَّ التعليقُ، وعتق بالملك؟
قيل: فى تعليق العِتق قولان، وهما روايتان عن أحمد، كما عنه روايتان فى تعليق الطلاق، والصحيحُ من مذهبه الذى عليه أكثرُ نصوصه، وعليه أصحابه: صحةُ تعليق العتق دون الطلاق، والفرقُ بينهما أن العِتقَ له قوة وسراية، ولا يعتمِدُ نفوذ الملك، فإنه ينفذ فى ملك الغير، ويَصِحُّ أن يكون الملك سبباً لزواله بالعتق لزواله عقلاً وشرعاً، كما يزولُ ملكه بالعتق

عن ذى رحمه المحرَمِ بشرائه، وكما لو اشترى عبداً لِيعتقه فى كفارة أو نذر، أو اشتراه بشرط العِتق، وكُلُّ هذا يُشرع فيه جعل الملك سبباً للعتق، فإنه قُربة محبوبة للَّه تعالى، فشرع الله سبحانه التوسلَ إليه بكل وسيلة مفضية إلى محبوبه، وليس كذلك الطلاقُ، فإنه بغيضُ إلى الله، وهو أبغضُ الحلال إليه، ولم يجعل ملك البُضع بالنكاح سبباً لإزالته ألبتة، وفرقٌ ثانٍ أن تعليق العتق بالملك من باب نذر القُرَبِ والطاعات والتبرر، كقوله: لئن آتانىَ الله مِن فضله، لأتصدقن بكذا وكذا، فإذا وُجِدَ الشرطُ، لزمه ما علقه به من الطاعة المقصودة، فهذا لونٌ، وتعليقُ الطلاق على الملك لونٌ آخر.
حكْمُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تحريم طلاق الحائضِ والنفساء والموطوءةِ فى طُهرها، وتحريم إيقاع الثلاث جملة
فى "الصحيحين": أن ابن عمر رضي الله عنه طلق امرأته وهى حائض على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأل عمرُ بن الخطاب رضى الله عنه عن ذلك رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْها ثُمَّ ليمْسِكْها حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدَ ذَلِكَ، وإنْ شَاءَ يُطلِّقُ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ التى أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَها النِّسَاءُ".
ولمسلم: " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْها، ثُمَّ لِيُطَلِّقْها طاهِراً أو حامِلاً".
وفى لفظ: " إنْ شَاءَ طلَّقَها طاهِراً قَبْل أنْ يَمسَّ، فذلِكَ الطَّلاقُ لِلْعِدَّةِ كَمَا أَمَرَهُ الله تَعالى". وفى لفظ للبخارى: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْها ثُمَّ ليُطَلِّقْها فى قُبُلِ عِدَّتِها"

وفى لفظ لأحمد، وأبى داود، والنسائى، عن ابن عمر رضى الله عنهما: قال: طلق عبد الله بن عمر امرأتَه وهى حائِض، فردَّها عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يرها شيئاً، وقال: "إذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ". وقال ابن عمر رضى الله عنه: قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَأيُّها النَّبىُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلَّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] فى قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ.
فتضمَّن هذا الحكمُ أن الطلاقَ على أربعة أوجه: وجهانِ حلال، ووجهان حرام.
فالحلالان: أن يطلِّق امرأته طَاهراً مِن غير جماع، أو يُطلِّقها حاملاً مستبيناً حملها.
والحرامان: أن يُطَلِّقها وهى حائض، أو يُطلِّقها فى طهرٍ جامعها فيه هذا فى طلاق المدخول بها.
وأما من لم يدخل بها، فيجوز طلاقُها حائضاً وطاهراً، كما قال تعالى: { لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236].
وقال تعالى: {يَأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ

مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَالكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها} [الأحزاب: 49] وقد دل على هذا قولُه تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وهذه لا عِدة لها، ونبَّه عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتى أَمرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّق لَهَا النِّسَاء"، ولولا هاتان الآيتانِ اللتان فيهما إباحةُ الطلاق قبل الدخول، لمنع مِن طلاق مَنْ لا عِدة له عليها.
وفى سنن النسائى وغيره: من حديث محمود بن لبيد، قال: أُخْبِرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن رجُلِ طلَّق امرأته ثلاثَ تطليقاتٍ جمعياً، فقامَ غضبان، فقال: "أيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ وأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُم"، حتى قام رجلٌ، فقال: يا رسولَ الله، أفلا أقتُلُه.
وفى "الصحيحين": عن ابن عُمَرَ رضى الله عنه، أنه كان إذا سئل عن الطلاق قال: أَمَّا أَنْتَ إن طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَين، فإِنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنى بهذا، وإنْ كُنْتَ طلَّقتها ثلاثاً، فقد حَرُمَتْ عَلَيْكَ حتى تَنْكِحَ زوجاً غيرَكَ، وعصيتَ الله فِيمَا أمَرَك مِنْ طَلاقِ امْرَأَتِكَ.
فتضمَّنَتْ هذه النصوصُ أن المطلَّقة نوعان: مدخولٌ بها، وغيرُ مدخول بها، وكلاهما لا يجوز تطليقها ثلاثاً مجموعة، ويجوزُ تطليقُ غيرِ المدخولِ بها طاهراً وحائضاً.
وأما المدخولُ بها، فإن كانت حائضاً أو نفساء، حرم طلاقُها، وإن

كانت طاهراً فإن كانت مستبينَةَ الحمل، جاز طلاقُها بعد الوطءِ وقبله، وإن كانت حائلاً لم يَجُزْ طلاقها بعد الوطء فى طُهر الإصابة، ويجوز قبلَه هذا الذى شرعه اللهُ على لسان رسولهِ مِن الطلاق، وأجمعَ المسلمون على وقوعِ الطلاق الذى أذن الله فيه، وأباحه إذا كان مِن مكلَّفٍ مختارٍ، عالم بمدلول اللفظ، قاصدٍ له.
واختلفوا فى وقوع المحرَّم من ذلك، وفيه مسألتان.
المسألة الأولى : الطلاق فى الحيض، أو فى الطهر الذى واقعها فيه.
المسألة الثانية : فى جمع الثلاث، ونحن نذكر المسألتين تحريراً وتقريراً، كما ذكرناهما تصويراً، ونذكر حُجَجَ الفَريقينِ، ومنتهى أقدام الطائفتينِ، مع العلم بأن المقلِّد المتعصِّب لا يتركُ مَنْ قَلده ولو جاءته كُلُّ آية، وإن طالبَ الدليل لا يأتمُّ بسواه، ولا يُحَكِّمُ إلا إياه، ولِكل من الناس مَوْردُ لا يتعداه، وسبيل لا يتخطاه، ولقد عُذِرَ مَنْ حَمَلَ ما انتهت إليه قواه، وسعى إلى حيث انتهت إليه خُطاه.
فأما المسألةُ الأولى، فإن الخلافَ فى وقوع الطلاق المحرَّم لم يزل ثابتاً بين السلف والخلف، وقد وَهِمَ من ادعى الإجماعَ على وقوعه، وقال بمبلغ علمه، وخفى عليه مِن الخلاف ما اطلع عليه غيرُه، وقد قال الإمامُ أحمد: من ادعى الإجماع، فهو كاذب، وما يُدريه لعلَّ الناسَ اختلفوا.
كيف والخلافُ بين الناس فى هذه المسألة معلومُ الثبوت عن المتقدمين والمتأخرين؟ قال محمد بن عبد السلام الخُشنى: حدثنا محمد بن بشار ؛ حدثنا عبد الوهَّاب بنُ عبد المجيدِ الثقفى، حدثنا عُبيد الله بن عمر، عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر رضى الله عنه أنه قال فى رجل طلق امرأته وهى حائض. قال ابن عمر: لا يعتد بذلك، ذكره أبو محمد ابن

حزم فى "المحلى" بإسناده إليه.
وقال عبد الرزاق فى "مصنفه": عن ابن جريج، عن ابن طاووس، عن أبيه أنه قال: كان لا يرى طلاقاً ما خالفَ وجهَ الطَّلاقِ، ووجُهَ العِدة، وكان يقول: وجهُ الطلاقِ: أن يُطَلِّقَها طاهِراً مِن غير جماع وإذا استبان حملُها.
وقال الخُشنى: حدثنا محمد بنُ المثَّنى، حدثنا عبدُ الرحمن بن مهدى، حدثنا همَّام بن يحيى، عن قتادة، عن خِلاس بن عمرو أنه قال فى الرجل يُطلِّق امرأته وهى حائض: قال: لا يُعْتَدُّ بها قال أبو محمد ابن حزم: والعجبُ من جُرأة منِ ادَّعى الإجماعَ على خلاف هذا، وهو لا يجد فيما يُوافق قوله فى إمضاء الطلاق فى الحيض أو فى طهر جامعها فيه كلمة عن أحدٍ من الصحابة رضى الله عنهم غيرَ رواية عن ابن عمر قد عارضها ما هو أحسنُ منها عن ابن عمر، وروايتين عن عُثمان وزيدِ بن ثابت رضى الله عنهما. إحداهما: رويناها من طريق ابن وهب عن ابنِ سمعان، عن رجل أخبره أن عثمانَ بن عفان رضى الله عنه كان يقضى فى المرأة التى يُطلِّقُها زوجها وهى حائض أنها لا تعتدُّ بحيضتها تلك، وتعتدُّ بعدَها بثلاثة قروء. قلت: وابن سمعان هو عبد الله بن زياد بن سمعان الكذاب، وقد رواه عن مجهول لا يُعرف. قال أبو محمد: والأخرى من طريق عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن قيس بن سعد مولى أبى علقمة، عن رجل سماه، عن زيد بن ثابت أنه قال فيمن طلَّق امرأَته وهى حائض:

يلزمه الطلاقُ، وتعتد بثلاثِ حيض سوى تلك الحيضة.
قال أبو محمد: بل نحنُ أسعدُ بدعوى الإجماع هاهنا لو استجزنا ما يستجيزوُن ونعوذُ بالله من ذلك، وذلك أنه لا خلافَ بين أحدٍ من أهل العلم قاطبة، ومن جملتهم جميع المخالفين لنا فى ذلك أن الطلاق فى الحيض أو فى طهر جامعها فيه بدعة نهى عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخالفة لأمره، فإذا كان لا شك فى هذا عندهم، فكيف يستجيزون الحكم بتجويز البدعة التى يقرون أنها بدعةٌ وضلالة، أليس بحكم المشاهدة مجيزُ البدعة مخالفاً لإجماع القائلين بأنها بدعة؟ قال أبو محمد: وحتي لو لم يبلغنا الخلافُ، لكان القاطعُ على جميع أهل الإسلام بما لا يقين عنده، ولا بلغه عن جميعهم كاذباً على جميعهم.
قال المانعون من وقوع الطلاق المحرم: لا يُزَالُ النكاحُ المتيقنُ إلا بيقين مثله من كتاب، أو سنة، أو إجماع متيقَّن. فإذا أوجدتمونا واحداً من هذه الثلاثة، رفعنا حُكْمَ النِّكاح به، ولا سَبيلَ إلى رفعه بغير ذلك. قالوا: وكيف والأدلةُ المتكاثِرةٌ تدل على عدم وقوعه، فإن هذا طلاق لم يشرعه الله تعالى ألبتة، ولا أذن فيه، فليس من شرعه، فكيف يُقال بنفوذه وصحته؟
قالوا: وإنما يقع من الطلاق المحرم ما ملَّكه الله تعالى للمطلّق، ولهذا لا يقع به الرابعةُ، لأنه لم يملِّكها إياه، ومن المعلوم أنه لم يملِّكه الطلاقَ المحرم، ولا أذن له فيه، فلا يصح، ولا يقع.
قالوا: ولو وكل وكيلاً أن يُطلِّق امرأتَه طلاقاً جائزاً، فطلّق طلاقاً محرماً، لم يقع، لأنه غيرُ مأذون له فيه، فكيف كان إذن المخلوف معتبراً فى صحة إيقاع الطلاق دون إذن الشارع، ومِن المعلوم أن المكلَّفَ إنما يتصرف بالإذن، فما لم يأذن به الله ورسولُه لا يكون محلاً للتصرف البتة.
قالوا: وأيضاً فالشارِعُ قد حجر على الزوج أن يُطَلَّق فى حال الحيض

أو بعد الوطءِ فى الطهر، فلو صح طلاقُه لم يكن لحجر الشارع معنى، وكان حجرُ القاضى على من منعه التصرف أقوى من حجر الشارع حيث يُبطِلُ التصرفَ بحجره.
قالوا: وبهذا أبطلنا البيعَ وقتَ النداءِ يومَ الجمعة، لأنه بيعٌ حجر الشارعُ على بائعه هذا الوقتَ، فلا يجوز تنفيذُه وتصحيحه.
قالوا: ولأنه طلاقٌ محرم منهى عنه، فالنهىُ يقتضى فسادَ المنهى عنه، فلو صححناه، لكان لا فرق بين المنهى عنه والمأذونِ فيه من جهة الصحة والفساد.
قالوا: وأيضاً فالشارِعُ إنما نهى عنه وحرمه، لأنه يُبغِضُه، ولا يُحبُّ وقوعه، بل وقوعُه مكروه إليه، فحرَّمه لِئلا يقع ما يُبغضه ويكرهه، وفى تصحيحه وتنفيذه ضِد هذا المقصود.
قالوا: وإذا كان النكاحُ المنهى عنه لا يَصِحُّ لأجل النهى، فما الفرقُ بينه وبين الطلاق، وكيف أبطلتم ما نهى الله عنه من النكاح، وصححتم ما حرَّمه ونهى عنه من الطلاق، والنهى يقتضى البطلان فى الموضعين؟
قالوا: ويكفينا من هذا حُكمُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العام الذى لا تخصيص فيه برد ما خالف أمره وإبطاله وإلغاءه، كما فى "الصحيح" عنه، من حديث عائشة رضى الله عنها: "كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنا فَهُوَ رَدٌّ" وفى رواية: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْس عَلَيْهِ أَمْرُنا فَهُوَ رَدٌّ" . وهذا صريحُ أن هذا الطلاقَ المحرَّم الذى ليس عليه أمرُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مردود باطل، فكيف يُقال: إنه صحيح لازم نافذ؟ فأين هذا مِن الحكم برده؟

قالوا: وأيضاً فإنه طلاقٌ لم يشرعه الله أبداً، وكان مردوداً باطلاً كطلاق الأجنبية، ولا ينفعُكم الفرقُ بأن الأجنبية ليست محلاً للطلاق بخلاف الزوجة، فإن هذه الزوجة ليست محلاً لِلطلاق المحرَّم، ولا هو مما ملَّكه الشَّارِعُ إيَّاه.
قالوا: وأيضاً فإن الله سبحان إنما أمر بالتسريح بإحسان، ولا أشر مِن التسريح الذى حرَّمه اللهُ ورسُوله، وموجب عقدِ النكاح أحدُ أمرين: إما إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، والتسريح المحرَّم أمر ثالثُ غيرُهما، فلا عبرة به البتة.
قالوا: وقد قال اللهُ تعالى: {يأيَّها النَّبىُّ إذا طَلَّقُتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وصحَّ عن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبيِّنِ عن اللهِ مرادَه مِن كلامه، أن الطلاق المشروع المأذون فيه هو الطلاقُ فى زمن الطهر الذى لم يُجامع فيه، أو بعدَ استبانة الحمل، وما عداهُما فليس بطلاق للعدة فى حق المدخول بها، فلا يكون طلاقاً، فكيف تحرم المرأة به؟
قالوا: وقد قال تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229]، ومعلوم أنه إنما أرادَ الطلاق المأذونَ فيه، وهو الطلاقُ للعدة، فدل على أن ما عداه ليس من الطلاق، فإنه حصر الطلاقَ المشروع المأذونَ فيه الذى يملك به الرجعة فى مرتين، فلا يكون ما عداه طلاقاً. قالُوا: ولهذا كان الصحابةُ رضى الله عنهم يقولون: إنهم لا طاقة لهم بالفتوى فى الطلاق المحرَّم، كما روى ابنُ وهب، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، أن ابن مسعود رضى الله عنه قال: من طلق كما أمره الله، فقد بيَّن الله له، ومن خالف، فإنا لا نُطِيقُ خِلافه، ولو وقع طلاقُ المخالف لم يكن الإفتاءُ به غير مطاق لهم، ولم يكن للتفريق معنى إذ كان النوعانِ واقعينَ نافذين.

قال ابن مسعود رضي الله عنه أيضاً: من أتى الأمرَ على وجهه فقد بَيَّنَ الله له وإلا فواللهِ ما لنا طاقةٌ بكل ما تُحْدِثُون.
وقال بعض الصحابةِ قد سئل عن الطلاق الثلاث مجموعة: مَنْ طلَّق كما أمر، فقد بُيِّن له، ومن لبَّس، تركناه وتلبيسه.
قالوا: ويكفى من ذلك كله ما رواه أبو داود بالسند الصحيح الثابت: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج، قال: أخبرنى أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابنَ عمر قال أبو الزبير وأنا أسمع: كيف ترى في رجل طلَّق امرأته حائضاً؟ فقال: طلَّق ابنُ عمر على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأل عُمَرُ عن ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهى حائض، قال عبد الله: فردَّها علي ولم يَرَهَا شيئاً، وقال: إذا طهرت فليُطَلِّقْ أو لِيُمسِكْ، قال ابن عُمر: وقرأ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يأَيُّهَا النَّبىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] فى قبلِ عِدَّتِهِنَّ. قالوا: وهذا إسناد فى غاية الصحة، فإن أبا الزبير غيرُ مدفوع عن الحفظ والثقة، وإنما يُخشى مِن تدليسه، فإذا قال: سمعتُ، أو حدثنى، زال محذورُ التدليس، وزالت العلةُ المتوهَّمة، وأكثرُ أهلِ الحديث يحتجُّون به إذا قال: "عن" ولم يُصِّرحْ بالسماع، ومسلم يُصحِّح ذلك من حديثه، فأما إذا صرَّحَ بالسماع، فقد زال الإشكالُ، وصحَّ الحديثُ وقامت الحجة.
قالوا: ولا نعلم فى خبر أبى الزبير هذا ما يُوجب ردَّه، وإنما رَدَّه مَنْ ردَّه استبعاداً واعتقاداً أنه خلافُ الأحاديث الصحيحة، ونحن نحكى كلام من رده، ونبين أنه ليس فيه ما يُوجب الرَّد.

قال أبو داود: والأحاديثُ كُلُّها على خلاف ما قال أبو الزبير.
وقال الشافعىُّ: ونافعٌ أثبتُ عن ابن عمر مِن أبى الزبير، والأثبتُ مِن الحديثين أولى أن يُقال به إذا خالفه.
وقال الخطابىُّ: حديثُ يونس بن جبير أثبتُ مِن هذا، يعنى قوله:"مرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا"، وقوله: "أرأيتَ إن عجز واستحمق"؟ قال: فمه.
قال ابنُ عبدِ البر: وهذا لم ينقله عنه أحدُ غير أبى الزبير، وقد رواه عنه جماعةٌ أَجِلَّةٌ، فلم يقل ذلك أحدٌ منهم، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثلُه، فكيف بخلاف مَن هو أثبتٌ منه.
وقال بعضُ أهلِ الحديث: لم يروِ أبو الزبير حديثاً أنكرَ من هذا.
فهذا جملة ما رُد به خبرُ أبى الزبير، وهو عند التأمل لا يوجب رده ولا بطلانه.
أما قولُ أبى داود: الأحاديثُ كلها على خلافه، فليس بأيديكم سوى تقليدِ أبى داود، وأنتم لا ترضَوْنَ ذلك، وتزعمون أن الحجةَ مِن جانبكم، فدعوا التقليدَ، وأخبرونا أين فى الأحاديث الصحيحة ما يُخالف حديثَ أبى الزُّبير؟ فهل فيها حديثٌ واحد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتسب عليه تلك الطلقة، وأمره أن يعتدَّ بها، فإن كان ذلك، فنعم واللهِ هذا خلاف صريح لحديثِ أبى الزبير، ولا تَجِدُون إلى ذلك سبيلاً، وغايةُ ما بأيديكم "مُرْهُ فليراجعها"، والرجعة تستلزِمُ وقوع الطلاق. وقول ابن عمر. وقد سئل: أتعتد بتلك التطليقة؟ فقال: "أرأيت إن عجز واستحمق" وقول نافع أو مَنْ دونه: "فحسبت من طلاقها" وليس وراءَ ذلك حرفٌ واحد يدُلُّ على وقوعها، والاعتداد بها، ولا ريبَ فى صحة هذه الألفاظ، ولا مطعن فيها، وإنما الشأنُ كُلُّ فى معارضتها، لقوله: "فردَّها علىَّ ولم يرها شيئاً"،

وتقديمها عليه، ومعارضتها لتلك الأدلة المتقدمة التى سقناها، وعند الموازنة يظهرُ التفاوتُ، وعدمُ المقاومة، ونحن نذكرُ ما فى كلِمةٍ كلمةٍ منها.
أما قوله: "مره فليراجعها"، فالمراجعة قد وقعت فى كلام الله ورسولهِ على ثلاث معان.
أحدُها: ابتداءُ النكاح، كقوله تعالى :{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} [البقرة: 230] ، ولا خلافَ بينَ أحدٍ من أهلِ العلم بالقرآن أن المطلِّق هاهنا: هو الزوج الثانى، وأن التراجُعَ بينها وبين الزوج الأول، وذلك نكاح مبتدأ.
وثانيهما: الرد الحسى إلى الحالة التى كان عليها أولاً، كقوله لأبى النعمان بن بشير لما نَحَلَ ابنه غلاماً خصَّه به دون ولده: "رُدَّه"، فهذا رد ما لم تصح فيه الهبةُ الجائزة التى سماها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جوراً، وأخبر أنها لا تصلُح، وأنها خلاف العدل، كما سيأتى تقريرُه إن شاء الله تعالى.
ومِن هذا قوله لمن فرَّق بين جارية وولدها فى البيع، فنهاه عن ذلك، ورد البيع وليس هذا الرد مستلزماً لصحة البيع، فإنه بيعٌ باطل، بل هو رد شيئين إلى حالة اجتماعهما كما كانا، وهكذا الأمر بمراجعة ابن عمر امرأته ارتجاع ورد إلى حالة الاجتماع كما كانا قبل الطلاق، وليس فى ذلك ما يقتضى وقوع الطلاق فى الحيض البتة.
وأما قوله: "أرأيتَ إن عجز واستحمق"، فيا سبحانَ الله أين البيان فى هذا اللفظ بأن تلك الطلقة حَسبَها عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأحكام لا تُؤخذ بمثل هذا ولو كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حسبها عليه، واعتدَّ عليه بها لم يَعْدِلْ عن الجواب بفعله وشرعه إلى: أرأيتَ، وكان ابنُ عمر أكره ما إليه "أرأيت"، فكيف يَعْدِلُ للسائل عن صريح السنة إلى لفظة "أرأيت"

الدالة على نوع من الرأى سببُه عجز وحمقُه عن إيقاع الطلاق على الوجه الذى أذن الله له فيه، والأظهر فيما هذه صفتُه أنه لا يُعتدى به، وأنه ساقط من فعل فاعله، لأنه ليس فى دين الله تعالى حكم نافذ سببُه العجزُ والحمقُ عن امتثال الأمر، إلا أن يكون فعلاً لا يمكن ردُّه بخلاف العقود المحرَّمة التى مَنْ عقدها على الوجه المحرَّم، فقد عجز واستحمق، وحينئذ، فيُقال هذا أدلُّ على الردِّ منه على الصحة واللزوم، فإنه عقدُ عاجز أحمق على خلافِ أمر الله ورسوله، فيكون مردوداً باطلاً، فهذا الرأىُ والقياس أدلُّ على بطلان طلاق مَن عجز واستحمق منه على صحته واعتباره.
وأما قولُه: فحُسِبَتْ مِن طلاقها. ففعل مبنى لما لم يسم فاعله، فإذا سُمِّىَ فاعله، ظهر، وتبين، هل فى حُسبانه حجة أو لا؟ وليس فى حُسبان الفاعلِ المجهولِ دليلٌ ألبتة. وسواء كان القائلُ: "فحسبت" ابن عمر أو نافعاً أو من دونه، وليس فيه بيان أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذى حسبها حتى تلتزمَ الحجةُ به، وتحرم مخالفته، فقد تبين أن سائرَ الأحاديث لا تُخَالِفُ حديث أبى الزبير، وأنه صريح فى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرها شيئاً، وسائر الأحاديث مجملة لا بيان فيها.
قال الموقعون: لقد ارتقيتُم أيها المانعون مرتقىً صعباً، وأبطلتُم أكثرَ طلاق المُطَلِّقين، فإن غالِبه طلاق بدعى، وجاهرتُم بخلاف الأئمة، ولم تتحاشَوْا خِلافَ الجمهور، وشذذتُم بهذا القولِ الذى أفتى جمهورُ الصحابة ومَنْ بعدهم بخلافه، والقرآنُ والسنن تدل على بطلانه. قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَها فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة:230]، وهذا يعم كُلَّ طلاق، وكذلك قوله: {والمُطَلَّقَاتُ يَتَربَّصْنَ بأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، ولم يفرِّق، وكذلك قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229 ]، وقوله: {ولِلْمُطَلَّقَاتِ

مَتَاعٌ} [البقرة:241]، وهذه مطلّقة وهى عمومات لا يجوز تَخصيصُها إلا بنص أو إجماع.
قالوا: وحديثُ ابنِ عمر دليل على وقوع الطلاق المحرَّم من وجوه.
أحدها: الأمرُ بالمراجعة، وهى لَمُّ شعثِ النكاح، وإنما شعثه وقوعُ الطلاق.
الثانى: قولُ ابن عمر، فراجعتُها، وحسبت لها التطليقة التي طلَّقها، وكيف يُظن بابن عمر أنه يخالف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيحسبها مِن طلاقها ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرها شيئاً.
الثالث: قولُ ابنِ عمر لما قيل له: أيحتسب بتلك التطليقة؟ قال: أرأيتَ إن عجز واستحمق، أى: عجزُه وحمقُه لا يكون عذراً له فى عدم احتسابه بها.
الرابع: أن ابن عمر قال: وما يمنعُنى أن أعتدَّ بها، وهذا إنكارٌ منه لعدم الاعتداد بها، وهذا يُبْطِلُ تلك اللفظة التى رواها عنه أبو الزبير، إذ كيف يقولُ ابن عمر: وما يمنعُنى أن أعتد بها؟ وهو يرى رسولَ الله قد ردَّها عليه، ولم يرها شيئاً.
الخامس: أن مذهبَ ابن عمر الاعتداد بالطلاقِ فى الحيض، وهو صاحبُ القصة وأعلمُ الناس بها، وأشدُّهم اتباعاً للسنن، وتحرُّجاً من مخالفتها. قالوا: وقد روى ابن وهب فى "جامعه"، حدثنا ابن أبى ذئب، أن نافعاً أخبرهم عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهى حائض، فسأل عُمَرُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، فقال: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْها حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شاءَ أمْسَكَ بَعْدَ ذَلِكَ وإنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةَ التى أمَرَ اللهُ أنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ" وهى واحدة هذا لفظ حديثه.

قالوا: وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: أرسلنا إلى نافع وهو يترجَّلُ فى دار الندوة ذاهباً إلى المدينة، ونحنُ مع عطاء: هل حسبت تطليقة عبد الله بن عمر امرأته حائضاً علي عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم.
قالوا: وروى حمادُ بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ طَلَّقَ فى بدْعَةٍ أَلْزْمَنْاهُ بِدْعَتَهُ "، رواه عبد الباقى بن قانع، عن زكريا الساجى حدثنا إسماعيل بن أمية الذارع حدثنا حماد فذكره.
قالوا: وقد تقدَّم مذهبُ عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت فى فتواهما بالوقوع.
قالوا: وتحريمُه لا يمنع ترتب أثره، وحكمه عليه كالظِّهار، فإنه منكر من القول وزور، وهو محرّم بلا شك، وترتب أثره عليه وهو تحريمُ الزوجة إلى أن يكفِّرَ، فهكذا الطلاقُ البدعى محرّم، ويترتب عليه أثره إلى أن يُراجع، ولا فرق بينهما.
قالوا: وهذا ابنُ عمر يقولُ للمطلق ثلاثاً: حَرُمَتْ عليكَ حتي تنكِحَ زوجاً غيرَك وعصيتَ ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك. فأوقع عليه الطلاق الذى عصى به المطلق ربه عز وجل.

قالوا: وكذلك القذفُ محرّم، وترتب عليه أثرهُ من الحدِّ، وردِّ الشهادة وغيرهما.
قالوا: والفرقُ بين النكاح المحرم، والطلاق المحرّم، أن النكاحَ عقد يتضمَّن حِلَّ الزوجة ومُلك بُضعها، فلا يكون إلا على الوجهِ المأذون فيه شرعاً، فإن الأبضَاع فى الأصل على التحريم، ولا يُباح منها إلا ما أباحه الشارع، بخلاف الطلاق، فإنه إسقاطٌ لحقه، وإزالةٌ لملكه، وذلك لا يتوقَّفُ على كون السبب المزيل مأذوناً فيه شرعاً، كما يزولُ ملكه عن العين بالإتلاف المحرَّم، وبالإقرار الكاذب، وبالتبرع المحرَّم، كهبتها لمن يعلم أنه يستعين بها على المعاصى والآثام.
قالوا: والإيمانُ أصلُ العقود وأجلُّها وأشرفُها، يزول بالكلام المحرَّم إذا كان كفراً فكيف لا يزولُ عقدُ النكاح بالطلاق المحرَّم الذى وضع لإزالته.
قالوا: ولو لَم يكن معنا فى المسألة طلاقُ الهازل، فإنه يقع مع تحريمه لأنه لا يَحِلُّ له الهزل بآيات الله، وقد قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما بالُ أقوامٍ يتَّخِذُون آيات الله هزواً: طلقتُك راجعتُك، طلقتُك راجعتُك" فإذا وقع طلاقُ الهازل مع تحريمه، فطلاقُ الجادِّ أولى أن يقع مع تحريمه.
قالوا: وفرق آخر بين النكاح المحرَّم، والطلاق المحرم، أن النكاحَ نعمة، فلا تُستباح بالمحرمات، وإزالتُه وخروجُ البُضع عن ملكه نِقمة، فيجوزُ أن يكون سببها محرماً.
قالوا: وأيضاً فإن الفروجَ يُحتاط لها، والاحتياطُ يقتضى وقوعَ الطلاق، وتجديد الرجعة والعقد.
قالوا: وقد عَهِدْنا النكاحَ لا يُدخل فيه إلا بالتشديدِ والتأكيدِ من الإيجابِ

والقبول، والولى والشاهدين، ورِضى الزوجة المعتبرِ رضاها، ويُخْرَجُ منه بأيسر شىء، فلا يحتاجُ الخروج مِنه إلى شىء من ذلك، بل يُدخل فيه بالعزيمة، ويُخرج منه بالشبهة، فأين أحدُهما من الآخر حتى يُقاسَ عليه.
قالوا: ولو لم يكن بأيدينا إلا قولُ حملةِ الشرعِ كُلِّهم قديماً وحديثاً: طلق امرأتَه وهى حائض، والطلاق نوعان: طلاق سنة، وطلاق بدعة، وقول ابن عباس رضى الله عنه: الطلاقُ على أربعة أوجه: وجهانِ حلالٌ، ووجهانِ حرام، فهذا الاطلاق والتقسيمُ دليل على أنه عندهم طلاق حقيقة، وشمولُ اسمِ الطلاق له كشموله للطلاق الحلالِ، ولو كان لفظاً مجرداً لغواً لم يكن له حقيقة، ولا قيل: طلق امرأته، فإن هذا اللفظ إذا كان لغواً كان وجودُه كعدمه، ومثلُ هذا لا يقال فيه: طلق، ولا يقسم الطلاق وهو غيرُ واقع إليه وإلى الواقع، فإن الألفاظ اللاغية التى ليس لها معانٍ ثابتة لا تكونُ هى ومعانيها قسماً من الحقيقة الثابتة لفظاً، فهذا أقصى ما تمسَّك به الموقعون، وربما ادعى بعضهم الإجماع لعدم علمه بالنزاع.
قال المانعون من الوقوع: الكلامُ معكم فى ثلاث مقاماتٍ بها يستبينُ الحقُّ في المسألة.
المقام الأول: بطلانُ ما زعمتم من الإجماع، وأنه لا سبيل لكم إلى إثباته ألبتة بل العلمُ بانتفائه معلوم.
المقام الثانى، أن فتوى الجمهور بالقول لا يدلُّ على صحته، وقولُ الجمهور ليس بحجة.

المقام الثالث: أن الطلاق المحرَّم لا يدخل تحتَ نصوص الطلاق المطلقة التى رتب الشارعُ عليها أحكام الطلاق، فإن ثبتت لنا هذه المقامات الثلاث، كنا أسعدَ بالصواب منكم فى المسألة.فنقول: أما المقام الأول، فقد تقدم مِن حكاية النزاع ما يُعلم معه بطلانُ دعوى الإجماع، كيف ولو لم يعلم ذلك، لم يكن لكم سبيلٌ إلى إثبات الإجماع الذى تقومُ به الحجة، وتنقطِعُ معه المعذرة، وتحرمُ معه المخالفة، فإن الإجماع الذى يُوجب ذلك هو الإجماعُ القطعى المعلوم.
وأما المقام الثانى: وهو أن الجمهورَ على هذا القول، فأَوْجِدُونا فى الأدلة الشرعية أن قولَ الجمهور حجةٌ مضافة إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإجماع أمته.
ومن تأمَّل مذاهب العلماء قديماً وحديثاً من عهد الصحابة وإلى الآن، واستقرأ أحوالهم وجدهم مُجمعين على تسويغ خلاف الجمهور، ووجد لِكل منهم أقوالاً عديدة انفرد بها عن الجمهور، ولا يُستثنى من ذلك أحد قط، ولكن مستقِلٌّ ومستكثِر، فمن شئتم سميتموه من الأئمة تتبَّعوا ما له من الأقوال التى خالف فيها الجمهور، ولو تتبعنا ذلك وعددناه، لطال الكتابُ به جداً، ونحن نُحيلُكم على الكتب المتضمِنة لمذاهب العلماء واختلافهم، ومن له معرفة بمذاهبهم وطرائقهم يأخذُ إجماعَهم على ذلك مِن اختلافهم، ولكن هذا فى المسائل التى يسوغُ فيها الاجتهادُ ولا تدفعُها السنةُ الصحيحةُ الصريحة، وأما ما كان هذا سبيله، فإنهم كالمتفقين على إنكارِه وردِّه، وهذا هو المعلومُ مِن مذاهبهم فى الموضعين.
وأما المقامُ الثالثُ: وهو دعواكم دخول الطلاق المحرم تحت نصوص الطلاق، وشمولها للنوعين إلى آخر كلامكم، فنسألُكم: ما تقولُون فيمن

ادَّعى دخولَ أنواع البيعِ المحرّم، والنكاح المحرّم تحت نصوص البيع والنكاح، وقال: شمولُ الاسم للصحيح من ذلك والفاسد سواء، بل وكذلك سائرُ العقود المحرمة إذا ادَّعى دخلوها تحت ألفاظ العقود الشرعية، وكذلك العباداتُ المحرَّمة المنهى عنها إذا ادعى دخولَها تحت الألفاظ الشرعية، وحكم لها بالصِّحة لشمولِ الاسم لها، هل تكون دعواه صحيحة أو باطلة؟ فإن قُلتُم: صحيحة ولا سبيلَ لكم إلى ذلك، كان قولاً معلومَ الفسادِ بالضرورة من الدين، وإن قلتُم: دعواه باطلة، تركتُم قولكم ورجعتم إلى ما قلناه، وإن قلتم: تُقبلُ فى موضع، وتُردُّ فى موضع، قيل لكم: ففرُّقوا بفُرقانٍ صحيح مطَّرِد منعكِسٍ، معكم به برهانُ من الله بينَ ما يدخل من العقود المحرَّمة تحتَ ألفاظ النصوص، فيَّثبتُ له حكمُ الصحة، وبينَ ما لا يدخل تحتها، فيثبتُ له حكمُ البطلان، وإن عجزتُم عن ذلك، فاعلموا أنه ليس بأيديكم سوى الدعوى التى يُحْسِنُ كُلُّ أحدٍ مقابلتها بمثلها، أو الاعتماد على من يُحْتَجُّ لِقوله لا بقوله، وإذا كُشِفَ الغطاء عما قررتموه فى هذه الطريق وُجِدَ عين محل النزاع فقد جعلتموه مقدمة فى الدليل، وذلك عينُ المصادرة على المطلوب، فهل وقع النزاعُ إلا فى دخول الطلاق المحرَّم المنهى عنه تحتَ قوله: {ولِلْمُطَلقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] ، وتحت قوله: {والمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] وأمثال ذلك، وهل سلَّم لكم منازعوكم قطُّ ذلك حتى تجعلوه مقدِّمةً لدليلكم؟
قالوا: وأما استدلالُكم بحديث ابن عمر، فهو إلى أن يكون حجةً عليكم أقربَ منه إلى أن يكون حجةً لكم مِن وجوه.
أحدُها: صريح قوله: فردها علىَّ ولم يرها شيئاً، وقد تقدَّم بيانُ صحته.
قالوا: فهذا الصريح ليسَ بأيديكم ما يُقاومه فى الموضعين، بل جميعُ تلك الألفاظ أما صحيحة غيرُ صريحة، وإما صريحةٌ غيرُ صحيحة كما ستقفون عليه.

الثانى: أنه قد صحَّ عن ابن عمر رضى الله عنه بإسناده كالشمس من رواية عبيد الله، عن نافع عنه، فى الرجل يُطلِّق امرأته وهى حائض، قال: لا يُعْتَدُّ بذلك وقد تقدم.
الثالث: أنه لو كان صريحاً فى الاعتداد به، لما عدل به إلى مجرَّد الرأى. وقوله للسائل: أرأيتَ؟
الرابع: أن الألفاظ قد اضطربت عن ابن عمر فى ذلك اضطراباً شديداً، وكلها صحيحة عنه، وهذا يدلُّ على أنه لم يكن عنده نصُّ صَريح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى وقوع تلك الطلقة والاعتداد بها، وإذا تعارضت تلك الألفاظُ، نظرنا إلى مذهب ابن عمر، وفتواه، فوجدناه صريحاً فى عدم الوقوع، ووجدناه أحد ألفاظ حديثه صريحاً فى ذلك، فقد اجتمع صريحُ روايته وفتواه على عدم الاعتداد، وخالف فى ذلك ألفاظُ مجملة مضطربة، كما تقدم بيانه.
وأما قولُ ابن عمر رضى الله عنه: وما لى لا أعتدُّ بها، وقوله: أرأيت إن عجزَ واستحمق، فغاية هذا أن يكونَ رواية صريحة عنه بالوقوع، ويكون عنه روايتان.
وقولكم. كيف يفتى بالوقوع وهو يعلم أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ردَّها عليه ولم يعتدَّ عليه بها؟ فليس هذا بأوَّل حديثٍ خالفه راويه، وله بغيره مِن الأحاديث التى خالفها راويها أُسْوَةٌ حسنةٌ فى تقديم رواية الصحابى ومن بعده على رأيه.
وقد روى ابن عباس حديثَ برِيرة، وأن بيعَ الأمة ليس بطلاقها، وأفتى بخلافه، فأخذ الناس بروايته، وتركوا رأيَه، وهذا هو الصوابُ، فإن الرواية معصومةُ عن معصوم، والرأى بخلافها، كيف وأصرحُ الروايتين

عنه موافقتُه لما رواه من عدم الوقوع على أن فى هذا فِقهاً دقيقاً إنما يَعرِفُه من له غور على أقوال الصحابة ومذاهبهم، وفهمِهم عن اللهِ ورسوله، واحتياطِهم للأمة، ولعلك تراه قريباً عند الكلامِ على حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى إيقاع الطلاق الثلاث جملة.
وأما قوله فى حديث ابن وهب عن ابن أبى ذئب فى آخره: وهى واحدة، فلعمرُ الله لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قدَّمنا عليها شيئاً، ولصِرنا إليها بأوَّلِ وهلة، ولكن لا ندرى أقالها ابن وهب من عنده، أم ابن أبى ذئب، أم نافع، فلا يجوزُ أن يُضَافَ إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لا يُتيقّنُ أنه من كلامه، ويشهد به عليه، وترتب عليه الأحكامُ، ويقال: هذا من عند الله بِالوهم والاحتمال، والظاهر أنها من قولِ مَنْ دون ابن عمر رضى الله عنه، ومراده بها أن ابن عمر إنما طلَّقها واحدة، ولم يكن ذلك منه ثلاثاً ؛ أى طلق ابن عمر رضى الله عنه امرأته واحدة على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكره.
وأما حديث ابن جريج عن عطاء عن نافع، أن تطليقة عبد الله حُسِبَتْ عليه، فهذا غايتُه أن يكون من كلام نافع، ولا يعرف من الذى حسبها، أهو عبد الله نفسه، أو أبوه عمر، أو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ولا يجوز أن يشهد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوهم والحسبان، وكيف يعارض صريح قوله: ولم يرها شيئاً بهذا المجمل؟ والله يشهد وكفى بالله شهيداً أنا لو تيقنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذى حسبها عليه لم نتعد ذلك، ولم نذهب إلى سواه.
وأما حديث أنس: "مَنْ طَلَّقَ فى بِدْعَةٍ أَلْزَمْنَاه بِدْعَتَهُ "، فحديث باطل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن نشهد باللهِ أنه حديث باطل عليه، ولم يروه أحدُ من الثقات من أصحاب حماد بن زيد، وإنما هو من حديث إسماعيل

ابن أمية الذارع الكذاب الذى يذرَع ويفصل، ثم الراوى له عنه عبد الباقى بن قانع، وقد ضعفه البرقانىُّ وغيرُه، وكان قد اختُلِطَ فى آخر عمره، وقال الدارقطنى: يخطىء كثيراً، ومثلُ هذا إذا تفرد بحديث لم يكن حديثُه حجةً.
وأما إفتاء عثمانَ بن عفان، وزيدِ بن ثابت رضى الله عنهما بالوقوع، فلو صحَّ ذلك ولا يصِحُّ أبداً، فإن أثر عثمان، فيه كذَّاب عن مجهول لا يعرف عينه ولا حاله، فإنه من رواية ابن سمعان، عن رجل، وأثر زيد: فيه مجهول عن مجهول: قيس بن سعد، عن رجل سماه عن زيد، فياللهِ العجب، أين هاتانِ الروايتان مِن رواية عبد الوهَّاب بن عبد المجيد الثقفى، عن عُبيد الله حافظ الأمة، عن نافع، عن ابنِ عمر أنه قال: لا يُعْتَدُّ بهَا. فلو كان هذا الأثرُ من قبلكم، لصُلتم به وجُلتم.
وأما قولكم: إن تحريمه لا يمنع ترتُّب أثره عليه، كالظهار، فيقال أولاً: هذا قياسُ يدفعه ما ذكرناه من النص، وسائر تلك الأدلة التى هى أرجح منه، ثم يقال ثانياً: هذا معارَض بمثله سواء معارضة القلب بأن يقال: تحريمُه يمنع ترتب أثره عليه كالنكاح، ويقال ثالثاً: ليس للظهار جهتانِ: جهة حل وجهة حرمة، بل كُلُّه حرام فإنه منكر من القول وزور، فلا يُمْكِنُ أن ينقسِمَ إلى حلال جائز، وحرام باطل، بل هو بمنزلة القذف مِن الأجنبى والردة، فإذا وجد لم يُوجد إلا مع مفسدته، فلا يتُصوَّر أن يقال: منه حلال صحيح، وحرام باطل، بخلاف النكاح والطلاق والبيع فالظهار نظيرُ الأفعال المحرمة التى إذا وقعت، قارنتها مفاسدُها

فترتبت عليها أحكامُها، وإلحاقُ الطلاق بالنكاح، والبيع والإجارة والعقود المنقسمة إلى حلالٍ وحرامٍ، وصحيحٍ وباطلٍ، أولى.
وأما قولكم: إن النكاح عقدٌ يُملك به البُضع، والطلاقُ عقدٌ يخرج به، فنعم. مِن أين لكم برهان من اللهِ ورسولِه بالفرق بين العقدين فى اعتبار حُكم أحدهما، والإلزام به وتنفيذه، وإلغاء الآخر وإبطاله؟
وأما زوالُ ملكه عن العين بالإتلاف المحرَّم، فذلك ملك قَد زال حساً، ولم يبق له محل. وأما زوالُه بالإقرار الكاذب، فأبعد وأبعد، فإنَّا صدقناه ظاهراً فى إقراره وألزمنا مُلْكَه بالإقرار المصدَّق فيه وإن كان كاذباً.
وأما زوال الإيمان بالكلامِ الذى هو كفر، فقد تقدم جوابُه، وأنه ليس فى الكفر حلال وحرام.
وأما طلاقُ الهازِلِ، فإنما وقع، لأنه صادف محلاً، وهو طهر لم يُجامع فيه فنفذ وكونُه هزل به إرادة منه أو لا يترتب أثرُه عليه، وذلك ليس إليه، بل إلى الشارع، فهو قد أتى بالسبب التام، وأراد ألا يكونَ سببه، فلم ينفعْه ذلك، بخلاف من طلَّق فى غير زمن الطلاق، فإنه لم يأت بالسَّببِ الَّذى نصَبه اللهُ سبحانه مفضياً إلى وقوع الطلاق، وإنما أتي بسبب مِن عنده، وجعله هو مفضياً إلى حكمه، وذلك ليس إليه.
وأما قولُكم: إن النكاح نِعمة، فلا يكون سببُه إلا طاعةً بخلاف الطلاق، فإنه من باب إزالة النعم، فيجوزُ أن يكونَ سبَبَهُ معصيةً، فيقال: قد يكون الطلاق من أكبر النعم التى يفك بها المطلق الغُل من عنقه، والقيد من رِجله، فليس كُلُّ طلاقٍ نِقمة، بل مِن تمام نعمة اللهِ على عباده أن مكَّنهم مِن المفارقة بالطلاق إذا أراد أحدُهم استبدالَ زوج مكانَ زوج، والتخلُّصَ ممن لا يُحبها ولا يُلائمها، فلم يُر للمتحابَّيْنِ مثلُ النكاح، ولا للمتباغضينِ مثلُ

الطلاق، ثم كيف يكون نِقمةُ واللهُ تعالى يقول :{لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُم إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236]، ويقول: {يَأَيُّها النَّبىُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلُّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]؟.
وأما قولُكم: إن الفروجَ يُحتاط لها، فنعم، وهكذا قلنا سواء، فإنا احتطنا، وأبقينا الزوجينِ على يقينِ النكاح حتى يأتى ما يُزيلُه بيقين فإذا أخطأنا، فخطؤُنا فى جهة واحدة، وإن أصبنا، فصوابُنا فى جهتين، جهةِ الزوج الأولِ، وجهةِ الثانى، وأنتم ترتكبُون أمرينِ: تحريمَ الفرج على من كان حلالاً له بيقين، وإحلالَه لِغيره. فإن كان خطأ، فهو خطأ مِن جهتين، فتبيَّن أنَّا أولى بالاحتياط منكم، وقد قال الإمامُ أحمد فى رواية أبى طالب: فى طلاق السكران نظير هذا الاحتياط سواء، فقال: الذى لا يأمُرُ بالطلاق: إنما أتى خصلةً واحدةً، والَّذى يأمر بالطلاق أتى خصلتينِ حرَّمها عليه، وأحلَّها لِغيره، فهذا خيرٌ مِن هذا.
وأما قولُكم: إن النِّكاحَ يدخل فيه بالعزيمة والاحتياط، ويُخرج منه بأدنى شىء قلنا: ولكن لا يُخرج منه إلا بما نصبَه الله سبباً يُخرج به منه، وأذن فيه: وأما ما ينصِبُه المؤمِنُ عنده، ويجعله هو سبباً للخروج منه، فكلاَّ. فهذا منتهى أقدام الطائفتين فى هذه المسألة الضيقةِ المعتركِ، الوعرةِ المسلك التى يتجاذب أَعِنَّةَ أدلتها الفرسانُ، وتتضاءلُ لدى صولتها شجاعةُ الشجعانِ، وإنما نبهنا على مأخذِها وأدلَّتِها ليعلم الغِرُّ الذى بِضاعتُه مِن العلم مزجاة، أن هناك شيئاً آخر وراءَ ما عنده، وأنه إذا كان ممن قَصُرَ فى العلم باعُه، فضعف خلف الدليل، وتقاصَرَ عن جنى ثماره ذِراعُه، فَلْيَعْذُرْ مَنْ شمَّرَ عن ساق عَزْمِه، وحامَ حولَ آثار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحكيمِها، والتحاكم إليها بكُلِّ همة، وإن كانَ غيرَ عاذر لمنازعه فى قصورِه ورغبته

عن هذا الشأن البعيد، فليعذِرْ مُنازِعَه فى رغبته عما ارتضاه لنفسه مِن محض التقليد، ولينظر مع نفسه أيُّهما هو المعذورُ، وأىُّ السعيين أحقُّ بأن يكون هو السعى المشكور، واللهُ المستعان وعليه التُّكلان، وهو الموفِّقُ للصواب، الفاتِحُ لمن أمَّ بابَه طالباً لمرضاته من الخير كلَّ باب.

فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن طلق ثلاثاً بكلمة واحدة
قد تقدم حديثُ محمود بن لبيد رضى الله عنه: أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبرَ عن رجل طلَّق امرأته ثلاثَ تطليقات جميعاً، فقام مُغضبَاً، ثم قال: " أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ وأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟!" ، وإسناده على شرط مسلم، فإن ابن وهب قد رواه عن مخرمة بن بُكير بن الأشج، عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد فذكره، ومخرمة ثقة بلا شك، وقد احتج مسلم فى "صحيحه" بحديثه عن أبيه.
والذين أعلوه قالوا: لم يسمع منه، وإنما هو كتابٌ. قال أبُو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن مخرمة بنِ بُكير؟ فقال: هو ثقة، ولم يسمع من أبيه، إنما هو كتابُ، فنظر فيه، كُلُّ شىء يقول: بلغنى عن سُليمان بن يسار، فهو مِن كتاب مخرمة. وقال أبو بكر بن أبى خيثمة: سمعتُ يحيى بنَ معين يقول: مخرمةُ بن بُكير وقع إليه كتابُ أبيه، ولم يسمعه. وقال فى رواية عباس الدُّورى: هو ضعيفٌ، وحديثُه عن أبيه كتاب، ولم يسمعه منه، وقال أبو داود: لم يسمع من أبيه إلا حديثاً واحداً، حديثَ الوتر، وقال سعيد بن أبى مريم عن خاله موسى بن سلمة: أتيتُ

مخرمة فقلت: حدثك أبُوك؟ قال: لم أُدْرِكْ أبى، ولكن هذه كتبه.
والجوابُ عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن كِتابَ أبيه كان عنده محفوظاً مضبوطاً، فلا فرقَ فى قيامِ الحجة بالحديثِ بينَ ما حدَّثه به، أو رآه فى كتابه، بل الأخذُ عن النسخة أحوطُ إذا تيقَّن الراوى أنها نسخة الشيخ بعينها، وهذه طريقةُ الصحابة والسلف، وقد كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبعث كتبه إلى الملوك، وتقوم عليهم بها الحجة، وكتب كتبه إلى عُماله فى بلاد الإسلام، فعلموا بها، واحتجوا بها، ودفع الصديق كتابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الزكاة إلى أنسِ بن مالك، فحمله، وعَمِلَتْ به الأمةُ، وكذلك كتابُه إلى عمرو بن حزم فى الصدقات الذى كان عند آل عمرو، ولم يزل السلفُ والخلفُ يحتجُّون بكتابِ بعضهم إلى بعض، ويقول المكتوبُ إليه: كتب إلى فلان أن فلاناً أخبره، ولو بطل الاحتجاجُ بالكُتُب، لم يبق بأيدى الأمة إلا أيسرُ اليسير، فإن الاعتماد إنما هو على النَّسْخِ لا على الحفظ، والحفظ خَوَّان، والنسخة لا تخون، ولا يحفظ فى زمن من الأزمان المتقدِّمة أن أحداً مِن أهل العِلْمِ رَدَّ الاحتجاج بالكتاب، وقال: لم يُشافهنى به الكاتبُ، فلا أقبلُه، بل كُلُّهم مجمعون على قبول الكتابِ والعمل به إذا صح عنده أنه كتابُه.
الجواب الثانى: أن قول من قال: لم يسمع من أبيه، مُعارَض بقول من قال: سمع منه، ومعه زيادةُ علم وإثبات، قال عبد الرحمن بن أبى حاتم: سئل أبى عن مخرمة بن بُكير؟ فقال: صالحُ الحديث. قال: وقال ابنُ أبى أويس: وجدت فى ظهر كتاب مالك: سألت مخرمة عما يُحدِّث به عن أبيه، سمعها مِن أبيه؟ فحلف لى: ورَبِّ هذه البَنِيَّةِ يعنى المسجدَ سمعتُ من أبى. وقال علىُ بنُ المدينى: سمعتُ معن بن عيسى

يقول: مخرمةُ سمع من أبيه، وعرض عليه ربيعة أشياء مِن رأى سليمان ابن يسار، وقال على: ولا أظن مخرمَة سمع مِن أبيه كتابَ سليمان، لعلَّه سمع منه الشىءَ اليسير، ولم أجد أحداً بالمدينة يخبرنى عن مخرمة بن بكير أنه كان يقول فى شىء من حديثه: سمعت أبى، ومخرمة ثقة. انتهى. ويكفى أن مالكاً أخذ كِتابه، فنظر فيه، واحتجَّ به فى "موطئه"، وكان يقول: حدثنى مخرمة، وكان رجلاً صالحاً. وقال أبو حاتم: سألت إسماعيل بن أبى أويس، قلت: هذا الذى يقول مالك بن أنس: حدثنى الثقة، من هو؟ قال: مخرمة بن بكير. وقيل لأحمد بن صالح المصرى: كان مخرمة من ثقات الرجال؟ قال: نعم، وقال ابنُ عدى عن ابن وهب ومعن ابن عيسى عن مخرمة: أحاديثُ حِسانٌ مستقيمة وأرجو أنه لا بأس به.
وفى "صحيح مسلم" قولُ ابنِ عمر للمطلِّق ثلاثاً: "حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَكَ، وعَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلاقِ امْرَأَتِكَ ". وهذا تفسيرٌ منه للطلاق المأمور به، وتفسيرُ الصحابى حُجَّةٌ، وقال الحاكم: هو عندنا مرفوع.

ومن تأمَّل القرآن حقَّ التأمل، تبيَّن له ذلك، وعرف أن الطلاقَ المشروعَ بعدَ الدخول هو الطلاقُ الذى يملكُ به الرجعة، ولم يشرعِ الله سبحانه إيقاعَ الثلاث جملةٌ واحدة البتة؛ قال تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، ولا تعقِلُ العرب فى لغتها وقوعَ المرتين إلا متعاقبتين، كما قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَبَّحَ اللهَ دُبَرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثلاثاً وَثَلاَثِينَ، وحمِده ثلاثاً وثلاثين، وكَبَّرهُ أَربْعَاً وثلاَثِينَ"، ونظائره فإنه لا يُعقل من ذلك إلا تسبيح وتكبيرٌ وتحميدُ متوالٍ يتلو بعضهُ بعضاً، فلو قال: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد للَّه ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين بهذا اللفظ، لكانَ ثلاثَ مرات فقط، وأصرحُ من هذا قوله سبحانه: { والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولم يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَاداتٍ باللهِ} [النور: 6] فلو قال: أشهدُ باللهِ أربع شهادات إنى لمن الصادقين، كانت مرَّة، وكذلك قولُه: {وَيَدْرُؤا عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمنَ الكَاذِبِينَ} [النور: 8] فلو قالت: أشهدُ باللهِ أربَع شهادات إنه لمن الكاذبين، كانت واحدة، وأصرحُ مِن ذلك قولُه تعالى: {سَنُعَذِّبُهم مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 101] فهذا مرة بعد مرة، ولا ينتقض هذا بقوله تعالى: {نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]، وقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلاَثَةٌ يُؤْتَونَ أَجْرَهُم مَرَّتَيْنِ".

فإن المرتين هنا هما الضِّعفان، وهما المِثلان، وهما مِثلان فى القدر، كقوله تعالى : {يُضَاعَفْ لَهَا العَذَاب ضِعفَين} [الأحزاب: 30]. وقوله { فآتت أكلها ضعفين } [البقرة : 265] أي: ضعفي ما يعذب به غيرها، وضعفي ما كانت تؤتي، ومن هذا قول أنس: انشق القمر على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتين، أي: شقتين وفرقتين، كما قال في اللفظ الآخر: انشق القمر فلقتين. وهذا أمر معلوم قطعاً أنه إنما انشق القمر مرة واحدة، والفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان، وبين ما يكون مثلين وجزأين ومرتين في المضاعفة. فالثاني: يتصور فيه اجتماع المرتين في آن واحد، والأول لا يتصور فيه ذلك.
ومما يدل على أن الله لم يشرع الثلاث جملة، أنه قال تعالى: {وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] إلى أن قال: {وَبُعُولَتُهُنّ أَحَقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوَاْ إِصْلاَحاً} [البقرة: 228] ، فهذا يدل على أن كل طلاق بعد الدخول، فالمطلق أحق فيه بالرجعة سوى الثالثة المذكورة بعد هذا، وكذلك قوله تعالى: {يَأَيُّها النَّبىُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلُّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] إلى قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، فهذا هو الطلاق المشروع، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أقسام الطلاق كلها في القرآن، وذكر أحكامها، فذكر الطلاق قبل الدخول، وأنه لا عدة فيه، وذكر الطلقة الثالثة، وأنها تحرم الزوجة على المطلق حتى تنكح زوجاً غيره، وذكر طلاق الفداء الذي هو الخلع، وسماه فدية، ولم يحسبه من

الثلاث كما تقدم، وذكر الطلاق الرجعي الذي المُطلق أحق فيه بالرجعة، وهو ما عدا هذه الأقسام الثلاثة.
وبهذا احتج أحمد والشافعي وغيرهما على أنه ليس في الشرع طلقة واحدة بعد الدخول بغير عوض بائنة، وأنه إذا قال لها: أنت طالق طلقة بائنة كانت رجعية، ويلغو وصفُها بالبينونة، وأنه لا ملك إبانتها إلا بعوض. وأما أبو حنيفة، فقال: تبين بذلك، لأن الرجعة حق له، وقد أسقطها، والجمهور يقولون: وإن كانت الرجعة حقاً لكن نفقة الرجعية وكسوتها حق عليه، لا يملك إسقاطه إلا باختيارها، وبذلها العوض، أو سؤالها أن تفتدي نفسها منه بغير عوض في أحد القولين، وهو جواز الخلع بغير عوض.
وأما إسقاط حقها من الكسوة والنفقة بغير سؤالها ولا بذلها العوض، فخلاف النص والقياس.
قالوا: وأيضاً فالله سبحانه شرع الطلاق على أكمل الوجوه وأنفعها للرجل والمرأة، فإنهم كانوا يطلقون في الجاهلية بغير عدد، فيطلق أحدهم المرأة كلما شاء، ويراجعها، وهذا وإن كان فيه رفق بالرجل، ففيه إضرار بالمرأة، فنسخ سبحانه ذلك بثلاث، وقصر الزوج عليها، وجعله أحق بالرجعة ما لم تنقض عدتها، فإذا استوفى العدد الذي ملكه، حرمت عليه، فكان في هذا رفق بالرجل إذ لم تحرم عليه بأول طلقة، وبالمرأة حيث لم يجعل إليه أكثر من ثلاث، فهذا شرعه وحكمته، وحدوده التي حدها لعباده، فلو حرمت عليه بأول طلقة يطلقها كان خلاف شرعه وحكمته، وهو لم يملك إيقاع الثلاث جملة، بل إنما ملك واحدة، فالزائد عليها غير مأذون له فيه.
قالوا: وهذا كما أنه لم يملك إبانتها بطلقة واحدة، إذ هو خلاف

ما شرعه، لم يملك إبانتها بثلاث مجموعة، إذ هو خلاف شرعه.
ونكتة المسألة أن الله لم يجعل للأمة طلاقاً بائناً قط إلا في موضعين. أحدهما: طلاق غير المدخول بها. والثاني: الطلقة الثالثة، وما عداه من الطلاق، فقد جعل للزوج فيه الرجعة، هذا مقتضى الكتاب كما تقدم تقريره، وهذا قول الجمهور، منهم: الإمام أحمد، والشافعي، وأهل الظاهر، قالوا: لا يملك إبانتها بدون الثلاث إلا في الخلع.
ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال فيما إذا قال: أنت طالق طلقة لا رجعة فيها. أحدها: أنها ثلاث، قاله ابن الماجشون لأنه قطع حقه من الرجعة، وهي لا تنقطع إلا بثلاث، فجاءت الثلاث ضرورة. الثاني: أنها واحدة بائنة، كما قال، وهذا قول ابن القاسم، لأنه يملك إبانتها بطلقة بعوض، فملكها بدونه، والخلع عنده طلاق. الثالث: أنها واحدة رجعية، وهذا قول ابن وهب، وهو الذي يقتضيه الكتاب والسنة والقياس، وعليه الأكثرون.
فصل
وأما المسألة الثانية، وهي وقوع الثلاث بكلمة واحدة، فاختلف الناس فيها على أربعة مذاهب.
أحدها : أنها تقع، وهذا قول الأئمة الأربعة، وجمهور التابعين، وكثير من الصحابة رضي الله عنهم.
الثاني : أنها لا تقع، بل ترد لأنها بدعة محرمة، والبدعة مردودة لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وهذا المذهب

حكاه أبو محمد ابن حزم، وحكي للإمام أحمد فأنكره، وقال: هو قول الرافضة.
الثالث : أنه يقع به واحدة رجعية، وهذا ثابت عن ابن عباس، ذكره أبو داود عنه. قال الإمام أحمد: وهذا مذهب ابن إسحاق، يقول: خالف السنة فيرد إلى السنة، انتهى، وهو قول طاووس، وعكرمة، وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية.
الرابع : أنه يفرق بين المدخول بها وغيرها، فتقع الثلاث بالمدخول بها، ويقع بغيرها واحدة، وهذا قول جماعة من أصحاب ابن عباس، وهو مذهب إسحاق بن راهويه فيما حكاه عنه محمد بن نصر المروزي في كتاب "اختلاف العلماء".
فأما من لم يوقعها جملة، فاحتجوا بأنه طلاق بدعة محرم، والبدعة مردودة، وقد اعترف أبو محمد ابن حزم بأنها لو كانت بدعة محرمة، لوجب أن ترد وتبطل، ولكنه اختار مذهب الشافعي أن جمع الثلاث جائز غير محرم، وستأتي حجة هذا القول.
وأما من جعلها واحدة، فاحتج بالنص والقياس، فأما النص، فما رواه معمر، وابن جريج عن ابن طاووس، عن أبيه، أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبي بكر، وصدراً من إمارة عمر؟ قال نعم. رواه مسلم في "صحيحة".
وفي لفظ: ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبي بكر، وصدراً من خلافة عمر ترد إلى واحدة؟ قال: نعم.

وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الرازق، أن ابن جريج قال: أخبرني بعض بني أبي رافع مولى رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طلق عبد يزيد - أبو ركانة وإخوته - أم ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة، لشعرة أخذتها من رأسها، ففرق بيني وبينه، فأخذت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمية، فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: (ألا ترون أن فلاناً يشبه

منه كذا وكذا من عبد يزيد، وفلاناً منه كذا وكذا)؟ قالوا: نعم، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد يزيد: (طلقها)، ففعل ثم قال "راجع امرأتك أم ركانة وإخوته" فقال: إني طلقتها ثلاثاً يا رسول الله، قال : "قد علمت راجعها" وتلا: {يَأَيُّها النَّبىُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلُّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
وقال الإمام أحمد: حدثنا سعد بن إبراهيم، قال: حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس، قال: طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بن المطلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، قال: فسأله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كيف طلقتها"، فقال: طلقتها ثلاثاً، فقال: "في مجلس واحد؟" قال: نعم، قال: "فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت" قال: فراجعها. فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طهر.
قالوا: وأما القياس، فقد تقدم أن جمع الثلاث محرم وبدعة، والبدعة مردودة، لأنها ليست على أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: وسائر ما تقدم في بيان التحريم يدل على عدم وقوعها جملة. قالوا: ولو لم يكن معنا إلا قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِالله} [النور: 6]، وقوله: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِالله} [النور: 8] ، قالوا: وكذلك كل ما يعتبر له التكرار من حلف أو إقرار أو شهادة، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تحلفون خمسين يميناً، وتستحقون دم صاحبكم"

فلو قالوا: نحلف بالله يميناً: إن فلاناً قتله، كانت يميناً واحدة. قالوا: وكذلك الإقرار بالزنى، كما في الحديث: إن بعض الصحابة قال لماعز: إن أقررت أربعاً، رجمك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا لا يعقل أن تكون الأربع فيه مجموعة بفم واحد.
وأما الذين فرقوا بين المدخول بها وغيرها، فلهم حجتان.
إحداهما: ما رواه أبو داود بإسناد صحيح، عن طاووس، أن رجلاً يقال له: أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس، قال له: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر؟ فلما رأى عمر الناس قد تتايعوا فيها: قال: أجيزوهن عليهم.
الحجة الثانية: أنها تبين بقوله: أنت طالق، فيصادقها ذكر الثلاث وهي بائن، فتلغو ورأى هؤلاء أن إلزام عمر بالثلاث هو في حق المدخول بها، وحديث أبي الصهباء في غير المدخول بها. قالوا: ففي هذا التفريق موافقة المنقول من الجانبين، وموافقة القياس، وقال بكل قول من هذه الأقوال جماعة من أهل الفتوى، كما حكاه أبو محمد ابن حزم وغيره، ولكن عدم الوقوع جملة هو مذهب الإمامية، وحكوه عن جماعة من أهل البيت.
قال الموقعون للثلاث: الكلام معكم في مقامين.
أحدهما: تحريم جمع الثلاث. والثاني: وقوعها جملة ولو كانت محرمة، ونحن نتكلم معكم في المقامين. فأما الأول:

فقد قال الشافعي، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه، وجماعة من أهل الظاهر: إن جمع الثلاث سنة، واحتجوا عليه بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلّقَهَا فَلاَ تَحِلّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّىَ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، ولم يفرق بين أن تكون الثلاثُ مجموعةً، أو مفرَّقة، ولا يجوز أن نفرِّق بينَ ما جمع الله بينه، كما لا نجمع بين ما فرَّق الله بينه. وقال تعالى: {وإِنْ طَلَّقْتُموُهُنَّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمسُّوهُنَّ} [البقرة: 237]، ولم يفرق وقال: {لا جُناَحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُم النِّساءَ مَا لَم تَمَسُّوهُنَّ} الآية، ولم يفرق وقال: {وَللْمُطَلَّقَاتِ متَاعٌ بِالمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]، وقال: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنّ} [الأحزاب: 49] ، ولم يفرق. قالوا: وفي "الصحيحين"، أن عويمرا العجلاني طلق امرأته ثلاثا بحضرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يأمره بطلاقها. قالوا: فلو كان جمع الثلاث معصية لما أقر عليه رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يخلو طلاقها أن يكون قد وقع وهي امرأته، أو حين حرمت عليه باللعان.
فإن كان الأول، فالحجة منه ظاهرة، وإن كان الثاني، فلا شك أنه طلقها، وهو يظنها امرأته، فلو كان حراماً، لبينها له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كانت قد حرمت عليه. قالوا: وفي صحيح البخاري، من حديث القاسم بن محمد، عن عائشة أم المؤمنين، أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجت، فطلقت، فسئل رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أتحل للأول؟ قال: "لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول "، فلم ينكر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، وهذا

يدل على إباحة جمع الثلاث، وعلى وقوعها، إذ لو لم تقع، لم يوقف رجوعها إلى الأول على ذوق الثاني عسيلتها.
قالوا: وفي "الصحيحين" من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن فاطمة بنت قيس أخبرته أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثاً، ثم انطلق إلى اليمن، فانطلق خالد بن الوليد في نفر، فأتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت ميمونة أم المؤمنين، فقالوا: إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثاً، فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس لها نفقة وعليها العدة".
وفي "صحيح مسلم" في هذه القصة: قالت فاطمة، فأتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "كم طلّقك"؟ قلت: ثلاثاً، فقال: "صدوق ليس لك نفقة".
وفي لفظ له: قالت: يا رسول الله، إن زوجي طلقني ثلاثاً، وإني أخاف أن يقتحم علي.
وفي لفظ له: عنها، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المطلقة ثلاثاً: "ليس لها سكنى ولا نفقة".
قالوا: وقد روى عبد الرازق في "مصنفه" عن يحيى بن العلاء، عن عبيد الله بن الوليد الوصافي، عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت، عن داود بن عبادة بن الصامت، قال: طلق جدي امرأة له

ألف تطليقة، فانطلق أبي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر له ذلك، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما اتقى الله جدك، أما ثلاث فله، وأما تسعمائة وسبعة وتسعون فعدوان وظلم، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له".
ورواه بعضهم عن صدقة بن أبي عمران، عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جده، قال طلق بعض آبائي امرأته، فانطلق بنوه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: يا رسول الله، إن أبانا طلق أمنَا إلفاً، فهل له من مخرج؟ فقال: "إن أباكم لم يتق الله، فيجعل له مخرجاً، بانت منه بثلاث على غير السنة، وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقة".
قالوا: وروى محمد بن شاذان، عن معلي بن منصور، عن شعيب ابن زريق، أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه طلق امرأته وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بطلقتين أخريين عند القرءين الباقيين، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "يا ابن عمر، ما هكذا أمرك الله، أخطأت السنة"... وذكر الحديث، وفيه، فقلت: يا رسول الله، لو كنت طلقتها ثلاثاً، أكان لي أن أجمعها؟ قال: "لا، كانت تبين وتكون معصية".
قالوا: وقد روى أبو داود في "سننه": عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة، أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والله ما أردت إلا واحدة"؟

فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فطلقها الثانية في زمن عمر، والثالثة في زمن عثمان.
وفي جامع الترمذي: عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، عن جده، أنه طلق امرأته ألبته، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "ما أردت بها"؟ قال: واحدة، قال: "آلله"، قال: آلله، قال: "هو على ما أردت". قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث؟ فقال: فيه اضطراب.
ووجه الاستدلال بالحديث، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحلفه أنه أراد بالبتة واحدة، فدل على أنه لو أراد بها أكثر، لوقع ما أراده، ولو لم يفترق الحال لم يحلِّفه.
قالوا: وهذا أصح من حديث ابن جريج عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة، عن ابن عباس أنه طلقها ثلاثاً. قال أبو داود: لأنهم ولد الرجل، وأهله أعلم به أن ركانة إنما طلقها البتة.
قالوا: وابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع. فإن كان عبيد الله، فهو ثقة معروف، وإن كان غيره من إخوته، فمجهول العدالة لا تقوم به حجة.
قالوا: وأما طريق الإمام أحمد، ففيها ابن إسحاق، والكلام فيه معروف، وقد حكى الخطابي، أن الإمام أحمد كان يضعف طرق هذا الحديث كلها.
قالوا: وأصح ما معكم حديث أبي الصهباء عن ابن العباس، وقد قال البيهقي: هذا الحديث أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم، فأخرجه مسلم وتركه البخاري، وأظنه تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس،

ثم ساق الروايات عنه بوقوع الثلاث، ثم قال: فهذه رواية سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد وعكرمة، وعمرو بن دينار، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البكير، قال: ورويناه عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري، كلهم عن ابن عباس، أنه أجاز الثلاث وأمضاهن.
وقال ابن المنذر فغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً ثم يفتي بخلافه.
وقال الشافعي: فإن كان معنى قول ابن عباس: إن الثلاث كانت تحسب على عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحدة، يعني أنه بأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالذي يشبه - والله أعلم - أن يكون ابن عباس قد علم أنه كان شيئاً فنسخ. قال البيهقي: ورواية عكرمة عن ابن عباس فيها تأكيد لصحة هذا التأويل - يريد البيهقي -، ما رواه أبو داود والنسائي، من حديث عكرمة في قوله تعالى: {وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] الآية وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثاً، فنسخ ذلك، فقال: {الطَلاَقُ مَرَّتَان} [البقرة: 229].
قالوا: فيحتمل أن الثلاث كانت تجعل واحدة من هذا الوقت، بمعنى أن الزوج كان يتمكن من المراجعة بعدها، كما يتمكن من المراجعة بعد الواحدة، ثم نسخ ذلك.
وقال ابن سريج: يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص

من الطلاق الثلاث، وهو أن يفرق بين الألفاظ، كأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وكان في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعهد أبي بكر رضي الله عنه الناس على صدقهم وسلامتهم لم يكن فيهم الخِب والخداع، فكانوا يصدقون أنهم أرادوا به التأكيد. ولا يُريدون به الثلاثَ، فلما رأى عمر رضى الله عنه فى زمانه أموراً ظهرت، وأحوالاً تغيّرت، منع من حمل اللفظ على التكرار، وألزمهم الثلاث.
وقالت طائفة: معنى الحديث أنَّ الناس كانت عادتُهم على عهدِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيقاعَ الواحدة، ثم يدعها حتى تنقضىَ عدتُها، ثم اعتادوا الطلاقَ الثلاثَ جملة، وتتايَعُوا فيه، ومعنى الحديث على هذا: كان الطلاقُ الذى يُوقعه المطلق الآن ثلاثاً يُوقِعهُ على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبى بكر واحدة، فهو إخبارٌ عن الواقع، لا عن المشروع.
وقالت طائفة: ليس فى الحديث بيانُ أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذى كان يجعل الثلاثَ واحدة، ولا أنه أُعلم بذلك فأَقرَّ عليه، ولا حُجة إلا فيما قاله أو فعله، أو علم به فأقرَّ عليه، ولا يُعلم صحةُ واحدةً من هذه الأمور فى حديث أبى الصهباء.
قالُوا: وإذا اختلفت علينا الأحاديثُ، نظرنا إلى ما عليه أصحابُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنَّهم أعلمُ بسنته، فنظرنا فإذا الثابتُ عن عمر بن الخطاب الذى لا يَثْبُتُ عنه غيره ما رواه عبد الرزاق، عن سفيان الثورى، عن سلمة ابن كُهيل، حدثنا زيدُ بن وهب، أنه رُفِعَ إلى عمر بن الخطاب رجل طلق امرأته ألفاً، فقال له عمر: أطلقتَ امرأتَك؟ فقال: إنما كنتُ

ألعب، فعالجه عُمَرُ بالدِّرَّةِ، وقال: إنما يكفيك من ذلك ثلاث.وروى وكيع، عن الأعمشِ، عن حبيب بن أبى ثابت، قال: جاء رجل إلى على ابن أبى طالب، فقال: إنى طلقتُ امرأتى ألفاً، فقال له علىٌّ: بانت منك بثلاث، واقسِمْ سائِرَهن بينَ نسائك.
وروى وكيع أيضاً، عن جعفر بن بُرقان، عن معاوية بن أبى يحيى، قال: جاء رجلٌ إلى عثمان بنِ عفان، فقال: طلقتُ امرأتى ألفاً، فقال بانَتْ منك بثلاث.
وروى عبدُ الرزاق، عن سفيان الثورى، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بنِ جبير، قال: قال رجلٌ لابنِ عباس: طلقتُ امرأتى ألفاً، فقال له ابنُ عباس: ثلاثٌ تُحرِّمُها عليك، وبقيتُها عليك، وِزْر، اتخذت آيات الله هزواً.
وروى عبدُ الرزاق أيضاً، عن معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: إنى طلقتُ امرأتى تسعاً وتسعين، فقال له ابنُ مسعود: ثلاث تُبينها منك، وسائُرهن عُدوان.
وذكر أبو داود فى "سننه"، عن محمد ابن إياس، أن ابن عباس، وأبا هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، سُئِلُوا عن البِكر يُطلِّقُها زوجُها

ثلاثاً، فَكُلُّهم قال: لا تَحِلُّ له حتى تَنكِحَ زوجاً غيرَه.
قالوا: فهؤلاء أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما تسمعون قد أوقعوا الثلاثَ جملةً، ولو لم يكن فيهم إلا عمر المحدِّث المُلْهَمُ وحدَه، لكفى، فإنه لا يُظن به تغييرُ ما شرعه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الطلاق الرجعى، فيجعله محرَّماً، وذلك يتضمَّن تحريمَ فرج المرأه على من تَحْرُمْ عليه، وإباحته لمن لا تَحِلُّ له، ولو فعل ذلك عمر، لما أقرَّه عليه الصحابةُ، فضلاً عن أن يُوافقوه، ولو كان عندَ ابنِ عباس حجة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الثلاثَ واحدةٌ لم يُخَالِفْها. ويُفتى بغيرها موافقةً لعمر، وقد علم مخالفته له فى العَوْل، وحجب الأم بالاثنين من الإخوة والأخوات، وغير ذلك.
قالوا: ونحنُ فى هذه المسألة تبع لأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ أعلمُ بسنته وشرعه، ولو كان مستقراً مِن شريعته أن الثلاثَ واحدة وتُوفِّى والأمر على ذلك لم يَخْفَ عليهم، ويعلمه مَنْ بعدهم، ولم يُحْرَمُوا الصَّواب فيه، ويُوفَّق له مَنْ بعدهم، ويروى حبرُ الأمة وفقيهُها خبرَ كونِ الثلاث واحدة ويُخالفه.
قال المانعون من وقوع الثلاث: التحاكُم فى هذه المسألة وغيرها إلى من أقسم اللهُ سبحانه وتعالى أصدقَ قَسَمٍ، وأبره، أنا لا نُؤْمِنُ حتى نُحَكِّمَه فيما شَجَرَ بيننا، ثم نَرضى بحُكمِه، ولا يلحقُنا فيه حرجٌ، ونسلِّم له تسليماً لا إلى غيره كائناً مَنْ كان، اللهم إلا أن تُجمِعَ أمته إجماعاً متيقناً لا نشكُّ فيه على حُكم، فهو الحقُّ الذى لا يجوز خلافُه، ويأبى الله أن تجتمع الأمة على خلاف سنة ثابتة عنه أبداً، ونحن قد أوجدناكُم من الأدلة ما تثبتُ المسألة به، بل وبدُونه، ونحن نُناظركم فيما طعنتم به فى

تلك الأدلة، وفيما عارضتمونا به على أنا لا نحكِّم على أنفسنا إلا نصَّاً عن الله، أو نصاً ثابتاً عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،أو إجماعاً متيقَّناً لا شكَّ فيه، وما عدا هذا فعُرضة للنزاع، وغايتُه أن يكون سائغَ الاتِّباع لا لازمهَ، فلتكن هذه المقدمة سلفاً لنا عندكم، وقد قال تعالى: {فإنْ تَنَازَعْتُمْ فى شَىءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ، فقد تنازعنا نحن وأنتم فى هذه المسألة، فلا سبيلَ إلى ردِّها إلى غير الله ورسوله ألبتة، وسيأتى أننا أحقُّ بالصحابة، وأسعدُ بهم فيها، فنقول:
أمَّا منعُكم لتحريمِ جمعِ الثلاث، فلا ريبَ أنها مسألة نزاع، ولكن الأدلة الدالة على التحريم حجةٌ عليكم.
أما قولكم: إن القرآن دل على جواز الجمع، فدعوى غيرُ مقبولة، بل باطلة، وغايةُ ما تمسكتم به إطلاقُ القرآن للفظ الطلاق، وذلك لا يعمُّ جائزه ومحرَّمه، كما لا يدخل تحتَه طلاقُ الحائض، وطلاقُ الموطوءة فى طهرها، وما مَثَلُكُم فى ذلك إلا كَمَثَلِ مَنْ عارض السنة الصحيحةَ فى تحريم الطلاق المحرم بهذه الإطلاقات سواء، ومعلوم أن القرآن لم يدلَّ على جواز كل طلاق حتى تُحمِّلوه ما لا يُطيقه، وإنما دلَّ على أحكام الطلاق، والمُبيِّنُ عن اللهِ عز وجلَّ بَيَّنَ حَلالَه وحَرَامه، ولا ريب أنا أسعدُ بظاهر القرآن كما بينا فى صدر الاستدلال، وأنه سبحانه لم يشرع قط طلاقاً بائناً بغيرِ عوض لمدخول بها، إلا أن يكونَ آخرَ العدد، وهذا كتابُ الله بيننَا وبينَكم، وغايةُ ما تمسكتم به ألفاظ مطلقة قيَّدتْها السنة، وبينت شروطها وأحكامها.
وأما استدلالُكم بأن الملاعِنَ طلَّق امرأته ثلاثاً بحضرة رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما أصحَّه مِن حديث، وما أبعدَهُ مِن استدلالكم على جواز الطلاق الثلاث

بكلمة واحدة في نكاح يقصد بقاؤه ودوامه ، ثم المستدل بهذا إن كان ممن يقول : إن الفرقة وقعت عقيب لعان الزوج وحده ، كما يقوله الشافعي ، أو عقيب لعانهما وإن لم يفرق الحاكم ، كما يقوله أحمد في إحدى الروايات عنه ، فالإستدلال به باطل ، لأن الطلاق الثلاث حينئذ لغو لم يفد شيئاً ، وإن كان ممن يوقف الفرقة على تفريق الحاكم ، لم يصح الإستدلال به أيضاً لأن هذا النكاح لم يبق سبيل إلى بقائه ودوامه ، بل هو واجب الإزالة ، ومؤبد التحريم ، فالطلاق الثلاث مؤكد لمقصود اللعان ، ومقرر له ، فإن غايته أن يحرمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره ، وفرقة اللعان تحرمها عليه على الأبد ، ولا يلزم من نفوذ الطلاق في نكاح قد صار مستحق التحريم على التأبيد نفوذه في نكاح قائم مطلوب البقاء والدوام ، ولهذا لو طلقها في هذا الحال وهي حائض ، أو نفساء أو في طهر جامعها فيه ، لم يكن عاصياً ، لأن هذا النكاح مطلوب الإزالة مؤيد التحريم ، ومن العجب أنكم متمسكون بتقرير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذا الطلاق المذكور ، ولا تتمسكون بإنكاره وغضبه للطلاق الثلاث من غير الملاعن ، وتسميته لعباً بكتاب الله كما تقدم ، فكم بين هذا الإقرار وهذا الإنكار ؟ ونحن بحمد الله قائلون بالأمرين ، مقرون لما أقره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، منكرون لما أنكره .
وأما استدلالكم بحديث عائشة رضي الله عنها ، أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً فتزوجت ، فسئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، هل تحل للأول ؟ قال : " لا حتى تذوق العسيلة " ، فهذا لا ننازعكم فيه ، نعم هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني ، ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد ، بل الحديث حجة لنا ، فإنه لا يقال : فعل ذلك ثلاثاً ، وقال ثلاثاً إلا من فعل ، وقال : مرة بعد مرة ، هذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم ، كما يقال : قذفه ثلاثاً ، وشتمه ثلاثاً ، وسلم عليه ثلاثاً .

قالوا: وأما استدلالُكم بحديثِ فاطمة بنت قيس، فَمِنَ العجب العُجاب، فإنكم خالفتُموه فيما هو صريحٌ فيه لا يقبلُ تأويلاً صحيحاً، وهو سقوطُ النفقة والكِسوة للبائن مع صحته وصراحته، وعدم ما يُعارِضُه مقاوماً له، وتمسكتُم به فيما هو مجمل، بل بيانُه فى نفس الحديث مما يُبطِلُ تعلُّقكم به، فإن قوله: طلَّقها ثلاثاً ليس بصريح فى جمعها، بل كما تقدم، كيف وفى "الصحيح" فى خبرها نفسِه مِن رواية الزهرى، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عُتبة، أن زوجَها أرسل إليها بتطليقةٍ كانت بَقيت لها مِن طلاقِها وفى لفظ فى "الصحيح": أنه طلقها آخِرَ ثلاثٍ تطليقاتٍ، وهو سند صحيح متصل مثلُ الشمس، فكيف ساغ لكم تركه إلى التمسك بلفظ مجملٍ، وهو أيضاً حجةٌ عليكم كما تقدم؟.
قالوا: وأما استدلالُكم بحديثِ عُبادة بنِ الصامت الذى رواه عبد الرزاق، فخبر فى غاية السقوط، لأن فى طريقه يحيى بن العلاء، عن عُبيد الله بن الوليد الوصَّافى، عن إبراهيم بن عبيد الله ضعيف، عن هالك، عن مجهول، ثم الذى يدلُّ على كذبه وبُطلانه، أنه لم يعرف فى شىء من الآثار صحيحها ولا سقيمها، ولا متصلها ولا منقطعها، أن والد عبادة بن الصامت أدرك الإسلام، فكيف بجده، فهذا محال بلا شك. وأما حديث عبد الله بن عمر، فأصلُه صحيحٌ بلا شك، لكن هذه الزيادة والوصلة التى فيه: فقلتُ: يا رسولَ الله: لو طلقتُها ثلاثاً أكانت تَحِلُّ لى؟ إنما جاءت من رواية شعيب بن زُريق، وهو الشامى، وبعضهم يقلبه فيقولُ: زُريق بن شعيب، وكيفما كان، فهو ضعيف، ولو صحَّ، لم يكن فيه

حجة، لأن قوله: لو طلقتها ثلاثاً بمنزلة قوله: لو سلمت ثلاثاً، أو أقررت ثلاثاً، أو نحوه مما لا يُعقل جمعُه.
وأما حديثُ نافِع بن عجير الذى رواه أبو داود، أن ركانة طلق امرأته ألبتة، فأحلفه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أرادَ إلا واحدة، فمن العجب تقديمُ نافع ابن عجير المجهول الذي لا يُعرف حاله ألبتة، ولا يُدرى من هو، ولا ما هو على ابن جريج، ومعمر، وعبد الله بن طاووس فى قصة أبى الصهباء، وقد شهد إمامُ أهل الحديث محمدُ بن إسماعيل البخارى بأن فيه اضطراباً، هكذا قال الترمذى فى الجامع، وذكر عنه فى موضع آخر: أنه مضطرب. فتارةً يقول: طلقها ثلاثاً، وتارةً يقول: واحدةً، وتارة يقول: البتة، وقال الإمام أحمد: وطرقه كُلُّها ضعيفة، وضعفه أيضاً البخارى، حكاه المنذرى عنه.ثم كيف يُقدَّم هذا الحديثُ المضطربُ المجهولُ رواية على حديث عبد الرزاق عن ابن جريج لِجهالة بعض بنى أبى رافع، هذا وأولادُه تابعيون، وإن كان عبيد الله أشهرَهم، وليس فيهم متهم بالكذب، وقد روى عنه ابنُ جُريج، ومَنْ يقبلُ روايةَ المجهول، أو يقولُ: روايةُ العدل عنه تعديلٌ له، فهذا حجةٌ عنده، فأمَّا أن يُضعِّفَه ويُقَدِّمَ عليه روايةَ من هو مثلُه فى الجهالة، أو أشدُّ، فكلاَّ، فغايةُ الأمر أن تتساقَط روايتا هذين المجهولين، يُعْدَل إلى غيرهما، وإذا فعلنا ذلك، نظرنا فى حديث سعد بن إبراهيم، فوجدناه صحيح الإسناد، وقد زالت علةُ تدليسِ محمد ابن إسحاق بقوله: حدثنى داود بن الحصين، وقد احتج أحمد بإسناده فى مواضع، وقد

صحح هو وغيرُه بهذا الإسناد بعينه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردَّ زينبَ على زوجِها أبى العاص بن الربيع بالنِّكاحِ الأوَّلِ، ولم يُحدث شيئاً.
وأما داودُ بن الحُصين، عن عكرمة، فلم تزل الأئمة تحتجُّ به، وقد احتجُّوا به فى حديث العَرَايا فيما شُكَّ فيه، ولم يُجْزَمْ به مِن تقديرها بخمسة أوسُق أو دونَها مع كونِها على خلاف الأحاديث التى نهى فيها عن بيع الرُّطَبِ بالتمرِ، فما ذنبه فى هذا الحديث سوى رواية ما لا يقولون به، وإن قدحتُم فى عكرمة ولعلكم فاعِلون جاءكم ما لا قِبَلَ لكُم به من التناقض فيما احتججتُم به أنتُم وأئمةُ الحديث مِن روايته، وارتضاء البخارى لإدخال حديثه فى "صحيحه".
فصل
وأما تلك المسالك الوَعْرَةُ التى سلكتموها فى حديثِ أبى الصهباء، فلا يَصِحُّ شىء منها.
أما المسلكُ الأول، وهو انفرادُ مسلم بروايته، وإعراضُ البخارى عنه، فَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْهُ عَارُهَا، وما ضرَّ ذلك الحديثَ انفرادُ مسلم به شيئاً، ثم هل تقبلون أنتم، أو أحدٌ مثل هذا فى كُلِّ حديثٍ يَنْفَرِدُ به مسلم عن البخارى، وهل قال البخارىُّ قطُّ: إن كُلِّ حديث لم أُدْخِلْه فى كتابى، فهو باطل، أو ليس بحجة، أو ضعيف، وكم قد احتج البخارىُّ بأحاديث خارجَ الصحيح ليس لها ذكر فى "صحيحه"، وكم صحَّح

مِن حديث خارجٍ عن صحيحه. فأما مخالفةُ سائرِ الروايات له عن ابن عباس، فلا ريبَ أن عن ابن عباس روايتين صحيحتين بلا شك. إحداهُهما: تُوافق هذا الحديثَ، والأُخرى: تُخالفه، فإن أسقطنا رواية برواية، سَلِمَ الحديثُ على أنه بحمد الله سالم. ولو اتفقتِ الرواياتُ عنه على مخالفته، فله أسوةُ أمثاله، وليس بأوَّلِ حديث خالفه روايه، فنسألكم: هل الأخذُ بما رواه الصحابى عندكم، أو بما رآه؟ فإن قلتم: الأخذُ بروايته، وهو قولُ جمهوركم، بل جمهورُ الأمة على هذا، كفيتُمونا مؤونة الجوابِ. إن قلتُم: الأخذُ برأيه، أَريناكُم مِن تناقضكم ما لا حِيلة لكم فى دفعه، ولا سيما عن ابن عباس نفسِه، فإنه روى حديث بَريرة وتخييرها، ولم يكن بيعُها طلاقاً، ورأى خلافَه، وأن بيعَ بالأمة طلاقُها، فأخذتُم وأصبتُم بِروايته، وتركتم رأيه، فهلا فعلتُم ذلك فيما نحن فيه، وقلتم: الرواية معصومة، وقولُ الصحابى غيرُ معصوم، ومخالفته لما رواه يحتمِلُ احتمالاتٍ عديدة من نسيان أو تأويل، أو اعتقاد مُعارِض راجحٍ فى ظنه، أو اعتقادِ أنه منسوخ أو مخصوص، أو غير ذلك من الاحتمالات، فكيف يسوغُ ترك روايته مع قيام هذه الاحتمالات؟ وهل هذا إلا تركُ معلوم لِمظنون، بل مجهول؟ قالوا: وقد روى أبو هريرة رضى الله عنه حديثَ التسبيعِ من ولُوغ الكلب، وأفتى بخلافه، فأخذتُم بروايته، وتركتُم فتواه. ولو تتبعنا ما أخذتُم فيه بروايةِ الصحابى دونَ فتواه، لطال.
قالُوا: وأما دعواكم نسخ الحديث، فموقوفة على ثبوت معارض

مُقاوم متراخ، فأين هذا؟
وأما حديثُ عكرمة، عن ابن عباس فى نسخ المراجعة بعد الطلاق الثلاث، فلو صحَّ، لم يكن فيه حجة، فإنه إنما فيه أن الرَّجل كان يُطَلِّقُ امرأته ويُراجعها بغير عدد، فنُسِخَ ذلك، وقُصِرَ على ثلاث، فيها تنقطع الرجعة، فأين فى ذلك الإلزام بالثلاث بفم واحد، ثم كيف يستمرُّ المنسوخ على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبى بكر، وصدراً من خلافة عمر، لا تعلم به الأمة، وهو من أهم الأمور المتعلقة بحل الفروج، ثم كيف يقول عمر: إن الناس قد استعجلوا فى شىء كانت لهم فيه أناة، وهل للأمة أناة فى المنسوخ بوجه ما؟، ثم كيف يُعارض الحديثُ الصحيحُ بهذا الذى فيه على بن الحسين ابن واقد، وضعفُه معلوم؟
وأما حملُكم الحديثَ على قول المطلِّق: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق، ومقصودُه التأكيد بما بعد الأول، فسياقُ الحديث مِن أوله إلى آخره يردُّه، فإنَّ هذا الذى أوَّلتم الحديثَ عليه لا يتغيرُ بوفاةِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يختِلفُ على عهده وعهدِ خُلفائه، وهَلُمَّ جراً إلى آخر الدهر، ومن ينويه فى قصد التأكيد لا يُفَرِّقُ بين بَرٍّ وفاجر، وصادق وكاذب، بل يردُّه إلى نيته، وكذلك مَن لا يقبله فى الحكم لا يقبلُه مطلقاً بَراً كان أو فاجراً.
وأيضاً فإن قوله: إن الناس قد استعجلوا وتتابعوا فى شىء كانت لهم فيه أناة، فلو أنا أمضيناه عليهم. إخبار من عمر بأن الناس قد استعجلوا ما جعلهم الله فى فُسحة منه، وشَرَعَهُ متراخياً بعضه عن بعض رحمةً بهم، ورفقاً وأناة لهم، لئلا يندم مطلِّق، فيذهب حبيبُه مِن يديه مِن أول وهلة،

فَيَعِزُّ عليه تدارُكه، فجعل له أناةً ومُهلةً يستعتِبُه فيها، ويرضيه ويَزولُ ما أحدثه العتبُ الداعى إلى الفراقُ، ويُراجع كُلٌّ منهما الذى عليه بالمعروف، فاستعجلوا فيما جعل لهم فيه أناة ومُهلة، وأوقعوه بفم واحد، فرأى عمر رضى الله عنه أنه يلزمُهم ما التزموه عقوبةً لهم، فإذا عَلِمَ المطلِّق أن زوجته وسكنه تحرُم عليه من أول مرة بجمعه الثلاثَ، كفَّ عنها، ورجع إلى الطلاق المشروع المأذون فيه، وكان هذا مِن تأديب عمر لرعيته لما أكثرُوا مِن الطلاق الثلاث، كما سيأتى مزيدُ تقريره عند الاعتذار عن عمر رضى الله عنه فى إلزامه بالثلاث، هذا وجهُ الحديث الذى لا وجه له غيرُه، فأين هذا من تأويلكم المستكرَهِ المستبعَدِ الذى لا تُوافقه ألفاظُ الحديث، بل تنبُو عنه، وتُنافره.
وأما قولُ مَنْ قال: إن معناه كان وقوعَ الطلاق الثلاث الآن على عهدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحدةً، فإن حقيقة هذا التأويل: كان الناس على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطَلِّقُونَ واحدة، وعلى عهد عمر صاروا يطلِّقون ثلاثاً، والتأويلُ إذا وصل إلى هذا الحد، كان مِن باب الالغاز والتحريف، لا من باب بيان المراد، ولا يَصِحُّ ذلك بوجه ما، فإن الناسَ ما زالوا يُطلِّقون واحدة وثلاثاً، وقد طلَّق رجالٌ نساءهم على عهد رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثاً، فمنهم من ردَّها إلى واحدة، كما فى حديث عكرمة عن ابن عباس. ومنهم من أنكر عليه، وغَضِبَ، وجعله متلاعباً بكتاب الله، ولم يُعْرَفْ ما حكم به عليهم، وفيهم من أقَّره لتأكيد التحريم الذى أوجبه اللعان، ومنهم من ألزمه بالثلاث، لكون ما أتى به من الطلاق آخر الثلاث، فلا يَصِحُّ أن يقال: إن الناس ما زالوا يطلقون واحدة إلى أثناء خلافة عمر، فطلقوا ثلاثاً، ولا يَصِحُّ أن يقال: إنهم قد استعجلوا فى شىء كانت لهم فيه أناة، فنمضيه عليهم، ولا يُلائم هذا الكلام الفرق بين عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

وبين عهده بوجه ما، فإنه ماضِ منكم على عهده وبعدَ عهده.
ثم إن فى بعض ألفاظِ الحديث الصحيحة: ألم تعلم أنه من طلَّق ثلاثاً جُعِلَتْ وَاحِدَة على عهد رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفى لفظ: أما عَلِمْتَ أن الرجل كان إذا طلَّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبى بكر، وصدراً من خلافة عمر، فقال ابن عباس: بلى كان الرجلُ إذا طلَّق امرأتَه ثلاثاً قبل أن يدخُلَ بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبى بكر، وصدراً من إمارة عمر، فلما رأى الناس يعنى عمر قد تتايعوا فيها، قال: أجيزوهن عليهم، هذا لفظُ الحديث، وهو بأصح إسناد، وهو لا يحتمِلُ ما ذكرتُم من التأويل بوجه ما، ولكن هذا كله عَمَلُ من جعل الأدلة تبعاً للمذهب، فاعتقد، ثم استدل. وأما من جعل المذهب تبعاً للدليل، واستدل، ثم اعتقد، لم يمكنه هذا العمل.
وأما قول من قال: ليس فى الحديث بيانُ أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان هَوُ الذى يجعلُ ذلك، ولا أنه علم به، وأقرَّه عليه، فجوابه أن يقال: سُبْحَانَك هذا بهتان عظيم أن يستمِرَّ هذا الجعلُ الحرام المتضمِّن لتغيير شرع الله وَدِينه، وإباحة الفَرْجِ لمن هو عليه حرامٌ، وتحريمُه على من هو عليه حلالٌ على عهدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه خير الخلف، وهم يفعلونه، ولا يعلمونه، ولا يعلمه هو، والوحى يَنْزِلُ عليه، وهو يُقِرُّهم عليه، فَهَبْ أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يعلمُه، وكان الصحابةُ يعلمونه، ويُبدِّلون دينَه وشرعَه، واللهُ يعلمُ ذلك، ولا يُوحيه إلى رسوله، ولا يُعلمه به، ثم

يتوفَّى اللهُ رسولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمرُ علي ذلك، فيستمِرُّ هذا الضلالُ العظيم، والخطأُ المبين عند كم مدة خِلافةِ الصديق كُلِّها، يُعْمَلُ به ولا يُغيَّر إلى أن فارق الصديقُ الدنيا، واستمر الخطأ والضلالُ المركَّب صدراً مِن خلافة عمر، حتى رأي بعد ذلك برأيه أن يُلزِمَ الناسَ بالصَّواب، فهل فى الجهل بالصحابة، وما كانُوا عليهم فى عهد نبيهم وخلفائه أقبحُ من هذا، وتَاللِّهِ لو كان جعلُ الثَلاث واحدةً خطأً محضاً، لكان أسهلَ من هذا الخطأ الذى ارتكبتموه، والتأويلِ الذى تأولتموه، ولو تركتم المسألةَ بهيأتها، لكان أقوى لِشأنها من هذه الأدلة والأجوبة.
قالُوا: وليس التحاكُم فى هذه المسألة إلى مقلِّد متعصِّبٍ، ولا هيَّابٍ للجمهور، ولا مستوحِش مِن التفرُّد إذا كان الصوابُ فى جانبه، وإنما التحاكُم فيها إلى راسخٍ فى العلم قد طال فيه باعُه، ورحُبَ بنيله ذِرَاعُه، وفرَّق بين الشبهة والدليل، وتلقَّى الأحكامَ مِن نفس مِشكاة الرسول، وعرفَ المراتبَ، وقام فيها بالواجبِ، وباشر قلبُه أسرارَ الشريعة وحِكَمَها الباهِرَة، وما تضمَّنته مِن المصالح الباطنة والظاهرة، وخاض فى مثل هذه المضايق لُججها، واستوفى مِن الجانبين حُجَجَها، والله المستعانُ، وعليه التُّكلان.
قالوا: وأما قولُكم: إذا اختلفت علينا الأحاديثُ، نظرنا فيما عليه الصحابةُ رضى الله عنهم، فنعم واللهِ وحيَّهلا بِيَرَكِ الإسلام، وعِصابة الإيمان.
فَلاَ تَطَلَّبْ لِىَ الأَعْوَاضَ بَعْدَهُمُ ... فَإِنَّ قَلْبِىَ لاَ يَرْضَى بِغَيْرِهم
ولكن لا يليق بكم أن تدعونا إلى شىء، وتكونُوا أول نافرٍ عنه،

ومخالفٍ له، فقد تُوفى النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكثرَ مِن مائة ألف عَيْنٍ كُلُّهم قد رآه وسَمِعَ منه، فهل صَحَّ لكُم عن هؤلاء كُلِّهم، أو عُشْرِهم، أو عُشْرِ عشرهم، أو عُشرِ عُشْرِ عُشْرِهِم القولُ بلزوم الثلاثِ بفمٍ واحد؟ هذا ولو جَهِدْتُم كُلِّ الجهد لم تُطيقوا نقلَه عن عشرين نفساً منهم أبداً مع اختلافٍ عنهم فى ذلك، فقد صحَّ عن ابن عباس القولان، وصحَّ عن ابن مسعود القولُ باللزوم، وصحَّ عنه التوقف، ولو كاثرنَاكُم بالصحابة الذين كان الثلاثُ على عهدهم واحدةً، لكانوا أضعافَ من نُقِلَ عنه خلافُ ذلك، ونحن نُكاثِرُكم بكُلِّ صحابى مات إلى صدرٍ مِن خلافة عمر، ويكفينا مقدَّمُهم، وخيرُهم وأفضلُهم، ومن كان معه من الصحابة على عهده، بل لو شئنا لقلنا، ولصدقنا: إن هذا كان إجماعاً قديماً لم يَخْتَلِفْ فيه على عهد الصديق اثنانِ، ولكن لم ينقرِضْ عصرُ المجمعين حتى حدث الاختلافُ، فلم يستقرَّ الإجماعُ الأول حتى صار الصحابةُ على قولين، واستمرَّ الخلافُ بين الأمة فى ذلك إلى اليوم، ثم نقول: لم يُخالف عمر إجماعَ من تقدَّمه، بل رأى إلزامَهم بالثلاثِ عقوبةً لهم لما عَلِمُوا أنه حرام، وتتايعُوا فيه، ولا ريبَ أن هذا سائغ للأئمة أن يُلزموا الناسَ بما ضيَّقوا به على أنفسهم، ولم يقبلوا فيه رخصةَ الله عز وجل وتسهيلَه، بل اختاروا الشدة والعُسر، فكيف بأميرِ المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب رضى الله عنه، وكمال نظره للأمة، وتأديبه لهم، ولكن العقوبة تختلفُ باختلافِ الأزمنة والأشخاص، والتمكن من العلم بتحريم الفعل المعاقب عليه وخفائه، وأمير المؤمنين عمر رضى الله عنه لم يَقُلْ لهم: إن هذا عن رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما هو رأي رآه مصلحةً للأمة يكفُّهم بها عن التسارع إلى إيقاع الثلاث، ولهذا قال:

فلو أنا أمضيناهُ عليهم، وفى لفظ آخر:
"فأجيزوهن عليهم" أفلا يُرى أن هذا رأي منه رآه للمصلحة لا إخبارٌ عن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما علم رضى الله عنه أن تلك الأناة والرخصة نعمة من الله على المطلِّق، ورحمةٌ به، وإحسانٌ إليه، وأنه قابلها بضدِّها، ولم يقبل رخصةَ الله، وما جعله له من الأناة عاقبه بأن حال بينه وبينها، وألزمه ما ألزمه مِن الشدة والاستعجال، وهذا موافقٌ لقواعد الشريعة، بل هو موافق لحكمة الله فى خلقه قدراً وشرعاً، فإن الناس إذا تعدَّوا حدودَه، ولم يَقِفُوا عندها، ضيَّق عليهم ما جعله لمن اتقاه من المخرج، وقد أشار إلى هذا المعنى بعينه مَنْ قال مِن الصحابة للمطلِّق ثلاثاً: إنك لو اتقيتَ الله، لجعل لك مخرجاً، كما قاله ابن مسعود، وابنُ عباس. فهذا نظر أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة، لا أنه رضى الله عنه غيَّرَ أحكام الله، وجعل حلالها حراماً، فهذا غايةُ التوفيق بين النصوص، وفعل أمير المؤمنين ومن معه، وأنتم لم يُمكنكم ذلك إلا بإلغاء أحد الجانبين، فهذا نهاية أقدام الفريقين فى هذا المقام الضَّنْكِ، والمعترَكِ الصَّعبِ، وبالله التوفيق.

حُكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العبد يُطلِّقُ زوجتَه تطليقتين، ثم يُعتَقُ بعد ذلك، هل تَحِلُّ له بدون زوج وإصابة؟
روى أهلُ السنن: مِن حديث أبى الحسن مولى بنى نوفل، أنه استفتى ابنَ عباس فى مملوكٍ كانت تحته مملوكة، فطلقها تطليقتين، ثم عُتِقا بعد ذلك، هل يصلُح له أن يخطُبَها؟ قال: نعم قضى بذلك رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفى لفظ: قال ابنُ عباس: بَقِيَتْ لك واحدةٌ، قضى به رسولُ الله.
قال الإمام أحمد: عن عبد الرازق، أن ابنَ المبارك قال لمعمر: من أبو حسن هذا؟ لقد تحمَّل صخرةً عظيمة انتهى.
قال المنذرى: وأبو حسن هذا قد ذُكِرَ بخير وصلاح، وقد وثقه أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان غير أن الراوي عنه عمر بن معتب وقد قال على بن المدينى: هو منكرُ الحديث، وقال النسائى: ليس بالقوى.
وإذا عُتِقَ العبدُ والزوجة فى حِباله، ملك تمامَ الثلاث، وإن عُتِقَ وقد طلَّقها اثنتين، ففيها أربعةُ أقوال للفقهاء.
أحدها: أنها لا تحِلُّ له حتى تنكِحَ زوجاً غيره حرة كانت أو أمة، وهذا قولُ الشافعى، وأحمد فى إحدى الروايتين بناء على أن الطلاقَ بالرجال، وأن العبدَ إنما يملِكُ طلقتين ولو كانت زوجتُه حرة.
والثانى: أن له أن يعقِدَ عليها عقداً مستأنفاً مِن غير اشتراط زوج وإصابة،

كما دلَّ عليه حديثُ عُمر بن معتِّب هذا، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وهو قولُ ابن عباس، وأحدُ الوجهين للشافعية، ولهذا القول فقه دقيق، فإنها إنما حرمتها عليه التطليقتانِ لنقصه بالرق، فإذا عُتِقَ وهى فى العدة، زال النقصُ، ووُجِدَ سببُ ملك الثلاث، وآثارُ النكاح باقية، فملك عليها تمامَ الثلاث، وله رجعتُها، وإن عُتقَ بعد انقضاءِ عدتها، بانت منه، وحلَّت له بدون زوجٍ وإصابة، فليس هذا القولُ ببعيد فى القياس.
والثالث: أن له أن يَرتَجعَها فى عِدتها، وأن ينكحها بعدها بدون زوج وإصابة، ولو لم يعتق، وهذا مذهبُ أهل الظاهر جميعِهم، فإن عندهم أن العبد والحرَّ فى الطلاق سواء.
وذكر سُفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبى معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضى الله عنهما: أن عبداً له طلَّق امرأته تطليقتين، فأمره ابنُ عباس أن يُراجِعَها، فأبى، فقال ابنُ عباس: هى لك فاستحِلَّها بملك اليمين.
والقول الرابع: أن زوجتَه إن كانت حرةً، ملك عليها تمامَ الثلاث، وإن كانت أمةً، حرمت عليه حتى تنكِحَ زوجاً غيره، وهذا قولُ أبى حنيفة.
وهذا موضع اختلف فيه السلفُ والخلف على أربعة أقوال.
أحدها: أن طلاقَ العبد والحر سواء، وهذا مذهبُ أهل الظاهر جميعهم، حكاه عنهم أبو محمد بن حزم، واحتجُّوا بعُموم النصوص الواردة فى الطلاق، وإطلاقها، وعدم تفريقها بين حر وعبد، ولم تُجمِعِ الأمةُ على التفريق، فقد صحَّ عن ابن عباس أنه أفتى غلاماً له برجعة زوجته بعد طلقتين، وكانت أمة. وفى هذا النقلِ عن ابن عباس نظر، فإن عبد الرزاق روى عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، أن أبا معبد أخبره،

أن عبداً كان لابن عباس، وكانت له امرأة جارية لابن عباس، فطلقها فبتَّها، فقال له ابنُ عباس: لا طلاق لك فارجعها.
قال عبدُ الرزاق: حدثنا معمر، عن سِماك بن الفضل، أن العبد سأل ابن عمر رضى الله عنهما، فقال: لا ترجع إليها وإن ضُرِب رأسُكَ.
فمأخذ هذه الفتوى، أن طلاق العبد بيد سيده، كما أن نِكاحَه بيده، كما روى عبد الرحمن بن مهدى، عن الثورى، عن عبد الكريم الجزرى، عن عطاء، عن ابن عباس قال: ليس طلاق العبد ولا فرقته بشىء.
وذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن أبى الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول فى الأمة والعبد: سيِّدُهما يجمعُ بينهما، ويفرق، وهذا قول أبى الشعثاء، وقال الشعبى: أهلُ المدينة لا يرون للعبد طلاقاً إلا بإذن سيده، فهذا مأخذُ ابن عباس، لا أنه يرى طلاق العبد ثلاثاً إذا كانت تَحته أمة، وما علمنا أحداً من الصحابة قال بذلك.
والقول الثانى: أن أَىَّ الزوجين إن رُق كان الطلاقُ بسبب رقه اثنتين، كما روى حمادُ بن سلمة، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: الحرُّ يُطلق الأمة تطليقتين، وتعتدُّ بحيضتين، والعبدُ يطلِّق الحرة تطليقتين، وتعتد ثلاث حِيض، وإلى هذا ذهب عثمان البتِّى.
والقولُ الثالث: أن الطلاق بالرجال، فيملِكُ الحرُّ ثلاثاً. وإن كانت زوجته أمة، والعبد ثنتين وإن كانت زوجته حرة، وهذا قولُ الشافعى ومالك وأحمد فى ظاهر كلامه، وهذا قولُ زيد بن ثابت، وعائشة، وأمِّ سلمة

أمَّى المؤمنين، وعثمانَ بن عفان، وعبدِ الله بن عباس، وهذا مذهب القاسم، وسالم، وأبى سلمة، وعمر بن عبد العزيز، ويحيى بن سعيد، وربيعة، وأبى الزناد،وسليمان بن يسار، وعمرو بن شعيب، وابنِ المسيّب، وعطاء.
والقول الرابع: أن الطلاقَ بالنساء كالعِدة، كما روى شعبة عن أشعث بن سوَّار، عن الشعبى، عن مسروق، عن ابن مسعود. السنة: الطلاقُ والعِدةُ بالنساء.
وروى عبد الرزاق: عن محمد بن يحيى وغيرِ واحد، عن عيسى عن الشعبى عن اثنى عشر من صحابة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: الطلاق والعِدة بالمرأة، هذا لفظُه، وهذا قولُ الحسن، وابن سيرين، وقتادة، وإبراهيم، والشعبى، وعكرمة، ومجاهد، والثورى، والحسن بن حى، وأبى حنيفة وأصحابه.
فإن قيل: فما حُكْم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى هذه المسألة؟ قيل: قد قال أبو داود: حدثنا محمد بن مسعود، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن مظاهر بن أسلم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضى الله عنها، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "طَلاَقُ الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ، وقُرْؤُها حَيْضَتَانِ".
وروى زكريا بن يحيى الساجى، حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسى، حدثنا عُمَرُ بن شبيب المُسْلى، حدثنا عبد الله بن عيسي، عن عطيَّة، عن ابن عمر رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله: " طَلاَقُ الأَمَةِ ثِنْتَانِ، وعِدَّتُها حَيْضَتَانِ".

وقال عبدُ الرزاق: حدثنا بن جريج، قال: كتب إلىَّ عبدُ الله بن زياد بن سمعان، أن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصارى، أخبره عن نافع، عن أمِّ سلمة أم المؤمنين، أن غلاماً لها طلَّق امرأةً له حرةً تطليقتين، فاستفتت أمُّ سلمة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيرَه "، وقد تقدَّم حديثُ عمر بن معتِّب، عن أبى حسن، عن ابن عباس رضى الله عنه، ولا يُعرف عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيرُ هذه الآثار الأربعة على عُجَرِهَا وبُجَرِهَا.
أما الأولُ: فقال أبو داود: هو حديث مجهول، وقال الترمذى: حديث غريب لا نعِرفه إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا يُعرف له فى العلم غيرُ هذا الحديث انتهى. وقال أبو القاسم ابن عساكر فى "أطرافه" بعد ذكر هذا الحديث: روى أسامةُ بن زيد بن أسلم، عن أبيه، أنه كان جالساً عند أبيه، فأتاه رسولُ الأمير، فأخبره أنه سأل القاسمَ بن محمد، وسالم بن عبد الله عن ذلك، فقالا هذا، وقالا له: إن هذا ليسَ فى كتاب الله، ولا سنةِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن عَمِل به المسلمون. قال الحافظ: فدّل على أن الحديث المرفوعَ غيرُ محفوظ. وقال أبو عاصم النبيل: مظاهر ابن أسلم ضعيف، وقال يحيى بن معين: ليس بشىء، مع أنه لا يُعرف، وقال أبو حاتم الرازى: منكر الحديث. وقال البيهقى: لو كان ثابتاً لقُلنا به إلا أنّا نُثبتُ حديثاً يرويه من نجهل عدالته.

وأما الأثر الثانى: ففيه عمر بن شبيب المُسْلى ضعيف، وفيه عطية وهو ضعيف أيضاً.وأما الأثر الثالث: ففيه ابن سمعان الكذاب، وعبد الله بن عبد الرحمن مجهول.
وأما الأثر الرابع: ففيه عمر بن معتِّب، وقد تقدم الكلامُ فيه.
والذى سلم فى المسألة الآثار عن الصحابة رضى الله عنهم والقياس.
أما الآثار، فهى متعارضة كما تقدم، فليس بعضُها أولى من بعض، بقى القياسُ، وتجاذَبه طرفانِ: طرف المطلِّق، وطرف المطلَّقة. فمن راعى طرف المطَلِّق، قال: هو الذى يملِكُ الطلاق، وهو بيده، فيتنصَّفُ برقه كما يتنصَّف نصابُ المنكوحات برقه، ومن راعى طرف المطلَّقة، قال: الطلاقُ يقع عليها، وتلزمُها العدة والتحريم وتوابعُها، فَتنصَّف برقها كالعدة، ومن نصف برق أىِّ الزوجين كان راعى الأمرين، وأعملَ الشبهين، ومن كملهُ وجعله ثلاثاً رأى أن الآثار لم تثبت، والمنقولُ عن الصحابة، متعارِض، والقياسُ كذلك، فلم يتعلَّق بشىء من ذلك، وتمسَّك بإطلاق النصوص الدالة على أن الطلاق الرجعى طلقتان، ولم يُفرِّقِ اللهُ بين حر وعبد، ولا بينَ حرة وأمة، {ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيَّاً} [مريم: 64] قالوا: والحكمة التى لأجلها جعل الطلاق الرجعى اثنتين فى الحر والعبد سواءٌ، قالوا: وقد قال مالك: إن له أن ينكِحَ أربعاً كالحُرِّ، لأن حاجتَه إلى ذلك كحاجة الحر، وقال الشافعىُّ وأحمدُ: أجله فى الإيلاء كأجلِ الحر، لأن ضرر الزوجة فى الصورتين سواء. وقال أبو حنيفة: إن طلاقَه وطلاقَ الحر سواء إذا كانت امرأتاهما حرتينِ إعمالاً لإطلاق نصوص الطلاق، وعمومها للحر والعبد.

وقال أحمد بن حنبل والناسُ معه: صيامُه فى الكفارات كلِّها، وصيامُ الحر سواء، وحدُّه فى السرقة والشراب، وحدُّ الحر سواء. قالوا: ولو كانت هذه الآثارُ أو بعضُها ثابتاً، لما سبقتُمونا إليه، ولا غلبتُمونا عليه، ولو اتفقت اثارُ الصحابة لم نَعْدُهَا إلى غيرها، فإن الحقَّ لا يعدُوهم، وبالله التوفيق.

حُكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الطلاق بيدِ الزوج لا بيدِ غيره
قال الله تعالى :{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، وقال: {وإذا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحوهُنّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] فجعل الطلاق لمن نكح، لأن له الإمساك، وهو الرجعة، وروى ابن ماجه فى "سننه": من حديث ابن عباس، قال: أتى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ فقال: يا رسولَ الله، سيِّدى زوَّجنى أمتَه، وهو يُريد أن يفرِّق بينى وبينَها. قال: فَصَعِدَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنبرَ، فقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، إنَّما الطَّلاَقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ".
وقد روى عبدُ الرزاق، عن ابنِ جُريج، عن عطاء، عن ابنِ عباس رضى الله عنهما ؛ كان يقول: طلاقُ العبدِ بيدِ سيِّده، إن طلَّق، جاز، إن فرق، فهى واحدة إذا كانا له جميعاً، فإن كان العبدُ له، والأمةُ لغيره، طلَّق السيدُ أيضاً إن شاء.

وروى الثورىُّ، عن عبد الكريم الجزرى، عن عطاء، عنه: ليس طلاقُ العبد ولا فرقتُه بشىء.وذكر عبدُ الرزاق، حدثنا ابن جريج، أخبرنى أبو الزبير سمع جابراً يقول فى الأمة والعبد: سيدُهما يجمعُ بينهما ويُفرِّق.
وقضاءُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحقُّ أن يُتبع. وحديثُ ابن عباس رضى الله عنهما المتقدِّم، وإن كان فى إسناده ما فيه، فالقرآنُ يَعْضُدُه، وعليه عملُ الناس.
حُكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن طلَّق دونَ الثلاث، ثم راجعها بعدَ زوج أنها على بقية الطلاقِ
ذكر ابنُ المبارك، عن عثمانَ بنِ مِقْسَمٍ، أنه أخبره، أنه سمع نُبَيْهَ بنَ وهب، يُحدِّث عن رجل من قومه، عن رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى فى المرأة يُطلِّقُها زوجُها دونَ الثلاث، ثم يرتجِعُها بعد زوج أنها على ما بقى من الطلاق.
وهذا الأثر وإن كان فيه ضعيف ومجهول، فعليه أكابرُ الصحابة، كما ذكر عبد الرزاق فى "مصنفه"، عن مالك، وابن عيينة، عن الزُّهرى، عن ابن المسيِّب، وحُميد بن عبد الرحمن، وعُبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود، وسُليمان ابن يسار، كلهم يقول: سمعتُ أبا هُريرة يقول:

سمعتُ عمر بن الخطاب يقول: أيُّما امرأةٍ طلَّقها زوجُها تطليقةً أو تطليقتين، ثم تركها حتَّى تَنْكِحَ زوجاً غيره، فيموتَ عنها، أو يُطَلقَها ثم ينكحهَا زوجُها الأول، فإنها عنده على ما بقى مِن طلاقها.
وعن على بن أبى طالب، وأبى بن كعب، وعمران بن حصين رضى الله عنهم مثله.
قال الإمام أحمد: هذا قولُ الأكابر مِن أصحاب النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال ابنُ مسعود، وابنُ عمر، وابنُ عباس، رضى الله عنهم: تعودُ على الثلاث، قال ابنُ عباس رضى الله عنهما: نِكاح جديدٌ، وطلاقٌ جديد.
وذهب إلى القولِ الأوَّلِ أهلُ الحديث، فيهم أحمدُ، والشافعىُّ، ومالكُ، وذهب إلى الثانى أبو حنيفة، هذا إذا أصابها الثانى، فإن لم يُصبها فهى على ما بقى من طلاقها عند الجميع. وقال النخعى: لم أسمع فيها اختلافاً، ولو ثبت الحديثُ لكان فصلَ النزاع فى المسألة، ولو اتفقت اثارُ الصحابة، لكانت فصلاً أيضاً. وأما فقه المسألة فمتجاذب، فإن الزَّوج الثانى إذا هَدَمَتْ إصابتُه الثلاثَ، وأعادتها إلى الأول بطلاقٍ جديدٍ، فما دُونها أولى، وأصحابُ القول الأول يقولون: لما كانت إصابة الثانى شرطاً فى حِلِّ المطلقة ثلاثاً للأول لم يكن بُدٌّ مِن هدمها وإعادتها على طلاق جديدٍ، وأما مَنْ طُلِّقَت دونَ الثلاث،

فلم تُصادِف إصابة الثانى فيها تحريماً يُزيلُه، ولا هى شرطٌ فى الحِلِّ للأول، فلم تَهْدِمْ شيئاً، فوجودُها كعدمها بالنسبة إلى الأول، وإحلالها له، فعادت على ما بقى كما لو لم يُصبها، فإن إصابتَه لا أثر لها البتة، ولا نكاحه، وطلاقُه معلَّق بها بوجه ما، ولا تأثيرَ لها فيه.
حُكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المطلقة ثلاثاً لا تَحِلُّ للأول حتى يطأَهَا الزوجُ الثانى
ثبت فى "الصحيحين": عن عائشة رضىَ اللهُ عنها، أن امرأةَ رِفاعة القُرظِىّ جاءت إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسولَ الله، إن رِفاعة طلَّقنى، فَبَتَّ طلاقى، وإنى نكحتُ بعدَه عبدَ الرحمن بنَ الزُّبير القُرظى، وإنَّ ما معه مثلُ الهُدْبَةِ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَلَّكِ تُريدِينَ أَنْ تَرْجِعى إلى رِفَاعَةَ. لاَ، حَتَّى تَذُوقى عُسَيْلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَك".
وفى سنن النسائى: عن عائشةَ رضىَ الله عنها، قالت: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "العُسَيْلَةُ: الجِماعُ وَلَوْ لَمْ يُنْزِل".
وفيها عن ابن عمر، قال: سُئِلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امرأتَه ثلاثاً، فيتزوَّجُها الرجُل، فَيُغْلِقُ البابَ، ويُرخى السِّتر، ثم يُطلِّقها

قبل أن يدخُلَ بها؟ قال: "لاَ تَحِلُّ لِلأَوَّلِ حَتَّى يُجامِعَها الآخَرُ".
فتضمن هذا الحكم أموراً.
أحدهما: أنه لا يُقبل قولُ المرأة على الرجل أنه لا يقدِرُ على جماعها.
الثانى: أن إصابةَ الزوج الثانى شرط فى حلها للأول، خلافاً لمن اكتفى بمجرد العقد، فإن قوله مردود بالسنة التى لا مرد لها.
الثالث: أنه لا يُشترط الإنزال، بل يكفى مجردُ الجماع الذى هو ذوقُ العسيلة.
الرابع: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجعلْ مجردَ العقد المقصود الذى هو نكاح رغبة كافياً، ولا اتصال الخلوة به، وإغلاق الأبواب، وإرخاء الستور حتى يتّصل به الوطءُ، وهذا يدل على أنه لا يكفى مجرد عقد التحليل الذى لا غرضَ للزوج والزوجة فيه سوى صورةِ العقد، وإحلالها للأول بطريق الأولى، فإنه إذا كان عقد الرغبة المقصود للدوام غيرَ كافٍ حتى يوجد فيه الوطء، فكيف يكفى عقدُ تيسٍ مستعار لِيحلَّها لا رغبة له فى إمساكها، إنما هو عارِيَّة كحمار العشريين المستعار للضِّراب؟
حُكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المرأة تُقيم شاهداً واحداً على طلاقِ زوجها والزَّوجُ منكر
ذكر ابنُ وضَّاح عن ابن أبى مريم، عن عمرو بن أبى سلمة، عن

عمرو بن أبى سلمة، عن زهير بن محمد، عن ابن جُريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "إذَا ادَّعَتِ المَرْأَةُ طَلاَقَ زَوْجهَا، فَجَاءَتْ عَلَى ذَلكَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ عَدْلِ، استُحْلِفَ زَوْجُهَا، فإِنْ حَلَفَ بَطَلَتْ عَنْهُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ، وإنْ نَكَلَ فَنُكُولُه بِمَنْزِلَةِ شَاهِدٍ آخَرَ، وَجَازَ طَلاقُه" ، فتضمَّن هذا الحكمُ أربعةَ أمور.
أحدُها: أنه لا يُكتفى بشهادة الشاهد الواحِدِ فى الطلاق، ولا مَع يمين المرأة، قال الإمام أحمد: الشاهدُ واليمين إنما يكون فى الأموال خاصة لا يقعُ فى حدٍّ، ولا نِكاح، ولا طلاق، ولا إعتاق، ولا سرقة، ولا قتل. وقد نصَّ فى رواية أخرى عنه على أن العبدَ إذا ادَّعى أن سيدَه أعتقه، وأتى بشاهد، حلف مع شاهده، وصار حراً، واختاره الخِرقى، ونص أحمد فى شريكين فى عبد ادَّعى كُلُّ واحد منهما أن شريكَه أعتق حقَّه منه، وكانا مُعسِرَيْنِ عدلين، فللعبد أن يحلفَ مع كُلِّ واحد منهما، ويصيرَ حراً، ويحلِفَ مع أحدهما، ويصيرَ نصفُه حراً، ولكن لا يعرف عنه أن الطلاق يثبتُ بشاهدٍ ويمين.
وقد دلَّ حديثُ عمرو بن شعيب هذا على أنه يثُبت بشاهِدٍ ونكولِ الزوج، وهو الصوابُ إن شاء الله تعالى، فإن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، لا يُعرف من أئمة الإسلام إلا من احتج به، وبنى عليه وإن خالفه فى بعضِ المواضع، وزهيرُ بن محمد، الراوى عن ابن جريج، ثقة محتج به فى "الصحيحين"، وعمرو بن أبى سلمة، هو أبو حفص التنيسى، محتج به فى "الصحيحين" أيضاً، فمن احتجَّ بحديث عمرو بن

شعيب، فهذا من أصح حديثه.
الثانى: أن الزوجَ يُستحلف فى دعوى الطلاق إذا لم تَقُمْ للمرأة به بينة، لكن إنما استحلفه مع قوة جانب الدعوى بالشاهد.
الثالث: أنه يحكم فى الطلاق بشاهدٍ، ونكول المدَّعى عليه، وأحمد فى إحدى الروايتين عنه يحكُم بوقوعه بمجرَّد النكول من غير شاهد، فإذا ادَّعت المرأة على زوجها الطلاقَ، وأحلفناه لها فى إحدى الروايتين، فَنَكَلَ، قضى عليه، فإذا أقامت شاهداً واحداً ولم يَحلف الزوج على عدم دعواها، فالقضاء بالنكول عليه فى هذه الصورة أقوى.
وظاهر الحديث: أنه لا يُحكم على الزوج بالنكول إلا إذا أقامت المرأةُ شاهداً واحداً، كما هو إحدى الروايتين عن مالك، وأنه لا يُحكم عليه بمجرد دعواها مع نكوله، لكن من يقضى عليه به يقول: النكولُ إما إقرارٌ، وإما بينة، وكلاهما يُحكم به، ولكن ينتقِضُ هذا عليه بالنكولِ فى دعوى القِصاص، ويُجاب بأن النكولَ بدل استغنى به فيما يُباح بالبدل، وهو الأموالُ وحقوقها دون النكاح وتوابعه.
الرابع: أن النكولَ بمنزلة البينة، فلما أقامت شاهداً واحداً وهو شطرُ البينة كان النكولُ قائماً، مقام تمامها.
ونحن نذكرُ مذاهبَ الناس فى هذه المسألة، فقال أبو القاسم بن الجلاب فى "تفريعه": وإذا ادعت المرأةُ الطلاقَ على زوجها لم يُحَلَّف بدعواها، فإن أقامت على ذلك شاهداً واحداً، لم تُحلف مع شاهدها، ولم يثبُتِ الطلاقُ على زوجها، وهذا الذى قاله لا يُعلم فيه نزاع بين الأئمة الأربعة، قال: ولكن يحلف لها زوجُها، فإن حلف، برىءَ من دعواها.
قلتُ: هذا فيه قولان للفقهاء، وهما روايتان عن الإمام أحمد.

إحداهما: أنه يحلِفُ لدعواها، وهو مذهب الشافعى، ومالك، وأبى حنيفة. والثانية: لا يحلف. فإن قلنا: لا يحلف، فلا إشكال، وإن قلنا: يحلف، فنكل عن اليمين، فهل يقضى عليه بطلاق زوجته بالنكول؟ فيه روايتان عن مالك، إحداهما: أنها تطلُقُ عليه بالشاهد والنكول عملاً بهذا الحديث، وهذا اختيارُ أشهب، وهذا فيه غايةُ القوة، لأن الشاهد والنكول سببان مِن جهتين مختلفتين، فقوى جانبُ المدعى بهما، فحكم له، فهذا مقتضى الأثر والقياس.
والرواية الثانية عنه: أن الزوج إذا نَكَلَ عن اليمين، حُبِسَ، فإن طال حبسُه، تُرِكَ. واختلفت الرواية عن الإمام أحمد، هل يقضى بالنكول فى دعوى المرأة الطلاق؟ على روايتين. ولا أثر عنده لإقامة الشاهدِ الواحد، بل إذا ادعت عليه الطلاقَ، ففيه روايتان فى استحلافه، فإن قلنا: لا يُستحلف، لم يكن لدعواها أثر، وإن قلنا: يستحلف، فأبى فهل يُحكم عليه بالطلاق؟ فيه روايتان، وسيأتى إن شاء الله تعالى الكلامُ فى القضاء بالنكول، وهل هو إقرار أو بدل، أو قائم مقام البينة فى موضعه من هذا الكتاب؟.
حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تخيير أزواجه بين المُقام معه وبين مفارقتهن له
ثبت فى "الصحيحين" عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما أُمِرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتخيير أزواجه، بدأ بى، فقال: " إنِّى ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً فَلاَ عَلَيْكِ أَلاَّ تَعْجَلى حَتَّى تَسْتأْمِرى أَبَوَيْكِ ". قالت: وقد علم أن أبوى لم يكونا ليأمرانى بفراقه، ثم قرأ:{ يأَيُّهَا النَّبىُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ

الحَيَاةَ الدُّنْيا وزينَتَها فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ والدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 28-29] فقلتُ: فى هذا استأمر أبوى؟ فإنى أريدُ الله ورسولَه والدارَ الآخرةَ. قالت عائشة: ثم فَعَل أزواجُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ما فعلتُ، فلم يكن ذلك طلاقاً.
قال ربيعةُ وابنُ شهاب: فاختارت واحدةٌ منهن نفسَها، فذهبت وكانت ألبتة. قال ابن شهاب: وكانت بدوية. قال عمرو بن شعيب: وهى ابنة الضحاك العامرية رجعت إلى أهلها، وقال ابنُ حبيب: قد كان دخل بها. انتهى.
وقيل: لم يدخل بها، وكانت تلتقِطُ بعد ذلك البعر، وتقول: أنا الشقيَّةُ.
واختلف الناسُ فى هذا التخيير، فى موضعين. أحدهما: فى أى شىء كان؟ والثانى: فى حكمه، فأما الأول: فالذى عليه الجمهور أنه كان بين المقام معه والفراق، وذكر عبد الرزاق فى "مصنفه"، عن الحسن، أن الله تعالى إنما خيَّرَهُنَّ بين الدنيا والآخرة، ولم يُخيِّرْهُنَّ فى الطلاق، وسياقُ القرآن، وقولُ عائشة رضى الله عنها يَرُدُّ قوله، ولا ريب أنه سبحانه خيَّرهن بينَ الله ورسوله والدار الآخرة، وبينَ الحياة الدنيا وزينتها، وجعل مَوجِبَ اختيارهن الله ورسولَه والدارَ الآخرة المقامَ مع رسوله، وموجبَ اختيارهن الدنيا وزينتها أن يُمتِّعَهنَّ ويُسرِّحَهن سَراحاً جميلاً، وهو الطلاقُ بلا شك ولا نزاع.

وأما اختلافُهم فى حكمه، ففى موضعين. أحدهما: فى حكم اختيار الزوج، والثانى: فى حكم اختيار النفس، فأما الأول: فالذى عليه معظمُ أصحاب النبى ونساؤه كُلُّهُنَّ ومعظم الأمة أن من اختارت زوجها لم تطلق، ولا يكون التخييرُ بمجرده طلاقاً، صحَّ ذلك عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة. قالت عائشة: خيَّرنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاخترناه، فلم نعدَّه طلاقاً، وعن أمّ سلمة، وقريبة أختها، وعبد الرحمن بن أبى بكر.
وصح عن على، وزيد بن ثابت، وجماعة من الصحابة: أنها إن اختارت زوجَها، فهى طلقة رجعية، وهو قولُ الحسن، ورواية عن أحمد رواها عنه إسحاق بن منصور، قال: إن اختارت زوجَها، فواحدة يملِكُ الرجعة، وإن اختارت نفسها، فثلاثٌ، قال أبو بكر: انفرد بهذا إسحاق بن منصورِ، والعملُ على ما رواه الجماعة. قال صاحب "المغنى": ووجه هذه الرواية أن التخييرَ كناية نوى بها الطلاق، فوقع بمجرَّدها كسائر كناياته، وهذا هو الذى صرَّحت به عائشة رضى الله عنها، والحق معها بإنكاره وردِّه، فإن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما اختاره أزواجُه لم يَقُل: وقع بكن طلقة، ولم يُراجعهن، وهى أعلم الأمة بشزن التخيير، وقد صح عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: لم يكن ذلك طلاقاً، وفى لفظ: "لم نعده طلاقاً". وفى لفظ: "خيَّرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أفكان طلاقا ؟ً"
والذى لحظه من قال: إنها طلقة رجعية أن التخيير تمليك، ولا تملك المرأةُ نفسها إلا وقد طلقت، فالتمليكُ مستلزم لوقوع الطلاق، وهذا مبنى على مقدمتين. إحداهما: أن التخييرَ تمليك. والثانية: أن التمليك يستلزِمُ

وقوعَ الطلاق، وكِلا المقدمتين ممنوعة، فليس التخييرُ بتمليك، ولو كان تمليكاً لم يستلزم وقوعَ الطلاق قبل إيقاع من ملكه، فإن غاية أمره أن تملِكَه الزوجةُ كما كان الزوج يملِكُه، فلا يقع بدون إيقاع من ملكه، ولو صحَّ ما ذكروه، لكان بائناً، لأن الرجعية لا تملِكُ نفسها.
وقد اختلف الفقهاءُ فى التخيير: هل هو تمليك أو توكيلٌ، أو بعضُه تمليك، وبعضُه توكيل، أو هو تطليق منجَّز، أو لغوٌ لا أثر له ألبتة؟ على مذاهب خمسة. التفريقُ هو مذهب أحمد ومالك. قال أبو الخطاب فى "رؤوس المسائل": هو تمليكٌ يقفُ على القبول، وقال صاحب "المغنى" فيه: إذا قال: أمرُكِ بيدكِ، أو اختارى، فقالت: قبلتُ، لم يقع شىء، لأن "أمرك بيدك" توكيل، فقولُها فى جوابه: قبلتُ ينصرف إلى قبول الوكالة، فلم يقع شىء، كما لو قال لأجنبية: أمرُ امرأتى بيدكِ، فقالت: قبلت، وقوله: اختارى: فى معناه، وكذلك إن قالت: أخذت أمرى، نص عليهما أحمد فى رواية إبراهيم بن هانئ إذا قال لامرأته: أمُركِ بيدكِ، فقالت: قبلت، ليس بشىء حتى يتبيَّن، وقال: إذا قالت: أخذتُ أمرى، ليس بشىء، قال: وإذا قال لامرأته: اختارى، فقالت: قبلتُ نفسى، أو اخترت نفسى، كان أبين. انتهى. وفرق مالك بين "اختيارى"، وبين "أمرُكِ بيدكِ"، فجعل "أمرُكِ بيدكِ" تمليكاً، و"اختيارى" تخييراً لا تمليكاً. قال أصحابُه: وهو توكيلٌ.
وللشافعى قولان. أحدهما: أنه تمليك، وهو الصحيح عند أصحابه، والثانى: أنه توكيل وهو القديم، وقالت الحنفية: تمليك. وقال الحسنُ وجماعةٌ من الصحابة: هو تطليق تقع به واحدة منجَّزة، وله رجعتُها، هى رواية ابنِ منصور عن أحمد.

وقال أهلُ الظاهر وجماعةٌ من الصحابة: لا يقع به طلاق، سواءٌ اختارت نفسَها، أو اختارت زوجها، ولا أثر للتخيير فى وقوع الطلاق.
ونحن نذكر مآخذ هذه الأقوال على وجه الإشارة إليها.
قال أصحابُ التمليك: لما كان البُضع يعود إليها بعد ما كان للزوج، كان هذا حقيقةَ التمليك.
قالوا: وأيضاً فالتوكيل يستلزِمُ أهليةَ الوكيل لمباشرة ما وُكِّلَ فيه، والمرأةُ ليست بأهل لإيقاع الطلاق، ولهذا لو وكَّل امرأةً فى طلاق زوجته، لم يصحَّ فى أحد القولين، لأنها لا تُباشر الطلاق، والذين صححوه قالوا: كما يصح أن يُوكِّلَ رجلاً فى طلاق امرأته، يَصِحّ أن يوكِّل امرأة فى طلاقها.
قالُوا: وأيضاً فالتوكيل لا يُعقل معناه هاهنا، فإنَّ الوكيلَ هو الذى يتصرف لموكله لا لنفسه، والمرأة ها هنا إنما تتصرَّف لنفسها ولحظها، وهذا يُنافى تصرفَ الوكيل.
قال أصحابُ التوكيل، واللفظُ لصاحب "المغنى": وقولهم: إنه توكيل لا يَصِحُّ، فإن الطلاقَ لا يصح تمليكه، ولا ينتقِلُ عن الزواج، وإنما ينوبُ فيه غيرُه عنه، فإذا استناب غيره فيه، كان توكيلاً لا غير.
قالوا: ولو كان تمليكاً لكان مقتضاه انتقالَ الملك إليها فى بُضعها، وهو محال، فإنه لم يخرُج عنها، ولهذا لو وُطئت بشبهة كان المهر لها لا للزوج، ولو مَلَكَ البُضع، لَمَلَكَ عِوضه، كمن ملك منفعة عينٍ كان عِوَضُ تلك المنفعة له.
قالوا: وأيضاً فلو كان تمليكاً، لكانت المرأةُ مالكة للطلاق، وحينئذ يجب أن لا يبقى الزوجُ مالكاً لاستحالة كون الشىء الواحد بجميع أجزائه ملكاً لمالكين فى زمن واحد، والزوجُ مالك للطلاق بعد التخيير، فلا تكونُ

هى مالكة له، بخلاف ما إذا قلنا: هو توكيل واستتابة، كان الزوجُ مالكاً، وهى نائبة ووكيلة عنه.
قالوا: وأيضاً فلو قال لها: طلِّقى نفسَك، ثم حلف أن لا يُطلِّق، فطلقت نفسَها، حَنِثَ، فدل على أنها نائبة عنه، وأنه هو المطلِّق.
قالوا: وأيضاً فقولُكم: إنه تمليك، إما إن تُريدوا به أنه ملَّكها نفسَها، أو أنه ملَّكها أن تُّطلِّق، فإن أردتم الأول، لزمكم أن يقع الطلاقُ بمجرد قولها: قبلت، لأنه أتى بما يقتضى خروجَ بُضعها عن ملكه، واتصل به القبولُ، وإن أردتم الثانى، فهو معنى التوكيل. وإن غُيِّرتِ العبارة.
قال المفرِّقون بين بعض صوره وبعض، وهُمْ أصحابُ مالك: إذا قال لها: أمرُكِ بيدكِ، أو جعلت أمرَك إليك، أو ملَّكتُك أمرك، فذاك تمليك. وإذا قال: اختارى فهو تخيير، قالُوا: والفرقُ بينهما حقيقةً وحكماً. أما الحقيقةُ، فلأن "اختارى" لم يتضمن أكثرَ من تخييرها، لم يُملكها نفسها، وإنما خيَّرها بين أمرين، بخلاف قوله: أمرُك بيدك، فإنه لا يكون بيدها إلا وهى مالكته، وأما الحكم، فلأنه إذا قال لها: أمرُك بيدك، وقال: أردتُ به واحدة، فالقولُ قولُه مع يمينه، وإذا قال: اختارى، فطلقت نفسَها ثلاثاً، وقعت، ولو قال: أردتُ واحدة إلا أن تكونَ غيرَ مدخول بها، فالقول قوله فى إرادته الواحدة. قالوا: لأن التخيير يقتضى أن لها أن تختارَ نفسها، ولا يحصُل لها ذلك إلا بالبينونة، فإن كانت مدخولاً بها لم تَبِنْ إلا بالثلاث، وإن لم تكن مدخولاً بها، بانت بالواحدة، وهذا بخلافِ: أمرُك بيدك، فإنه لا يقتضى تخييرها بين نفسها وبين زوجها، بل تمليكها أمرها، وهو أعمُّ مِن تمليكها الإبانة بثلاث أو بواحدة تنقضى بها عدتها، فإن أراد بها أحدَ محتمليه، قُبِلَ قولُه، وهذا بعينه يَرِد عليهم

فى "اختيارى"، فإنه أعم من أن تختار البينونة بثلاث أو بواحدة تنقضى بها عدتها، بل: "أمرك بيدك" أصرحُ فى تمليك الثلاث من "اختارى"، لأنه مضاف ومضاف إليه، فيعم جميعَ أمرها. بخلاف "اختارى" فإنه مطلق لا عموم له، فمن أين يُستفاد منه الثلاث؟ وهذا منصوصُ الإمام أحمد، فإنه قال فى اختارى: إنه لا تمِلكُ به المرأة أكثرَ مِن طلقة واحدة إلا بنيةِ الزوج، ونص فى "أمرك بيدك، وطلاقك بيدك ووكلتك فى الطلاق": على أنها تملك به الثلاث. وعنه رواية أخرى: أنها لا تمِلكُها إلا بنيته.
وأما من جعله تطليقاً منجَّزاً، فقد تقدَّم وجهُ قوله وضعفه.
وأما من جعله لغواً، فلهم مأخذان:
أحدهما: أن الطلاقَ لم يجعله الله بيد النساء، إنما جعله بيد الرِّجال، ولا يتغيَّرُ شرع الله باختيار العبد، فليس له أن يختار نقلَ الطلاق إلى من لم يجعل الله إليه الطلاق البتة.
قال أبو عُبيد القاسم بن سلام: حدثنا أبو بكر بنُ عياش، حدثنا حبيبُ ابن أبى ثابت، أن رجلاً قال لامرأة له: إن أدخلتِ هذا العِدْلَ إلى هذا البيت، فأمرُ صاحبتك بيدك، فأدخلتْه، ثم قالت: هى طالق، فَرُفِعَ ذلك إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فأبانها منه، فمرُّوا بعبد الله بن مسعود، فأخبروه، فذهب بهم إلى عمر، فقال: يا أميرَ المؤمنين: إن الله تبارك وتعالى جعل الرِّجال قوامِينَ على النساء، ولم يجعل النساء قواماتٍ على الرجال، فقال له عمر: فما ترى؟ قال: أراها امرأته. قال: وأنا أرى ذلك، فجعلها واحدة.
قلت: يحتمل أنه جعلها واحدة بقول الزوج: فأمر صاحبتك بيدك، ويكون كنايةً فى الطلاق، ويحتمل أنه جعلها واحدة بقول ضرتها: هى

طالق، ولم يجعل للضرة إبانتها، لئلا تكون هى القوامة على الزوج، فليس فى هذا دليل لما ذهبت إليه هذه الفرقة، بل هو حجة عليها.
وقال أبو عبيد: حدثنا عبد الغفار بن داود، عن ابنِ لهيعة، عن يزيد ابن أبى حبيب، أن رُمَيْثَةَ الفارسية كانت تحتَ محمد بن عبد الرحمن بن أبى بكر، فملكها أمرها، فقالت: أنتَ طالق ثلاث مرات، فقال عثمان بن عفان: أخطأتَ، لا طلاق لها، لأن المرأة لا تُطَلِّقُ.
وهذا أيضاً لا يدل لهذه الفرقة، لأنه إنما لم يوقع الطلاق لأنها أضافته إلى غير محله وهو الزوج، وهو لم يقل: أنا منك طالق، وهذا نظيرُ ما رواه عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج، أخبرنى أبو الزبير، أن مجاهداً أخبره، أن رجلاً جاء إلى ابن عباس رضى الله عنهما، فقال: ملَّكتُ امرأتى أمرها، فطلَّقتْنى ثلاثاً، فقال ابنُ عباس: "خَطَّأَ اللهُ فوءها، إنما الطلاق لك عليها، وليس لها عليك".
قال الأثرم: سألتُ أبا عبد الله، عن الرجل يقول لامرأته: أمرُكِ بيدك؟ فقال: قال عثمانُ، وعلىُّ رضى الله عنهما: القضاء ما قضت، قلت: فإن قالت: قد طلقتُ نفسى ثلاثاً قال: القضاءُ ما قضت. قلت: فإن قالت: طلقتُك ثلاثاً، قال: المرأة لا تطلِّق، واحتج بحديث ابن عباس رضى الله عنهما: "خَطَّأَ الله نوءها". ورواه عن وكيع، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن عباس رضى الله عنه، فى رجل جعل أمر امرأتِه فى يدها، فقالت: قد طلقتُك ثلاثاً، قال ابنُ عباس: خَطَّأَ الله نوءها، أفلا طلقت

نفسها. قال أحمد: صحَّف أبو مطر، فقال: "خطأ الله فوها" ولكن روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: سألتُ عبد الله بن طاووس كيف كان أبوك يقول فى رجل ملَّك امرأتَه أمرَها، أتمِلكُ أن تُطلِّق نفسها، أم لا؟ قال: كان يقولُ: ليس إلى النساء طلاقٌ، فقلت له: فكيف كان أبوك يقول فى رجل ملَّك رجلاً أمرَ امرأتِه، أَيَمْلِكُ الرجلُ أن يُطلِّقَها؟ قال: لا. فهذا صريح من مذهب طاووس أنه لا يُطلق إلا الزوج، وأن تمليكَ الزوجة أمرها لغو، وكذلك توكيلُه غيره فى الطلاق. قال أبو محمد ابن حزم: وهذا قول سليمان، وجميع أصحابنا.
الحجة الثانية لهؤلاء: أن الله سبحانه إنما جعل أمرَ الطلاق إلى الزوج دونَ النساء، لأنهن ناقصاتُ عقل ودين، والغالبُ عليهن السفه، وتذهب بهن الشهوة والميل إلى الرجال كُلَّ مذهب، فلو جُعِلَ أمرُ الطلاق إليهن، لم يستقِمْ للرجال معهن أمر، وكان فى ذلك ضرر عظيم بأزواجهن، فاقتضت حِكمتُه ورحمتُه أَنه لم يجعل بأيديهن شيئاً مِن أمر الفراق، وجعله إلى الأزواج. فلو جاز للأزواج نقلُ ذلك إليهن، لناقض حكمةَ الله ورحمتَه، ونظره للأزواج. قالوا: والحديث إنما دَلَّ على التخيير فقط، فإن اخترن الله ورسولَه والدارَ الآخرَة كما وقع كُنَّ أزواجه بحالهن، وإن اخترنَ أنفُسَهُنَّ، متعهن، وطلقهن هو بنفسه، وهو السَّراحُ الجميل، لا أن اختيارَهن لأنفسهن يكونُ هو نفسَ الطلاق، وهذا فى غاية الظهور كما ترى.
قال هؤلاء: والآثارُ عن الصحابة فى ذلك مختلفة اختلافاً شديداً فصح عن عمر وابن مسعود، وزيد بن ثابت فى رجل جعل أمرَ امرأته

بيدها فطلقت نفسها ثلاثاً، أنها طلقةٌ واحدة رجعية، وصح عن عثمان رضى الله عنه. أن القضاء ما قضت، ورواه سعيد بن منصور، عن ابن عمر، وغيره عن ابن الزبير. وصح وعن على، وزيد، وجماعة من الصحابة رضى الله عنهم: أنها إن اختارت نفسها، فواحدة بائنة، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية.
وصح عن بعض الصحابة: أنها اختارت نفسها، فثلاث بكل حال: وروى عن ابن مسعود فيمن جعل أمر امرأته بيد آخر فطلقها، فليس بشىء.
قال أبو محمد ابن حزم: وقد تقصَّينا مَن روينا عنه مِن الصحابة أنه يقع به الطلاقُ، فلم يكونوا بين من صحَّ عنه، ومن لم يَصِحَّ عنه إلا سبعة، ثم اختلفوا، وليس قولُ بعضهم أولى مِن قول بعض ولا أثر فى شىء منها، إلا ما رويناه من طريق النسائى، أخبرنا نصر بن على الجهضمى، حدثنا سليمانُ بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، قال: قلت لأيوب السختيانى: هل علمتَ أحداً قال فى "أمرك بيدك": إنها ثلاثٌ غير الحسن؟ قال: لا، اللهم غُفراً إلا ما حدثنى به قتادة، عن كثير مولى ابن سمرة، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ثلاث. قال أيوب: فلقيت كثيراً مولى ابن سمرة، فسألتُه، فلم يعرفه، فرجعتُ إلى قتادة، فأخبرتُه، فقال: ننسى. قال أبو محمد: كثير مولى ابن سمرة مجهول، ولو كان مشهوراً بالثقة والحفظ، لما خالفنا هذا الخبرَ، وقد أوقفه بعضُ رواته على أبى هريرة. انتهى.
وقال المروذى: سألت أبا عبد الله، ما تقول فى امرأة خُيِّرت،

فاختارت نفسَها؟ قال: قال فيها خمسةٌ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنها واحدة ولها الرجعة: عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وعائشة. وذكر آخر، قال غير المروذى: هو زيد ابن ثابت.
قال أبو محمد، ومن خيَّر امرأته، فاختارت نفسَها، أو اختارت الطلاقَ، أو اختارت زوجَها، أو لم تختر شيئاً، فكل ذلك لا شىء، وكُلُّ ذلك سواء، ولا تطلق بذلك، ولا تحرُم عليه، ولا لشىءٍ مِن ذلك حكم، ولو كرَّر التخييرَ، وكررت هى اختيارَ نفسها، أو اختيارَ الطلاق ألف مرة، وكذلك إن ملَّكها نفسها، أو جعل أمرها بيدها. ولا فرق.
ولا حُجة فى أحد دونَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذ لم يأتِ فى القرآن، ولا عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن قولَ الرجل لامرأته: أمرُك بيدك، أو قد مَلَّكتكِ أمركِ، أو اختارى يُوجب أن يكون طلاقاً، أو أن لها أن تطلِّق نفسها، أو تختارَ طلاقاً، فلا يجوزُ أن يُحَرَّمَ على الرجل فرجٌ أباحه اللهُ تعالى له ورسولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأقوالٍ لم يُوجبها الله، ولا رسولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا فى غاية البيان. انتهى كلامه.
قالوا: واضطرابُ أقوال الموقعين، وتناقُضها، ومعارضةُ بعضها لبعض يدل على فسادِ أصلها، ولو كان الأصل صحيحاً لاطردت فروعُه، ولم تتناقض، ولم تختلف، ونحن نُشير إلى طرف من اختلافهم.
فاختلفوا: هل يقع الطلاقُ بمجرد التخيير، أو لا يقعُ حتى تختار نفسها؟ على قولين: تقدم حكايتُهما، ثم اختلف الذين لا يُوقعونه بمجردِ قوله: أمرك بيدك: هل يختص اختيارُها بالمجلس، أو يكون فى يدها

ما لم يفسح، أو يطأ؟ على قولين.أحدهما، أنه يتقيَّد بالمجلس، وهذا قولُ أبى حنيفة، والشافعى، ومالك فى إحدى الروايتين عنه. الثانى: أنه فى يدها أبداً حتى يفسخَ أو يطأ، وهذا قولُ أحمد، وابن المنذر، وأبى ثور. والرواية الثانية عن مالك. ثم قال بعضُ أصحابه: وذلك ما لم تَطُلْ حتى يتبين أنها تركته، وذلك بأن يتعدَّى شهرين، ثم اختلفوا، هل عليها يمين: أنها تركت، أم لا؟ على قولين.
ثم اختلفوا إذا رجع الزوج فيما جعل إليها، فقال أحمد وإسحاق والأوزاعى، والشعبى، ومجاهد، وعطاء: له ذلك، ويبطلُ خيارها. وقال مالك، وأبو حنيفة والثورى، والزهرى: ليس له الرجوعُ، وللشافعية خلافٌ مبنى على أنه توكيل، فيمِلكُ الموكل الرجوع، أو تمليك، فلا يملِكُه، قال بعضُ أصحاب التمليك: ولا يمتِنعُ الرجوعُ. وإن قلنا إنه تمليك، لأنه لم يتصل به القبول، فجاز الرجوعُ فيه كالهبة والبيع.
واختلفوا: فيما يلزَم من اختيارها نفسها. فقال أحمد والشافعى واحدة رجعية وهو قولُ ابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، واختاره أبو عبيد، وإسحاق. وعن على: واحدة بائنة، وهو قول أبى حنيفة وعن زيد بن ثابت، ثلاث، وهو قول الليث، وقال مالك: إن كانت مدخولاً بها، فثلاث، وإن كانت غير مدخول بها، قُبِل منه دعوى الواحدة.
واختلفوا: هل يفتِقُر قوله: أمرك بيدك إلى نية أم لا؟ فقال أحمد والشافعى وأبو حنيفة: يفتقِرُ إلى نية، وقال مالك، لا يفتقِرُ إلى نية، واختلفوا: هل يفتقِرُ وقوعُ الطلاق إلى نية المرأة إذا قالت: اخترت نفسى، أو فسخت نِكاحَك؟ فقال أبو حنيفة: لا يفتقِرُ وقوع الطلاق إلى نيتها

إذا نوى الزوج. وقال أحمد والشافعى: لابد من نيتها إذا اختارت بالكناية، ثم قال أصحابُ مالك: إن قالت: اخترتُ نفسى، أو قبلتُ نفسى، لزم الطلاقُ، ولو قالت: لم أُرده. وإن قالت. قبلت أمرى، سئلت عما أرادت؟ فإن أرادت الطلاق كان طلاقاً، وإن لم تُرِدْهُ لم يكن طلاقاً ثم قال مالك: إذا قال لها: أمُرك بيدك، وقال: قصدتُ طلقة واحدة، فالقولُ قوله مع يمينه، وإن لم تكن له نية، فله أن يُوقع ما شاء. وإذا قال: اختارى، وقال: أردت واحدة، فاختارت نفسها، طلقت ثلاثاً، ولا يقبل قوله.
ثم هاهنا فروعٌ كثيرة مضطربة غايةَ الاضطرابِ لا دليل عليها من كتابٍ ولا سنة ولا إجماع، والزوجة زوجته حتى يقومَ دليل على زوال عصمته عنها.
قالوا: ولم يجعل اللهُ إلى النساء شيئاً من النكاحِ، ولا من الطلاق، وإنما جعل ذلك إلى الرجل، وقد جعل اللهُ سبحانه الرجال قوَّامينَ على النساء، إن شاءوا أمسكوا، وإن شاءوا طلقوا، فلا يجوز للرجل أن يجعل المرأة قوَّامة عليه، إن شاءت أمسكت، وإن شاءت طلقت. قالوا: ولو أجمع أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على شىء لم نتعد إجماعَهم، ولكن اختلفوا، فطلبنا الحُجة لأقوالهم مِن غيرها، فلم نجد الحجةَ تقومُ إلا على هذا القول. وإن كان من روى عنه قد روى عنه خلافه أيضاً، وقد أبطل من ادعى الإجماع فى ذلك، فالنزاع ثابت بين الصحابة والتابعين كما حكيناه، والحجةُ لا تقوم بالخلاف، فهذا ابنُ عباس، وعثمان ابن عفان، قد قالا: إن تمليك الرجل لامرأته أمرها ليس بشىء، وابنُ مسعود يقول فيمن جعل أمر امرأته بيد آخر فطلقها: ليس بشىء،

وطاووس يقول فيمن ملك امرأته أمرها: ليس إلى النساء طلاق، ويقول فيمن ملك رجلاً أمر امرأته، أيملك الرجل أن يطلقها؟ قال: لا.
قلت: أما المنقولُ عن طاووس، فصحيح صريح لا مطعن فيه سنداً وصراحة. وأما المنقول عن ابن مسعود، فمختلفٌ، فنقل عنه موافقة على وزيد فى الوقوع، كما رواه ابن أبى ليلى عن الشعبى: أن أمرك بيدك، واختارى سواء فى قول على وابن مسعود وزيد، ونقل عنه فيمن قال لامرأته: أمُر فلانة بيدك إن أدخلت هذا العدل البيت، ففعلت، أنها امرأته، ولم يطلقها عليه.
وأما المنقول عن ابن عباس، وعثمان، فإنما هو فيما إذا أضافت المرأةُ الطلاقَ إلى الزوج، وقالت: أنت طالق. وأحمد ومالك يقولان ذلك مع قولهما بوقوع الطلاق إذا اختارت نفسها، أو طلقت نَفسها، فلا يُعرف عن أحد من الصحابة إلغاء التخيير والتمليك ألبتة، إلا هذِهِ الرواية عن ابن مسعود، وقد رُوِىَ عنه خلافُها، والثابتُ عن الصحابة، اعتبارُ ذلك، ووقوع الطلاق به، وإن اختلفوا فيما تَمْلِكُ به المرأة كما تقدم، والقولُ بأن ذلك لا أثر له لا يُعرف عن أحد من الصحابة ألبتة، وإنما وهم أبو محمد فى المنقول عن ابن عباس وعثمان، ولكن هذا مذهب طاووس، وقد نقل عن عطاء ما يدل على ذلك، فروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قلت لعطاء: رجل قال لامرأته: أمرك بيدك بعد يوم أو يومين، قال: ليس هذا بشىء. قلت: فأرسل إليها رجلاً أن أمرها بيدها يوماً أو ساعة، قال: ما أدرى ما هذا؟ ما أظن هذا شيئاً. قلت لعطاء: أملَّكت عائشة حفصة حين ملَّكها المنذر أمرها، قال عطاء:

لا، إنما عرضت عليها أتطلقها أم لا، ولم تُملِّكها أمرها.
ولولا هيبةُ أصحابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما عَدَلْنَا عن هذا القول، ولكن أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم القدوةُ وإن اختلفوا فى حكم التخيير، ففى ضمن اختلافهم اتفاقُهم على اعتبار التخيير، وعدم إلغائه، ولا مفسدة فى ذلك، والمفسدةُ التى ذكرتمُوها فى كون الطلاق بيد المرأة إنما تكونُ لو كان ذلك بيدها استقلالاتً، فأما إذا كان الزوج هو المستقل بها، فقد تكونُ المصلحة له فى تفويضها إلى المرأة ليصير حاله معها على بينة إن أخبته، أقامت معه، وإن كرهته، فارقتُه، فهذا مصلحة له ولها، وليس فى هذا ما يقتضى تغيير شرع الله وحكمته، ولا فرقَ بين توكيل المرأة فى طلاق نفسها وتوكيل الأجنبى، ولا معنى لمنع توكيل الأجنبى فى الطلاق، كما يَصِحُّ توكليه فى النكاح والخلع.
وقد جعل اللهُ سبحانَه للحكمين النظرَ فى حال الزوجين عند الشقاق إن رأيا التفريقَ فرَّقا، وإن رأيا الجمع، جمعا، وهو طلاق أو فسخ من غير الزوج، إما برضاه إن قيل: هما وكيلانِ، أو بغير رضاه إن قيل: هما حكمان، وقد جُعلَ للحاكم أن يطلِّق على الزوج فى مواضع بطريق النيابة عنه، فإذا وكَّلَ الزوجُ من يُطلِّق عنه، أو يُخالع، لم يكن فى هذا تغيير لحكم الله مخالفةٌ لدينه، فإن الزوجَ هو الذى يُطلِّق إما بنفسه، أو بوكيله، وقد يكون أتمَّ نظراً للرجل من نفسه، وأعلم بمصلحته، فيفوض إليه ما هو أعلمُ بوجه المصلحة فيه منه، وإذا جاز التوكيلُ فى العتقِ والنكاح، والخلع والإبراء، وسائر الحقوق من المطالبة بها وإثباتها واستيفائها، والمخاصمة فيها، فما الذى حرَّم التوكيلَ فى الطلاق؟ نعم

الوكيلُ يقوم مقام الموكِّل فيما يملكه من الطلاق، ومالا يملِكُه، وما يَحلُّ له منه، وما يحرم عليه، ففى الحقيقة لم يُطلِّق إلا الزوج إما بنفسه أو بوكيله.

حُكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَّنه عن ربه تبارك وتعالى فيمن حرَّم أمته أو زوجته أو متاعه
قال تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ واللهُ غَفُورٌ رحيمٌ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُم} [التحريم: 1-2]، ثبت فى "الصحيحين"، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ عسلاً فى بيت زينب بنت جحش، فاحتالت عليه عائشةُ وحفصةُ، حتى قال: "لَنْ أَعُودَ لَهُ". وفى لفظ: وقد حلفت.
وفى "سنن النسائى": عن أنس رضى الله عنه، أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت له أمة يطؤُها، فلم تزل به عائشةُ وحفصةُ حتى حرَّمَها، فأنزل الله عز وجل : {يَأَيُّهَا النبىُّ لِمَ تُحرِّمُ مَا أَحلَّ الله لَكَ} [التحريم:1].
وفى "صحيح مسلم": عن ابنِ عباس رضى الله عنهما، قال: إذا حَرَّمَ الرَّجُلُ امرأَته، فهي يَمينٌ يُكَفِّرُهَا، وقال: لقد كان لكُم فى رسولِ الله

أسوة حسنة.
وفى جامع الترمذى: عن عائشة رضى الله عنها، قالت: آلى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن نسائه وحرَّم فَجَعَلَ الحَرَامَ حَلاَلاً، وجَعَلَ فى اليمينِ كفارةً. هكذا رواه مسلمة بن علقمة، عن داود، عن الشعبى، عن مسروق، عن عائشة، ورواه على بن مُسهر، وغيره، عن الشعبى، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرسلاً وهو أصح، انتهى كلام أبى عيسى.
وقولُها: جعل الحرامَ حلالاً، أى: جعل الشىء الذى حرَّمه وهو العسلُ، أو الجاريةُ، حلالاً بعد تحريمه إياه.
وقال الليثُ بن سعد: عن يزيد بن أبى حبيب، عن عبد الله بن هُبيرة عن قَبيصة بن ذُؤيب، قال: سألت زيد بن ثابت، وابن عمر رضى الله عنهم، عمن قال لامرأته: أنت علىَّ حرام، فقالا جميعاً: كفارة يمين. وقال عبد الرزاق، عن ابن عُيينة، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن ابن مسعود رضى الله عنه، قال فى التحريم: هى يمينٌ يكفِّرها.
قال ابنُ حزم: وروى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعائشة أمِّ المؤمنين. وقال الحجاج بن منهال: حدثنا جريرُ بن حازم، قال: سألت نافعاً مولى ابن عمر رضى الله عنه عن الحرام، أطلاق هو؟ قال: لا، أوليس قد حرَّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاريته فأمره الله عز وجل أن يُكفِّر عن يمينه،

ولم يحرِّمها عليه.
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن يحيى بن أبى كثير، وأيوب السختيانى، كلاهما عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال: هى يمين، يعنى التحريم.
وقال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا المُقَدَّمىُّ: حدثنا حماد بن زيد، عن صخر بن جُويرية، عن نافع، عن ابن عمر رضى الله عنهما، قال: الحرام يمين.
وفى "صحيح البخارى": عن سعيد بن جبير، أنه سمع ابن عباس رضى الله عنهما يقول: إذا حرَّم امرأته، ليس بشىء، وقال: لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة فقيل: هذا رواية أخرى عن ابن عباس. وقيل: إنما أراد أنه ليس بطلاق وفيه كفارة يمين، ولهذا احتجَّ بفعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الثانى أظهر، وهذه المسألة فيها عشرون مذهباً للناس، ونحن نذكرها، ونذكر وجوهها ومآخذها، والراجح منها بعون الله تعالى وتوفيقه.
أحدها: أن التحريمَ لغو لا شىء فيه، لا فى الزوجة، ولا فى غيرها، لا طلاقَ ولا إيلاءَ، ولا يمينَ ولا ظِهَار، روى وكيع، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، عن مسروق: ما أبالى حرَّمتُ امرأتى أو قصعةً من ثريد. وذكر عبد الرزاق، عن الثورى، عن صالح بن مسلم،ر

عن الشعبى، أنه قال فى تحريم المرأة: لهن أهونُ على من نعلى وذُكِرَ عن ابن جريج، أخبرنى عبد الكريم، عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، أنه قال: ما أبالى حرَّمُتها يعنى امرأته، أو حرَّمتُ ماء النهر. وقال قتادة: سأل رجلٌ حميدَ بن عبد الرحمن الحميرى، عن ذلك؟ فقال: قال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وإلى رَبَّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7-8] وأنت رجل تلعب، فاذهب فالعب، هذا قول أهلِ الظاهر كلِّهم.
المذهب الثانى: أن التحريم فى الزوجة طلاق ثلاث. قال ابن حزم: قاله على بن أبى طالب، وزيدُ بن ثَابت، وابنُ عمر، وهو قول الحسن، ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبى ليلى، وروى عن الحكم بن عتيبة. قلت: الثابت عن زيد بن ثابت، وابن عمر، ما رواه هو من طريق الليث ابن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى هُبيرة، عن قَبيصة، أنه سأل زيدَ بن ثابت وابنَ عمر عمن قال لامرأته. أنت علىّ حرام، فقالا جميعاً: كفارة يمين، ولم يصح عنهما خلاف ذلك، وأما على، فقد روى أبو محمد بن حزم، من طريق يحيى القطان، حدثنا إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، قال: يقول رجال فى الحرام: هى حرام حتى تنكِح زوجاً غيره. ولا والله ما قال ذلك على، وإنما قال على: ما أنا بمحلِّها ولا بمحرِّمها عليك، إن شئت فتقدَّم، وإن شئت فتأخر. وأما الحسن، فقد روى أبو محمد من طريق قتادة عنه، أنه قال: كُلُّ حلال على حرام، فهو يمين. ولعل أبا محمد غلط على على وزيد وابن عمر من مسألة الخلية والبرية والبتة، فإن أحمد حكى عنهم أنها ثلاث.

وقال هو عن على وابن عمر صحيح، فوهم أبو محمد، وحكاه فى: أنت على حرام، وهو وهم ظاهر، فإنهم فرَّقوا بين التحريم، فأفتوا فيه بأنه يمين، وبين الخلية فأفتوا فيها بالثلاث، ولا أعلم أحداً قال: إنه ثلاث بكل حال.
المذهب الثالث: أنه ثلاث فى حق المدخول بها لا يُقبل منه غيرُ ذلك، وإن كانت غيرَ مدخول بها، وقع ما نواه من واحدة واثنتين وثلاث، فإن أطلق، فواحدة، وإن قال: لم أرد طلاقاً، فإن كان قد تقدَّم كلام يجوز صرفه إليه قبل منه، وإن كان ابتداءً لم يقبل، وإن حِرَّم أمته أو طعامه أو متاعه، فليس بشىء، وهذا مذهب مالك.
المذهب الرابع: أنه إن نوى الطلاق كان طلاقاً، ثم إن نوى به الثلاث فثلاث، وإن نوى دونها فواحدة بائنة، وإن نوى يميناً فهو يمين فيها كفارة، وإن لم ينو شيئاً فهو إيلاء فيه حكمُ الإيلاء. فإن نوى الكذبَ، صُدِّق فى الفتيا ولم يكن شيئاً، ويكون فى القضاء إيلاء، وإن صادف غير الزوجة الأمةِ والطعام وغيره، فهو يمين فيه كفارتها، وهذا مذهب أبى حنيفة.
المذهب الخامس: أنه إن نوى به الطلاقَ، كان طلاقاً، ويقعُ ما نواه، فإن أطلق وقعت واحدةً، وإن نوى الظهارَ، كان ظهاراً، وإن نَوَى اليمينَ، كان يميناً، وإن نوى تحريمَ عينها مِن غير طلاق ولا ظِهار، فعليه كفارةُ يمين، وإن لم ينوِ شيئاً، ففيه قولان. أحدهما: لا يلزمُه شىء. والثانى: يلزمه كفارة يمين. وإن صادف جارية، فنوى عتقها وقع العتق، وإن نوى تحريمها لزمه بنفس اللفظ كفارةُ يمين، وإن نوى الظهارَ منها، لم يصح، ولم يلزمه شىء، وقيل: بل يلزمه

كفارةُ يمين، وإن ينو شيئاً، ففيه قولان، أحدهما: لا يلزمُه شىء والثانى: عليه كفارةُ يمين. وإن صادفَ غيرَ الزوجة والأمة لم يحرم، ولم يلزمه به شىء، وهذا مذهبُ الشافعى.
المذهب السادس: أنه ظِهار بإطلاقه، نواه أو لم ينوِه، إلا أن يَصرفَه بالنية إلى الطلاق، أو اليمين، فينصرِف إلى ما نواه، هذا ظاهر مذهبِ أحمد. وعنه رواية ثانية: أنه بإطلاقه يمين إلا أن يَصْرِفَه بالنية إلى الظهار أو الطَّلاق، فينصَرِفُ إلى ما نواهُ، وعنه رواية أخرى ثالثة: أنه ظهار بكل حال ولو نوى غيرَه، وفيه رواية رابعة حكاها أبو الحسين فى "فروعه"، أنه طلاق بائن.،ولو وصله بقوله: أعنى به الطلاق. فعنه فيه روايتان. إحداهما: أنه طلاق، فعلى هذا هل تلزمُه الثلاث، أو واحدة؟ على روايتين، والثانية: أنه ظهار أيضاً كما لو قال: أنتِ علىَّ كظهر أمى أعنى به الطلاق، هذا تلخيصُ مذهبه.
المذهب السابع: أنه إن نوى به ثلاثاً، فهى ثلاثٌ، وإن نوى به واحدة، فهى واحدة بائنة، وإن نوى به يميناً، فهى يمين، وإن لم ينوِ شيئاً، فهى كذبة لا شىءَ فيها، وهذا مذهبُ سفيان الثورى، حكاه عنه أبو محمد ابن حزم.
المذهب الثامن: أنه طلقةٌ واحدة بائنة بكل حال، وهذا مذهبُ حماد بن أبى سليمان.
المذهب التاسع: أنه إن نوى ثلاثاً فثلاث، وإن نوى واحدة، أو لم ينوِ شيئاً، فواحدة بائنة، وهذا مذهبُ إبراهيم النخعى، حكاه عنه أبو محمد بن حزم.

المذهب العاشر: أنه طلقة رجعية، حكاه ابن الصباغ وصاحبُه أبو بكر الشاشى عن الزهرى، عن عمر بن الخطاب.
المذهب الحادى عشر: أنها حرمت عليه بذلك فقط، ولم يذكر هؤلاء ظهاراً ولا طلاقاً ولا يميناً، بل ألزموه موجب تحريمه. قال ابن حزم: صح هذا عن على بن أبى طالب، ورجالٍ من الصحابة لم يُسمَّوْا، وعن أبى هريرة. وصح عن الحسن، وخِلاس بن عمرو، وجابر بن زيد، وقتادة، أنهم أمروه باجتنابها فقط.
المذهب الثانى عشر: التوقفُ فى ذلك لا يُحرِّمها المفتى على الزوج، ولا يحلِّلها له، كما رواه الشعبى عن على أنه قال: ما أنا بمحلها ولا محرِّمها عليك إن شئتَ فتقدَّم، وإن شئت فتأخر.
المذهب الثالث عشر: الفرقُ بين أن يُوقع التحريم منجزاً أو معلقاً تعليقاً مقصوداً وبين أن يُخرجه مخرجَ اليمين، فالأول: ظهار بكل حال ولو نوى به الطلاقَ، ولو وصله بقوله: أعنى به الطلاقَ. والثانى: يمين يلزمه به كفارةُ يمين، فإذا قال: أنت علىَّ حرام، أو إذا دخل رمضان، فأنتِ علىَّ حرام، فظهار. وإذا قال: إن سافرتُ، أو إن أكلتُ هذا الطعامَ أو كلمتُ فلانا، فامرأتى علىَّ حرام، فيمين مكفرة، وهذا اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية، فهذه أصولُ المذاهب فى هذه المسألة وتتفرَّعُ إلى أكثر من عشرين مذهباً.
فصل
فأما من قال: التحريمُ كلُّه لغو لا شىء فيه، فاحتجوُّا بأن الله سبحانه لم يجعل للعبد تحريماً ولا تحليلاً، وإنما جعل له تعاطى الأسباب التى

تَحِلُّ بها العينُ وتحرم، كالطلاق والنكاحِ، والبيعِ والعتقِ، وأما مجردُ قوله: حرَّمت كذا وهو علىَّ حرام، فليس إليه. قال تعالى :{وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلسِنَتِكُم الكَذِبَ هذَا حَلاَلٌ وهذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلى اللهِ الكَذِبَ} [النحل: 116] وقال تعالى: {يَأيُّهَا النَّبِىُّ لمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم:1]، فَإذا كَانَ سبحانه لم يجعلْ لرسوله أن يُحِّرمَ ما أحل الله له، فكيف يجعلُ لِغيره التحريمَ؟
قالوا: وقد قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ عَمَلٍ لَيْس عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُو رَدٌّ" وهذا التحريمُ كذلك، فيكون رداً باطلاً.
قالوا: ولأنه لا فرق بين تحريمِ الحلال، وتحليلِ الحرام، وكما أن هذا الثانى لغو لا أثر له، فكذلك الأولُ.
قالوا: ولا فرق بين قوله لامرأته: أنت علىَّ حرام، وبين قولهِ لِطعامه هو علىَّ حرام.
قالوا: وقوله: أنتِ علىَّ حرام، إما أن يُريد به إنشاء تحريمها، أو الإخبارَ عنها بأنها حرام، وإنشاء تحريم محال، فإنه ليس إليه، إنما هو إلى من أحلَّ الحلال، وحرَّمَ الحرامَ، وشرع الأحكام، وإن أراد الإخبار، فهو كذب، فهو إما خبرٌ كاذب أو إنشاءٌ باطل، وكلاهما لغو من القول.
قالوا: ونظرنا فيما سوى هذا القولِ، فرأيناها أقوالاً مضطربة متعارضة يردُّ بعضُها بعضاً، فلم يحرم الزوجة بشىء منها بغير برهان من الله ورسوله، فنكون قد ارتكبنا أمرين: تحريمَها على الأول، وإحلالها لغيره، والأصلُ

بقاءُ النكاح حتي تُجمع الأمة، أو يأتىَ برهان من اللهِ ورسوله على زواله، فيتعيَّن القولُ به، فهذا حجة هذا الفريق.
فصل
وأما من قال: إنه ثلاث بكل حال، إن ثبت هذا عنه، فيحتجُّ له بأن التحريمَ جُعِلَ كناية فى الطلاق، وأعلى أنواعه تحريمُ الثلاث، فُيحمل على أعلى أنواعه احتياطاً للأبضاع.
وأيضاً فإنَّا تيقَّنَّا التحريمَ بذلك، وشككنا: هل هو تحريمٌ تُزيله الكفارة كالظهار أو يُزيله تجديدُ العقد كالخُلع، أو لا يُزيله إلا أوجٌ وإصابة كتحريمِ الثلاث؟ وهذا متيقَّن، وما دونه مشكوكٌ فيه، فلا يَحلُّ بالشك.
قالوا: ولأن الصحابة أَفْنَوْا فى الخلية والبرية بأنها ثلاث. قال أحمد: هو عن على وابنِ عمر صحيح، ومعلوم أن غاية الخلية والبرية أن تصير إلى التحريم، فإذا صرَّحَ بالغاية، فهى أولى أن تكونَ ثلاثاً، ولأن المحرم لا يسبقُ إلى وهمه تحريمُ امرأته بدون الثلاث، فكأنَّ هذا اللفظَ صارَ حقيقةً عُرفية فى إيقاع الثلاث.
وأيضاً فالواحدةُ لا تحرمُ إلا بعوض، أو قبلَ الدخول، أو عندَ تقييدها بكونها بائنة عند من يراه، فالتحريمُ بها مقيَّد، فإذا أطلق التحريمُ، ولم يُقيَّيد، انصرف إلى التحريم المطلق الذى يثبت قبل الدخول أو بعده، وبعوض وغيره وهو الثلاث.

فصل
وأما من جعله ثلاثاً فى حق المدخول بها، وواحدة بائنة فى حقِّ غيرها، فحجتُه أن المدخولَ بها لا يُحَرِّمُها إلا الثلاث، وغيرُ المدخول بها تحرمها الواحدة، فالزائدة عليها ليست من لوازم التحريم، فأورد على هؤلاء أن المدخول بها يملِكُ إبانتها بواحدة بائنة، فأجابوا بما لا يُجدى عليهم شيئاً، وهو أن الإبانة بالواحدة الموصوفة بأنها بائنة إبانة مقيَّدة، بخلاف التحريم، فإن الإبانة به مطلقة، ولا يكونُ ذلك إلا بالثلاثِ، وهذا القدرُ لا يُخلِّصُهم من هذا الإلزام، فإن إبانة التحريمِ أعظمُ تقييداً من قوله: أنتِ طالق طلقة بائنة، فإن غايةَ البائنة أن تحرمها، وهذا قد صرَّح بالتحريم، فهو أولى بالإبانة من قوله: أنت طالق طلقةً بائنة.
فصل
وأما مَن جعلها واحدة بائنة فى حقِّ المدخول بها وغيرها، فمأخذُ هذا القول أنها لا تُفيد بوضعها، وإنما تقتضى بينونةً يحصلُ بها التحريمُ، وهو يَمِلكُ إبانتها بعد الدخول بها بواحدة بدون عوض، كما إذا قال: أنت طالق طلقة بائنة، فإن الرجعة حقٌّ له، فإذا أسقطها سقطت، ولأنه إذا ملك إبانتها بعوض يأخذه منها، ملك الإبانة بدونه، فإنه محسن بتركه، ولأن العِوض مستحق له، لا عليه، فإذا أسقطه وأبانها، فله ذلك.

فصل
وأما مَن قال: إنها واحدة رجعية، فمأخذه أن التحريمَ يُفيد مطلق انقطاعِ الملك وهو يصدُق بالمتيقَّنِ منه وهو الواحدةُ، وما زاد عليها، فلا تعُّرضَ فى اللفظ له، فلا يسوغُ إثباتُه بغير موجب. وإذا أمكن إعمالُ اللفظ فى الواحدة، فقد وفى بموجبه، فالزيادةُ عليه لا موجبَ لها. قالوا: وهذا ظاهر جداً على أصل من يجعل الرجعية محرمة، وحينئذ فنقول: التحريمُ أعمُّ مِن تحريم رجعية، أو تحريم بائن، فالدالُّ على الأعم لا يدُل على الأخص، وإن شئتَ قلت: الأعمُّ لا يستلزِمُ الأخصَّ أو ليس الأخصُّ مِن لوازم الأعم، أو الأعم لا يُنتج الأخصَّ.
فصل
وأما من قال: يُسأل عما أراد من ظهار أو طلاق رجعي، أو محرَّم، أو يمين، فيكون ما أراد مِن ذلك، فمأخذُه أن اللفظ لم يوضع لإيقاع الطلاق خاصة، بل هو محتمِلٌ للطلاق والظهار والإيلاء، فإذا صُرِفَ إلى بعضها بالنية فقد استعمله فيما هو صالح له، وصرفه إليه بنيته، فينصرفُ إلى ما أراده، ولا يتجاوز به ولا يقصُرُ عنه، وكذلك لو نوى عتق أمته بذلك، عتقت، وكذلك لو نوى الإيلاء من الزوجة، واليمين من الأمة، لزمه ما نواه، قالوا: وأما إذا نوى تحريمَ عينها، لزمه بنفس اللفظ كفارةُ يمين اتباعاً لظاهر القرآن، وحديث ابن عباس الذى رواه مسلم فى "صحيحه": إذا حرّم الرجلُ امرأته فهى يمين يكفِّرها، وتلا: {لَقَدْ

كَانَ لَكُم فى رَسولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ، وهذا يُشبه ما قاله مجاهد فى الظِّهار: إنه ليزمُه بمجرد التكلم به كفارةُ الظهار، وهو فى الحقيقة قولُ الشافعى رحمه الله، فإنه يُوجب الكفارة إذا لم يُطلِّق عقيبَه على الفور. قالوا: ولأن اللفظ يحتمِلُ الإنشاء والإخبار، فإن أراد الإخبار، فقد استعمله فيما هو صالحٌ له، فيُقبل منه. وإن أراد الإنشاء سُئِلَ عن السبب الذى حرَّمها به. فإن قال: أردت ثلاثاً أو واحدة، أو اثنتين، قُبِلَ منه لصلاحية اللفظ له واقترانه بنيته، وإن نوى الظهار، كان كذلك، لأنه صرَّح بموجب الظهار، لأن قوله: أنتِ علىَّ كظهر أمى موجبُه التحريم، فإذا نوى ذلك بلفظ التحريم، كان ظهاراً، واحتمالُه للطلاق بالنية لا يزيدُ على احتماله للظهار بها، وإن أراد تحريمَها مطلقاً، فهو يمين مكفرة، لأنه امتناع منها بالتحريم، فهو كامتناعه منها باليمين.
فصل
وأما من قال: إنه ظهار إلا أن ينوىَ به طلاقاً، فمأخذُ قوله: أن اللفظ موضوعٌ للتحريم، فهو منكر من القول وزور، فإن العبدَ ليس إليه التحريمُ والتحليل، وإنما إليه إنشاء الأسباب التى يرتب عليها ذلك، فإذا حرَّم ما أحل الله له، فقد قال المُنْكر والزُّورَ، فيكون كقوله: أنتِ علىّ كظهر أمى، بل هذا أولى أن يكون ظهاراً، لأنه إذا شبهها بمن تحرم عليه، دل على التحريم باللزوم، فإذا صرَّح بتحريمها، فقد صرح بموجب التشبيه فى لفظ الظهار، فهو أولى أن يكون ظهاراً. قالوا: وإنما جعلناه طلاقاً بالنية، فصرفناه إليه بها، لأنه يصلُح كنايةً فى الطلاق

فينصرِف إليه بالنية بخلاف إطلاقه، فإنه ينصرِف إلى الظهار، فإذا نوى به اليمينَ كان يميناً، إذ من أصل أرباب هذا القول أن تحريم الطعام ونحوه، يمين مكفرة، فإذا نوى بتحريم الزوجة اليمين، نوى ما يصلُح له اللفظ، فقُبِلَ منه.
فصل
وأما من قال: إنه ظهار وإن نوى به الطلاقَ، أو وصله بقوله: أعنى به الطلاقَ فمأخذُ قوله ما ذكرنا من تقرير كونه ظهاراً، ولا يخُرج عن كونه ظهاراً بنية الطلاق كما لو قال: أَنتِ علىَّ كظهر أمى ونوى به الطلاق، أو قال: أعنى به الطلاق، فإنه لا يخرُج بذلك عن الظهار، ويصيرُ طلاقاً عِند الأكثرين: إلا على قول شاذ لا يُلتفت إليه لموافقته ما كان الأمر عليه فى الجاهلية مِن جعل الظهار طلاقاً، ونسخ الإسلام لذلك، وإبطلاله، فإذا نوى به الطلاقَ، فقد نوى ما أبطله الله ورسولُه مما كان عليه أهلُ الجاهلية عند إطلاق لفظ الظهار، وقد نوى مالا يحتمِلُه شرعاً، فلا تؤثِّر نيته فى تغيير ما استقرَّ عليه حكمُ الله الذى حكم به بينَ عباده، ثم جرى أحمدُ وأصحابُه على أصله من التسوية بين إيقاع ذلك، والحلف به كالطلاق والعتاق وفرَّق شيخ الإسلام بين البابين على أصله فى التفريق بين الإيقاع والحلف، كما فرَّق الشافعى وأحمد رحمهما الله، ومَنْ وافقهما بين البابين فى النذر بينَ أن يحلف به، فيكون يميناً مكفرة، وبين أن ينجزه أو يعلِّقه بشرط يقصد وقوعه، فيكون نذراً لازم الوفاء كما سيأتى تقريرُه فى الأيمان إن شاء الله تعالى. قال: فيلزمهم على هذا أن يفرِّقوا بين إنشاء التحريم، وبين الحلف، فيكون فى الحلف به حالفاً يلزمه كفارة يمين،

وفى تنجيزه أو تعليقه بشرط مقصود مظاهراً يلزمُه كفارةُ الظهار، وهذا مقتضى المنقول عن ابن عباس رضى الله عنهما، فإنه مرة جعله ظهاراً ومرة جعله يميناً.
فصل
وأما من قال: إنه يمينٌ مكفرة بكلِّ حال، فمأخذ قوله: أن تحريم الحلال من الطعام والشراب واللباس يمينٌ تُكفَّر بالنصِّ، والمعنى، وآثار الصحابة، فإن الله سبحانه قال: {يَأَيُّها النَّبىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغى مَرْضَاتَ أَزْواجِكَ واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُم} [التحريم: 1-2]، ولابد أن يكون تحريم الحلال داخلاً تحت هذا الفرض، لأنه سبُبُه، وتخصيصُ محل السبب من جملة العام ممتنع قطعاً، إذ هو المقصودُ بالبيان أولاً، فلو خُصَّ لخلا سببُ الحكم عن البيان، وهو ممتنع، وهذا استدلال فى غاية القوة، فسألتُ عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فقال: نَعَم التحريمُ يمين كُبرى فى الزوجة كفارتُها كفارةُ الظهار، ويمين صغرى فيما عداها كفارتُها كفارةُ اليمين بالله. قال: وهذا معنى قولِ ابن عباس وغيرِه من الصحابة ومَنْ بَعْدَهم، إن التحرِيمَ يمين تكفر، فهذا تحريرُ المذاهب فى هذه المسألة نقلاً،وتقريرها استدلالاً، ولا يخفى- على من آثر العِلم والإنصاف، وجانب التعصُّب ونصرة ما بنى عليه من الأقوال- الراجحُ مِن المرجوح وبالله المستعان.

فصل
وقد تبين بما ذكرنا، أن من حرَّم شيئاً غير الزوجة من الطعام والشراب واللباس أو أمته يَحْرُمْ عليه بذلك، وعليه كفارةُ يمين، وفى هذا خلاف فى ثلاثة مواضع.
أحدها: أنه لا يحرم، وهذا قول الجمهور، وقال أبو حنيفة: يحرم تحريماً مقيداً تُزيله الكفارة، كما إذا ظاهرَ من امرأته، فإنه لا يَحِلُّ له وطؤها حتى يُكفِّر، ولأن الله سبحانه سمَّى الكفارة فى ذلك تَحِلَّةً، وهى ما يُوجب الحِلَّ، فدل علي ثبوت التحريم قبلها، ولأنه سبحانه قال لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم:1]، ولأنه تحريمٌ لما أبيح له، فيحرم بتحريمه كما لو حرَّم زوجته.
ومنازعوه يقولون: إنما سُميت الكفارة تحِلَّه مِن الحَل الذى هو ضِدُّ العقدِ لا مِن الحِل الذى هو مقابلُ التحريم، فهى تَحُلُّ اليمين بعد عقدها، وأما قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم:1]، فالمرادُ تحريمُ الأمِة أو العسل، ومنعُ نفسه منه، وذلك يُسمى تحريماً، فهو تحريم بالقول، لا إثبات للتحريم شرعاً.
وأما قياسه على تحريم الزوجة بالظهارِ، أو بقوله: أنتِ علىَّ حرام، فلو صحَّ هذا القياس، لوجب تقديمُ التكفير على الحنث قياساً على الظهارِ، إذ كان فى معناه، وعندهم لا يجوزُ التكفيرُ إلا بعد الحنث، فعلى قولِهم: يلزم أحد أمرين، ولا بد إما أن يفعله حراماً وقد فرض الله تحِلَّة اليمين، فيلزم كون المحرم مفروضاً، أو من ضرورة المفروض، لأنه لا يَصِلُ إلى التَّحِلَّةِ إلا بفعل المحلوف عليه، أو أنه لا سبيلَ له إلى فعله حلالاً،

لأنه لا يجوز تقديمُ الكفارة، فيستفيدُ بها الحل، وإقدامه عليه وهو حرامٌ ممتنع، هذا ما قيل فى المسألة من الجانبين، وبعدُ، فلها غور، وفيها دِقة وغموض، فإن من حرَّم شيئاً، فهو بمنزلة من حَلَفَ بالله على تركه، ولو حلف على تركه، لم يَجز له هتكُ حرمة المحلوفِ به بفعله إلا بالتزام الكفارة، فإذا التزمها، جاز له الإقدامُ على فعل المحلوف عليه، فلو عزم على تركِ الكفارة، فإن الشارع لا يُبيح له الإقدامَ على فعل ما حلف عليه، ويأذن له فيه، وإنما يأذنُ له فيه ويُبيحه إذا التزم ما فرض الله من الكفارة، فيكون إذنه له فيه، وإباحته بعد امتناعه منه بالحلف أو التحريم رُخصةً من الله له، ونعمة منه عليه بسبب التزامه لحكمه الذى فرض له من الكفارة، فإذا لم يلتزِمْه بقى المنعُ الذى عقدَه على نفسه إصراً عليه، فإن الله إنما رفع الآصار عمن اتقاه، والتزم حُكمه، وقد كانت اليمينُ فى شرع مَن قبلنا يتحتّم الوفاءُ بها، ولا يجوز الحنثُ، فوسَّع الله على هذه الأمة، وجوَّز لها الحنث بشرط الكفارة، فإذا لم يُكفِّرْ لا قبلُ ولا بعدُ لم يُوسَّع له فى الحنث، فهذا معنى قوله: إنه يحرم حتى يكفِّر.،وليس هذا من مفردات أبى حنيفة، بل هو أحدُ القولين فى مذهب أحمد يُوضحه: أن هذا التحريمَ والحلف قد تعلَّق به مانعان: منع من نفسه لفعله، ومنع من الشارع للحنث بدون الكفارة، فلو لم يُحرِّمه تحريمه أو يمينه، لم يكن لمنعه نفسه ولا لمنع الشارع له أثره، بل كان غايةُ الأمر أن الشارعَ أوجبَ فى ذمته بهذا المنع صدقةً أو عِتقاً أو صوماً لا يتوقَّفُ عليه حلُّ المحلوف عليه ولا تحريمه البته، بل هو قبل المنع وبعده على السواء من غير فرق، فلا يكونُ للكفارة أثر البته، لا فى المنع منه، ولا فى الإذن، وهذا لا يخفى فسادُه.

وأما إلزامه بالإقدام عليه مع تحريمه حيثُ لا يجوزُ تقديمُ الكفارة، فجوابه أنه إنما يجوز له الإقدام عند عزمه على التكفير، فعزمُه على التكفير منع من بقاء تحريمه عليه، وإنما يكونُ التحريمُ ثابتاً إذا لم يلتزم الكفارة، ومع التزامها لا يستمرُّ التحريم.
فصل
الثانى: أن يلزمه كفارة بالتحريم، وهو بمنزلة اليمين، وهذا قولُ مَنْ سميناه من الصحابة، وقولُ فقهاء الرأى والحديث إلا الشافعىَّ ومالكاً، فإنهما قالا: لا كفارة عليه بذلك.
والذين أوجبوا الكفارةَ أسعدُ بالنص من الذين أسقطوها، فإن الله سبحانه ذكر تَحِلَّةَ الأيمانِ عَقبَ قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم: 1]، وهذا صريحٌ فى أن تحريم الحلال قد فُرِضَ فيه تحلَّةُ الأيمان، إما مختصاً به، وإما شاملاً له ولغيره، فلا يجوزُ أن يُخلى سببُ الكفارة المذكورة فى السياق عن حكمِ الكفارة، ويُعلَّق بغيره، وهذا ظاهرُ الامتناع.
وأيضاً فإن المنع من فعله بالتحريم كالمنع منه باليمين، بل أقوى، فإن اليمينَ إن تضمن هتكَ حُرمة اسمه سبحانه، فالتحريمُ تضمن هتك حرمة شرعه وأمره، فإنه إذا شرع الشىء حلالاً فحرَّمه المكلف، كان تحريمه هتكاً لحرمة ما شرعه، ونحن نقولُ: لم يتضمن الحِنث فى اليمين هتكَ حرمِة الاسم، ولا التحريمُ هتكَ حرمة الشرع، كما يقولُه من يقول مِن الفقهاء، وهو تعليلٌ فاسد جداً، فإن الحِنثَ إما جائز، وإما واجب أو مستحب، وما جوَّز الله لأحد البتة أن يَهْتِكَ حُرمة اسمه، وقد شرع

لِعباده الحِنث مع الكفارة، وأخبره النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه إذا حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها كفَّر عن يمينه، وأتى المحلوفَ عليه، ومعلوم أن هتك حرمة اسمه تبارك وتعالى لم يُبح فى شريعة قطُّ، وإنما الكفَّارة كما سماها الله تعالى تحلَّة وهى تفعلة من الحل، فهى تَحُلُّ ما عقد به اليمين ليس إلا، وهذا العقدُ كما يكون باليمين يكونُ بالتحريم، وظهر سِرُّ قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُم تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُم} [التحريم: 2] عقيب قوله : {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم:1].
فصل
الثالث: أنه لا فرقَ بينَ التحريم فى غير الزوجة بين الأمة وغيرها عند الجمهور إلا الشافعىَّ وحدَه، أوجب فى تحريم الأمة خاصة كفارةَ يمين، إذ التحريمُ له تأثير فى الأبضاع عنده دون غيرها.
وأيضاً فإن سببَ نزول الآية تحريمُ الجارية، فلا يخرُجُ محلُّ السبب عن الحكم، ويتعلَّق بغيره، ومنازعوه يقولون: النص علق فرض تَحِلَّة اليمين بتحريم الحلال، وهو أعمُّ من تحريم الأمة وغيرها، فتجب الكفارة حيث وجد سببها، وقد تقدم تقريرهُ.
حكمُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى قول الرَّجُلِ لامرأته: الحقى بأَهْلِكِ
ثبت فى صحيح البخارى: أن ابنةَ الجَوْنِ لما دخلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودَنَا منها قالت: أعوذُ باللهِ منكَ، فقالَ : "عُذْتِ بِعَظِيمٍ الحَقى

بِأَهْلِكِ".
وثبت فى "الصحيحين": أن كعب بنَ مالك رضى الله عنه لما أتاه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يأمُرُه أن يعتزِلَ امرأته، قال لها: الحقى بأهلك".
فاختلف الناسُ فى هذا، فقالت طائفة: ليس هذا بطلاق، ولا يقعُ به الطلاقُ نواه أو لم ينوه، وهذا قولُ أهل الظاهر. قالوا: والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن عقد على ابنة الجَوْنِ، وإنما أرسل إليها لِيَخطُبها. قالوا: وَيَدُلُّ على ذلك ما فى صحيح البخارى: من حديث حمزة بن أبى أُسيد، عن أبيه، أنه كان مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أُتِىَ بالجَوْنِيةِ، فأُنزلت فى بيت أُميمة بنت النعمان بن شراحبيل فى نخل ومعها دابتُها، فدخل عليها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "هَبى لى نَفْسَكِ"، فقالت: وهَلْ تَهَبْ المَلِكةُ نَفْسَها للسُّوقَةِ، فَأَهْوَى لِيَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتسْكُنَ، فَقَالَتْ: أَعُوذُ باللهِ مِنْكَ فقالَ: "قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذ"، ثم خَرَجَ فقال: "يَا أَبا أُسَيْد: اكْسُهَا رازِقِيَّيْنِ وأَلْحِقْهَا بأَهْلِهَا".
وفى "صحيح مسلم": عن سهل بن سعد، قال: ذُكرَتْ لِرسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأةٌ مِن العرب، فأمر أَبا أُسَيْدٍ أن يُرْسِلَ إليها، فأرسل إليها،

فَقَدِمَتْ، فنزلت فى أُجُمِ بنى سَاعِدَة، فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جاءها فدخل عليها، فإذا امرأة منكِّسة رأسها، فلمَّا كلمها، قالت: أَعوذُ باللِّهِ منك، قال: "قَدْ أَعَذْتُكِ مِنِّى"، فقالوا لها: أتدرينَ مَنْ هذا؟ قالتْ: لا، قالوا: هذا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءَك لِيخْطُبَك، قالت: أنا كنتُ أشقى من ذلك.
قالوا: وهذه كُلُّهَا أخبارٌ عن قصة واحدة، فى امرأة واحدة، فى مقام واحد، وهى صريحة أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن تزوَّجها بعدُ، وإنما دخل عليها لِيخْطُبَها.
وقال الجمهور منهم الأئمة الأربعة وغيرهم: بل هذا من ألفاظ الطلاق إذا نوى به الطلاق، وقد ثبت فى صحيح البخارى: أن أبانا إسماعيل بن إبراهيم طلَّق به امرأَته لما قال لها إبراهيم: "مُرِيه فلِّيغَيِّرْ عَتَبَةَ بابِهِ"، فقال لها: أنتِ العتبةُ، وقد أمرنى أن أُفارِقَكِ، الحقى بأهلك وحديث عائشة كالصريح، فى أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عَقَدَ عليها، فإنه قالت: لما أُدخلت عليه، فهذا دخولُ الزوج بأهِله، ويُؤكّده قولها: ودنا منها.
وأما حديث أبى أُسيد، فغايةُ ما فيه قوله: "هِبى لِى نَفْسَكِ"، وهذا لا يدل على أنه لم يتقدم نِكاحُه لها، وجاز أن يكون هذا استدعاءً منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للدُّخول لا للعقد.
وأما حديث سهل بن سعد، فهو أصرحُها فى أنه لم يكن وُجدَ عقد،

فإنَّ فيه أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما جاء إليها قالُوا: هذا رسولُ الله جاء لِيخطُبَكِ، والظاهرُ أنها هى الجونية، لأن سهلاً قال فى حديثه: فأمر أبا أُسيد أن يُرْسِلَ إليها، فأرسل إليها. فالقصةُ واحدة دارت على عائشة رضى الله عنها وأبى أسيد وسهل، وكُلٌّ منهم رواها، وألفاظُهم فيها متقاربة، ويبقى التعارض بين قوله: جاء ليخطبك، وبين قوله: فلما دخل عليها، ودنا منها: فإما أن يكون أحدُ اللفظين وهماً، أو الدخولُ ليس دخول الرجل على امرأته، بل الدخول العام، وهذا محتمل.
وحديثُ ابنِ عباس رضى الله عنهما فى قصة إسماعيل صريح، ولم يزل هذا اللفظُ من الألفاظ التى يُطلَّقُ بها فى الجاهلية والإسلام، ولم يغيره النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل أقرهم عليه، وقد أوقع أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطلاقَ وهُمُ القدوةُ: بأنتِ حرام، وأمرُك بيدك، واختاري، ووهبتُك لأهلك، وأنت خلية وقد خلوتِ مني، وأنت برية وقد أبرأتك، وأنتِ مبرَّأة، وحبلُك على غاربِك، وأنتِ الحرجُ. فقال على وابن عمر: الخليةُ ثلاث، وقال عمر: واحدة، وهو أحقُّ بهَا. وفرَّق معاوية بين رجل وامرأته قال لها: إن خرجت فأنت خلية، وقال على وابنُ عمر رضي الله عنهما، وزيد فى البرية: إنها ثلاث. وقال عمر رضى الله عنه: هى واحدة وهو أحق بها، وقال على في الحرج: هى ثلاث، وقال عمر: واحدة، وقد تقدم ذكر أقوالهم فى أمرك بيدك، وأنت حرام.،والله سبحانه ذكر الطلاقَ ولم يُعين له لفظاً، فعلم أَنه ردَّ الناسَ إلى ما يتعارفونه طلاقاً، فإن جرى عرفهم به، وقع به الطلاقُ مع النيَّة، والألفاظُ لا تُراد لعينها، بل للدلالة على مقاصد لافظها، فإذا تكلَّم بلفظ دال على معنى، وقصد به ذلك المعنى، ترتَّب عليه حكمه،

ولهذا يقع الطلاقُ مِن العجمى والتركى والهندى بألسنتهم، بل لو طلَّق أحدهم بصريحِ الطلاق بالعربية ولم يفهم معناه، لم يقع به شىء قطعاً، فإنه تكلّم بما لا يفهم معناه ولا قصده، وقدْ دل حديثُ كعب بن مالك على أن الطلاقَ لا يقعُ بهذا اللفظ وأمثاله إلا بالنية.
والصوابُ أن ذلك جارٍ فى سائر الألفاظ صرِيحِها وكنايِتها، ولا فرق بين ألفاظِ العتق والطلاق، فلو قال: غلامى غلامٌ حرٌ لا يأتى الفواحش، أو أمتى أمةٌ حرة لا تبغى الفجورَ، ولم يخطر بباله العتقُ ولا نواه، لم يعتق بذلك قطعاً، وكذلك لو كانت معه امرأته فى طريق فافترقا، فقيل له: أين امرأتُكَ؟ فقال: فارقتُها، أو سرَّح شعرها وقال: سرحتُها ولم يُرد طلاقاً، لم تطلق. كذلك إذا ضربها الطلق وقال لغيره إخباراً عنها بذلك: إنها طالق، لم تطلق بذلك، وكذلك إذا كانت المرأة فى وثَاق فأطلقت منه، فقال لها: أنتِ طالق، وأراد من الوثاق. هذا كله مذهبُ مالك وأحمد فى بعض هذه الصور، وبعضها نظير ما نص عليه، ولا يقعُ الطلاقُ به حتى ينويَه، ويأتى بلفظ دال عليه، فلو انفرد أحدُ الأمرين عن الآخر، لم يقع الطلاق، ولا العتاق، وتقسيمُ الألفاظ إلى صريح وكناية وإن كان تقسيماً صحيحاً فى أصل الوضع، لكن يختلِفُ بإختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فليس حكماً ثابتاً للفظ لذاته، فُربَّ لفظٍ صريح، عند قوم كناية آخرين، أو صريح فى زمان أو مكان كنايةٌ فى غير ذلك الزمان والمكان، والواقعُ شاهد بذلك، فهذا لفظ السَّراحِ لا يكادُ أحدٌ يستعمله فى الطلاق لا صريحاً ولا كناية، فلا يسوغُ أن يقال: إن من تكلم به، لزمه طلاقُ امرأته نواه أو لم ينوه، ويدَّعى أنه ثبت له عُرف الشرع والاستعمال، فإن هذه دعوة باطلة شرعاً واستعمالاً، أما الاستعمال،

فلا يكاد أحدٌ يطلق به البتة، وأما الشرعُ، فقد استعمله فى غير الطلاق، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُم المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَالَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وسرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَميلاً} [الأحزاب: 49]، فهذا السراح غير الطلاق قطعاً، وكذلكَ الفراق استعمله الشرعُ فى غير الطلاق، كقوله تعالى: {يَأَيُّهَا النُّبىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إلى قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] فالإمساك هنا: الرجعة، والمفارقةُ: تركُ الرجعة لا إنشاء طلقة ثانية، هذا مما لا خلاف فيه البتة، فلاَ يجوز أن يُقال: إن من تكلم به طلقت زوجته، فهم معناه أو لم يفهم، وكلاهما فى البطلان سواء، وبالله التوفيق.

حُكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الظهار، وبيان ما أنزل الله فيه، ومعني العودِ الموجبِ للكفارة
قال تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُم مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ القَوْلِ وَزُوراً وإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * والَّذِينَ يُظَاهِروُنَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَماسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْن مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَماسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمنُوا بِاللهِ وَرَسُولِه وَتِلْكَ حُدُودُ الله ولِلْكَافِرين عَذَابٌ ألِيمٌ} [المجادلة: 2-4] ، ثبت فى "السنن" و"المسانيد": أن أوس بن الصامت ظاهر مِن زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة، وهي التى جادلت فيه رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

واشتكت إلى الله، وسمع الله شكواها مِن فوقِ سبعِ سماوات، فقالت: يا رسولَ الله، إن أوسَ بنَ الصامت تزوَّجنى وأنا شابة مرغوب فىَّ، فلما خلا سنى، ونثرت له بطنى، جعلنى كأمِّهِ عنده، فقال لها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا عِنْدِى فى أمرِك شَىءٌ " فقالت: اللهم إنى أشكو إليك، ورُوى أنها قالت: إن لى صبيةً صِغاراً إن ضمَّهم إليه، ضاعُوا وإن ضممتُهم إلىَّ جَاعُوا، فنزلَ القرآنُ، وقالت عائشة: الحمدُ لِلَّهِ الذى وَسِعَ سمعُه الأصواتَ، لقد جاءت خولةُ بنتُ ثعلبة تشكو إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا فى كِسْرِ البيت يَخْفى علىَّ بعضُ كلامِها، فأنزل الله عزَّ وجَلَّ :{قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتى تُجَادِلُكَ فى زَْوْجِهَا وتَشْتكى إلى اللهِ واللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكما إنَّ اللهَ سميعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لِيُعْتِقْ رَقَبَةً"، قالت: لا يجد، قال: "فَيَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ"، قالت: يا رسول الله، إنه شيخ كبير ما بهِ مِنْ صيام، قال : "فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً" قالت: ما عنده من شىء يتصدَّقُ به، قالت: فأنى ساعتئذ بِعَرق مِنْ تَمْرٍ" قلت: يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنى أعينه بعَرقٍ آخرَ، قالَ: "أَحْسَنْتِ فَأَطْعِمى عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِيناً وارْجِعى إلى ابْنِ عَمِّكِ".

وفى "السنن": أن سلمة بن صخر البياضى ظاهر مِن امرأته مدةَ شهرِ رمضان، ثم واقعها ليلةً قبل انسلاخه، فقال له النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنتَ بِذَاكَ يَا سَلمة"، قال: قلت: أنا بِذَاكَ يا رسولَ الله مرتين وأنا صابر لأمر الله، فاحكمْ فىَّ بما أراك الله قال: "حَرِّرْ رَقَبَةَ"، قلتُ: والذى بعثك بالحقِّ نبياً ما أملِكُ رقبة غيرَها، وضربتُ صفحة رقبتى، قال: "فَصُمْ شَهْرَيْنِ متتابِعَين" ، قال: وهل أصبتُ الذى أصبتُ إلا فى الصيام، قال: "فاطعم، وسْقًا مِن تمر بين سِتينَ مسكيناً" قلت: والَّذى بعثك بالحقِّ لقد بِتْنَا وَحْشَيْنِ ما لنا طَعَام، قال: "فانْطَلِقْ إلى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِى زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إِليْكَ فَأطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً وَسْقاً مِنْ تَمرِ وكُلْ أَنْتَ وعِيَالُكَ بَقِيَّتَها". قال: فَرُحْتُ إلى قومى، فقلتُ: وجدت عندكم الضيقَ وسوء الرأى، ووجدتُ عندَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّعَةَ وحُسْنَ الرأى، وقد أمر لى بصدَقَتِكم.،وفى جامع الترمذى عن ابن عباس، أنَّ رجلا أتى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ظاهَرَ مِن امرأته فوقع عليها، فقال: يا رسولَ الله إنى ظاهرتُ مِن امرأتى، فوقعتُ عليها قَبْلَ أن أكفِّر، قال: "وَمَا حَمَلَكَ عَلى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ

الله" قال: رَأَيْتُ خَلْخَالَها فى ضَوْءِ القَمَرِ، قال: "فَلاَ تَقْرَبْها حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ الله". قال: هذا حديث حسن غريب صحيح.،
وفيه أيضاً: عن لسمة بن صخر، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فى المظاهر يُواقِعُ قبل أن يُكَفِّر، فقال: "كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ". وقال: حسن غريب، انتهى، وفيه انقطاع بين سليمان بن يسار، وسلمة بن صخر، وفى مسند البزار، عن إسماعيل بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس رضى الله عنه، قال: أتى رجلٌ إلى النبى الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إنى ظاهرتُ من امرأتى، ثم وقعتُ عليها قبل أن أُكفِر، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألم يقل الله :{مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3]؟ فقال: أَعْجَبَتْنى، فقال: "أَمْسِكْ عنها حَتَّى تُكَفِّرَ" قال البزار: لا نعلمهُ يُروى بإسناد أحسنَ من هذا، على أن إسماعيل ابن مسلم قد تُكلِّم فيه، وروى عنه جماعة كثيرة من أهل العلم.
فتضمنت هذه الأحكام أموراً.
أحدُها: إبطال ما كانوا عليه فى الجاهلية، وفى صدرِ الإسلام مِن كون الظهار طلاقاً، ولو صرَّح بنيته له، فقال: أنتِ علىَّ كظهر أمى، أعنى به الطلاق، لم يكن طلاقاً وكان ظهاراً، وهذا بالاتفاق إلا ما عساه مِن خلاف شاذ، وقد نصَّ عليه أحمد والشافعى وغيرهما. قال الشافعى:

ولو ظاهر يُريد طلاقاً، كان ظهاراً، أو طلَّق يُريد ظهاراً كان طلاقاً، هذا لفظه، فلا يجوز أن يُنسب إلى مذهبه خلافُ هذا، ونص أحمد: على أنه إذا قال: أنت علىَّ كظهر أمى أعنى به الطلاقَ أنه ظهار، ولا تطلُق به، وهذا لأن الظهار كان طلاقاً فى الجاهلية، فنسخ، فلم يجزْ أن يُعاد إلى الحكم المنسوخ، وأيضاً فأْوس بن الصامت إنما نوى به الطلاقَ على ما كان عليه، وأجرى عليه حكم الظهار دون الطلاق.وأيضاً فإنه صريح فى حكمه، فلم يجز جعلُه كناية فى الحكم الذى أبطله عز وجل بشرعه، وقضاءُ الله أحقُّ، وحكم اللهِ أوجبُ.
ومنها أن الظهار حرام لا يجوزُ الإقدامُ عليه لأنه كما أخبر الله عنه منكر من القول وزور، وكلاهما حرام، والفرقُ بين جهة كونه منكراً وجهةِ كونه زوراً أن قوله: أنت علىَّ كظهر أمى يتضمنُ إخباره عنها بذلك، وإنشاءه تحريمها، فهو يتضمن إخباراً وإنشاءً، فهو خبر زُورٌ وإنشاءٌ منكر، فإن الزور هو الباطل خلاف الحق الثابت، والمنكر خلاف المعروف، وختم سبحانه الآية بقوله تعالى :{وَإنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُور} [المجادلة:2] وفيه شعار بقيام سبب الإثم الذى لولا عفوُ الله ومغفرتُه لآخذ به
ومنها: إن الكفارة لا تجب بنفسِ الظهار، وإنما تجبُ بالعود، وهذا قولُ الجمهور، وروى الثورى، عن ابن أبى نَجيح، عن طاووس قال: إذا تكلَّم بالظهار، فقد لَزِمَه، وهذه رواية ابن أبى نجيح عنه، وروى معمر، عن طاووس، عن أبيه فى قوله تعالى: {ثمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3]، قال: جعلها عليه كظهر أمه، ثم يعودُ، فيطؤها، فتحرير رقبة. وحكى الناس عن مجاهد: أنه تجب الكفارةُ بنفس الظهار، وحكاه

ابنُ حزم عن الثورى، وعثمان البتي، وهؤلاء لم يخف عليهم أن العود شرط فى الكفارة، ولكن العود عندهم هو العود إلى ما كانوا عليه فى الجاهلية من التظاهر، كقوله تعالى فى جزاء الصيد :{ومَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] أى: عاد إلى الاصطياد بعد نزول تحريمه، ولهذا قال: {عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95] قالوا: ولأن الكفارة إنما وجبت فى مقابلة ما تكلم به من المنكر والزور، وهو الظهارُ دون الوطء، أو العزم عليه، قالوا: ولأن الله سبحانه لما حرَّم الظهار، ونهى عنه كان العود هو فعل المنهى عنه، كما قال تعالى: {عَسى رَبُّكُم أَنْ يَرْحَمَكُم وإنْ عُدْتُم عُدْنَا} [الإسراء:8] أى: إن عدتم إلى الذنب، عدنا إلى العقوبة، فالعودُ هنا نفسُ فعلِ المنهى عنه،
قالوا: ولأن الظهارَ كان طلاقاً فى الجاهلية، فنُقِلَ حكمُه من الطلاق إلى الظهار، ورتب عليه التكفير، وتحريم الزوجة حتى يكفِّر، وهذا يقتضى أن يكون حكمُه معتبراً بلفظه كالطلاق، ونازعهم الجمهور فى ذلك، وقالوا: إن العود أمرٌ وراءه مجرد لفظ الظهار، ولا يَصِحُّ حمل الآية على العود إليه فى الإسلام لثلاثة أوجه.
أحدها: أن هذه الآية بيان لحكم من يُظاهر فى الإسلام، ولهذا أتى فيها بلفظ الفعل مستقبلاً، فقال: يُظاهرون، وإذا كان هذا بياناً لحكم ظِهار الإسلام، فهو عندكم نفسُ العود، فكيف يقول بعده: ثم يعودون، وإن معنى هذا العود غير الظهر عندكم؟
الثانى: أنه لو كان العُود ما ذكرتم، وكان المضارُ بمعنى الماضي، كان تقديرُه: والذين ظاهروا مِن نسائهم، ثم عادوا فى الإسلام، ولما وجبت الكفارةُ إلا على من تظاهر فى الجاهلية ثم عاد فى الإسلام، فمن أين

تُوجبونها على من ابتدأ الظهار فى الإسلام غيرَ عائد؟ فإن هنا أمرين: ظِهار سابق، وعود إليه، وذلك يبطلُ حكم الظهار الآن بالكلية إلا أن تجعلوا "يظاهرون" لفرقة ويعودون لفرقة،ولفظ المضارع نائباً عن لفظ الماضى، وذلك مخالف للنظم، ومخرج عن الفصاحة.
الثالث: أن رسولَ اللهِ أمر أوسَ بن الصَامت، وسلمة بن صخر بالكفارة، ولم يسألهما: هل تظاهرا فى الجاهلية أم لا؟ فإن قلتُم: ولم يسألهُما عن العود الذى تجعلونه شرطاً، ولو كان شرطا لسألهما عنه. قيل: أما من يجعلُ العود نفس الإمساك بعد الظهار زمناً يُمْكِنُ وقوع الطلاق فيه، فهذا جارٍ على قوله، وهو نفسُ حجته، ومن جعل العودَ هو الوطء والعزم، قال: سياق القصة بيِّن فى أن المتظاهرين كان قصدُهم الوطء، وإنما أمسكوا له، وسيأتى تقريرُ ذلك إن شاء الله تعالى، وأما كون الظهار منكراً من القول وزوراً، فنعم هو كذلك، ولكن الله عز وجل إنما أوجب الكفارة فى هذا المنكر والزور بأمرين: به، وبالعود، كما أن حكم الإيلاء إنما يترتب عليه وعلى الوطء لا على أحدهما.
فصل
وقال الجمهور: لا تجبُ الكفارةُ إلا بالعود بعد الظهار، ثم اختلفوا فى معنى العود: هل هو إعادة لفظ الظهارِ بعينه، أو أمر وراءه؟ على قولين، فقال أهلُ الظاهر كُلُّهم: هو إعادة لفظِ الظهارِ، ولم يحكُوا هذا عن أحد من السلف البتة، وهو قولٌ لم يُسبقوا إليه، وإن كانت هذه الشَّكاةُ

لا يكاد مذهب من المذاهب يخلو عنها. قالوا: فلم يوجب اللهُ سبحانَه الكفارة إلا بالظهار المعاد لا المبتدأ. قالوا: والاستدلال بالآية من ثلاثة وجوه.
أحدهما: أن العرب لا يُعقل فى لغاتها العودُ إلى الشىء إلا فعل مثله مرةً ثانية، قالوا: وهذا كتابُ الله، وكلامُ رسوله، وكلامُ العرب بيننا وبينكم. قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، فهذا نظيرُ الآية سواء فى أنه عدَّى فعل العود باللام، وهو إتيانُهم مرة ثانية بمثل ما أتوا به أولاً، وقال تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا} [الإسراء: 8] أى: إن كررتم الذنب، كررنا العقوبة، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نُهُوا عَن النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة: 8] وهذا فى سورة الظهار نفسها، وهو يُبين المرادَ مِن العود فيه، فإنه نظيرُه فعلاً وإرادة، والعهد قريب بذكره.
قالوا: وأيضاً، فالذى قالوه: هو لفظُ الظهار، فالعود إلى القول هو الإتيانُ به مرة ثانية لا تعقِلُ العرب غيرَ هذا. قالوا: وأيضاً فما عدا تكرار اللفظ إما إمساكٌ، وإما عزم، وإما فعل، وليس واضحٌ منها بقول، فلا يكون الإتيان به عوداً، لا لفظاً ولا معنى، ولأن العزم والوطء َ والإمساكَ ليس ظهاراً، فيكون الإتيان بها عوداً إلى الظهار.
قالوا: ولو أريد بالعودِ الرجوعُ فى الشىء الذى منع منه نفسه كما يُقال، عاد فى الهبة، لقال: ثم يعودون فيما قالوا، كما فى الحديث : "العَائِدُ فى هِبتهِ، كَالعَائِدِ فى قَيْئهِ" ،

واحتج أبو محمد ابن حزم، بحديث عائشة رضى الله عنها. أن أوس بن الصامت كان به لمم، فكان إذا اشتدَّ بِه لَمَمُه، ظاهَرَ من زوجته، فأنزل اللهُ عز وجَلَّ فيه كفارةَ الظهار. فقال: هذا يقتضى التكرارَ ولا بُدَّ، قال: ولا يصِحُّ فى الظهارِ إلا هذا الخبرُ وحدَه. قال: وأما تشنيعُكم علينا بأن هذا القولَ لم يَقُلْ به أحد من الصحابة، فأرونا مِن الصحابه من قال: إن العود هو الوطء، أو العزم، أو الإمساك، أو هو العود إلى الظهار فى الجاهلية ولو عن رجل واحدٍ من الصحابة، فلا تكونون أسعدَ بأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منا أبداً.
فصل
ونازعهم الجمهورُ فى ذلك، وقالوا: ليسَ معنى العود إعادة اللفظ الأول، لأن ذلك لو كان هو العود، لقال: ثُمَّ يعيدون ما قالوا، لأنه يُقال: أعاد كلامَه بعينه، وأما عاد، فإنما هو فى الأفعال، كما يقال: عاد فى فعله، وفى هبته،فهذا استعماله ب"فى". ويقال: عاد إلى عمله وإلى ولايته، وإلى حاله، وإلى إحسانه وإساءتهِ، ونحو ذلك، وعاد له أيضاً.
وأما القول: فإما يقال: أعاده كما قال ضِماد بن ثعلبة للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعِدْ عَلَىَّ كَلِمَاتِكَ" وكما قال أبو سعيد: "أَعِدْهَا عَلَىَّ يا رسول

الله"، وهذا ليس بلازم، فإنه يقال: أعاد مقالته، وعاد لِمقالته، وعاد لِمقالته، وفى الحديث: "فعاد لمقالته"، بمعنى أعادها سواء، وأفسدُ مِن هذا ردُّ مَنْ رَدَّ عليهم بأن إعادةَ القول محال، كإعادة أمس. قال: لأنه لا يتهيأ اجتماعُ زمانين، وهذا فى غاية الفساد، فإن إعادةَ القولِ من جنس إعادة الفعل، وهى الإتيان بمثل الأول لا بعينه، والعجبُ مِن متعصِّب يقول: لا يُعْتَدُّ بخلاف الظاهرية، ويبحثُ معهم بمثل هذه البحوث، ويردُّ عليهم بمثل هذا الردُّ، وكذلك ردُّ من ردَّ عليهم بمثل العائدِ في هبته، فإنه ليس نظيرَ الآية، وإنما نظيرُها: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نُهُوا عَن النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة: 8]، ومع هذا فهذِهِ الآية تُبين المرادَ مِن آية الظهار، فإن عودَهم لِمَا نُهُوا عنه، هو رجوعُهم إلى نفس المنهى عنه، وهو النجوى، وليس المرادُ به إعادةَ تلك النجوي بعينها، بل رجوعُهم إلى المنهى عنه، وكذلك قولُه تعالى فى الظهار: {يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أى: لقولهم. فهو مصدر بمعنى المفعول، وهو تحريمُ الزوجة بتشبيهها بالمحرَّمة، فالعودُ إلى المحرم هو العودُ إليه، وهو فعلُه، فهذا مأخذُ من قال: إنه الوطء.
ونكتة المسألة: أن القولَ فى معنى المقول، والمقول هو التحريم، والعود له هو العودُ إليه، وهو استباحته عائداً إليه بعد تحريمه، وهذا جار على قواعد اللغة العربية واستعمالها، وهذا الذى عليه جمهورُ السلف والخلف، كما قال قتادة، وطاووس، والحسن، والزهرىُّ، ومالك، وغيرُهم، ولا يُعرف عن أحد مِن السلف أنه فسر الآية بإعادة اللفظ البتة لا من الصحابة، ولا مِن التابعين، ولا مَنْ بعدهم، وها هنا أمرٌ خفىَ على مَنْ جعله إعادةَ اللفظ، وهو أن العودَ إلى الفعل يستلزِمُ مفارقة الحال التى هو عليها الآن، وعودَه إلى الحال التى كان عليها أولاً،كما قال تعالى {وإنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8]

ألا ترى أن عودهم مفارقة ما هم عليه من الإحسان، وعودُهم إلى الإساءة، وكقول الشاعر:
وإنْ عَادَ لِلإِحْسَانِ فَالعَوْدُ أَحْمَدُ.
والحَالُ التى هو عليها الآن التحريمُ بالظهار، والتى كان عليها إباحةُ الوطء بالنكاح الموجِبِ للحل، فَعَوْدُ المظاهر عودٌ حِلِّ كان عليهِ قبلَ الظهار، وذلك هو الموجبُ للكفارة فتأمله، فالعودُ يقتضى أمراً يعودُ إليه بعدَ مفارقته، وظهر سِرُّ الفرق بينَ العود فى الهبة، وبينَ العود لما قال المظاهرُ، فإنَّ الهبة بمعنى الموهوب وهو عين يتضمَّن عودُه فيه إدخالَه فى مُلكه وتصرُّفَه فيه، كما كان أولاً، بخلاف المظاهر، فإنه بالتحريم قد خرج عن الزوجية، وبالعودِ قد طلب الرجوعَ إلى الحالِ التى كان عليها معها قبلَ التحريم، فكان الأَلْيق أن يقال: عاد لكذا، يعنى: عاد إليه. وفى الهبة: عاد إليها، وقد أمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوسَ بن الصامِت، وسلمةَ ابن صخر بكفارة الظِّهار، ولم يتلفظا به مرتين، فإنَّهما لم يُخبرا بذلك عن أنفسهما، ولا أخبر به أزواجُهما عنهما، ولا أحدٌ من الصحابة، ولا سألهما النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ قلُتما ذلك مرة أو مرتين؟ ومثلُ هذا لو كان شرطاً لما أهمل بيانه.
وسرُّ المسألة أن العودَ يتضمن أمرين: أمراً يعود إليه، وأمراً يعود عنه، ولا بُدَّ منهما فالذى يعود عنه يتضمَّن نقضَه وإبطاله، والذى يعودُ إليه يتضمَّن إيثاره وإرادته، فعودُ المظاهر يقتضى نقضَ الظِهار وإبطاله، وإيثار ضدِّه وإرادته، وهذا عينُ فهم السلفِ من الآية، فبعضُهم يقول: إن العود هو الإصابة، وبعضُهم يقول: الوطء، وبعضُهم يقول: اللمس، وبعضُهم يقول: العزم.
وأما قولُكم: إنه إنما أوجب الكفارة فى الظهار، إن أردتم به

المعاد لفظُه، فدعوى بحسب ما فهمتموه، وإن أردتم به الظهارَ المعادَ فيه لما قال المظاهِرُ، لم يَسْتَلزمْ ذلك إعادة اللفظ الأول. وأما حديث عائشة رضى الله عنها فى ظِهار أوس بن الصامت، فما أصحَّه، وما أبعدَ دلالته على مذهبكم.
فصل
ثمَّ الذين جعلوا العودَ أمراً غيرَ إعادة اللفظ اختلفُوا فيه: هل هو مجردُ إمساكِها بعد الظهار، أو أمرٌ غيره؟ على قولين. فقالت طائفة: هو إمساكُها زمناً يتَّسعُ لقوله: أنت طالق، فمتى لم يَصِل الطلاق بالظهار لزمته الكفارة وهو قول الشافعي قال منازعوه وهو في المعنى قول مجاهد والثوري فإن هذا النفس الواحد لا يخرج الظهار عن كونه موجبَ الكفارة، ففى الحقيقة لم يُوجب الكفارة إلا لفظُ الظَّهار، وزمنُ قوله: أنت طالق لا تأثيرَ له فى الحكم إيجاباً ولا نفياً، فتعليقُ الإيجابِ به ممتنع، ولا تُسمى تلك اللحظةُ والنَّفسُ الواحد مِن الأنفاس عوداً لا فى لغة العرب ولا فى عُرف الشارع، وأىُّ شىء فى هذا الجزء اليسير جداً مِن الزمان من معنى العود أو حقيقته؟
قالوا: وهذا ليس بأقوى مِن قول من قال: هو إعادةُ اللفظ بعينه، فإن ذلك قولٌ معقول يفهم منه العودُ وحقيقةً، وأما هذا الجزءُ مِن الزمان، فلا يفهمُ من الإنسان فيه العود البتة. قالوا: ونحنُ نُطالبكم بما طالبتُم به الظاهرية: من قال هذا القولَ قبل الشافعى؟ قالوا: واللهُ سبحانه أوجبَ الكفارةَ بالعودِ بحرف "ثم" الدالة على التراخى عن الظهار،ر

فلا بد أن يكونَ بينَ العود وبين الظهار مدةٌ متراخية، وهذا ممتنع عندكم، وبمجردِ انقضاء قوله: أنت علىَّ كظهر أمى صار عائداً ما لم يصله بقوله: أنتِ طالق، فأين التراخى والمهلة بين العود والظهار؟ والشافعى لم ينقل هذا عن أحد من الصحابة والتابعين، وإنما أخبر أنه أولى المعانى بالآية، فقال: الذى عَقَلْتُ ممَّا سَمِعْتُ فى "يعودون لما قالوا"، أنه إذا أتت على المظاهِرِ مدةٌ بعد القول بالظهار، لم يُحرِّمْهَا بالطلاق الذى يحرم به، وجبت عليه الكفارةُ، كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسكَ ما حرَّم على نفسه أنه حلال، فقد عاد لما قال، فخالفه، فأحلَّ ما حرم، ولا أعلمُ له معنى أولى به من هذا. انتهى.
فصل
والذين جعلوه أمراً وراءَ الإمساك اختلفوا فيه، فقال مالك فى إحدى الروايات الأربع عنه، وأبو عُبيد: هو العزم على الوطء، وهذا قول القاضى أبى يعلى وأصحابه، وأنكره الإمام أحمد، وقال مالك: يقول: إذا أجمع، لزمته الكفارة، فكيف يكون هذا لو طلَّقها بعد ما يُجمع، أكان عليه كفارة إلا أن يكون يذهبُ إلى قول طاووس إذا تكلم بالظهارِ، لزمه مثلُ الطلاق؟
ثم اختلف أربابُ هذا القول فيما لو مات أحدُهما، أو طلَّق بعد العزم، وقبل الوطء، هل تستقر عليه الكفارة؟ فقال مالك وأبو الخطاب: تستقِرُّ الكفارةُ. وقال القاضى وعامةُ أصحابه: لا تستقِرُّ، وعن مالك رواية ثانية: أنه العزم على الإمساك وحدَه، وروايةُ "الموطأ" خلاف

هذا كله: أنه العزمُ على الإمساك والوطء معاً. وعنه رواية رابعة: أنه الوطء نفسه، وهذا قولُ أبى حنيفة وأحمد. وقد قال أحمد فى قوله تعالى :{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3]، قال: الغشيانُ إذا أراد أن يغشى، كَفَّرَ، وليس هذا باختلاف رواية، بل مذهبُه الذى لا يُعرف عنه غيره أنه الوطء ويلزمه إخراجها قبله عند العزم عليه.
واحتج أرباب هذا القول بأن الله سبحانه قال فى الكفارة: {مِنْ قَبْلِ أن يتماساً} [المجادلة: 3 ] فأوجب الكفارة بعد العودِ، وقبل التماس، وهذا صريح فى أن العود غير التماس، وأن ما يحرم قبل الكفارة، لا يجوز كونُه متقدماً عليها. قالوا: ولأنه قصد بالظهار تحريمها، والعزم على وطئها عود فيما قصده. قالوا: ولأن الظِّهار تحريم، فإذا أراد استباحتها، فقد رجع فى ذلك التحريم، فكان عائداً.
قال الذين جعلوه الوطء: لا ريب أن العود فعلُ ضدِّ قولِه كما تقدم تقريره، والعائد فيما نهى عنه وإليه وله: هو فاعلُه لا مريدُه، كما قال تعالى: {ثُمَّ يَعُودونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة: 8]، فهذا فعل المنهى عنه نفسه لإرادته، ولا يلزم أربابَ هذا القول ما ألزمهم به أصحابُ العزم، فإن قولهم: إن العودَ يتقدم التكفير، والوطءُ متأخر عنه، فهم يقولون: إن قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أى: يريدون العود كما قال تعالى: {فَإذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ باللهِ} [النحل: 98]، وكقوله تعالى: {إذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وجُوهَكُم} [المائدة: 6] ونظائره مما يطلق الفعل فيه على إرادته لوقوعه بها. قالوا: وهذا أولى مِن تفسير العود بنفس اللفظ الأول، وبالإمساك نَفَساً واحداً بعد الظهار، وبتكرار لفظ الظهار، وبالعزم المجرَّدِ لو طلَّقَ بعده، فإن هذِهِ الأقوال كُلَّها قد تبين ضعفها، فأقرب الأقوال إلى دلالة اللفظ وقواعد الشريعة وأقوال المفسرين، هو هذا، وبالله التوفيق.

فصل
ومنها: أن من عجز عن الكفارة، لم تسقُط عنه، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعان أوسَ ابن الصامت بِعَرَقٍ من تمر، وأعانته امرأته بمثله، حتى كفَّر، وأمر سلمةَ بن صخر أن يأخذ صدقةَ قومه، فيكفِّر بها عن نفسه، ولو سقطت بالعجز، لما أمرهما بإخراجها، بل تبقى فى ذمته ديناً عليه، وهذا قول الشافعى، وأحد الروايتين عن أحمد.
وذهبت طائفة إلى سقوطِها بالعجز، كما تسقط الواجبات بعجزه عنها، وعن إبدالها.
وذهبت طائفة أن كفارةَ رمضان لا تبقى فى ذمته، بل تسقُط، وغيرُها من الكفارات لا تسقط، وهذا الذى صححه أبو البركات ابن تيمية.
واحتجَّ من أسقطها بأنها لو وجبت مع العجز، لما صُرِفَتْ إليه، فإن الرجل لا يكونُ مَصْرِفاً لكفارته، كما لا يكون مَصْرِفا لزكاته، وأربابُ القول الأول يقولون: إذا عجز عنها، وكفر الغيرُ عنه، جاز أن يَصْرِفَهَا إليه، كما صرف النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفارةَ من جامع فى رمضان إليه وإلى أهله، وكما أباح لسلمة بن صخر أن يأكُل هو وأهلُه من كفارته التى أخرجها عنه من صدقة قومه، وهذا مذهبُ أحمد، رواية واحدة عنه فى كفارة من وطىء أهله فى رمضان، وعنه في سائر الكفارات روايتان
والسنة تدل على أنه إذا أعسر بالكفارة ، وكفَّرَ عنه غيرُه، جاز صرف كفارته إليه، وإلى أهله.
فإن قيل: فهل يجوز له إذا كان فقيراً له عيال وعليه زكاة يحتاج إليها أن يصرفها إلى نفسه وعياله؟ قيل: لا يجوز ذلك لعدم الإخراج المستحق

عليه، ولكن للإمام أو الساعى أن يدفع زكاتَه إليه بعد قبضها منه فى أصحِّ الروايتين عن أحمد، فإن قيل: فهل له أن يسقطها عنه؟ قيل: لا، نص عليه، والفرق بينهما واضح، فإن قيل: فإذا أذن السيد لعبده فى التكفير بالعتق، فهل له أن يعتق نفسه؟ قيل: اختلفت الرواية فيما إذا أذن له فى التكفير بالمال، هل له أن ينتقلَ عن الصيامِ إليه؟ على روايتين إحداهما: أنه ليس له ذلك، وفرضُه الصيام، والثانية: له الانتقال إليه، ولا يلزمُه لأنَّ المنع لِحقِّ السيد، وقد أذن فيه. فإذا قلنا: له ذلك، فهل له العتقُ؟ اختلف الروايةُ فيه عن أحمد، فعنه فى ذلك روايتان، ووجهُ المنع: أنه ليس من أهل الولاء، والعتق يَعْتَمِدُ الولاء، واختار أبو بكر وغيرُه أن له الإعتاق، فعلى هذا، هل له عِتقُ نفسه؟ فيه قولان فى المذهب، ووجهُ الجواز إطلاقُ الإذن ووجهُ المنع أن الإذن فى الإعتاق ينصرفُ إلى إعتاق غيره، كما لو أذن له فى الصدقة انصرف الإذن إلى الصدقة على غيره.
فصل
ومنها: أنه لا يجوز وطء المظاهر منها قبل التكفير، وقد اختلف ها هنا فى موضعين. أحدهما: هل له مُبَاشَرتها دُونَ الفرج قبل التكفير، أم لا؟ والثانى: أنه إذا كانت كفارتُه الإطعام، فهل له الوطء قبلَه أم لا؟ فى المسألتين قولان للفقهاء، وهما روايتانِ عن أحمد، وقولان للشافعى.
ووجه منع الاستمتاع بغير الوطء، ظاهرُ قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ

أَنْ يَتَماسَّا} [المجادلة: 3]، ولأنه شبَّهها بمن يحرم وطؤها ودواعيه، ووجهُ الجواز أن التَّماسَّ كنايةٌ عن الجماع، ولا يلزم مِن تحريم الجماع تحريمُ دواعيه، فإن الحائضَ يحرم جماعُها دون دواعيه، والصائمُ يحرم منه الوطُء دون دواعيه، والمسبية يحرم وطُؤها دونَ دواعيه، وهذا قولُ أبى حنيفة.
وأما المسألةُ الثانية وهى وطؤها قبل التكفير: إذا كان بالإطعام، فوجه الجواز أن الله سبحانه قيَّد التكفيرَ بكونه قبل المسيس فى العتق والصيام، وأطلقه فى الإطعام، ولكل منهما حِكمة، فلو أراد التقييدَ فى الإطعام، لذكره، كما ذكره فى العتق والصيام، وهو سبحانه لم يقيد هذا ويطلق هذا عبثاً، بل لِفائدة مقصودة، ولا فائدة إلا تقييد ما قيَّده، وإطلاقُ ما أطلقه. ووجهُ المنع استفادةُ حكم ما أطلقه مماقيده، إما بياناً على الصحيح، وإما قياساً قد ألغى فيه الفارق بين الصورتين، وهو سبحانه لا يُفرِّقُ بين المتماثلين، وقد ذكر: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] مرتين، لو أعاده ثالثاً، لطال به الكلام، ونبَّه بذكره مرتين على تكرر حكمه فى الكفارات، ولو ذكره فى آخر الكلام مرةً واحدةً، لأوهم اختصاصه بالكفارة الأخيرة، ولو ذكره فى أول مرة لأوهم اختصاصه بالأولى، وإعادته فى كُلِّ كفارة تطويل، وكان أفصحَ الكلام وابلَغه وأوجزَه ما وقع.
وأيضاً فإنه نبه بالتكفير قبل المسيس بالصوم مع تطاول زمنه، وشدة الحاجة إلى مسيس الزوجة على أن اشتراط تقدمه فى الإطعام الذى لا يطول زمنه أولى.

فصل
ومنها: أنه سبحانه أمر بالصيام قبل المسيسِ، وذلِكَ يَعُمُّ المسيسَ ليلاً ونهاراً، ولا خلاف بين الأئمة فى تحريم وطئها فى زمنِ الصوم ليلاً ونهاراً، وإنما اختلفُوا، هل يبطل التتابُع به؟ فيه قولان. أحدهما: يبطل وهو قولُ مالك، وأبى حنيفة، وأحمد فى ظاهر مذهبه، والثانى: لا يبطل، وهو قولُ الشافعى، وأحمد فى رواية أخرى عنه.
والذين أبطلوا التتابعَ معهم ظاهرُ القرآن، فإنه سبحانه أمر بشهرين متتابعين قبل المسيسِ، ولم يوجد، ولأن ذلك يتضمَّن النهى عن المسيس قبل إكمال الصيام وتحريمه، وهو يُوجب عدم الاعتدادِ بالصوم، لأنه عمل ليس عليه أمرُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون رداً.
وسر المسألة أنه سبحانه أوجب أمرين، أحدهما: تتابع الشهرين والثانى: وقوعُ صيامهما قبل التماس، فلا يكون قد أتى بما أمر به إلا بمجموع الأمرين.
فصل
ومنها: أنه سبحانه وتعالى أطلق إطعامَ المساكين ولم يُقيده بقدر، ولا تتابع، وذلك يقتضى أنه لو أطعمهم فغدَّاهم وعشاهم مِن غير تمليك حبٍّ أو تمر، جاز، وكان ممتثلاً لأمر الله، وهذا قولُ الجمهور ومالك، وأبى حنيفة، وأحمد فى إحدى الروايتين عنه، وسواء أطعمهم جملة أو متفرقين.

فصل
ومنها: أنه لا بُدَّ من استيفاء عدد الستين، فلو أطعم واحداً ستين يوماً لم يجزه إلاَّ عن واحدٍ، هذا قول الجمهور: مالك، والشافعى، وأحمد فى إحدى الروايتين عنه. والثانية: أن الواجب إطعام ستين مسكيناً، ولو لواحدٍ وهو مذهب أبى حنيفة. والثالثة: إن وجد غيرَه لم يجز، وإلا أجزأه، وهو ظاهرُ مذهبه، وهى أصح الأقوال.
فصل
ومنها: أنه لا يجزئه دفعُ الكفارة إلا إلى المساكين، ويدخُلُ فيهم الفقراء كما يدخل المساكينُ فى لفظ الفقراء عند الإطلاق، وعمم أصحابُنا وغيرهم الحكمَ فى كلِّ من يأخذ من الزكاة لحاجته، وهم أربعة: الفقراء، والمساكين، وابنُ السبيل، والغارمُ لمصلحته، والمكاتب. وظاهر القرآن اختصاصُها بالمساكين، فلا يتعدَّاهم.
فصل
ومنها: أن الله سبحانه أطلقَ الرقبةَ هاهنا، ولم يُقيدها بالإيمان، وقيَّدها فى كفارة القتل بالإيمان، فاختلف الفقهاء فى اشتراط الإيمان فى غير كفارة القتل، على قولين: فشرطه الشافعىُّ، ومالك، وأحمد فى ظهر مذهبه، ولم يشترطه أبو حنيفة، ولا أهلُ الظاهر، والذين لم يشترطوا الإيمان قالوا: لو كان شرطاً لبيَّنه الله سبحانه، كما بينه فى

كفارة القتل، بل يُطلق ما أطلقه، ويُقيد ما قيده، فيعمل بالمطلق والمقيد. وزادت الحنفيّة أن اشتراط الإيمان زيادة على النص، وهو نسخ، والقرآن لا يُنسخ إلا بالقرآن أو خبرٍ متواترٍ، قال الآخرون: واللفظ للشافعى: شرط الله سبحانه فى رقبة القتل مؤمنة، كما شرطَ العدلَ فى الشهادة، وأطلق الشهودَ فى مواضع، فاستدللنا به على أن ما أطلقَ مِن الشهادات على مثل معنى ما شَرَطَ وإنما رد الله أموال المسلمين على المسلمين لا على المشركين وفرض الله الصدقاتِ، فلم تجز إلا للمؤمنين، فكذلك ما فرضَ مِن الرقاب لا يجوزُ إلا لمؤمن، فاستدل الشافعىُّ بأن لسان العرب يقتضى حملَ المطلق على المقيد إذا كان مِن جنسه، فحملَ عرفَ الشرع على مقتضى لسانهم، وهاهنا أمران.أحدهما: أن حمل المطلق على المقيد بيانٌ لا قياس. الثانى: أنه إنما يحمل عليه بشرطين. أحدهما: اتحاد الحكم. والثانى: أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد. فإن كان بين أصلين مختلفين، لم يُحمل إطلاقُه على أحدهما إلا بدليل يُعينه. قال الشافعى: ولو نذر رقبةً مطلقةً لم يُجزه إلا مؤمنة، وهذا بناء على هذا الأصل، وأن النذر محمولٌ على واجب الشرع، وواجبُ العتق لا يتأدى إلا بعتق المسلم. ومما يدل على هذا، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لمن استفتى فى عتق رقبة منذورة: ائتنى بها، فسألها أينَ اللهُ؟ فقالت: فى السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنتَ رسولُ اللهِ، فقال: أعتقها فإنها مُؤمنة. قال الشافعى: فلما وصفت الإيمانَ،

أمر بعتقها انتهى.
وهذا ظاهر جداً أن العِتقَ المأمورَ به شرعاً لا يُجزىء إلا فى رقبة مؤمنة، وإلا لم يكن للتعليل بالإيمان فائدة، فإن الأعم متى كان عِلة للحكم كان الأخصُّ عديمَ التأثير، وأيضاً فإن المقصود من إعتاق المسلم تفريغُه لعبادة ربه، وتخليصُه من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق، ولا ريبَ أن هذا أمرٌ مقصودٌ للشارع محبوب له، فلا يجوزُ إلغاؤُه، وكيف يستوى عند الله ورسوله تفريغُ العبد لعبادته وحدَه، وتفريغُه لعبادة الصليب، أو الشمس والقمر والنار، وقد بيَّن سبحانه اشتراط الإيمان فى كفارة القتل، وأحال ما سكتَ عنه على بيانه، كما بيّن اشتراطَ العدالة فى الشاهدين، وأحال ما أطلقه، وسكت عنه على ما بينه، وكذلك غالبُ مطلقات كلامه سبحانه ومقيداته لمن تأملها، وهى أكثرُ من أن تُذكر، فمنها: قوله تعالى فيمن أمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاح بين الناس: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤتِيهِ أَجْراَ عَظِيماً} [النساء: 114] وفى موضع آخر، بل مواضع يُعلق الأجر بنفس العمل اكتفاءً بالشرط المذكور فى موضعه، وكذلك قولُه تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94]، وفى موضع يُعلِّق الحزاء بنفس الأعمال الصالحة اكتفاءً بما علم من شرط الإيمان، وهذا غالب فى نصوص الوعد والوعيد

فصل
ومنها: أنه لو أعتق نِصفي رقبتين لم يكن معتقاً لرقبة، وفى هذا ثلاثةُ أقوال للناس، وهى روايات عن أحمد، ثانيها الإجزاء، وثالثها وهو أصحها: أنه إن تكملت الحريةُ فى الرقبتين أجزأه، وإلا فلا، فإنه يَصْدُقُ عليه أنه حرَّر رقبة، أى: جعلها حرة بخلاف ما إذا لم تكمل الحرية.
فصل
ومنها: أن الكفارة لا تسقُط بالوطء قبلَ التكفير، ولا تتضاعف، بل هى بحالها كفارةٌ واحدة، كما دل عليه حكمُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذى تقدم، قال الصلتُ بنُ دينار: سألتُ عشرة مِن الفقهاء عن المظاهر يُجامع قبل أن يُكفر، فقالوا: كفارة واحدة. قال: وهم الحسنُ، وابنُ سيرين، ومسروق، وبكر، وقتادة، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وعكرمة. قال: والعاشر: أراه نافعاً، وهذا قولُ الأئمة الأربعة.
وصحَّ عن ابن عمر، وعمرو بن العاص، أن عليه كفارتين، وذكر سعيد ابن منصور، عن الحسن، وإبراهيم فى الذى يُظاهر، ثم يطؤها قبل أن يكفِّر: عليه ثلاثُ كفارات، وذكر عن الزهرى، وسعيد بن جبير، وأبى يوسف، أن الكفارة تسقُطُ، ووجه هذا أنه فات وقتُها، ولم يبق له سبيل إلى إخراجها قبل المسيس.
وجواب هذا، أن فوات وقت الأداء لا يُسقطُ الواجب فى الذمّة كالصلاةِ والصيام وسائر العبادات، ووجهُ وجوب الكفارتين أن إحداهما

للظهار الذى اقترن به العودُ، والثانية للوطء المحرَّم، كالوطء فى نهار رمضان، وكوطء المحرِمِ، ولا يُعلم لإيجاب الثلاثِ وجه، إلا أن يكونَ عقوبة على إقدامه على الحرام، وحكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدلُّ على خلاف هذه الأقوال، والله أعلم

حُكْمُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الإِيلاء
ثبت فى صحيح البخارى: عن أنس قال: آلى رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نسائه، وكانت انفكت رجلُه، فأقام فى مَشْرُبَةٍ له تِسعاً وعشرين ليلة، ثم نزل، فقالُوا: يا رسَولَ الله: آليتَ شهراً، فقال: "إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعاً وعِشْرِينَ" ، وقد قال سبحانه: {للَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَربُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226-227].
الإيلاء: لغة: الامتناع باليمين، وخُصَّ فى عرف الشرع بالامتناعِ باليمينِ مِن وطء الزوجة، ولهذا عُدّىَ فعلُه بأداة "من" تضميناً له، معنى "يمتنعون" من نسائهم، وهو أحسنُ من إقامةِ "من" مقام "عَلَى"، وجعل سبحانه للأزواج مُدَّةَ أربعة أشهر يمتنعونَ فيها مِن وطء نسائهم بالإيلاء، فإذا مضت فإما أن يَفىء، وإما أن يُطلِّق، وفد اشتهر عن على، وابنِ عباس، أن الإيلاء إنما يكون فى حال الغضب دون الرضي، كما وقع

لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع نسائه، وظاهرُ القرآن مع الجمهور.
وقد تناظر فى هذه المسألة محمد بنُ سيرين، ورجل آخر، فاحتج على محمد بقول على، فاحتج عليه محمد بالآية، فسكت.
وقد دلت الآية على أحكام.
منها: هذا. ومنها: أن من حلف على ترك الوطء أقلَّ من أربعة أشهر لم يكن مؤلياً، وهذا قولُ الجمهور، وفيه قول شاذ، أنه مؤل.
ومنها: أنه لا يثبت له حكم الإيلاء حتى يَحْلِفَ على أكثر من أربعة أشهر، فإن كانت مدة الامتناع أربعة أشهر، لم يثبت له حكمُ الإيلاء، لأن الله جعل لهم مدةَ أربعة أشهر، وبعدَ انقضائها إما أن يُطلِّقوا، وإما أن يفيؤوا، وهذا قولُ الجمهور، منهم، أحمد، والشافعى، ومالك، وجعله أبو حنيفة مؤلياً بأربعة أشهر سواء، وهذا بناء على أصله أن المدةَ المضروبة أجلٌ لوقوع الطلاق بانقضائها، والجمهور يجعلون المدة أجلاً لاستحقاق المطالبة، وهذا موضع اختلف فيه السلفُ من الصحابة رضى الله عنهم والتابعين ومَنْ بعدهم، فقال الشافعى، حدثنا سفيانَ، عن يحيى ابن سعيد، عن سليمانَ بن يسار، قال: أدركتُ بضعة عشرَ رجلاً مِن الصحابة، كلهم يُوقِفُ المؤلى. يعنى: بعد أربعةِ أشهر. وروى سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، قال: سألتُ اثنى عشر رجلاً مِن أصحابِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المؤلى، فقالوا: ليس عليه شىء حتى تمضىَ أربعةُ أشهر. وهذا قولُ الجمهور مِن الصحابة والتابعين، ومن بعدهم.

وقال عبد الله بن مسعود، وزيدُ بن ثابت: إذا مضت أربعة أشهر ولم يفىء فيها، طلقت منه بمضيها، وهذا قولُ جماعةٍ من التابعين، وقولُ أبى حنيفة وأصحابه، فعند هؤلاء يستحِقُّ المطالبة قبل مضى الأربعة الأشهر، فإن فاء وإلا طلقت بمضيها. وعند الجمهور، لا يستحق المطالبة حتى تمضى الأربعة الأشهر، فحينئذ يقال: إما أن تفىء، وإما أن تُطلق، وإن لم يفىء، أُخِذَ بإيقاع الطلاق، إما بالحاكم، وإما بحبسه حتى يطلِّق.
قال الموقعون للطلاق بمضى المدة: آية الإيلاء تدل على ذلك من ثلاثة أوجه.
أحدها: أن عبدَ الله بن مسعود قرأ :{فَإنْ فَاءوا فَإنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] فإضافة الفيئة إلى المدة تدل على استحقاق الفيئة فيها، وهذه القراءة إما أن تُجرى مجرى خبر الواحد، فتوجب العمل، وإن لم تُوجب كونها مِن القرآن، وإما أن تكون قرآناً نسخ لفظه، وبقى حكمه لا يجوز فيها غير هذا البتة.
الثانى: أن الله سبحانه جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر، فلو كانت الفيئةُ بعدها، لزادت على مدة النص، وذلك غيرُ جائز.
الثالث: أنه لو وطئها فى مدة الإيلاء، لوقعت الفيئةُ موقِعَها، فدل على استحقاق الفيئة فيها.
قالوا: ولأن الله سبحانه وتعالى جعل لهم تربصَ أربعة أشهر، ثم قال: { فَإنْ فَاءوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإن عَزَمُو الطَّلاَقَ} [البقرة: 226-227] وظاهر هذا أن هذا

لتقسيم فى المدة التى لهم فيها التربص، كما إذا قال لغريمه: أصبر عليك بدينى أربعة أشهر، فإن وفيتنى وإلا حبستك، ولا يُفهم من هذا إلا أن وفَّيتنى فى هذه المدة، ولا يُفهم منه إن وفيتنى بعدها، وإلا كانت مدة الصبر أكثر من أربعة أشهر، وقراءة ابن مسعود صريحة فى تفسير الفيئة بأنها فى المدة، وأقلُّ مراتبها أن تكون تفسيراً. قالوا: ولأنه أجلٌ مضروب للفرقة، فتعقبه الفرقة كالعدة، وكلأجل الذى ضُرِبَ لوقوع الطلاق، كقوله: إذا مضت أربعة أشهر، فأنت طالق.
قال الجمهور: لنا مِن آية الإيلاء عشرة أدلة.
أحدها: أنه أضاف مدة الإيلاء إلى الأزواج، وجعلَها لهم، ولم يجعلها عليهم، فوجبَ ألا يستحق المطالبة فيها، بل بعدَها، كأجلِ الدَّين، ومن أوجبَ المطالبةَ فيها لم يكن عنده أجلاً لهم، ولا يُعقل كونها أجلاً لهم، ويستحق عليهم فيها المطالبة.
الدليل الثانى: قوله: {فَإنْ فَاءُوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]، فذكر الفيئةَ بعد المدة بفاء التعقيب، وهذا يقتضى أن يكونَ بعدَ المدة، ونظيرُه قولُه سبحانه: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وهذا بعدَ الطلاق قطعاً.
فإن قيل: فاء التعقيب تُوجب أن يكونَ بعد الإيلاء لا بعدَ المدة؟ قيل: قَد تقدَّمَ فى الآية ذكر الإيلاء، ثم تلاه ذكر المدة، ثم أعقبها بذكر الفيئة، فإذا أوجبت الفاءُ التعقيبُ بعد ما تقدم ذكرُه، لم يجز أن يعود إلى أبعدِ المذكورين، ووجب عودُها إليهما أو إلى أقربهما.
الدليل الثالث: قوله: {وإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ} [البقرة: 227] ، وإنما العزم ما عزم العازمُ على فعله، كقوله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ

النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] فإن قيل: فتركُ الفيئة عزم على الطلاق؟ قيل: العزمُ هو إرادة جازمة لفعل المعزوم عليه أو تركه، وأنتم تُوقعون الطلاقَ بمجرد مضىِّ المدة وإن لم يكن منه عزم لا على وطء ولا على تركه، بل لو عزم على الفيئة، ولم يُجامع طلقتم عليه بمضىِّ المدة، ولم يعزم الطلاق، فكيفما قدرتم، فالآيةُ حجة عليكم.
الدليل الرابع: أن الله سبحانه خيَّره فى الآية بين أمرين: الفيئةِ أو الطلاقِ، والتخييرُ بين أمرين لا يكون إلا فى حالة واحدة كالكفارات، ولو كان فى حالتين، لكانتا ترتيباً لا تخييراً، وإذا تقرر هذا، فالفيئة عندكم فى نفس المدة، وعزمُ الطلاق بانقضاء المدة، فلم يقع التخييرُ فى حالة واحدة.
فإن قيل: هو مخيَّر بين أن يفىء فى المدة، وبين أن يترك الفيئة، فيكون عازماً للطلاق بمضى المدة.
قيل: ترك الفيئة لا يكون عزماً للطلاق وإنما يكون عزماً عندكم إذا انقضت المدة، فلا يتأتَّى التخييرُ بين عزم الطلاق وبين الفيئة البتة، فإنه بمضى المدة يقع الطلاق عندكم، فلا يُمكنه الفيئة، وفى المدة يمكنه الفيئة، ولم يحضر وقتُ عزم الطلاق الذى هو مضى المدة، وحينئذ فهذا دليل خامس مستقل.
الدليل السادس: أن التخيير بين أمرين يقتضى أن يكون فِعلُهما، إليه ليصح منه اختيارُ فعل كل منهما وتركه، وإلا لبطل حكمُ خياره، ومضى المدة ليس إليه.
الدليل السابع: أنه سبحانه قال :{وإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227]. فاقتضى أن يكون الطلاقُ قولاً يُسمع، ليحسن ختم الآية بصفة السمع.

الدليل الثامن: أنه لو قال لغريمه: لك أجلُ أربعة أشهر، فإن وفيتنى قبلتُ منك، وإن لم تُوفنى حبستُك، كان مقتضاه أن الوفاء والحبس بعد المدة لا فيها، ولا يَعْقِلُ المخاطبُ غيرَ هذا.
فإن قيل: ما نحن فيه نظيرُ قوله: لك الخيار ثلاثة أيام فإن فسخت البيع وإلا لزمك، ومعلومٌ أن الفسخَ إنما يقع فى الثلاث لا بعدها؟ قيل: هذا من أقوى حُججنا عليكم فإن موجبَ العقد اللزومُ، فجعل له الخيار فى مدة ثلاثة أيام، فإذا انقضت ولم يفسخ عاد العقدُ إلى حكمه وهو اللزومُ وهكذا الزوجة لها حقٌّ على الزوج فى الوطء كما له حقٌّ عليها، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بالمعْرُوف} [البقرة: 228] فجعل له الشارعُ امتناعَ أربعة أشهر لا حقَّ لها فيهن، فإذا انقضت المدةُ، عادت على حقِّها بموجبِ العَقد، وهو المطالبة لا وقوع الطلاق، وحينئذ فهذا دليل تاسع مستقل.
الدليل العاشر: أنه سبحانه جعل للمؤلين شيئاً، وعليهم شيئين، فالذى لهم تربُّصُ المدة المذكورة، والذى عليهم إما الفيئةُ وإما الطلاقُ، وعندكم ليس عليهم إلا الفيئةُ فقط، وأما الطلاقُ، فليس عليهم، بل ولا إليهم، وإنما هو إليه سبحانه عند انقضاء المدة، فيُحكم بطلاقها عقيب انقضاء المدة شاء أو أبى، ومعلوم أن هذا ليس إلى المؤلى ولا عليه، وهو خلافُ ظاهر النص.
قالوا: ولأنها يمين بالله تعالى توجب الكفارةَ. فلم يقع بها الطلاق كسائر الأيمان، ولأنها مدة قدرها الشرعُ، لم تتقدمها الفرقة، فلا يقع بها بينونة، كأجل العنِّين، ولأنه لفظ لا يَصِحُّ أن يقع به الطلاق المعجَّل، فلم يقع به المؤجَّلُ كالظهار، ولأن الإيلاء كان طلاقاً فى الجاهلية، فنسخ كالظهار، فلا يجوز أن يقع به الطلاق لأنه استيفاءٌ

للحكم المنسوخ، ولما كان عليه أهلُ الجاهلية.
قال الشافعى: كانت الفِرَقُ الجاهلية تَحلِفُ بثلاثة أشياء: بالطَّلاق، والظِّهار، والإيلاء، فنقل الله سبحانه وتعالى الإيلاء والظِّهار عما كانا عليه فى الجاهلية من إيقاع الفرقة على الزوجة إلى ما استقَّر عليه حكمُهما فى الشرع، وبقى حكمُ الطلاق على ما كان عليه، هذا لفظه.
قالوا: ولأن الطلاقَ إنما يقع بالصريح والكناية، وليس الإيلاء واحداً منهما، إذ لو كان صريحاً، لوقع معجَّلاً إن أطلقه، أو إلى أجل مسمَّى إن قيَّده، ولو كان كنايةٍ، لرجع فيه إلى نيته، ولا يَرِدُ على هذا اللعان، فإنه يُوجب الفسخَ دونَ الطلاق، والفسخُ يقع بغير قول، والطلاقُ لا يقع إلا بالقول.
قالوا: وأما قراءةُ ابن مسعود، فغايتُها أن تدُلَّ على جواز الفيئة فى مدة التربُّص، لا على استحقاقِ المطالبة بها فى المدة، وهذا حقٌّ لا ننكِرُه.
وأما قولُكم: جوازُ الفيئة فى المدة دليلٌ على استحقاقها فيها، فهو باطل بالدَّيْنِ المؤجَّلِ.
وأما قولُكم: إنه لو كانت الفيئة بعد المدة، لزادت على أربعة أشهر، فليس بصحيح، لأن الأربعة أشهر مدة لزمن الصبرِ الذي لا يستحِقُّ فيه المطالبة، فبمجرد انقضائها يستحِقُّ عليه الحقُّ، فلها أن تعجِّل المطالبة به. وإمَّا أن تُنْظِرَه، وهذا كسائِرِ الحقوق المعلَّقة بآجال معدودة، إنما تُستحق عند انقضاء آجالها، ولا يُقال: إن ذلك يستلزِمُ الزيادةَ على الأجل، فكذا أجلُ الإيلاء سواء.

فصل
ودلت الآية على أن كلَّ مَنْ صحَّ منه الإيلاء بأىِّ يمين حلف، فهو مؤلٍ حتى يَبَرَّ، إما أن يفىءَ، وإما أن يُطلِّقَ، فكان فى هذا حجةٌ لما ذهب إليه مَن يقول مِن السلف والخلفِ: إن المؤلى باليمين بالطلاق، إما أن يفىء، وإما أن يطلِّقَ.
ومن يُلزمه الطلاق على كل حال لم يُمكنه إدخال هذه اليمين فى حكم الإيلاء، فإنه إذا قال: إن وطئتك إلى سنة، فأنت طالق ثلاثاً، فإذا مضت أربعةُ أشهر لا يقولون له: إما أن تطأ، وإما أن تُطلِّقَ، بل يقولون له: إن وطئتها طلقت، وإن لم تطأها، طلقنا عليك، وأكثرُهم لا يُمكنه من الإيلاج لوقوع النزع الذى هو جزء الوطء فى أجنبية، ولا جواب عن هذا إلا أن يقال: بأنه غير مؤل، وحينئذ فيقال: فلا تُوقفوه بعد مضى الأربعة الاشهر، وقولوا: إن له أن يمتنع مِن وطئها بيمينِ الطلاق دائماً، فإن ضربتم له الأجل، أثبتم له حكم الإيلاء مِن غير يمين، وإن جعلتموه مؤلياً ولم تجيزوه، خالفتم حكم الإيلاء، وموجب النص، فهذا بعضُ حجج هؤلاء على منازعيهم.
فإن قيل: فما حكمُ هذه المسألة، وهى إذا قال: إن وطئتُك، فأنتِ طالق ثلاثاً.
قيل: اختلف الفقهاءُ فيها، هل يكون مؤلياً أم لا؟ على قولين، وهما روايتان عن أحمد، وقولان للشافعى فى الجديد: بأنه يكون مؤلياً، وهو مذهب أبى حنيفة، ومالك. وعلى القولين: فهل يُمكَّنُ مِن الإيلاجِ؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد والشافعى.
أحدهما: أنه لا يُمكن منه، بل يحرمُ عليه، لأنها بالإيلاج تطلق

عندهم ثلاثاً، فيصيرُ ما بعد الإيلاج محرماً، فيكون الإيلاج محرماً، وهذا كالصائم إذا تيقن أنه لم يبق إلى طلوع الفجر إلا قدر إيلاج الذكر دون إخراجه، حَرُمَ عليه الإيلاجُ، وإن كان فى زمن الإباحة، لوجود الإخراج فى زمن الحظر، كذلك ها هنا يحرُم عليه الإيلاجُ، وإن كان قبل الطلاق لوجود الإخراج بعده.
والثانى: أنه لا يحرم عليه الإيلاج، قال الماوردى: وهو قولُ سائر أصحابنا، لأنها زوجته، ولا يحرم عليه الإخراج، لأنه ترك. وإن طلقت بالإيلاج، ويكون المحرمُ بهذا الوطء استدامة الإيلاج لا الابتداء والنزع، وهذا ظاهر نص الشافعى، فإنه قال: لو طلع الفجرُ على الصائم وهو مجامع وأخرجه مكانَه كان على صومه، فإن مكث بغير إخراجه، أفطر، ويكفِّرُ. وقال فى كتاب الإيلاء: ولو قال: إن وطئتُك، فأنتِ طالق ثلاثاً، وقف، فإن فاء، فإذا غيَّب الحشفة، طلقت منه ثلاثاً، فإن أخرجه ثم أدخله، فعليه مهرُ مثلها. قال هؤلاء: ويدل على الجواز أن رجلاً لو قال لرجل: ادخل دارى، ولا تقم، استباح الدخول لوجوده عن إذن، ووجب عليه الخروجُ لمنعه من المقام، ويكون الخروجُ وإن كان فى زمن الحظر مباحاً، لأنه تركٌ، كذلك هذا المؤلى يستبيحُ أن يولج، ويستبيحُ أن ينزع، ويحرم عليه استدامةُ الإيلاج، والخلاف فى الإيلاج قبل الفجر والنزع بعده للصائم، كالخلاف فى المؤلى، وقيل: يحرم على الصائم الإيلاج قبل الفجر، ولا يحرم على المؤلى، والفرق أن التحريم قد يطرأ على الصائم بغير الإيلاج، فجاز أن يحرُمَ عليه الإيلاج، والمؤلى لا يطرأ عليه التحريم بغير الإيلاج، فافترقا.
وقالت طائفة ثالثة: لا يحرُمٌُ عليه الوطءُ، ولا تطلُق عليه الزوجةُ،

بل يُوقف، ويقال له: ما أمر الله إما أن تفىء، وإما أن تُطلق. قالوا: وكيف يكون مؤلياً ولا يُمكن من الفيئة، بل يلزم بالطلاق، وإن مكن منها، وقع به الطلاق، فالطلاق واقع به على التقديرين مع كونه مؤلياً؟ فهذا خلافُ ظاهرِ القرآن، بل يقال لهذا: إن فاء لم يقع به الطلاقُ، وإن لم يفىء، أُلزِمَ بالطلاق،. وهذا مذهبُ من يرى اليمينَ بالطلاق لا يُوجب طلاقاً، وإنما يُجزئه بكفارة يمين، وهو قولُ أهل الظاهر، وطاووس، وعكرمة، وجماعة من أهل الحديث؟ واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه.

فصل حُكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى اللعان
...
حُكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى اللعان
قال تعالى :{والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ولَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ باللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ والخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبينَ ويَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبِينَ وَالخَامِسةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6-9].
وثبت فى "الصحيحين": من حديث سهل بن سعد، أن عُوَيْمِراً العجلانىَّ قال لِعَاصم بن عدى: أَرأَيتَ لو أن رجلاً وَجَدَ مَعَ امرأتِهِ رجلاً أَيقتُلُه فتقتُلُونه، أم كيف يفعلُ؟ فسل لى رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكره رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَسَائِلَ وعَابَها، حتى كَبْرَ على عاصمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم إن عويمراً سأل رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، فقال: "قَدْ نَزَلَ فيكَ وفى صاحِبَتِكَ، فاذْهَبْ، فَأْتِ بِهَا، فَتَلاَعَنَا

عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا فَرَغَا قال: كذبتُ عَلَيْهَا يا رسولَ اللهِ إن أمسكتُها، فطلَّقها ثلاثاً قَبْلَ أَن يأمُرَهُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الزهرىُّ: فكانت تِلْكَ سنةَ بالمتلاعِنْينِ. قال سهل: وكانت حَامِلاً، وكان ابنُهَا يُنْسَبُ إلى أمه، ثم جرت السُّنةُ أَن يَرِثَها وتَرِثَ مِنْهُ ما فَرَضَ اللهُ لها.
وفى لفظ: فتلاعنا فى المسجد، ففارقها عندَ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذاكُم التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلاعِنَيْن".
وقولُ سهل: وكانت حاملاً إلى آخره، هو عند البخارى مِن قول الزهرى، وللبخارى: ثم قالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انْظُرُوا فَإنْ جَاءتْ بِه أَسْحَمَ أَدْعَجَ العَيْنَيْنِ عَظيمَ الألْيَتَيْن، خَدَلَّج السَّاقَيْنِ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِراً إلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا، وإِنْ جَاءتْ بهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وحْرَةٌ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِراً إلاَّ قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا"، فجاءت به على النَّعْتِ الذى نعتَ به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تصديق عويمر.
وفى لفظ: وكانت حَامِلاً، فأنكر حملَها.
وفى صحيح مسلم: من حديث ابن عمر، أن فلانَ بنَ فلان، قال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ لو وجد أحدُنا امرأتَه على فاحِشةٍ، كيف يصنعُ، إن تكلم، تكلَّم بأمر عظيم، وإن سكت، سَكَتَ على مِثْل ذلِكَ؟ فسكت النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

فلم يُجِبْهُ، فلما كان بعدَ ذلك، أتاه فقال: " إنَّ الَّذِى سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابتُلِيتُ بِهِ "، فأنزلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ هؤلاءِ الآيات فى سُورَةِ النُّورِ :{والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ} [النور: 6]، ف تلاهن عليه ووعظَه، وذكَّره وأخبره أن عذابَ الدنيا أهونُ مِن عذابِ الآخرة، قال: لا والَّذِى بَعَثَك بِالحَقِّ ما كذبتُ عليها، ثم دعاها فوعظَهَا، وذكرها، وأخبرها أن عذابَ الدنيا أهونُ مِن عذابِ الآخرة، قالَت: لا والَّذِى بَعَثَكَ بالحَقِّ إنه لكاذِبٌ، فبدأ بالرَّجُلِ فَشَهدَ أربعَ شهادَاتٍ باللهِ إنه لمن الصادقين، والخامسة أنَّ لعنةَ اللهِ عليه إن كان مِن الكَاذِبِينَ، ثم ثنَّى بالمرأةِ، فشَهِدَتْ أربعَ شهادَاتٍ باللهِ إنَّه لمن الكاذبينَ، والخا مسة أنَّ غَضَبَ اللهِ عليها إن كان من الصَّادِقينَ، ثم فرَّق بينهُمَا.
وفى "الصحيحين" عنه، قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمتُلاعنين: "حِسَابُكُما عَلى اللهِ أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا"، قال: يا رسولَ اللهِ، مالى؟ قال: لاَ مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِن فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا".
وفى لفظ لهما: فرَّق رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ المُتَلاعِنَيْنِ، وقال: واللهِ إِن أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تائِبٌ"؟.
وفيهما عنه: أن رجلاً لاعَنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففرَّقَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، وألحق الولد بأمِّه.
وفى صحيح مسلم: من حديث ابن مسعود رضى الله عنه فى قِصةِ

المتلاعنين، فشهد الرجلُ أربعَ شهادات بالله إنَّهُ لَمِنَ الصادقين، ثم لعن الخامسةَ أنَّ لعنةَ اللهِ عليه إن كانَ مِنَ الكَاذِبينَ، فذهبتْ لتلعنَ، فقال لها رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَهْ" فَأَبَتْ، فَلَعَنَتْ، فلما أدبرا، قال: لَعَلَّهَا أَنْ تَجِىءَ بهِ أَسْوَدَ جَعْدَاً"، فجاءتْ بهِ أسْوَدَ جَعْداً.
وفى "صحيح مسلم" من حديث أنس بن مالك، أن هِلالَ بن أمية قذف امرأته بِشَرِيك بْنِ سَحْمَاء، وكان أخا البرَاءِ بنِ مالك لأمِّه، وكان أوَّلَ رجلٍ لاعن فى الإسلام، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْصِرُوهَا فإنْ جَاءتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبطاً قضىءَ العَيْنَيْنِ، فَهُوَ لهلال بْن أُمَيَّة، وَإنْ جَاءتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْداً حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ ابن سَحْمَاء، قال: فأُنبئتُ أَنها جاءت به أكحلَ جعداً حَمْش السَّاقين.
وفى "الصحيحين": من حديث ابن عباس نحوُ هذه القصة، فقال له، رجل: أهى المرأةُ التى قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ رَجَمْتُ أَحَداً بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هذِهِ" ، فقال ابنُ عباس: لا، تِلْكَ امرأَة كانت تُظْهِرُ فى الإسْلامِ السُّوءَ.
ولأبى داود فى هذا الحديث عن ابن عباس: ففرَّق رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُما وقضى أن لا يُدعى ولدُها لأب، ولا تُرمى، ولا يُرمى ولدُها ومَنْ رماها، أو رمى ولدها، فعليه الحدُّ، وقضَى ألاَّ بَيْتَ لها عليه، ولا قوت من أجل أنهما يتفرَّقان مِن غير طلاق، ولا متوفى عنها.

وفى القصة قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميراً على مصر وما يُدعى لأب.
وذكر البخارى: أن هلالَ بن أمية قذف امرأتهُ عند رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشريكِ بن سَحْمَاء، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فى ظَهْرِكَ"، فقال: يا رسولَ اللهِ: إذا رأى أحدُنا على امرأتِه رجلاً ينطلِقُ يلتمِسُ البينة؟ فجعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "البَيِّنَةُ وإلاَّ حَدٌّ فى ظَهْرِكَ "، فقال: والذى بعثك بالحق إنى لصَادِق، وليُنْزِلَنَّ اللهُ ما يُبرِّىءُ ظَهْرِى مِن الحَدِّ، فنزلَ جبريلُ عليه السلام، وأنزل عليه :{ والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُم الآية} [النور: 6]، فانصرفَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليها، فجاء هِلال، فشهِدَ والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إنَّ اللهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائبٌ"؟ فَشَهِدَت، فلما كانت عند الخامِسة وقَّفُوهَا، وقالوا: إنها مُوجِبَة، قال ابنُ عباس رضى الله عنهما: فتلكَّأَت ونَكَصَتْ حتَّى ظَننَّا أنها تَرْجعُ، ثم قالت: لا أَفْضحُ قَوْمِى سَائِرَ اليومِ، فَمَضَتْ، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "أَبْصِرُوهَا فَإنْ جَاءتْ بِهِ أَكْحَلَ العَيْنَيْنِ، سَابغَ الأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّج السَّاقَيْن، فَهُوَ لَشَرِيكِ بن سَحْمَاء، فجاءت به كذلكَ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ الله كَانَ لى وَلَهَا شَأْنٌ".
وفى "الصحيحين": أن سعدَ بنَ عُبادة، قال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ الرَّجُلَ يَجِدُ مع امرأتِهِ رجلاً أيقتلُه؟ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا"،

فقال سَعْدٌ: بلَى والَّذِى بعثك بالحقِّ، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْمَعُوا إلى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُم": وفى لفظٍ آخَرَ: يا رسولَ اللهِ، إن وجدتُ مع امرأتى رجلاً أُمْهِلُه حتى آتىَ بأربعة شهداء؟ قال: "نعم". وفى لفظ آخر: لو وجَدْتُ مع أَهْلى رجلاً لم أهجْهُ حَتَّى آتىَ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نعم"، قال: كلاَّ والَّذِى بَعَثَكَ بالحَقِّ نَبياًّ إِنْ كُنْتُ لأُعاجلُهُ بالسَّيْفِ قَبْلِ ذلِكَ، قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْمَعوا إلى ما يقُولُ سَيِّدُكُم إِنَّه لَغَيُورٌ وأَنَا أغْيَرُ مِنْهُ، واللهُ أَغْيَرُ مِنِّى".
وفى لَفْظٍ: " لو رأيتُ مَعَ امرأتى رجلاً لضربتُه بالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، فَوَاللهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، واللهُ أَغْيَرُ مِنِّى، ومِنْ أَجْلِ ذلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ، ولا شَخْصَ أَغٌيَرُ مِنَ الله، ولا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ بَعَثَ اللهُ المُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذَرِينَ، ولا شخص أحَبُّ إلَيْهِ المِدْحَةُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ وَعَدَ اللهُ الجَنَّةَ".
فصل
[المستفاد من حديث سعد بن عبادة]
واستُفيدَ من هذا الحكم النبوىِّ عدَةُ أحكام.
الحكم الأول: أن اللعانَ يَصِحُّ من كل زوجين سواءً كانا مسلمين أو كافريْنِ، عدلين فاسقْينِ محدودين فى قذف، أو غير محدودين، أو أحدهما كذلك، قال الإمام أحمد فى رواية إسحاق بن منصور: جميعُ

الأزواج يلتعِنُونَ، الحُر من الحرة والأمة إذا كانت زوجة، والعبد من الحرة والأمة إذا كانت زوجة، والمسلم من اليهودية والنصرانية، وهذا قول مالك وإسحاق وقولُ سعيد بن المسيب، والحسن، وربيعة، وسليمان بن يسار.
وذهب أهلُ الرأى، والأوزاعى، والثورى، وجماعة إلى أن اللِّعان لا يكون إلا بينَ زوجينِ مسلمين عدلين حرين غير محدودين فى قذف، وهو روايةٌ عن أحمد.
ومأخذ القولين: أن اللعان يجمع وصفين، اليمينَ والشهادةَ، وقد سماه الله سبحانه شهادةً، وسماه رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يميناً حيث يقول: "لَوْلاَ الأيمَانُ، لَكَانَ لى وَلَهَا شَأْنٌ" ، فمن غلَّب عليه حُكم الأيمان قال: يَصِحُّ مِن كل من يصح يمينه: قالوا: ولعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ} [النور: 6] قالوا: وقد سمَّاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يميناً. قالوا: ولأنه مفتقِر إلى اسم الله، وإلى ذكر القسم المؤكد وجوابه. قالوا: ولأنه يستوى فيه الذكرُ والأنثى، بخلاف الشهادة. قالوا: ولو كان شهادة، لما تكرَّر لفظُه، بخلاف اليمين، فإنه قد يشرع فيها التكرار، كأيمان القسامة. قالوا: ولأن حاجة الزوج التى لا تَصِحُّ منه الشهادة إلى اللعان ونفى الولد، كحاجة من تصِحُّ شهادته سواء، والأمر الذى ينزل به مما يدعو إلى اللعان، كالذى ينزلُ بالعدل الحر، والشريعة لا ترفع ضررَ أحدِ النوعين، وتجعلُ له فرجاً ومخرجاً مما نزل به، وتدعُ النوع الآخر فى الآصار والأغلال، لا فرج له مما نزل به، ولا مخزج، بل يستغيثُ فلا يُغاث، ويستجيرُ فلا يُجار، إن تكلَّمَ تكلَّم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثله، قد ضاقت عنه الرحمةُ التى وسعت من تَصِحُّ شهادته، وهذا تأباه الشريعةُ الواسعة الحنيفية السمحةُ.

قال الآخرون: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُم فَشَهَادَةُ أَحَدِهمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ} [النور: 6]، وفى الآية دليل من ثلاثة أوجه.
أحدها: أنه سبحانه استثنى أنفسَهم مِن الشهادة، وهذا استثناءُ متَّصِلٌ قطعاً، ولهذا جاء مرفوعاً.
والثانى: أنه صرح بأن التعانَهم شهادة، ثم زاد سبحانه هذا بياناً، فقال: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبينَ} [النور: 8].
والثالث: أنه جعله بدلاً من الشهود، وقائماً مقامَهم عند عدمهم.
قالوا: وقد روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ لِعَانَ بَيْنَ مَمْلُوكَيْنِ وَلاَ كَافِرَيْنِ"، ذكره أبو عمر بن عبد البر فى "التمهيد".
وذكر الدارقطنى من حديثه أيضاً، عن أبيه، عن جده مرفوعاً: "أَرْبَعَةٌ لَيْسَ بَيْنَهُمْ لِعَانٌ: لَيْسَ بَيْنَ الحُرِّ والأمةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الحُرَّةِ والعَبْدِ لِعَانٌ، ولَيْسَ بَيْنَ المُسْلِم وَاليَهُودِيَّةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ المُسْلِمِ والنَّصْرَانِيَّةِ لِعَانٌ".
وذكر عبد الرزاق فى "مصنفه"، عن ابن شهاب، قال: من وصية النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعتَّاب بن أَسِيد: أن لا لِعان بين أربع، فذكر معناه.

قالوا: ولأن اللَّعانَ جُعِلَ بدلَ الشهادة، وقائماً مقامَها عند عدمها، فَلا يَصِحُّ إلا ممن تصح منه، ولهذا تُحدُّ المرأة بِلعان الزَّوج، ونُكولها تنزيلاً لللِعانه منزلةَ أربعةِ شهود.
قالُوا: وأما الحديثُ: "لولا مَا مَضَى مِنَ الأيْمَانِ، لَكَانَ لى وَلَهَا شَأْنٌ"، فالمحفوظ فيه: لولا ما مضى من كتاب الله، هذا لفظ البخارى فى "صحيحه". وأما قوله: لَوْلاَ مَا مَضَى مِنَ الأَيْمَانِ، فمن رواية عباد ابن منصور، وقد تكلم فيه غير واحد. قال يحيى بن معين: ليس بشىء. وقال على بن الحسين بن الجنيد الرازى: متروك قدرى. وقال النسائي: ضعيف.
وقد استقرت قاعدة الشريعة أن البينةَ على المدَّعي، واليمينَ على المدَّعَى عليه، والزوج ها هنا مُدَّعٍ، فلِعانُه شهادة، ولو كان يميناً لم تُشرع فى جانبه.قال الأولون: أما تسميتُه شهادةً، فلِقول الملتعِنِ فى يمينه: أشهد بالله، فسمى بذلك شهادة، وإن كان يميناً اعتباراً بلفظها. قالوا: وكيف وهو مصرَّح فيه بالقسم وجوابه، وكذلك لو قال: أشهد باللهِ، انعقدت يمينُه فبذلك، سواء نوى اليمينَ أو أطلق، والعربُ تَعُدُّ ذلك يميناً فى لغتها واستعمالها. قال قيس:
فَأَشْهَدُ عِنْدَ اللهِ أَنِّى أُحِبُّهَا ... فَهذَا لَهَا عِنْدِى فَمَا عِنْدَهَا لِيَا
وفى هذا حجة لمن قال: إن قوله: "أشهد" تنعقِد به اليمين، ولو لم يقُلْ: باللهِ، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد. والثانية، لا يكون يميناً

إلا بالنيةِ، وهو قولُ الأكثرين. كما أن قوله: أشهد بالله يمين عند الأكثرين بمطلقة.
قالوا: وأما استثناؤُه سبحانه أنفسَهم مِن الشهداء، فيقال أولاً: "إلا" ها هنا: صفة بمعنى غير، والمعنى: ولم يكن لهم شهداء غيرُ أنفسهم، فإن "غيراً"، و"وإلاَّ" يتعارضان الوصفية والاستثناء، فيُستثنى ب "غير" حملاً على "إلاَّ"، ويُوصف ب "إلاَّ" حملاً على "غير".
ويقال ثانياً: إن "أنفسهم" مستثنى من الشهداء، ولكن يجوز أن يكون منقطعاً على لغة بنى تميم، فإنهم يُبذلون فى الانقطاع، كما يُبْدِل أهلُ الحجاز وهم فى الاتصال.
ويقال ثالثاً: إنما استثنى "أنفسهم" من الشهداء لأنه نزَّلهم منزلتهم فى قبول قولهم، وهذا قوى جداً على قول من يرجم المرأة بالتعان الزوج إذا نكلت وهو الصحيح، كما يأتى تقريره إن شاء الله تعالى. والصحيح: أن لعانهم يجمع الوصفين، اليمين والشهادة، فهو شهادة مؤكَّدة بالقسم والتكرار، ويمين مغلَّظة بلفظ الشهادة والتكرار لاقتضاء الحال تأكيد الأمر.
ولهذا اعتبر فيه من التأكيد عشرة أنواع.
أحدها: ذكر لفظ الشهادة.
الثانى: ذكر القسم بأحد أسماءِ الربّ سبحانه وأجمعها لمعانى أسمائه الحسنى، وهو اسم الله جَلَّ ذِكرُه.
الثالث: تأكيدُ الجواب بِما يُؤكِّد به المقسم عليه، من "إن، واللام"، وإتيانه باسم الفاعل الذي هو صادق وكاذب دون الفعل الذى هو صدق وكذب.
الرابع: تكرارُ ذلك أربع مرات.

الخامس: دعاؤه على نفسه فى الخامسة بلعنة الله إن كان من الكاذبين.
السادس: إخبارُه عند الخامسة أنها الموجِبةُ لعذاب الله وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة
السابع: جعل لعانه مقتضى لحصول العذاب عليها، وهو إما الحدُّ أو الحبسُ، وجعل لعانها دارئاً للعذاب عنها.
الثامن: أن هذا اللعان يُوجب العذاب على أحدهما إما فى الدنيا، وإما فى الآخرة.
التاسع: التفريقُ بين المتلاعنين، وخرابُ بيتها، وكسرها بالفراق.
العاشرُ: تأبيد تلك الفرقة ودوام التحريم بينهما، فلما كان شأنُ هذا اللعانِ هذا الشأن، جُعِلَ يميناً مقروناً بالشهادة، وشهادة مقرونة باليمين، وجعل الملتعن لقبول قوله كالشاهد، فإن نكلت المرأةُ، مضت شهادته وحُدِّتْ، وأفادت شهادتُه ويمينهُ شيئين: سقوط الحد عنه، ووجوبه عليها. وإن التعنت المرأة وعارضت لعانه بلعان آخر منها، أفاد لعانُه سقوطَ الحد عنه دون وجبه عليها، فكان شهادة ويميناً بالنسبة إليه دونها، لأنه إن كان يميناً محضة فهى لا تحدُّ بمجرد حلفه، وإن كان شهادة فلا تحدُّ بمجرد شهادته عليها وحده. فإذا انضم إلى ذلك نكولُها، قوىَ جانبُ الشهادة واليمين فى حقِّه بتأكُّدهِ ونكولها، فكان دليلاً ظاهراً على صدقة، فأسقط الحد عنه، وأوجبه عليها، وهذا أحسنُ ما يكون من الحكم، ومن أَحْسنُ من اللهِ حكماً لِقوم يُوقِنُونَ، وقد ظهر بهذا أنه يمين فيها معنى الشهادة، وشهادةٌ فيها معنى اليمين.
وأما حديثُ عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده، فما أبينَ دلالته لو كان صحيحاً بوصوله إلى عمرو، ولكن فى طريقه إلى عمرو مَهالكُ

ومفاوز. قال أبو عمر بن عبد البر: ليس دون عمرو بن شعيب من يحتج به.
وأما حديثُه الآخر الذي رواه الدارقطنى، فعلى طريق الحديث عثمان بن عبد الرحمن الوقاصى، وهو متروك بإجماعهم، فالطريق به مقطوعة.
وأما حديثُ عبد الرزاق، فمراسيلُ الزهرىِّ عندهم ضعيفة لا يُحْتَجُّ بها، وعَتَّابُ بنُ أسيد كان عاملاً للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مكة، ولم يكن بمكة يهودىٌ ولا نصرانى البتة حتى يُوصِيُه أن لا يلاعِنَ بينهما.
قالوا: وأما ردُّكم لقوله: "لولا ما مضى من الأيمان، لكَانَ لى ولها شأن"، وهو حديث رواه أبو داود فى سننه، وإسناده لا بأس به، وأما تعلُّقكم فيه على عبَّاد بن منصور، فأكثر ما عيب عليه أنه قدرىٌّ داعية إلى القدر، وهذا لا يوجب ردَّ حديثهِ، ففى الصحيح: الاحتجاجُ بجماعة مِنَ القدرِيَّة والمرجئة والشيعة ممن عُلِمَ صِدْقُه، ولا تنافى بينَ قوله: "لولا ما مَضَى مِن كتاب الله تعالى"، "ولولا ما مضى من الأيمان"، فيحتاج إلى ترجيح أحدِ اللفظين، وتقديمه على الآخر، بل الأيمان المذكورة هى فى كتابِ الله، وكتابُ الله تعالى حكمُه الذى حكم به بين المتلاعنين، وأراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لولا ما مضى مِن حكم اللهِ الذى فصلَ بين المتلاعنَين، لكان لها شأن آخر

قالوا: وأما قولُكم: إن قاعدةَ الشريعةِ استقرَّت على أن الشهادةَ فى جانب المدَّعى، واليمين فى جانب المدَّعَى عليه، فجوابه مِن وجوه، أحدها: أن الشريعةَ لم تستقِرَّ على هذا، بل قد استقرت فى القَسامة بأن يبدأ بأيمان المدَّعينَ، وهذ لقوة جانبهم باللَّوْثِ، وقاعدةُ الشريعة أن اليمين تكون من جنبة أقوى المتداعيين، فلما كان جانبُ المدَّعى عليه قوياً بالبراءة الأصلية، شرعت اليمينُ فى جانبه، فلما قوى جانبُ المدعى فى القسامة باللوث كانت اليمينُ فى جانبه، وكذلك على الصحيح لما قوي جانبه بالنكول صارت اليمين في جانبه فيقال له: احلف واستحق، وهذا مِن كمال حكمة الشارع واقتضائه للمصالح بحسب الإمكان، ولو شرعت اليمينُ مِن جانب واحد دائماً، لذهبت قوةُ الجانب الراجح هدراً، وحكمة الشارع تأبى ذلك، فالذى جاء به هو غايةُ الحكمة والمصلحة.
وإذا عُرِفَ هذا، فجانب الزوج ها هنا أقوى من جانبها، فإن المرأة تُنْكِرُ زناها، وتبهتُه، والزوجُ ليس له غرضٌ فى هتك حرمته، وإفساد فراشه، ونسبة أهله إلى الفجور، بل ذلك أشوشُ عليه، وأكره شىء إليه، فكان هذا لوثاً ظاهراً، فإذا انضاف إليه نكولُ المرأة قوى الأمرُ جداً فى قلوبِ الناسِ خاصِّهم وعامِّهم، فاستقلَّ ذلك بثبوت حكم الزنى عليها شرعاً، فحدَّتْ بلعانه، ولكن لما تكن أيمانُه بمنزلة الشهداء الأربعة حقيقةً، كان لها أن تُعارِضَها بأيمان أخرى مثلِها يدرأ عنها بها العذابَ عذابَ الحدِّ المذكور فى قوله تعالى :{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، ولو كان لِعانُه بينةً حقيقةً، لما دفعت أيمانها عنها شيئاً.
وهذا يتَّضِحُ بالفصل الثانى المستفاد من قضاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أن المرأةَ إذا لم تلتعِنْ، فهل تُحَدُّ أو تُحبَسُ حتى تُقِرَّ، أو تُلاعن؟ فيه قولان للفقهاء. فقال الشافعى، وجماعة من السلف والخلف: تُحَدُّ، وهو قولُ

أهلِ الحجاز. وقال أحمد: تُحبسُ حتى تُقِرَّ أو تُلاعِنَ، وهو قولُ أهل العِراق. وعنه رواية ثانية: لا تحبَسُ ويُخلَّى سبيلُها.
قال أهل العراق ومَنْ وافقهم: لو كان لِعانُ الرجل بينةً تُوجِبُ الحدَّ عليها، لم تملك إسقاطَه باللعانِ، وتكذيب البينة، كما لو شهد عليها أربعة.
قالوا: ولأنه لو شهد عليها مع ثلاثة غيرِه، لم تحد بهذه الشهادة، فلأن لا تُحدَّ بشهادته وحده أولى وأحرى. قالُوا: ولأنه أحدُ المتلاعنين، فلا يُوجِبُ حدَّ الآخر، كما لم يُوجب لِعانُها حدَّه.
قالوا: وقد قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البَيِّنَةُ عَلى المُدَّعى". ولا ريب أن الزوج ها هنا مدَّع.
قالوا: ولأن موجبَ لِعانه إسقاط الحد عن نفسه لا إيجابَ الحد عليها، ولهذا قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البَيِّنَةُ وإلا حَدٌّ فى ظَهْرِكَ"، فإن موجِبَ قذفِ الزوج، كموجِب قذفِ الأجنبى وهو الحدُّ، فجعل الله سبحانه له طريقاً إلى التخلص منه باللعان، وجعل طريق إقامة الحد على المرأة أحدَ أمرين: إما أربعة شهود، أو اعتراف، أو الحَبَلُ عند من يَحُدُّ به مِن الصحابة، كعمر بن الخطاب ومن وافقه، وقد قال عمر بن الخطاب على منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والرجمُ واجِبٌ على كفِّ من زَنَى مِن الرجال والنساء إذا كان محصَناً إذا قامَت بينةٌ، أو كان الحَبَلُ، أو الاعترافُ، وكذلك قال علىٌّ رضى الله عنه، فجعلا طريق الحدِّ ثلاثة لم يجعلا فيها اللعان.

قالوا: وأيضاً فهذه لم يتحقق زناها، فلا يجبُ عليها الحد، لأن تحقق زناها إما أن يكونُ بِلعان الزوج وحدَه، لأنه لو تحقق به، لم يسقُطْ بِلعانها الحدُّ، ولما وجب بعد ذلك حد على قاذفها، ولا يجوزُ أن يتحقق بنكُولها أيضاً، لأن الحدَّ لا يثبُت بالنكول، فإن الحدَّ يُدرأ بالشُّبهاتِ، فكيف يجب بالنكولِ، فإن النكولَ، يحتمل أن يكون لِشدة خَفَرِهَا، أو لعُقْلَةِ لِسانها، أو لِدهشها فى ذلك المقام الفاضح المخزى، أو لغير ذلك من الأسباب، فكيف يثبتُ الحدُّ الذى اعُبِرَ فى بينته من العدد ضعف ما اعتبر فى سائر الحدود، وفى إقراره أربع مرات بالسنة الصحيحة الصريحة، واعتُبِرَ فى كل من الإقرار والبينة أن يتضمَّن وصفَ الفعل والتصريح به مبالغة فى الستر، ودفعاً لإثبات الحدِّ بأبلغ الطرق وآكِدها، وتوسلاً إلى إسقاط الحدِّ بأدنى شُبهة، فكيف يجوزُ أن يقضى فيه بالنكولِ الذي هو فى نفسه شبهة لا يُقضي به فى شىء من الحدود والعقوبات البتة ولا فيما عد الأموال؟
قالوا: والشافعى رحمه الله تعالى لا يرى القضاء بالنكول فى درهم فما دونَه، ولا فى أدنى تعزير، فكيف يُقضَى به فى أعظم الأمور وأبعدِها ثبوتاً، وأسرعها سقوطاً، ولأنها لو أقرَّت بلسانها، ثم رجعت، لم يجب عليها الحدّ، فلأن لا يجب بمجرد امتناعها مِن اليمين على براءتها أولي، وإذا ظهر أنه لا تأثير لواحد منهما فى تحقق زناها، لم يجز أن يُقال بتحققه بهما لوجهين.
أحدهما: أن ما فى كل واحد منهما من الشبهة لا يزول بضم أحدهما إلى الآخر، كشهادة مائة فاسق، فإن احتمالَ نكولها لفرط حيائها، وهيبة ذلك المقام، والجمع، وشدة الخَفَرِ، وعجزها عن النطق، وعُقلة لسانها

لا يزولُ بلعان الزوج ولا بنكولها.
الثانى: أن ما لا يقضى فيه باليمين المفردة لا يقضى فيه باليمين مع النكول كسائر الحقوق.
قالوا: وأما قوله تعالى: {ويَدْرَؤاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8]، فالعذاب ها هنا يجوز أن يُراد به الحدُّ، وأن يُرادَ به الحبسُ والعقوبةُ المطلوبة، فلا يتعين إرادة الحدِّ به، فإنَّ الدال على المطلق لا يدلُّ على المقيد إلا بدليل من خارج، وأدنى درجاتِ ذلك الاحتمال، فلا يثبتُ الحدُّ مع قيامه، وقد يُرجَّحُ هذا بما تقدم مِن قول عمر وعلى رضى الله عنهما: إن الحدَّ إنما يكون بالبينة أو الاعتراف أو الحبل.
ثم اختلف هؤلاء فيما يصنع بها إذا لم تُلاعِنْ، فقال أحمد: إذا أبت المرأة أن تلتعِنَ بعدًَ التعان الرجل، أجبرتُها عليه، وهِبْتُ أن أحْكُمَ عليها بالرجم، لأنها لو أقرت بلسانها، لم أرجمها إذا رجعت، فكيف إذا أبتِ اللعان؟ وعنه رحمه الله تعالى رواية ثانية: يخلى سبيلُها، اختارها أبو بكر، لأنها لا يجبُ عليها الحد، فيجب تخلية سبيلها، كما لو لم تكمل البينة.
فصل
قال الموجبون للحدِّ: معلومٌ أن الله سبحانه وتعالى جعل التعانَ الزوج بدلاً عن الشهود، وقائماً مقامهم، بل جعل الأزواج الملتعنِينَ شهداءَ كما تقدَّم، وصرَّحَ بأن لِعانهم شهادةٌ، وأوضح ذلك بقوله: {ويَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ} [النور: 8]، وهذا يدلُّ على أن سببَ العذاب الدنيوى قد وُجِدَ، وأنه لا يدفعه عنها إلا لعانُها، والعذاب المدفوع عنها

بلعانها هو المَذكُور فى قوله تعالى: {ولْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وهذا عذابُ الحدِّ قطعاً، فذكره مضافاً، ومعرَّفاً بلام العهد، فلا يجوزُ أن ينصرِفَ إلى عُقوبةٍ لم تُذكر فى اللفظ، ولا دلَّ عليها بوجهٍ مِن حبس أو غيره، فكيف يُخلَّى سبيلُها، ويدرأ عنها العذابُ بِغير لِعان، وهل هذا إلاَّ مخالفةٌ لِظاهر القرآن؟
قالُوا: وقد جعل اللهُ سبحانه لِعانَ الزوج دارئاً لحدِّ القذف عنه، وجعل لِعانَ الزوجة دارئاً لعذاب حدِّ الزِّنى عنها، فكما أن الزوج إذا لم يُلاعن يُحدُّ حَدَّ القذف، فكذلك الزوجةُ إذا لم تُلاعن يجب عليها الحدُّ.
قالُوا: وأما قولكم: إن لعانَ الزوج لو كان بيِّنة تُوجب الحدِّ عليها لم تملك هى إسقاطه باللعان، كشهادة الأجنبى.
فالجواب: أن حكم اللَّعان حُكمٌ مستقلٌ بنفسه غيرُ مردود إلى أحكام الدعاوى والبيِّنات، بل هو أصل قائم بنفسه شَرَعَه الذى شرع نظيرَه مِن الأحكام، وفصَّله الذى فصَّل الحلالَ والحرام، ولما كان لِعانُ الزوج بدلاً عن الشهود لا جَرَمَ نزل عن مرتبة البينة، فلم يستقِلَّ وحدَه بحكم البينة، وجعل للمرأة معارضته بلعان نظيره، وحينئذ فلا يظهر ترجيحُ أحد اللعانين على الآخر لنا، والله يعلم أن أحدهما كاذب، فلا وجه لحد المرأة بمجردِ لِعان الزوج، فإذا مُكنت من معارضته وإتيانها بما يُبرىء ساحتها، فلم تفعل، ونكلت عن ذلك، عَمِلَ المقتضى عمَله، وانضاف إليه قرينة قوَّته وأكَّدته، وهى نكولُ المرأة وإعراضُها عما يُخلِّصها مِن العذاب، وَيَدْرَؤُه عنها.
قالوا: وأما قولُكم: إنه لو شهد عليها مع ثلاثة غيره لم تُحَدَّ بهذه الشهادة، فكيف تُحدُّ بشهادته وحدَه؟ فجوابُه أنها لم تُحد بشهادة مجرَّدة، وإما حُدَّت بمجموع لِعانه خمسَ مرات، ونكولِها عن معارضته مع قدرتها

عليها، فقامَ من مجموع ذلك دليل فى غاية الظهور والقوة على صحة قوله، والظنُّ المستفاد منه أقوى بكثره من الظن المستفاد من شهادة الشهود.
وأما قولُكم: إنه أحد اللعانين، فلا يُوجب حد الآخر، كما لم يُوجب لِعانُها حدَّه، فجوابه أن لِعانها إنما شرع للدفع، لا للإيجاب، كما قال تعالى :{وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8]، فدلَّ النصُّ على أن لعانه مقتض لإيجاب الحد، ولعانها دافع ودارىء لا موجب، فقياسُ أحد اللعانينِ على الآخر جمع بين ما فرَّق الله سبحانه بينهما وهو باطل. قالُوا: وأما قولُ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِى"، فسمعاً وطاعةً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا ريبَ أن لِعان الزوجِ المذكورِ المكرر بينة، وقد انضم إليها نكولُها الجارى مجرى إقرارها عند قوم، ومجرى بينة المدعين عند آخرين، وهذا مِن أقوى البينات، ويدل عليه أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: "البينةُ وإلاَّ حَدٌّ فى ظهرك"، ولم يُبطل اللهُ سبحانه هذا، وإنما نقله عند عجزه عن بينة منفصلة تُسقط الحد عنه يعجز عن إقامتها، إلى بينة يتمكَّن مِن إقامته، ولما كانت دونها في الرتبة اعتبر لها مقو منفصل وهو نكول المرأة عن دفعها ومعارضتها مع قدرتها وتمكنها، قالوا: وأما قولُكم: إن موجب لعانه إسقاط الحد عن نفسه لا إيجابُ الحدِّ عليها إلى آخره، فإن أردتُم أن من موجبه إسقاطُ الحد عن نفسه فحق، وإن أردتُم أن سقوطَ الحدِّ عنه يسقط جميع موجبه، ولا موجب له سواه، فباطل قطعاً، فإن وقوع الفرقة، أو وجوب التفريق والتحريم المؤبَّد، أو المؤقت، ونفى الولد المصرح بنفيه، أو المكتفى فى نفيه باللعان، ووجوب العذاب على الزوجة إما عذاب الحد، أو عذاب الحبس، كُلٌّ ذلك من موجب اللعان، فلا يصح أنه يقال: إنما يوجب سقوط حد القذف عن الزوج فقط.

قالوا: وأما قولُكم: إن الصحابة جعلُوا حدَّ الزنى بأحد ثلاثة أشياء: إما البينة، أو الاعترافِ، أو الحَبَلِ، واللعانُ ليس منها، فجوابُه: أن منازعيكم يقولُون: إن كان إيجاب الحدِّ عليها باللعان خلافاً لأقوال هؤلاء الصحابة، فإن إسقاطَ الحدِّ بالحبل أدخلُ فى خلافهم وأظهر، فما الذى سوَّغ لكم إسقاطَ حدٍّ أوجبوه بالحبل، وصريح مخالفتهم، وحرَّم على منازعيكم مخالفتَهم فى إيجاب الحدِّ بغير هذه الثلاثة، مع أنهم أعذرُ منكم، لثلاثة أوجه.
أحدُها: أنهم لم يُخالفوا صريحَ قولهم، وإنما هو مخالفة لمفهومٍ سكتُوا عنه، فهو مخالفة لسكوتهم، وأنتم خالفتهم صريح أقوالهم.
الثانى: أن غاية ما خالفوه مفهومٌ قد خالفه صريحٌ عن جماعة منهم بإيجاب الحدِّ، فلم يُخالفوا ما أجمعَ عليه الصحابة، وأنتم خالفتُم منطوقاً، لا يُعْلَمُ لهم فيه مخالف البتة ها هنا، وهو إيجابُ الحدِّ بالحبل، فلا يُحفظ عن صحابى قطُّ مخالفة عمر وعلى رضى الله عنهما فى إيجاب الحد به.
الثالث: أنهم خالفوا هذا المفهومَ لمنطوق تلك الأدِلَّةِ التى تقدَّمت، ولمفهوم قوله :{ويَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8]، ولا ريْبَ أن هذا المفهومَ أقوى مِن مفهوم سقوط الحد بقولهم: إذا كانت البينةُ أو الحبلُ أو الاعترافُ، فهم تركوا مفهوماً لِما هو أقوى منه وأولى، هذا لو كانوا قد خالفوا الصحابة، فكيف وقولُهم موافق لأقوال الصحابة؟ فإنَّ اللعانَ مع نكولِ المرأة مِن أقوى البينات كما تقرر.
قالوا: وأما قولُكم: لَمْ يتحقق زِناها إلى آخره، فجوابُه إن أردتم بالتحقيق اليقينَ المقطوعَ به كالمحرمات، فهذا لا يُشترط فى إقامة الحد، ولو كان هذا شرطاً، لما أقيمَ الحدُّ بشهادةِ أربعة، إذ شهادتُهم لا تجعلُ الزِّنى محققاً

بهذا الاعتبار. وإن أردتُم بعدم التحقق أنه مشكوكٌ فيه على السواء، بحيث لا يترجّح ثبوته، فباطل قطعاً، وإلا لما وجب عليها العذابُ المدرَأُ بلعانها، ولا ريبَ أن التحقُّقَ المستفادَ مِن لعانه المؤكد المكرَّْر مع إعراضها عن معارضة ممكنة منه أقوى من التحقق بأربع شهود، ولعل لهم غرضاً فى قذفها وهتكِها وإفسادها على زوجها، والزوجُ لا غرض له فى ذلك منها.
وقولكم: إنه لو تحقق، فإما أن يتحقق بلعانِ الزوج، أو بنكولها، أو بهما، فجوابُه: أنه تحقَّق بهما، ولا يلزم مِن عدم استقلال أحدِ الأمرين بالحدِّ وضعفه عنه عدمُ استقلالهما معاً، إذا هذا شأنُ كُلِّ مفرد لم يستقِلَّ بالحكم بنفسه، ويستقل به مع غيرِهِ لقوته به.
وأما قولُكم: عجباً للشافعىِّ كيف لا يقضى بالنكول فى درهم، ويقضى به فى إقامة حدٍ بَالَغَ الشّرعُ فى ستره، واعتبر له أكملَ بيِّنة، فهذا موضع لا يُنتصر فيه للشافعى ولا لغيره من الأئمة، وليس لِهذا وُضعَ كِتَابُنَا هذا، ولا قصدنا به نُصرَةَ أحدٍ من العالمين، وإنما قصدنا به مجرَّد هدى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سيرته وأقضيته وأحكامه، وما تضمَّن سوى ذلك، فتبع مقصودٌ لغيره، فهب أن من لم يقض بالنكول تناقض، فماذ يَضُرُّ ذلك هدى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عنه عَارُهَا.

على أن الشَّافِعىَّ رَحمَه الله تعالى لم يتناقض، فإنه فرَّق بين نكولٍ مجرد لا قولة له، وبين نُكولٍ قد قارنَه التعان مؤكَّدٌ مكرَّرٌ أُقيم فى حق الزوج مقامَ البينة مع شهادة الحال بكراهة الزوج، لزنى امرأته، وفضيحتها، وخراب بيتها، وإقامة نفسه وحِبه فى ذلك المقام العظيم بمشهد المسلمين يدعو على نفسه باللعنة إن كان كاذباً بعد حلفه بالله جَهْدَ أيمانه أربعَ مرات إنه لمن الصادقين، والشافعى رحمه الله إنما حكم بنكول قد قارنه ما هذا شأنُه، فمن أين يلزمه أن يحكم بنكول مجرد؟
قالوا: وأما قولُكم: إنها أقرَّت بالزنى ثم رجعت، لسقط عنها الحدُّ، فكيف يجِبُ بمجرَّدِ امتناعِها من اليمين؟ فجوابه: ما تقرر آنفاً.
قالوا: وأما قولُكم: إنَّ العذاب المُدْرَأَ عنها بلعانها هو عذابُ الحبس أو غيره، فجوابُه: أن العذابَ المذكورَ، إما عذابُ الدنيا، أو عذابُ الآخرة، وحملُ الآية على عذاب الآخرة باطل قطعاً، فإن لِعانها لا يدرؤه إذا وجب عليها، وإنما هو عذابُ الدنيا وهو الحدُّ قطعاً فإنه عذابُ المحدود، وهو فِداء له من عذابِ الآخرة، ولهذا شرعه سبحانه طُهرةً وفدية من ذلك العذاب، كيف وقد صرَّح به فى أول السورة بقوله: {وَليَشْهَدْ عَذَابَهُما طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، ثم أعاده بعينه بقوله: {ويَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ} [النور: 8] ، فهذا هو العذابُ المشهودُ مكَّنها مِن دفعه بلعانها، فأين هنا عذابُ غيره حتَّي تُفَسَّرَ الآيةُ به؟ وإذا تبيَّن هذا، فهذا هو القولُ الصحيح الذى لا نعتقِدُ سواه، ولا نرتضي إلا إياه، وبالله التوفيق.
فإن قيل: فلو نكل الزوج عن اللعان بعد قذفه، فما حكمُ نكولِهِ؟ قلنا: يُحَدُّ حدَّ القذفِ عند جمهور العلماءِ مِن السلف والخلف، وهو قولُ

الشافعى ومالك وأحمد وأصحابهم، وخالف فى ذلك أبو حنيفة وقال: يُحبس حتى يُلاعِنَ، أو تُقِرَّ الزوجة،. وهذا الخلاف مبنى على أن موجب قذفِ الزوج لامرأته هَل هو الحد، كقذف الأجنبى، وله إسقاطه باللعان، أو موجبه اللعان نفسه؟ فالأول: قول الجمهور. والثانى: قول أبو حنيفة، واحتجُّوا عليه بعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، وبقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهلال بن أمية: "البَيِّنَةُ أَوْحَدٌّ فى ظَهْرِكَ"، وبقوله له: "عَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخرَةَ "، وهذا قاله لِهلال بن أمية قبل شروعه فى اللعان. فلو لم يجب الحدُّ بقذفه، لم يكن لهذا معنى، وبأنه قَذف حرة عفيفة يجرى بينَه وبينها القود، فَحُدَّ بقذفها كالأجنبى، وبأنه لو لاعنها، ثم أكذَبَ نفسه بعد لعنها، لوجب عليه الحدُّ، فدل على أن قذفه سببٌ لوجوب الحد عليه، وله إسقاطُه باللعان، إذ لو لم يكن سبباً لما وجب بإكذابه نفسه بعد اللعان، وأبو حنيفة يقول: قذفه لها دعوى تُوجب أحد أمرين، إما لعانه، وإما إقرارها، فإذا لم يُلاعن، حُبِسَ حتى يلاعن، إلا أن تُقِرَّ فيزول موجبُ الدعوى، وهذا بخلاف قذف الأجنبى، فإنه لا حقّ له عند المقذوفة، فكانَ قاذفاً محضاً، والجمهور يقولون: بل قذفُه جناية منه على عرضها، فكان موجبهاً الحدُّ كقذف الأجنبى، ولما كان فيها شائبةُ الدعوى عليها بإتلافها لحقه وخيانتها فيه، ملك إسقاطَ ما يُوجبه القذفُ مِن الحدِّ بلعانه، فإذا لم يُلاعِنْ مع قدرته على اللعان، وتمكنه منه، عمل مقتضى القذِف عملَه، واستقل بإيجاب الحدِّ، إذ لا معارض له، وباللهِ التوفيق

فصل
ومنها: أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما كان يقضى بالوحي، وبما أراه اللهُ، لا بما رآه هو، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَقْضِ بين المتلاعِنَيْن حتَّى جاءه الوحىُ، ونزل القرآن، فقال لِعويمر حينئذ: "قد نزل فيك وفى صاحبتك، فاذهب فأْتِ بها"، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ يَسْأَلُنى الله عَزَّ وَجَلَّ عَنْ سُنَّةٍ أَحْدَثْتُهَا فِيكُم لَمْ أُومَرْ بِهَا " وهذا فى الأقضية، والأحكام، والسنن الكلية، وأما الأمور الجزئية التى لا تَرْجِعُ إلى أحكام، كالنزول فى منزل معيَّن، وتأمير رجل معيَّن، ونحو ذلك مما هو متعلق بالمشاورةِ المأمورِ بها بقوله: {وشَاوِرْهُم فى الأَمْرِ} [آل عمران: 159] فتلك للرأى فيها مدخل، ومن هذا قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى شأن تلقيح النخل: "إِنَّمَا هُوَ رَأْىٌ رَأَيْتُه ". فهذا القِسم شىء، والأحكامُ والسننُ الكلية شىء آخر.
فصل
ومنها: أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره بأن يأتىَ بها، فتلاعنا بحضرته، فكان فى هذا بيانُ أن اللعان إنما يكونُ بحضرةِ الإمام أو نائبة، وأنه ليس لآحادِ الرعية أن يُلاعِنَ بينهما، كما أنه ليس له إقامة الحد، بل هو للإمام أو نائبه.

فصل
ومنها: أنُه يسن التلاعن بمحضر جماعةٍ من الناس يشهدُونه، فإن ابن عباس، وابن عمر، وسهل بن سعد، حضروه مع حداثة أسنانهم، فدلَّ ذلك على أنه حضره جمع كثير، فإن الصبيان إنما يحضرون مثلَ هذا الأمر تبعاً للرجال. قال سهل ابنُ سعد: فتلاعنا وأنا مع الناس عند النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وحكمة هذا والله أعلم، أن اللعان بنى على التغليظ مبالغةً فى الردع والزجر، وفعلُه فى الجماعة أبلغُ فى ذلك.
فصل
ومنها: أنهما يتلاعنان قياماً، وفى قصة هلال بن أمية أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: "قم فاشهد أربع شهادات بالله".
وفى "الصحيحين": فى قصة المرأة، ثم قامت فشهدت، ولأنه إذا قام شاهده الحاضِرُون، فكان أبلغَ فى شهرته، وأوقعَ فى النفوس، وفيه سِر آخر، وهو أن الدعوة التى تُطلب إصابتُها إذا صادفت المدعوَّ عليه قائماً نفذت فيه، ولهذا لما دعا خُبيبٌ على المشركين حين صلبوه، أخذ أبو سفيان معاوية فأضجعَه، وكانوا يرون أن الرجل إذا لطىء بالأرض، زلَّت عنه الدعوة.

فصل
ومنها: البداءة بالرجل فى اللعان، كما بدأ اللهُ عز وجل ورسولُه به، فلو بدأت هى، لم يُعتدَّ بلعانها عند الجمهور، واعتدَّ به أبو حنيفة. وقد بدأ الله سبحانه فى الحدِّ بذكر المرأة فقال: {الزَّانِيَةُ والزَّانى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، وفى اللعان بذكر الزوج، وهذا فى غاية المناسبة، لأن الزِنى من المرأة أقبحُ منه بالرجل، لأنها تزيد على هتكِ حقِّ الله إفسادَ فراشِ بعلها، وتعليقَ نسبٍ من غيره عليه، وفضيحةَ أهلها وأقاربها والجناية على محض حق الزوج وخيانته فيه وإسقاط حرمته عند الناس، وتعييره بإمساك البغى، وغير ذلك من مفاسد زناها، فكانت البداءة بها فى الحدّث أهمَّ، وأما اللعانُ: فالزوجُ هو الذى قذفها وعرضها للِّعان، وهتك عرضها، ورماها بالعظيمة، وفضحها عند قومها وأهلها، ولهذا يجب عليه الحدُّ إذا لم يُلاعن، فكانت البُداءة به فى اللعان أولى من البداءة بها.
فصل
ومنها: وعظُ كلِّ واحد من المتلاعنين عند إرادة الشروع فى اللعان، فيُوعظُ ويُذكَّر، ويقال له: عذاب الدنيا أهونُ مِن عذاب الآخرة، فإذا كان عند الخامسة، أُعِيدَ ذلك عليهما، كما صحت السنة بهذا وهذا.

فصل
ومنها: أنه لا يُقبل من الرجل أقلُّ من خمس مرات، ولا من المرأة، ولا يُقبل منه إبدالُ اللعنة بالغضب والإبعاد والسُّخط، ولا منها إبدالُ الغضب باللعنة والإبعاد والسخط، بل يأتى كُلٌّ منهما بما قسم الله له من ذلك شرعاً وقدراً، وهذا أصحُّ القولين فى مذهب أحمد ومالك وغيرهما.
ومنها: أنه لا يفتقِرُ أن يزيد على الألفاظ المذكورة فى القرآن والسنة شيئاً، بل لا يُستحب ذلك، فلا يحتاج أن يقول: أشهدُ بالله الذى لا إله إلا هُو عالم الغيب والشهادة الذى يعلم من السر ما يعلم من العلانية، ونحو ذلك، بل يكفيه أن يقول: أشهد باللهِ إنى لمن الصادقين، وهى تقول: أشهد بالله إنَّه لمن الكاذبين، ولا يحتاجُ أن يقول: فيما رميتها به من الزنى، ولا أن تقول هى: إنه لمن الكاذبين فيما رمانى به من الزنى، ولا يُشترط أن يقول إذا ادَّعى الرؤية: رأيتُها تزنى كالمِروَدِ فى المُكْحُلَةِ، ولا أصلَ لذلك فى كتاب الله، ولا سنة رسوله، فإن الله سبحانه بعلمه وحكمته كفانا بما شرعه لنا وأمرنا به عن تكلُّف زيادة عليه.
قال صاحب "الإفصاح" وهو يَحْيَى بن محمد بن هبيرة فى "إفصاحه": مِن الفقهاء من اشترط أن يزاد بعد قوله من الصادقين: فيما رميتها به من الزنى، واشترط فى نفيها عن نفسها أن تقول: فيما رمانى به من الزنى. قال: ولا أراه يحتاج إليه، لأن الله تعالى أنزل ذلك وبينه، ولم يذكر هذا الاشتراط.
وظاهر كلام أحمد، أنه لا يشترط ذكر الزنى فى اللعان، فإن إسحاق بن منصور قال: قلت لأحمد: كيف يُلاعِنُ؟ قال: على ما فى كتاب الله يقول أربعَ مراتٍ: أشهد بالله إنى فيما رميتُها به لمن الصادقين، ثم يقف

عند الخامسة فيقول: لعنةُ اللهِ عليه إن كان من الكاذبين، والمرأة مثلُ ذلك.
ففى هذا النص أنه لا يُشترط أن يقول: من الزنى، ولا تقولُه هى، ولا يُشترط أن يقولَ عند الخامسة: فيما رميتُها به، وتقول هى: فيما رمانى به، والذين اشترطوا ذلك حجتهم أن قالوا: ربما نوى: إنى لمن الصادقين فى شهادة التوحيد أو غيره مِن الخبر الصادق، ونوت: إنه لمن الكاذبين فى شأن آخر، فإذا ذكرا ما رُميت به من الزنى، انتفى هذا التأويل.
قال الآخرون: هب أنهما نويا ذلك، فإنهما لا ينتفعان بنيتهما، فإن الظالم لا ينفعُه تأويلُه، ويمينه على نية خصمه، ويمينُه بما أمر الله به إذا كان مجاهراً فيها بالباطل، والكذب موجبه عليه اللعنة أو الغضب، نوى ما ذكرتم، أو لم ينوه، فإنه لا يموّه على من يعلم السر وأخفى بمثل هذا.
فصل
ومنها: أن الحمل ينتفى بلعانه، ولا يحتاجُ أن يقول: وما هذا الحملُ منى، ولا يحتاج أن يقول: وقد استبرأتُها، هذا قول أبى بكر عبد العزيز من أصحاب أحمد، وقولُ بعضِ أصحاب مالك، وأهل الظاهر، وقال الشافعىُّ: يحتاجُ إلى ذِكر الولد، ولا تحتاجُ المرأة إلى ذِكره، وقال الخِرقى وغيرُه: يحتاجان إلى ذِكره، وقال القاضى: يشترط أن يقول: هذا الولد من زنى وليس هوَ مِنِّى. وهو قولُ الشافعى، وقول أبى بكر أصح الأقوال، وعليه تدل السنة الثابتة.
فإن قيل: فقد روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضى الله عنهما، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاعن بَيْنَ رجل وامرأته، وانتفى من ولدها، ففرَّق بينهما،

وألحقَ الولدَ بالمرأةِ.
وفى حديث سهل بن سعد: وكانت حاملاً فأنكر حملَها.
وقد حكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بأن الولد للفراش" وهذه كانت فِراشاً له حال كونها حاملاً، فالولُد له، فلا ينتفى عنه إلا بنفيه.
قيل: هذا موضعُ تفصيل لا بُدَّ منه، وهو أن الحملَ إن كان سابقاً على ما رماها به، وعلم أنها زنت وهى حامل منه، فالولد له قطعاً، ولا ينتفى عنه بلعانه، ولا يَحِلُّ له أن ينفيَه عنه فى اللعان، فإنها لما علقت به، كانت فراشاً له، وكان الحملُ لاحقاً به، فزناها لا يُزيل حكم لحوقه به، وإن لم يعلم حملَها حالَ زناها الذى قد قذفها به، فهذا ينظر فيه، فإن جاءت به لأقلَّ مِن ستة أشهر من الزنى الذى رماها به، فالولُد له، ولا ينتفى عنه بلعانه، وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر من الزنى الذى رماها به، نظر، فإما أن يكون استبرأها قبل زناها، أو لم يستبرئها، فإن كان استبرأها، انتفى الولد عنه بمجرد اللعان، سواء نفاه، أو لم ينفه، ولا بُدَّ من ذِكره عند من يشترط ذِكره، وإن لم يستبرئها، فها هنا أمكن أن يكون الولُد منه، وأن يكون من الزانى، فإن نفاه فى اللعان، انتفى، وإلا لحق به، لأنه أمكن كونُه منه ولم ينفه.
فإن قيل: فالنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حكم بعدَ اللعان، ونفى الولد بأنه إن جاء

يُشْبِهُ الزوجَ صاحبَ الفراش فهو له، وإن جاء يُشبه الذى رميت به، فهو له، فما قولُكم فى مثل هذه الواقعة إذا لاعن امرأته وانتفى من ولدها، ثم جاء الولدُ يُشبه، هل تُلِحقُونه به بالشبه عملاً بالقافة، أو تحكمون بانقطاع نسبه منه عملاً بموجب لعانه؟ قيل: هذا مجال ضَنْكٌ، وموضع ضيِّق تجاذب أعِنَّتَه اللعانُ المقتضى لانقطاع النسب، وانتفاء الولد، وأنه يُدعى لأمه ولا يدعى لأب، والشبه الدال على ثبوت نسبه من الزواج، وأنه ابنُه، مع شهادة النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنها إن جاءت به على شبهه، فالولدُ له، وأنه كذب عليها، فهذا مضيق لا يتخَلَّصُ منه إلا المستبصرُ البصير بأدلة الشرع وأسراره، والخبيرُ بجمعه وفرقه الذي سافرت به هِمَّتُه إلى مطلع الأحكام، والمشكاة التى منها ظهر الحلالُ والحرامُ، والذى يظهر فى هذا، والله المستعان وعليه التكلان، أن حكم اللعان قطع حكم الشبه، وصار معه بمنزلة أقوى الدليلين مع أضعفهما، فلا عبرة للشبه بعد مضى حكم اللعان فى تغيير أحكامه، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُخِبرْ عن شأن الولد وشبهه ليغير بذلك حكم اللعان، وإنما أخبر عنه، ليتبين الصادقُ منهما من الكاذب الذي قد استوجبَ اللعنة والغضب، فهو إخبار عن أمر قدرى كونى يتبين به الصادقُ مِن الكاذب بعد تقرر الحكم الدينى، وأن الله سبحانه سيجعل فى الولد دليلاً على ذلك، ويدل عليه أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك بعد انتفائِه من الود، وقال: "إن جاءت به كذا وكذا، فلا أراه إلا صدق عليها، وإن جاءت به كذا وكذا، فلا أراه إلا كذب عليها"، فجاءت به على النعتِ المكروه، فعلم أنه صَدَقَ عليها، ولم يَعْرِضْ لها، ولم يفسخ حكم اللعان، فيحكم عليها بحكم الزانية مع العلم بأنه صدق عليها، فكذلك لو جاءت به على شبه الزوج يعلم أنه كَذَبَ عليها، ولا يُغير ذلك حكم اللعان، فيحد الزوج ويلحق به الولد، فليس قوله: إن جاءت به كذا وكذا فهو الهلال بن أمية إلحاقاً له به

فى الحكم، كيف وقد نفاه باللعان، وانقطع نسبُه به، كما أن قوله: وإن جاءت به كذا وكذا، فهو للذى رميت به. ليس إلحاقاً به، وجعله ابنه، وإنما هو إخبارٌ عن الواقع، وهذا كما لو حكم بأيمان القَسَامَةِ ثمَ أظهر الله سبحانه آيةً تدل على كذب الحالفين، لم ينتقض حُكْمُها بذلك، وكذا لو حكم بالبراءة مِن الدعوى بيمين، ثم أظهر الله سبحانه آية تدل على أنها يمينٌ فاجرة، لم يبطل الحكم بذلك.
فصل
ومنها: أن الرجلَ إذا قذف امرأَته بالزنى برجل بعينه، ثم لا عنها، سقطَ الحدُّ عنه لهما، ولا يحتاجُ إلى ذِكر الرجل فى لعانه، وإن لم يُلاعن، فعليه لكل واحد منهما حَدُّه، وهذا موضعٌ اختُلِفَ فيه، فقال أبو حنيفة ومالك: يُلاعن للزوجة، ويحد للأجنبى، وقال الشافعى فى أحد قوليه: يجب عليه حدٌّ واحد، ويسقط عنه الحَدُّ لهما بلعانه، وهو قولُ أحمد، والقول الثانى للشافعى: أنه يحد لِكل واحد حداً، فإن ذكر المقذوفَ فى لِعانه، سقط الحدُّ، وإن لم يذكره فعلى قولين، أحدهما: يستأنِفُ اللعان، ويذكره فيه، فإن لم يذكره، حُدَّ له. والثانى: أنه يسقط حدُّه بلعانه، كما يسقط حدُّ الزوجة.
وقال بعضُ أصحاب أحمد: القذفُ للزوجة وحدها، ولا يتعلَّق بغيرها حق المطالبة ولا الحد. وقال بعضُ أصحاب الشافعى: يجبُ الحدُّ لهما، وهل يجب حدٌّ أو حدَّانِ؟ على وجهينِ، وقال بعض أصحابه: لا يجب إلا حداً واحداً قولاً واحداً، ولا خلاف بين أصحابه

أنه إذا لاعن الأجنبى فى لعانه: أنه يسقط عنه حُكمُه، وإن لم يذكره، فعلى قولين: الصحيح عندهم: أنه لا يسقط.
والذين أسقطوا حكم قذفِ الأجنبى باللعان، حجتُّهم ظاهرة وقوية جداً، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يحد الزوج بشريك بن سحماء، وقد سماه صريحاً، وأجاب الآخرون عن هذا بجوابين: أحدهما: أن المقذوفَ كان يهودياً، ولا يجب الحدُّ بقذف الكافر. والثانى: أنه لم يُطالب به، وحدُّ القذف إنما يُقام بعد المطالبة.
وأجاب الآخرون عن هذين الجوابين، وقالوا: قولُ من قال: إنه يهودى باطل، فإنه شريك بن عبدة وأمه سحماء، وهو حليفُ الأنصار، وهو أخو البراء بن مالك لأمه. قال عبد العزيز بن بزيزة فى شرحه لأحكام عبد الحق: قد اختلفَ أهلُ العلم فى شريك بن سحماء المقذوف، فقيل: إنه كان يهودياً وهو باطل، والصحيح: أنه شريك بن عدة حليف الأنصار، وهو أخو البراء بن مالك لأمه. وأما الجواب الثانى، فهو ينقلب حُجَّةَ عليكم، لأنه لما استقرَّ عنده أنه لا حق له فى هذا القذف لم يطالِب به، ولم يتعرَّض له، وإلا كيف يسكت عن براءة عرضه، وله طريق إلى إظهارها بحدِّ قاذفة، والقوم كانُوا أشدَّ حميَّةً وأنَفَةً مِن ذلك؟ وقد تقدَّم أن اللعان أقيمَ مقام البينة للحاجة، وجعل بدلاً مِن الشهود الأربعة، ولهذا كان الصحيح أنه يُوجِبُ الحدَّ عليها إذا نكلت، فإذا كان بمنزلة الشهادة فى أحد الطرفين كان بمنزلتها فى الطرف الآخر، ومِن المحال

أن تحدَّ المرأة باللعان إذا نَكَلَت، ثم يُحد القاذف حدَّ القذف وقد أقام البينة على صدق قوله، وكذلك إن جعلناه يميناً فإنها كما درأت عنه الحدَّ مِن طرف الزوجة، درأت عنه مِن طرف المقذوف، ولا فرق، لأن به حاجة إلى قذف الزانى لما أفسد عليه مِن فراشه، وربما يحتاجٌ إلى ذِكره ليستدل بشبه الولد له على صدق قاذفه، كما استدل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صِدق هلال بشبه الولد بشريك بن سحماء، فوجب أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها، وقد قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزوج: "البينة وإلا حدّ فى ظهرك"، ولم يقل: وإلا حَدَّانِ، هذا والمرأةُ لم تُطالِبْ بحدِّ القذف، فإن المطالبة شرطٌ فى إقامة الحدِّ، لا فى وجوبه، وهذا جواب آخر عن قولهم: إن شريكاً لم يُطالب بالحدِّ، فإن المرأةَ أيضاً لم تُطالب به، وقد قال له النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البينةُ وإلا حَدُّ فى ظهرك".
فإن قيل: فما تقولون: لو قذف أجنبية بالزنى برجل سماه؟ فقال: زنى بكِ فلان، أو زنيتِ به؟ قيل: هاهنا يجب عليه حدانِ، لأنه قاذف لكل واحد منهما، ولم يأتِ بما يُسقط موجبَ قذفه، فوجبَ عليه حكمه، إذ ليس هنا بينة بالنسبة إلى أحدهما، ولا ما يقومُ مقامَها.
فصل
ومنها: أنه إذا لاعنها وهى حامل، وانتفى مِن حملها، انتفى عنه، ولم يَحْتَجْ إلى أن يلاعن بعد وضعه كما دلت عليه السنةُ الصحيحةُ الصريحةُ، وهذا موضع اختلف فيه. فقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يُلاعن لِنفيه حتى تَضَعَ لاحتمال أن يكون رِيحاً فَتَنْفَشَّ، ولا يكون لِلعان حينئذ معنى، وهذا

هو الذى ذكره الخِرقى فى "مختصره"، فقال: وإن نفى الحمل في التعانه لم يَنْتَفِ عنه حتى ينفِيَه عند وضعها له ويُلاعن، وتبعه الأصحابُ على ذلك، وخالفهم أبو محمد المقدسى كما يأتى كلامُه. وقال جمهورُ أهل العلم: له أن يُلاعِنَ فى حال الحمل اعتماداً على قصة هلال بن أمية، فإنها صريحةٌ صحيحه فى اللعان حال الحمل، ونفى الولدِ فى تلك الحال، وقد قال النبى: "إن جاءت به على صِفَةِ كذا وكَذَا، فلا أراه إلا قد صدق عليها" الحديثَ. قال الشيخ فى "المغنى": وقال مالك، والشافعى، وجماعة من أهل الحجاز: يَصِحُّ نفى الحمل، وينتفى عنه، محتجين بحديثِ هلال، وأنه نفى حملها، فنفاه عنه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وألحقه بالأمِّ، ولا خَفَاءَ أنه كان حملاً، ولهذا قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انظروها، فإن جَاءَتْ به كذا وكذا"، قال: ولأن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه، ولهذا تثبت للحامل أحكامٌ تُخالف فيها الحائلَ من النفقة والفِطر فى الصيام، وتركِ إقامة الحدِّ عليها، وتأخيرِ القِصاص عنها، وغيرِ ذلك مما يطولُ ذِكُره، ويَصِحُّ استلحاقُ الحمل، فكان كالولد بعد وضعه قال: وهذا القولُ هو الصحيح، لموافقته ظواهر الأحاديث، وما خالف الحديثَ لا يُعبأ به كائناً ما كان. وقال أبو بكر: ينتفى الولد يزوالِ الفراش، ولا يحتاجُ إلى ذِكره فى اللعان احتجاجاً بظاهر الأحاديث، حيثَ لم ينقل نفىُ الحمل، ولا تعرض لنفيه.
وأما مذهب أبى حنيفة رحمه الله، فإنه لا يَصِحُّ نفىُ الحمل واللعان عليه، فإن لاعنها حاملاً، ثم أتت بالولد، لزمه عنده، ولم يتمكن من نفيه أصلاً، لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين، وهذه قد بانت بلعانها فى حال حملها.
قال المنازعون له: هذا فيه إلزامُه ولداً ليس منه، وسدُّ باب الانتفاء

مِن أولاد الزنى، واللهُ سبحانه قد جعل له إلى ذلك طريقاً، فلا يجوز سَدُّها، قالوا: وإنما تعتبر الزوجية فى الحال التى أضاف الزنى إليها فيها، لأن الولد الذى تأتى به يلحقُه، إذا لم ينفه، فيحتاج إلى نفيه، وهذِهِ كانت زوجتَه فى تلك الحال، فملك نفىَ ولدها. وقال أبو يوسف. ومحمد: له أن ينفىَ الحمل بين الولادة إلى تمامِ أربعينَ ليلة منها. وقال عبد الملك بن الماجشُون: لا يُلاعن لنفى الحمل إلا أن ينفيَهُ ثانية بعد الولادة. وقال الشافعىُّ: إذا عَلِمَ بالحمل فأمكنه الحاكم مِن اللعان، فلم يلاعن، لم يكن له أن ينفيَهُ بعدُ.
فإن قيل: فما تقولون: لو استحلق الحملَ، وقذفها بالزنى، فقال: هذا الولدُ منى وقد زنت، ما حُكمُ هذه المسألة؟ قيل: قد اختلف العلماء فى هذه المسألة على ثلاث أقوال:
أحدها: أنه يُحَدُّ ويُلحق به الولدُ، ولا يُمكَّن من اللعان.
والثانى: أنه يُلاعن، وينتفى الولد.
والثالث: أنه يُلاعن للقذف، ويلحقه الولدُ، والثلاثة روايات عن مالِك، والمنصوص عن أحمد: أنه لا يَصِحُّ استلحاقُ الولد كما لا يصح نفيه،.قال أبو محمد: وإن استلحق الحمل، فمن قال: لا يَصِحُّ نفيه، قال: لا يصح استلحاقُه، وهو المنصوصُ عن أحمد. ومن أجاز نفيه، قال: يَصِحُّ استلحقاقُه، وهو مذهبُ الشافعى، لأنه محكومٌ بوجوده بدليل وجوب النفقة ووقف الميراث، فصح الإقرار به كالمولود، وإذا استلحقه، لم يملك نفيَه بعد ذلك، كما لو استلحقه بعد الوضع. ومن قال: لا يَصِحُّ استلحاقُه، قال: لو صح استلحاقُه، للزمه بترك نفيه

كالمولود، ولا يلزمُه ذلك بالإجماع، وليس لِلشَّبَه أثرٌ فى الإلحاق، بدليل حديثِ المُلاعنة، وذلك مختص بما بعدَ الوضع، فاختص صحة الإلحاق به، فعلى هذا لو استلحقه، ثم نفاه بعد وضعه كان له ذلك، فأما إن سكت عنه، فلم ينفه، ولم يستلحقه، لم يلزمه عند أحد علمنا قولَه، لأن تركه محتمل، لأنه لا يتحقَّقُ وجودُه إلا أن يُلاعنها، فإن أبا حنيفة ألزمه الولَد على ما أسلفناه.
فصل
وقولُ ابن عباس: ففرَّق رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما، وقضي ألاَّ يُدعى ولدها لأب، ولا تُرمى، ومن رماها، أو رمى ولدها، فعليه الحدُّ، وقضى أن لا بيتَ لها عليه ولا قوت، ومن أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها.
وقولُ سهل: فكان ابنُها يُدعى إلى أمه، ثم جرت السنةُ أنه يرثها وترِث منه ما فرض الله لها.
وقوله: مضت السنة فى المتلاعنين أن يُفرَّقَ بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً.
وقال الزهرى، عن سهل بن سعد: فرَّق رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما، وقال: لا يجتمعان أبداً.
وقول الزوج: يا رسولَ الله، مالى؟ قال: "لا مال لك، إن كُنْتَ صَدَقْتَ عليها، فهو بما استحللتَ مِن فرجها، وإن كنتَ كذبتَ عليها، فهو أبعدُ لك منها".
فتضمنت هذه الجملةُ عشرةَ أحكام:

الحكم الأول: التفريقُ بين المتلاعنين، وفى ذلك خمسة مذاهب.
أحدها: أن الفرقةَ تحصلُ بمجرد القذفِ، هذا قولُ أبى عبيد، والجمهورُ خالفوه فى ذلك، ثم اختلفوا.
فقال جابر بن زيد، وعثمان البَتِّى، ومحمد بن أبى صُفرة، وطائفة من فُقهاء البصرة: لا يقع باللعان فرقةٌ البتة، وقال ابن أبى صفرة: اللعانُ لا يَقْطَعُ العِصمة، واحتجوا بأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُنكِر عليه الطلاقَ بعد اللعانِ، بل هو أنشأ طلاقَها، ونزَّه نفسه أن يُمْسِكَ من قد اعترف بأنها زنت، أو أن يقومَ عليه دليل كذب بإمساكها، فجعل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعلَه سنة، ونازع هؤلاء جمهور العلماء، وقالوا: اللعانُ يُوجِبُ الفرقة، ثم اختلفوا على ثلاثة مذاهب.
أحدها: أنها تقع بمجرد لِعان الزوج وحدَه، وإن لم تلتعِن المرأة، وهذا القولُ مما تفرَّد به الشافعى، واحتج له بأنها فُرقة حاصلة بالقول، فحصلت بقول الزوج وحدَه كالطلاق.
المذهب الثانى: أنها لا تحصلُ إلا بلعانهما جميعاً، فإذا تَمَّ لِعانهما، وقعت الفرقةُ، ولا يعتبر تفريقُ الحاكم، وهذا مذهبُ أحمد فى إحدى الروايتين عنه اختارها أبو بكر، وقولُ مالك وأهلِ الظاهر، واحتج لهذا القول بأن الشرعَ إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين، ولا يكونان متلاعنين بلعان الزوج وحده، وإنما فرَّق النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما بعد تمامِ اللعان منهما، فالقولُ بوقوع الفرقِة قبلَه مخالفٌ لمدلولِ السنة وفعل النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واحتجُّوا بأن لفظ اللعان لا يقتضى فُرقة، فإنه إما أيمان على زناها، وإما شهادة به، وكلاهما لا يقتضى فُرقة، وإنما ورد الشرع بالتفريق بينهما بعد تمامِ لعانهما لِمصلحة ظاهرة، وهى أن اللهَ سبحانه جعل بين الزوجين مودة ورحمة، وجعل كلاً منهما سكناً للآخر، وقد زال هذا بالقذف، وأقامها مقام

الخزى والعار والفضيحة، فإنه إن كان كاذباً فقد فضحها وبهتها، ورماها بالداء العُضال، ونكَّسَ رأسها ورؤوس قومها، وهتكها على رؤوس الأشهاد. وإن كانت كاذبة، فقد أفسدت فراشه، وعرَّضته للفضيحة والخزى والعار بكونه زوجَ بغى، وتعليق ولد غيره عليه، فلا يحصلُ بعد هذا بينهما مِن المودة والرحمة والسكن ما هو مطلوبٌ بالنكاح، فكان مِن محاسن شريعة الإسلام التفريقُ بينهما، والتحريمُ المؤبد على ما سنذكره، ولا يترتب هذا على بعض اللعان كما لا يترتَّبُ على بعض لعان الزوج. قالوا: ولأنه فسخ ثبت بأيمان متحالفين، فلم يثبت بأيمان أحدهما، كالفسخ لتخالف المتبايعين عند الاختلاف.
المذهب الثالث: أن الفرقةَ لا تحصُل إلا بتمام لعانهما، وتفريق الحاكم، وهذا مذهبُ أبى حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهى ظاهر كلام الخِرقى، فإنه قال: ومتى تلاعنا، وفرق الحاكمُ بينهما، لم يجتمعا أبداً. واحتج أصحابُ هذا القولِ بقول ابن عباس فى حديثه: ففرَّق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما. وهذا يقتضى أن الفُرقة لم تتَحصُلْ قبله، واحتجوا بأن عويمراً قال: كذبتُ عليها يا رسول الله، إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمُرَهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا حجةٌ مِن وجهين، أحدهما: أنه يقتضى إمكان إمساكها. والثانى: وقوع الطلاق، ولو حصلت الفرقةُ باللعان وحده، لما ثبت واحدٌ مِن الأمرين، وفى حديث سهل بن سعد: أنه طلقها ثلاثاً، فأنفذه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رواه أبو داود.
قال الموقعون للفُرقة بتمام اللعان بدون تفريق الحاكم: اللعان معنىً

يقتضى التحريمَ المؤبَّد، كما سنذكره، فلم يقف على تفريق الحاكم كالرضاع، قالوا: ولأن الفُرقة لو وقعت على تفريقِ الحاكم، لساغ تركُ التفريق إذا كرهه الزوجان، كالتفريق بالعيب والإعسار، قالوا: وقولُه: فرَّق النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يحتمل أموراً ثلاثة. أحدها: إنشاء الفرقة. والثانى: الإعلامُ بها. والثالث: إلزامُه بموجبها من الفرقة الحسية.
وأما قوله: كذبت عليها إن أمسكتها، فهذا لا يدل على أن إمساكها بعد اللعان مأذون فيه شرعاً، بل هو بادر إلى فراقها، وإن كان الأمر صائراً إلى ما بادر إليه، وأما طلاقُه ثلاثةً، فما زاد الفُرقة الواقعة إلا تأكيداً، فإنها حرمت عليه تحريماً مؤبَّداً، فالطلاقُ تأكيد لهذا التحريم، وكأنه قال: لا تَحِلُّ لى بعد هذا وأما إنفاذُ الطلاقِ عليه، فتقريرٌ لموجبه من التحريم، فإنها إذا لم تَحِل له باللعان أبداً، كان الطلاقُ الثلاث تأكيداً للتحريم الواقع باللعان، فهذا معنى إنفاذه، فلما لم ينكره عليه، وأَقرَّه على التكلم به وعلى موجبه، جعل هذا إنفاذاً من النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسهل لم يحكِ لفظَ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: وقع طلاقُك، وإنما شاهد القِصَّة، وعدمَ إنكار النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للطلاق، فظن ذلك تنفيذاً، وهو صحيح بما ذكرنا من الاعتبار، والله أعلم.
فصل
الحكم الثانى: أن فرقة اللعان فسخ، وليست بطلاقٍ، وإلى هذا ذهب الشافعىُّ وأحمد، ومن قال بقولهما، واحتجوا بأنها فرقةٌ تُوجب تحريماً مؤبَّداً، فكانت فسخاً كفُرقة الرضاع، واحتجوا بأن اللعان ليس صريحاً فى الطلاق، ولا نوى الزوجُ به الطلاَق، فلا يقع به الطلاقُ، قالوا:

ولو كان اللعان صريحاً فى الطلاق، أو كناية فيه، لوقع بمجرد لعان الزوج، ولم يتوقف على لِعان المرأة، قالوا: ولأنه لو كان طلاقاً، فهو طلاق من مدخول بها بغير عوض لم ينو به الثلاث، فكأن يكون رجعياً. قالوا: ولأنَّ الطلاقَ بيد الزوج، إن شاء طلقَ، وإن شاء أمسكَ، وهذا الفسخُ حاصِل بالشرع وبغير اختياره، قالوا: وإذا ثبت بالسنة وأقوالِ الصحابة، ودلالةِ القرآن، أن فرقة الخُلع ليست بطلاقٍ، بل هى فسخ مع كونها بتراضيهما، فكيف تكونُ فرقةُ اللعانِ طلاقاً؟.
فصل
الحكم الثالث: أن هذه الفُرقة توجب تحريماً مؤبداً لا يجتمعان بعدها أبداً. قال الأوزاعى: حدثنا الزبيدى، حدثنا الزهرى، عن سهل بن سعد، فذكر قصة الملاعنين، وقال: ففرق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما وقال: لا يجتمعان أبداً.
وذكر البيهقى من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عمر، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبداً،.
قال: وروينا عن على، وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم، قالا: مضت السنة فى المتلاعنين أن لا يجتمعا أبداً. قال: وروى عن عمر بن

الخطاب رضى الله عنه أنه قال: يفرق بينهما ولا يجتمعان أبداً وإلى هذا ذهب أحمد، والشافعى ومالك، والثورىُّ، وأبو عُبيد، وأبو يوسف.
وعن أحمد رواية أخرى: أنه إن أكذب نفسه، حلَّت له، وعاد فِراشه بحاله، وهى رواية شاذة شذَّ بها حنبل عنه. قال أبو بكر: لا نعلَمُ أحداً رواها غيره، وقال صاحب "المغنى": وينبغى أن تُحمل هذه الرواية على ما إذا لم يُفّرق بينهما. فأما مع تفريقِ الحاكم بينهما، فلا وجهَ لبقاء النكاح بحاله.
قلت: الروايةُ مطلقة، ولا أثر لتفريقِ الحاكم فى دوام التحريم، فإن الفُرقة الواقعة بنفس اللعان أقوى من الفُرقة الحاصلة بتفريق الحاكم، فإذا كان إكذاب نفسه مؤثراً فى تلك الفُرقة القوية، رافعاً للتحريم الناشىء منها، فلأن يُؤثِّرَ فى الفُرقة التى هى دونها، ويرفعَ تحريمها أولى.
وإنما قُلنا: إن الفرقة بنفس اللعان أقوى مِن الفرقةِ بتفريق الحاكم، لأن فُرقة اللعان تستنِدُ إلى حكم الله ورسوله، وسواءٌ رضى الحاكمُ والمتلاعِنانِ التفريقَ أو أَبَوْهُ، فهى فُرقة من الشارع بغير رِضى أحدٍ منهم ولا اختياره، بخلافِ فُرقة الحاكم فإنه إنما يفرق باختياره.
وأيضاً فإن اللعان يكون قد اقتضى بنفسه التفريق لقوته وسلطانه عليه، بخلاف ما إذا توقَّف على تفريق الحاكم، فإنه لم يقو بنفسه على اقتضاء الفرقة، ولا كان له سلطانٌ عليها، وهذه الروايةُ هى مذهبُ سعيدِ بن المسيب، قال: فإن أكذب نفسَه، فهو خاطبٌ من الخُطَّاب، ومذهبُ أبى حنيفة ومحمد، وهذا على أصله اطرد، لأن فُرقة اللعان عنده طلاق. وقال سعيدُ بن جبير: إن أكذب نفسه، رُدَّت إليه ما دامت فى العدة.
والصحيح: القولُ الأوَّلُ الذى دلت عليه السنةُ الصحيحةُ الصريحةُ،

وأقوالُ الصحابة رضى الله عنهم، وهو الذى تقتضيه حِكمةُ اللعان، ولا تقتضى سواه، فإن لعنة الله تعالى وغضَبه قد حَلَّ بأحدهما لا محالة، ولهذا قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الخامسة: "إنها الموجِبَةُ"، أى الموجبة لهذا الوعيد، ونحن لا نعلم عينَ مَنْ حلَّت به يقيناً، ففرق بينهما خشيةَ أن يكونَ هو الملعونَ الذى قد وجبت عليه لعنةُ الله وباءَ بها، فيعلُو امرأةً غيرَ ملعونه، وحِكمة الشرع تأبى هذا، كما أبت أن يَعْلُوَ الكافِرُ مسلمة والزانى عفيفةً.
فإن قيل: فهذا يوجب ألا يتزوج غيرَها لما ذكرتم بعينه؟
قيل: لا يُوجب ذلك، لأنا لم نتحقق أنه هو الملعون، وإنما تحققنا أن أحدهما كذلك، وشككنا فى عينه، فإذا اجتمعا، لزمه أحدُ الأمرين ولابد، إما هذا وإما إمساكُه ملعونةً مغضوباً عليها قد وجب عليها غضبُ الله، وباءت به، فأما إذا تزوَّجت بغيره، أو تزوَّج بغيرها، لم تتحقق هذه المفسدة فيهما.
وأيضاً فإن النفرة الحاصلة من إساءة كُلِّ واحدٍ منهما إلى صاحبه لا تزولُ أبداً، فإن الرجل إن كان صادقاً عليها، فقد أشاعَ فاحِشتها، وفضحَها على رؤوس الأشهاد، وأقامها مقام الخزى، وحقق عليها الخزى والغضب، وقطع نسب ولدها، وإن كان كاذباً، فقد أضافَ إلى ذلك بهتَها بهذه الفرية العظيمة، وإحراق قلبها بها والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الاشهاد، وأوجبت عليه لعنة الله. وإن كانت كاذبة، فقد أفسدت فراشه وخانته فى نفسها، وألزمته العارَ والفضيحة وأحوجتُه إلى هذا المقام المُخزى، فحصل لِكُلِّ واحدٍ منهما من صاحبه من النُّفرة والوحشة، وسوء الظن ما لا يكاد يلتئم معه شملُهما أبداً، فاقتضت حِكمة مَنْ شَرْعُهُ كُلُّه حِكْمَةٌ ومصلحةٌ وعَدْلٌ ورحمةٌ تحتُّم الفرقة بينهما، وقطع الصحبة المتمحِّضةِ مفسدة.

وأيضاً فإنه إذا كان كاذباً عليها، فلا ينبغى أن يُسلَّطَ على إمساكها مع ما صَنَعَ مِن القبيح إليها، وإن كان صادقاً، فلا ينبغى أن يُمسِكَهَا مع علمه بحالها، ويرضى لنفسه أن يكون زوجَ بغى.
فإن قيل: فما تقولون: لو كانت أمة ثم اشتراها، هل يَحِلُّ له وطؤها بملك اليمين؟ قلنا: لا تَحِلُّ له لأنه تحريم مؤبَّد، فحرمت على مشتريها كالرضاع، ولأن المطلِّق ثلاثاً إذا اشترى مطلقته لم تَحِلَّ له قبل زوج وإصابة، فهاهنا أولى، لأن هذا التحريمَ مؤبد، وتحريم الطلاق غير مؤبد.
فصل
الحكم الرابع: أنها لا يَسْقُطُ صداقُها بعد الدخول، فلا يَرجعُ به عليها، فإنه إن كان صادقاً، فقد استحلَّ من فرجها عوضَ الصداق، وإن كان كاذباً فأولى وأحرى.
فإن قيل: فما تقولون: لو وقع اللعانُ قبلَ الدخول، هل تحكمون عليه بنصف المهر، أو تقولون: يسقط جملة؟
قيل: فى ذلك قولانِ للعلماء، وهما روايتان عن أحمد مأخذهُما: أن الفُرقة إذا كانت بسبب من الزوجين كلعانهما أو منهما ومن أجنبى، كشرائها لزوجها قبل الدخول، فهل يسقط الصداقُ تغليباً لجانبها كما لو كانت مستقِلّضة بسبب الفُرقة أو نِصفُه تغليباً لجانبه، وأنه هو المشاركُ فى سبب الإسقاط، والسيد الذى باعه متسبب إلى إسقاطه ببيعه إياها؟ فهذا الأصل فيه قولان. وكُلُّ فُرقة جاءت مِن قبل الزوج نصَّفَتِ الصداق

كطلاقه، إلا فسخه لِعيبها، أو فواتِ شرطٍ شَرَطَه، فإنه يسقطُ كُلُّه، وإن كان هو الذى فسخ، لأن سبب الفسخ منها وهى الحاملة له عليه. ولو كانت الفرقُة بإسلامه، فهل يسقط عنه، أو تُنصفه؟ على روايتين فوجهُ إسقاطه، أنه فعل الواجب عليه، وهى الممتنعة من فعل ما يجبُ عليها، فهى المتسببة إلى إسقاط صداقها بامتناعها من الإسلام، ووجهُ التنصيفِ أن سبب الفسخ من جهته.
فإن قيل: فما تقولون فى الخلع: هل يُنصفه أو يُسقطه؟
قيل: إن قلنا: هو طلاق نَصَّفه، وإن قلنا: هو فسخ، فقال أصحابنا: فيه وجهان. أحدهما: كذلك تغليباً لجانبه. والثانى: يسقطه لأنه لم يستقل بسبب الفسخ، وعندى، أنه إن كان مع أجنبى نصفه وجهاً واحداً، وإن كان معها، ففيه وجهان.
فإن قيل: فما تقولون: لو كانت الفُرقة بشرائه لِزوجته من سيدها: هل يُسقطه أو يُنصفه؟
قيل: فيه وجهان: أحدهما: يسقطه، لأن مستحق مهرها تسبَّب إلى إسقاطه ببيعها، والثانى: ينصِّفه لأن الزوج تسبب إليه بالشراء، وكُلُّ فرقة جاءت من قبلها كردتها، وإرضاعها من يفسَخُ إرضاعُه نِكَاحَها، وفسخها لإعسارِه أو عيبه فإنه يسقط مهرُها.
فإن قيل: فقد قلتم: إن المرأة إذا فسخت لعيب فى الزوج سقط مهرها، إذ الفُرقة من جهتها، وقلتم: إن الزوجَ إذا فسخ لِعيب فى المرأة سقط أيضاً ولم تجعلوا الفسخَ من جهته فتنصفوه، كما جعلتموه لِفسخها لعيبه من جهتها، فأسقطتموه، فما الفرق؟ قيل: الفرقُ بينهما أنه إنما بذل المهر فى مقابلة بُضع سليم من العيوب، فإذا لم يتبين كذلك، وفسخ، عاد إليها كما خرج

منها، ولم يستوفه، ولا شيئاً منه، فلا يلزمه شىء من الصداق، كما أنها إذا فسخت لِعيبه لم تُسلم إليه المعقود عليه، ولا شيئاً منه، فلا تستحِقُّ عليه شيئاً من الصداق.
فصل
الحكم الخامس: أنها لا نفقةَ لها عليه ولا سكنى، كما قضى به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا موافق لحكمه فى المبتوتة التى لا رجعةَ لزوجها عليها، كما سيأتى بيانُ حكمه فى ذلك، وأنه موافقٌ لكتاب الله، لا مخالف له، بل سقوطُ النفقة والسكنى للملاعنة أولى مِن سقوطها للمبتوتة، لأن المبتوتَة له سبيلُ إلى أن ينكِحهَا فى عِدتها، وهذهِ لا سبيل له إلى نكاحها لا فى العدة ولا بعدَها، فلا وجه أصلاً لوجوب نفقتها وسُكناها، وقد انقطعت العصمةُ انقطاعاً كلياً.
فأقضيتُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوافِقُ بعضُها بعضاً، وكلها تُوافق كتابَ الله والميزانَ الذى أنزل ليقومَ الناسُ بالقسط، وهو القياسُ الصحيحُ، كما ستقر عينُك إن شاء الله تعالى بالوقوف عليه عن قريب
وقال مالك، والشافعي: لها السكنى. وأنكر القاضى إسماعيل بن إسحاق هذا القول إنكاراً شديداً.
وقوله: "من أحل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها" لا يدل مفهومه على أن كل مطلقة، ومتوفى عنها لها النفقةُ والسكنى، وإنما يدل على أن هاتين الفُرقتين قد يجبُ معهما نفقة وسكنى، وذلك إذا كانت المرأة حاملاً، فلها ذلك فى فرقة الطلاق اتفاقاً، وفى فرقة الموت ثلاثة

أقوال، أحدها: أنه لا نفقة لها ولا سكنى، كما لو كانت حائلاً، وهذا مذهبُ أبى حنيفة وأحمد فى إحدى روايتيه، والشافعى فى أحد قوله، لزوال سبب النفقة بالموت على وجه لا يُرجى عودهُ، فلم يبق إلا نفقةُ قريب، فهى فى مال الطفل إن كان له مال، وإلا فعلى من تلزمه نفقته من أقاربه.
والثانى: أن لها النفقة والسكنى فى تركته تُقدم بها على الميراث، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، لأن انقطاع العصمة بالموت لا يزيد على انقطاعها بالطلاق البائن، بل انقطاعها بالطلاق أشد، ولهذا تغسلُ المرأةُ زوجَها بعد موته عند جمهور العلماء حتى المطلقة الرجعية عند أحمد ومالك فى إحدى الروايتين عنه، فإذا وجبت النفقةُ والسُّكنى للبائن الحامل، فوجوبُها للمتوفى عنها زوجها أولى وأحرى.
والثالث: أن لها السكنى دون النفقة حاملاً كانت أو حائلاً، وهذا قولُ مالك وأحدُ قولى الشافعى إجراء لها مجرى المبتوتة فى الصحة، وليس هذا موضعَ بسطِ هذه المسائل وذكر أدلتها، والتمييز بين راجحها ومرجوحها إذ المقصود أن قوله: "من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها زوجها" إنما يدل على أن المطلقة والمتوفى عنها قد يجب لهما القوتُ والبيتُ فى الجملة، فهذا إن كان هذا الكلام مِن كلام الصحابى، والظاهر والله أعلم أنهُ مُدْرَجٌ مِن قول الزهرى.
فصل
الحكم السادس: انقطاعُ نسب الولد من جهة الأب، لأن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى ألا يدعى ولدُها لأب، وهذا هو الحقُّ، وهو قولُ الجمهور،

وهو أجلُّ فوائد اللعان، وشذ بعضُ أهل العلم، وقال: المولود للفراش لا ينفيه اللعانُ البتة، لأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى أن الولد لِلفراش، وإنما ينفى اللعانُ الحمل، فإن لم يُلاعنها حتى ولدت، لاعن لإسقاط الحد فقط، ولا ينتفى ولدُها منه، وهذا مذهبُ أبى محمد بن حزم، واحتج عليه بأن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى أن الولد لصاحب الفراش، قال: فصح أن كل مَنْ وُلِدَ على فراشه ولد، فهو ولدُه إلا حيثُ نفاه الله على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو حيث يوقن بلا شك أنه ليس ولده، ولم ينفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وهى حامل باللعان فقط، فبقى ما عدا ذلك على لحاق النسب، قال: ولذلك قلنا: إن صدقته فى أن الحمل ليس منه، فإن تصديقها له لا يُلتفت إليه لأن الله تعالى يقول: {وَلاَ تَكْسِب كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] فوجب أن إقرار الأبوين يصدُق على نفى الولد، فيكون كسباً على غيرهما، وإنما نفى اللهُ الولدَ إذا أكذبته الأمُّ، والتعنت هى والزوج فقط، فلا ينتفى فى غير هذا الموضع، انتهى كلامه.
وهذا ضد مذهبِ من يقول: إنه لا يصح اللعان على الحمل حتى تضع، كما يقول أحمد وأبو حنيفة، والصحيح: صحتُه على الحمل، وعلى الولد بعد وضعه، كما قاله مالك والشافعى، فالأقوال ثلاثة.
ولا تنافى بين هذا الحكم وبين الحكم بكون الولد للفراش بوجه ما، فإن الفراش قد زال باللعان، وإنما حكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الولدَ للفراش عند تعارض الفراش، ودعوى الزانى، فأبطل دعوى الزانى للولد وحكم به لصاحب الفراش، وهاهنا صاحبُ الفراش قد نفى الولَد عنه.
فإن قيل: فما تقولون: لو لاعن لمجرد نفى الولد مع قيام الفراش،

فقال: لم تزن، ولكن ليس هذا الولدُ ولدى؟
قيل: فى ذلك قولان للشافعى، وهما روايتان منصوصتان عن أحمد.
إحداهما: أنه لا لِعان بينهما، ويلزمه الولدُ، وهى اختيار الخرقى.
والثانية: أن له أن يُلاعِنَ لنفى الولد، فينتفى عنه بلعانه وحده، وهى اختيارُ أبى البركات ابن تيمية، وهى الصحيحة.
فإن قيل: فخالفتم حكمَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أن الولد للفراش" قلنا: معاذ الله، بل وافقنا أحكامَه حيث وقع غيرُنا فى خلاف بعضها تأويلاً، فإنه إنما حكم بالولد للفراش حيث ادعاه صاحبُ الفراش، فرجح دعواه بالفراش، وجعله له، وحكم بنفيه عن صاحب الفراش حيث نفاه عن نفسه، وقطع نسبه منه، وقضى ألاَّ يُدعى لأب، فوافقنا الحكمين، وقلنا بالأمرين، ولم نفرق تفريقاً بارداً جداً سمجاً لا أثر لَهُ فى نفى الولد حملاً ونفيه مولوداً، فإن الشريعة لا تأتى على هذا الفرق الصُّورى الذى لا معنى تحته البتة، وإنما يرتضى هذا مَنْ قَلَّ نصيبه مِن ذوق الفقه وأسرارِ الشريعةِ وحِكمِهَا ومعانِيها، والله المستعان، وبه التوفيق.
فصل
الحكم السابع: إلحاقُ الولد بأمِّه عند انقطاع نسبه مِن جهة أبيه، وهذا الإلحاق يُفيد حكماً زائداً على إلحاقه بها مع ثبوت نسبه من الأب، وإلا كان عديمَ الفائدة فإن خروجَ الولدِ منها أمر محقق، فلابد فى الإلحاق من أمر زائد عليه، وعلى ما كان حاصلاً مع ثبوتِ النسب من الأب، وقد اختُلفَ فى ذلك.

فقالت طائفة: أفادَ هذا الإلحاق قطعَ توهمِ انقطاعِ نسبِ الولد من الأم، كما انقطعَ مِن الأب، وأنه لا يُنسب إلى أمِّ، ولا إلى أبٍ، فقطع النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الوَهم وألحق بالأم، وأكَّدَ هذا بإِيجابه الحدَّ على من قذفه أو قذفَ أمه، وهذا قول الشافعى ومالك، وأبى حنيفة، وكُل من لا يرى أن أمه وعصباتها له.
وقالت طائفة ثانية: بل أفادنا هذا الإلحاق فائدةً زائدة، وهى تحويلُ النسب الذى كان إلى أبيه إلى أمه، وجعل أمَّه قائمةً مقام أبيه فى ذلك، فهى عصبتُه وعصباتُها أيضاً عصبته، فإذا مات، حازَت ميراثَهُ، وهذا قولُ ابن مسعود، ويُروى عن على، وهذا القولُ هو الصواب، لما روى أهل السنن الأربعة، من حديث واثلة بن الأسقع، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "تَحُوزُ المَرْأَةُ ثَلاثَةَ مَوَارِيثَ: عَتِيقها، ولَقِيطَها، وَوَلَدَها الَّذى لاَعَنَتْ عَلَيْهِ" ، ورواه الإمام أحمد وذهب إليه.
وروى أبو داود فى "سننه": من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه جعل مِيرَاثَ ابن المُلاَعَنَةِ لأمَّه ولِورثِتهَا مِنْ بَعْدِهَا.
وفى السنن أيضاً مرسلاً: من حديث مكحول، قال: جعلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميراثَ ابنِ المُلاَعَنَةِ لأُمِّه ولوِرثِتها مِنْ بَعْدِهَا. هذه الآثارُ موافقة لمحضِ القياس، فإن النسَب فى الأصل للأب،

فإذا انقطع مِن جهته صار للأم، كما أن الولاء فى الأصل لمعتق الأب، فإذا كان الأب رقيقاً كان لمعتق الأم. فلو أعتق الأبُ بعد هذا، انجز الولاءُ مِن موالى الأم إليه، ورجع إلى أصله، وهو نظيرُ ما إذا كذب الملاعن نفسه، واستلحق الولد، رجع النسبُ والتعصيب من الأم وعصبتها إليه. فهذا محضُ القياس، وموجبُ الأحاديث والآثار، وهو مذهبُ حَبْرِ الأمة وعالمِها عبد اللهِ بن مسعود، ومذهبُ إمامى أهل الأرض فى زمانهما، أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وعليه يَدُلُّ القرآن بألطف إِيماء وأحسنه، فإن الله سبحانه جعل عيسى مِن ذرية إبراهيم بواسطة مريم أمِّه، وهَى مِن صَميم ذرية إبراهيم، وسيأتى مزيدُ تقرير لهذا عند ذكر أقضيةِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحكامه فى الفرائض إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: فما تصنعون بقوله فى حديث سهل الذى رواه مسلم فى "صحيحه" فى قصة اللعان: وفى آخره: ثم جرت السنةُ أن يِرَثَ مِنْهَا وتَرِثَ منه ما فرضَ الله لها؟ قيل: نتلقاه بالقبول والتسليم والقول بموجبه، وإن أمكن أن يكون مدرجاً من كلام ابن شهاب وهو الظاهِرُ، فإن تعصيبَ الأم لا يُسقط ما فرض الله لها من ولدها فى كتابه، وغايتُها أن تكونَ كالأب حيث يجتمع له الفرض والتعصيب، فهى تأخذ فرضها ولابُدَّ فإن فصل شىءٌ أخذته بالتعصيب، وإلا فازت بفرضها، فنحن قائلون بالآثار كُلِّها فى هذا الباب بحمد الله وتوفيقه.

فصل
الحكمُ الثامن: "أنها لا تُرمى ولا يُرمى ولدُها، ومَنْ رماها أو رَمَى ولَدَها، فعليه الحَدُّ" وهذا لأن لِعانها نفى عنها تحقيقَ ما رُمِيَتْ به، فيُحدُّ قاذِفُها وقاذِفُ ولدها، هذا الذى دلَّت عليهِ السّنةُ الصحيحةُ الصريحةُ، وهو قولُ جمهور الأمة، وقال أبو حنيفة: إن لم يكن هناك ولد نُفِىَ نسبُه، حُدَّ قاذفها، وإن كان هناك ولد نُفى نسبه، لم يُحَدَّ قاذفها، والحديثُ إنما هو فيمن لها ولد نفاه الزوجُ، والذى أوجب له هذا الفرقَ أنه متى نَفَى نسب ولدها، فقد حكم بزناها بالنسبة إلى الولد فأثر ذلك شبهةً فى سقُوط حدِّ القذف.
فصل
الحكم التاسع: أن هذه الأحكام إنما ترتبت على لِعانهما معاً، وبعد أن تَمَّ اللعانانِ، فلا يترتب شىء منها على لِعان الزوج وحده، وقد خرَّج أبو البركات ابن تيمية على هذا المذهب انتفاء الولد بلعان الزوج وحدَه، وهو تخريجٌ صحيح، فإن لِعانه كما أفاد سقوطَ الحد وعارَ القذف عنه مِن غير اعتبار لعانها، أفاد سقوطَ النسب الفاسد عنه، وإن لم تُلاعن هى، بطريق الأولى، فإنَّ تضرره بدخول النسب الفاسِد عليه أعظمُ مِن تضرره بحدِّ القذف، وحاجته إلى نفيه عنه أشدُّ مِن حاجته إلى دفعِ الحد، فلِعانه كما استقلَّ بدفعِ الحد استقلَّ بنفى الولد، والله أعلم.

فصل
الحكم العاشِرُ: وجوبُ النفقة والسكنى للمطلقة والمتوفَّى عنها إذا كانتا حامِلَين فإنه قال: "من أجل أنهما يفترقان عن غير طلاق ولا متوفى عنها"، فأفاد ذلك أمريْنِ، أحدهما: سقوطُ نفقة البائن وسكناها إذا لم تكن حامِلاً مِن الزوج. والثانى: وجوبهُما لها، وللمتوفَّى عنها إِذا كانتا حاملَين من الزوج.
فصل
وقولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْصِروُها فَإِنْ جَاءَت بِهِ كَذا وكذا، فَهُوَ لِهِلالِ بن أُميَّة، وإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذا وكَذا فهُو لِشَرِيكِ بن سَحْمَاء"، إِرشادٌ منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اعتبارِ الحُكْم بالقَافَةِ، وأَنّ لِلشَّبَهِ مدخلاً فى معرفة النسب، وإلحاقِ الولد بمنزلة الشبه، وإنما لم يُلحق بالملاعن لو قُدِّر أن الشبهَ له، لمعارضة اللعان الذى هو أقوى مِن الشبه له كما تقدم.
فصل
وقوله فى الحديث: " لَوْ أنّ رجلاً وَجَدَ مع امرأتِهِ رجلاً يقتُلُه فتقتُلُونه به" دليل على أن من قتل رجلاً فى داره، وادَّعى أنه وجده مع امرأتِه أو حريِمه، قتل فيه ولا يُقبل قوله، إذ لو قُبِلَ قولُه، لأُهدِرَتِ الدماءُ، وكان كل من أراد قتلَ رجل أدخله دارَه، وادعى أنه وجده مع امرأته.
ولكن هاهنا مسألتان يجب التفريقُ بينهما. إحداهما: هل يسعه فيما

بينه وبين الله تعالى أن يقتُلَه، أم لا؟ والثانية: هل يُقبل قوله فى ظاهر الحكم أم لا؟ وبهذا التفريق يزولُ الإِشكالُ فيما نُقلَ عن الصحابة رضى الله عنهم فى ذلك، حتى جعلها بعض العلماء مسألَة نزاع بين الصحابة، وقالوا: مذهب عمر رضى الله عنه: أنه لا يُقتل به، ومذهب على: أنه يُقتل به، والذى غره ما رواه سعيدُ بن منصور فى "سننه"، أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه بينا هو يوماً يتغدى، إذ جاءه رجلٌ يعدو وفى يده سيف ملطخ بدم، ووراءه قوم يعدون، فجاء حتى جلسَ مع عمر، فجاء الآخرون، فقالوا يا أميرَ المؤمنين: إن هذا قتل صاحبنا، فقال له عمر رضى الله عنه: ما تقول؟ فقال له: يا أميرَ المؤمنين، إنى ضربت بين فخذى امرأتى، فإن كان بينَهما أحد فقد قتلتُه، فقال عمر ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنه ضرَب بالسَّيْفِ، فوقع فى وسط الرجل وفخذى المرأة، فأخذ عمرُ رضى الله عنه سيفَه فهزّه، ثم دفعه إليه، وقال: إن عادوا، فعد. فهذا ما نُقِل عن عُمر رضى الله عنه.
وأما على، فسُئِلَ عمن وَجَدَ مع امرأته رجلاً فقتله، فقال: إن لم يأتِ بأربعةِ شُهداء، فليُعْطَ بِرُمَّتِهِ، فظن أن هذا خلافُ المنقول عن عمر، فجعلها مسألةَ خلافٍ بينَ الصحابة، وأنتَ إِذا تأملتَ حُكميهما، لم تَجِدْ بينهما اختلافاً، فإن عمر إنما أسقط عنه القودَ لما اعترف الولىُّ بأنه كان مع امرأته، وقد قال أصحابنا واللفظ لصاحب "المغنى": فإن اعترفَ الولىُّ بذلك، فلا قِصاصَ ولا دِية، لما رُوى عن عمر، ثم ساق القِصة، وكلامه يُعطى أنه لا فرق بين أن يكون محصناً وغيرَ محصن، وكذلك حكمُ عمر فى هذا القتيل، وقولُه أيضاً: "فإن عادوا فعد" ولم يفرق بين المحصَن

وغيره، وهذا هو الصوابُ، وإن كان صاحب "المستوعب" قد قال: وإن وجد مع امرأته رجلاً ينال منها ما يُوجب الرجم، فقتله، وادّعى أنه قتله لأجل ذلك، فعليه القصاصُ فى ظاهر الحكم، إلاَّ أن يأتىَ بينِّة بدعواه، فلا يلزمه القصاصُ، قال: وفى عدد البينة روايتان، إحداهما: شاهدان، اختارها أبو بكر لأن البينة على الوجود لا على الزنى، والأخرى لا يُقبل أقلُّ مِن أربعة، والصحيح أن البينة متى قامت بذلك، أو أقرَّ به الولىُّ، سقط القصاص محصناً كان أو غيره وعليه يدل كلام على، فإنه قال فيمن وجد مع امرأته رجلاً فقتله: إن لم يأت بأربعة شهداء فليُعْطَ بِرُمَّتِهِ" وهذا لأن هذا القتل ليس بحد للزنى، ولو كان حداً لما كان بالسيف ولاعتُبِرَ له شروطُ إقامة الحد وكيفيته، وإنما هو عقوبةٌ لمن تعدَّى عليه، وهتك حريمَه، وأفسد أهلَه، وكذلك فعل الزبير رضى الله عنه لما تخلف عن الجيش ومعه جارية له، فأتاه رجلان فقالا: أعطنا شيئاً، فأعطاهما طعاماً كان معه، فقالا: خلِّ عن الجارية، فضربهما بسيفه فقطعهما بضربة واحدة وكذلك من اطَّلَعَ فى بيت قومٍ من ثُقب، أو شق فى الباب بغير إذنهم، فنظر حرمة أو عورة، فلهم خذفه وطعنه فى عينه، فإن انقلعت عينُه، فلا ضَمان عليهم. قال القاضى أبو يعلى: هذا ظاهرُ كلام أحمد أنهم يدفعونه، ولا ضمان عليهم من غير تفصيل.
وفصل ابن حامد فقال: يدفعه بالأسهل، فيبدأ بقوله: انصرف واذهب، وإلا نفعل بك كذا.
قلت: وليس فى كلام أحمد، ولا فى السنة الصحيحة ما يقتضى هذا التفصيلَ بل الأحاديث الصحيحة تدل على خلافه، فإن فى "الصحيحين" عن أنس، أن رجلاً أطلع مِن جُحر في بعض حُجر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام إليه

بمِشْقًص أو بمشَاقِص، وجعل يَخْتِلُه ليطْعُنَه، فأين الدفعُ بالأسهل وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يختِلُه، أو يختبىء له، ويختفى لِيَطْعُنَه.
وفى "الصحيحين" أيضاً: من حديث سهل بن سعد، أن رجلاً اطلع فى جُحْر فى باب النبىّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفى يد النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرَىً يَحُكُّ بِهِ رَأْسَه، فلمَّا رآهُ قال: "لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تنظُرنى لَطَعَنْتُ به فى عَيْنِك، إِنَّمَا جُعِلَ الإذْنُ مِنْ أَجْلِ البَصَر".
وفيهما أيضاً: عن أبى هُريرة رضى الله عنه، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ أَنَّ امْرءاً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ".
وفيهما أيضاً: "مَنْ اطَّلَعَ فى بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَفَقؤوا عَيْنَهُ فَلاَ دِيَةَ لَهُ وَلاَ قِصَاصَ".
وهذا اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: ليس هذا مِن بابِ دفعِ الصائل، بل مِن باب عقوبةِ المعتدى المؤذى، وعلى هذا فيجوزُ له فيما بينَه وبين الله تعالى قتلُ من اعتدى على حريمِه، سواء كان محصَناً أو غيرَ محصن، معروفاً بذلك أو غيرَ معروف، كما دل عليه كلام

الأصحاب، وفتاوى الصحابة، وقد قال الشافعى وأبو ثور: يسعُه قتلُه فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان الزانى محصناً، جعلاه من باب الحدود. وقال أحمد وإسحاق: يُهدَرُ دمُه إذا جاء بشاهدين ولم يُفصِّلا بين المحصن وغيره. واخْتلّفَ قولُ مالك في هذه المسألة، فقال ابنُ حبيب: إن كان المقتولُ محصناً، وأقام الزوجُ البينة، فلا شىء عليه، وإلا قُتِل به، وقال ابنُ القاسم: إذا قامت البينةُ فالمحصَنُ وغيرُ المحصَنِ سواء، ويُهدر دمه، واستحب ابنُ القاسم الديةَ فى غير المحصَن.
فإن قيل: فما تقولون فى الحديث المتفق على صحته، عن أبى هريرة رضى الله عنه، أن سعد بن عبادة رضى الله عنه قال: يا رسولَ الله: أرأيتَ الرجلَ يَجِدُ مع امرأته رجلاً أيقتُلُه؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا"، فقال سَعْدٌ: بَلَى والَّذِى بَعَثَكَ بالحَقِّ، فقال رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْمَعُوا إلى مَا يَقُولُ سًيِّدُكُم".
وفى اللفظ الآخر: "إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امرأتِى رَجُلاً أُمْهِلُهُ حَتَّى آتى بأَرْبَعَةِ شُهَدَاء؟ قال: "نعم" قال: والَّذى بَعَثَكَ بالحَقِّ إِنْ كُنْتُ لأُعَاجِلُهُ بالسَّيْفِ قَبْلَ ذلِكَ، قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْمَعُوا إِلى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُم إِنَّهُ لَغَيُورٌ وأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، واللهُ أَغْيَرُ مِنِّى؟".
قلنا:نتلقاه بالقبول والتسليم، والقول بموجبه، وآخِرُ الحديث دليل على أنه لو قتله لم يُقد به، لأنه قال: بلى والذى أكرمَكَ بالحق، ولو وجب عليه القصاصُ بقتله، لما أقره على هذا الحلف، ولما أثنى على غَيْرَته، ولقال: لو قتلَته قُتِلتَ به وحديث أبى هريرة صريحٌ فى هذا، فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : "أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَة سَعْدٍ فَوَاللهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ واللهُ أَغْيَرُ مِنِّى" ، ولم

ينكر عليه، ولا نهاه عن قِتله لأن قولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكم ملزم، وكذلكَ فتواه حكم عام للأمة، فلو أذن له فى قتله، لكان ذلك حكماً منه بأن دمه هدرٌ فى ظاهر الشرع وباطنه، ووقعت المفسدةُ التى درأها اللهُ بالقِصاص، وتهالك الناس فى قتل من يريدون قتله فى دورهم، ويدَّعونَ أنهم كانُوا يَرَوْنَهُم على حريمهم، فسدَّ الذَّرِيعَةَ، وحَمى المفسدَة، وصان الدماء، وفى ذلك دليل على أنه لا يُقبل القاتل، ويُقاد به فى ظاهر الشرع، فلما حلف سعد أنه يقتلُه ولا ينتظر به الشهود، عَجِبَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غَيْرَتِه، وأخبر أنه غَيُورٌ، وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أغيرُ منه، واللهُ أشدُّ غَيرةً، وهذا يحتمِلُ معنيين.
أحدهما: إقراره وسكوُته على ما حلف عليه سعدٌ أنه جائز له فيما بينَه وبَيْنَ اللهِ، ونهيه عن قتله فى ظاهر الشرع، ولا يناقض أولُ الحديث آخِرَه.
والثانى: أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك كالمنكِرِ على سعد، فقال: "أَلاَ تَسْمَعُونَ إلى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُم " يعنى: أنا أنهاه عن قتلِه وهو يقُول: بلى، والذى أكرمك بالحق، ثم أخبر عن الحامل له على هذه المخالفة، وأنه شِدَّةُ غَيْرَتِه، ثم قال: أنا أغيرُ مِنْهُ، والله أغيرُ منى. وقد شرع إِقامة الشهداء الأربعة مع شِدَّةِ غيرته سبحانه، فهى مقرونةٌ بحكمة ومصلحة، ورحمة وإحسان، فالله سبحانه مع شدّة غَيرته أعلم بمصالح عباده، وما شرعه لهم من إقامة الشهود الأربعة دون المبادرة إلى القتل، وأنا أغيرُ من سعد، وقد نهيته عن قتله، وقد يُريد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلا الأمرين، وهو الأليقُ بكلامه وسياق القصة.

فصل: فى حُكمِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى لُحُوق النسب بالزَّوج إذا خالف لونُ ولده لونَه
ثبت عنه فى "الصحيحين" أن رَجلاً قال له: إن امرأتى ولدت غلاماً أَسْوَدَ كأَنه يُعَرِّضُ بنفيهِ، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ك "هَلْ لَكَ مِنْ إِبلٍ"؟ قال: نعم. قال: "مَا لَوْنُهَا؟" قال: حُمْرٌ. قال: "فَهَل فيها مِنْ أَوْرَق؟" قال: نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَنَّى أَتَاهَا ذلِكَ؟" قال: لَعَلْهُ يَا رَسُول اللهِ يكونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ. فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وهذَا لَعَلَّهُ يَكُونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ".
وهذا الحديث مِن الفقه: أن الحدّ لا يجِبُ بالتعرِيضِ إِذا كان على وجهِ السؤالِ والاستفتاء، ومن أخذ منه أنه لا يجبُ بالتعريضِ ولو كان على وجه المُقَابَحة والمشاتمة، فقد أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، ورُبَّ تعريضٍ أفهمُ، وأوجعُ للقلب، وأبلغُ فى النكاية من التصريح، وبساطُ الكلام وسياقُه يردُّ ما ذكروه من الاحتمال، ويجعلُ الكلام قطعىَّ الدِّلالة على المراد.
وفيه أن مجرد الرِّيبةِ لا يُسَوِّغُ اللِّعانَ ونفى الولد.
وفيه ضربُ الأمثال والأشباه والنظائر فى الأحكام، ومِن تراجم البخارى فى "صحيحه" على هذا الحديث: باب من شبه أصلاً معلوماً بأصل مبين قد بيَّن الله حكمه ليُفهمَ السائِلَ، وساق معه حديثَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ كانَ عَلَى أمِّكَ دَيْنٌ؟ ".

فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالولدِ لِلفراش، وأن الأمة تكون فراشاً، وفيمن استلحق بعدَ مَوْتِ أبيه
ثبت فى "الصحيحين"، من حديث عائشة رضى الله عنها، قالت: اختصم سعدُ بنُ أبى وقَّاص، وعبدُ بنُ زمعة فى غلام، فقال سعد: هذا يا رسولَ الله ابنُ أخى عتبة بن أَبى وقاص عَهِدَ إِلىَّ أنه ابنُه، انْظُرْ إِلى شَبَههِ، وقال عبدُ بنُ زمعة: هذا أخى يا رسولَ الله وُلِدَ على فِراش أبى مِن وَليدَتِهِ، فنظر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرأى شبهاً بيناً بعُتبة، فقال: "هُوَ لَكَ يا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الوَلَدُ لِلفِراشِ، ولِلْعَاهِرِ الحَجَرُ واحْتَجِبى مِنْهُ يا سَوْدَةُ"، فلم تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ.
فهذا الحكمُ النبوىُّ أصلٌ فى ثبوتِ النسب بالفراش، وفى أن الأمة تكون فِرَاشاً بالوطء، وفى أن الشَّبه إذا عارضَ الفِراش، قُدِّمَ عليه الفِراشُ، وفى أن أحكامَ النسب تتبعَّضُ، فتثبُت من وجهٍ دُونَ وجه، وهو الذى يُسميه بعضُ الفقهاء حُكمَاً بينَ حُكمين، وفى أن القافةَ حقٌ، وأنها من الشرع.
فأما ثبوتُ النسبِ بالفِراش، فأجمعت عليه الأمةُ، وجهاتُ ثبوتِ النسب أربعةٌ: الفراشُ، والاستلحاقُ، والبيِّنةُ، والقَافَةُ.
فالثلاثة الأول، متفق عليها، واتفق المسلمون على أن النِّكاحَ يثبُت به الفراشُ، واختلفوا فى التسرِّى، فجعله جمهورُ الأمة موجباً للفراش، واحتجوا بصريحِ

حديثِ عائشة الصحيح، وأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بالولدِ لِزمعة، وصرّح بأنه صاحبُ الفراش، وجعل ذلك عِلة للحكم بالولد له فسبَبُ الحكم ومحلُه إِنما كان فى الأمة، فلا يجوزُ إِخلاءُ الحديث منه وحملُه على الحرة التى لم تذكر البتة، وإنما كان الحكمُ فى غيرها، فإن هذا يستلزِمُ إِلغاءَ ما اعتبره الشارعُ وعلَّق الحكمَ به صريحاً، وتعطيلَ محلِّ الحكم الذى كان لأجله وفيه.
ثم لو لم يَرِدِ الحديثُ الصحيح فيه، لكان هو مقتضى الميزانِ الذى أنزل له الله تعالى لِيقومَ الناسُ بالقسْطِ، وهو التسويةُ بين المتماثلين، فإن السُّرِّيَّة فِراشٌ حِسَّاً وحقيقةً وحُكماً، كما أن الحُرَّةَ كذلك، وهى تُراد لما تُراد له الزوجةُ مِن الاستمتاع والاستيلادِ، ولم يزل الناسُ قديماً وحديثاً يرغبون فى السَّرارى لاستيلادِهن واستفراشهن، والزوجةُ إِنما سُمِّيَتْ فِراشاً لمعنى هى والسُّرِّيَّةُ فيه على حدٍّ سواء.
وقال أبو حنيفة: لا تكونُ الأمة فراشاً بأوَّلِ ولد ولدته مِن السيد، فلا يلحقُه الولدُ إلا إذا استلحقه، فيلحقه حينئذ بالاستلحاق، لا بالفِراشِ، فما ولدت بعد ذلك لَحقه إلا أن يَنْفِيَه، فعندهم ولدُ الأمة لا يلحق السيدَ بالفراش، إلا أن يتقدَّمه ولد مُسْتَلْحَقٌ، ومعلومٌ أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألحق الولدَ بزَمْعَةَ، وأثبتَ نسبه منه، ولمْ يثْبُتْ قَطُّ أن هذِهِ الأَمَة ولَدَتْ له قبل ذلك غيره، ولا سأل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك ولا استفصل فيه.
قال منازعوهم: ليس لهذا التفصيلِ أصلٌ فى كتابٍ ولا سُنة، ولا أثرٍ عن صاحب، ولا تقتضيهِ قواعدُ الشرع وأصوله، قالت الحنفية: ونحن لا نُنكر كونَ الأمة فراشاً فى الجملة، ولكنه فراش ضعيف، وهى فيه دونَ الحرة، فاعتبرنا ما تعتق به بأن تَلِدَ منه ولداً فيستلحقه، فما ولدت

بعد ذلك، لحق به إلا أن يَنْفِيَه، وأما الولد الأوَّل، فلا يلحقه إلا بالاستلحاق، ولهذا قُلتُم: إنه إذا استحلق ولداً مِن أمته لم يلحقه ما بعدَه إلا باستلحاقٍ مستأنف، بخلاف الزوجة، والفرقُ بينهما: أن عقدَ النكاح إنما يُراد للوطء والاستفراش، بخلاف مُلك اليمين، فإن الوطء والاستفراش فيه تابع، ولهذا يجوزُ ورودُه على من يحرم عليه وطؤُها بخلافِ عقد النكاح. قالوا: والحديثُ لا حُجَّةَ لكم فيه، لأن وطء زمعة لم يثبُتْ، وإِنما ألحقه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعبد أخاً، لأنه استلحقه، فألحقه باستلحاقه، لا بفراش الأب.
قال الجمهورُ: إذا كانت الأمةُ موطوءة، فهى فِراش حقيقة وحُكماً، واعتبارُ ولادتها السابقة فى صيرورتها فراشاً اعتبارُ ما لا دليل على اعتباره شرعاً، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعتبره فى فِراش زَمْعَة، فاعتبارُه تحكم.
وقولُكم: إن الأمةَ لا تفرد للوطء، فالكلام فى الأمة الموطوءة التى اتخذت سِّريَّة وفِراشاً، وجُعِلَتْ كالزوجة أو أحظى منها لا فى أمته التى هى أختُه من الرضاع ونحوها.
وقولُكم: إن وطء زمعةَ لم يثُبت حتَّى يلحق به الولدُ، ليس علينا جوابُه، بل جوابُه على من حكم بلحوق الولد بزمعة، وقال لابنه: هو أخوك.
وقولكم: إنما ألحقه بالأخ لأنه استلحقه: باطل، فإن المستلحق إن لم يُقِرَّ به جميعُ الورثة، لم يلحق بالمقر إلا أن يشهدَ منهم اثنان أنه وُلِدَ على فراش الميت، وعَبْدٌ لم يكن يُقِرُّ له جميعُ الورثة، فإن سودة زوجة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخته، وهىَ لم تُقِرَّ به، ولم تَسْتَلحقهُ، وحتى لو أقَرَّت به مع أخيها عبدٍ، لكان ثبوتُ النسب بالفراش لا بالاستلحاق، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صرَّح عقيب حكمه بإلحاق النسب، بأن الولد للفراش معللاً بذلك، منبهاً على قضية

كُلِّية عامة تتناولُ هذهِ الواقعةَ وغيرها. ثم جوابُ هذا الاعتراض الباطل المحرِّم، أن ثبوتَ كون الأمة فراشاً بالإقرار من الواطىء، أو وارثه كافٍ فى لحقوق النسب، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألحقه به بقوله: "ابن وليدة أبى وُلِدَ على فراشه"، كيف وزَمْعَةُ كان صِهرَ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وابنتُه تحته، فكيف لا يثُبت عنده الفِراشُ الذى يلحق به النسب؟
وأما ما نقضتُم به علينا أَنَّه إذا استحلق ولداً مِن أمته، لم يلحقه ما بعدَه إلا بإقرارٍ مستأنَف، فهذا فيه قولان لأصحاب أحمد، هذا أحدُهما، والثانى: أنه يلحقُه وإن لم يستأنِفْ إقراراً، ومن رجَّح القولَ الأول قال: قد يستبرئها السيدُ بعد الوِلادة، فيزولُ حكمُ الفِراش بالاستبراء، فلا يلحقُه ما بعد الأول بإعتراف مستأنف أنه وطئها، كالحال فى أول ولد.
ومن رجَّح الثانى قال: قد يثبت كونُها فراشاً أولاً، والأصلُ بقاء الفراش حتى يَثْبُتَ ما يُزيله، إذ ليس هذا نظيرَ قولكم: إنه لا يلحقُه الولدُ مع اعترافه بوطئها حتى يستلحِقَه، وأبطلُ من هذا الاعتراض قولُ بعضهم، إنه لم يُلحقه به أخاً، وإنما جعله له عبداً، ولهذا أتى فيه بلام التمليك فقال: "هُوَ لَكَ"، أى: مملوك لك، وقوَّى هذا الاعتراض بأن فى بعض ألفاظ الحديث "هُوَ لَكَ عبد"، وبأنه أمر سودَةَ أن تحتجِبَ منه، ولو كان أخاً لها لما أمرها بالاحتجاب منه، فدلَّ على أنه أجنبى منها. قال: وقوله: "الولد للِفراش"، تنبيه على عدم لحوق نسبه بزمعة أى: لم تكن هذه الأمة فراشاً له، لأن الأمة لا تكون فراشاً، والولد إنما هو للِفراش، وعلى هذا يَصِحُّ أمرُ احتجاب سودة منه، قال: ويُؤكده أن فى بعض طرق الحديث: "احتجبى منه، فإنه ليس لك بأخ" قالوا: وحينئذ فتبيَّن إنا أسعدُ بالحديث وبالقضاء النبوى منكم.

قال الجمهورُ: الآن حَمِىَ الوطيسُ، والتقت حلقتا البطان فنقول والله المستعان: أمّا قولُكم: إنه لم يُلحقه به أخاً، وإنما جعله عبداً، يردُّه ما رواه محمد بن إسماعيل البخارى فى "صحيحه" فى هذا الحديث: "هو لك، هو أخوك يا عبد بن زمعة" وليس اللام للتمليك، وإنما هى للاختصاص، كقوله: "الولد للفراش". فأما لفظة قوله: "هو لك عبد"، فرواية باطلة لا تَصِحُّ أصلاً. وأما أمرُه سودة بالاحِتجاب منه، فإما أن يكونَ على طريقِ الاحتياطِ لمكان الشبهة التى أورثها الشَّبهُ البَيِّنُ بعُتبة، وإما أن يكون مراعاةً للشَّبهَيْنِ وإعمالاً للدليلين، فإن الفِراش دليلُ لحوق النسب، والشبه بغير صاحبه دليلُ نفيه، فأعمل أمرَ الفراش بالنسبة إِلى المدَّعى لقوته، وأعمل الشَّبه بعُتبة بالنسبة إلى ثبوت المحرمية بينه وبَين سودة، وهذا مِن أحسن الأحكام وأبينها، وأوضحها، ولا يمنع ثبوتُ النسبِ مِن وجه دونَ وجه، فهذا الزانى يثبُت النسبُ منه بينه وبين الولد فى التحريم والبعضية دون الميراثِ والنفقةِ والوِلاية وغيرها، وقد يتخلَّف بعضُ أحكام النسب عنه مع ثبوته لمانع، وهذا كثيرٌ فى الشريعة، فلا يُفكر مِن تخلُّف المحرمية بينَ سودة وبينَ هذا الغلام لمانع الشبه بعتبة، وهل هذا إلا محضُ الفقه؟ وقد علم بهذا معنى قوله: "ليس لكِ بأخ"، لو صحت هذه اللفظة مع أنها لا تصِحُّ، وقد ضعفها أهلُ العلم بالحديث، ولا نُبالى بصحتها مع قوله لعبد: "هُو أَخُوكَ"، وإذا جمعت أطرافَ كلام النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقرنت قوله: "هو أخوك"، بقوله: "الولد للفراش، وللعاهر الحجرُ"، تبيَّن لك بطلانُ ما ذكروهُ من التأويل، وأن الحديثَ صريحٌ فى خلافه لا يحِتملُه بوجه والله أعلم. والعجب أن منازعينا فى هذه المسألة

يجعلُون الزوجة فراشاً لمجرد العقد، وإن كان بينَها وبين الزوج بعد المشرقين، ولا يجعلونَ سُرِّيّتَه التى يتكرَّر استفراشُه لها ليلاً ونهاراً فِراشاً.
فصل
واختلف الفقهاءُ فيما تصيرُ به الزوجة فراشاً، على ثلاثة أقوال:
أحدُها: أنه نفسُ العقد وإن علم أنه لم يجتمع بها، بل لو طلَّقها عقيبَه فى المجلس، وهذا مذهب أبى حنيفة.
والثانى: أنه العقدُ مع إمكان الوطء، وهذا مذهب الشافعى وأحمد.
والثالث: أنه العقدُ مع الدخول المحقَّقِ لا إمكانه المشكوك فيه، وهذا اختيارٌ شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: إن أحمد أشار إليه فى رواية حرب، فإنه نص فى روايته فيمن طلق قبل البناء، وأتت امرأتُه بولد، فأنكره أنه ينتفى عنه بغير لعان وهذا هو الصحيحُ المجزوم به، وإلا فكيف تصيرُ المرأة فراشاً ولم يدخُلْ بها الزوجُ ولم يَبْنِ لمجرد إمكان بعيدٍ؟ وهل يَعُدُّ أهلُ العرف واللغة المرأة فراشاً قبل البناء بها وكيف تأتى الشريعةُ بإلحاق نسبٍ بمن لم يبن بامرأته، ولا دخلَ بها، ولا اجتمع بها بمجرَّدِ إمكان ذلك؟ وهذا الإمكانُ قد يقطع بإنتفائه عادة، فلا تصيرُ المرأة فِراشاً إلا بدخول محقق، وبالله التوفيق. وهذا الذى نص عليه فى رواية حرب، هو الذى تقتضيه قواعِدُه وأصولُ مذهبه والله أعلم.
واختلفوا أيضاً فيما تصير به الأمةُ فراشاً، فالجمهور على أنه لا تصير فراشاً إلا بالوطءِ، وذهب بعضُ المتأخرين من المالكية إلى أن الأمة التى تشترى للوطء دونَ الخِدمة، كالمرتفعة التى يُفهم من قرائن الأحوال أنها إنما

تُراد للتسرى، فتصير فِراشاً بنفس الشراء، والصحيح أن الأمة والحرة لا تصيران فِراشاً بالدخول.
فصل
فهذا أحدُ الأمور الأربعة التي يثبتُ بها النسب، وهو الفراش.
الثانى: الاستلحاق وقد اتفق أهلُ العلم على أن للأبِ أن يستلحِقَ فأما الجدُّ، فإن كان الأبُ موجوداً لم يؤثر استلحاقه شيئاً، وإن كان معدوماً، وهو كُلُّ الورثة، صح إقراره، وثبت نسبُ المُقِرِّ به، وإن كان بعضَ الورثة وصدَّقوه، فكذلك، وإلا لم يثْبُتْ نسبه إلا أن يكون أحد الشاهدين فيه.
والحكم فى الأخ كالحكم فى الجد سواء، والأصل فى ذلك أن مَن حاز المالَ يثبُت النسبُ بإقراره واحداً كان أو جماعة، وهذا أصلُ مذهب أحمد والشافعى، لأن الورثة قامُوا مقامَ الميت، وحلُّوا محلَّه. وأورد بعضُ الناس على هذا الأصل، أنه لو كان إجماعُ الورثة على إلحاق النسب يُثْبِتُ النسب، للزم إذا اجتمعوا على نفى حملٍ مِن أمة وطئها الميت أن يحلوا محلَّه فى نفى النسب، كما حلوا محلَّه فى إلحاقه، وهذا لاَ يَلْزَمُ، لأنا اعتبرنا جميعَ الورثة والحمل من الورثة، فلم يُجْمِعِ الورثة على نفيه.
فإن قيل: فأنتم اعتبرتُم فى ثبوت النسب إقرارَ جميع الورثة، والمقر هاهنا إنما هو عبدٌ، وسودةُ لم تُقِرَّ به وهى أختُه، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألحقَهُ بعبد باستلحاقه، ففيه دليل على استلحاق الأخ وثبوت النسب بإقراره، ودليلٌ على أن استلحاقَ أحدِ الأخوة كافٍ.
قيل: سودةُ لم تكن منكرة، فإن عبداً استلحقه، وأقرته سودةُ

على استلحاقه، وإقرارُها وسكوتُها على هذا الأمر المتعدى حكمُه إليها من خلوته بها، وبرؤيته إياها وصيرورته أخاً لها تصديقٌ لأخيها عَبْدٍ، وإقرارٌ بما أقر به، وإلا لبادرت إلى الإنكار والتكذيبِ، فجرى رِضاها وإقرارُها مجرى تصدِيقها، هذا إن كان لَمْ يَصْدُرْ منها تصديقٌ صريح، فالواقعة واقعةُ عين، ومتى استلحق الأخُ أو الجدُّ أو غيرُهما نسبَ من لو أقَّر به مورثهم لحقه، ثبت نسبُه ما لم يكن هنا وارثٌ منازع، فالاستلحاقُ مقتضٍ لثبوتِ النسب، ومنازعة غيره مِن الورثة مانعٌ من الثبوتِ، فإِذا وُجِدَ المقتضى، ولم يمنع مانِعٌ من اقتضائه، ترتّبَ عليه حكمُه. ولكن هاهنا أمر آخر، وهو أن إقرارَ من حاز الميراثَ واستلحاقه: هل هو إقرارُ خلافةٍ عن الميت أو إِقرارُ شهادة؟ هذا فيه خلافٌ، فمذهبُ أحمد والشافعى رحمهما الله، أنه إقرارُ خِلافه، فلا تُشترط عدالة المستلحق، بل ولا إسلامُه، بل يَصِحُّ ذلك مِن الفاسق والدَّيِّن، وقالت المالكية: هو إقرارُ شهادة، فتعتبرُ فيه أهليةُ الشهادة، وحكى ابن القصار عن مذهب مالك: أن الورثة إذا أقرُّوا بالنسب، لحق، وإن لم يكونوا عدولاً، والمعروف من مذهب مالك خلافُه.
فصل
الثالث: البينة، بأن يشهد شاهِدانِ أنَّه ابنه، أو أنه وُلِدَ على فراشه مِن زوجتِه أو أمته، وإذا شهد بذلك اثنان من الورثة لم يلتفت إلى إنكار بقيتهم وثبت نسبة، ولا يُعرف فى ذلك نزاع.

فصل
الرابع: القافة، حكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقضاؤُه باعتبار القافة وإلحاق النسب بها.
ثبت فى "الصحيحين": من حديث عائشة رضى الله عنها قالت: دخل علىَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذاتَ يومٍ مسروراً تَبْرُقٌ أساريرُ وجهه، فقال: "أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ مُجَزِّزاً المُدْلِجِى نَظَر آنفاً إِلى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُؤُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فقال: إِنَّا هذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ "، فَسُرَّ النبىّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقول القائف ولو كانت كما يقول المُنازِعُونَ مِن أَمر الجاهلية كالكهانة ونحوها لما سُرَّ بها، ولا أُعْجِبَ بِهَا، ولكانت بمنزلة الكَهانة. وقد صحَّ عنه وعيدُ مَن صَدَّق كاهناً. قال الشافعي: والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أثبته عِلماً، ولم يُنْكِره، ولو كان خطأ لأنكره، لأن فى ذلك قذفَ المحصَناتِ، ونفىَ الأنساب، انتهى.
كيف والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد صرَّح فى الحديث الصحيح بصحتها واعتبارها، فقال فى ولد الملاعنة: "إن جاءت به كذا وكذا فهو لهلالِ بنِ أمية، وإن جاءت به كذا وكذا فهو لشريك بن سَحْماء"، فلما جاءت به على شَبَهِ

الذى رُمِيَتْ به قال: "لَوْلاَ الأيْمَانُ لَكَانَ لِى وَلَهَا شَأْنٌ" وهل هذا إلا اعتبار للشبه وهو عينُ القافة، فإن القائِفَ يتبعُ أَثرَ الشبه، وينظرُ إلى من يتَّصِلُ، فيحكم به لصاحب الشبه، وقد اعتبر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشبه وبيَّن سببه، ولهذا لما قالت له أمٌّ سلمة: أو تحتلم المرأة، فقال: "مِمَّ يَكُونُ الشَّبَهُ".
وأخبر فى الحديث الصحيح، أن ماء الرَّجُل إذا سَبَقَ ماءَ المرأة، كان الشَّبَهُ لَهُ، وإِذا سَبَقَ مَأُوهَا مَاءَهُ، كان الشَّبَهُ لَهَا". فهذا اعتبار منه للشبه شرعاً وقدراً، وهذا أقوى ما يكون مِن طرق الأحكام أن يتوارَدَ عليه الخلقٌ والأمرُ والشرعُ والقدرُ ولهذا تبعه خلفاؤه الراشِدُونَ فى الحُكم بالقَافه.
قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، عن عمر فى امرأة وَطئهَا رجلانِ فى طهرٍ، فقال القائفُ، قد اشتركا فيه جميعاً، فجعلَه بينهما.
قال الشعبي: وعلى يقول: هو ابنُهما، وهما ابواه يرثانه، ذكره سعيد أيضاً.
وروى الأثرم بإسناده، عن سعيد بن المسيِّب، فى رجلين اشتركا فى طُهْرِ امرأةٍ فحملت، فولَدَتْ غُلاماً يُشبههما، فرُفِعَ ذلك إلى عمرَ

بنِ الخطاب، فدعا القافة فنظرُوا، فقالوا: نراه يُشِبهُهُمَا، فألحقه بهما، وجعَلَه يَرثُهما ويرثانه.
ولا يُعْرَفُ قطُّ فى الصحابة مَنْ خالف عمر وعلياً رضى الله عنهما فى ذلك، بل حكم عمر بهذا فى المدينة، وبحَضرته المهاجرون والأنصار، فلم يُنْكِرْهُ منهم منكر.
قال الحنفية: قد أجلبتم علينا فى القافة بالخيلِ والرَّجلِ، والحُكُمُ بالقيافة تعويلٌ على مجرَّد الشَّبه والظن والتخمين، ومعلوم أن الشَّبه قد يُوجد من الأجانب، وينتفى عن الأقارب، وذكرتُم قِصة أسامة وزيد، ونسيتُم قِصةَ الذى ولدت امرأتُه غلاماً أسود يُخالِفُ لونَهما، فلم يُمكنه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نفيه، ولا جَعَلَ للشبه ولا لِعدمه أثراً، ولو كان للِشبه أثر، لاكتفى به فى وَلدِ الملاعنة، ولم يحتج إلى اللعان، ولكان ينتظِرُ ولادته، ثم يُلحق بصاحب الشبه، ويستغنى بذلك عن اللعان بل كانَ لا يَصِحُّ نفيُه مع وجودِ الشبه بالزوج، وقد دَلَّت السنةُ الصحيحةُ الصريحة على نفيه عن الملاعين، ولو كان الشبه له، فإن النبىّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَبْصِرُوها فإن جَاءَتْ بِهِ كَذَا وكَذَا، فَهُوَ لِهِلال بْنِ أُميَّة" ، وهذا قاله بعد اللِّعان ونفى النسب عنه فعُلِمَ أنه لو جاء على الشبه المذكور، لم يَثْبُتْ نسبُه منه، وإنما كان مجيئه على شبه دليلاً على كذبه، لا على لحوق الولد به.
قالوا: وأما قصةُ أسامةَ وزيدٍ، فالمنافقون كانوا يطعنون فى نسبه من زيد لمخالفة لونه لون أبيه، ولم يكونوا يكتفون بالفِراش، وحكم الله ورسُولُه فى أنه ابنُه، فلما شهد به القائفُ وافقت شهادتُه حكمَ اللهِ ورسوله، فسر به النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لموافقتِها حكمه، ولتكذيبها قولَ المنافقين، لا أنه أثبت نسبه بها، فأين فى هذا إِثباتُ النسب بقول القائف؟

قالوا: وهذا معنى الأحاديث التى ذكر فيها اعتبارُ الشبه، فإنها إنما اعتبرت فيه الشبه بنسب ثابت بغير القافة، ونحن لا نُنكرُ ذلك. قالوا: وأما حكم عمر وعلى، فقد اختُلِفَ على عمر، فرُوى عنه ما ذكرتُم، ورُوى عنه أن القائف لما قال له: قد اشتركا فيه، قال وَالِ أيَّهما شئت. فلم يعتبر قولَ القائف
قالوا: وكيف تقولون بالشبه، ولو أقر أحدُ الورثة بأخ، وأنكره الباقون، والشَّبَهُ موجود، لم تُثبِتُو النسبَ به، وقلُتم: إن لم تتفق الورثة على الإقرارِ به لم يثبُتِ النَّسَبُ؟.
قال أهلُ الحديث: مِن العجب أن يُنكِرَ علينا القولَ بالقافة، ويجعلَها مِن باب الحَدْسِ والتخمين مَنْ يُلْحِقُ ولدَ المشرقى بمن فى أقصى المغرب، مع القطع بأنهما لم يتلاقيا طرفةَ عين، ويلُحق الولَد باثنين مع القطع بأنه ليس ابناً لأحدهما، ونحنُ إنما ألحقنا الولدَ بقول القائف المستند إلى الشبه المعتبر شرعاً وقدراً، فهو إستناد إلى ظن غالب، ورأى راجح، وأمارة ظاهرة بقول من هو مِن أهل الخبرة، فهو أولى بالقبول مِن قول المقومين، وهل يُنكر مجىءُ كثير من الأحكام مستنداً إلى الأمارات الظاهرة، واالظنون الغالبة؟
وأما وجود الشبه بين الأجانب، وانتفاؤه بين الأقارب، وإن كان واقعاً فهو مِن أندر شىء وأقَلَّه، والأحكام إنما هى للغالب الكثير، والنادرُ فى حكم المعدوم.
وأما قصةُ من ولدت امرأتُه غلاماً أسود، فهو حجةٌ عليكم، لأنها

دليل على أن العادة التى فطر الله عليها الناسَ اعتبارُ الشبه، وأن خلافَه يُوجب ريبة، وأن فى طباع الخلق إنكارَ ذلك ولكن لما عارض ذلك دليلٌ أقوى منه وهو الفِراش، كان الحكمُ للدليل القوى، وكذلك نقول نحن وسائر الناس: إن الفراش الصحيح إذا كان قائماً، فلا يُعارَض بقافة ولا شَبَهِ، فمخالفةُ ظاهر الشبه لدليلٍ أقوى منه وهو الفِراشُ غيرُ مستنكر، وإنما المستنكرُ مخالفةُ هذا الدليل الظاهر بغير شىء.
وأما تقديمُ اللعان على الشبه، وإلغاءُ الشبه مع وجوده، فكذلك أيضاً هو مِن تقديم أقوى الدليلين على أضعفهما، وذلك لا يمنع العملَ بالشبه مع عدم ما يُعارضه، كالبينة تُقدم على اليد والبراءة الأصلية، ويُعمل بهما عند عدمهما. وأما ثبوتُ نسبِ أسامة من زيد بدون القيافة، فنحن لم نُثبت نسبه بالقيافة، والقيافةُ دليل آخر موافق لدليل الفِراش، فسرورُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفرجُه بها، واستبشارُه لتعاضُد أدلة النسب وتضافرها، لا لإثبات النسب بقولِ القائف وحدَه، بل هو من باب الفرح بظهور أعلامِ الحق وأدلته وتكاثرها، ولو لم تصلُحِ القيافةُ دليلاً لم يَفْرَحْ بها ولم يُسر، وقد كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرح ويُسر إذا تعاضدت عنده أدلةُ الحق، ويُخبر بها الصحابةَ، ويُحب أن يسمعوها من المخبر بها، لأن النفوسَ تزدادُ تصديقاً بالحق إذا تعاضدت أدلته، وتُسُّر به وتفرح، وعلى هذا فطر اللهُ عباده، فهذا حكم اتفقت عليه الفطرة والشرعة وبالله التوفيق.
وأما ما رُوى عن عمر أنه قال: وَالِ أيهما شئت، فلا تعرف صحته عن عمر، ولو صحّ عنه لكان قولاً عنه، فإن ما ذكرنا عنه فى غاية

الصحة، مع أن قوله: وال أيهما شئت ليس بصريح فى إبطال قول القائف، ولو كان صريحاً فى إبطال قوله، لكان فى مثل هذا الموضع إذا ألحقه باثنين، كما يقوله الشافعى ومن وافقه.
وأما إذا أقر أحدُ الورثة بأخ، وأنكره الباقون، فإنما لم يثبُتْ نسبُه لمجرد الإقرار، فأما إذا كان هناك شبهٌ يستنِدُ إليه القائف، فإنه لا يُعتبر إنكارُ الباقين، ونحن لا نقصُر القَافَةَ على بنى مُدْلِج، ولا نعتبِرُ تعدد القائف، بل يكفى واحد على الصحيح بناء على أنه خبر، وعن أحمد رواية أخرى: أنه شهادة، فلا بد من اثنين، ولفظُ الشهادة بناء على اشتراط اللفظ.
فإن قيل: فالمنقول عن عمر أنه ألحقه بأبوين، فما تقولون فيما إذا ألحقته القافة بأبوين، هل تُلحِقُونه بهما، أو لا تُلحقونه إلا بواحدٍ، وإذا ألحقتمُوه بأبوين، فهل يختصُّ ذلك باثنين، أم يلحقُ بهم وإن كثروا، وهل حُكمُ الاثنين فى ذلك حكم الأبوين أم ماذا حُكمهما؟
قيل: هذه مسائل فيها نزاع بين أهل العلم، فقال الشافعى ومن وافقه: لا يُلحق بأبوين، ولا يكون للرجل إلا أبٌ واحد، ومتى ألحقته القافة باثنين، سقط قولُها، وقال الجمهورُ: بل يلحق باثنين، ثم اختلفوا، فنص أحمد فى رواية مهنا بن يحيى: أنه يُلحق بثلاثة، وقال صاحب المغنى: ومقتضى هذا أنه يُلحق بمن أحلقته القافةُ به وإن كثروا، لأنه إذا جاز إلحاقُه باثنين، جاز إلحاقه بأكثرَ من ذلك وهذا مذهبُ أبى حنيفة، لكنه لا يقولُ بالقافة، فهو يُلحقه بالمدَّعين وإن كثروا، وقال القاضى: يجب أن لا يُلحق بأكثر من ثلاثة، وهو قولُ محمد بن الحسن،

وقال ابنُ حامد: لا يُلحق بأكثرَ من اثنين، وهو قولُ أبى يوسف، فمن لم يُلحقه بأكثرَ من واحد، قال: قد أجرى الله سبحانه عادته أن للولد أباً واحداً، وأماً واحدة، ولذلك يُقال: فلانُ ابن فلان، وفلان ابن فلانه فقط. ولو قيل: فلان ابن فلان وفلان، لكان ذلك منكراً، وعُد قذفاً، ولهذا إنما يُقال يومَ القيامة: أين فُلان بن فلان؟ وهذه غَدْرَةُ فلان بن فلان، ولم يُعهد قطُّ فى الوجود نسبة ولد إلى أبوين قط، ومن ألحقه باثنين، احتج بقول عمر، وإقرار الصحابة له على ذلك، وبأن الولد قد ينعقِدُ من ماء رجلين، كما ينعقد من ماء الرجل والمرأة، ثم قال أبو يوسف: إنما جاء الأثرُ بذلك، فيُقتصر عليه. وقال القاضى: لا يتعدى به ثلاثة، لأن أحمد إنما نص على الثلاثة، والأصل ألا يُلحق بأكثرَ مِن واحد، وقد دل قول عمر على إلحاقه باثنين مع انعقاده من ماء الأم، فدل على إمكان انعقاده من ماء ثلاثة، وما زاد على ذلك، فمشكوكٌ فيه.
قال المُلْحِقُونَ له بأكثرَ مِن ثلاثة: إذا جاز تخليقه من ماء رجلين وثلاثة، جاز خلقُه مِن ماء أربعة وخمسة، ولا وجه لاقتصاره على ثلاثة فقط، بل إما أن يُلحق بهم وإن كُثروا، وإما أن لا يتعدى به أحد، ولا قول سوى القولين والله أعلم.
فإن قيل: إذا اشتمل الرحمُ على ماء الرجل، وأراد الله أن يخلُق منه الولدَ، انضم عليه أحكمَ انضمام، وأتمّه حتى لا يَفٍسُدَ، فكيف يدخل عليه ماء آخر؟ قيل: لا يمتنِعُ أن يَصِلَ الماءُ الثانى إلى حيث وصل الأول، فينضم عليهما، وهذا كما أن الولدَ ينعقِد من ماءِ الأَبَويْنِ، وقد سبق ماءُ الرجل ماء المرأة أو بالعكس، ومع هذا فلا يمتنِعُ وصولُ الماء الثانى إلى حيث وصل الأول، وقد علِم بالعادة أن الحامل إذا تُوبع وطؤها،

جاء الولد عبل الجسم ما لم يُعارِضْ ذلك مانع، ولهذا ألهم الله سبحانَه الدوابَّ إذا حملت أن لا تُمكِّنَ الفحلَ أن ينزوَ عليها، بل تَنْفِرُ عنه كُلَّ النِّفار، وقال الإمام أحمد: إن الوطء الثانى يزيد فى سمع الولد وبصره، وقد شبَّهه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسقى الزرع، ومعلومٌ أن سقيَه يزيدُ فى ذاته والله أعلم.
فإن قيل: فقد دلَّ الحديثُ على حكم استلحاق الولد، وعلى أن الولد للفراش، فما تقولون لو استلحق الزانى ولداً لا فِراش هُناك يُعارضه، هل يلحقُه نسبُه، ويثبتُ له أحكامُ النسب؟
قيل: هذه مسألة جليلة اختلف أهلُ العلم فيها، فكان إسحاق بن راهويه يذهبُ إلى أن المولودَ مِن الزِّنى إذا لم يكن مولوداً على فراش يدَّعيه صاحبه، وادعاه الزانى، أُلحِقَ به، وأوَّل قول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الولد للفراش"، على أنه حكم بذلك عند تنازُع الزانى وصاحب الفراش، كما تقدم، وهذا مذهب الحسن البصرى، رواه عنه إسحاق بإسناده، فى رجل زنى بامرأة، فولدت ولداً، فادَّعى ولدَها فقال: يُجلد ويلزمُه الولد، وهذا مذهبُ عروة بن الزبير، وسليمانَ بن يسار ذكر عنهما أنهما قالا: أيُّما رجل أتى إلى غلام يزعم أنه ابن له، وأنه زنى بأمه ولم يَدَّعِ ذلك الغلامَ أحد، فهو ابنُه، واحتج سليمان، بأن عمر بن الخطاب كان يُلِيطُ أولادَ الجاهلية بمن ادعاهم فى الإسلام، وهذا المذهبُ كما تراه قوة ووضوحاً، وليس مع الجمهور أكثرُ مِن "الولد للفراش"

وصاحبُ هذا المذهب أوَّلُ قائل به، والقياسُ الصحيح يقتضيه، فإن الأبَ أحدُ الزانيين، وهو إذا كان يلحق بأمه، وينسب إليها وترثه ويرثُها، ويثبت النسب بينه وبين أقارب أمه مع كونها زنت به، وقد وُجِدَ الولدُ مِن ماء الزانيين، وقد اشتركا فيه، واتفقا على أنه ابنهُما، فما المانِعُ مِن لحوقه بالأب إذا لم يدَّعِهِ غيرُه؟ فهذا محضُ القياس، وقد قال جريج للغلام الذى زنت أمُّه بالراعى: من أبوك يا غلام؟ قال: فلان الراعى، وهذا إنطاق من الله لا يُمكن فيه الكذبُ.
فإن قيل: فهل لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى هذه المسألة حُكم؟ قيل: قد رُوى عنه فيها حديثانِ، نحن نذكرُ شأنهما.
فصل: ذكر حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في استلحاقِ ولد الزنى وتوريثه
ذكر أبو داود في "سننه": من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا مساعاة في الإسلام، من ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته، ومن ادعى ولدا من غير رشدة، فلا يرث ولا يورث".
المساعاة: الزنى، وكان الأصمعي يجعلها في الإماء دون الحرائر، لأنهن يسعين لمواليهن، فيكتسبن لهم، وكان عليهن ضرائب مقررة،

فأبطل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المساعاة في الاسلام، ولم يلحق النسب بها، وعفا عما كان في الجاهلية منها، وألحق النسب به. وقال الجوهري: يقال: زنى الرجل وعهر، فهذا قد يكون في الحرة والأمة، ويقال في الأمة خاصة: قد ساعاها. ولكن في إسناد هذا الحديث رجل مجهول، فلا تقوم به حجة. وروى أيضا في "سننه" من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده "أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قضى أن كل مستلحق استلحق بعد أبيه الذي يدعى له، ادعاه ورثته، فقضى أن كل من كان من أمة يملكها يوم أصابها، فقد لحق بمن استلحقه، وليس له مما قسم قبله من الميراث، وما أدرك من ميراث لم يقسم، فله نصيبه، ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره، وإن كان من أمة لم يملكها، أو من حرة عاهر بها، فإنه لا يلحق ولا يرث، وإن كان الذي يدعى له هو ادعاه، فهو من ولد زني من حرة كان أو أمة".
وفي رواية: "وهو ولد زنى لأهل أمه من كانوا حرة أو أمة". وذلك فيما استلحق في أول الإسلام، فما اقتسم من مال قبل الإسلام، فقد مضى" وهذا لأهل الحديث في إسناده مقال، لأنه من رواية محمد بن راشد المكحولي. وكان قوم في الجاهلية لهم إماء بغايا، فإذا ولدت أمة أحدهم وقد وطئها غيره بالزنى، فربما ادعاه سيدها، وربما ادعاه الزاني، واختصما

في ذلك، حتى قام الإسلام، فحكم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالولد للسيد، لأنه صاحب الفراش، ونفاه على الزاني. ثم تضمن هذا الحديث أمورا. منها: أن المستلحق إذا استلحق بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه ورثته، فإن كان الولد من أمة يملكها الواطىء يوم أصابها، فقد لحق بمن استلحقه، يعني إذا كان الذي استلحقه ورثة مالك الأمة، وصار ابنه من يومئذ، ليس له مما قسم قبله من الميراث شيء، لأن هذا تجديد حكم نسبه، ومن يومئذ يثبت نسبه، فلا يرجع بما اقتسم قبله من الميراث، إذ لم يكن حكم البنوة ثابتا، وما أدرك من ميراث لم يقسم، فله نصيبه منه، لأن الحكم ثبت قبل قسمه الميراث، فيستحق منه نصيبه، وهذا نظير من أسلم على ميراث قبل قسمه، قسم له في أحد قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وإن أسلم بعد قسم الميراث، فلا شيء له، فثبوت النسب هاهنا بمنزلة الإسلام بالنسبة إلى الميراث. قوله: "ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره" هذا، يبين أن التنازع بين الورثة، وأن الصورة الأولى أن يستلحقه ورثة أبيه الذي كان يدعى له، وهذه الصورة إذا استلحقه ورثته وأبوه الذي يدعى له كان ينكر، فإنه لا يلحق، لأن الأصل الذي الورثة خلف عنه منكر له، فكيف يلحق به مع إنكاره؟ فهذا إذا كان من أمة يملكها، أما إذا كان من أمة لم يملكها، أو من حرة عاهر بها، فانه لا يلحق، ولا يرث، وإن ادعاه الواطىء وهو ولد زنية من أمة كان أو من حرة، وهذا حجة الجمهور على إسحاق ومن قال بقوله: إنه لا يلحق بالزانى إذا ادعاه، ولا يرثه، وأنه ولد زنى لأهل أمه من كانوا حرة كانت أو أمة.

وأما ما اقتسم من مال قبل الإسلام، فقد مضى، فهذا الحديث يرد قول إسحاق ومن وافقه، لكن فيه محمد بن راشد، ونحن نحتج بعمرو بن شعيب، فلا يعلل الحديث به، فإن ثبت هذا الحديث، تعين القول بموجبه، والمصير إليه، وإلا فالقول قول إسحاق ومن معه، والله المستعان.
ذكر الحكم الذي حكم به علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الجماعة الذين وقعوا على امرأة في طهر واحد، ثم تنازعوا الولد، فأقرع بينهم فيه، ثم بلغ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضحك ولم ينكره
ذكر أبو داود والنسائي في "سننهما"، من حديث عبد الله بن الخليل، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء رجل من أهل اليمن، فقال: إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا عليا يختصمون إليه في ولد، قد وقعوا على امرأة في طهر واحد، فقال لاثنين: طيبا بالولد لهذا فغليا، ثم قال لاثنين: طيبا بالولد لهذا، فغليا، ثم قال لاثنين: طيبا بالولد لهذا، فغليا، فقال: أنتم شركاء متشاكسون، إني مقرع بينكم، فمن قرع، فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا الدية، فأقرع بينهم، فجعله لمن قرع، فضحك رسول الله حتى بدت أضراسه أو نواجذه. وفي إسناده يحيى بن عبد الله الكندي الأجلح ولا يحتج بحديثه، لكن رواه أبو داود والنسائي بإسناد كلهم ثقات إلى عبد خير، عن زيد بن أرقم. قال: أتي علي بن أبي طالب بثلاثة وهو باليمن وقعوا على امرأة في طهر واحد، فسأل اثنين

أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا، حتى سألهم جميعا، فجعل كلما سأل اثنين قالا: لا، فأقرع بينهم، فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية، قال: فذكر ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضحك حتى بدت نواجذه. وقد أعل هذا الحديث بأنه روي عن عبد خير بإسقاط زيد بن أرقم، فيكون مرسلا. قال النسائي: وهذا أصوب. وهذا أعجب، فإن إسقاط زيد بن أرقم من هذا الحديث لا يجعله مرسلا، فإنه عبد خير أدرك عليا وسمع منه، وعلي صاحب القصة، فهب أن زيد بن أرقم لا ذكر له في السند فمن أين يجيء الإرسال، إلا أن يقال: عبد خير لم يشاهد ضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلي إذ ذاك كان باليمن، وإنما شاهد ضحكه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد بن أرقم أو غيره من الصحابة وعبد خير لم يذكر من شاهد ضحكه، فصار الحديث به مرسلا. فيقال: إذا: قد صح السند عن عبد خير، عن زيد بن أرقم، متصلا، فمن رجح الاتصال، لكونه زيادة من الثقة فظاهر، ومن رجح رواية الأحفظ والأضبط، وكان الترجيح من جانبه ولم يكن علي قد أخبره بالقصة، فغايتها أن تكون مرسلة، وقد يقوى الحديث بروايته من طريق أخرى متصلا.
وبعد، فاختلف الفقهاء في هذا الحكم، فذهب إليه إسحاق بن راهويه، وقال: هو السنة في دعوى الولد، وكان الشافعي يقول به في القديم، وأما الامام أحمد، فسئل عن هذا الحديث، فرجح عليه حديث القافة، وقال: حديث القافة أحب إلي.
وهاهنا أمران، أحدهما: دخول القرعة في النسب، والثاني

تغريم من خرجت له القرعة ثلثي دية ولده لصاحبيه. وأما القرعة، فقد تستعمل عند فقدان مرجح سواها من بينة أو إقرار، أو قافة، وليس ببعيد تعيين المستحق بالقرعة في هذه الحال، إذ هي غاية المقدور عليه من أسباب ترجيح الدعوى، ولها دخول في دعوى الإملاك المرسلة التي لا تثبت بقرينة ولا أمارة، فدخولها في النسب الذي يثبت بمجرد الشبه الخفي المستند إلى قول القائف أولى وأحرى. وأما أمر الدية فمشكل جدا، فإن هذا ليس بموجب الآية، وإنما هو تفويت نسبه بخروج القرعة، فيقال: وطء كل واحد صالح لجعل الولد له، فقد فوته كل واحد منهم على صاحبيه بوطئه، ولكن لم يتحقق من كان له الولد منهم، فلما أخرجته القرعة لأحدهم، صار مفوِّتا لنسبه عن صاحبيه، فأجري ذلك مجرى إتلاف الولد، ونزل الثلاثة منزلة أب واحد، فخصة المتلف منه ثلث الدية، إذ قد عاد الولد له، فيغرم لكل من صاحبيه ما يخصه، وهوثلث الدية.
ووجه آخر أحسن من هذا، أنه لما أتلفه عليهما بوطئه ولحوق الولد به، وجب عليه ضمان قيمته، وقيمة الولد شرعا هي ديته، فلزمه لهما ثلثا قيمته، وهي ثلثا الدية، وصار هذا كمن أتلف عبدا بينه وبين شريكين له، فإنه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه، فإتلاف الولد الحر عليهما بحكم القرعة، كإتلاف الرقيق الذي بينهم.
ونظير هذا تضمين الصحابة المغرور بحرية الأمة قيمة أولاده لسيد الأمة لما فات رقهم على السيد لحريتهم، وكانوا بصدد أن يكونوا أرقاء، وهذا ألطف ما يكون من القياس وأدقه، وأنت إذا تأملت كثيرا من أقيسة الفقهاء وتشبيهاتهم، وجدت هذا أقوى منها، وألطف مسلكا، وأدق

مأخذا، ولم يضحك منه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سدى. وقد يقال: لا تعارض بين هذا وبين حديث القافة، بل إن وجدت القافة تعين العمل بها، وإن لم توجد قافة، أو أشكل عليهم، تعين العمل بهذا الطريق، والله أعلم.

فصل: ذكر حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الولد من أحق به في الحضانة
روى أبو داود في "سننه": من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديى له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباهُ طلقني، فأراد أن ينتزعه منى، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنت أحق به ما لم تنكحي" وفي "الصحيحين": من حديث البراء بن عازب، أن ابنة حمزة اختصم فيها على وجعفر، وزيد. فقال على: أنا أحق بها وهي ابنة عمى، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال: زيد: ابنة أخي، فقضى بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالتها، وقال: "الخالة بمنزلة الأم ".

وروى أهل السنن: من حديث أبى هريرة رضىالله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير غلاما بين أبيه وأمه. قال الترمذي: حديث صحيح.
وروى أهل السنن أيضا: عنه، أن امرأة جاءت، فقالت يا رسول الله ! إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبى عنبة وقد نفعني، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "استهما عليه "، فقال زوجها من يحاقني في ولدي، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هذا أبوك وهذه أمك خذ بيد أيهما شئت "، فأخذ بيد أمه، فانطلقت به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي "سنن النسائي": عن عبد الحميد بن سلمة الأنصاري، عن أبيه، عن جده، أن جدَّه أسلم وأبت امرأتُه أن تسلم، فجاء بابن له صغير لم يَبلغ، قال فأجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأب هاهنا والأم هاهنا، ثم خير وقال "اللهُمَّ اهدِهِ" فذهب إلى أبيه.
ورواه أبو داود عنه وقال: أخبرنى جدي رافع بن سنان، أنه أسلم

وأبت امرأته أن تسلم، فأتت النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: ابنتى وهي فطيم أو شبهه، وقال رافع: ابنتي، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقعد ناحية"، وقال لها: "اقعدي ناحية"، فأقعد الصبية بينهما، ثم قال: "ادعواها"، فمالت إلى أمها، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم اهدها "، فمالت إلى أبيها، فأخذها.
الكلام على هذه الأحكام
أما الحديث الأول، فهو حديث احتاج الناس فيه إلى عمرو بن شعيب، ولم يجدوا بدا من الاحتجاج هنا به، ومدار الحديث عليه، وليس عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثٌ في سقوط الحضانة بالتزويج غير هذا، وقد ذهب إليه الأئمةُ الأربعة وغيرُهم، وقد صرح بأن الجد هو عبد الله بن عمرو، فبطل قولُ مَنْ يقولُ: لعله محمد والدُ شعيب، فيكون الحديثُ مرسلاً. وقد صحَّ سماعُ شعيب من جَدّه عبد الله بن عمرو، فبطل قولُ من قال: إنه منقطع، وقد احتج به البخاريُّ خارجَ صحيحه، ونص على صحة حديثه، وقال: كان عبدُ الله بن الزُّبير الحميدي، وأحمد وإسحاق وعلي بن عبد الله يحتجُّون بحديثه، فَمَن النَّاسُ بَعْدَهُم؟! هذا لفظه. وقال إسحاق بن راهويه: هو عندنا، كأيوب عن نافع، عن ابن عمر. وحكى الحاكم في "علوم الحديث" له الاتفاق على صحة حديثه، وقال أحمد بن صالح: لايختلف على عبد الله أنها صحيفة.
وقولها: كان بطني وعاء إلى آخره، إدلاءٌ منها، وتوسُّل إلى

اختصاصها به، كما اختصَّ بها في هذه المواطنِ الثلاثة، والأبُ لم يُشاركها في ذلك، فنبهت في هذا الاختصاص الذي لم يُشارِكْها فيه الأبُ على الاختصاص الذي طلبته بالاستفتاء والمخاصمة.
وفي هذا دليل على اعتبار المعاني والعِلل، وتأثيرها في الأحكام، وإناطتها بها، وأن ذلك أمر مستقر في الفِطَرِ السَّليمةِ حتى فِطَر النساء، وهذا الوصفُ الذيَ أدلت به المرأةُ وجعلته سبباً لتعليق الحكم به، قد قرَّرهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورتَّب عليه أثره، ولو كان باطلاً ألغاه، بل ترتيبُه الحكمَ عقيبَه دليل على تأثيره فيه، وأنه سببه.
واستدل بالحديث على القضاء على الغائب، فإن الأبَ لم يذكر له حضورولا مخاصمة، ولا دلالة فيه لأنها واقعةُ عين، فإن كان الأبُ حاضراً، فظاهر، وإن كان غائباً، فالمرأة إنما جاءت مستفتية أفتاها النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمقتضى مسألتها، وإلا فلا يُفبل قولُها على الزوج: إنه طلقها حتى يُحكم لها بالولد بمجرَّدِ قولها.
فصل
ودلّ الحديث على أنه إذا افترق الأبوانِ، وبينهما ولد، فالأمّ أحقُّ به من الأب ما لم يقم بالأمِّ ما يمنعُ تقديمَها، أو بالولد وصفٌ يقتضي تخييرَه، وهذا ما لا يُعرف فيه نزاعٌ، وقد قضى به خليفةُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر على عمر بن الخطاب، ولم يُنْكِرْ عليهِ مُنْكِر. فلما وَليَ عمرُ قضى بمثله، فروى مالك في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: كانت عند عمرَ بن الخطاب رضي الله

عنه امرأةٌ من الأنصار، فولدت له عاصمَ بن عمر، ثم إن عمرَ فارقها، فجاء عُمَرُ قُبَاء، فوجد ابنه عاصماً يلعب بفناء المسجد، فأخذ بعضدهِ، فوضعه بين يديه على الدابة، فأدركته جدةُ الغلام، فنازعته إيَّاه، حتَّى أتيا أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فقال عمر: ابني. وقالت المرأة: ابني، فقال أبو بكر رضي الله عنه: خَلِّ بينها وبينه، فما راجعه عُمَرُ الكَلاَم قال ابن عبد البر: هذا خبر مشهور من وجوه منقطعة ومتصلة، تلقاه أهل العلم بالقبول والعمل، وزوجة عمر أمُّ ابنه عاصم: هي جميلة ابنة عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري.
قال: وفيه دليل على أن عمر كان مذهبُه في ذلك خلافَ أبي بكر، ولكنه سلم للقضاء ممن له الحكمُ والإِمضاء، ثم كانَ بعْدُ في خلافته يقضي به ويُفتي، ولم يُخالف أبا بكر في شيء منه ما دام الصبيُّ صغيراً لا يُميز، ولا مخالف لهما مِن الصحابة.
وذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج، أنه أخبره عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: طلق عمرُ بنُ الخطاب امرأتَه الأنصارية أمَّ ابنه عاصم، فلقيها تَحمِلُه بمحسر، وقد فُطِمَ ومشى، فأخذ بيده لينتزعهُ منها، ونازعها إياه حتَّى أوجعَ الغلام وبكى، وقال:أنا أحقُّ بإبني مِنْكِ، فاختصما إلى أبي بكر، فقضى لها بِهِ وقال: ريحُها وفِراشُها وحجرُهَا خيرٌ له منك حتى يَشِبَّ ويختارَ لنفسه، ومحسر: سوق بين قباء والمدينة.

وذكر عن الثوري، عن عاصم، عن عكرمة قال: خاصمتِ امرأةُ عُمَرَ عُمَرَ إلى أبي بكر رضي الله عنه، وكان طلّقها، فقالَ أبو بكر رضي الله عنه: الأم أعطفُ، وألطفُ، وأرحمُ، وأحنى، وأرأف، هي أحقُّ بولدها ما لم تتزوج.
وذكر عن معمر قال: سمعتُ الزهريَّ يقول: إن أبا بكر قضَى على عُمَرَ في ابنه مع أمِّه، وقال: أمُّهُ أحقُّ به ما لم تتزوج.فإن قيل: فقد اختلفت الروايةُ: هل كانت المنازعةُ وقعت بينَه وبينَ الأم أولاً،ثم بينه وبين الجدة،أو وقعت مرة واحدة بينه وبين إحداهما.
قيل:الأمر فى ذلك قريب،لأنها إن كانت من الأم فواضح،وإن كانت من الجدة،فقضاء الصديق رضى الله عنه لها يدل على أن الأم أولى.
فصل
والولاية على الطفل نوعان: نوع يقدم فيه الأبُ على الأم ومن في جهتها، وهي ولاية المال والنكاح، ونوعٌ تُقدَّم فيه الأم على الأب، وهي ولايةُ الحضانة والرضاع، وقُدِّمَ كُلٌّ من الأبوين فيما جعل له من ذلك لتمام مصلحة الولد، وتوقف مصلحته على من يلي ذلك من أبويه، وتحصل به كفايته.

ولما كان النساءُ أعرفَ بالتربية، وأقدرَ عليها، وأصبَر وأرأفَ وأفرغ لها،لذلك قُدِّمَتِ الأم فيها على الأب.
ولما كان الرجالُ أقومَ بتحصيل مصلحةالولدوالاحتياط له في البضع، قُدِّمَ
الأبُ فيها على الأم، فتقديمُ الأم في الحضانة مِن محاسن الشريعة والاحتياط للأطفال، والنظر لهم، وتقديمُ الأب في ولاية المال والتزويج كذلك.
إذا عُرِفَ هذا، فهل قُدِّمتِ الأُمُّ لكون جهتها مقدمةً على جهة الأبوة في الحضانة، فقدمت لأجل الأمومة، أو قُدِّمت على الأب، لكون النساء أقوم بمقاصد الحضانة والتربية من الذكور، فيكون تقديمُها لأجل الأنوثة؟ ففي هذا للناس قولان وهما في مذهب أحمد يظهر أثرهُما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم أو بالعكس، كأم الأم، وأم الأب، والأخت من الأب، والأخت من الأم، والخالة، والعمة، وخالة الأم، وخالة الأب، ومن يُدلي من الخالات والعمات بأم، ومن يُدلي منهن بأب، ففيه روايتان عن الإِمام أحمد. إحداهما تقديمُ أقاربِ الأم على أقاربِ الأبِ. والثانية وهيَ أصحُّ دليلاً، واختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية: تقديمُ أقارب الأب وهذا هو الذي ذكره الخرقي في "مختصره" فقال والأختُ من الأب أحقُّ من الأخت من الأم وأحقُّ من الخالة، وخالة الأب أحقُّ مِن خالة الأم، وعلى هذا فأمُّ الأبِ مقدَّمة على أمِّ الأم كما نصَّ عليه أحمد في إحدى الروايتين عنه..
وعلى هذه الرواية: فأقاربُ الأب من الرجال مقدَّمون على أقارب الأم، والأخ للأب أحق من الأخ للأم،والعم أولى من الخال،هذا إن قلنا:إن لأقارب الأم من الرجال مدخلاً في الحضانة، وفي ذلك وجهان في

مذهب أحمد والشافعي. أحدهما: أنه لا حضانة إلا لرجل مِن العصبة مَحْرَمٍ، أو لامرأة وارثة،أو مُدلية بعصبة، أو وارث..
والثاني: أن لهم الحضانة والتفريع على هذا الوجه، وهو قولُ أبي حنيفة،
وهذا يدل على رجحان جهة الأبوة على جهة الأمومة في الحضانة، وأن الأم إنما قدِّمت لكونها أنثى لا لتقديم جهتها، إذ لو كان جهتها راجحةً لترجَّحَ رجالها
ونساؤها على الرجالِ والنساءِ من جهة الأب، ولما لم يترجَّح رجالُها اتفاقاًفكذلك النساء، وما الفرقُ المؤثر؟وأيضاً فإن أصولَ الشرع وقواعِدَهُ شاهدةٌ بتقديم أقارب الأب في الميراث، وولاية النكاح، وولاية الموت وغير ذلك، ولم يُعهد في الشرع تقديمُ قرابة الأم على قرابة الأب في حكم من الأحكام، فمن قدَّمها في الحضانة، فقد خرج عن موجب الدليل.
فالصوابُ في المأخذ هو أن الأم إنما قُدِّمت، لأن النساءَ أرفقُ بالطفل، وأخبرُ بتربيته، وأصبرُ على ذلك، وعلى هذا فالجدَّةُ أم الأب أولى من أمِّ الأم، والأخت للأب أولى مِن الأخت للأم، والعمةُ أولى من الخالة، كما نصَّ عليه أحمد في إحدى الروايتين، وعلى هذا فتقدَمُ أتمُ الأب على أب الأب، كما تُقدَّم الأم على الأب.
وإذا تقرر هذا الأصل، فهو أصل مطَّرِد منضبط لا تتناقض فروعُه، بل إن اتفقت القرابةُ والدرجةُ واحدة قُدِّمت الأنثى على الذكر، فتُقدَّم الأخت على الأخ، والعمة على العم، والخالة على الخال، والجدةُ على الجد، وأصلُه تقديم الأم على الأب.
وإن اختلفت القرابةُ، قُدِّمت قرابةُ الأب على قرابة الأم، فتقدم

الأخت للأب على الأخت للأم، والعمة على الخالة، وعمةُ الأب على خالته، وهلم جراً.
وهذا هو الاعتبارُ الصحيح، والقياسُ المطرد، وهذا هو الذي قضى به سيِّدُ قُضاةِ الإِسلام شريح، كما روى وكيع في "مصنفه" عن الحسن بن عقبة، عن سعيد بن الحارث قال: اختصم عمُّ وخالٌ إلى شُريح في طفل، فقضى به للعم، فقال الخال: أنا أُنفق عليه من مالي، فدفعه إليه شريح.
ومن سلكَ غيرَ هذا المسلك لم يجد بداً من التناقض، مثاله: أن الثلاثة وأحمد في إحدى روايتيه، يُقدِّمُون أم الأم على أم الأب، ثم قال الشافعي في ظاهر مذهبه، وأحمد في المنصوص عنه: تُقدَّم الأخت للأب على الأخت للأم، فتركوا القياسَ، وطرَّده أبو حنيفة، والمزني، وابن سريج، فقالوا: تُقدَّم الأختُ للأم على الأخت للأب. قالوا: لأنها تُدلي بالأم، والأخت للأب بالأب، فلما قُدِّمَت الأم على الأب، قُدِّمَ من يُدلي بها على من يُدلي به، ولكن هذا أشدُّ تناقضاً من الأول لأن أصحاب القول الأول جَرَوْا على القياس والأصول في تقديمِ قرابة الأب على قرابة الأم، وخالفوا ذلك في أم الأم وأم الأب، وهؤلاء تركوا القياسَ في الموضعينِ، وقدَّموا القرابةَ التي أخَّرها الشرعُ، وأخَّروا القرابةَ التي قدَّمها، ولم يمكنهم تقديمُها في كُلِّ موضع، فقدَّموها في موضع، وأخَرُوها في غيرهِ مع تساويهما، ومن ذلك تقديمُ الشافعي في الجديد الخالةَ على العمة مع تقديمه الأخت للأب على الأخت للأم، وطرَّد قياسه في تقديم أم الأم على أم الأب، فوجب تقديمُ الأخت للأم، والخالة على الأخت للأب والعمة، وكذلكَ مَنْ قَدَّمَ مِن أصحاب أحمد الخالَة على العمة، وقدَّمَ الأخت للأب على الأخت للأم، كقول القاضي وأصحابه،وصاحب "المغني"

فقد تناقضوا.
فإن قيل: الخالةُ تُدلي بالأم، والعمة تُدلي بالأب، فكما قدِّمتِ الأم على الأب، قُدِّم من يُدلي بها، ويزيدُه بياناً كونُ الخالة أمّاً كما قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالعمةُ بمنزلة الأب. قيل: قد بينا أنه لم يقدم الأم على الأب لقوة الأمومة، وتقديم هذه الجهة، بل لكونها أنثى، فإذا وُجِدَ عمةٌ وخالة، فالمعنى الذي قُدِّمَتْ له الأم موجود فيهما، وامتازت العمةُ بأنها تُدلي بأقوى القرابتين، وهي قرابةُ الأب، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بابنة حمزة لخالتها، وقال: "الخَالةُ أُم"حيث لم يكن لها مزاحم مِن أقارب الأب تُساويها في درجتها.
فإن قيل: فقد كان لها عمة وهى صفيةُ بنت عبد المطلب أختُ حمزة، وكانت إذ ذاك موجودة في المدينة، فإنها هاجرت، وشهدت الخندقَ، وقتلت رجلاً مِن اليهود كان يطوفُ بالحِصن الذي هي فيه، وهي أوَّل امرأة قتلت رجلاً من المشركين، وبقيت إلى خلافة عمر رضي الله عنه، فقدَّم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخالة عليها، وهذا يدلُّ على تقديم من في جهة الأم على من في جهة الأب.
قيل: إنما يدلُّ هذا إذا كانت صفية قد نازعت معهم، وطلبت الحضانة،
فلم يقض لها بها بعد طلبها، وقدَّم عليها الخالة، هذا إذا كانت لم تمنع منها لعجزها عنها، فإنها تُوفيت سنة عشرين عن ثلاث وسبعين سنة، فيكون لها وقتَ هذه الحكومة بِضعٌ وخمسون سنة، فيحتمِلُ أنها تركتها لعجزها عنها، ولم تطلبها مع قدرتها، والحضانةُ حقّ للمرأة، فإذا تركتها، انتقلت إلى غيرها.
وبالجملة: فإنما يدل الحديث على تقديم الخالة على العمة إذا ثبت

أن صفيةَ خاصمت في ابنة أخيها، وطلبت كفالَتها، فقدَّم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخالة، وهذا لا سبيلَ إليه.
فصل
ومن ذلك أن مالكاً لما قدَّم أمَّ الأم على أمِّ الأب، قدم الخالةَ بعدها على الأب وأمه، واختلف أصحابه في تقديم خالة الخالة على هؤلاء، على وجهين، فأحدُ الوجهين: تقديم خالة الخالة على الأب نفسِه، وعلى أمه، وهذا في غاية البعد، فكيف تُقدم قرابةُ الأم وإن بعدت على الأب نفسه، وعلى قرابته مع أن الأبَ وأقاربه أشفقُ على الطفل، وأرعى لمصلحة من قرابة الأم؟ فإنه ليس إليهم بحال، ولا يُنسب إليهم، بل هو أجنبيٌّ منهم، وإنما نسبه وولاؤه إلى أقاربِ أبيه، وهم أولى به، يعقِلُون عنه، وينفقون عليه عند الجمهور، ويتوارثون بالتعصيب وإن بعدتِ القرابةَ بينهم بخلاف قرابةِ الأم، فإنه لا يثبتُ فيها ذلك، ولا توارُثَ فيها إلا في أمهاتها، وأول درجة مِن فروعها، وهم ولدُها، فكيف تقدم هذه القرابة على الأب، ومن في جهته، ولا سيما إذا قيل بتقديم خالة الخالة على الأب نفسه وعلى أمه، فهذا القولُ مما تأباه أصولُ الشريعة وقواعِدُها.
وهذا نظيرُ إحدى الروايتين عن أحمد في تقديم الأخت على الأم، والخالة على الأب، وهذا أيضاً في غاية البعد، ومخالفة القياس..وحجة هذا القول: أن كلتيهما تُدليان بالأم المقدمة على الأب، فتُقدمان
عليه، وهذا ليس بصحيح، فإن الأم لما ساوت الأب في الدرجة، وامتازت عليه بكونها أقومَ بالحضانة، وأقدرَ عليها وأصبرَ، قُدِّمَتْ عليه، وليس كذلك الأختُ من الأم، والخالةُ مع الأب، فإنهما لا

يُساويانه، وليس أحدٌ أقربَ إلى ولده منه، فكيف تُقَدَّمُ عليه بنتُ امرأته، أو أختها؟ وهل جعل الله الشفقة فيهما أكمل منه؟
ثم اختلف أصحاب الإِمام أحمد في فهم نصه هذا على ثلاثة أوجه.
أحدها: إنما قدمها على الأب لأنوثتها، فعلى هذا تُقدَّمُ نساء الحضانة علىكل رجل، فتُقدَّمُ خالة الخالة وإن علت، وبنت الأخت على الأب.
الثاني: أن الخالةَ والأخت للأم لم تدليا بالأب، وهما من أهل الحضانة،
فَتُقدَّمُ نساءُ الحضانة على كل رجلٍ إلا على من أدلين به، فلا تُقدمن عليه، لأنهن فرعه، فعلى هذا الوجه لا تُقَدَّم أمُّ الأب على الأب، ولا الأخت والعمة عليه، وتقدم عليه أم الأم، والخالة، والأخت للأم، وهذا أيضاً ضعيف جداً، إذ يستلزِمُ تقديم قرابة الأم البعيدة على الأب وأمه، ومعلوم أن الأبَ إذا قُدِّمَ على الأخت للأب فتقديمُه على الأخت للأم أولى، لأن الأخت للأب مقدمة عليها، فكيف تُقدَّم على الأب نفسه؟ هذا تناقض بيِّن..
الثالث: تقديمُ نساء الأم على الأب وأمهاته وسائر مَن في جهته، قالوا:.
فعلى هذا، فكل امرأة في درجة رجل تُقَدَّمُ عليه، ويُقدَّم من أدلى بها على من أدلى بالرجل، فلما قُدِّمَتِ الأمُّ على الأب وهي في درجته قدمت الأخت من الأم على الأخت من الأب، وقُدِّمَتِ الخالة على العمة. هذا تقرير ما ذكره أبو البركات بن تيمية في "محرره" من تنزيل نص أحمد على هذه المحامل الثلاث، وهو مخالف لعامة نصوصه في تقديمِ الأخت للأب على الأخت للأم، وعلى الخالة، وتقديم خالة الأب على خالة الأم، وهو الذي لم يذكر الخرقي فى"مختصره" غيره، وهو الصحيحُ، وخرجها ابنُ عقيل على الروايتين في أم الأم، وأم الأب، ولكن نصه ما ذكره الخرقي، وهذه الرواية التي حكاها صاحب "المحرر"

ضعيفة مرجوحة، فلهذا جاءت فروعُها ولوازِمُها أضعفَ منها بخلاف سائر نصوصه في جادة مذهبه.
فصل
وقد ضبط بعض أصحابه هذا البابَ بضابط، فقال: كُلُّ عصبة، فإنه يقدَّمُ على كل امرأة هي أبعدُ منه، ويتأخر عمن هي أقربُ منه، وإذا تساويا، فعلى وجهين. فعلى هذا الضابط يُقدَّمُ الأب على أمه، وعلى أم الأم ومن معها، ويُقدَّم الأخ على ابنته وعلى العمة، والعم على عمة الأب، وتقدَّم أمُ الأب على جد الأب، في تقديمها على أب الأب وجهان. وفي تقديم الأخت للأب على الأخ للأب وجهان، وفي تقديم العمة على العم وجهان.
والصواب: تقديم الأنثى مع التساوي، كما قُدِّمَتِ الأمُّ على الأب لما استويا، فلا وجه لتقديم الذكر على الأنثى مع مساواتها له، وامتيازِها بقوة أسباب الحضانة والتربية فيها.واختُلفَ في بنات الإخوة والأخوات، هل يُقدمن على الخالات والعمات،أو تقدم الخالاتُ والعماتُ عليهن؟ على وجهين مأخذهُما: أن الخالة والعمة تُدليان بأخوة الأم والأب، وبنات الإخوة والأخوات يُدلين ببنوة الأب، فمن قدَّم بنات الإِخوة، راعى قوة البنوة على الأخوة، وليس ذلك بجديد، بل الصوابُ تقديم العمة والخالة لوجهين.
أحدهما: أنها أقرب إلى الطفل من بنات أخيه، فإن العمة أخت أبيه، وابنةالأخ ابنة ابن أبيه، وكذلك الخالةُ أخت أمه، وبنت الأخت من

الأم، أو لأب بنت بنت أمه أو أبيه، ولا ريبَ أن العمة والخالة أقرب إليه من هذه القرابة.
الثاني: أن صاحبَ هذا القول إن طرَّد أصله، لزمه ما لا قبل له به من تقديم بنت بنت الأخت وإن نزلت على الخالة التي هي أم، وهذا فاسدٌ من القول، وإن خصَّ ذلك ببنت الأخت دون من سفل منها، تناقض.
واختلف أصحابُ أحمد أيضاً في الجد والأخت للأب أيهما أولى؟ فالمذهب: أن الجدَّ أولى منها وحكى القاضي في"المجرد" وجهاً: أنها أولى منه، وهذا يجيء على أحد التأويلات التي تأوَّل عليها الأصحابُ نص أحمد، وقد تقدمت.
فصل
ومما يُبين صحة الأصل المتقدِّم أنهم قالوا: إذا عَدِمَ الأمهات، ومن في جِهَتِهِنَّ، انتقلت الحَضَانةُ إلى العصبات، وقُدِّمَ الأقربُ فالأقربُ منهم، كما في الميراث، فهذا جارٍ على القياس، فيقال لهم: هَلاَّ راعيتُم هذا في جنس القرابة، فقدمتم القرابة القوية الراجحةَ على الضعيفة المرجوحة كما فعلتم في العصبات؟
وأيضاً فإن الصحيح في الأخوات عندكم أنه يُقدَّم منهن من كانت لأبوين،ثم من كانت لأب، ثم من كانت لأم، وهذا صحيح موافق للأصول والقياس، لكن إذا ضمَّ هذا إلى قولهم بتقديم قرابة الأم على قرابة الأب جاء التناقضُ، وتلك الفروعُ المشكلة المتناقضة.
وأيضاً فقد قالوا بتقديم أمهاتِ الأبِ والجدِّ على الخالات والأخواتِ

للأم،وهو الصوابُ الموافقُ لأصول الشرع، لكنه مناقض لِتقديمهم أمهاتِ الأم على أمهاتِ الأب، ويُناقض تقديم الخالة والأخت للأم على الأب، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله، والقول القديم للشافعي. ولا ريب أن القول به أطردُ للأصل، لكنه في غاية البُعد من قياس الأصول كما تقدم، ويلزمهم من طَرْده أيضاً تقديمُ من كان من الأخوات لأم على من كان منهن لأب، وقد التزمه أبو حنيفة، والمزني، وابنُ سريج، ويلزمهم مِن طَرْدهِ أيضاً تقديمُ بنت الخالة على الأخت للأب، وقد التزمه زفر، وهو رواية عن أبي حنيفة، ولكن أبو يوسف استشنع ذلك، فقدَّم الأخت للأب كقول الجمهور، ورواه عن أبي حنيفة.
ويلزمهم أيضاً من طرده تقديم الخالة والأخت للأم على الجدة أم الأب،
وهذا في غاية البعد والوهن، وقد التزمه زفر، ومثلُ هذا من المقاييس التي حذر منها أبو حنيفة أصحابه، وقال لا تأخذوا بمقاييس زفر، فإنكم إن أخذتم بمقاييس زفر حرَّمْتُمُ الحَلاَلَ، وحلَّلتمُ الحَرَامَ..
فصل
وقد رام بعضُ أصحاب أحمد ضبط هذا الباب بضابط زعم أنه يتخلَّص بِه مِن التناقض، فقال: الاعتبارُ في الحضانة بالولادة المتحققة وهي الأمومة، ثم الولادة الظاهرة وهي الأبوة، ثم الميراث. قال: ولذلك تُقدَّمُ الأخت من الأب على الأخت من الأم، وعلى الخالة، لأنها أقوى إرثاً منهما. قال: ثم الإِدلاء، فتقدَّم الخالة على العمة لأن الخالة تدلي بالأم، والعمة تدلي بالأب، فذكر أربع أسباب للحضانة مرتبة: الأمومة، ثم بعدها الأبوة، ثم بعدها الميراث، ثم الإِدلاء، وهذه طريقة صاحب "المستوعب"،

وما زادتهُ هذه الطريقةُ إلا تناقضاًوبعداً عن قواعد الشَّريعة، وهي من أفسد الطرق، وإنما يتبينُ فسادُها بلوازمها الباطلة، فإنه إن أراد بتقديم الأمومة على الأبوة تقديمَ من في جهتها على الأب ومَنْ في جهته، كانت تلك اللوازم الباطلة المتقدمة من تقديم الأخت للأم، وبنت الخالة على الأب وأمه، وتقديم الخالة على العمة، وتقديم خالة الأم على الأب وأمه، وتقديم بنات الأخت من الأم على أم الأب، وهذا مع مخالفته لِنصوص إمامه، فهو مخالفٌ لأصول الشرع وقواعده.
وإن أراد أن الأم نفسها تُقَدَّمُ على الأب، فهذا حق لكن الشأن في مناط هذا التقديم: هل هو لكون الأم ومن في جهتها تقدم على الأب ومن في جهته، أو لكونها أنثى في درجة ذكر، وكل أنثى كانت في درجة ذكر قُدِّمَتْ عليه مع تقديم قرابة الأب على قرابة الأم؟ وهذا هو الصواب كما تقدم، وكذلك قولُه "ثم الميراث" إن أراد به أن المقدَم في الميراث مقدم في الحضانة فصحيح، وطرده تقديمُ قرابة الأب على قرابة الأم، لأنها مقدَّمة عليها في الميراث، فتقدم الأختُ على العمة والخالة. وقوله وكذلك تقديمُ الأخت للأب على الأخت للأم، والخالة، لأنها أقوى إرثاً منهما، فيقال:لم يكن تقديمُها لأجل الإِرث وقوته، ولو كان لأجل ذلك، لكان العصبات أحقَّ بالحضانة من النساء، فيكون العمُّ أولى مِن الخالة والعمة، وهذا باطل..
فصل
وقد ضبط الشيخ في "المغني" هذا الباب بضابط آخر فقال: فصل في بيان الأولى فالأولى من أهل الحضانة عند اجتماع الرجال والنساء

وأولى الكلّ بها: الأمُّ، ثم أمهاتُها وإن علون يُقدَّم منهن الأقرب فالأقرب لأنهن نساء ولادتهن متحققة، فهن في معنى الأم: وعن أحمد، أن أم الأب وأمهاتِها يُقدّمن على أم الأم، فعلى هذه الرواية يكون الأب أولى بالتقديم، لأنَّهنَّ يُدلين به، فيكون الأب بعد الأم، ثم أمهاته، والأولى هي المشهورة عند أصحابنا، فإن المقدَّم الأم، ثم أمهاتها، ثم الأب، ثم أمهاتُه، ثم الجدُّ، ثم أمهاتُه، ثم جدُّ الأب، ثم أمهاتُه، وإن كن غيرَ وارثات لأنهن يُدلين بعصبةٍ مِن أهل الحضانة، بخلاف أمِّ أب الأم. وحُكي عن أحمد رواية أخرى: أن الأختَ من الأم والخالة أحقّ من الأب، فتكون الأختُ من الأبوين أحقَّ منه، ومنهما، ومن جميع العصبات، والأولى هي المشهورة من المذهب، فإذا انقرض الآباء والأمهات، انتقلت الحضانة إلى الأخوات وتُقدّمُ الأختُ من الأبوين، ثم الأختُ من الأب، ثم الأختُ من الأم، وتقدَّمُ الأخت على الأخ لأنها امرأة من أهل الحضانة، فَقُدِّمَتْ على مَن في درجتها من الرجال، كالأم تُقدَّمُ على الأب، وأمُّ الأب على أب الأب، وكُل جدة في درجة جد تُقدَّمُ عليه لأنها تلي الحَضانة بنفسها، والرجلُ لا يليها بنفسه..
وفيه وجه آخر: أنه يقدم عليها لأنه عصبة بنفسه، والأول أولى، وفي تقديم الأخت من الأبوين، أو من الأب على الجد وجهان، وإذا لم تكن أخت فالأخ للأبوين أولى، ثم الأخُ للأب، ثم ابناهما، ولا حَضانة للأخ من الأمِّ لما ذكرنا..
فإذا عدموا، صارت الحضانةُ للخالات على الصحيح، وترتيبُهن فيها كترتيبِ الأخوات، ولا حضانةَ للأخوال، فإذا عدموا، صارت للعمات ويقدَّمن على الأعمام كتقديمِ الأخوات على الإِخوة، ثم للعم للأبوين،

ثم للعم للأب، ولا حضانة للعم من الأم، ثم ابناهما، ثم إلى خالاتِ الأب على قول الخرقي، وعلى القول الآخر: إلى خالات الأم، ثم إلى عمات الأب، ولا حَضانة لعمات الأم، لأنهن يُدلين بأب الأم، ولا حضانة له. وإن اجتمع شخصانِ أو أكثر مِن أهل الحضانة في درجة قدِّمَ المستحق منهم بالقرعة، انتهى كلامه..
وهذا خيرٌ مما قبله من الضوابط، ولكن فيه تقديمُ أم الأم وإن علت علىالأب وأمهاته، فإن طَرَّدَ تقديم من في جهة الأم على من في جهة الأب جاءت تلك اللوازمُ الباطلة، وهو لم يُطرده، وإن قَدَّمَ بعضَ من في جهة الأب على بعض من في جهة الأم كما فعل، طولِبَ بالفرق، وبمَنَاط التقديم.وفيه إثباتُ الحضانة للأخت من الأم دون الأخِ مِن الأم، وهو في درجتها ومساوٍ لها من كل وجه، فإن كان ذلك لأنوثتها وهو ذكر، انتقض برجال العصبة كلهم، وإن كان ذلك لكونه ليس مِن العصبة، والحضانة لا تكون لرجل إلا أن يكون مِن العصبةِ. قيل: فكيف جعلتمُوها لِنساء ذوىَ الأرحام مع مساواتِ قرابتهن لقرابة مَنْ في درجتهن من الذكورِ من كل وجه؟ فإما أن تعتبِرُوا الأنوثة فلا تجعلُوها للذكر، أو الميراثَ فلا تجعلُوها لغير وارث، أو القرابة فلا تمنعوا منها الأخَ من الأم والخال وأبا الأم، أو التعصيبَ، فلا تعطوها لغير عصبة.
فإن قلتم: بقي قسم آخر وهو قولنا، وهو اعتبار التعصيب في الذكور والقرابة في النساء.
قيل: هذا مخالف لباب الولايات، وباب الميراث، والحضانة وِلاية على الطفل، فإن سلكتم بها مسلكَ الولايات، فخصُّوها بالأب والجد،

وإن سلكتم بها مسلكَ الميراث، فلا تُعطوها لغير وارث، وكلاهما خلاف قولكم وقولِ الناس أجمعين..
وفي كلامه أيضاً: تقديمُ ابن الأخ وإن نزلت درجتُه على الخالة التي هي أم،وهو في غاية البعد، وجمهورُ الأصحاب إنما جعلوا أولاد الإِخوة بعد أب الأب والعمات وهو الصحيح، فإن الخالة أختُ الأم، وبها تُدلي، والأمُّ مقدَّمة على الأب، وابنُ الأخ إنما يُدلي بالأخ الذي يُدلي بالأب، فكيف يقدَّمُ على الخالة، وكذا العمةُ أختُ الأب وشقيقتُه، فكيف يقدمُ ابنُ ابنه عليها.
وقد ضبط هذا البابَ شيخُنا شيخُ الإِسلام ابن تيمية بضابط آخر. فقال:أقربُ ما يُضبط به بابُ الحضانة أن يقال: لما كانت الحضانة ولايةً تعتمد الشفقة والتربية والملاطفة كان أحق الناس بها أقومَهم بهذه الصفات وهم أقاربُه يقدَّم منهم أقربهم إليه وأقومُهم بصفات الحضانة. فإن إجتمع منهم اثنان فصاعداً، فإن استوت درجتهم قُدِّم الأنثى على الذكر، فتُقدَّم الأمُّ على الأب، والجدة علىالجد، والخالة على الخال، والعمة على العم، والأخت على الأخ. فإن كانا ذكرين أو انْثَيَيْن، قُدِّمَ أحدهما بالقرعة يعني مع استواء درجتهما، وإن اختلفت درجتُهُما من الطفل، فإن كانوا من جهة واحدة، قُدمَ الأقرب إليه، فتقدَّمُ الأخت على ابنتها، والخالةُ على خالة الأبوين، وخالةُ الأبوين على خالة الجد والجدة، والجد أبو الأم على الأخ للأم، هذا هو الصحيحُ لأن جهة الأبوة والأمومة في الحضانة أقوى مِن جهة الأخوة فيها. وقيل: يقدم الأخ للأم لأنه أقوى من أب الأم في الميراث. والوجهان في مذهب أحمد.
وفيه وجه ثالث: أنه لا حضانة للأخ من الأم بحال، لأنه ليس من العصبات،

ولا من نساء الحضانة، وكذلك الخالُ أيضاً، فإن صاحب هذا الوجه يقولُ: لا حضانة له، ولا نِزاع أن أبا الأم وأمهاته أولى مِن الخال وإن كانوا من جهتين، كقرابة الأم وقرابة الأب مثل العمة والخالة، والأخت للأب، والأخت للأم، وأم الأب، وأم الأم، وخالة الأب، وخالة الأم قدِّم من في جهة الأب في ذلك كله على إحدى الروايتين فيه. هذا كلهُ إذا استوت درجتهم، أو كانت جهة الأب أقربَ إلى الطفل، وأما إذا كانت جِهةُ الأم أقرب، وقرابة الأب أبعد، كأم الأم، وأم أب الأب، وكخالة الطفل، وعمة أبيه، فقد تقابل الترجيحان، ولكن يُقدّمُ الأقربُ إلى الطفل لقوة شفقته وحنِّوه على شفقة الأبعد، ومن قَدَّم قرابةَ الأب، فإنما يُقدِّمها مع مساواةِ قرابة الأم لها، فأما إذا كانت أبعدَ منها، قُدمت قرابةُ الأم القريبة، وإلا لزم مِن تقديم القرابة البعيدة لوازم باطلة لا يقولُ بها أحد، فبهذا الضابِطِ يُمكن حصرُ جميع مسائل هذا الباب وجريها على القياس الشرعي، واطرادها وموافقتها لأصول الشرع، فأي مسألة وردت عليك أمكَن أخذُها من هذا الضابط مع كونه مقتضى الدليل، ومع سلامتِهِ من التناقض ومناقضة قياس ا لأصول، وبالله التوفيق.
فصل
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أنتِ أحق به ما لم تنكحي" فيه دليل على أن الحَضانة حقّ للأم، وقد اختلف الفقهاءُ، هل هي للحاضن أم عليه؟ على قولين في مذهب أحمد ومالك، وينبني عليهما هل لمن له الحَضانة أن يُسقِطَها فينزل عنها؟ على قولين.. وأنه لا يجب عليه خدمةُ الولد أيامَ حَضانته

إلا بالأجرة إن قلنا:الحق له، وإن قلنا الحق عليه، وجب خدمته مجاناً. وإن كان الحاضن فقيراً، فله الأجرةُ على القولين.
وإذا وهبت الحضانة للأب، وقلنا: الحق لها، لزمت الهبة ولم ترجع فيها،وإن قلنا: الحق عليها، فلها العود إلى طلبها.والفرق بين هذه المسألة وبين ما لم يثبت بعد كهبة الشفعة قبل البيع حيث لاتلز م في أحد القولين: أن الهبة في الحضانة قد وُجِدَ سببُها، فصار بمنزلة ما قد وجد، وكذلك إذا وهبت المرأةُ نفقتها لزوجها شهراً ألزمت الهبة، ولم ترجع فيها. هذا كلهُ كلام أصحابِ مالك وتفريعهم، والصحيحُ أن الحضانة حق لها، وعليها إذا احتاج الطفل إليها، ولم يُوجد غيرُها، وإن اتفقت هي، وولي الطفل على نقلها إليه جاز، والمقصودُ أن في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"أنت أحق به"، دليلاً على أن الحضانة حقّ لها.
فصل
وقوله "ما لم تنكحي"، اختلف فيه: هل هو تعليل أو توقيت، على قولين ينبغي عليهما: ما لو تزوَّجت وسقطت حضانتها، ثم طُلِّقت، فهل تعودُ الحضانة؟ فإن قيل: اللفظُ تعليل، عادت الحضانة بالطلاق، لأن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، وعلة سقوط الحضانة التزويج، فإن طلقت، زالت العلة، فزال حكمها، وهذا قولُ الأكثرين، منهم: الشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة.
ثم اختلفوا فيما إذا كان الطلاق رجعياً، هل يعودُ حقُّها بمجرده، أو يتوقف عودُها على انقضاء العدة؟ على قولين، وهما في مذهب أحمد

والشافعي، أحدهما: تعود بمجرده، وهو ظاهر مذهب الشافعي. والثاني: لا تعود حتى تنقضيَ العدةِ، وهو قول أبي جنيفة والمزني، وهذا كله تفريع على أن قوله: ما لم تنكحي " تعليل، وهو قولُ الأكثرين. وقال مالك في المشهور من مذهبه: إذا تزوجت ودخل بها، لم يَعُد حقها من الحضانة، وإن طلقت، قال بعضُ أصحابه: وهذا بناء على أن قوله: "ما لم تنكحي "، للتوقيت أي: حقك من الحضانة مُوقّت إلى حين نكاحك، فإذا نكحت، انقضى وقت الحضانة، فلا تعودُ بعد انقضاء وقتها، كما لو انقضى وقتُها ببلوغ الطفل واستغنائه عنها. وقال بعض أصحابه: يعودُ حقها إذا فارقها زوجُها، كقول الجمهور، وهو قول المغيرة، وابن أبي حازم. قالُوا: لأن المقتضي لحقها من الحضانة هو قرابتُها الخاصة، وإنما عارضها مانع النكاح لما يُوجبه من إضاعة الطفل، واشتغالها بحقوقِ الزوج الأجنبي منه عن مصالحه، ولما فيه من تغذيته وتربيته في نعمة غير أقاربه، وعليهم في ذلك مِنَّةٌ وغَضَاضَة، فإذا انقطع النكاحُ بموتٍ، أو فُرقةٍ، زال المانع، والمقتضي قائم، فترتب عليه أثره، وهكذا كُلُّ من قام به من أهل الحضانة مانع منها، ككفر، أورِق، أو فسق، أو بدو، فإنه لا حضانة له، فإن زالت الموانعُ، عاد حقُّهم من الحضانة، فهكذا النكاح والفرقة.
وأما النزاعُ في عود الحضانة بمجرد الطلاق الرجعي، أو بوقفه على انقضاء العدة، فمأخذُه كون الرجعية زوجة في عامة الأحكام، فإنه يثبت بينهما التوارثُ والنفقة، ويَصِحُّ منها الظهارُ والإيلاء: ويحرم أن يَنكحَ عليها أختها، أو عمتها، أو خالتها، أو أربعاً سواها، وهي زوجة، فمن راعى ذلك، لم تعد إليها الحضانة بمجرد الطلاق الرجعي حتى تنقضي العدة، فتبينُ حينئذ، ومن أعاد الحضانة بمجرد الطلاق، قال:

قد عزلها عن فِراشه، ولم يبق لها عليه قَسْمّ، ولا لها به شغل، والعِلة التي سقطت الحضانة لأجلها قد زالت بالطلاق، وهذا هو الذي رجحه الشيخ في "المغني " وهو ظاهر كلام الخرقي، فإنه قال: وإذا أخذ الولد من الأم إذا تزوجت ثم طلقت، رجعت على حقها من كفالته..
فصل
وقوله "ما لم تنكحي"، اختُلِفَ فيه: هل المراد به مجرد العقد، أو العقد مع الدخول؟ وفي ذلك وجهان. أحدهما: أن بمجرد العقد تزول حضانتها، وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة، لأنه بالعقد يَملِكُ الزوج منافع الاستمتاع بها، ويَملِك نفعها من حضانة الولد. والثاني: أنها لا تزول إلا بالدخول، وهو قولُ مالك، فإن بالدخول يتحقق اشتغالها عن الحضانة، والحديث يحتمل الأمرين، والأشبه سقوطُ حضانتها بالعقد، لأنها حينئذ صارت في مظنة الاشتغال عن، الولد والتهيؤ للدخول، وأخذها حينئذ في أسبابه، وهذا قولُ الجمهور.
فصل
واختلف الناسُ في سقوط الحضانة بالنكاح، على أربعة أقوال.
أحدُها: سقوطها به مطلقاً، سواء كان المحضون ذكراً، أو أنثى، وهذا مذهب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كلُ من أحفظ عنه من أهل العلم، وقضى به شريح..

والقولُ الثاني: أنها لا تسقطُ بالتزويج بحال، ولا فرق في الحضانة بين الأيِّم وذوات البعل، وحُكي هذا المذهبُ عن الحسن البصري، وهو قول أبي محمد ابن حزم.
القول الثالث: أن الطفل إن كان بنتاً لم تسقط الحضانة بنكاح أمها، وإن كان ذكراً سقطت، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله نص عليه في رواية مهنا بن يحي الشامي، فقال: إذا تزوجت الأمُّ وابنُها صغير، أُخذَ منها. قيل له: والجارية مثل الصبي؟ قال: لا، الجاريةُ تكون مع أمها إلى سبع سنين. وعلى هذه الرواية: فهل تكون عندها إلى سبع سنين أو إلى أن تبلغ؟ على روايتين. قال ابنُ أبي موسى: وعن أحمد، أن الأم أحقُّ بحضانة البنت وإن تزوجت إلى أن تبلغ.والقول الرابع: أنها إذا تزوجت بنسيب من الطفل لم تسقط حضانتها، ثم اختلف أصحاب هذا القول، على ثلاثة أقوال. أحدها: أن المشترط أن يكون الزوج نسيباً للطفل فقط، وهذا ظاهرُ قولِ أصحاب أحمد. الثاني: أنه يشترط أن يكون مع ذلك ذا رحم محرم، وهو قولُ أصحاب أبي حنيفة. الثالث: أنه يشترط أن يكون بين الزوج وبين الطفل إيلاد، بأن يكون جداً للطفل، وهذا قولُ مالك، وبعض أصحاب أحمد، فهدا تحرير المذاهب في هذه المسألة.
فأما حُجةُ مَنْ أسقط الحضانة بالتزويج مطلقاً، فثلاث حجج:إحداها، حديث عمرو بن شعيب المتقدم ذكره. الثانية: اتفاق الصحابة على ذلك، وقدُ تقدَّم قول الصدِّيق لعمر: هي أحق به ما لم تتزوج، وموافقة عمر له على ذلك، ولا مخالف لهما من الصحابة ألبتة، وقضى به شريح، والقضاة بعده إلى اليوم في سائر الأعصار والأمصار.

الثالثة: ما رواه عبد الرزاق: حدثنا ابن جريج، حدثنا أبو الزبير، عن رجل صالح من أهل المدينة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: كانت امرأةٌ من الأنصار تحتَ رجل من الأنصار، فقُتِلَ عنها يومَ أحد وله منها ولد، فخطبها عمُّ ولدها وَرَجُلٌ آخر إلى أبيها، فأنكح الآخرَ، فجاءت إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: أنكحني أبي رجلاً لا أريدُه، وترك عمَّ ولدي، فيؤخذ مني ولدي، فدعا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أباها، فقال: أنكحت فلاناً فلانة؟ قال: نعم، قال "أَنتَ الذي لا نِكَاحَ لَكَ، اذْهَبِي فَانْكِحِي عمَّ وَلَدِكِ"، فلم ينكر أخذَ الولد منها لما تزوجت، بل أنكحها عم الولد لتبقى لها الحضانة، ففيه دليل على سقوط الحضانة بالنكاح، وبقائها إذا تزوجت بنسيب من الطفل.
واعترض أبو محمد بن حزم على هذا الاستدلال، بأن حديث عمرو بن شعيب صحيفة، وحديث أبي سلمة هذا مرسل، وفيه مجهول. وهذان الاعتراضان ضعيفان، فقد بينا احتجاجَ الأئمة بعمرو في تصحيحهم حديثه، وإذا تعارض معنا في الاحتجاج برجل قولُ ابن حزم، وقولُ البخاري، وأحمد، وابن المديني، والحميدي وإسحاق بن راهويه وأمثالهم، لم تلتفت إلى سواهم.
وأما حديث أبي سلمة هذا، فإن أبا سلمة مِن كبار التابعين، وقد حكى القِصة عن الأنصارية، ولا يُنكر لقاؤه لها، فلا يتحقق الإِرسال، ولو تحقق، فمرسل جيد، له شواهد مرفوعة وموقوفة، وليس الاعتمادُ عليه وحدَه، وعنى بالمجهول الرجل الصالح الذي شهد له أبو الزبير بالصلاح، ولا رَيبَ أن هذه الشهادة لا تُعرِّفُ به، ولكن المجهول إذا عدَّله الراوي عنه الثقة ثبتت عدالته وإن كان واحداً على أصح القولين، فإن التعديلَ من باب

الإِخبار والحكم لا من باب الشهادة،؟ لا سيما التعديل في الرواية، فإنهُ يكتفى فيه بالواحد، ولا يزيد على أصل نصاب الرواية، هذا مع أن أحد القولين: إن مجرد رواية العدل عن غيره تعديل له وإن لم يصرح بالتعديل، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد، وأما إذا روى عنه وصرحِ بتعديله، فقد خرج عن الجهالة التي ترد لأجلها روايته لا سيَّما إذا لم يكن معروفاَ بالرواية عن الضعفاء والمتهمين، وأبو الزبير وإن كان فيه تدليس، فليس معروفاً بالتدليس عن المتهمين والضعفاء، بل تدليسُه من جنس تدليس السلف، لم يكونوا يُدلِّسون عن متهم ولا مجروح، وإنما كثر هذا النوعُ من التدليس في المتأخرين.
واحتج أبو محمد على قوله، بما رواه من طريق البخاري، عن عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس قال: قَدِمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي، وانطلق بي إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله! إن أنساً غلامٌ كيِّسٌ، فَلْيَخْدُمْك. قال: فخدمتُه في السفر والحضر. وذكر الخبر.
قال أبو محمد: فهذا أنس في حضانة أمه، ولها زوج، وهو أبو طلحة بعلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا الاحتجاجُ في غاية السقوط، والخبرُ في غاية الصحة، فإن أحداً من أقارب أنس لم يُنَازعْ أمه فيه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو طفل صغير لم يَثَّغِز، ولم يأكل وحدَه، ولم يشرب وحدَه، ولم يميز، وأمه مزوجة، فحكم به لأمه، وإنما يَتمُّ الاستدلال بهذه المقدمات كلها، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قَدِمَ المدينة كان لأنس

من العمر عشرُ سنين، فكان عند أمه، فلما تزوَّجت أبا طلحة لم يأت أحدٌ من أقارب أنس يُنازعها في ولدها ويقول: قد تزوجتِ فلا حضانةَ لكِ، وأنا أطلبُ انتزاعَه مِنْكِ، ولا ريبَ أنه لا يحرم على المرأة المزوجة حضانةُ ابنها إذا اتفقت هي والزوجُ وأقارب الطفل على ذلك، ولا ريبَ أنه لا يجب، بل لا يجوزَ أن يفرّق بين الأم وولدها إذا تزوجت من غير أن يُخاصمها مَنْ له الحضانة، ويَطْلُب انتزاع الولد، فالاحتجاجُ بهذه القصة من أبعدِ الاحتجاج وأبرده.
ونظيرُ هذا أيضاً، احتجاجُهم بأن أمَّ سلمة لما تزوجت برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تسقط كفالتها لابنها، بل استمرت على حضانتها، فيا عجبا من الذى نازع أمَّ سلمة في ولدها، ورغب عن أن يكون في حجر النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
واحتج لهذا القول أيضاً بأن رسولَ الله ِصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قض بابنة حمزة لخالتها وهي مزوَّجة بجعفر، فلا ريب أن للناسِ في قصة ابنة حمزة ثلاثَ مآخذ.
أحدها: أن النكاحَ لا يُسقط الحضانة. الثاني: أن المحضونةَ إذا كانت بنتاً، فنكاحُ أمهَا لا يُسقِطُ حضانتها، ويسقِطُها إذا كان ذكراً. الثالث: أن الزوج إذا كان نسيباً من الطفل، لم تسقط حضانتها، وإلا سقطت، فالاحتجاجُ بالقصة على أن النكاحَ لا يُسقط الحضانَة مطلقاً لا يَتِمُّ إلا بعدَ إبطال ذينك الاحتمالين الآخرين.
فصل
وقضاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالولد لأمه، وقوله "أنْتِ أحَقُ بِهِ ما لَم تَنْكِحي" ، لا يُستفاد منه عمومُ القضاء لكل أمٍّ حتّى يقضِي به للأم. وإن كانت كافرة،

أو رقيقة، أو فاسقة، أو مسافِرة، فلا يَصحُّ الاحتجاج به على ذلك، ولا نفيُه، فإذا دلّ دليلٌ منفصِلٌ على اعتبار الإِسلام والحرية والديانة والإِقامة، لم يكن ذلك تخصيصاً ولا مخالفة لِظاهر الحديث.
وقد اشترط في الحاضن ستة شروط:
اتفاقهما في الدِّين، فلا حضانة لكافر على مسلم لوجهين.
أحدهما: أن الحاضن حريصٌ على تربيةِ الطفل على دينه، وأن ينشأَ عليه، ويتربَّى عليه، فيصعبُ بعد كِبره وعقله انتقاله عنه، وقد يُغيره عن فطرة الله التي فطر عليها عبادَه، فلا يُراجعها أبداً، كما قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كُلُّ مَوْلُود يولَدُ عَلى الفِطرَةِ فَأَبَواه يَهَوِّدَانِهِ أو يُنَصِّرَانِهِ، أو يُمَجِّسَانِه" فلا يُؤمن تهويدُ الحاضن وتنصيرُه للطفل المسلم.
فإن قيل: الحديثُ إنما جاء في الأبوين خاصة. قيل:الحديث خرجَ مخرج الغالِب إذ الغالب المعتادُ نشوء الطفل بين أبويه، فإن فُقِدَ الأبوانِ أو أحدُهما قامَ ولي الطفل مِن أقاربه مقامهما.
الوجه الثاني:أن اللهَ سبحانه قطعَ الموالاة بين المسلمين والكفار، وجعلَ المسلمين بعضهم أولياءَ بعض، والكفارَ بعضَهم مِن بعض، والحضانةُ مِن أقوى أسباب الموالاة التي قطعها الله بين الفريقين. وقال أهلُ الرأي، وابنُ القاسم، وأبو ثور: تثبتُ الحضانة لها مع كُفرها وإسلام الولد، واحتجُّوا بما روى النسائي في سننه، من حديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه، عن جدِّه رافع بن سنان، أنه أسلم وأبت امرأتُه أن تُسلم،

فأتت النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،فقالت: ابنتي وهي فطيمٌ أو يشبهُه، وقال رافع: ابنتي، فقال النبيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اقْعُدْ ناحِيَةً"، وقال لها:"اقْعُدِي نَاحِيَةً"،وقال لهما"ادْعُواها"، فمالت الصبيةُ إلى أمها، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،"اللهم إهدها" فمالت إلى أبيها فأخذها
قالوا: ولأن الحضانة لأمرين: الرضاعِ، وخدمةِ الطفل، وكلاهما يجوزُ من الكافرة.
قال الآخرون: هذا الحديثُ مِن رواية عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاري الأوسي، وقد ضعفه إمامُ العلل يحيى بن سعيد القطان، وكان سفيان الثوري يَحمِلُ عليه، وضعف ابنُ المنذر الحديث، وضعفه غيرُه، وقد اضطرب في القصة، فروَى أن المخيَّر كان بنتاً، وروَى أنه كان ابناً. وقال الشيخ في "المغنى"وأما الحديث، فقد روي على غير هذا الوجه، ولا يثبته أهل النقل. وفي إسناده مقال، قاله ابن المنذر..
ثم إن الحديث قد يحتج به على صحة مذهب من اشترط الإِسلام، فإن الصبيَّة لما مالت إلى أمها دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها بالهداية، فمالت إلى أبيها، وهذا يدل على أن كونَها مع الكافر خلافُ هُدى الله الذي أرادهُ مِن عبادِه، ولو استنكر جعلها مع أمها، لكان فيه حجة، بل أبطله الله سبحانه

بدعوة رسوله.
ومن العجب أنهم يقولون:لا حضانةَ للفاسقِ، فأيَُّ فِسق أكبر مِن الكفر؟ وأينَ الضّررُ المتوقع من الفاسق بنشوء الطفل على طريقته إلى الضرر المتوقَّع من الكافر، مع أن الصوابَ أنه لا تشترط العدالة في الحاضن قطعاً، وإن شرطها أصحاب أحمد والشافعي وغيرهم، واشتراطها في غاية البعد.
ولو اشترط في الحاضن العدالة لضاع أطفال العالم، ولعظمت المشقة على الأمة، واشتد العنتُ، ولم يزل من حين قام الإِسلام إلى أن تقومَ الساعة أطفال الفساق بينهم لا يتعرض لهم أحدٌ في الدنيا، مع كونهم الأكثرين. ومتى وقع في الإِسلام انتزاع الطفل من أبويه أو أحدهما بفسقه؟ وهذا في الحرج والعسر -واستمرارُ العمل المتصل في سائر الأمصار والأعصار على خلافه بمنزلة اشتراط العدالة في ولاية النكاح، فإنه دائمُ الوقوع في الأمصار والأعصار، والقرى والبوادي، مع أن أكثر الأولياء الذين يلون ذلك، فساق، ولم يزل الفسقُ في الناس، ولم يمنع النبيِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أحدٌ من الصحابة فاسقاً من تربية ابنه وحضانته له، ولا مِن تزويجه مولِّيته، والعادةُ شاهدة بأن الرجل ولو كان من الفساق، فإنه يحتاط لابنته، ولا يُضيعها، ويحرص على الخير لها بجهده، وإن قُدِّرَ خلاف ذلك، فهو قليل بالنسبة إلى المعتاد، والشارع يكتفي في ذلك بالباعث الطبيعي، ولو كان الفاسق مسلوبَ الحضانة، وولاية النكاح، لكان بيانُ هذا للأمة من أهم الأمور، واعتناء الأمة بنقله، وتوارث العملِ به مقدّماً على كثير مما نقلوه، وتوارثوا العمل به، فكيف يجوز عليهم تضييعُه واتصالُ العمل بخلافه. ولو كان الفِسق !ينافي الحضانة، لكان من زنى أو شرب خمراً، أو أتى كبيرةً، فرق بينه وبين أولاده الصغار، والتمِسَ لهم غيره والله أعلم.

نعم، العقل مشترط في الحضانة، فلا حضَانة لمجنون ولا معتوه ولا طفل، لأن هؤلاء يحتاجون إلى من يحضنُهم ويكفُلُهم، فكيف يكونون كافلين لغيرِهم.
وأما اشتراطُ الحرية، فلا ينتهِضُ عليه دليلٌ يَركَنُ القلب إليه، وقد اشترطه أصحابُ الأئمه الثلاثة. وقال مالك في حُرٍّ له ولد مِن أمة:إن الأم أحقُ به إلا أن تباع، فتنتقل، فيكون الأب أحق بها، وهذا هو الصحيح، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال "لا تُوَلَّهُ والدَةٌ عن وَلِدِهَا" ,وقال "مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الوالدة وَوَلَدِهَا، فَرقَ اللهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ أحِبَّتِهِ يَوْمَ القِيامَةِ" وقد قالوا: لا يجوزُ التفريقُ في البيع بين الأمِّ وولدها الصغير فكيف يُفرِّقون بينهما في الحضانة؟ وعمومُ الأحاديث تمنعُ مِن التفريق مطلقاً في الحضانة والبيع، واستدلاَلُهم بكون منافِعها مملوكةً للسيد، فهي مستغرِقَة في خدمته، فلا تَفرُغُ لِحَضانةِ الولد ممنوع، بل حَقُّ الحَضانةِ لها، تُقدَّم به في أوقات حاجة الولد على حقِّ السيد، كما في البيع سواء. وأما اشتراطُ خلوها من النكاح، فقد تقدم.
وهاهنا مسألة ينبغي التنبيهُ عليها وهي أنا إذا أسقطنا حقَّها مِن الحضانة بالنكاح، ونقلناها إلى غيرها فاتُّفِق أنه لم يكن له سِواها، لم يَسقُطْ حقُها من الحضانة، وهي أحقُّ به من الأجنبي الذي يدفعه القاضي إليه، وتربيته في حجر أمه ورأيه أصلحُ مِن تربيته في بيتِ أجنبي محض

لا قرابة بينهما توجِب شفقته ورحمته وحنُوّه، ومنَ المحالِ أن تأتيَ الشريعة بدفع مفسدة بمفسدة أعظمَ منها بكثير، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يحكم حكماً عاماً كلياً: أن كل امرأة تزوجت سقطت حضانتُها في جمِيع الأحوال حتى يكونَ إثباتُ الحضانة للأم في هذه الحالة مخالفة للنص.
وأما اتحاد الدار، فإن كان سفرُ أحدهما لحاجة، ثم يعود والآخر مقيم، فهو أحقُّ به، لأن السفر بالولد الطفل ولا سيما إن كان رضيعاً إضرارٌ به وتضييعٌ له، هكذا أطلقوه، ولم يستثنوا سفرَ الحج من غيره، وإن كان أحدهما منتقلاً عن بلد الآخر للإِقامة، والبلدُ وطريقُه مخوفان، أو أحدهُما، فالمقيمُ أحقُّ، وإن كان هو وطريقُه آمنين، ففيه قولانِ، وهما روايتان عن أحمد، إحداهما أن الحضانةَ للأب ليتمكن من تربية الولد وتأديبه وتعليمِه، وهو قولُ مالك والشافعي، وقضى به شريح. والثانية: أن الأم أحقُّ. وفيها قول ثالث: أن المنتقل إن كان هو الأب، فالأمُّ أحقُّ به، وإن كان الأم، فإن انتقلت إلى البلد الذي كان فيه أصلُ النكاح فهي أحقُّ به، وإن انتقلت إلى غيره، فالأبُ أحق، وهو قول الحنفية.وحكوا عن أبي حنيفة رواية أخرى أن نقلها إن كان من بلد إلى قرية، فالأبُ أحق، وإن كان من بلدٍ إلى بلد، فهي أحق، وهذه أقوالٌ كُلها كما ترى لا يقوم عليها دليلٌ يسكن القلبُ إليه، فالصوابُ النظر والاحتياط للطفل في الأصلح له والأنفع مِن الإِقامة أو النقلة، فأيُّهما كان أنفعَ له وأصونَ وأحفظَ، روعي، ولا تأثيرَ لإِقامة ولا نقلة، هذا كلُّهُ ما لم يُرِدْ أحدُهما بالنقلة مضارةَ الآَخر، وانتزاعَ الولد منه. فإن أراد ذلك، لم يُجب إليه، والله الموفق.

فصل
وقوله "أنتِ أحق به ما لم تَنكحي"، قيل: فيه إضمارٌ تقديره: ما لم تنكحي، ويدخلْ بك الزوج، ويحكم الحاكم بسقوط الحضانة. وهذا تعسف بعيد لا يُشعرُ به اللفظ، ولا يدل عليه بوجه، ولا هو من دلالة الاقتضاء التي تتوقف صحةُ المعنى عليها، والدخولُ داخل في قوله"تنكحي"، عند من اعتبره، فهو كقوله"حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهً"، ومن لم يعتبره، فالمراد بالنكاح عنده العقد.
وأما حكمُ الحاكم بسقوط الحضانة، فذاك إنما يحتاجُ إليه عند التنازع والخصومة بين المتنازعين، فيكون منفذاً لِحكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوقفَ سقوطَ الحضانة على حكمه، بل قد حكم هو بسقوطها، حَكَمَ به الحُكَّام بعده أو لم يحكمُوا. والذي دل عليه هذا الحكمُ النبوي، أن الأمَّ أحقُّ بالطفل ما لم يُوجد منها النكاحُ، فإذا نكحت، زال ذلك الاستحقاقُ، وانتقل الحقُّ إلى غيرها. فأما إذا طلبه من له الحق، وجب على خصمه أن يبذله له، فإن امتنع، أجبره الحاكمُ عليه، وإن أسقط حقَّه، أو لم يطالب به، بقي على ما كان عليه أولاً، فهذه قاعدة عامة مستفادَة من غير هذا الحديث.
فصل
وقد احتج من لا يرى التخييرَ بين الأبوين بظاهر هذا الحديثِ، ووجهُ الاستدلال أنه قال "أنت أحق به"، ولو خُيِّرَ الطفل لم تكن

هي أحقَّ به إلا إذا اختارها، كما أن الأبَ لا يكون أحقَّ به إلا إذا اختاره، فإن قدر: أنت أحقّ به إن اختارك، قُدِّرَ ذلكَ في جانب الأب، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلها أحقَّ به مطلقاً عند المنازعة، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك. ونحن نذكر هذه المسألة:ومذاهب الناس فيها، والاحتجاج لأقوالهم، ونرجح ما وافق حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذكر قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأته، فذكر الأثرَ المتقدم، وقال فيه: ريحُها وفراشُها خير له منك حتى يَشِبَّ ويختار لنفسه، فحكم به لأمِّه حين لم يكن له تمييزٌ إلى أن يَشبَّ ويُميز ويخير حينئذ.
ذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال الشافعي:حدثنا ابن عيينة، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن إسماعيل بن عُبيد الله بن أبي المهاجر، عن عبد الرحمن بن غَنم، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.خَيَّرَ غلاماً بين أبيه وأمه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج،عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال:خيرَ عمر رضي الله عنه غلاماً ما بينَ أبيه وأمه، فاختار أمّه، فانطلقت به.
وذكر عبد الرزاق أيضاً:عن معمر، عن أيوب، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن عبد الرحمن بن غنم، قال: اختُصمَ إلى عمرَ بنِ الخطاب في غلام، فقال: هو مع أمه حتى يُعْرِبَ عنه لِسانُه ليختار.

وذكر سعيد بن منصور عن هشيم، عن خالد، عن الوليد بن مسلم، قال: اختصموا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في يتيم فخيَّره، فاختار أمه على عمه، فقال عمر: إنَّ لُطْفَ أمك خيرٌ مِن خِصب عمِّكَ.
ذكر قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: أنبأنا ابن عيينة، عن يونس بن عبد الله الجَرْمي، عن عمارة الجرمي، قال:خيرني علي بين أمي وعَمّي، ثم قال لأخ لي أصغر مني: وهذا أيضاً لو بلغ مبلغ هذا لخيرتُه.
قال الشافعي رحمه الله.قال إبراهيم:عن يونس عن عمارة عن علي مثله قاله في الحديث: وكنتُ ابن سبع سنين، أو ثمانِ سنين.
قال يحيى القطان: حدثنا يونس بنُ عبدِ الله الجرمي، حدثني عُمارة ابن رويبة، أنه تخاصمَتْ فيه أمُّه وعمُّه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: فخيرني علي ثلاثاً، كُلَّهُنَّ أختارُ أمي، ومعي أخٌ لي صغير، فقال علي: هذا إذا بلغ مبلغ هذا خُيِّر.
ذكر قول أبي هريرة رضي الله عنه
قال أبو خيثمة زهير بن حرب: حدثنا سفيانُ بنُ عيينة، عن زياد بن سعد، عن هِلال بن أبي ميمونة قال: شهدت أبا هريرة خيَّر غلاماً بين أبيه وأمه، وقال:إنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ غُلاماً بينَ أبيه وأمه.
فهذا ما ظفرت به عن الصحابة.وأما الأئمة، فقال حرب بن

إسماعيل: سألت إسحاق بن راهويه، إلى متى يكون الصبيُّ والصبية مع الأم إذا طلِّقت؟ قال أحَبُّ إليَّ أن يكونَ مع الأم إلى سبع سنين، ثم يُخيَّر. قلت له: أترى التخيير؟ قال شديداً.قلت: فأقلّ مِن سبع سنين لا يُخير؟ قال: قد قال بعضهم: إلى خمس، وأنا أحَبُّ إليَّ سبع.
وأما مذهب الإِمام أحمد، فإما أن يكونَ الطفلُ ذكراً أو أنثى، فإن كان ذكراً، فإما أن يكونَ ابنَ سبع أو دونَها، فإن كان له دون السبع، فأمُّه أحقُّ بحضانته من غير تخيير، وإن كان له سبعٌ، ففيه ثلاث روايات.
إحداها- وهي الصحيحة المشهورة من مذهبه- أنه يخير، وهي اختيار أصحابِه، فإن لم يختر واحداً منهما، أقرع بينهما، وكانَ لمن قرع، وإذا اختار أحدَهما، ثم عاد فاختار الآخر، نقل إليه، وهكذا أبداً.
والثانية: أن الأبَ أحقُّ بهِ مِن غير تخيير.
والثالثة: أن الأم أحق به كما قبل السبع. وأما إذا كان أنثى، فإن كان لها دونَ سبع سنين، فأمّها أحقُّ بها من غير تخيير، وإن بلغت سبعاً، فالمشهورُ من مذهبه، أن الأمّ أحقُّ بها إلى تسع سنين، فإذا بلغت تسعاً، فالأبُ أحقُّ بها من غير تخيير.
وعنه رواية رابعة: أن الأمّ أحقٌ بها حتى تبلغ، ولو تزوجت الأم.
وعنه رواية خامسة: أنها تخير بعد السبع كالغلام، نصَّ عليها، وأكثر أصحابه إنما حكوا ذلك وجهاً في المذهب، هذا تلخيصُ مذهبه وتحريرُه.
وقال الشافعي: الأمُّ أحقُ بالطفل ذكراً كان أو أنثى إلى أن يبلُغا سبع سنين، فإذا بلغا سبعاً وهما يعقِلان عقل مثلهما، خيِّرَ كُلّ منهما بينَ أبيه وأمه، وكان مع من اختار.

وقال مالك وأبو حنيفة لا تخيير بحال، ثم اختلفا فقال أبو حنيفة، الأمّ أحق بالجارية حتى تبلغ، وبالغلام حتى يأكل وحده، ويشربَ وحدَه، ويلبسَ وحده، ثم يكونان عند الأب، ومن سوى الأبوين أحقُّ بهما حتى يستغنيا، ولا يُعتبر البلوغ، وقال مالك: الأمُّ أحقُ بالولد ذكراً كان أو أنثى حتى يثَّغِر،هذه رواية ابن وهب، وروى ابنُ القاسم: حتى يَبْلُغَ، ولا يُخيَّرُ بحال.
وقال الليثُ بن سعد: الأمُّ أحقُّ بالابن حتى يَبْلُغَ ثمان سنين، وبالبنت حتى تبلغ، ثم الأبُ أحقُّ بهما بعد ذلك.
وقال الحسنُ بن حَي: الأمُ أولى بالبنت حتى يَكْعُبَ ثدياها، وبالغلام حَتَى يَيْفَعَ، فيُخيران بعدَ ذلك بين أبويهما، الذكرُ والأنثى سواء.
قال المخيِّرون في الغلام دون الجارية: قد ثبت التخييرُ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغلام، من حديث أبي هريرة:وثبت عن الخلفاء الراشدين، وأبي هريرة، ولا يُعرف لهم مخالفٌ في الصحابة ألبتة، ولا أنكره منك. قالوا: وهذا غايةٌ في العدل الممكن، فإن الأمَّ إنما قُدِّمتْ في حال الصغر لحاجة الولد إلى التربية والحمل والرضاع والمداراة التي لا تتهيأ لِغير النساء، وإلا فالأمُّ أحد الأبوين، فكيف تُقدَّم عليه؟ فإذا بلغ الغلام حداً يُعْرِبُ فيه عن نفسه، ويستغني عن الحمل والوضع وما تُعانيه النساء، تساوى الأبوانِ، وزال السببُ الموجبُ لتقديم الأم، والأبوانِ متساويانِ فيه، فلا يُقَدَّمُ أحدُهما إلا بمرجِّح، والمرجِّحُ إما من خارج، وهو القرعةُ، وإما من جهة الولد، وهو اختيارُه، وقد جاءت السنةُ بهذا وهذا، وقد جمعهما حديثُ أبي هريرة، فاعتبرناهما جميعاَ، ولم ندفع أحدهما بالآخر.
وقدمنا ما قدمه النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخّرنا ما أخره، فقدم التخييرُ، لأن القُرعة

إنما يُصار إليها إذا تساوت الحقوقُ مِن كل وجه، ولم يبق مرجِّحٌ سواها، وهكذا فعلنا هاهنا قدمنا أحدَهما بالاختيار، فإن لم يختر، أو اختارهما جميعاً، عدلنا إلى القُرعة، فهذا لو لم يكن فيه موافقة السنة، لكان مِن أحسن الأحكام، وأعدلها، وأقطعها للنزاع بتراضي المتنازعين. وفيه وجه آخر في مذهب أحمد والشافعي: أنه إذا لم يختر واحداً منهما كان عند الأم بلا قُرعة، لأن الحضانة كانت لها، وإنما ننقلُه عنها باختياره، فإذا لم يختر، بقي عندها على ما كان.
فإن قيل: فقد قدمتُمُ التخييرَ على القُرعة، والحديث فيه تقديمُ القُرعة أولاً، ثم التخيير، وهذا أولى، لأن القرعة طريق شرعي للتقديم عند تساوي المستحقين، وقد تساوى الأبوانِ، فالقياسُ تقديمُ أحدهما بالقُرعة، فإن أبيا القُرعة، لم يبق إلا اختيارُ الصبي، فيُرجح به، فما بالُ أصحابِ أحمد والشافعي قدَّموا التخييرَ على القرعة.
قيل: إنما قُدّمَ التخيير، لاتفاق ألفاظِ الحديث عليه، وعملِ الخلفاء الراشدين به، وأما القُرعة، فبعضُ الرواة ذكرها في الحديث، وبعضُهم لم يذكرها، وإنما كانت في بعضِ طُرق أبي هريرة رضي الله عنه وحده، فَقُدِّمَ التخييرُ عليها، فإذا تعذر القضاء بالتخيير، تعينت القُرعة طريقاً للترجيح إذ لم يبق سواها.
ثمَّ قال المخيرون للغلام والجارية: روى النسائي في "سننه"، والإِمام أحمد في "مسنده" من حديث رافع بن سنان رضي الله عنه أنه تنازع هو وأمٌّ في ابنتهما، وأن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقعَده ناحية، وأقعد المرأة ناحية، وأقعد الصبيةَ بينهما، وقال: "ادْعُوَاها" ، فمالَت إلى أُمِّها فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

"اللهُمَّ اهْدِهَا" فمَالَت إلى أَبِيهَا فَأَخَذَهَا قالُوا: ولو لم يَرِدْ هذا الحديثُ لكان حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه، والآثار المتقدمة حجةً في تخيير الأنثى، لأن كون الطفل ذكراً لا تأثير له في الحكم، بل هي كالذكر في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ وَجَدَ مَتَاعه، عِنْدَ رَجُل قَدْ أَفْلَسَ" وفي قوله "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً لَهُ في عَبْدٍ"، بل حديثُ الحَضَانة أولى بعدم اشتراط الذكورية فيه، لأن لَفظ الصَبي ليس مِن كلام الشارع، إنما الصحابيُّ حكى القِصة، وأنها كانت في صبي، فإذا نُقِّحَ المناطُ تبين أنه لا تأثير، لكونه ذكراً.
قالت الحنابلة: الكلامُ معكم في مقامين، أحد هما: استدلالُكم بحديثِ رافع، والثاني: إلغاؤكم وصفَ الذكورية في أحاديث التخيير.
فأما الأول، فالحديثُ قد ضعّفه ابنُ المنذر وغيرُه، وضعف يحيى بن سعيد والثوري عبدَ الحميد بن جعفر، وأيضاً لقد اختلف فيه على قولين. أحدهما: أن المخيَّر كان بنتاً، وروي: أنه كان ابناً. فقال عبد الرزاق: أخبرنا سفيان، عن عثمان البتي، عن عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه، عن جده، أن أبويه اختصما إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحدهما مسلم، والآخرُ،كافر، فتوجه إلى الكافر، فقال النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اللهُمَّ اهْدِهِ "، فتوجه إلى المسلم، فقضى، له به.

قال أبو الفرج ابن الجوزي: ورواية من روى أنه كان غلاماً أصحُّ.. قالوا: ولو سلم لكم أنه كان أنثى، فأنتم لا تقولون به، فإن فيه أن أحدهما كان مسلماً،
والآخر كافراً، فكيف تحتجون بما لا تقولون به.
قالوا: وأيضاً فلو كانا مسلمين، ففي الحديث أن الطفل كان فطيماً، وهذا قطعاً دون السبع، والظاهر أنّه دون الخمس، وأنتم لا تُخيرون من له دون السبع، فظهر أنه لا يُمكنكم الاستدلالُ بحديث رافع هذا على كل تقدير.
فبقي المقام الثاني، وهو إلغاء وصف الذكورة في أحاديث التخيير وغيرها، فنقول. لاريب أن مِن الأحكام ما يكفي فيها وصفُ الذكورة، أو وصفُ الأنوثة قطعاً، ومنها ما لا يكفي فيه، بل يُعتبر فيه إمّا هذا وإمّا هذا، فيُلغى الوصف في كل حكم تعلَّق بالنوع الإِنساني المشترك بين الأفراد، ويُعتبر وصفُ الذكورة في كل موضع كان له تأثير فيه، كالشهادة والميراث، والولاية في النكاح، ويعتبر وصفُ الأنوثة في كلِّ موضع يختصُّ بالإناث، أو يُقدمن فيه على الذكور، كالحضانة، إذا استوى في الدرجة الذكرُ والأنَثى، قُدِّمت الأنثى.بقي النظر فيما نحن فيه من شأن التخيير، هل لِوصف الذكورة تأثيرٌ في ذلك فيُلحق بالقسم الذي تعتبر فيه، أو لا تأثير له فيلحق بالقسم الذي يلغى فيه؟ ولا سبيل إلى جعلها من القسم الملغى فيه وصفُ الذكورة، لأن التخيير هاهنا تخيير شهوة، لا تخيير رأي ومصلحة، ولهذا إذا اختار غيرَ مَن اختاره أولاً، نقل إليه، فلو خيرت البنت، أفضى ذلك إلى أن تكونَ

عند الأب تارة، وعند الأم أخرى، فإنها كلما شاءت الانتقال، أجيبت إليه، وذلك عكسُ ما شرع للإِناث مِن لزوم البيوت، وعدمِ البروز، ولزوم الخدور وراء الأستار، فلا يليقُ بها أن تمكن مِن خلاف ذلك. وإذا كان هذا الوصفُ معتبراً قد شهد له الشرعُ بالاعتبار لم يمكن إلغاؤه.
قالوا: وأيضاً فإن ذلك يُفضي إلى ألا يبقى الأبُ موكّلاً بحفظها، ولا الأم لتنقُّلِها بينهما، وقد عُرِفَ بالعادة أن ما يتناوبُ الناسُ على حفظه، ويتواكلون فيه، فهو آيل إلى ضياع، ومن الأمثال السائرة "لا يصلُحُ القِدْرُ بَيْنَ طَبَّاخَيْنِ".
قالوا: وأيضاً فالعادة شاهدة بأن اختيار أحدهما يُضعف رغبة الآخر فيه بالإِحسان إليه وصيانته، فإذا اختار أحدَهما، ثم انتقل إلى الآخر لم يبق أحدُهما تامَ الرغبة في حفظه والإِحسان إليه.
فإن قلتم: فهذا بعينه موجودٌ في الصبي، ولم يمنع ذلك تخييره. قلنا: صدقتم لكن عارضَه كونُ القلوب مجبولةً على حُبِّ البنين، واختيارِهم على البناتِ، فإذا اجتمع نقصُ الرغبة،. ونقصُ الأنوثة، وكراهةُ البنات في الغالب، ضاعت الطِّفلَةُ، وصارت إلى فسَاد يَعْسُرُ تلافِيه، والواقعُ شاهِدٌ بهذا، والفقه تنزيل المشروع على الواقع، وسِرّ الفرق أن البنتَ تحتاجُ مِن الحفظ والصيانةِ فوقَ ما يحتاجُ إليه الصبيُّ، ولهذا شُرِعَ في حق الإِناثِ مِنَ الستر والخَفَرِ ما لم يُشرع مثلُه للذكور في اللباس وإرخاء الذيل شِبراً أو أكثر، وجمع نفسِها في الركوع والسجود دونَ التجافي، ولا ترفعُ صوتَها بقراءة القرآن، ولا تَرْمُلُ في الطواف، ولا تتجرَّدُ في الإِحرام عن المخيط، ولا تكشِفُ رأسها، ولا تُسافِرُ وحدَها، هذا كلّهُ مع كبرها ومعرفتها، فكيف إذا كانت في سنِّ الصغر. وضعفِ العقل الذي

يقبل فيه الانخداع؟ ولا ريب أن تردّدَها بين الأبوينِ مما يعودُ على المقصود بالإِبطال، أو يُخِلُّ به، أو يَنْقُصُه لأنها لا تستقِر في مكان معين، فكان الأصلحُ لها أن تجعل عند أحد الأبوين من غير تخيير، كما قاله الجمهور: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، فتخييرُها ليس منصوصاً عليه، ولا هو في معناه فيلحق به.
ثم هاهنا حصل الاجتهادُ في تعيينِ أحدِ الأبوين لمقامها عنده، وأيهما أصلحُ لها، فمالك، وأبو حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه: عيَّنوا الأم، وهو الصحيحُ دليلاً، وأحمد رحمه الله في المشهور عنه، واختيارُ عامة أصحابه عيَّنوا الأبَ.قال مَن رجَّح الأم: قد جرت العادةُ بأن الأبَ يتصرَّف في المعاش، والخروج، ولقاءِ الناسِ، والأمُّ في خِدرها مقصورة في بيتها، فالبنت عندها أصونُ وأحفظ بلا شك، وعينُها عليها دائماً بخلاف الأبِ، فإنه في غالب الأوقات غائبٌ عن البنت، أو في مَظِنَّةِ ذلك، فجعلُها عند أمها أصونُ لها وأحفظ.
قالوا: وكل مفسدة يعرِضُ وجودُها عند الأم، فإنها تَعرِضُ أو أكثرُ منها عند الأب، فإنه إذا تركها في البيت وحدَها لم يأمن عليها، وإن ترك عندها امرأته أو غيرها، فالأم أشفَقُ عليها وأصونُ لها من الأجنبية.
قالوا: وأيضاً فهي محتاجة إلى تعلُم ما يصلُح للنساء من الغزل والقيامِ بمصالحِ البيت، وهذا إنما تقوم به النساءُ لا الرجال، فهي أحوجُ إلى أمها لتعلمها ما يصلح للمرأة، وفي دفعها إلى أبيها تعطيلُ هذه المصلحة، وإسلامها إلى امرأة أجنبية تُعلِّمها ذلك، وترديدها بين الأم وبينه، وفي ذلك تمرين لها على البروز والخروج، فمصلحةُ البنت والأم والأبِ أن تكونَ

عند أمها، وهذا القولُ هو الذي لا نختار سواه.
قال من رجح الأب: الرجالُ أغيرُ على البنات مِن النِساء، فلا تستوي غيرةُ الرجل على ابنته، وغيرةُ الأم أبداً، وكم مِن أمٍّ تُساعِدُ ابنتها على ما تهواه، ويحملُها على ذلك ضعفُ عقلها، وسُرعةُ انخداعها، وضعفُ داعي الغيرةِ في طبعها، بخلافِ الأب، ولهذا المعنى وغيرِه جعل الشارعُ تزويجَها إلى أبيها دونَ أمها، ولم يجعل لأمها ولاية على بُضعها البتة، ولا على مالها، فكان مِن محاسن الشريعة أن تكون عند أمِّها ما دامت محتاجةً إلى الحضانة والتربية، فإذا بلغت حداً تُشتهى فيه، وتصلحُ للرجالِ، فَمِنْ محاسِن الشريعة أن تكونَ عند من هو أغيرُ عليها، وأحرصُ على مصلحتها، وأصونُ لها من الأم.قالوا: ونحن نرى في طبيعة الأب وغيره من الرجال من الغَيْرَةِ، ولو مع فسقه وفجوره ما يحمله على قتل ابنته وأخته وموليته إذا رأى منها ما يُريبه لِشدة الغيرة، ونرى في طبيعة النساء من الانحلال والانخداع ضدَّ ذلك، قالوا: فهذا هو الغالبُ على النوعين، ولا عبرة بما خرج عن الغالب، على أنا إذا قدمنا أحد ا الأبوين فلا بد أن نُراعي صيانته وحفظَه للطفل، ولهذا قال مالك والليث: إذا لم تحن الأم في موضع حرزٍ وتحصين، أو كانَتْ غيرَ مرضية، فللأب أخذُ البنت منها، وكذلك الإِمامُ أحمد رحمه الله في الرواية المشهورة عنه، فإنه يعتبر قدرتَه على الحفظ والصيانة. فإن كان مهملاً لذلك، أو عاجزاً عنه، أو غيرَ مرضي، أو ذا دِياثة والأم بخلافه، فهي أحقُّ بالبنتِ بلا ريب، فمن قدمناه بتخيير أو قرُعة أو بنفسه، فإنما نُقدِّمه إذا حصلت به مصلحة الولد، ولو كانت الأم أصون مِن الأب وأغيرَ منه قدمت عليه، ولا التفات إلى قرعة ولا اختيار الصبي في هذه الحالة، فإنه ضعيفُ العقل يؤثِرُ البطالة واللعب، فإذا اختار

من يُساعِدُهُ على ذلك، لم يُلتفت إلى اختياره، وكان عند من هو أنفعُ له وأخيرُ، ولا تحتمِلُ الشريعة غيرَ هذا، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قال : "مُرُوهُم بِالصَّلاةِ لِسَبْعٍ واضْرِبُوهُم عَلى تَرْكِها لِعَشْرٍ وفَرِّقُوا بَينَهُم في المَضَاجِع"
والله تعالى يقول: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفسُكُم وأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَةُ} [التحريم: 6]. وقال الحسن: علِّموهُم وأدبوهم وفقهوهم، فإذا كانت الأم تتركُه في المكتب، وتعلمه القرآن والصبيُّ يؤثر اللعب ومعاشرةَ أقرانه، وأبوهُ يُمكنه مِن ذلك، فإنه أحق به بلا تخيير، ولا قرعة، وكذلك العكسُ، ومتى أخل أحدُ الأبوين بأمر الله ورسوله في الصبي وعطَّله، والآخر مُراعٍ له، فهو أحق وأولى به.
وسمعت شيخنا رحمه الله يقول: تنازع أبوان صبياً عند بعض الحكام، فخيَّرَهُ بينهما، فاختار أباه، فقالت له أمه: سَلْهُ لأي شيء يختار أباه، فسأله، فقال: أمي تبعثني كل يوم للكتاب، والفقيه يضربني، وأبي يتركني للعب مع الصبيان، فقضى به للأم. قال: أنتِ أحق به.
قال شيخنا: وإذا ترك أحدُ الأبوين تعليم الصبي، وأمره الذي أوجبه الله عليه، فهو عاصٍ، ولا وِلاية له عليه، بل كُلُّ من لم يقم بالواجب في ولايته، فلا ولاية له، بل إما أن تُرفع يدُه عن الولاية ويُقام من يفعل الواجب، وإما أن يُضم إليه مَنْ يقومُ معه بالواجب، إذ المقصودُ طاعةُ الله ورسوله بحسب الإِمكان. قال شيخنا: وليس هذا الحقُّ من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم، والنكاح، والولاء، سواء كان الوارث فاسقاً أو صالحاً، بل هذا مِن جنس الولاية التي لا بُدَّ فيها من القدرة على الواجب والعلم به، وفعله بحسب الإِمكان. قال: فلو قدر أن الأب تزوج

امرأة لا تراعي مصلحة ابنته، ولا تقوم بها وأمها أقوم بمصلحتها من تلك الضرة، فالحضانة للأم قطعاً، قال: ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس عنه نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقاً، ولا تخيير الولد بين الأبوين مطلقاً، والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقاً، بل لا يقدم ذو العُدوان والتفريط على البَرِّ العادل المحسن، والله أعلم.
قالت الحنفية والمالكية: الكلامُ معكم في مقامين، أحدهما: بيان الدليل الدال على بطلان التخيير، والثاني: بيانُ عدم الدلالة في الأحاديث التي استدللتم بها على التخيير، فأما الأول: فيدُل عليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أنت أحق به" ، ولم يُخيره. وأما المقامُ الثاني: فما رويتُم مِن أحاديث التخيير مطلقة لا تقييد فيها، وأنتم لا تقولون بها على إطلاقها، بل قيدتم التخيير بالسبع، فما فوقها، وليس في شيء من الأحاديث مَا يدُلُّ على ذلك، ونحن نقول: إذا صار للغلام اختيار معتبر، خيَرَ بين أبويه، وإنما يعتبر اختيارُه إذا اعتبر قوله، وذلك بعد البلوغ، وليس تقييدكم وقتَ التخيير بالسبع أولى مِن تقييدنا بالبلوغ، بل الترجيحُ مِن جانبنا، لأنه حينئذ يعتبَرُ قولُه ويدل عليه قولها "وقد سقاني من بئر أبي عنبة"، وهي على أميال من المدينة، وغيرُ البالغ لا يتأتى منه عادةً أن يَحْمِلَ الماءَ مِن هذهِ المسافة ويستقي من البئر، سلمنا أنه ليس في الحديث ما يدل على البلوغ، فليس فيه ما ينفيه، والواقعةُ واقعة عين، وليس عن الشارع نص عام في تخيير من هو دونَ البلوغ حتى يجبَ المصيرُ إليه، سلمنا أنه فيه ما ينفي البلوغ، فمن أين فيه ما يقتضي التقييدَ بسبع كما قلتم؟
قالت الشافعية والحنابلة ومن قال بالتخيير: لا يتأتَّى لكم الاحتجاجُ بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أنتِ أحقُ به ما لم تَنكِحي"، بوجه من الوجوه، فإن منكم

من يقول: إذا استغنى بنفسه، وأكل بنفسه، وشرب بنفسه، فالأبُ أحقُّ به بغير تخيير، ومنكم من يقول: إذا اثَغَرَ، فالأبُ أحق به.
فنقول: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حكم لها به ما لم تنكح، ولم يفرق بين أن تَنْكِحَ قبل بلوغ الصبيِّ السِّنَّ الذي يكون عنده أو بعده، وحينئذ فالجوابُ يكون مشتركاً بيننا وبينكم، ونحن فيه على سواء، فما أجبتُم به، أجاب به منازعوكم سواء، فإن أضمرتُم أضمرُوا، وإن قيَدتُم قيَّدوا، وإن خَصَّصْتُمْ خصَّصُوا. وإذا تبين هذا، فنقول: الحديث اقتضى أمرين.
أحدهما: أنها لا حقَّ لها في الولد بعد النكاح. والثاني: أنها أحق به ما لم تنكح، وكونها أحق به له حالتان، إحداهما: أن يكون الولدُ صغيراً لم يميز، فهي أحق به مطلقاً مِن غير تخيير. الثاني: أن يبلغ سِنَّ التمييز، فهي أحقُّ به أيضاً، ولكن هذه الأولوية مشروطة بشرط، والحكم إذا عُلقَ بشرطٍ صدق إطلاقُه اعتماداً على تقدير الشرط، وحينئذ فهي أحقُّ به بشرط اختياره لها، وغايةُ هذا أنه تقييد للمطلق بالأدلة الدالةِ على تخييره. ولو حمل على إطلاقه، وليس بممكن ألبتة، لاستلزم ذلك إبطالَ أحاديث التخيير، وأيضاً فإذا كنتم قيدتموه بأنها أحق به إذا كانت مقيمة وكانت حرة ورشيدة وغير ذلك من القيود التي لا ذكر لشيء منها في الأحاديث ألبتة، فتقييدُه بالاختيار الذي دلت عليه السنة، واتفق عليه الصحابةُ أولى.
وأما حملكم أحاديث التخيير على ما بعد البلوغ، فلا يصح لخمسة أوجه.
أحدها: أن لفظ الحديث أنه خيَّر غلاماً بين أبويه، وحقيقةُ

الغلام من لم يبلُغ، فحمله على البالغ إخراج له عن حقيقته إلى مجازه بغير موجب، ولا قرينة صارفة.
الثاني: أن البالغَ لا حضانة عليه، فكيف يَصِحُّ أن يخير ابنُ أربعين سنة بين أبوين؟ هذا مِن الممتنع شرعاً وعادة، فلا يجوز حملُ الحديث عليه.
الثالث: أنه لم يفهم أحدٌ من السامعين أنهم تنازعُوا في رجل كبير بالغ عاقل، وأنه خُيِّر بين أبويه، ولا يسبق إلى هذا فهمُ أحد ألبتة، ولو فرض تخييرُه، لكان بين ثلاثة أشياء: الأبوين، والانفراد بنفسه.
الرابع: أنه لا يُعقل في العادة ولا العرف ولا الشرع أن تنازع الأبوان في رجل كبير بالغٍ عاقل، كما لا يعقلُ في الشرع تخييرُ من هذه حاله بين أبويه.
الخامس: أن في بعض ألفاظِ الحديث أن الولد كان صغيراً لم يبلغ ذكره النسائي، وهو حديثُ رافع بن سنان، وفيه: فجاء ابن لها صغير لم يبلغ، فأجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأب هاهنا، والأم هاهنا ثم خيَّره.
وأما قولكم: إن بئر أبي عنبة على أميال من المدينة، فجوابُه مطالبتكم أولاً: بصحة هذا الحديث ومَن ذكره، وثانياً: بأن مسكن هذه المرأة كان بعيداً مِن هذه البئر، وثالثاً، بأن من له نحو العشر سنين لا يمكنه أن يستقي من البئر المذكور عادة، وكُلُ هذا مما لا سبيل إليه، فإن العرب وأهلَ البوادي يستقي أولادُهم الصغار مِن آبار هي أبعدُ من ذلك.
وأما تقييدنا له بالسبع، فلا ريب أن الحديث لا يقتضي ذلك، ولا هو أمرٌ مجمع عليه، فإن لِلمخيِّرين قولين، أحدهما: أنه يخيَّرُ لخمس، حكاه إسحاق بن راهويه، ذكره عنه حرب في"مسائله"، ويحتج لهؤلا

بأن الخمس هي السن التي يَصح فيها سماعُ الصبي، ويمكن أن يعقل فيها، وقد قال محمود بن الربيع:
عقلتُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجة مجَّها في فيَّ وأنا ابن خمس سنين او القول الثاني: أنه إنما يُخيَّر لسبع، وهو قول الشافعي، وأحمد وإسحاق رحمهم الله، واحتج لهذا القول بأن التخييرَ يستدعي التمييزَ والفهم، ولا ضابطَ له في الأطفال، فضبط بمَظنَّتهه وهي السبعُ، فإنها أول سن التمييز، ولهذا جعلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حداً للوقت الذي يُؤمر فيه الصَّبِى بالصلاة. وقولكم: إن الأحاديثَ وقائعُ أعيان، فنعم هي كذلك، ولكن يمتنع حملُها على تخيير الرجال البالغين، كما تقدم. وفي بعضها لفظ: غلام، وفي بعضها لفظ: صغير لم يبلغ، وبالله التوفيق.
فصل
وأما قصة بنت حمزة، واختصام علي، وزيد، وجعفر رضي الله عنهم فيها، وحكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها لجعفر، فإنّ هذه الحكومَة كانت عَقِيبَ فراغهم من عُمرة القضاء، فإنهم لما خرجُوا مِن مكة تبعتهم ابنة حمزة تنادي يا عم يا عم، فأخذ علي بيدها، ثم تنازع فيها هو وجعفرٌ وزيدٌ، وذكر كُلّ واحد من الثلاثة ترجيحاً، فذكر زيد أنها ابنة أخيه للمؤاخاة التي عقدها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينَه وبينَ حمزة، وذكر علي كونها ابنةَ عمّه، وذكر جعفر مرجِّحين: القرابة، وكونَ خالتها عنده، فتكون

غد خالتها، فاعتبر النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرجِّحَ جعفر دون مرجِّح الآخرين، فحكم له، وجبر كلَّ وَاحد منهم وطيَّب قلبَه بما هو أحبُّ إليه من أخذ البنت.
فأما مرجح المؤاخاة، فليس بمقتض للحضانة، ولكنَّ زيداً كان وصي حمزة، وكان الإِخاء حينئذ يثبُتُ به التوارثُ، فظن زيدٌ أنه أحقُّ بها لذلك.
وأمَّا مرجِّحُ القرابة هاهنا وهي بنوة العم، فهل يُستحق بها الحضانة؟ على قولين. أحدهما: يُستحق بها وهو منصوص الشافعي، وقول مالك، وأحمد، وغيرهم، لأنه عصبة، وله وِلاية بالقرابة، فقدم على الأجانب، كما يُقدَّمُ عليهم في الميراث، وولاية النكاح، وولاية الموت، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنكر على جعفر وعلي ادِّعاءَهما حضانتها، ولو لم يكن لهما ذلك، لأنكر عليهما الدعوى الباطلة، فإنها دعوى ما ليس لهما، وهو لا يُقِرُّ على، باطل. والقول الثاني: أنه لا حضانة لأحد من الرجال سوى الآباء والأجداد، هذا قولُ بعضِ أصحابِ الشافعي، وهو مخالف لنصه، وللدليل. فعلى قول الجمهور- وهو الصواب- إذا كان الطفل أنثى، وكان ابنُ العم محرماً لها برضاع أو نحوه، كان له حضانتُها وإن جاوزت السبعَ، وإن لم يكن محرماً، فله حضانتها صغيرةً حتى تبلُغ سبعاً، فلا يبقى له حضانتُها، بل تُسَلَّم إلى محرمها، أو امرأة ثقة. وقال أبو البركات في "محرره": لا حضانة له ما لم يكن محرماً برضاع أو نحوه.
فإن قيل: فالحكمُ بالحضانة مِن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه القصة، هل وقع للخالة؟ أو لجعفر؟
قيل: هذا مما اختُلِفَ فيهِ على قولين، منشؤهما اختلافُ ألفاظ الحديث

في ذلك، ففي "صحيح البخاري"، من حديث البراء: فقضى بها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالتها.
وعن أبي داود: من حديث رافع بن عجير، عن أبيه، عن علي في هذه القصة "وأما الجاريةُ، فأقضي بها لجعفر، تكونُ مع خالتها، وإنما الخالةُ أم" ثم ساقه من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى وقال: قضى بها لجعفر، لأن خالتها عنده، ثم ساقه من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن هانىء بن هانىء، وهبيرة بن يَريم، وقال: "فقضى بها النبيُّ لخالتها، وقال الخَالَةُ بمَنْزِلَةِ ا لأُمِّ"
واستشكل كثير من الفقهاء هذا وهذا، فإن القضاءَ إن كان لجعفر، فليس محرما لها، وهو وعلي في القرابة منها سواء، وإن كان للخالة، فهي مزوجه، والحاضنة إذا تزوَّجت، سقطت حضانتُها.
ولما ضاق هذا على ابن حزم، في القصة بجميع طرقها، وقال: أما حديثُ البخاري، فمن رواية إسرائيل، هو ضعيف، وأما حديث هانىءِ وهبيرة، فمجهولان، وأما حديث ابن أبي ليلى، فمرسل، وأبو فروة الراوي عنه هو مسلم بن سالم الجهني ليس بالمعروف، وأما حديث نافع ابن عجير، فهو وأبوه مجهولان، ولا حُجة في مجهول، قال: إلا أن هذا الخبرَ بكل وجه حجة على الحنفية والمالكية والشافعية، لأن خالتها كانت مزوَّجة بجعفر، وهو أجملُ شاب في قريش، وليس هو ذا رحم محرم مِن بنت حمزة. قال: ونحن لا نُنكرُ قضاءَه بها لجعفر مِن أجل خالتها، لأن ذلك أحفظُ لها.

قلت: وهذا من تهورِهِ رحمه الله، وإقدامِه على تضعيف ما اتفقت الناس على صحته، فخالفهم وحده، فإن هذِه القصةَ شهرتُها في الصحاح، والسنن، والمسانيد، والسير، والتواريخ تغني عن إسنادها، فكيف وقد اتفق عليها صاحب الصحيح، ولم يحفظ عن أحد قبله الطعنُ فيها ألبتة، وقوله: إسرائيل ضعيف، فالذي غره في ذلك تضعيفُ علي بن المديني له، ولكن أبى ذلك سائرُ أهلِ الحديث، واحتجوا به، ووثَّقوه وثبتوه. قال أحمد: ثقة وتعجَّب مِن حفظه، وقال أبو حاتم. وهو من أتقن أصحاب أبي إسحاق ولا سيما وقد روى هذا الحديثَ عن أبي إسحاق، وكان يحفظ حديثَه كما يحفظ السورة من القرآن. وروى له الجماعة كلهم محتجين به.وأما قوله: إن هانئاً وهبيرة مجهولان، فنعم مجهولان عنده، معروفان عند أهل السنن، وثَّقهما الحفاظ، فقال النسائي. هانىء بن هانىء ليس به بأس، وهُبيرة روى له أهل السنن الأربعة، وقد وثق.
وأما قوله: حديث ابن أبي ليلى، وأبو فروة الراوي عنه مسلم بن مسلم الجهني ليس بالمعروف، فالتعليلان باطلان، فإن عبد الرحمن بن أبي ليلى روى عن علي غير حديث، وعن عمر، ومعاذ رضي الله عنهما. والذي غر أبا محمد أن أبا داود قال: حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا سفيان عن أبي فروة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى بهذا الخبر، وظن أبو محمد، أن عبد الرحمن لم يذكر علياً في الرواية، فرماه بالإِرسال، وذلك من وهمه، فإن ابن أبي ليلى روى القصة عن علي، فاختصرها أبو داود، وذكر مكان الاحتجاج، وأحال على العلم المشهور برواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي، وهذه القصة قد رواها علي، وسمعها منه أصحابه: هانىء بن هانىء، وهُبيرة بن يَرِيم، وعجير بن عبد يزيد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، فذكر أبو داود حديثَ الثلاثة الأولين لسياقهم لها بتمامها، وأشار إلى

حديثِ ابن أبي ليلى، لأنه لم يتمه، وذكر السند منه إليه، فبطل الإِرسال، ثم رأيتُ أبا بكر الإِسماعيلي قد روى هذا الحديث في مسند علي مصرحاً فيه بالاتصال، فقال: أخبرنا الهيثم بن خلف، حدثنا عثمانُ بنُ سعيد المقري، حدثنا يوسفُ بن عدي، حدثنا سفيانُ، عن أبي فروة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي، أنه اختصم هو وجعفر وزيد، وذكر الحديث.
وأما قوله: إن أبا فروة ليس بالمعروف، فقد عرفه سفيانُ بن عيينة وغيره، وخرجا له في "الصحيحين".
وأما رميه نافع بن عجير وأباه بالجهالة: فنعم، ولا يُعرف حالهما، وليسا مِن المشهورين بنقل العلم، وإن كان نافع أشهرَ مِن أبيه لرواية ثقتين عنه: محمد بن إبراهيم التميمي، وعبد الله بن علي، فليس الاعتمادُ على روايتهما، وبالله التوفيق، فثبتت صحة الحديث.
وأما الجواب عن استشكال من استشكله، فنقول وبالله التوفيق: لا إشكال،سواء كان القضاء لجعفر أو للخالة، فإن ابنة العم إذا لم يكن لها قرابة سوى ابن عمها، جاز أن تجعل مع امرأته في بيته، بل يتعيّن ذلك وهو أولى من الأجنبي لا سيما إن كان ابنُ العم مبرزاً في الديانة، والعِفة، والصِّيانة، فإنه في هذه الحال أولى من الأجانب بلا ريب.
فإن قيل: فالنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ابنَ عمها، وكان محرماً لها، لأن حمزة كان أخاه مِن الرضاعة، فهلا أَخَذَهَا هو؟
قيل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في شُغل شاغل بأعباء الرسالة، وتبليغ الوحي، والدعوة إلى الله، وجهادِ أعداء الله عن فراغه للحضانة، فلو أخذها، لدفعها إلى بعض نسائه، فخالتُها أمسُّ بها رحماً وأقربُ.

وأيضاً فإن المرأة من نسائه لم تكن تجيئُها النوبةُ إلا بعد تسع ليال، فإن دارت الصبيةُ معه حيث دار، كان مشقةً عليها، وكان فيه مِن بروزها وظهورِها كُلَّ وقت ما لا يخفى، وإن جلست في بيت إحداهن كانت لها الحضانة وهي أجنبيةٌ. هذا إن كان القضاءُ لجعفر، وإن كان للخالة-وهو الصحيح وعليه يدل الحديث الصحيح الصريح - فلا إشكال لوجوه. أحدها: أن نكاح الحاضنة لايُسْقِطُ حضانة البنت كما هو إحدى الروايتين عن أحمد وأحدُ قولي العلماء، وحجةُ هذا القول الحديثُ، وقد تقدم سِرُّ الفرقِ بين الذكر والأنثى. الثاني: أن نكاحَها قريباً من الطفل لا يُسْقِطُ حضانَتها، وجعفر ابن عمها.
الثالث: أن الزوج إذا رضي بالحَضانة، وآثر كونَ الطفل عنده في حجره، لم تسقط الحضانة، هذا هو الصحيحُ، وهو مبني على أصل، وهو أن سقوطَ الحضانة بالنكاح هو مراعاةٌ لحقِّ الزوج، فإنه يتنغص عليه الاستمتاعُ المطلوبُ من المرأة لحضانتها لولد غيره، ويتنكَّدُ عليه عيشُه مع المرأة، لا يُؤمن أن يَحصلَ بينهما خلاف المودة والرحمة، ولهذا كان للزوج أَن يمنعها مِن هذا مع اشتغالها هي بحقوقِ الزوج، فتضيغ،مصلحة الطفل، فإذا آثر الزوجُ ذلك وطلبه، وحَرَص عليه، زالت المفسدةُ التي لأجلها سقطت الحضانة، والمقتضي قائم، فيترتب عليه أثُره، يوضّحه أن سقوطَ الحضانة بالنكاح ليست حقاً للّه، وإنما هي حقّ للزوج وللطفل وأقاربه، فإذا رضيَ من له الحق جاز، فزال الإِشكال على كل تقدير،،ظهر أن هذا الحكمَ مِن رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحسن الأحكام وأوضحِها وأشدِّها موافقة للمصلحة، والحكمة، والرحمة، والعدل، وبالله التوفيق.

فهذه ثلاثة مدارك في الحديث للفقهاء. أحدها: أن نكاح الحاضنة لا يُسْقطُ حضانتها، كما قاله الحسن البصري، وقضى به يحي بن حمزة، وهو مذهبُ أبي محمد بن حزمٍ. والثاني: أن نكاحَها لا يُسقِطُ حضانة البنت، ويسقط حضانة الابن، كما قاله أحمد في إحدى روايتيه.
والثالث: أن نِكاحَها لقريب الطِفل لا يُسقط للأجنبي يسقطها، كما هو المشهور من مذهب أحمد.
وفيه مدرك رابع لمحمد بن جرير الطبري، وهو أن الحاضنة إن كانت أمّاً والمنازعُ لها الأب، سقطت حضانتها بالتزويج، وإن كانت خالةً أو غيرَها مِن نساء الحضانة، لم تسقط حضانتُها بالتزويج، وكذلك إن كانت أمّاً، والمنازعُ لها غيرُ الأب من أقارب الطفل لم تسقط حضانتُها.
ونحن نذكر كلامه، وما له وعليه فيه، قال في "تهذيب الآثار"بعد ذكر حديث ابنة حمزة: فيه الدلالةُ الواضحة على أن قيِّمَ الصبية الصغيرة، والطفل الصغير من قرابتهما من قبل أمهاتهما من النساء أحقُ بحضانتهما مِن عصباتهما من قبل الأب، وإن كُنَّ ذواتِ أزواج غير الأب الذي هما منه، وذلك أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بابنة حمزةَ لخالتها في الحضانة، وقد تنازع فيها ابنا عمها عليّ وجعفر ومولاها وأخو أبيها الذي كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخى بينَه وبينَه، وخالتها يومئذ لها زوج غير أبيها وذلك بعد مقتل حمزة، وكان معلوماً بذلك صحة قول من قال: لا حق لعصبة الصغير والصغيرة من قبل الأب في حضانته ما لم تبلغ حد الاختيار، بل قرابتُهُما من النساء مِن قبل أمهما أحقُ، وإن كن ذوات أزواج.
فإن قال قائل: فإن كان الأمر في ذلك عندك على ما وصفت من أن

أمَّ الصغير والصغيرة وقرابتهما من النساء من قبل أمهاتهما أحقُّ بحضانتهما، وإن كُنَّ ذوات أزواج من قرابتهما من قبل الأب من الرجال الذين هم عصبتهما، فهلاَّ كانت الأمُّ ذات الزوج كذلك مع والدهما الأدنى والأبعد، كما كانت الخالة أحق بهما؟ وإن كان لها زوج غير أبيهما، وإلا فما الفرق؟
قيل: الفرقُ بينهما واضح، وذلك لقيام الحجة بالنقل المستفيض روايته عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الأم أحقُ بحضانة الأطفال إذا كانت بانت من والدهم ما لَمْ تَنكِحْ زوجاً غيره، ولم يُخالف في ذلك من يجوز الاعتراضُ به على الحجة فيما نعلمه. وقد روي في ذلك خبر، وإن كان في إسناده نظر، فإن النقل الذي وصفتُ أمره دال على صحته، وإن كان واهيَ السند. ثم ساق حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أَنْتِ أَحَقُّ به مَا لَم تَنكِحِي" من طريق المثنى بن الصباح عنه.ثم قال: وأما إذا نازعها فيه عصبةُ أبيه، فصحة الخبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي ذكرناه أنه جعل الخالة ذات الزوج غير أبي الصبية أحقَّ بها من بني عمها وهم عصبتُها، فكانت الأمُّ أحقَّ بأن تكون أولى منهم وإن كان لها زوج غير أبيها، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما جعل الخالة أولى منهم لقرابتها من الأم، وإذا كان ذلك كالذي وصفنا، تبيَن أن القول الذي قُلناه في المسألتين أصلُ إحداهما من جهة النقل المستفيض، والأخرى من جهة نقل الآحاد العدول، فإذا كان كذلك، فغيرُ جائز رَدُّ حكمِ إحداهما إلى حكم الأخرى، إذ القياسُ إنما يجوز استعمالُه فيما لا نص فيه من الأحكام، فأما ما فيه نص من كتاب الله، أو خبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقي، فلا حظَ فيه للقياس.

فإن قال قائل: زعمتَ أنك إنما أبطلت حق الأم من الحضانة إذا نكحت زوجاً غير أبي الطفل، وجعلت الأب أولى بحضانتها منها بالنقل المستفيض، فكيف يكونُ ذلك كما قلت؟ وقد علمتَ أن الحسن البصري كان يقول: المرأةُ أحقُ بولدها، وإن تزوجت، وقضى بذلك يحيى بن حمزة.
قيل: إن النقل المستفيض الذي تلزمُ به الحجةُ في الدين عندنا ليس صفته ألا يكونَ له مخالف، ولكن صفته أن ينقلَه قولاً وعملاً من علماء الأمة مَنْ يَنْتَفي عنه أسبابُ الكذب والخطأ، وقد نَقَلَ مَنْ صِفَتُه ذلِك من علماء الأمة، أن المرأة إذا نكحت بعد بينونتها من زوجها زوجاً غيره، أن الأبَ أولى بحضانة ابنتها منها، فكان ذلك حجًة لازمة غيرَ جائز الاعتراض عليها بالرأي، وهو قول من يجوز عليه الغلط في قوله، انتهى كلامه.
ذكر ما في هذا الكلام من مقبول ومردود
فأما قوله: إن فيه الدلالة على أن قرابة الطفلِ من قبل أمهاته من النساء أحقُ بحضانته مِن عصباته من قبل الأب وإن كن ذواتِ أزواجٍ، فلا دلالة فيه على ذلك ألبتة، بل أحدُ ألفاظِ الحديثِ صريحٌ في خلافه، وهو قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وأما الابنة فإني أقضي بها لجعفر، وأما اللفظ الآخر، "فقضى بها لخالتها، وقال: هي أم" وهو اللفظ الذي احتج به أبو جعفر، فلا دليل على أن قرابة الأم مطلقاً أَحَقُ من قرابة الأب، بل إقرارُ النبي علياً وجعفراً على دعوى الحضانة يدل على أن لِقرابة الأب مدخلاً فيها، وإنما قدم الخالة لكونها أنثى من أهل الحضانة، فتقديمُها على قرابة الأب كتقديم الأم على الأب، والحديث ليس فيه لفظ عام يدل على ما ادّعاه،

لا من أن من كان من قرابة الأم أحقُّ بالحضانة من العصبةِ مِن قِبَلِ الأب، حتى تكونَ بنتُ الأخت للأم أحقَّ من العم، وبنت الخالة أحقَّ من العم، والعمة، فأين في الحديث دلالة على هذا فضلاً عن أن تكونَ واضحة. قوله: وكان معلوماً بذلك صحة قول من قال: لا حق لعصبة الصغير والصغيرة مِن قبل الأبِ في حضانته ما لم يبلغ حد الاختيار، يعني: فيخيَّر بين قرابة أبيه وأمه، فيقال: ليس ذلك معلوماً من الحديث، ولا مظنوناً، وإنما دل الحديثُ على أن ابن العم المزوَّج بالخالة أولى من ابن العم الذي ليس تحته خالة الطفل، ويبقى تحقيقُ المناط: هل كانت جهةُ التعصيب مقتضيةً للحضانة فاستوت في شخصين؟ فرجح أحدهما بكون خالة الطفل عنده وهي من أهل الحضانة، كما فهما طائفةٌ من أهل الحديث، أو أن قرابةَ الأم وهي الخالة أولى بحضانة الطفل مِن عصبة الأب، ولم تسقط حضانتُها بالتزويج إما لكون الزوج لا يُسقِطُ الحضانة مطلقاً، كقول الحسن ومن وأفقه، وإما لكون المحضونة بنتاً كما قاله أحمد في رواية، وإما لكون الزوج قرابةَ الطفل كالمشهورِ من مذهب أحمد، وإما لكون الحاضِنةِ غير أمٍّ نازعها الأبُ، كما قاله أبو جعفر، فهذه أربعة مدارك، ولكن المدرك الذي اختاره أبو جعفر ضعيف جداً، فإن المعنى الذي أسقط حضانة الأم بتزويجها هو بعينه موجود في سائر نساء الحضانة، والخالة غايتُها أن تقومَ مقام الأم، وتُشبّه بها، فلا تكون أقوى منها، وكذلك سائرُ قرابة الأم، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يحكم حكماً عاماً أن سائر أقارب الأم من كن لا تسقط حضانتهن بالتزويج، وإنما حكم حكماً معيناً لخالة ابنةِ حمزة بالحضانة مع كونها مزوجةً بقريب من الطفل، والطفل ابنة.

وأما الفرق الذي فرق بين الأم وغيرها بالنقل المستفيض إلى آخره، فيريد به الإِجماعَ الذي لاَ ينقضه عنده مخالفة الواحد والاثنين، وهذا أصل تفرد به، ونازعه فيه الناسُ.
وأما حكمه على حديث عمرو بن شعيب بأنه واهٍ، فمبني على ما وصل إليه مِن طريقه، فإن فيه المثنى بن الصبَّاح، وهو ضعيف أو متروك، ولكن الحديث قد رواه الأوزاعي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده رواه أبو داود في "سننه".
فصل
وفي الحديث مسلك خامس وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بها لخالتها وإن كانت ذاتَ زوج، لأن البنتَ تحرُم على الزوج تحريمَ الجمعِ بين المرأة وخالتها، وقد نبه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذا بعينه في حديث داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكر الحديث بطوله، وقال فيه: "وَأَنْتَ يَا جَعْفَرُ أَوْلَى بِهَا: تَحتَكَ خَالَتُهَا، وَلاَ تُنْكَحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، ولاَ عَلَى خَالَتِهَا" ، وليس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصٌ يقتضي أن يكون الحاضن ذا رحم تحرم عليه البنتُ على التأبيد حتى يُعترض به على هذا المسلك، بل هذا مما لا تأباه قواعدُ الفقه وأصول الشريعة، فإن الخالة ما دامت في عصمة الحاضن، فبنتُ أختها محرمة عليه، فإذا فارقها، فهي مع خالتها، فلا محذورَ في ذلك أصلاً، ولا ريبَ أن القولَ بهذا أخير وأصلحُ للبنتِ مِن رفعها إلى الحاكم يدفعُها إلى أجنبي تكون عنده، إذ الحاكمُ غير متصد للحضانة بنفسه، فهل يشكُّ أحد أن ما حكم به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الواقعة هو عينُ المصلحة والحكمة والعدل، وغايةُ الاحتياط للبنت والنظر لها،

وأن كُلَّ حكم خالفه لا ينفك عن جَوْرٍ أو فسادٍ لا تأتي به الشريعةُ، فلا إشكالَ في حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والإِشكالُ كُلُّ الإِشكالِ فيما خالفه، والله المستعان، وعليه التكلان.

ذكر حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النفقة على الزوجات

وأنه لم يُقدِّرها، ولا ورد عنه ما يَدُلَّ على تقديرها، وإنما ردَّ الأزواج فيها إلى العرف.
ثبت عنه في "صحيح مسلم": "أنه قال في خطبة حَجة الوداع بمحضر الجمع العظيم قبل وفاته ببضعة وثمانين يوماً " واتَّقُوا اللهَ في النِّسَاءِ فَإنَكُم أخَذْتُمُوهُنَّ بأَمَانَة الله، واسْتَحلَلْتُمْ فُرُوجَهُنّ َبكَلمَة ِالله. ولَهنَّ عَلَيْكُم رِزقُهن.ولهنَّ عليكم رزقُهُنَّ وكسوتُهُنَّ بالمعروفِ"
وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في "الصحيحين": أن هنداً امرأة أبي سفيان قالت له: إن أبا سُفيان رجلٌ شحيحٌ ليس يُعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذتُ منه وهو لا يعلم، فقال: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ ". وفي "سنن أبي داود": من حديث حكيم بن معاوية، عن أبيه رضي الله عنه، قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلتُ: يا رسول الله ! ما تقولُ في نسائنا؟ قال: "أَطْعِمُوهُنَّ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُنَّ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلاَ تَضْرِبُوهُنَّ وَلاَ تُقَبِّحُوهُنَّ".

وهذا الحكمُ من رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مطابق لكتابِ الله عز وجل حيث يقول: {وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَولَيْنِ كَامِلَينِ لِمَن أَرَادَ أَن يتِمَّ الرَضَاعَةَ وَعَلى المَوْلُودِ لَه رِزْقُهنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروفِ} [البقرة: 233]. والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل نفقَةَ المَرأة مثل نفقة الخَادم، وسوَّى بينهما في عدم التقدير، وردَهما إلى المعروف، فقال: "لِلْمَمْلوكِ طَعَامُهُ وكِسْوَتُه بِالمَعْرُوفِ". فجعل نفقتهما بالمعروفِ، ولا ريب أن نفقة الخادم غيرُ مقدَّرة، ولم يقل أحد بتقديرها. وصح عنه في الرقيق أنه قال: "أَطْعِمُوهُم مِمَّا تَأكُلُونَ، وأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ". رواه مسلم، كما قال في الزوجة سواء.
وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: امرأتُك تقولُ: إما أن تُطعِمَنى، وإما أن تُطَلِّقَني، ويقول العبد: أَطْعمني واستعملني. ويقول الابن أطعمني إلى مَنْ تَدَعُني. فجعل نفقة الزوجة والرقيق والولد كلَّها الإِطعام لا التمليك.وروى النسائي هذا مرفوعاً إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما سيأتي. وقال تعالى: {مِنْ أوسَطِ مَا تطْعِمُونَ أَهْلِيكُم أَو كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] ، وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الخبز والزيت، وصح عن ابن عمر رضي الله عنه: الخبز والسمن، والخبز والتمر، ومِن أفضل

ما تطعمون الخبز واللحم. ففسر الصحابة إطعامَ الأهلِ بالخبز مع غيره من الأدم، والله ورسولُه ذكرا الإِنفاق مطلقاً من غير تحديد، ولا تقدير، ولا تقييد، فوجب رَدُّه إلى العُرفِ لو لم يرده إليه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف وهو الذي رد ذلك إلى العرف، وأرشد أمته إليه؟ ومن المعلوم أن أهلَ العُرف إنما يتعارفون بينهم في الإِنفاق على أهليهم حتى من يُوجب التقدير: الخبز والإِدام دون الحَبِّ، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه إنما كانوا يُنفقون على أزواجهم، كذلك دون تمليك الحب وتقديره، ولأنها نفقة واجبة بالشرع، فلم تقدر بالحب كنفقة الرقيق، ولو كانت مقدرة، لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هنداً أن تأخذ المقدَّرَ لها شرعاً، ولما أمرها أن تأخذ ما يكفيها مِن غير تقدير، وردَّ الاجتهادَ في ذلك إليها، ومن المعلوم أن قدر كفايتها لا ينحصر في مُدَّين، ولا في رطلين بحيث لا يزيد عليهما ولا يَنْقُص، ولفظه لم يدل على ذلك بوجه، ولا إيماء، ولا إشارة، وإيجاب مدَّين أو رطلين خبزاً قد يكون أقلّ من الكفاية، فيكون تركاً للمعروف، وإيجابُ قدر الكفاية مما يأكل الرجل وولده ورقيقه وإن كان أقلَّ من مد أو من رطلي خبز، إنفاق بالمعروف، فيكون هذا هو الواجبَ بالكتاب والسنة، ولأن الحب يحتاجُ إلى طحنه وخبزه وتوابع ذلك، فإن أخرجت ذلك من مالها، لم تحصل الكفاية بنفقة الزوج، وإن فرض عليه ذلك لها من ماله كان الواجب حباً ودراهم، ولو طلبت مكان الخبز دراهم أو حباً أو دقيقاً أو غيرَه، لم يلزمه بذلُه، ولو عرض عليها ذلك أيضاً، لم يلزمها قبولُه لأن ذلك معاوضة، فلا يُجبر أحدُهما على قبولها، ويجوز تراضيهما على ما اتفقا عليه.

والذين قدّروا النفقة اختلفوا، فمنهم من قدَّرها بالحب وهو الشافعي، فقال: نفقة الفقير مدٌ بمد النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن أقل ما يدفع في الكفارة إلى الواحد مُدٌّ، والله سبحانه اعتبر الكفارة بالنفقة على الأهل، فقال: {فكَفَّارتُه إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُم أَو كِسْوَتُهُم} [المائدة: 89] قال: وعلى المُوسِرِ مُدَّانِ، لأن أكثر ما أوجب الله سبحانه للواحد مُدَّانِ في كفارة الأذى، وعلى المتوسط مُدٌ ونِصفٌ، نِصف نَفَقَة الموسِر، ونصف نفقة الفقير.
وقال القاضي أبو يعلى: مقدرة بمقدارٍ لا يختلِفُ في القِلة والكثرة، والواجب رِطلانِ من الخبز في كل يوم في حق المُوسِرِ والمُعْسِرِ اعتباراً بالكفارات، وإنما يختلفان في صفته وجودته، لأن المُوسِرَ والمُعْسِرَ سواء في قدر المأكول، وما تقُومُ به البنيةُ، وإنما يختلفان في جودته، فكذلك النفقة الواجبة.
والجمهور قالوا: لا يُحفظ عن أحد من الصحابة قطُّ تقديرُ النفقة، لا بمُدٍّ، ولا برطل، والمحفوظ عنهم، بل الذي اتصل به العملُ في كل عصر ومصر ما ذكرناه.
قالوا: ومن الذي سلَّم لكم التقدير بالمُد والرطل في الكفارة، والذي دلَّ عليه القرآن والسنة أن الواجبَ في الكفارة الإِطعامُ فقط لا التمليك، قال تعالى في كفارة اليمين: {فكفَّارتُهُ إطعامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُم} [المائدة: 89]، وقال في كفارة الظهار: {فَمنَ لَمْ يَسْتَطعْ فَإطْعَامُ سِتِّينَ مسْكِينا} [المجادلة: 4]، وقال في فدية الأذى:{فَفِدْيةٌ مِنْ صيَامٍ أوْ صدَقَةٍ أَو نُسُكٍ} [البقرة: 196]، وليس في القرآن في إطعام الكفارات غيرُ هذا، وليس في موضع واحد منها تقدير ذلك بمد ولا رطل،

وصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لمن وطىء في نهار رمضان : "أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً". وكذلك قال للمظاهرِ، ولم يَحُدَّ ذلك بمد ولا رطل.
فالذي دل عليه القراَن والسنة، أن الواجب في الكفارات والنفقات هو الإِطعامُ لا التمليكُ، وهذا هو الثابتُ عن الصحابة رضي الله عنهم. قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو خالد، عن حجاج، عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي: يُغدِّيهم، ويُعشِّيهم خبزاً وزيتاً.
وقال إسحاق، عن الحارث كان عليّ يقول في إطعام المساكين في كفارة اليمين: يُغدِّيهم ويُعشيهم خبزاً وزيتاً، أو خبزاً وسمناً.
وقال ابن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن يعلى، عن ليث، قال: كان عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه يقول:{ مِن أوسطِ ما تطعِمُون أهليكم} [المائدة: 89] قال: الخبز والسمن، والخبز والزيت، والخبز واللحم.
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أوسط ما يُطعم الرجل أهله:الخبز واللبن،والخبز والزيت،والخبز والسمن، ومن أفضل ما

يطعم الرجل أهله:الخبز واللحم.
وقال يزيد بن زريع: حدثنا يونس، عن محمد بن سيرين، أن أبا موسى الأشعري كفَّر عن يمين له مرة، فأمر بجيراً أو جبيراً يُطعم عنه عشرة مساكين خبزاً ولحماً وأمر لهم بثوب مُعقَد أو ظهراني.
وقال ابن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا يحيى بن أيوب، عن حميد، أن أنساً رضي الله عنه مرض قبلَ أن يموتَ، فلم يستطعْ أن يصوم، وكان يجمعُ ثلاثين مسكيناً فيطعمهم خبزاً ولحماً أكلة واحدة.
وأما التابعون،فثبت ذلك عن الأسود بن يزيد، وأبي رزين، وعبيدةَ، ومحمد بن سيرين، والحسن البصري، وسعيد بن جُبير، وشُريح، وجابر بن زيد، وطاووس، والشعبي، وابن بريدة،والضحاك،والقاسم، وسالم، ومحمد بن إبراهيم، ومحمد بن كعب، وقتادة،وإبراهيم النخعي، والأسانيد عنهم بذلك في أحكام القرآن لإِسماعيل بن إسحاق، منهم من يقول: يغذَي المساكينَ ويُعشِّيهم، ومنهم من يقول: أكلة واحدة، ومنهم من يقول: خبز ولحمٌ، خبز وزيت، خبز وسمن، وهذا مذهب أهل المدينة، وأهل العراق، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، والرواية الأخرى: أن طعامَ الكفارة مقدَّر دون نفقة الزوجات.

فالأقوال ثلاثة: التقدير فيهما، كقول الشافعي وحدَه، وعدمُ التقدير فيهما، كقول مالك وأبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين. والتقديرُ في الكفارة دون النفقة، كالرواية الأخرى عنه.
قال من نصر هذا القول: الفرقُ بين النفقة والكفارة: أن الكفارة لا تختلِفُ باليسار والإِعسار، ولا هي مقدَّرة بالكفاية، ولا أوجبها الشارعُ بالمعروف، كنفقةِ الزوجة والخادم، والإِطعامُ فيها حق للّه تعالى لا لآَدمي معين، فيُرضى بالعوض عنه، ولهذا لو أخرج القيمة لم يُجْزِه، ورُوي التقديرُ فيها عن الصحابة، فقال القاضي إسماعيل: حدثنا حجَّاج بن المنهال، حدثنا أبو عَوانة، عن منصور، عن أبي وائل، عن يسار بن نمير، قال: قال عمر: إن ناساً يأتوني يسألوني، فأَحلِفُ أني لا أُعطيهم، ثم يبدو لي أن أُعْطيهم، فإذا أمرتُك أن تكَفِّرَ، فأطعم عنِّي عشرة مساكين، لِكُلِّ مسكينٍ صاعاً من تمر أو شعير، أو نصف صاع من بر.
حدثنا حجاج بن المنهال وسليمان بن حرب، قالا حدثنا حمادُ بن سلمة، عن سلمة بن كهَيْل، عن يحيى بن عباد، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يَايَرْفا! إذا حلفتُ فحنثتُ، فأطعم عني ليميني خمسة أصْوُعٍ عشرة مساكين.
وقال ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن عُمر بن أبي مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي قال: كفارةُ اليمين: إطعام عشرةِ مساكين لِكل مسكين نصفُ صاع.
حدثنا عبد الرحيم، وأبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن قُرط،

عن جدته، عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنا نُطعِمُ نصفَ صاعٍ مِن بُر، أو صاعاً من تمر في كفارة اليمين. وقال إسماعيل: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام بن أبي عبد الله، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن زيد بن ثابت، قال: يُجزىء في كفارة اليمينِ لِكل مسكين مُدُّ حِنطة. حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن يزيد، عن أيوب، عن نافع، أن ابن عمر رضي الله عنه كان إذا ذكر اليمين، أعتق، وإذا لم يذْكُرْها، أطعم عشرةَ مساكين، لكل مسكين مُدٌّ مُدّ.
وصحَّ عن ابن عباس رضي الله عنهما: في كفارة اليمين مُدّ، ومعه أدمُهُ.
وأما التابعون، فثبت ذلك عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقال: كل طعام ذكر في القرآن للمساكين، فهو نصف صاع، وكان يقولُ في كفارة الأَيمان كلها: مُدَانِ لِكُلِّ مسكين.
وقال حمادُ بن زيد عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار: أدركتُ الناسَ وهم يُعطون في كفارة اليمين مداً بالمدِّ الأول. وقال القاسم، وسالم، وأبو سلمة، مُدٌّ مُدّ من بر، وقال عطاء: فرقاً بين عشرة، ومرة قال: مُدٌّ مدٌ.
قالوا: وقد ثبت في "الصحيحين" أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لِكَعْب بن غجْرَةَ في كفارة فدية الأذى: أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ نِصْفَ صاعٍ نِصْفَ صَاعٍ طَعَاماً لِكُلِّ مِسْكينٍ. فقدَّر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِدية الأذى، فجعلنا

تقديرها أصلاً، وعدَّيناها إلى سائر الكفارات،ثم قال من قدّر طعام الزوجة: ثم رأينا النفقاتِ والكفاراتِ قد اشتركا في الوجوب، فاعتبرنا إطعامَ النفقة بإطعام الكفارة، ورأينا الله سبحانه قد قال في جزاء الصيد: {أَو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95]، وما أجمعت الأمة أن الطعام مقدَّر فيها، ولهذا لو عَدِمَ الطعام، صام عن كل مدٍّ يوماً، كما أفتى به ابنُ عباس والناسُ بعده، فهذا ما احتجت به هذه الطائفةُ على تقدير طعام الكفارة.
قال الآخرون: لا حُجة في أحد دونَ الله ورسوله وإجماع الأمة، وقد أمرنا تعالى أن نَرُدَّ ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله، وذلك خيرٌ لنا حالاً وعاقبةً، ورأينا اللهَ سبحانه إنما قال في الكفارة: {إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] ، {فإِطْعَام سِتَينَ مسكِيناً} [المجادلة: 4] ، فعلق الأمر بالمصدر الذي هو الإِطعام، ولم يحد لنا جنسَ الطعام ولا قدره، وحدَّ لنا جنس المطعمين وقدرَهم، فأطلق الطعام وقيَّدَ المطعومين، ورأيناه سبحانه حيث ذكر إطعامَ المسكين في كتابه، فإنما أراد به الإِطعامَ المعهود المتعارفَ، كقوله تعالى:{ ومَا أَدراكَ مَا العَقَبَةُ * فَك رَقَبَةٍ * أَو إِطْعَامٌ في يَومٍ ذي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً} [البلد: 12-15]. وقال: {ويُطعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حبِّهِ مِسكِيناً ويَتِيماً وأَسيراً}[الإِنسان: 8] وكان من المعلوم يقيناً، أنهم لو غدَّوهم أو عشَّوهم أو أطعمُوهم خبزاً ولحماً أو خبزاً ومرقاً ونحوه لكانوا ممدوحين داخلين فيمن أثنى عليهم، وهو سبحانه عَدَلَ عن الطعام الذي هو اسم للمأكول إلى الإِطعام الذي هو مصدرٌ صريح، وهذا نصّ في أنه إذا أطعم المساكينَ، ولم يُملكهم، فقد امتثل ما أمر به، وصحَّ في كل لغة وعرف: أنه أطعمهم.

قالوا: وفي أي لغة لا يصدق لفظُ الإِطعام إلا بالتمليك؟ ولِما قال أنس رضي الله عنه: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أطعَمَ الصحابة في وليمة زينب خبزاً ولحماً. كان قد اتخذ طعاماً، ودعاهم إليه على عادة الولائم، وكذلك قولُه في وليمة صفية: "أطْعَمَهُم حَيْساً"، وهذا أظهر من أن نذكر شواهدَه، قالوا: وقد زاد ذلك إيضاحاً وبياناً بقوله : {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُم} [المائدة: 89] ، ومعلوم يقيناً، أن الرجل إنما يُطعم أهله الخبزَ واللحمَ، والمرق واللبنَ، ونحو ذلك، فإذا أطعم المساكينَ مِن ذلك، فقد أطعمهم مِن أوسط ما يُطعم أهلَه بلا شك، ولهذا اتفق الصحابةُ رضي الله عنهم في إطعامِ الأهلِ على أنه غيرُ مقدر، كما تقدَّمَ، والله سبحانه جعله أصلاً لطعام الكفارة، فدلَّ بطريق الأولى على أن طعام الكفارة غيرُ مقدَّر.
وأما من قدَّر طعام الأهل، فإنما أخذ من تقدير طعام الكفارة، فيُقال: هذا خلافُ مقتضى النص، فإن الله أطلق طعامَ الأهل، وجعله أصلاً لطعام الكفارة، فعُلِمَ أن طعام الكفارة لا يتقدَّر كما لا يتقدَرُ أصله، ولا يُعرف عن صحابي البتة تقديرُ طعام الزوجة مع عموم هذه الواقعة في كل وقت.

قالوا: فأما الفروق التي ذكرتمُوها، فليس فيها ما يستلزِمُ تقديرَ طعام الكفارة، وحاصلُها خمسةُ فروق، أنها لا تختلِفُ باليَسار والإِعسار، وأنها لا تتقدَّر بالكِفاية، ولا أوجبها الشارعُ بالمعروف، ولا يجوز إخراجُ العِوَضِ عنها، وهي حقّ للّه لا تسقُط بالإِسقاط بخلاف نفقة الزوجة، فيقال: نعم لا شك في صحة هذه الفروق، ولكن من أين يستلزم وجوب تقديرها بمد ومدين؟ بل هي إطعامٌ واجب من جنس ما يُطْعِمُ أهله، ومع ثبوت هذه الأحكام لا يدل على تَقديرها بوجه.
وأما ما ذكرتم عن الصحابة من تقديرها، فجوابه من وجهين.
أحدهما: أنا قد ذكرنا عن جماعة، منهم علي، وأنس، وأبو موسى، وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم قالوا: يُجزىء أن يغدِّيَهم ويعشِّيَهم.
الثاني: أن مَنْ رُوي عنهم المد والمدان لم يذكروا ذلك تقديراً وتحديداً، بل تمثيلاً، فإن منهم من رُويَ عنه المد، ورُوي عنه مدان، ورُوي عنه مكّوك، وروي عنه جوازُ التغدية والتعشية، ورُوي عنه أكلة، ورُوي عنه رغيفٌ أو رغيفانِ، فإن كان هذا اختلافاً، فلا حجة فيه، وإن كان بحسب حال المستفتي وبحسب حال الحالف والمكفِّر، فظاهر، وإن كان ذلك على سبيل التمثيل، فكذلك. فعلى كُلِّ تقدير لا حجة فيه على التقديرين.
قالوا: وأما الإِطعامُ في فِدية الأذى، فليس من هذا الباب، فإن الله سبحانه:{ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، واللهُ سبحانه أطلق هذه الثلاثة ولم يقيدها. وصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقييدُ الصيام بثلاثة أيام، وتقييد النسك بذبح شاة، وتقييدُ الإِطعام بستة مساكين، لكل مسكين نِصفُ صاع، ولم يقل سبحانه في فدية الأذى: فإطعام ستة مساكين،

ولكن أوجب صدقة مطلقة، وصوماً مطلقاً، ودماً مطلقاً، فعيَّنه النبيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفَرْقِ، والثلاثة الأيام، والشاة.
وأما جزاءُ الصيد، فإنه مِن غير هذا الباب، فإن المُخْرِجَ إنما يُخرج قيمة الصيد من الطعام، وهي تختلف بالقلة والكثرة، فإنها بَدَل مُتْلَفٍ لا يُنظر فيها إلى عدد المساكين، وإنما تنظر فيها إلى مبلغ الطعام، فيُطعمه المساكين على ما يرى من إطعامهم وتفضيل بعضهم على بعض، فتقديرُ الطعام فيها على حسب المتلف، وهو يَقِلُّ ويكثُر، وليس ما يُعطاه كلُّ مسكين مقدراً.
ثم إن التقدير بالحَبِّ يستلزِمُ أمراً باطلاً بيِّنَ البُطلان، فإنه إذا كان الواجبُ لها عليه شرعاً الحب، وأكثر الناس إنما يطعم أهله الخبز، فإن جعلتم هذا معاوضة كان رباً ظاهراً، وإن لم تجعلوه معاوضة، فالحبُّ ثابت لها في ذمته، ولم تَعْتَضْ عنه، فلم تبرأ ذمتُه منه إلا بإسقاطها وإبرائها، فإذا لم تُبرئه طالبته بالحب مدةً طويلة مع إنفاقه عليها كلَّ يومٍ حاجتها من الخبز والأدم،و إن مات أحدُهما كان الحب ديناً له أو عليه، يُؤخذ من التركة مع سعة الإِنفاق عليها كُلَّ يوم.ومعلوم أن الشريعة الكاملة المشتمِلَةَ على العدل والحكمة والمصلحة تأبى ذلك كُلَّ الإِباء، وتدفعُه كُلَّ الدفع كما يدفعُه العقل والعُرف، ولا يُمكِنُ أن يُقال: إن النفقة التي في ذمته تسقُط بالذي له عليها من الخبز والأدم لوجهين، أحدهما: أنه لم يبعه إياها، ولا اقترضه منها حتى يثبت في ذمتها، بل هي معه فيه على حكم الضيف، لامتناع المعاوضة عن الحب بذلك شرعاً. ولو قدِّرَ ثبوتُه في ذمتها، لما أمكنت المقاصة، لاختلاف الدينين جنساً، والمقاصة تعتمِدُ اتفاقهما. هذا وإن قيل بأحد الوجهين:

إنه لا يجوزُ المعاوضة على النفقة مطلقاً لا بدراهم ولا بغيرها لأنه معاوضة عما لم يستقر، ولم يجب، فإنها إنما تجب شيئاً فشيئاً، فإنه لا تَصِحُّ المعاوضةُ عليها حتى تستقر بمُضي الزمان، فيعاوض عنها كما يُعاوض عما هو مستقر في الذمة من الديون، ولما لم يجد بعضُ أصحاب الشافعي من هذا الإِشكال مخلصاً قال: الصحيح أنها إذا أكلت، سقطت نفقتها. قال الرافعي في "محرره": أولى الوجهين السقوطُ، وصححه النووي لجريان الناس عليه في كل عصر ومصر، واكتفاء الزوجة به. وقال الرافعي في "الشرح الكبير"، و"الأوسط": فيه وجهان. أقيسهُما: أنها لا تسقط، لأنه لم يوفِ الواجب، وتطوع بما ليس بواجب، وصرَّحوا بأن هذين الوجهين في الرشيدة التي أذن لها قَيِّمُها، فإن لم يأذن لها، لم تسقط وجهاً واحداً.
فصل
وفي حديث هند: دليل على جواز قول الرجل في غريمه ما فيه من العيوب عند شكواه، وأن ذلك ليسر بغيبة، ونظيرُ ذلك قول الآخر في خصمه: يا رسول الله ! إنه فاجر لا يُبالي ما حلف عليه.
وفيه دليل على تفرد الأب بنفقة أولاده، ولا تُشارِكُه فيها الأم، وهذا إجماع من العلماء إلا قول شاذ لا يلتفت إليه، أن على الأم من النفقة بقدر ميراثها، وزعم صاحبُ هذا القول: أنه طرَّدَ القياس على كل من له ذكر وأنثى في درجة واحدة، وهما وارثان، فإن النفقة عليهما، كما لو كان له أخٌ وأخت، أو أم وجد، أو ابن وبنت، فالنفقةُ عليهما على قدر ميراثهما، فكذلك الأبُ والأمُّ.

والصحيح: انفرادُ العصبة بالنفقة، وهذا كُلهُ كما ينفرد الأب دون الأم بالإِنفاق، وهذا هو مقتضى قواعد الشرع، فإن العصبة تنفردُ بحمل العقل، وولاية النكاح، وولاية الموت والميراث بالولاء، وقد نص الشافعيُّ على أنه إذا اجتمع أم وجد أو أب، فالنفقةُ على الجد وحده، وهو إحدى الروايات عن أحمد، وهي الصحيحة في الدليل، وكذلك إن اجتمع ابن وبنت، أو أم وابن، أو بنت وابن ابن، فقال الشافعي: النفقةُ في هذه المسائل الثلاث على الابن لأنه العصبة، وهي إحدى الروايات عن أحمد. والثانية: أنها على قدر الميراث في المسائل الثلاث، وقال أبو حنيفة: النفقة في مسألة الابن والبنت عليهما نصفان لتساويهما في القرب، وفي مسألة بنت وابن ابن: النفقة على البنت لأنها أقرب، وفي مسألة أم وبنت على الأم الربع، والباقي على البنت، وهو قولُ أحمد، وقال الشافعي: تنفرد بها البنتُ، لأنها تكون عصبةً مع أخيها، والصحيحُ: انفراد العصبة بالإِنفاق، لأنه الوارث المطلق.
وفيه دليلٌ على أن نفقة الزوجة، والأقارب مقدَّرة بالكفاية، وأن ذلك بالمعروف، وأن لِمَن له النفقة له أن يأخذها بنفسه إذا منعه إياها مَنْ هي عليه.
وقد احتجَّ بهذا على جواز الحكم على الغائب، ولا دليل فيه، لأن أبا سفيان كان حاضراً في البلد لم يكن مسافراً، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسألها البينَة، ولا يُعطى المدَّعي بمجرد دعواه، وإنما كان هذا فتوى منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد احتج به على مسألة الظَّفر، وأن للإِنسان أن يأخذ من مال غريمه إذا ظفر به بقدر حقه الذي جحده إياه، ولا يدل لثلاثة أوجه، أحدُها: أن سببَ الحق هاهنا ظاهر، وهو الزوجية، فلا يكون الأخذُ

خيانةً في الظاهر، فلا يتناولُه قول النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَدِّ الأمَانَةَ إلى من ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ" . ولهذا نص أحمد على المسألتين مفرقاً بينهما، فمنع من الأخذ في مسألة الظفر، وجوَّز للزوجة الأخذَ، وعمل بكلا الحديثين.
الثاني: أنه يشق على الزوجة أن ترفعَه إلى الحاكم، فيلزمه بالإِنفاق أو الفراق، وفي ذلك مضرَّة عليها مع تمكنها من أخذ حقها. الثالث: أن حقها يتجددُ كُلَّ يوم فليس هو حقاً واحداً مستقراً يُمكن أن تستدينَ عليه، أو ترفعه إلى الحاكم بخلاف حق الدين.
فصل
وقد احتج بقصة هند هذه على أن نفقة الزوجة تَسْقُطُ بمضي الزمان، لأنه لم يُمكنها من أخذ ما مضى لها مِن قدر الكفاية مع قولها: إنه لا يُعطيها ما يكفيها، ولا دليلَ فيها، لأنها لم تدع به ولا طلبته، وإنما استفتته: هل تأخذ في المستقبل ما يكفيها؟ فأفتاها بذلك. وبعد، فقد اختلف الناسُ في نفقة الزوجات والأقارب، هل يسقُطانِ بمضى الزمان كلاهما، أو لا يسقطان، أو تسقُطُ نفقةُ الأقارب دون الزوجات؟ على ثلاثة أقوال.

أحدها: أنهما يسقطان بمضي الزمان، وهذا مذهب أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد.
والثاني: أنهما لا يسقُطان إذا كان القريبُ طفلاً، وهذا وجه للشافعية.
والثالث: تسقُط نفقةُ القريب دون نفقة الزوجة، وهذا هو المشهورُ من مذهب الشافعي وأحمد ومالك. ثم الذين أسقطوه بمضي الزمان، منهم من قال: إذا كان الحاكمُ قد فرضها لم تسقط، وهذا قولُ بعض الشافعية والحنابلة. ومنهم من قال: لا يُؤثِّر فرضُ الحاكم في وجوبها شَيْئاً إذا سقطت بمضى الزمان، والذي ذكره أبو البركات في "محرَّرِهِ"، الفرق بين نفقة الزوجة ونفقة القريب في ذلك، فقال: وإذا غاب مُدةً ولم يُنفق، لزمه نفقةُ الماضي، وعنه: لا يلزمه إلا أن يكون الحاكمُ قد فرضها.
وأما نفقةُ أقاربه، فلا تلزمه لِما مضى وإن فرضت إلا أن يستدان عليه بإذن الحاكم وهذا هو الصوابُ، وأنه لا تأثير لفرض الحاكم في وجوب نفقة القريب لما مضى من الزمان نقلاً وتوجيهاً، أما النقلُ، فإنه لا يُعرف عن أحمد، ولا عن قدماء أصحابه استقرارُ نفقة القريب بمضي الزمان إذا فرضها الحاكم، ولا عن الشافعي، وقدماء أصحابه والمحققين لمذهبه منهم، كصاحب "المهذب"، و"الحاوي"، و"الشامل"، و"النهاية"، و"التهذيب"، و"البيان"، و"الذخائر" وليس في هذه الكتب إلا السقوطُ بدون استثناء فرض، وإنما يُوجد استقرارُها

إذا فَرَضَها الحاكم في "الوسيط" و"الوجيز"، وشرح الرافعي وفروعه، وقد صرح نصر المقدسي في "تهذيبه"، والمحاملي في "العدة"، ومحمد بن عثمان في "التمهيد"، والبندنيجي في "المعتمد" بأنها لا تستقر ولو فرضها الحاكم، وعلَّلوا السقوط بأنها تجِبُ على وجه المواساة لإِحياء النفس، ولهذا لا تجب مع يسار المنفق عليه، وهذا التعليلُ يُوجب سقوطَها فرضت أو لم تفرض. وقال أبو المعالي: ومما يدل على ذلك أن نفقة القريب إمتاع لا تمليك، وما لا يجب فيه التمليك، وانتهى إلى الكفاية، استحال مصيرُه ديناً في الذمة، واستبعد لهذا التعليل قول من يقول: إن نفقةَ الصغير تستقِرُّ بمضي الزمان، وبالغ في تضعيفه من جهة أن إيجابَ الكفاية مع إيجاب عوض ما مضى متناقض، ثم اعتذر عن تقديرها في صورة الحمل على الأصح. إذا قلنا: إن النفقة له بأن الحامل مستحقة لها أو منتفعة بها فهي كنفقة الزوجة. قال:ولهذا قُلنا: تتقدر،ثم قال: هذا في الحمل والولد الصغير، أما نفقة غيرهما، فلا تصير ديناً أصلاً. انتهى.
وهذا الذي قاله هؤلاء هو الصوابُ، فإن في تصورِ فرض الحاكم نظرا، لأنه إما أن يعتقد سقوطَها بمضي الزمان أو لا، فإن كان يعتقده، لم يسغ له الحكم بخلافه، وإلزام ما يعتقد أنه غيرُ لازم، وإن كان لا يعتقد سقوطَها مع أنه لا يعرف بهِ قائل إلا في الطفل الصغير على وجه لأصحاب الشافعي. فإما أن يعني بالفرض الإِيجاب، أو إثباتَ الواجب، أو تقديرَه أو أمراً رابعاً فإن أُريدَ به الإِيجابُ، فهو تحصيلُ الحاصل ولا أثرَ لفرضه، وكذلك إن أريد به إثباتُ الواجب، ففرضُه وعَدَمُهُ سِيّان، وإن أريد به تقديرُ الواجب،، فالتقديرُ إنما يُؤَثِّر في صفة الواجب من الزيادة والنقصان،

لا في سقوطِه ولا ثبوتِه، فلا أثر لفرضه في الواجب البتة، هذا مع ما في التقدير مِن مُصادمة الأدلةِ التي تقدمت، على أن الواجبَ النفقةُ بالمعروف، فيُطعمهم مما يأكل، ويكسوهم مما يلبس،. وإن أريد به أمرٌ رابع، فلا بد من بيانه لينظر فيه.
فإن قيل: الأمرُ الرابع المرادُ هو عدمُ السقوط بمضي الزمان، فهذا هو محلُّ الحكم، وهو الذي أثر فيه حكمُ الحاكم، وتعلَّق به. قيل: فكيف يُمكنُ أن يعتقِدَ السقوط، ثم يُلزم ويقضي بخلافه؟ وإن اعتقد عدمَ السقوط، فخلاف الإِجماع، ومعلومٌ أن حكم الحاكم لا يزيلُ الشيءَ عن صفته، فإذا كانت صفة هذا الواجِب سقوطه بمضي الزمان شرعاً لم يُزله حكم الحاكم عن صفته. فإن قيل: بقي قسم آخر، وهو أن يعتقد الحاكمُ السقوطَ بمضي الزمان ما لم يفرِضْ، فإن فُرِضَت، استقرت فهو يحكم باستقرارها لأجل الفرض لا بنفس مضي الزمان. قيل: هذا لا يُجدي شيئاً، فإنه إذا اعتقد سقوطها بمضي الزمان، وإن هذا هو الحقُّ والشرع، لم يَجُز له أن يلزم بما يعتقد سقوطه وعدم ثبوته، وما هذا إلا بمثابة ما لو ترافع إليه مضطر، وصاحبُ طعام غير مضطر، فقضي به للمضطر بعوضه، فلم يتفق أَخْذُهُ حتى زال الاضطرارُ، ولم يعط صاحبه العوضَ أنه يلزمه بالعوض، ويُلْزَمُ صاحِبُ الطعام ببذله له، والقريبُ يستحق النفقة لإِحياء مُهجته، فإذا مضى زمنُ الوجوب، حصل مقصودُ الشارع من إحيائه، فلا فائدة في الرجوع بما فات من سبب الإِحياء، ووسيلته مع حصول المقصود والاستغناء عن السبب بسبب آخر.
فإن قيل: فهذا ينتقِضُ عليكم بنفقةِ الزوجة، فإنها تستقِرُّ بمضي

الزمان، ولو لم تُفرض مع حصول هذا المعنى الذي ذكرتموه بعينه. قيل: النقضُ لا بُد أن يكون بمعلومِ الحكم بالنص أو الإِجماع، وسقوطُ نفقة الزوجة بمضي الزمان مسألة نزاع، فأبو حنيفة وأحمد في رواية يُسقطانها، والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى لا يُسقطانها، والذين لا يُسقطونها فرَّقوا بينها وبين نفقة القريب بفروق.
أحدها: أن نفقة القريب صلة.
الثاني: أن نفقة الزوجة تجب مع اليسار والإِعسار بخلاف نفقة القريب. الثالث: أن نفقة الزوجة تجب مع استغنائها بمالها، ونفقة القريب لا تجب إلا مع إعساره وحاجته.
الرابع: أن الصحابة رضي الله عنهم أوجبوا للزوجة نفقة ما مضى، ولا يُعرف عن أحد منهم قط أنه أوجب للقريب نفقة ما مضى، فصح عن عمر
رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم بأن يُنفقوا أو يُطلقوا، فإن طلقوا، بعثوا بنفقة ما مضى، ولم يُخالف عمر رضي الله عنه في ذلك منهم مخالف. قال ابن المنذر رحمه الله: هذه نفقةٌ وجبت بالكتاب والسنة والإِجماع، ولا يزول ما وجب بهذه الحجج إلا بمثلها.
قال المسقطون: قد شكت هند إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أبا سفيان لا يُعطيها كفايتها، فأباح لها أن تأخذ في المستقبل قدر الكفاية، ولم يُجَوِّز لها أخذ ما مضى، وقولُكم: إنها نفقة معاوضة، فالمعاوضة إنما هي بالصداق، وإنما النفقة لكونها في حبسه، فهي عانِيةٌ عنده كالأسير، فهى من جملة

عياله، ونفقتها مواساة، وإلا فكل من الزوجين يحصُلُ له من الاستمتاع مثلُ ما يحصل للآخر، وقد عاوضها على المهر، فإذا استغنت عن نفقة ما مضى فلا وجه لإِلزام الزوج به، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل نفقة الزوجة كنفقة القريب بالمعروف، وكنفقة الرقيق فالأنواع الثلاثة إنما وجبت بالمعروف مواساة لإِحياء نفس من هو في ملكه وحبسه، ومن بينه وبينه رحم وقرابة، فإذا استغنى عنها بمضي الزمان، فلا وجه لإِلزام الزوج بها، وأيُّ معروف في إلزامه نفقة ما مضى وحبسه على ذلك، والتضييق عليه، وتعذيبه بطول الحبس، وتعريض الزوجة لقضاء أوطارها مِن الدخول والخروج وعُشرةِ الأخدان بانقطاع زوجها عنها، وغيبةِ نظره عليها، كما هو الواقع، وفي ذلك من الفساد المنتشر ما لا يعلمه إلا الله، حتى إن الفروج لَتَعُجُّ إلى الله من حبس حماتها ومن يصونها عنها، وتسييبها في أوطارها، ومعاذ الله أن يأتي شرع الله لهذا الفساد الذي قد استطار شرارُه، واستعرت نارُه، وإنما أمر عمرُ بن الخطاب الأزواجَ إذا طلقوا أن يبعثوا بنفقة ما مضى، ولم يأمرهم إذا قَدِموا أن يفرضوا نفقَة ما مضى، ولا يُعْرَفُ ذلك عن صحابي البتة، ولا يلزم من الإِلزم بالنفقة الماضية بعدَ الطلاق وانقطاعها بالكُلية الإِلزامُ بها إذا عاد الزوج إلى النفقة والإِقامة، واستقبل الزوجةَ بكل ما تحتاج إليه، فاعتبارُ أحدهما بالآخر غيرُ صحيح، ونفقة الزوجة تجب يوماً بيوم، فهي كنفقةِ القريب، وما مضى فقد استغنت عنه بمضي وقته، فلا وجهَ لإِلزام الزوج به، وذلك منشأ العداوة والبغضاء بين الزوجين، وهو ضِدُّ ما جعله الله بينهما من المودة والرحمة، وهذا القولُ هو الصحيحُ المختارُ الذي لا تقتضي الشريعةُ غيره، وقد صرح أصحابُ الشافعي، بأن كسوة الزوجة وسكنها يسقُطان بمضى الزمان إذا قيل: إنهما إمتاع لا تمليك، فإن لهم في ذلك وجهين.

فصل
وأما فرضُ الدراهم، فلا أصل له في كتاب الله تعالى، ولا سنة رسولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم البتة، ولا التابعين، ولا تابعيهم، ولا نصَّ عليه أحدّ من الأئمة الأربعة، ولا غيرُهم من أئمة الإِسلام، وهذه كتبُ الآثار والسنن، وكلامُ الأئمة بين أظهرنا، فأوجِدُونا من ذكر فرضَ الدراهم. والله سبحانه أوجب نفقة الأقارب والزوجات والرقيق بالمعروف، وليس مِن المعروف فرضُ الدراهم، بل المعروف الذي نص عليه صاحبُ الشرع أن يُطعمهم مما يأكل، ويكسوهم مما يَلْبَسُ، ليس المعروف سوى هذا، وفرضُ الدراهم على المنفق من المنكر، وليست الدراهمُ من الواجب ولا عوضه، ولا يَصِحُّ الاعتياضُ عما لم يستقر ولم يملك، فإن نفقة الأقارِب والزوجات إنما تجب يوماً فيوماً، ولو كانت مستقرة لم تصح المعاوضةُ عنها بغير رضى الزوج والقريب، فإن الدراهم تجعلُ عوضاً عن الواجب الأصلي، وهو إما البرُّ عند الشافعي، أو الطعامُ المعتاد عند الجمهور، فكيف يُجبر على المعاوضة على ذلك بدراهم مِن غير رِضاه، ولا إجبار صاحب الشرع له على ذلك، فهذا مخالف لقواعد الشرع، ونصوص الأئمة، ومصالح العباد، ولكن إن اتفق المنفِقُ والمنفق عليه على ذلك جاز باتفاقهما، هذا مع أنه في جواز اعتياضِ الزوجة عن النفقة الواجبة لها نزاع معروف في مذهب الشافعي وغيره، فقيل: لا تعتاض، لأن نفقتها طعام ثبت في الذمة عوضاً، فلا تعتاضُ عنه قبل القبض، كالمسلم فيه، وعلى هذا فلا يجوزُ الاعتياضُ لا بدارهم ولا ثياب، ولا شيء البتة، وقيل: تعتاضُ بغير الخبز والدقيق، فإن الاعتياضَ بهما رباً، هذا إذا كان الاعتياضُ عن الماضي، فإن كان عن

المستقبل، لم يصح عندهم وجهاً واحداً، لأنها بصدد السقوط، فلا يُعلم استقرارها.
ذكر ما روي من حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تمكين المرأة من فراق زوجها إذا أعسر بنفقتها.
روى البخاري في "صحيحه"، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللهِ: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنىً "، وفي لفظ: " ما كان عَنْ ظَهْرِ غِنىً، واليَدُ العلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلَى، وابْدَأْ بِمن تَعُولُ "، تقول المرأةُ: إما أن تُطعِمَنى،وإما أن تُطَلّقَني، ويقول العبدُ: أطعمني واستَعمِلني، ويقول الولدُ: أطعمني، إلى من تدعني؟ قالوا: يا أبا هريرة سمعتَ هذا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لا. هذا مِنْ كِيسِ أبي هريرة. وذكر النسائي هذا الحديث في كتابه وقال فيه: "وابْدَأ بِمن تَعُولُ"، فقيل: من أعولُ يا رسول الله؟ قال: "امْرَأتُكَ تَقُولُ: أَطْعِمْني وإلاّ فَارِقني، خَادِمكَ يَقُولُ: أَطْعِمْني واسْتَعْمِلْني، وَلَدُكَ يَقُولُ: أَطْعِمْني إلى مَن تَترُكني؟ ". وهذا في جميع نسخ كتاب النسائي، هكذا، وهو عنده من حديث سعيد بن أيوب، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وسعيد ومحمد ثقتان.

وقال الدارقطني: حدثنا أبو بكر الشافعي، حدثنا محمد بن بشر بن مطر، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " المَرْأَةُ تَقُولُ لِزَوْجِهَا: أَطْعِمْني أَوْطَلِّقْني"الحديث.
وقال الدارقطني: حدثنا عثمانُ بن أحمد بن السماك، وعبدُ الباقي ابن قانع، وإسماعيل بن علي، قالوا: أخبرنا أحمد بن علي الخزاز، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الباوردي،حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب،في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته، قال: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وبهذا الإِسناد إلى حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله.
وقال سعيد بن منصور في "سننه": حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، قال: سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يَجِدُ ما يُنْفِقُ على امرأته، أَيُفرَّقُ بينهما؟ قال: نعم. قلت سنة؟ قال: سنة. وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فغايتُه أن يكون من مراسيل سعيد بن المسيب.
واختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على أقوال.
أحدها: أنه يُجبر على أن يُنْفِقَ أو يُطلِّقَ، روى سفيان عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن ابن المسيب، قال: إذا لم يجد الرجلُ ما يُنفق على امرأته، أُجْبِرَ على طلاقها.

الثاني: إنما يُطلِّقها عليه الحاكمُ، وهذا قولُ مالك، لكنه قال: يؤجل في عدم النفقة شهرا ونحوه، فإن انقضى الأجلُ وهي حائضٌ، أُخِّرَ حتى تطهر، وفي الصداقة عامين، ثم يُطلقها عليه الحاكمُ طلقة رجعية، فإن أيسر في العدة، فله ارتجاعُها، وللشافعي قولان. أحدهما: أن الزوجة تخير إن شاءت أقامت معه، وتبقى نفقة المُعْسِرِ ديناً لها في ذمته. قال أصحابه: هذا إذا أمكنته مِن نفسها، وإن لم تُمكنه، سقطت نفقتها، وإن شاءت، فسخت النكاح.
والقول الثاني: ليس لها أن تفسخ، لكن يرفع الزوجُ يدَه عنها لتكتسِبَ، والمذهب أنها تملِكُ الفسخ.
قالوا: وهل هو طلاقٌ أو فسخ؟ فيه وجهان.
أحدهما: أنه طلاق، فلا بُدَّ من الرفع إلى القاضي حتى يُلزمه أن يطلِّقَها أو ينفق، فإن أبى طلق الحاكم عليه طلقةً رجعيةً، فإن راجعها، طلَّقَ عليه ثانية، فإن راجعها، طلق عليه ثالثة.
والثاني: أنه فسخ، فلا بد من الرفع إلى الحاكم ليثبتَ الإِعسارُ، ثم تفسخ هي، وإن اختارت المقام، ثم أرادت الفسخَ، ملكته، لأن النفقة يتجدد وجوبُها كل يوم، وهل تملك الفسخَ في الحال أولا تملِكُه إلا بعد مضي ثلاثة أيام؟ وفيه قولان. الصحيح عندهم: الثاني. قالوا: فلو وجد في اليوم الثالث نفقتها وتعذَّر عليه نفقةُ اليوم الرابع، فهل يجب استئنافُ هذا الإِمهال؟ فيه وجهان. وقال حماد بن أبي سليمان: يؤجل سنة ثم يفسخ قياساً على العِنِّين. وقال عمر بن عبد العزيز: يُضرب له شهر أو شهران. وقال مالك: الشهرُ ونحوه. وعن أحمد روايتان. إحداهما،

وهي ظاهر مذهبه: أن المرأة تخيَّرُ بين المقام معه وبين الفسخ. فإن اختارت الفسخ رفعته إلى الحاكم، فيُخيَّر الحاكم بين أن يفسخ عليه أو يجبره على الطلاق، أو يأذنَ لها في الفسخ، فإن فسخ أو أذن في الفسخ، فهو فسخ لا طلاق ولا رجعة له، وإن أيسر في العدة. وإن أجبره على الطلاق، فطلق رجعياً، فله رجعتُها، فإن راجعها وهو مُعْسِرٌ، أو امتنع من الإِنفاق عليها، فطلبت الفسخ، فسخ عليه ثانياً وثالثاً، وإن رضيت المقام معه مع عُسرته، ثم بدا لها الفسخُ، أو تزوجته عالمة بعُسرته، ثم اختارت الفسخ، فلها ذلك.
قال القاضي: وظاهرُ كلام أحمد: أنه ليس لها الفسخُ في الموضعين، ويبطل خيارُها، وهو قول مالك لأنها رضيت بعيبه، ودخلت في العقد عالمةً به، فلم تملك الفسخَ، كما لو تزوَّجَت عِنِّينا عالمةً بعنَّته. وقالت بعد العقد: قد رضيت به عِنِّيناَ. وهذا الذي قاله القاضي: هو مقتضى المذهب والحجة.
والذين قالوا: لها الفسخُ - وإن رضيت بالمقام - قالوا: حقُّها متجدِّد كل يوم، فيتجدَّدُ لها الفسخُ بتجدُّدِ حقها، قالوا: ولأن رضاها يتضمَّن إسقاطَ حقها فيما لم يجب فجهِ مِن الزمان، فلم يسقط كإسقاط الشفعة قبل البيع. قالوا: وكذلك لو أسقطت النفقة المستقبلة، لم تسقط، وكذلك لو أسقطتها قبل العقد جملة ورضيت بلا نفقة، وكذلك لو أسقطت المهر قبله، لم يسقط، وإذا لم يسقط وجوبُها لم يسقط الفسخ الثابت به. والذين قالوا بالسقوط أجابُوا عن ذلك بأن حقها في الجماع يتجدَّد، ومع هذا إذا أسقطت حقها من الفسخ بالعُنَّة سقط، ولم تَمْلِكِ الرجوعَ فيه.
قالوا: وقياسُكم ذلكَ على إسقاط نفقتها قياسٌ على أصلٍ غيرِ متفق عليه، ولا ثابت بالدليل، بل الدليلُ يدلُ على سقوطِ الشفعة بإسقاطها

قبل البيع، كما صحَّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا يَحِلُّ له أن يبيعَ حتى يُؤذِنَ شَرِيكَهُ، فإن باعه ولَمْ يُؤذِه، فَهوَ أَحَقُّ بِالبَيْعِ"، وهذا صريحٌ في أنه إذا أسقطها قبل البيع لم يملِكْ طلبَها بعده، وحينئذ فيجعل هذا أصلاً لسقوط حقها مِن النفقة بالإِسقاط، ونقول: خيارٌ لدفع الضررِ، فسقط بإسقاطه قبل ثبوته، كالشفعة، ثم ينتقضُ هذا بالعيب في العين المؤجرة، فإن المستأجرَ إذا دخلَ عليه، أو علِمَ به، ثم اختار ترك الفسخ، لم يكن له الفسخُ بعد هذا، وتجدّد حقِّه بالانتفاع كُلَّ وقت، كتجدد حق المرأة من النفقة سواء ولا فرق، وأما قوله: لو أسقطها قبل النكاح، أو أسقط المهرَ قبلُه، لم يسقط، فليس إسقاط الحقِّ قبل انعقاد سببه بالكليَة كإسقاطه بعد انعقاد سببه، هذا إن كان في المسألة إجماع، وإن كان فيها خلاف، فلا فرق بين الإِسقاطين، وسوينا بين الحُكمين، وإن كان بينهما فرق امتنع القياس. وعنه رواية أخرى: ليس لها الفسخ، وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه. وعلى هذا لا يلزمُها تمكينُه مِن الاستمتاعِ، لأنه لم يُسلم إليها عوضه، فلم يلزمها تسليمُه، كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع، لم يجب تسليمُه إليه، وعليه تخليةُ سبيلها لِتكتسِبَ لها، وتحصل ماتُنفقه على نفسها، لأن في حبسها بغير نفقة إضراراً بها.
فإن قيل: فلو كانت موسِرةً، فهلاَّ يملك حبسها؟ قيل قد قالُوا أيضاً: لا يملِكُ حبسها، لأنه إنما يملِكهُ إذا كفاها المؤنة، وأغناها عمَّا لا بُدَّ لها منه مِن النفقة والكسوة، ولحاجته إلى الاستمتاع الواجب له عليها،

فإذا انتفى هذا وهذا لم يَمْلِكْ حبسَها، وهذا قولُ جماعة من السلف والخلف.
ذكر عبد الرزاق عن ابن جُريج قال: سألتُ عطاء عمن لا يجد ما يصلحُ امرأته مِن النفقة؟ قال: ليس لها إلا ما وجدت، ليس لها أن يُطلقها. وروى حماد بن سلمة، عن جماعة، عن الحسن البصري أنه قال في الرجل يَعجِزُ عن نفقة امرأته: قال: تُواسيه وتتَّقي الله وتصبِرُ، ويُنفق عليها ما استطاع. وذكر عبد الرزاق، عن معمر، قال: سألتُ الزهري عن رجل لا يجد ما يُنفق على امرأته، أيفرَّقُ بينهما؟ قال: تستأني به ولا يفرَّق بينهما، وتلا: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إلاَّ مَا آتاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بعد عُسْر يُسْراً} [الطلاق: 7] . قال معمر: وبلغني عن عمر بن عبد العزيز مثلُ قول الزهري سواء. وذكر عبدُ الرزاق، عن سفيان الثوري، في المرأة يُعْسِرُ زوجُها بنفقتها: قال: هي امرأة ابتُليَت، فلتصبر ولا تأخذ بقول من فرَّق بينهما.
قلتُ: عن عُمر بن عبد العزيز ثلاثُ روايات، هذه إحداها.
والثانية: روى ابنُ وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن أبيه، قال: شهدتُ عمر بن عبد العزيز يقول لزوج امرأة شكت إليه أنه لا يُنفِقُ عليها: أضربوا له أجلاً شهراً أو شهرين، فإن لم يُنفق عليها إلى ذلك الأجل، فرقوا بينه وبينها.
والثالثة: ذكر ابن وهب، عن ابن لهيعة،عن محمد بن عبد الرحمن، أن رجلاً شكى إلى عمر بن عبد العزيز بأنه أنكح ابنته رجلاً لا يُنفق عليها، فأرسل إلى الزوج، فأتى، فقال: أنكحني وهو يَعْلَمُ أنه ليس لي شيء، فقال عمر: أنكحته وأنت تَعرِفُه؟ قال: نعم. قال:

فما الذي أصنع؟ اذهب بأهلك.
والقول بعدم التفريق مذهبُ أهل الظاهر كُلِّهم، وقد تناظر فيها مالك وغيرُهُ، فقال مالك: أدركتُ الناسَ يقولون: إذا لم يُنفق الرجل على امرأته فُرِّقَ بينهما. فقيل له: قد كانت الصحابة رضي الله عنهم يُعسِرُون ويحتاجون، فقال مالك: ليس الناسُ اليوم كذلك، إنما تزوجته رجاءً.
ومعنى كلامه: أن نساء الصحابة رضي الله عنهم كُنَّ يُرِدْنَ الدارَ الآَخرة، وما عند الله، ولم يكن مرادُهُنَّ الدنيا، فلم يكنَّ يُبالين بعُسر أزواجهن، لأن أزواجهن كانوا كذلك. وأما النساء اليوم، فإنما يتزوجن رجاء دنيا الأزواج ونفقتهم وكسوتهم، فالمرأة إنما تدخل اليوم على رجاء الدنيا، فصار هذا المعروفُ كالمشروط في العقد، وكان عرفُ الصحابة ونسائهم كالمشروط في العقد، والشرط العرفيّ في أصل مذهبه، كاللفظي، وإنما أنكر على مالك كلامَه هذا من لم يفهمه ويفهم غورَه.
وفي المسألة مذهب آخر، وهو أن الزوج إذا أعسر بالنفقة، حُبِسَ حتى يجدَ ما يُنفقه، وهذا مذهب حكاه الناس عن ابن حزم،وصاحب"المغني"وغيرهما عن عُبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة. ويالله العجب! لأي شيء يُسجن ويُجمع عليه بين عذاب السجن وعذاب الفقر، وعذاب البعد عن أهلِه؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، وما أظن من شمَّ رائحة العلم يقول هذا.
وفي المسألة مذهب آخر، وهو أن المرأةَ تكَلَّفُ الإِنفاق عليه إذا كان عاجزاً عن نفقة نفسه، وهذا مذهبُ أبي محمد بن حزم، وهو خيرٌ بلا شك من مذهب العنبري. قال في "المحلى": فإن عجز الزوج عن نفقة نفسه، وامرأتُه غنيةٌ،كُلِّفت النفقة عليه، ولا ترجع بشيء من ذلك، إن أيسر،

برهانُ ذلك قولُ الله عز وجل {وَعَلَى الموْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالمعْرُوف لا تكلَفُ نَفْسٌ إلاًّ وُسْعَها لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بولَدهَا ولاَ مَولُودٌ لَهُ بِوَلدِهِ وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} [البقرة: 233] فالزوجةُ وارثة، فعليها النفقةُ بنص القرآن.
ويا عجباً لأبي محمد! لو تأمل سياقَ الآية، لتبين له منها خلافُ ما فهمه، فإن الله سبحانه قال: {وعَلَى المَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وهذا ضميرُ الزوجات بلا شك، ثم قال: {وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} [البقرة: 233]، فجعل سُبحانه على وارث المولود له، أو وارثِ الولد من رزق الوالدات وكسوتهن بالمعروف مثل ما على المَوروث، فأين في الآية نفقة على غير الزوجات؟ حتى يحمل عمومها على ما ذهب إليه.
واحتج من لَم ير الفسخ بالإِعسار بقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلا مَا أتاهَا} [الطلاق: 7] قالوا: وإذا لم يُكلفه الله النفقة في هذه الحال، فقد ترك ما لا يجب عليه، ولم يأثم بتركه، فلا يكون سبباً للتفريق بينه وبين حبِّه وسكَنه وتعذيبه بذلك. قالوا: وقد روى مسلم في "صحيحه": من حديث أبي الزبير، عن جابر، دخل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجداه جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً، فقالَ أبو بكر: يا رسول الله! لو رأيتَ بنت خارجة سألتني النفقة فقمتُ إليها، فوجأتُ عنقها، فضَحِكَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: هُنَّ حَوْلِي كما ترى يَسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأُ عُنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقولُ: تسألنَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ليس عنده، فقلن: والله لا نسأَلُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً أبداً ما ليس عنده، ثم اعتزلهُنّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً

وذكر الحديث.
قالوا: فهذا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يضربان ابنتيْهما بحضرة رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ سألاه نفقةً لا يجِدُها. ومن المحال أن يضرِبا طالبتين للحق، ويُقرَّهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك، فدلَّ على أنه لا حقَّ لهما فيما طلبتاه من النفقة في حال الإِعسار، وإذا كان طلبُهما لها باطلاً، فكيف تمكن المرأةُ من فسخ النكاح بعدم ما ليس لها طلبُه، ولا يحلُّ لها، وقد أمر الله سبحانه صاحب الدَّين أن يُنْظِرَ المُعْسِرَ إلى الميسرة، وغايةُ النفقة أن تكون ديناً، والمرأةُ مأمورة بإنظار الزوج إلى الميْسَرَةِ بنص القرآن هذا إن قيل: تثبت في ذمة الزوج، وإن قيل: تسقط بمضي الزمان، فالفسخ أبعد وأبعد.
قالوا: فالله تعالى أوجب على صاحب الحقِّ الصبرُ على المعسر، وندبه إلى الصَّدَقَةِ بترك حقه، وما عدا هذين الأمرين، فجورٌ لم يُبحه له، ونحن نقولُ لهذِهِ المرأة كما قال الله تعالى لها سواءً بسواءٍ؟ إما أن تُنظريه إلى الميسرة، وإما أن تَصَدَّقي، ولا حقَ لَكِ فيما عدا هذين الأمرين.
قالوا ولم يزل في الصحابة المُعْسِرُ والموسِرُ، وكان مُعسِرُوهم أضعافَ أضعافِ موسريهم، فما مكَّن النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطُ امرأةً واحدة من الفسخ بإعسار زوجها، ولا أعلمها أن الفسخَ حق لها فإن شاءت، صبرت، وإن شاءت، فَسَخَتْ، وهو يشرعُ الأحكام عن الله تعالى بأمره، فهبْ أن الأزواج تركن حقهن، أفما كان فيهن امرأةٌ واحدةٌ تُطالِبُ بحقها، وهؤلاء نساؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيرُ نساء العالمين يُطالبنه بالنفقة حتى أغضبنه، وحلفَ ألا يدخُلَ عليهن شهراً مِن شدة مَوْجِدَتِهِ عليهن، فلو كان مِن المستقر في شرْعِهِ أن المرأة تملِكُ الفسخَ بإعسار زوجها لرفع إليه ذلك، ولو مِن امرأة واحدة،

وقد رُفع إليه ما ضرورتُه دون ضرورة فقد النفقة من فقد النكاح، وقالت له امرأة رِفاعة: إني نكحتُ بعد رِفاعة عبد الرحمن بن الزبير، وإن ما معه مِثْلُ هُدْبَةِ الثوب. تُريد أن يُفَرّقَ بينه وبينها. ومن المعلوم أن هذا كان فيهم في
غاية النُّدرة بالنسبة إلى الإِعسار، فما طلبت منه امرأة واحدة أن يفرِّقَ بينه وبينها بالإِعسار.
قالوا: وقد جعل الله الفقر والغنى مطيَّتينِ للعباد، فيفتقِرُ الرجل الوقت ويستغني الوقتَ، فلو كان كُلُّ من افتقر، فسخت عليه امرأته، لعم البلاءُ، وتفاقم الشرُّ، وفسخت أنكحة أكثرِ العالم، وكان الفراق بيدِ أكثر النِساء، فمن الذي لم تُصِبْهُ عُسْرةٌ، ويعوز النفقة أحياناً.
قالوا: ولو تعذَّر من المرأةِ الاستمتاع بمرض متطاول، وأعسرت بالجماع، لم يمكن الزوجُ مِن فسخ النكاح، بل يُوجبون عليه النفقة كاملة مع إعسار زوجته بالوطء، فكيف يُمكنونها مِن الفسح بإعساره عن النفقة التي غايتُها أن تكون عوضاً عن الاستمتاع؟
قالوا: وأما حديثُ أبي هريرة، فقد صرَّحَ فيه بأن قوله: امرأتك تقول: أنفق عليَّ وإلا طلقني، من كِيسه، لا مِن كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا في "الصحيح" عنه. ورواه عنه سعيد بن أبي سعيد، وقال: ثم يقول أبو هريرة. إذا حدث بهذا الحديث: امرأتُك تقول، فذكر الزيادة.
وأما حديثُ حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثله، فأشار إلى حديث يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته. قال: يُفرق بينهما، فحديثٌ منكر لا يحتمِلُ أن يكونَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصلاً، وأحسنُ أحواله أن يكون عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً، والظاهر: أنه

رُوي بالمعنى، وأراد قوله أبي هريرة رضي الله عنه: امرأتك تقول: أطعمني أو طلقني، وأما أن يكونَ عند أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه سئل عن الرجل لا يجد ما يُنفِقُ على امرأتِه، فقال: يُفرق بينهما، فواللهِ ما قال هذا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا سمعه أبو هريرة، ولا حدَّث به، كيف وأبو هريرة لا يستجيزُ أن يَرويَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "امرأتُك تقول: أطعمني وإلا طلقني"،
ويقول: هذا من كيس أبي هريرة لئلا يتوهم نسبته إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.والذي تقتضيه أصولُ الشريعة وقواعدها في هذه المسألة أن الرجل إذا غرَّ المرأة بأنه ذو مال، فتزوجته على ذلك، فظهر مُعْدماً لا شيء له، أو كان ذا مالٍ، وترك الإِنفاق على امرأته، ولم تَقدرْ على أخذ كفايتها من ماله بنفسها، ولا بالحاكم أن لها الفَسخ، وإن تزوجته عالمةً بعُسرته، أو كان موسِراً، ثم أصابته جائحةٌ اجتاحت مالَه، فلا فسخَ لها في ذلك، ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة بعد اليسار، ولم ترفعهم أزواجُهم إلى الحكام ليفرقوا بينهم وبينهن، وبالله التوفيق.
وقد قال جمهورُ الفقهاء: لا يثبت لها الفسخُ بالإِعسار بالصداق، وهذا قولُ أبي حنيفة وأصحابه، وهو الصحيحُ من مذهب أحمد رحمه الله، اختاره عامة أصحابه، وهو قولُ كثير من أصحاب الشافعي. وفصل الشيخ أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة، فقالا: إن كان قبلَ الدخول، ثبت به الفسخُ، وبعده لا يثبت، وهو أحدُ الوجوه من مذهب أحمد هذا مع أنه عِوض محضٌ، وهو أحق أن يوفى من ثمن المبيع، كما دل عليه النص، كلُّ ما تقرر في عدم الفسخ به، فمثله في النفقة وأولى.
فإن قيل: في الإِعسار بالنفقةِ مِن الضرر اللاحق بالزوجة ما ليس

في الإِعسار بالصَّداق، فإن البِنية تقوم بدونه بخلاف النفقة. قيل: والبِنية قد تقوم بدون نفقته بأن تُنفِقَ من مالها، أو يُنفِق عليها ذو قرابتها، أو تأكل من غزلها، وبالجملة، فتعيشُ بما تعيشُ به زمن العدة، وتُقدر زمن عُسرة الزوج كله عدَّة.
ثم الذين يُجوزون لها الفسخ يقولُون: لها أن تفسخ ولو كان معها القناطيرُ المقنطرة مِن الذهب والفضة إذا عجز الزوجُ عن نفقتها، وبإزاء هذا القول قولُ مِنجنيق الغرب أبي محمد بن حزم: إنه يجب عليها أن تُنفِقَ عليه في هذه الحال، فتُعطيه مالها، وتُمكِّنُه من نفسها، ومن العجب قولُ العنبري بأنه يُحبس.
وإذا تأملت أصولَ الشريعة وقواعدَها، وما اشتملت عليه من المصالح ودرء المفاسد، ودفعِ أعلى المفسدتين باحتمالِ أدناهما، وتفويتِ أدنى المصلحتين لتحصل أعلاهما، تبَين لكَ القولُ الراجحُ مِن هذه الأقوال، وبالله التوفيق.
فصل: في حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموافق لكتابِ الله أنه لا نفقة للمبتوتة ولا سكنى
روى مسلم في "صحيحه"، عن فاطمة بنت قيس، أن أبا عمرو بن حفص طلَّقها ألبتةَ وهو غائب، فأرسلَ إليها وكيلُه بشعير، فسخِطَتْهُ فقال: واللهِ مالَكِ علينا مِن شيء، فجاءت رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك له وما قَالَ، فقال: "لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ" ، فأمرها أن تعتد في بيت أمِّ شريك، ثم قال: " تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصحَابي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابنِ أُمِّ مَكْتُوم،

فإنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكِ، فَإذا حَلَلْتِ فآذِنيني ". قالت: فلما حللتُ، ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني،فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عاتِقِهِ، وأمَّا مُعاويةُ فصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ" فكرهته، ثم قال: "انْكِحي أسامة بنَ زَيْدٍ" فنكحته، فجعلَ اللهُ فيه خيراً واغتبطتُ. وفي "صحيحه" أيضاً: عنها أنها طَلقها زوجها في عهدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أنفقَ عليها نفقةً دوناً فلما رأت ذلك، قالت: والله لأُعْلِمَنَّ رَسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن كانت لي نفقةٌ أخذتُ الذي يُصلِحُني،وإن لم تكُن لي نفقةٌ،لم آخذْ منه شيئاً، قالت: فذكرتُ ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ: "لاَ نَفَقَةَ لكِ وَلاَ سُكْنى".
وفي "صحيحه" أيضاً عنها، أن أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلَّقها ثلاثاً، ثم انطلق إلى اليمن، فقال لها أهلُه: ليس لَكِ عَلَيْنَا نفقة، فانطلق خالدُ بن الوليد في نفرٍ، فأتوْا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت ميمونة، فقالوا: إن أبا حَفْصٍ طلَّق
امرأته ثلاثاً، فهل لها مِن نفقة؟ فقال رسولُ اللَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْست لَهَا نَفَقَةّ وعَلَيهَا العِدَّةُ "، وأرسل إليها: "أَنْ لا تَسْبِقيني بِنَفْسِكِ" ، وأمرها أن تنتقِلَ إلى أمَّ شريك، ثم أرسل إليها: "أَنَّ أُمَّ شرِيكٍ يأتيها المهاجِرونَ الأَوَّلونَ، فانْطِلقي إلى ابْنِ أُمِّ مَكتُومٍ الأَعْمَى فَإنَّكِ إِذَا وَضعْتِ خِمَارَكِ لَم يَرَكِ"، فانطلَقَت إليه، فلما انقضت عدَّتُها أنكحَهَا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسامَة بن زيد بن حارثة.

وفي "صحيحه" أيضاً، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، وأمر لها الحارث بن هشام، وعياشُ بن أبي ربيعة بنفقة، فقالا لها: والله ما لَكِ نفقةٌ إلا أن تكوني حاملاً، فأتت النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمََ، فذكرت له قولهما، فقال: "لا نَفَقَةَ لَكِ"، فاستأذنته في الانتقال، فأذنَ لها، فقالت: أين يا رسولَ اللهِ؟ قال : "إلى ابنِ أمِّ مَكتوم"، وكان أعمى تَضَعُ ثيابَها عندهُ ولا يَراهَا، فلما مضت عِدَّتها، أنكحها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسامة بن زيد، فأرسلَ إليهَا مروانُ قَبيصَةَ بنَ ذُؤيب يسألُهَا عن الحديث، فحدثته به، فقال مروان لم نسمع هذا الحديثَ إلا مِن امرأة، سنأخُذ بالعِصمة التي وجدنا النَاسَ عليها، فقالت فاطمة حين بلغها قولُ مروان: بيني وبينكم القرآنُ، قال الله عز وجلَّ : {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بيوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبيَنةٍ} إلى قوله: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً}[الطلاق: 1]، قالت: هذا لمن كان له مراجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟! فكيف تقولون: لا نفقة لها إذا لم تكن حاملاً، فعلام تحبسونها؟!.
وروى أبو داود في هذا الحديث بإسناد مسلم عقيب قولِ عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام: لا نفقة لك إلا أن تكوني حَاملاً، فاتتِ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "لا نَفَقَةَ لَكِ إلاَّ أَنْ تكوني حَاملاً".
وفي "صحيحه" أيضاً عن الشعبي قال: دخلتُ على فاطمة بنتِ

قيس، فسألتُها عن قضاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليها، فقالت: طلَّقها زوجُها البتة، فخاصمته إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السُّكنى والنفقة، قالت: فلم يجعل لي سُكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتدَّ في بيت ابن أم مكتوم.
وفي "صحيحه" عن أبي بكر بن أبي الجهم العدوي، قال: سمعتُ فاطمة بنت قيس تقولُ: طلقها زوجُها ثلاثاً، فلم يجعل لها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُكنَى ولا نفقة، قالت: قال لي رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا حَلَلْتِ فآذِنيني" ، فآذنته، فخطبها معاويةُ، وأبُو جهم، وأسامةُ بن زيد، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أمَا معاوية فرجُل ترِب لا مال لهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضرّابٌ لِلنِّساءِ، ولكِنْ أُسامةُ بنُ زيْد" ، فقالت بيدها هكذا: أسامة! أسامة! فقال لها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "طَاعَةُ اللهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ خَيرٌ لَكِ "، فتزوجتُه، فاغتبطتُ.
وفي "صحيحه" أيضاً عنها قالت: أرسل إلي زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة عياشَ بن أبي ربيعة بطلاقي، فأرسل معه بخمسة آصُع تمرٍ، وخمسة آصعِ شعير، فقلتُ: أما لي نفقة إلا هذا؟ ولا أعتَدُّ في منزلكم؟ قال: لا، فشددتُ عليَّ ثيابي، وأتيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "كَمْ طَلَّقَكِ؟"قلتُ: ثلاثاً. قال : "صَدَقَ، لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ، اعْتدِّي في بَيْتِ ابن عَمِّكِ ابنِ أُمِّ مَكْتُوم، فإنه ضَريرُ البَصَرِ تَضَعِينَ ثَوْبَكِ عِندَهُ، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُكِ فآذِنيني".
وروى النسائي في "سننه" هذَا الحَديثَ بطرقه وألفاظه، وفي

بعضِها بإسناد صحيح لا مطعن فيه، فقال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّما النَّفَقَةُ والسُّكْنى لِلْمرأةِ إذا كان لِزوجِها عَليْها الرّجْعةُ"، ورواه الدارقطني وقال: فأتت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكَرَتْ ذلك له، قالت: فلم يَجْعَلْ لي سكنى ولا نفقة، وقال: "إِنَّمَا السكنى والنَّفَقَة لِمَنْ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ". وروى النسائي أيضاً هذا اللفظ، وإسنادهما صحيح.
ذكر موافقة هذا الحكم لكتاب الله عزَّ وجل
قال الله تعالى: { يَأَيُّهَا النَّبيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النَسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا العِدَّةَ واتَّقُوا اللهَ رَبّكُم لا تُخْرِجُوهنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إلاَّ أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبيَّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدًودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَم نفْسَهُ لا تدْرِي لعلَ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِكَ أَمْراً * فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بمعروفٍ أَوْ فَارقُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ وأَشهِدوا ذوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمُ وَأَقِيمُوا الشّهَادَةَ للّهِ}، إلى قوله: {قدْ جعل اللهُ لِكُلّ شيءَ قَدْراً} [الطلاق: 1-3] فأمر الله سبحانه الأزواج الذين لهم عند بلوغ الأجلِ الإِمساكُ والتسريحُ بأن لا يُخرجوا أزواجهم مِن بيوتهم، وأمر أزواجَهن أن لا يَخْرُجْنَ، فدلَّ على جواز إخراج من ليس لزوجها إمساكُها بعدَ الطلاق، فإنه سبحانه ذكر لهؤلاء المطلقات أحكاماً متلازمة لا ينفكُّ بعضُها عن بعض.

أحدها: أن الأزواج لا يُخرجوهن مِن بيوتهن
والثاني: أنهن لا يَخْرُجْنَ مِن بيوت أزواجهن.
والثالث: أن لأزواجهن إمساكَهن بالمعروف قبلَ انقضاء الأجل، وترك الإِمساك، فيُسرِّحوهن بإحسان.
والرابع: إشهاد ذَويْ عدل، وهو إشهادٌ على الرجعة إما وجوباً، وإما استحباباً، وأشار سُبحانه إلى حكمة ذلك، وأنه في الرجعيات خاصة بقوله: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1] والأمر الذي يُرجَى إحداثُه هاهنا: هو المراجعة. هكذا قال السلف ومن بعدهم. قال ابنُ أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية، عن داود الأودي، عن الشعبي:{ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1]، قال: لعلك تَنْدَمُ، فيكون لك سبيلٌ إلى الرجعة، وقال الضحاك: {لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1] قال: لعله أن يُراجِعَها في العِدَّةِ، وقاله عطاء، وقتادة، والحسن، وقد تقدَّم قول فاطمة بنت قيس: أي أمر يحدُثُ بعد الثلاث؟ فهذا يدل على أن الطلاقَ المذكور: هو الرجعيُّ الذي ثبتت فيه هذه الأحكامُ، وأن حِكمة أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، اقتضته لعل الزوج أن يَندَمَ، ويزولَ الشَّرُّ الذى نَزَغَهُ الشيطانُ بينهما، فتتبعها نفسه، فيُراجعَها، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لو أنَّ الناسَ أخذوا بأمر الله في الطًّلاقِ، ما تتبع رجل نفسه امرأة يُطلِّقها أبداً.
ثم ذكر سبحانه الأمر بإسكان هؤلاء المطلقاتِ، فقال: {أَسْكِنوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتم منْ وُجْدِكُم} [الطلاق: 6] فالضمائر كلّهَا يَتَّحِدُ مفسرها، وأحكامها كلها متلازمة، وكان قولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إنَّما النَّفَقَةُ والسّكْنَى لِلْمَرأَةِ إذَا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيهَا رَجْعَةٌ"، مشتقاً من كتابِ اللهِ

عز وجل، ومفسِّراً له، وبياناً لمراد المتكلِّم به منه، فقد تبين اتحادُ قضاءِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكتابِ الله عز وجل، والميزانُ العادل معهما أيضاً لا يُخَالفهما، فإن النفقَةَ إنما تكونُ للزوجة، فإذا بانت منه، صارت أجنبيةً حكمُها حكمُ سائر الأجنبيات، ولم يبق إلا مجردُ اعتدادها منه، وذلك لا يُوجِبُ لها نفقة، كالموطوءة بشُبهة أو زنى، ولأن النفقة إنما تجب في مقابلة التمكنِ من الاستمتاع، وهذا لا يُمكِنُ استمتاعُه بها بعد بينونتها، ولأن النفقة لو وجبت لها عليه لأجلِ عدتها، لوجبت للمتوفَّى عنها من ماله، ولا فَرْقَ بينهما البتة، فإن كُلَّ واحد منهما قد بانت عنه، وهي معتدة منه، قد تعذَّر منهما الاستمتاعُ، ولأنها لو وجبت لها السكنى، لوجبت لها النفقةُ، كما يقوله من يوجبها. فأما أن تجب لها السكنى دون النفقة، فالنصُّ والقياسُ يدفعه، وهذا قولُ عبد الله بن عباس وأصحابه، وجابر بن عبد الله، وفاطمة بنت قيس إحدى فقهاء نساء الصحابة وكانت فاطمة تُناظر عليه، وبه يقول أحمد بن حنبل وأصحابه، وإسحاق بن راهويه وأصحابه، وداود بن علي وأصحابُه، وسائر أهل الحديث. وللفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال، وهي ثلاث روايات عن أحمد: أحدها: هذا. والثاني: أن لها النفقةَ والسكنى، وهو قولُ عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وفقهاء الكوفة. والثالث: أن لها السكنى دون النفقة، وهذا مذهب أهل المدينة، وبه يقول مالك والشافعي.
ذكر المطاعن التي طعن بها على حديث فاطمة بنت قيس قديماً وحديثاً
فأولها طعنُ أميرِ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فروى مسلم في "صحيحه": عن أبي إسحاق،قال: كنت مع الأسود بن يزيد

جالساً في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فحدَّث الشعبيُّ بحديث فاطمة بنت قيسٍ، أن رسولَ الله ِصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفأ مِن حصى، فحصبه به، فقال: وَيْلَكَ تُحدِّث بمثل هذا؟ قال عمر: لاَ نَتْرُكُ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نبيِّنا! لِقول امرأة لا نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ؟ لَهَا السُّكْنَى والنَّفَقَةُ قال الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبيًنَةٍ} [الطلاق: 1] قالوا: فهذا عمرُ يخبر أن سنةَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لها النفقةَ والسكنى، ولا ريبَ أن هذا مرفوعٌ، فإن الصحابيَّ إذا قال: من السنة كذا، كان مرفوعاً، فكيف إذا قال: مِن سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكيف إذا كان القائلُ عمر بن الخطاب؟ وإذا تعارضت رواية عمر رضي الله عنه، وروايةُ فاطمة، فرواية عمر رضي الله عنه أولى لا سيما ومعها ظاهر القرآن، كما سنذكر. وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية،حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، قال: كان عُمر بن الخطاب إذا ذُكِرَ عنده حديثُ فاطمة بنتِ قيس قال: ما كنا نغير في ديننا بِشَهادَةِ امرأة.
ذكر طعن عائشة رضي الله عنها في خبر فاطمة بنتِ قيس
في "الصحيحين": من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، قال: تزوَّجَ يحيى بنُ سعيد بن العاص بنتَ عبد الرحمن بن الحكم فطلقها، فأخرجها مِن عنده، فعابَ ذلك عليهم عروةُ، فقالوا: إن فاطمةَ قد خرجت، قال عروةُ: فأتيت عائشة رضي الله عنها، فأخبرتها بذلك، فقالت:

ما لِفاطمة بنتِ قيس خيْرٌ أن تذكرَ هذَا الحديثَ. وقال البخاري: فانتقلها عبدُ الرحمن، فأرسلت عائشةُ إلى مروان وهو أميرُ المدينة، اتّقِ اللهَ واردُدْها إلى بيتها. قال مروان: إن عبدَ الرحمن بن الحكم غلبني، وقال القاسم بن محمد: أو ما بلغك شأنُ فاطمة بنت قيس؟ قالت: لا يضرك ألا تذكر حديثَ فاطمة، فقال مروان: إن كان بِك شرٌ، فحسبُك ما بينَ هذينِ من الشر.
ومعنى كلامه: إن كان خروجُ فاطمة لما يُقال من شر كان في لسانها،فيكفيك ما بين يحيى بن سعيد بن العاص وبين امرأتِهِ مِن الشر.
وفي "الصحيحين": عن عروة، أنه قال لعائشة رضي الله عنها: أَلَم تَرَيْ إلى فُلانَة بنتِ الحكم طلَّقها زوجُها البتة فخرجت، فقالت: بِئْسَ مَا صَنَعَتْ، فقلتُ: أَلَمْ تسمعي إلى قولِ فاطمة، فقالت: أما إنَّه لا خَيْرَ لها في ذكر ذلك.
وفي حديث القاسم، عن عائشة رضي الله عنها يعني: في قولها: لا سكنى لها ولا نفقة. وفي "صحيح البخاري": عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لفاطمة: ألا نتقي الله، تعني في قولها لا سكنى لها ولا نفقة وفي "صحيحه" أيضاً: عنها قالت: إن فاطمةَ كانَتْ في مكانِ وَحْشٍ، فَخِيفَ على ناحِيتها، فلذلكَ أرخصَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها

وقال عبد الرزاق: عن ابن جريج، أخبرني ابن شهاب، عن عُروة، أن عائشةَ رضي الله عنها أنكرت ذلك على فاطمة بنتِ قيس، تعني: "انتقالَ المطلقة ثلاثاً".
وذكر القاضي إسماعيل حدثنا نصر بن علي، حدثني أبي، عن هارون عن محمد بن إسحاق، قال: أحسِبُه عن محمد بن إبراهيم، أن عائشة رضي الله عنها قالت لفاطمة بنت قيس: إنما أخرجَكِ هذا اللسان.
ذكر طعن أسامة بنِ زيدٍ حبِّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابنِ حبه على حديث فاطمة
روى عبد الله بن صالح كاتب الليث، قال: حدثني الليثُ بن سعد، حدثني جعفر، عن ابن هرمز، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: كان محمد بنُ أسامة بن زيد يقول: كان أسامةُ إذا ذكرت فاطمة شيئاً مِن ذلك يعنى انتقالها في عدتها رماها بما في يده.
ذكرُ طعن مروان على حديث فاطمة
روى مسلم في "صحيحه": من حديث الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة حديثَ فاطمة هذا: أنه حدَّث به مروان،فقال مروان، لم نسمع هذا إلا من امرأة سنأخذ بالعِصمة التي وجدنا الناس عليها.

ذكرُ طعنِ سعيدِ بن المسيَّب
روى أبو داود في "سننه": من حديث ميمون بن مِهران، قال: قدمتُ المدينةَ، فَدُفِعْتُ إلى سعيدِ بن المسيبِ، فقلتُ: فاطمة بنت قيس طلِّقت، فخَرجَت مِن بيتها، فقال سعيد: تلك امرأة فَتنَتِ الناسَ إنها كانت امرأةً لَسِنَة، فَوُضِعَتْ عَلَى يدي ابنِ أمِّ مكتوم الأعمى.
ذكر طعن سليمان بن يسار
روى أبو داود في "سننه" أيضاً، قال في خروج فاطمة: إنما كان مِن سُوءِ الخُلُقِ.
ذكر طعن الأسود بن يزيد
تقدَّمَ حديث مسلم: أن الشعبي حدَّث بحديث فاطمة، فأخذ الأسود كفاً مِن حصباء فحصبه به، وقال: ويلك تحدث بمثل هذا؟! وقال النسائي: ويلك لِمَ تُفتي بمثل هذا؟ قال عمر لها: إن جئتِ بشاهدين يشهدانِ أنهما سمعاه من رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا لم نترُكْ كِتَابَ رَبِّنَا لِقَولِ امرأة.

ذكر طعن أبي سلمة بن عبد الرحمن
قال الليث: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، فذكر حديث فاطمة ثم قال: فأنكر الناسُ عليها ما كانت تُحدِّث من خروجها قبل أن تَحِلَّ، قالوا: وقد عارض رواية فاطمة صريحُ رواية عُمر في إيجاب النفقة والسكنى، فروى حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، أنه أخبر إبراهيم النخعي بحديث الشعبي عن فاطمة بنت قيس، فقال له إبراهيمُ: إن عمر أُخْبِرَ بقولهَا، فقال: لسنا بتاركي آية من كتاب الله وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقول امرأة لعلَّها أوهمت، سمعت النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لَهَا السُّكْنَى والنَفَقَةُ" ذكره أبو محمد في "المحلى"، فهذا نص صريح يجب تقديمُه على حديث فاطمة لِجلالة رواته، وتركِ إنكارِ الصحابةِ عليه وموافقته لِكتاب الله.
ذكر الأجوبة عن هذه المطاعن وبيان بطلانها
وحاصلها أربعة.
أحدُها: أن راويتها امرأة لم تأتِ بشاهدينِ يتابعانها على حديثها.
الثاني: أن روايتها تضمَّنت مخالفةَ القرآن.
الثالث: أن خروجَها من المنزل لم يكن لأنه لا حقَّ لها في السكنى، بلا لأذاها أهلَ زوجها بلسانها.
الرابع: معارضة روايتِها برواية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.

ونحن نبين ما في كل واحد من هذه الأمور الأربعة بحول الله وقوته، هذا مع أن في بعضها مِن الانقطاع، وفي بعضها مِن الضعف، وفي بعضها من البُطلان ما سَنُنَبهُ عليه، وبعضُها صحيح عمن نسب إليه بلا شك.
فأما المطعنُ الأول: وهو كونُ الراوي امرأة، فمطعن باطلٌ بلا شك، والعلماء قاطبة على خلافة، والمحتجُّ بهذا من أتباع الأئمة أوَّلُ مبطل له ومخالف له، فإنهم لا يختلفون في أن السننَ تُؤخذ عن المرأة كما تُؤخذ عن الرجل، هذا وكم مِن سنة تلقاها الأئمة بالقبولِ عن امرأة واحدة من الصحابة، وهذه مسانيد نساءِ الصحابة بأيدي الناس لا تشاءُ أن ترى فيها سنةً تفرَّدت بها امرأةّ منهن إلا رأيتَها، فما ذنبُ فاطمةَ بنتِ قيس دون نساء العالمين، وقد أخذ الناس بحديث فُريعة بنت مالِك بن سنان أختِ أبي سعيد في اعتدادِ المتوفَّى عنها في بيت زوجها وليست فاطمةُ بدونها علماً وجلالةً وثقةً وأمانةً، بل هي أفقهُ منها بلا شك، فإن فُريعة لا تُعرف إلا في هذا الخبر وأما شهرةُ فاطمة، ودعاؤها من نازعها مِن الصحابة إلى كتاب الله، ومناظرتها على ذلك، فأمر مشهور، وكانت أسعدَ بهذه المناظرة ممن خالفها كما مضى تقريرُه، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يختلِفونَ في الشيء، فتروي لهم إحدى أمهات المؤمنين عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً، فيأخذون به، ويرجعون إليه، ويتركون ما عندهم له، وإنما فُضِّلْنَ على فاطمة بنت قيس بكونهن أزواجَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا فهي مِن المهاجرات الأول، وقد رضيها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِبِّه

وابنِ حِبِّه أسامة بن زيد، وكان الذي خطبها له. وإذا شئتَ أن تعرف مقدارَ حفظها وعلمها، فاعرفه مِن حديث الدَّجَالِ الطويلِ الذي حدث به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر، فوعته فاطمةُ وحفظته، وأدته كما سمعته، ولم ينكره عليها أحد مع طوله وغرابته، فكيف بقصة جرت لها وهي سببها، وخاصمت فيها، وحكم فيها بكلمتين: وهى لا نفقة ولا سكنى، والعادة تُوجبُ حفظ مثل هذا وذكره، واحتمال النسيان فيه أمر مشترك بينها وبين من أنكر عليها، فهذا عمرُ قد نسي تيمُّمَ الجنب، وذكرهُ عمار بن ياسر أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهما بالتيمم من الجنابة،فلم يذكره عمر رضي الله عنه، وأقام على أن الجنب لا يصلي حتى يجد الماء.
ونسي قولَه تعالى: {وإِنْ أَرَدْتُم استِبْدَالَ زَوجٍ مَكَانَ زَوجٍ وَآْتيتُم إحْدَاهن قِنْطَاراً فَلاَ تَأخُذُوا مِنهُ شَيئا} [النساء: 20].
حتى ذكَّرته به امرأَة، فرجعَ إلى قولها
ونسي قوله: {إنَّكَ ميِّتٌ وَإنَّهُمْ مَيّتونَ} [الزمر: 30] حتى ذُكر بهِ، فإن كان جوازُ النسيان على الراوي يُوجب سقوطَ روايته، سقطت روايةُ عمر التي عارضتم بها خبر فاطمة، وإن كان لا يُوجب سقوطَ روايته، بطلت المعارضةُ بذلك، فهي باطلة على التقديرين، ولو رُدَّتِ السُّننُ بمثل هذا، لم يبق بأيدي الأمة منها إلا اليسير، ثم كيف

يُعارِضُ خَبر فاطمة، ويَطْعَنُ فيهِ بمثل هذا مَنْ يرى قبولَ خبرِ الواحد العدل، ولا يشترطُ للرواية نِصاباً، وعمر رضي الله عنه أصابه في مثل هذا ما أصابه في رد خبر أبي موسى في الاستئذان حتى شهد له أبو سعيد، وردَّ خبرَ المغيرة بنِ شُعبة في إملاصِ المرأةِ حتى شَهِدَ له مُحمَّدُ بن مسلمة، وهذا كان تثبيتاً منه رضي الله عنه حتى لا يركب الناس الصَّعبَ والذَّلُولَ في الرواية عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا فقد قَبِلَ خبرَ الضحاك بن سفيان الكلابي وحده وهو أعرابي، وقبل لعائشة رضي الله عنها عدةَ أخبار تفرَّدت بها، وبالجملة، فلا يقول أحد: إنه لا يقبل قولُ الراوي الثقة العدل حتى يشهد له شاهدان لا سيما إن كان من ا لصحابة.
فصل
وأما المطعن الثاني: وهو أن روايتها مخالفة للقرآن، فنجيب بجوابين: مجملٍ، ومفصلٍ، أما المُجمل: فنقولُ: لو كانت مخالفة كما ذكرتم، لكانت
مخالفةً لعمومه،فتكون تخصيصاً للعام، فحكمُها حكمُ تخصيص قوله: {يُوصِيكُم اللهُ في أَوْلاَدِكُم} [النساء: 11] ، بالكافر، والرقيق، والقاتل، وتخصيصِ قولِه :{وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذلِكُم} [النساء: 24] بتحريم الجمعِ بينَ المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها ونظائره، فإن القرآنَ لم يخُصَّ البائن بأنها لا تَخْرُج ولا تُخْرَجُ، وبأنها تسكن من حيث

يسكنُ زوجها، بل إما أن يَعُمَّها ويَعُمَّ الرجعية، وإما أن يخُصَّ الرجعيةَ.
فإن عمَّ النوعينِ، فالحديثُ مخصِّصٌ لعمومه، وإن خص الرجعيات وهو الصواب للسياق الذي مَنْ تدبَّره وتأمله قطع بأنه في الرجعيات من عدة أوجه قد أشرنا إليها، فالحديث ليس مخالفاً لكتاب الله، بل موافق له، ولو ذُكِّرَ أميرُ المؤمنين رضي الله عنه بذلك، لكان أوَّل راجع إليه، فإن الرجل كما يذهَلُ عن النص يذهَلُ عن دلالته وسياقه وما يقترن به مما يتبين المراد منه وكثيرا ما يذهل عن دخول الواقعة المعينة تحتَ النصِّ العام واندراجِه تحتها، فهذا كثيرٌ جداً، والتفطُنُ له من الفهم الذي يُؤتيه الله مَنْ يشاء من عباده، ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مِن ذلك بالمنزلة التي لا تُجهل، ولا تستغرقها عبارةٌ، غيرَ أن الغسيان والذُّهولَ عُرضةٌ للإِنسان، وإنما الفاضلُ العالمُ من إذا ذُكِّرَ ذَكَرَ وَرَجَعَ.
فحديثُ فاطمة رضي الله عنها مع كتاب الله على ثلاثة أطباق لا يخرُج عن واحد منها، إما أن يكون تخصيصاً لعامه. الثاني: أن يكون بياناَ لما لم يتناوله، بل سكت عنه. الثالث: أن يكون بياناً لما أريد به وموافِقاً لما أرشد إليه سياقه وتعليله وتنبيهه، وهذا هو الصوابُ، فهو إذن موافق له لا مخالف، وهكذا ينبغي قطعاً، ومعاذَ اللهِ أن يحكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يُخالف كتاب الله تعالى أو يعارضه، وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله هذا مِن قول عمر رضي الله عنه، وجعل يتبسَّمُ ويقول: أين في كتاب الله إيجاب السكنى والنفقة للمطلقة ثلاثاً، وأنكرته قبله الفقيهة الفاضلة فاطمة، وقالت: بيني وبينكم كتابُ الله، قال الله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِك أَمْراً} [الطلاق: 1] وأي أمر يحدث بعد الثلاث، وقد تقدم أن قوله: {فإِذَا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2]،

يشهد بأن الآيات كلها في الرجعيات.
فصل
وأما المطعن الثالث: وهو أن خروجها لم يكن إلا لِفحش من لسانها، فما أبردَه من تأويل وأسمجَه، فإن المرأة مِن خيار الصحابةِ رضي الله عنهم وفُضلائهم، ومِن المهاجرات الأول، وممن لا يحملها رِقّةُ الدين وقلة التقوىَ على فُحش يُوجب إخراجَها من دارها، وأن يمنع حقها الذي جعله الله لها، ونهى عن إضاعته، فيا عجباً! كيف لم يُنْكِرْ عليها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الفُحْشَ؟ ويقول لها: اتقي الله، وكُفِّي لسانَك عن أذى أهل زوجك، واستقري في مسكنكِ؟ وكَيفَ يَعْدِلُ عن هذا إلى قوله: "لا نفقة لك ولا سكنى" ، إلى قوله: " إنَّمَا السُّكنَى والنَّفَقةُ لِلمَرْأَةِ إذا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا رَجْعَةٌ؟!" فيا عجباً! كيف يُترك هذا المانع الصريح الذي خرج من بين شفتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويُعلَّل بأَمرٍ موهوم لم يعلل به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،البتة ولا أشار إليه، ولا نبه عليه؟ هذا من المحال البيَن. ثم لو كانت فاحشة اللسان وقد أعاذها اللهُ من ذلك، لقال لها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسمعت وأطاعتْ: كفي لِسانَك حتى تنقضيَ عِدَّتُكِ، وكان من دونها يسمع ويطيع لئلا تخرج من سكنه.
فصل
وأما المطعنُ الرابع: وهو معارضةُ روايتِها برواية عمر رضي الله عنه، فهذه المعارضةُ تُورد مِن وجهين. أحدهما: قوله: لا نَدَعُ كتابَ ربنا

وسنةَ نبينَا، وأن هذا مِن حكم المرفوع. الثاني: قوله: سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لَهَا السُّكْنَى والنَّفَقَةُ" . ونحن نقول: قد أعاذ الله أميرَ المؤمنين مِن هذا الكلام الباطل الذي لا يَصِحُّ عنه أبداً. قال الإِمام أحمد: لا يَصِحُّ ذلك عن عمر. وقال أبو الحسن الدارقطني:
بل السنةُ بيد فاطمة بنت قيس قطعاً، ومن له إلمام بسنة رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشهدُ شهادة الله أنه لم يكن عند عمر رضي الله عنه سنة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن للمطلقة ثلاثاً، السكنى والنفقة، وعمر كان أتقى للّه، وأحرصَ في تبليغ سننِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أن تكونَ هذه السنةُ عنده، ثم لا يرويها أصلاً، ولا تبينها ولا يُبلغها عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما حديثُ حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن عمر رضي الله عنه، رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لَهَا السُّكْنَى والنَّفَقَةُ"، فنحن نشهَدُ باللهِ شهادةً نُسألُ عنها إذا لقيناه، أن هذا كذبٌ على عُمَرَ رضي الله عنه، وكذب على رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وينبغي أن لا يَحمِلَ الإِنسانَ فرطُ الانتصارِ للمذاهب والتعصب لها على معارضةِ سننِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحيحةِ الصريحةِ بالكذب البحت، فلو يكونُ هذا عند عمر رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لخرستَ فاطمة وذووها، ولم يَنْبِسوا بكلمة، ولا دَعَتْ فاطمة إلى المناظرة، ولا احتِيجَ إلى ذكر إخراجها لبَذاء لسانها، ولما فات هذا الحديث أئمةَ الحديثِ والمصنفين في السنن والأحكام المنتصرين للسنن فقط لا لِمذهب، ولا لرجل، هذا قبل أن نَصِلَ به إلى إبراهيم، ولو قدر؟وصولُنا بالحديث إلى إبراهيم لا نقطع نخَاعُهُ، فإن إبراهيم لم يُولد إلا بعد موت عمر رضي الله عنه بسنين، فإن كان مخبرٌ أخبر به إبراهيم عن عمر رضي الله عنه، وحسنَّا به الظن،

كان قد روى له قول عمر رضي الله عنه بالمعنى، وظنَّ أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي حكم بثبوت النفقة والسكنى للمطلقة، حتى قال عمُر رضي الله عنه: لا ندع كتابَ ربنا لِقول امرأة، فقد يكون الرجل صالحاً ويكون مغفَّلاً، ليس تَحمُّلُ الحديثِ وحفظُه وروايتُه مِن شأنِهِ، وباللهِ التوفيق.
وقد تناظر في هذه المسألة ميمونُ بن مهران، وسعيدُ بن المسيِّب، فذكر له ميمون خبر فاطمة، فقال سعيد: تلك امرأة فتنتِ الناسَ، فقال له ميمون: لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما فَتَنَتِ الناسَ، وإن لنا في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوةً حسنة، مع أنها أحرمُ الناس عليه ليس لها عليه رجعة، ولا بينهما ميراث. انتهى.
ولا يعلم أحدٌ من الفقهاء رحمهم الله إلا وقد احتجَّ بحديث فاطمة بنت قيس هذا، وأخذ به في بعض الأحكام كمالك، والشافعي. وجمهورُ الأمة يحتجون به في سقوط نفقة المبتوتة إذا كانت حائلاً، والشافعي نفسُه احتج به على جواز جمع الثلاث، لأن في بعض، ألفاظه: فطلقني ثلاثاً، وقد بيَّنا أنه إنما طلقها آخرَ ثلاثٍ كما أخبرت به عن نفسها. واحتجَّ به من يرى جوازَ نظر المرأة إلى الرجال، واحتج به الأئمة كُلُّهُم على، جوازِ خِطبة الرجل على خِطبة أخيه إذا لم تكن المرأةُ قد سكنت إلى الخاطب الأول، واحتجوا به على جواز بيان ما في الرجل إذا كان على وجه النصيحةِ لمن استشاره أن يزوِّجه، أو يُعامِلَه، أو تسافِرَ معه، وأن ذلك ليس بغيبة، واحتجوا به على جواز نكاحِ القرشية من غير القرشي، واحتجوا به على وقوعِ الطلاق في حال غيبة أحدِ الزوجين عن الآخر، وأنه لا يُشترط حضورُه ومواجهتُه به، واحتجوا به على جواز التعريض بخطبة المعتدة البائن، وكانت هذه الأحكامُ كُلُها حاصلةً ببركة روايتها، وصدقِ حديثها، فاستنْبَطَتْها الأمةُ منها، وعملت بها، فما بالُ روايتها

ترد في حكم واحدٍ من أحكام هذا الحديث، وتُقبل فيما عداه؟! فإن كانت حفظته، قبلت في جميعه، وإن لم تكن حفظته وجب أن لا يقبل في شيِء من أحكامه وبالله التوفيق.
فإن قيل: بقي عليكم شيء واحد، وهو أن قوله سبحانه: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُم مِنْ وُجْدِكُم} [الطلاق: 6]، إنما هو في البوائن لا في الرجعيات، بدليل قوله عقيبه: {ولا تُضارُوهُنَ لِتُضَيِّقوا عَلَيْهِن وَإِنْ كُن أولاتِ حَمْلٍ فَأنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَى يَضَعْنَ حَملَهُنَ} [الطلاق: 6] ، فهذا في البائن، إذ لو كانت رجعية، لما قيد النفقة عليها بالحمل، ولكان عديم التأثير، فإنها تستحِقُها حائلاً كانت أو حاملاً، والظاهر: أن الضمير في "أسكنوهن" هو، والضمير في قوله: {وإنْ كُنَ أولاتِ حَمْل فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ}، واحد.
فالجواب: أن مُوْرِدَ هذا السؤالِ إما أن يكونَ من الموجبين النفقةَ
والسكنى، أو ممن يُوجب السُّكنى دون النفقة، فإن كان الأولُ، فالآيةُ على زعمه حجة عليه، لأنه سبحانه شرط في إيجاب النفقة عليهن كونهن حواملَ، والحكم المعلَّق على الشرط ينتفي عند انتفائه، فدل على أن البائنَ الحائلَ لا نفقة لها.
فإن قيل: فهذه دلالة على المفهوم، ولا يقولُ بها.
قيل: ليس ذلك مِن دلالة المفهوم، بل مِن انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه، فلو بقي الحكم بعد انتفائه، لم يكن شرطاً، وإن كان فمن يُوجب السكنى وحدها فيقال له: ليس في الآية ضمير واحد يخصُّ البائن، بل ضمائرها نوعان: نوع يخص الرجعية قطعاً، كقوله: {فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهنَّ بمَعْروفٍ} [الطلاق: 2]

ونوع يحَتمِلُ أن يكون للبائن، وأن يَكون للرجعيةِ، وأن يَكون لهما، وهو قوله: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1]، وقوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حيثُ سكنتُمْ مِنْ وجْدِكُم} [الطلاق: 6] فحمله على الرجعية هو المتعين لِتتحد الضمائرُ ومفسرها، فلو حمل على غيرها لزم اختلاف الضمائر ومفسرها وهو خلافُ الأصل، والحمل على الأصل أولى.
فإن قيل: فما الفائدة في تخصيص، نفقة الرجعية بكونها حاملاً؟
قيل: ليس في الآَية ما يقتضي أنه، لا نفقة للرجعية الحائل، بل الرجعيةُ نوعان، قد بيَّن اللهُ حكمهما في كتابه: حائل، فلها النفقة بعقد الزوجية، إذ حكمُها حكم الأزواج، أو حامل، فلها النفقة بهذه الآية إلى أن تضع حملها، فتصير النفقهُ بعد الوضع نفقةَ قريب لا نفقة زوج، فيخالف حالها قبل الوضع حالها بعده، فإن الزوج يُنفق عليها وحدَه إذا كانت حاملاً، فإذا وضعت، صارت نفقتها على من تجِبُ عليه نفقة الطفل، ولا يكون حالها في حال حملها كذلك، بحيث تجب نفقتُها على من تجب عليه نفقة الطفل، فإنه في حال حملها جزء من أجزائها، فإذا انفصل، كان له حكم آخر، وانتقلت النفقةُ مِن حكم إلى حكم، فظهرت فائدة التقييد وسر الاشتراط والله أعلم بما أراد من كلامه.
ذكر حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموافق لكتاب الله تعالى من وجوب النفقة للأقارب
روى أبو داود في "سننه": عن كليب بن منفعة، عن جده، أنه أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله ! من أبَرُّ؟ قال "أُمَّك وأَبَاكَ وأُخْتَكَ

وَأَخَاكَ وَمَوْلاَكَ الَّذِي يَلي ذاك، حَقّ وَاجِب ورَحِمٌ مَوْصُولَةٌ"
وروى النسائي عن طارِق المحاربي قال: قدمتُ المدينة، فإذا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائمٌ على المنبر يخطُب،الناسَ وهو يقول: "يَدُ المُعْطي العُلْيَا، وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ"
وفي "الصحيحين": عن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسولَ اللهِ ! من أحقُّ الناسِ بحُسن صَحَابتي؟ قال " أُمُكَّ"، قال: ثم من؟ قال: "أُمُّكَ"، قال: ثم من؟ قال: "أُمُّكَ"، قال: ثم من؟ قال: "أَبُوكَ ثُمَ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ".
وفي الترمذي، عن معاوية القُشيري رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسولَ الله ! مَنْ أَبَرُ؟ قال : "أُمَّكَ"، قلتُ: ثم مَنْ؟ قال: "أُمَّكَ"، قلت: ثم من؟ قال: "أُمَّك"، قلت: ثم مَن؟ قال: "أَبَاكَ ثُمَّ الأَقْرَبَ فَالأَقرَبَ".
وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهند: "خُذي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَك بِالمَعْرُوفِ".

وفي "سنن أبي داود"، من حديث عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتم مِنْ كَسْبِكُمْ، وإِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ كَسبِكُم فَكُلُوهُ هنيئاً". ورواه أيضاً من حديث،عائشة رضي الله عنها مرفوعاً.
وروى النسائي من حديث جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتصَدَّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضَلَ شَيءٌ، فَلأهْلِكَ، فَإنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيءٌ، فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابتكَ، فهكَذَا وهكَذَا".
وهذا كله تفسير لقوله تعالى: { وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وبِالوَالِدَينِ إحْسَاناً وبذِي القُرْبَى} [النساء: 36] وقوله تعالى: {وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] فجعل سبحانه حق ذى القربى يلي حق الوالدين، كما جعله النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواءً بسواء، وأخبر سبحانه؟ أن لذي القربى حقاً على قرابته، وأمر بإتيانه إياه، فإن لم يكن ذلك حقَّ النفقةِ، فلا نَدْرِي أيَّ حقٍّ هُوَ. وأمر تعالى بالإِحسان إلى ذي القربى. ومن أعظم الإِساءَةَ أن يراه، يموت جوعاً وعُرْياً، وهو قادر على سد خَلَّته وستر عَوْرَتِهِ، ولا يطعمه لُقمة، ولا يَسْتُر له عَوْرَة إلا بأن يقرضه ذلك في ذِمَّتِهِ، وهذَا الحكم من، النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مطابق لكتاب الله تعالى حيث يقول: {وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَولَيْنِ كامِلَيْنِ لِمنَ أَرَادَ أَنْ يتُمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقهنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ لا نكَلِّفُ نَفْسٌ

إلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِها وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدهِ وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] فأوجب سبحانه وتعالى على الوارثِ مثل ما أوجب على المولود له، وبمثلِ هذا الحكم حكم أميرُ المؤمنين عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه. فروى سفيان بن عُيَيْةً، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسِّيب، أن عمر رضي الله عنه حَبَسَ عَصَبَةَ صبيٍّ على أن يُنْفقوا عليه، الرجال دون النِّساء. وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن شعيب، أن ابن المسيِّب أخبره، أن عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه، وقف بني عم على مَنْفُوسٍ كَلالة بالنفقة عليه مثل العاقلة، فقالوا: لا مال له، فقال: ولَوْ، وقوفُهم بالنفقة عليه كهيئة العقل، قال ابن المديني: قوله: ولو، أي: ولو لم يكن له مال. وذكر ابن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر، عن حجاج، عن عمرو، عن سعيد بن المسيب، قال: جاء ولي يتيم إلى عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه، فقال: أَنْفِق عليه، ثم قال: لو لم أجدْ إلا أقصى عشيرته لَفَرَضْتُ عليهم. وحكم بمثل ذلك أيضاً زيدُ بن ثابت.
قال ابن أبي شيبة: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن، عن مطرف،عن إسماعيل، عن الحسن، عن زيد بن ثابت، قال: إذا كان أُمّ وَعَمّ، فعلى الأم بقدر مِيراثها، وعلى العم بقدر مِيراثه، ولا يعرفُ

لعمر، وزيد مخالف في الصحابة البتَّةَ.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: {وعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} [البقرة: 233]، قال: على ورثة اليتيم أن ينفقوا عليه كما يرثونه. قلت له: أيحْبسُ وارث المولود إن لم يكن للمولود مال؟ قال: أفيدعُه يموت؟ وقال الحسن: {وعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} [البقرة: 233] قال: على الرجلِ الذي يَرِثُ أن ينفق عليه حتى يستغنيَ. وبهذا فسَّرَ الآية جمهورُ السلف، منهم: قتادة، ومجاهد، والضحاك، وزيدُ بن أسلم، وشريح القاضي، وقَبِيصةُ بنُ ذؤيب، وعبدُ الله بن عتبة بن مسعود، وإبراهيم النخعي، والشعبي، وأصحابُ ابن مسعود، ومن بعدهم: سفيان الثوري، وعبد الرزاق، وأبو حنيفة وأصحابه، ومن بعدهم: أحمد، وإسحاق، وداود وأصحابهم.
وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على عدة أقوال.
أحدُها أنه لا يُجْبَرُ أحدٌ على نفقةِ أحدٍ من أقاربه، وإنما ذلك بِرٌ وصِلَة، وهذا مذهب يُعَزى إلى الشعبي. قال عبدُ بنُ حميدٍ الكَشِّي: حدثنا قَبِيصةُ، عن سفيان الثوري، عن أشعث، عن الشعبى، قال: ما رأيت أحداً أجبرَ أحداً على أحدٍ، يعني على نفقته. وفي إثبات هذا المذهب بهذا الكلام نظر، والشعبي أفقه من هذا، والظاهر أنه أراد: أن الناسَ كانوا أتقى للّه من أن يحتاج الغنيُّ أن يجبرَهُ الحاكم على الإِنفاق على قريبه المحتاج، فكان الناس يكتفون بإيجاب الشرع عن إيجاب الحاكم أو إجباره.
المذهب الثاني: انه يجب عليه النفقةُ على أبيه الأدنى، وأمِّه التي

ولدته خاصة، فهذان الأبوان يجبر الذكر والأنثى من الولد على النفقة عليهما إذا كانا فقيرين، فأما نفقةُ الأولادِ، فالرجل يُجْبرُ على نفقة ابنهِ الأدنى حتى يبلغ فقط، وعلى نفقة بنته الدنيا حتى تُزَوَّجَ، ولا يجبر على نفقة ابن ابنه، ولا بنت ابنه وإن سفلا، ولا تُجْبرُ الأُمُ على نفقة ابنها وابنتها ولو كانا في غاية الحاجة والأم في غاية الغنى، ولا تجب على أحد النفقةُ على ابن ابن، ولا جدٍّ، ولا أخٍ، ولا أختٍ، ولا عمٍّ،ولا عمةٍ ولا خالٍ ولا خالةٍ ولا أحد من الأقارب البتة سوى ما ذكرنا. وتجب النفقةُ مع اتحادِ الدِّين واختلافه حيث وجبت، وهذا مذهب مالك، وهو أضيقُ المذاهب في النفقات.
المذهب الثالث: أنه تجبُ نفقةُ عمودي النسب خاصة، دون مَنْ عداهم، مع اتفاق الدِّين، ويَسَارِ المنفِقِ، وقدرته، وحاجة المُنْفَقِ عليه، وعجزه عن الكسب بصغرٍ أو جنونٍ أو زمانةٍ إن كان من العمود الأسفل. وإن كانَ من العمود الأعلى: فهل يشترط عَجْزهُم عن الكسبِ؟ على قولين. ومنهم من طرَّد القولين أيضاً في العمود الأسفل. فإذا بلغ الولد صحيحاً، سقطت نفقته ذكراً كان أو أنثى، وهذا مذهب الشافعي، وهو أوسع من مذهب مالك.
المذهب الرابع: أن النفقة تَجِبُ على كل ذي رحم مَحْرَمٍ لذي رحمه فإن كان من الأولاد وأولادهم، أو الآباء والأجداد، وجبت نفقتُهم مع اتحاد الدَين واختلافه. وإن كان من غيرهم، لم تجب إلا مع اتحاد الدِّين، فلا يجب على المسلم أن ينفق على ذي رحمه الكافر، ثم إنما تجب النفقة بشرط قدرة المنفِق وحاجة المنفَقِ عليه. فإن كان صغيراً اعْتُبِرَ فَقْرُهُ فَقَط، وإن كان كبيراً، فإن كان أنثى، فكذلك، وإن كان

ذَكَراً، فلا بُدَّ مع فقره من عَمَاهُ أو زَمَانَتِهِ، فإن كان صحيحاً بصيرا لم تجب نفقته، وهي مرتَّبة عنده على الميراث إلا في نفقة الولد، فإنها على أبيه، خاصة على المشهور من مذهبه.
وروي عن الحسن بن زياد اللؤلؤي: أنها على أبويه خاصة بقدر ميراثهما طرداً للقياس، وهذا مذهب أبي حنيفة، وهو أوسعُ من مذهب الشافعي،
المذهب الخامس: أن القريب إن كان من عمودي النسب وجبتْ نفقته مطلقاً، سواءً كان وارثاً أو غير وارث، وهل يشترط اتحادُ الدِّين بينهم؟ على روايتين وعنه رواية أخرى: أنه لا تجبُ نفقتُهم إلا بشرط أن يرثهم بِفَرْضٍ أو تَعْصيب كسائر الأقارب. وإن كان من غير عمودي النسب، وجبت نفقتهم بشرط.
أن يكون بينه وبينهم توارث. ثم هل يشترط أن يكون التوارث من الجانبين، أو يكفي أن يكون من أحدهما؟ على روايتين. وهل يشترط ثبوت التَّوارُثِ في الحال، أو أن يكون من أهل الميراث في الجملة؟ على روايتين: فإن كان الأقارب من ذوي الأرحام الذين لا يرثون، فلا نفقةَ لهم على المنصوص عنه، وخرَّج بعض أصحابه وجوبَها عليهم من مذهبه من توارثهم، ولا بد عنده من اتِّحاد الدِّين بين المنفِق والمنفَقِ عليه حيث وجبت النفقة إلا في عمودي النسب في إحدى الروايتين. فإن كان الميراث بغير القرابة، كالولاء وجبت النفقة به في ظاهر مذهبه على الوارث دون الموروث، وإذا لزمتْه نفقةُ رجلٍ لزمته نفقةُ زوجتِهِ في ظاهر مذهبه. وعنه: لا تلزمه. وعنه: تلزمه في عمودي النسب خاصة دون مَنْ عداهم. وعنه: تلزمه لزوجة الأب خاصة، ويلزمه إعفاف عمودي نسبه بتزويج أو تَسَرٍّ إذا طلبوا ذلك.

قال القاضي أبو يعلى: وكذلك يجيءُ في كل مَنْ لزمته نفقتُه: أخ، أو عم، أو غيرهما يلزمُه إعفافُه، لأن أحمد رحمه الله قد نص في العبد يلزمه أن يزوجه إذا طلب ذلك، وإلا بيع عليه، وإذا لزمه إعفافُ رجل لزمه نفقة زوجته، لأنه لا تُمَكَّنُ من الإِعفاف إلا بذلك، وهذه غير المسألة المتقدمة، وهو وجوب الإِنفاق على زوجة المنفَق عليه، ولهذه مأخذ، ولتلك مأخذ، وهذا مذهب الإِمام أحمد، وهو أوسع من مذهب أبي حنيفة، وإن كان مذهب أبي حنيفة أوسعَ منه من وجه آخر حيثُ يُوجِبُ النفقةَ على ذوي الأرحام وهو الصحيح في الدليل، وهو الذي تقتضيه أصولُ أحمد ونصوصُه وقواعد الشرع، وصلةُ الرحم التي أمر الله أن تُوصَلَ، وحرَّمَ الجنة على كل قاطع رحم، فالنفقةُ تُسْتَحَقّ بشيئين: بالميراث بكتاب الله، وبالرحم بسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد تقدَمَ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حبس عَصَبَةَ صبيٍّ أن ينفقوا عليه، وكانوا بني عمه، وتقدَّمَ قولُ زيد بن ثابت: إذا كان عَمٌّ وأمٌّ فعلى العم بقدر ميراثه، وعلى الأم بقدر ميراثها، فإنه لا مخالف لهما في الصحابة البتة، وهو قولُ جمهورِ السلف، وعليه يدل قوله تعالى :{وآتِ ذا القُرْبَى حَقَّه} [الإسراء: 26]، وقوله تعالى: {وَبالْوَالدَيْن إحْسَاناً وَبذي القُرْبَى} [النساء: 36].
وقد أوجب النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأقارب، العطية وصرَّح بأنسابهم، فقال: " وأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ فأدناكَ، حَقٌّ وَاجِبٌ وَرَحِمٌ مَوْصُولَةٌ".
فإن قيل: فالمراد بذلك البِرُّ والصِّلةُ دون الوجوب.
قيل: يَرُدُّ هذا أنه سبحانه أمر به وسمَّاهُ حقاً، وأضافه إليه بقوله: "حَقَّهُ"، وأخبر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه حقٌّ، وأنه واجبٌ، وبعض هذا ينادى

على الوجوب جهاراً.
فإن قيل: المراد بحقه ترك قطيعته.
فالجواب: من وجهين. أحدهما: أن يقال: فأى قطيعة أعظم من أن يراه يتلظَّى جُوعاً وعَطَشاً، ويتأذَّى غاية الأذى بالحر والبرد،ولا يطعمه لقمة ولا يسقيه جرعة ولا يكسوه ما يستر عَوْرَتَهُ ويقيهِ الحرَّ والبردَ، ويُسْكِنُهُ تحت سقف يُظله، هذا وهو أخوه ابن أمه وأبيه، أو عمه صِنْو أبيه، أو خالته التى هى أمه، إنما يجب عليه من ذلك ما يجب بَدْلُهُ للأجنبىِّ البعيد، بأن يعاوضه على ذلك فى الذِّمَّةِ إلى أن يُوسر، ثم يسترجع به عليه، هذا مع كونه فى غاية اليَسَارِ والجِدَةِ، وسَعَةِ الأموال. فإن لم تكن هذه قطيعة، فإنا لا ندرى ما هى القطيعة المحرمة، والصِّلَةُ التى أمر الله بها، وحرَّمَ الجنة على قاطعها.
الوجه الثانى: أن يقال: فما هذه الصلة الواجبة التى نادت عليها النصوصُ، وبالغت فى إيجابها، وذَمَّتْ قاطعها؟ فأىُّ قَدْرٍ زائدٍ فيها على حق الاجنبىِّ حتى تَعْقِلَهُ القلوب، وتُخْبِرَ به الألسنة، وتَعْمَلَ به الجوارحُ؟ أهو السلامُ عليه إذا لقيه، وعيادتُه إذا مرض، وتشميتُه إذا عطس، وإجابتُه إذا دعاهُ، وإنكم لا تُوجبون شيئاً من ذلك إلا ما يجبُ نظيرُه للأجنبىِّ على الأجنبىِّ؟ وإن كانت هذه الصِّلةُ ترك ضربِه وسبه وأذاه والإزراء به، ونحو ذلك، فهذا حق يجبُ لكل مسلم على كُلِّ مسلم، بل للذمِّى البعيد على المسلم، فما خصوصيةُ صلةِ الواجبة؟ ولهذا كان بعضُ فضلاء المتأخِّرين يقول: أعيانى أن أعرف صلةَ الرحم الواجبة. ولما أَوْرَدَ الناسُ هذا على أصحابِ مالك، وقالوا لهم: ما معنى صلةِ الرحم عندكم؟ صَنَّفَ بعضُهم فى صلة الرحم كتاباً كبيراً، وأوعب فيه من

الآثارِ المرفوعةِ والموقوفة، وذكر جنسَ الصلة وأنواعها وأقسامها، ومع هذا فلم يتخلَّص من هذا الإلزام، فإن الصلة معروفة يعرفُها الخاصُّ والعام، والآثارُ فيها أشهر من العلم، ولكن ما الصِّلةُ التى تختَصُّ بها الرحمُ، وتجب له الرحمة، ولا يُشاركه فيها الأجنبى؟ فلا يُمكنكم أن تُعَيِّنوا وجوب شىءٍ إلا وكانت النفقةُ أوجبَ منه، ولا يمكنكم أن تَذْكُروا مُسْقِطاً لوجوب النَّفقة إلا وكان ما عداها أولى بالسقوط منه، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قَرَنَ حَقَّ الأخ والأخت بالأب والأم، فقال :"أُمَّكَ وأَبَاكَ، وأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ فَأَدْنَاكَ"، فما الذى نسخ هذا، وما الذى جعل أَوَّلَهُ للوجوب، وآخِرَهُ للاستحبابِ؟ وإذا عُرِفَ هذا، فليس من بِرِّ الوالدينِ أن يَدَعَ الرجلُ أباهُ يَكْنُسُ الكُنُفَ، ويُكارى على الحُمر، ويُوقِدُ فى أَتوُّنِ الحَمَّامِ، ويَحْمِلُ للناس على رأسه ما يَتَقَوَّتُ بأُجْرَتِهِ، وهو فى غاية الغِنى واليَسَار، وسَعَةِ ذاتِ اليدِ، وليس مِن بِرِّ أُمِّهِ أن يَدَعَهَا تَخْدُمُ النَّاسَ، وتغسلُ ثيابهم، وتسقى لهم الماء ونحو ذلك، ولا يصُونُها بما يُنْفِقهُ عليها، ويقول: الأبوان مُكْتَسِبَانِ صحيحانِ، وليسا بِزَمِنَيْنِ ولا أَعْمَيَيْنِ، فباللهِ العجبُ: أين شرطُ الله ورسولهِ فى برِّ الوالدين، وصِلَةِ الرَّحمِ أن يكون أحدُهم زَمِناً أو أعمى، وليست صِلَةُ الرَّحمِ ولا بِرُّ الوالدين موقوفةً على ذلك شرعاً ولا لغةً ولا عرفاً، وبالله التوفيق.

ذِكْرُ حكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الرضاعة وما يحرم بها، وما لا يحرم، وحُكمه فى القَدْرِ المحرِّم منها وحُكمه فى إرضاع الكبير، هل له تأثير، أم لا؟

ثبت فى "الصحيحين": من حديث عائشة رضى الله عنها، عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ الولاَدَة". وثبت فيهما: من حديث ابن عباس رضى الله عنهما أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُريد على ابنة حمزَة، فقال:
"إِنَّهَا لا تَحِلُّ لى، إنَّهَا ابنةُ أخى مِن الرَّضاَعَةِ وَيَحْرُمُ مِن الرَّضَاعَةِ ما يَحْرُمُ من الرَّحِم ".وثبت فيهما: أنه قال لعائشة رضى الله عنها: "ائذَنى لأَفْلَحَ أخى أبى القُعَيْسِ، فَإِنَّهُ عَمُّكِ" وكانَت امرأَتُه أرضعت عائشةَ رضى الله عنها.وبهذا أجاب ابنُ عباس لما سئل عن رجل له جاريتان، أرضعت إحداهما جاريةً، والأخرى غُلاماً: أَيحِلُّ للغلام أن يتزوجَ الجارية؟ قال: لا اللِّقَاحُ واحِدُ.

وثبت فى "صحيح مسلم" عن عائشة رضىالله عنها، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تُحَرِّمُ المَصَّةُ والمَصَّتانِ".
وفى رواية: "لاَ تُحَرِّمُ الإملاجَةُ والإملاجَتَانِ".
وفى لفظ له: أن رجلاً قال: يا رسولَ الله هل تحرِّم الرضعةُ الواحِدَةُ؟ قال: لا.
وثبت فى "صحيحه" أيضاً: عن عائشة رضى الله عنها قالت: كَانَ فيما نَزَلَ مِنَ القُرآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثم نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فتوفِّىَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهُنَّ فيما يقرأ مِن القرآن.
وثبت فى "الصحيحين": من حديث عائشة رضى الله عنها، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنَّمَا الرَّضَاعَةُ من المَجَاعَة".
وثبت فى "جامع الترمذى": من حديث أم سلمة رضى الله عنها، أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إلا ما فَتَقَ الأمْعَاء فى الثَّدْى وكَانَ قَبْل الفِطَام" ، وقال الترمذى: حديث صحيح.

وفى سنن الدارقطنى بإسناد صحيح، عن ابن عباسٍ يرفعه: "لا رضاع إلا ما كان فى الحولين".
وفى سنن أبى داود: من حديث ابن مسعود يرفعه: "لا يحرم مِن الرضَاع إلا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَرَ العَظْمَ".
وثبت فى "صحيح مسلم": عن عائشة رضى الله عنها قالت: جاءت سَهْلَة بنتُ سُهَيْل إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسول الله، إنى أرَى فى وجه أبى حُذَيْفَةَ مِن دُخُولِ سالمٍ وهو حَلِيفُهُ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "أَرْضِعيهِ تَحْرُمى عَلَيْهِ". وفى رواية له عنها قالت: جاءت سَهْلَةُ بنتُ سُهَيْل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسول الله، إنى أرى فى وجه أبى حُذَيْفَة من دخول سالم وهو حليفُه، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أرضعيهِ" ، فقالت: وكيف أُرضِعُهُ وهو رَجُلٌ كبير، فتبسَّم رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: "قد عَلِمْتُ أنه كبير".
وفى لفظ لمسلم: أن أم سلمةَ رضى الله عنها قالت لعائشةَ رضى الله عنها: إنه يدخُل عليك الغلامُ الأيْفَعُ الذى ما أُحِبُّ أن يدخلَ علىَّ، فقالت عائشةُ رضى الله عنها: أما لَكِ فى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوةٌ؟ إن امرأة أبى حُذيفة قالت: يا رسولَ الله، إن سالماً يدخلُ علىَّ وهو رَجُل، وفى نفس

أبى حُذيفَة منه شىءٌ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَرْضِعيهِ حَتّى يَدْخُل عَلَيْكِ".
وساقه أبو داود فى "سننه" سياقه تامة مطولة، فرواه من حديث الزهرى، عن عروة، عن عائشة وأم سلمة رضى الله عنهما، أن أبا حذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنَّى سالماً، وأنكَحَهُ ابنةَ أخيه هنداً بنتَ الوليد بن عتبة، وهو مولىً لامرأة من الأنصار، كما تَبَنَّى رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيداً، وكان مَنْ تَبَنَّى رجلاً فى الجاهلية، دعاهُ النَّاسُ إليه، وَوَرِثَ ميراثَه، حتى أنزل الله تعالى فى ذلك: { ادْعُوهُم لآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهم فَإخْوانُكم فى الدِّينِ ومَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] فردوا إلى آبائهم فمن لم يُعْلمْ له أبٌ كان مولىً وأخاً فى الدِّين، فجاءت سَهْلَة بنتُ سُهَيْل بن عَمْرو القرشى، ثم العامرى، وهى امرأةُ أبى حذيفة، فقالت: يا رسول اللهِ، إنا كُنَّا نرى سالِماً ولداً، وكان يأوى معى ومع أبى حذيفة فى بيتٍ واحدٍ، ويرانى فُضُلاً، وقد أنزلَ اللهُ تعالى فيهم ما قد عَلِمْتَ، فكيف تَرَى فيه؟ فقال رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أرضعيه" فأرْضعَتْهُ خمس رضعاتٍ، فكان بمنزلةِ ولدِها من الرَّضَاعَةِ، فبذلك كانت عائشةُ رضى الله عنها تأمُرُ بناتِ إخوتِها، وبناتِ أخواتهَا أَن يُرضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ عائشةُ رضى الله عنها أن يَرَاهَا ويدخلَ عليها، وإن كان كبيراً خَمْسَ رضعاتٍ، ثُمَّ يدْخُلُ عليها، وأَبَتْ ذلك أُمُّ سَلَمَةَ وسائرُ أزواجِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُدْخِلْنَ عليهنَّ أحداً بتلك الرِضاعةِ مِن الناس حتى يرضع فى المهد، وقلن لعائشة: والله ما ندرى لعلَّها كانت رُخْصَةً من النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسالم دُونَ الناس.

فتضمنت هذه السُّنَنُ الثابتةُ أحكاماً عديدةً، بعضها متفق عليه بين الأُمَّة، وفى بعضها نِزاع.
الحكم الأول: قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ ما تُحَرِّمُ الوِلادَةُ" ، وهذا الحكم متفقٌ عليه بين الأمَّةِ حتى عِند من قال: إن الزيادة على النص نسخ، والقرآنُ لا يُنْسخُ بالسُّنَّةِ، فإنه اضْطُر إلى قبولِ هذا الحكم وإن كان زائداً على ما فى القرآن، سواء سماه نسخاً أو لم يُسمه، كما اضطُر إلى تحريم الجمع بين المرأة وعمَّتِهَا، وبينَها وبينَ خالتها، مع أنه زيادةٌ على نص القرآن، وذكرها هذا مع حديث أبى القُعَيس فى تحريم لبن الفَحْل على أنَّ المرضعةَ والزوج صاحبَ اللَّبَن قد صارا أبوين للطفل، وصار الطفلُ ولداً لهما، فانتشرتِ الحُرْمة مِن هذِهِ الجهات الثلاثِ، فأولادُ الطفلِ وإن نزلوا أولادُ ولدِهما، وأولادُ كُلِّ واحد من المرضعة والزوج من الآخر ومن غيره، إخوتهُ وأَخواته من الجهات الثلاث. فأولادُ أحدهما من الآخر إخوتُه وأَخواته لأبيه وأمه، وأولاد الزوج من غيرها إخوته وأخواته من أبيه، وأولادُ المرضعة من غيره إخوتُه وأخواتُه لأمه، وصار آباؤها أجدَادَهُ وجَدَّاتِه، وصارَ إخوة المرأة وأخواتُها أَخوالَه وخالاتِه، وإخوةُ صاحب اللبن وأخَواتُه أعمامه وعَمَّاتِه، فَحُرْمَةُ الرَّضَاعِ تنتشر من هذه الجهات الثلاث فقط.
ولا يتعدَّى التحريمُ إلى غير المرتضع ممن هو فى درجته من إخوته وأَخَواتِهِ، فيُباح لأخيه نِكَاحُ مَنْ أرضعتْ أخاهُ وبناتِهَا وأمهاتِهَا، ويُباحُ لأُختِه نكاحُ صَاحِبِ اللبن وأباهُ وبنيه، وكذلك لا ينتشِرُ إلى مَنْ فوقه من آبائِهِ وأمهاتِهِ، ومَنْ فى درجتهِ مِن أعمامِهِ وعَمَّاتِهِ وأخوالِهِ وخالاتِهِ، فلأبى المرتضعِ مِن النسب، وأجدادهِ أن يَنْكِحُوا أُمَّ الطِّفْل من الرضاع

وأمهاتِها وأخَواتِهَا وبناتِهَا وبناتِهَا، وأن يَنْكِحُوا أُمَّهاتِ صاحبِ اللبن وأخواتِهِ وبناتِهِ، إذ نظيرُ هذا من النسب حلال، فللأخ من الأب أن يتزَوَّج أختَ أخيه من الأُمِّ، وللأْخ من الأم أن يَنْكِحَ أختَ أخيه من الأب، وكذلك يَنكِحُ الرجل أم ابنه من النسب وأختها، وأما أمُّها وبنتُها، فإنما حرمتا بالمصاهرة.
وهل يحرمُ نظيرُ المصاهرة بالرضاع، فيحرمُ عليه أمُّ امرأتِه مِن الرضاع، وبنتُها من الرَّضَاعة، وامرأةُ ابنه من الرَّضاعة، أو يحرمُ الجمعُ بين الأختين من الرَّضاعة، أو بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها من الرضاعة؟ فحرَّمه الأئمة الأربعة وأتباعهم، وتوقف فيه شيخُنا وقال: إن كان قد قال أحد بعدم التحريم، فهو أقوى.
قال المحرِّمون: تحريمُ هذا يدخلُ فى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاع مَا يَحْرُمُ من النَّسَبِ" فأجرى الرَّضاعة مجرى النسب، وشبَّهها به، فثبت تنزيلُ ولد الرضاعة وأبى الرضاعة منزلةَ ولد النسب وأبيه، فما ثبت للنسب من التحريم، ثبت للرَّضاعة، فإذا حَرُمَت امرأة الأب والابن، وأُمُّ المرأة، وابنتُها من النسب، حَرُمْنَ بالرَّضاعة. وإذا حَرُمَ الجمع بين أُختى النسب، حَرُمَ بين أُختى الرضاعة، هذا تقدير احتجاجهم على التحريم. قال شيخ الإسلام: الله سبحانه حَرَّمَ سبعاً بالنسب، وسبعاً بالصِّهْر، كذا قال ابن عباس. قال: ومعلوم أن تحريمَ الرضاعة لا يُسمَّى صِهْراً، إنما يَحْرُم منه ما يَحْرُمُ من النسب، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعةِ ما يَحْرُمُ من الولادة". وفى رواية: "ما يَحْرُم من

النَّسَبِ". ولم يقل: وما يَحْرُم بالمصاهرة، ولا ذكره اللهُ سبحانه فى كتابه، كما ذكر تحريم الصِّهرِ، ولا ذَكَر تحريمَ الجمع فى الرَّضَاعِ كما ذكره فى النسب، والصِّهْر قسيمُ النسب، وشقيقُه، قال الله تعالى: {وهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَراً فَجَعَلهُ نَسَباً وصِهْراً} [الفرقان: 54] فالعلاقةُ بين الناس بالنسب والصِّهْر، وهما سببا التحريم، والرَّضاع فرع على النسب، ولا تُعْقَلُ المصاهرة إلا بين الأنساب، واللهُ تعالى إنما حَرَّمَ الجمعَ بين الأُختين، وبين المرأة وعَمَّتِهَا، وبينها وبين خالتها، لئلا يُفضى إلى قطيعةِ الرَّحمِ المحرَّمة. ومعلوم أن الأختين من الرَّضاع ليس بينهما رَحِمٌ محرَّمة فى غير النكاح، ولا ترتب على ما بينهما من أخوة الرضاع حكمٌ قطُّ غير تحريم أحدهما على الآخر، فلا يعتق عليه بالملك، ولا يرِثُهُ، ولا يستحق النفقة عليه، ولا يثبتُ له عليه ولايةُ النكاح ولا الموتُ، ولا يَعْقِلُ عنه، ولا يدخلُ فى الوصية والوقف على أقاربه وذوى رحمه، ولا يَحْرُم التفريق بين الأم وولدها الصغير من الرضاعة، ويَحْرُم من النسب، والتفريقُ بينهما فى الملك كالجمع بينهما فى النكاح سواء، ولو ملك شيئاً من المحرَّمات بالرضاع، لم يعتق عليه بالملك، وإذا حُرُمَتْ على الرجل أُمُّه وبنتُهُ وأُخْتُه وعَمَّتُه وخالتُه من الرضاعة، لم يلزم أن يحرم عليه أمُّ امرأته التى أرضعت امرأته، فإنه لا نسبَ بينه وبينها، ولا مصاهرة، ولا رضاع، والرضاعة إذا جعلت كالنسب فى حكم لا يلزم أن تكون مثله فى كل حكم، بل ما افترقا فيه من الأحكام أضعافُ ما اجتمعا فيه منها، وقد ثبت جوازُ الجمع بين اللتين بينهما مُصاهرة محرَّمة، كما جمع عبدُ الله بن جعفر بين امرأةِ علىٍّ وابنتِه من غيرِهَا. وإن كان بينهما تحريمٌ يمنع جواز نكاح أحدها للآخر لو كان ذكراً، فهذا نظيرُ الأختين من الرضاعة سواء، لأن سبب تحريم النكاح بينهما فى أنفسهما، ليس بينهما وبين

الأجنبى منهما الذى لا رضاعَ بينه وبينهما ولا صِهْر، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم.واحتجَّ أحمد بأن عبد الله بن جعفر جمع بين امرأةِ علىٍّ وابنتِهِ، ولم ينكر ذلك أحدٌ، قال البخارى: وجمع الحسنُ بنُ الحسن بن على، بين بنتى عم فى ليلة، وجمع عبدُ الله بن جعفر بين امرأة علىٍّ وابنته، وقال ابنُ شُبْرُمَة: لا بأس به، وكرهه الحَسَنُ مرة ثم قال: لا بأس به. وكرهه جابرُ بن زيد للقطيعة، وليس فيه تحريم، لقوله عز وجل: {وَأُحِلَّ لَكُم مَا وَرَاءَ ذلِكُم} [النساء: 24] هذا كلام البخارى.
وبالجملة: فثبوتُ أحكام النسب من وجهٍ لا يستلزمُ ثُبوتَها من كل وجه، أو من وجه آخر، فهؤلاء نساءُ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَّ أُمَّهاتُ المؤمنين فى التحريم والحُرْمة فقط، لا فى المحرمية، فليس لأحد أن يخلوَ بهنَّ ولا ينظرَ إليهن، بل قد أمرهُنَّ الله بالاحتجابِ عَمَّن حرم عليه نكاحهن من غير أقاربهن، ومَنْ بينهن وبينه رضاع، فقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْألُوهُنَّ مِنْ وراءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] ثم هذا الحكم لا يتعدَّى إلى أقاربهنَّ البتة، فليس بناتُهُنَّ أخوات المؤمنين يَحْرُمن على رجالهم، ولا بنوهُنَّ إخوة لهم يحرم عَليْهنَّ بناتُهُنَّ، ولا أخواتُهُنَّ وإِخوتهنَّ خالاتٍ وأخوالاً، بل هن حلال للمسلمين بإتفاق المسلمين، وقد كانت أُمُّ الفضل أختُ ميمونَة زوج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت العباس، وكانت

أسماء بنتُ أبى بكر أختُ عائشة رضى الله عنها تحتَ الزبير، وكانت أم عائشة رضى الله عنها تحتَ أبى بكر، وأمُّ حفصةَ تحت عمر رضى الله عنه، وليس لرجل يتزوج أُمَّة، وقد تزوَّجَ عبدُ الله بن عمر وإخوته، وأولاد أبى بكر، وأولاد أبى سفيان من المؤمنات، ولو كانوا أخوالاً لهن، لم يجْز أن ينكحوهن، فلم تنتشر الحُرمة من أمّهات المؤمنين إلى أقاربهنّ، وإلا لزم من ثبوت حكم من أحكام النسب بين الأُمة وبينهنَّ ثبوتُ غيره من الأحكام.
ومما يدلُّ على ذلِكَ أيضاً قولُه تعالى فى المحرَّمات: {وحَلاَئِلُ أَبْنَائكُمُ الَّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ} [النساء: 23] ومعلوم أن لفظ الابن إذا أطلق لم يدخل فيه ابن الرَّضاع، فكيف إذا قُيِّدَ بكونه ابنَ صُلْب، وقصْدُ إخراجِ ابن التَّبنِّى بهذا لا يمنع إخراجَ ابن الرضاع، ويوجب دخلوه، وقد ثبت فى "الصحيح": أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر سَهْلَة بنتَ سُهَيْل أن تُرْضِعَ سالماً مولَى أبى حذيفة ليصير مَحْرَماً لها، فأرضعتهُ بلبن أبى حذيفة زوجها، وصار ابنَها ومحرَمَها بنصِّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سواء كان هذا الحكم مختصاً بسالم أو عاماً كما قالته أمُّ المؤمنين عائشة رضى الله عنها، فبقى سالم مَحْرَماً لها، لكونها أرضعتْهُ وصارت أُمَّهُ، ولم يَصِرْ مَحْرماً لها، لكونها امرأة أبيه من الرَّضاعة، فإن هذا لا تأثيرَ فيه لرضاعة سَهْلَة له، بل لو أرضعَتْهُ جاريةٌ له، أو امرأة أُخرَى، صارت سهلةُ امرأة أبيه، وإنما التأثيرُ لِكونه ولدَها نفسِها وقد عُلِّل بهذا فى الحديث نفسِهِ ولفظه: فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرْضِعِيه"، فأرضعتهُ خمس رَضَعَات، وكان بمنزلة ولدِها من الرضاعة، ولا يُمكِنُ دعوى الإجماع فى هذه المسألة، ومن ادعاه فهو كاذب، فإن سعيد بن

المسيب، وأبا سلمةَ بن عبد الرحمن، وسليمانَ بن يسار، وعطاءَ بن يسار، وأبا قِلابة، لم يكونوا يُثْبِتُون التحريمَ بلبن الفحل، وهو مروىٌّ عن الزبير، وجماعة من الصحابة، كما سيأتى إن شاء الله تعالى، وكانوا يرون أن التحريمَ إنما هو من قِبَلِ الأُمهات فقط، فهؤلاء إذا لم يجعلوا المرتضِع من لبن الفحل ولداً له، فأن لا يُحرِّموا عليه امرأته، ولا على الرضيع امرأةَ الفحل بطريق الأولى، فعلى قول هؤلاء فلا يَحْرُمُ على المرأة أبو زوجها من الرَّضاعة، ولا ابنُه من الرضاعة.
فإن قيل: هؤلاء لم يُثْبِتُوا البُنُوَّة بين المرتضِع وبين الفحل، فلم تثبتِ المصاهرةُ، لأنها فرع ثبوتِ بُنُوَّةِ الرَّضاع، فإذا لم تثبت له، لم يثبت فَرْعُهَا، وأما من أَثَبَتَ بُنُوَّةَ الرضاعِ من جهة الفحل كما دلت عليه السُّنَّة الصحيحة الصريحة، وقال به جمهور أهل الإسلام، فإنه تَثْبُتُ المصاهرة بهذه البنوة، فهل قال أحد ممن ذهب إلى التحريم بلبن الفحل: إن زوجة أبيه وابنهِ من الرضاعة لا تحرم؟
قيل: المقصود أن فى تحريم هذه نزاعاً، وأنه ليس مجمعاً عليه، وبقى النظرُ فى مأخذه، هل هو إلغاء لبن الفحل، وأنه لا تأثير له، أو إلغاء المصاهرة من جهة الرَّضاع، وأنه لا تأثير لها، وإنما التأثير لمصاهرة النسب؟
ولا شك أن المأخذ الأول باطل، لثبوت السُّنَّة الصريحة بالتحريم بلبن الفحل، وقد بينا أنه لا يلزم من القول بالتحريم به إثباتُ المصاهرة به إلا بالقياس، وقد تقدَّمَ أن الفارق بين الأصل والفرع أضعاف أضعافِ الجامع، وأنه لا يلزم من ثبوت حكم من أحكام النسب، ثبوت حكم آخر.

ويدل على هذا أيضاً أنه سبحانه لم يجعل أُمَّ الرَّضاع، وأخت الرَّضاعة داخلةً تحت أُمَّهاتنا وأخوَاتنا، فإنه سبحانه قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم وبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23]، ثم قال: {وأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتى أَرْضَعْنَكُم وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرّضَاعَةِ} [النساء: 23] فدل على أن لفظ أمَّهاتِنَا عند الإطلاق: إنما يراد بها الأم من النسب، وإذا ثبت هذا، فقوله تعالى: {وأُمَّهَاتُ نِسَائِكُم} [النساء: 23] مثل قوله: {وأمهاتُكُم} [النساء: 23]، إنما هن أمهات نسائنا من النسب، فلا يتناول أمهَّاتهن من الرضاعة، ولو أريد تحريمهنَّ لقال: وأمهاتهنّ اللاتي أرضعنهن، كما ذكر ذلك فى أُمهاتنا وقد بينا أن قوله: "يَحْرُمُ من الرضَاعَةِ ما يَحْرُم من النَّسَبِ"، إنما يدل على أن من حرم على الرجل من النسب حرم عليه نظيره من الرضاعة، ولا يدل على أن من حرم عليه بالصِّهر أو بالجمعِ، حَرُم عليه نظيره من الرضاعة، بل يدل مفهومه علي خلاف ذلك، مع عموم قوله: {وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} [النساء: 24].
ومما يدل على أن تحريم امرأةِ أبيه وابنه مِنَ الرَّضاعةِ ليس مسألةَ إجماع، أنه قد ثبت عن جماعة من السلف جوازُ نِكاح بنتِ امرأتهِ إذا لم تكن فى حجْرِهِ، كما صحَّ عن مالك بن أوس بن الحدثان النَّصْرى، قال: كانت عندى امرأة، وقد ولدت لى، فتوفيتْ، فَوَجِدْتُ عليها، فَلَقِيتُ علىَّ بنَ أبى طالب رضى الله عنه، قال لى: مالك؟ قلتُ: توفيت المرأةُ، قال: لها ابنةٌ؟ قلت: نعم، قال: كانت فى حَجْرِك؟ قلت: لا، هى فى الطائف. قال: فانكحها، قلت: فأين قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُم اللاَّتى فى حُجُورِكُم مِنْ نِسَائِكُم} [النساء: 23]، قال: إنها لم تكن فى حجرك، وإنما ذلك إذا كانت فى حَجْرِك

.وصح عن إبراهيم بن ميسرة، أن رجلاً من بنى سواءة يقال له: عُبيد الله بن معبد، أثنى عليه خيراً، أخبره أنَّ أباه أو جَدَّه كان قد نكح امرأةً ذاتَ ولدٍ من غيرهِ، ثم اصطحبا ما شاء الله، ثم نكح امرأة شابة، فقال: أحدُ بنى الأُولى قد نَكَحْتَ على أمِّنَا وكَبرت واستغنيتَ عنها بامرأةٍ شابة، فطلِّقْهَا، قال: لا واللهِ إلا أن تُنْكحَنى ابنتَك، قال: فطلَّقها وأنكحه ابنته، ولم تكن فى حَجره هى ولا أبوها. قال: فجئت سفيانَ ابنَ عبد الله، فقلت: استفتِ لى عمرَ بنَ الخطاب رضى الله عنه. قال: لتَحُجَّنَّ معى، فأدخلنى على عمرَ رضى الله عنه بمنى، فقصصتُ عليه الخَبَر، فقال عمرُ: لا بأس بذلك، فاذهب فسل فلاناً، ثم تعالَ فأخبرنى. قال: ولا أراهُ إلا علياً قال: فسألتُه، فقال: لا بأس بذلك، وهذا مذهب أهل الظاهر. فإذا كان عمر وعلى رضى الله عنهما ومن يقول بقولهما قد أباحا الربيبة إذا لم تكن فى حَجْر الزوج، مع أنها ابنةُ امرأته من النسب، فكيف يُحرمان عليه ابنَتها من الرضاع، وهذه ثلاثة قيود ذكرها الله سبحانه وتعالى فى تحريمها. أن تكون فى حَجْرهِ، وأن تكون من امرأتِهِ، وأن يكون قد دخل بأمِّها. فكيف يحرم عليه مجرد ابنتها من الرَّضاعة، وليست فى حجْرِهِ، ولا هى ربيبته لغة، فإن الربيبةَ بنتُ الزوجة، والربيبُ ابنُها بإتفاق الناس، وسُمِّيَا ربيباً وربيبةً لأن زوج أمِّهما يَرُبُّهما فى العادة، وأمَّا مَنْ أرضعتهما امرأتُه بغير لبنه، ولم يَرُبَّها قَطُّ، ولا كانت فى حَجْرهِ، فدخولها فى هذا النص فى غاية البعد لفظاً ومعنىً، وقد أشار النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحريم الربيبة بكونها فى الحَجْر. ففى "صحيح البخارى" من حديث الزهرى، عن عروة، أن زينبَ بنتَ أم سلمةَ أخبرتهُ أن أمّ حبيبة بنت

أبى سفيان قالت: يا رسول الله، أُخبِرْتُ أنك تخطُب بنتَ أبى سلمة، فقال: بنتَ أمِّ سلمة؟ قالت: نعم، فقال: "إنَّهَا لَوْ تَكُنْ رَبيبَتى فى حَجْرى لَمَا حَلَّتْ لى". وهذا يدل على اعتباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القيدَ الذى قيَّده الله فى التحريم، وهو أن تكون فى حَجْر الزوج. ونظير هذا سواء، أن يقال فى زوجة ابنِ الصُّلب إذا كانت مُحرَّمة برضاع: لو لم تكن حليلة ابنى الذى لصلبى، لما حلَّت لى سواء، ولا فرق بينهما، وبالله التوفيق.
فصل
الحكم الثانى: المستفاد من هذه السُّنَّة، أَنَّ لبن الفحل يُحَرِّم، وأن التحريمَ ينتشِرُ مِنه كما ينتشِر من المرأة، وهذا هو الحقُّ الذى لا يجوز أن يُقال بغيره، وإن خالف فيه مَنْ خالفَ من الصحابة ومَنْ بَعْدَهُم، فَسُنَّةُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحَقُّ أن تُتَّبَعَ، ويتركَ ما خالفها لأجلها، ولا تُتْرَكُ هى لأجل قولِ أحد كائناً مَنْ كان. ولو تُركت السُّنَنُ لخلاف من خالفها لعدم بلوغها له، أو لتأويلها، أو غير ذلك، لَتُرِكَ سُنَنٌ كثيرة جداً، وتُركت الحجَّةُ إلى غيرها، وقولُ من يجب اتّباعه إلى قول من لا يجب اتِّباعه، وقولُ المعصوم إلى قولِ غيرِ المعصوم، وهذه بلية، نسأل الله العافية منها، وأن لا نلقاه بها يوم القيامة.
قال الأعمش: كان عِمارة، وإبراهيم، وأصحابُنا لا يَرَوْنَ بلبن

الفحل بأساً حتى أتاهم الحكم بنُ عُتَيْبَة بخبر أبى القُعَيس، يعنى: فتركوا قولَهم، ورجعوا عنه، وهكذا يَصْنَعُ أهلُ العلم إذا أتَتْهُم السُّنَّةُ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رجعوا إليها، وتركوا قولَهم بغيرها.
قال الذين لا يحرِّمون بلبن الفحل: إنما ذكر اللهُ سبحانه فى كتابه التحريم بالرضاعة مِنَ جهة الأم، فقال {وأمَّهَاتُكُم اللاَّتى أَرْضَعْنكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] واللام: للعهد ترجع إلى الرَّضاعة المذكورة، وهى رَضاعة الأم، وقد قال الله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} [النساء: 24] فلو أثبتنا التحريمَ بالحديث لَكُنَّا قد نسخنا القرآن بالسُّنَّة، وهذا - على أصل من يقول: الزيادة على النص نسخ _ ألزمُ، قالوا: وهؤلاء أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم أعلمُ الأُمَّة بِسُنَّتِهِ، وكانوا لا يرون التحريمَ به، فصح عن أبى عُبيدة بن عبد الله بن زَمْعَةَ أن أمَّهُ زينبَ بنتَ أمِّ سلمةَ أمِّ المؤمنين أرضعتها أسماءُ بنتُ أبى بكر الصِّدِّيق رضى الله عنه امرأةُ الزبير بن العوام، قالت زينب: وكان الزبيرُ يدخل علىَّ وأنا أَمْتَشِطُ فيأخذ بقَرْنٍ من قرون رأسى، ويقول: أقبلى علىَّ فحدِّثينى أرى أنه أبى، وما ولَدَ منه: فهم إخوتي، ثم إن عبدَ اللهِ بنَ الزبير أرسل إلىَّ يخطُبُ أمَّ كلثوم ابنتى على حمزة بن الزبير، وكان حمزةُ للكلبية، فقالت لرسوله: وهَل تَحِلُّ له؟ وإنما هى ابنةُ أخته، فقال عبد الله: إنما أردتِ بهذا المنعَ من قِبَلكِ. أمَّا ما ولدتْ أسماءُ، فهم إخوتك، وما كان من غير أسماءَ فليسوا لك بإخوةٍ، فأرسلى فاسألى عن هذا، فأرسلتْ فسألتْ، وأصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوافِرون، فقالوا لها، إن الرضاعة من قبلِ الرَّجُل لا تحرِّم شيئاً، فأنكحيها إياه، فلم تزل عنده حتى هلك عنها.

قالوا: ولم ينكر ذلك الصحابةُ رضى الله عنهم، قالوا: ومن المعلوم أن الرضاعة من جهة المرأة لا من الرجل.
قال الجمهور: ليس فيما ذكرتم ما يُعارضُ السُّنَّة الصحيحة الصريحة، فلا يجوزُ العدولُ عنها. أمَّا القرآن، فإنه بينَ أمرين: إما أن يتناولَ الأخت من الأب من الرضاعة فيكون دالاً على تحريمها، وإما أن لا يتناولَها فيكون ساكتاً عنها، فيكون تحريمُ السُّنَّة لها تحريماً مبتدءاً ومخصصاً لعموم قوله :{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] والظاهرُ يتناولُ لفظ الأختِ لها، فإنه سبحانه عمم لفظ الأخوات من الرَّضاعة، فدخل فيه كُلُّ مَنْ أطلق عليها أخته، ولا يجوزُ أن يُقال: إن أخته من أبيه من الرّضاعة ليست أختاً له، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعائشة رضى الله عنها: ائذنى لأفلح، فإنه عَمُّك، فأثْبتَ العمومةَ بينها وبينه بلبنِ الفحل وحده، فإذا ثبتت العُمُومة بين المرتضعة، وبين أخى صاحب اللبن، فثبوتُ الأُخوة بينها وبين ابنه بطريق الأولى أو مثله.
فالسُّنَّة بينتْ مرادَ الكتاب، لا أنها خالفته، وغايتُها أن تكونَ أثبتتْ تحريمَ ما سكت عنه، أو تَخصيص ما لم يرد عمومه.
وأما قولكم: إن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرون التحريمَ بذلك، فدعوى باطلة على جميع الصحابة، فقد صح عن على رضى الله عنه إثبات التحريمِ به، وذكر البخارى فى "صحيحه" أن ابن عباس سئل عن رجل كانت له امرأتانِ أرضعت إحداهما جاريةً، والأخرى غلاماً، أيحِلُّ أن يَنْكَحَهَا؟ فقال ابنُ عباس: لا، اللقاحُ واحد، وهذا الأثر الذى استدللتم به صريح عن الزبير أنه كان يعتقدُ أن زينبَ ابنته بتلك الرضاعة، وهذه

عائشةُ أُمُّ المؤمنين رضى الله عنها كانت تُفتى: أن لبن الفحل ينشُرُ الحرمة، فلم يَبْقَ بأيديكم إلا عبدُ الله بنُ الزبير، وأين يَقَعُ من هؤلاء.
وأما الذين سَألتهُم فأفتوها بالحل، فمجهولون غيرُ مَسَمَّين، ولم يقلِ الراوى: فسألت أصحابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم متوافرون، بل لعلها أرسلتْ فسألت من لم تَبْلُغْهُ السُّنَّةُ الصحيحة منهم، فأفتاها بما أفتاها به عبد الله بن الزبير، ولم يكن الصحابة إذ ذاك متوافرين بالمدينة، بل كان معظمهم وأكابرُهم بالشام والعراق ومصر.
وأما قولكم: إن الرَّضاعة إنما هى من جهة الأم، فالجواب أن يقال: إنما اللبنُ للأب الذى ثار بوطئه، والأم وعاء له، وبالله التوفيق.
فإن قيل: فهل تَثْبت أبُوَّةُ صاحب اللبن وإن لم تثبت أمومة المرضعة، أو ثبوتُ أُبُوَّتهِ فرع على ثبوت أمومة المرضعة؟
قيل: هذا الأصلُ فيه قولان للفقهاء، وهما وجهان فى مذهب أحمد والشافعى، وعليه مسألة من له أربعُ زوجات، فأرضعنَ طفلةً كُلُّ واحدةٍ منهن رَضْعتين، فإنهن لا يَصِرْنَ أماً لها، لأن كل واحدة منهن لم تُرضِعْها خمس رَضَعَات. وهل يصير الزوج أباً للطفلة؟ فيه وجهان. أحدهما: لا يصير أباً، كما لم تَصِر المرضعاتُ أُمَّهاتٍ، والثانى وهو الأصح: يصير أباً، لكون الولد ارتضع من لبنه خمس رَضَعَات، ولبنُ الفَحْل أصلٌ بنفسه، غير متفرِّع على أمومة المرضعة، فإن الأبوةَ إنما تثبُت بحصول الارتضاع من لبنه، لا لِكون المرضعة أمه، ولا يجىءُ على أَصْلَىْ أبى حنيفة ومالك، فإن عندهما قليل الرضاع وكثيره محرِّم، فالزوجاتُ الأربع أمهات للمرتضِع، فإذا قلنا بثبوت الأُبُوَّةِ وهو الصحيح، حَرُمَتِ المرضعاتُ على الطفل، لأنه ربيبُهنَّ، وهُنَّ موطوءات أبيه، فهو ابنُ

بَعْلهِنَّ. وإن قلنا: لا تثُبت الأْبُوَّةُ لم يَحْرُمْنَ عليه بهذا الرضاع.
وعلى هذه المسألة: ما لو كان لِرجل خمسُ بناتٍ، فأرضعنَ طفْلاً، كلُّ واحدة رَضْعَة، لم يَصِرْنَ أمهاتٍ له. وهل يصير الرجل جداً له، وأولاده الذين هم إخوةُ المرضِعات أخوالاً له وخالات؟ على وجهين، احدهما: يصير جداً، وأخوهن خالاً، لأنه قد كَملَ المرتضِع خمسَ رَضَعَاتٍ من لبن بناته، فصار جَدّاً، كما لو كان المرتضِع بنتاً واحدة. وإذا صار جَدّاً كان أولادُه الذين هُم إخوةُ البنات أخوالاً وخالات، لأنهن إخوةُ من كمل له منهن خمسُ رَضَعتَات، فنزلوا بالنسبة إليه منزلةَ أم واحدة، والآخر لا يصيرُ جَداً، ولا أخواتُهن خالاتٍ، لأن كونَه جداً فرعٌ على كونِ ابنته أمَّاً، وكونُ أخيها خالاً فرع على كون أُخته أمّاً، ولم يثبتِ الأصل، فلا يثُبت فرعُه، وهذا الوجه أصحُّ فى هذه المسألة، بخلاف التى قبلَها، فإن ثبوت الأُبُوَّةِ فيها لا يستلزم ثبوت الأمومة على الصحيح. والفرقُ بينهما: أن الفرعية متحققة فى هذه المسألة بين المرضعات وأبيهن، فإنهنَّ بناتُه، واللبن ليس له، فالتحريم هنا بين المرضعة وابنها، فإذا لم تكن أُمًّا، لم يكن أبوها جَدَّاً، بخلافِ تلك، فإن التحريم بينَ المرتضِع وبينَ صاحب اللبن، فسواءٌ ثبتت أمومةُ المرضعة أولا، فعلى هذا إذا قلنا: يصير أَخُوهنَّ خالاً، فهل تكون كل واحدة منهن خالةً له؟ فيه وجهان. أحدهما: لا تكون خالةً، لأنه لم يرتضِعْ من لبن أخواتِهَا خمس رضعات، فلا تثبت الخؤولة. والثانى: تثبت، لأنه قد اجتمع من اللبن المحرِّم خمس رضعات، وكان ما ارتضع منها ومن أخواتها مثبتاً للخؤولة، ولا تثبت أمومة واحدة منهن إذ لم يرتضع منها خمس رضعات، ولا يستبعدُ ثبوت خؤولة بلا أمومة، كما ثبت فى لبن الفحل أبوة بلا أمومة، وهذا ضعيف

. والفرق بينهما. أن الخؤولة فرع محض على الأمومة، فإذا لم يثبت الأصل، فكيف يثُبت فرعُه؟ بخلاف الأبوة والأُمومة، فإنهما أصلان لا يلزم من انتفاه أحدهما انتفاء الآخر.
وعلى هذا مسألة، ما لو كان لرجل أُم، وأخت، وابنة، وزوجةُ ابن، فأرضعن طِفْلَةً كُلُّ واحدة منهن رَضْعَة، لم تَصِرْ واحدةٌ منهن أمها، وهل تحرم على الرجل؟ على وجهين. أوجههما: ما تقدم. والتحريمُ ههنا بعيد، فإن هذا اللبن الذى كمل للطفل لا يجعل الرجل أباً له، ولا جداً، ولا أخاً، ولا خالاً، والله أعلم.
فصل
وقد دلّ التحريم بلبن الفحل على تحريم المخلوقة مِن ماء الزانى دلالةَ الأولى والأحْرى، لأنه إذا حرم عليه أن ينكِحَ من قد تغذَّت بلبن ثار بوطئه، فكيف يَحِلُّ له أن ينكِحَ من قد خُلِقَ مِن نفس مائة بوطئه؟ وكيف يحرِّم الشارعُ بنته من الرضاع لما فيها من لبن كان وطء الرجل سبباً فيه، ثم يُبيح له نكاحَ مَنْ خُلِقَتْ بنفسِ وطئه ومائة؟ هذا من المستحيل، فإن البَعْضِيَّةَ التى بينه وبينَ المخلوقة مِن مائة أكملُ وأتمُّ مِن البَعْضِيَّة التى بينَه وبين من تغذَّت بلبنه، فإن بنت الرضاع فيها جزء ما من البعضية، والمخلوقة من مائة كاسمها مخلوقة مِن مائة، فنصفُها أو أكثرها بعضُه قطعاً، والشطرُ الآخر للأم، وهذا قولُ جمهورِ المسلمين، ولا يُعرف فى الصحابة من أباحها، ونص الإمام أحمد رحمه الله، على أن من تزوَّجها، قُتِلَ بالسيف محصناً كان أو غيره. وإذا كانت بنتُه من الرضاعة بنتاً فى حكمين فقط:

الحرمة، والمحرمية، وتخلف سائر أحكام البنت عنها لم تُخرجها عن التحريم، وتُوجب حِلها، فكذا بنتُه مِن الزنى تكون بنتاً فى التحريم. وتخلُّفُ أحكامِ البنت عنها لا يُوجب حلها، والله سبحانه خاطب العرب بما تعقِلُه فى لغاتِها، ولفظ البنت لفظ لغوى لم ينقلْه الشارع عن موضعه الأصلى، كلفظ الصلاة والإيمان ونحوهما، فَيُجملُ على موضوعه اللغوى حتى يثبت نقل الشارع له عنه إلى غيره، فلفظُ البنتِ كلفظِ الأخ والعم والخال ألفاظٌ باقية على موضوعاتها اللغوية. وقد ثبت فى "الصحيح" أن الله تعالى أنطق ابنَ الراعى الزانى بقوله: "أبى فُلانٌ الرَّاعى"، وهذا الإنطاقُ لا يحتمِلُ الكذب، وأجمعت الأمةُ على تحريم أمِّه عليه. وخلقُه من مائها، وماء الزانى خلقٌ واحد، وإثمهُما فيه سواء، وكونه بعضاً له مثلُ كونه بعضاً لها، وإنقطاع الإرث بين الزانى والبنت لا يُوجب جوازَ نكاحها، ثم مِن العجب كيف يُحَرِّمُ صاحبُ هذا القول أن يستمنىَ الإنسان بيده، ويقول: هو نكاحٌ لِيده، ويُجوِّزُ للإنسان أن ينكحَ بعضَه، ثم يُجوِّزُ له أن يستفرِشَ بعضه الذى خَلَقَهُ الله مِن مائه، وأخرجَهُ مِن صُلبه،كما يستفرش الأجنبية.
فصل
والحكم الثالث: أنه لا تُحرم المصةُ والمصَّتَانِ، كما نص عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يُحرِّمُ إلا خمسُ رضعات، وهذا موضع اختلف فيه العلماء. فأثبتت طائفة من السلف والخلف التحريم بقليل الرضاع

وكثيرة، وهذا يروى عن على وابن عباس، وهو قولُ سعيد بن المسيب، والحسن والزهرى، وقتادة، والحكم، وحماد، والأوزاعى، والثورى، وهو مذهبُ مالك، وأبى حنيفة، وزعم الليثُ بنُ سعد أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيرة يُحرِّم فى المهد ما يُفْطِرُ به الصائم، وهذا رواية عن الإمام أحمد رحمه الله. وقالت طائفة أخرى: لا يثبُت التحريمُ بأقلَّ مِن ثلاث رضعات، وهذا قولُ أبى ثور، وأبى عبيد، وابن المنذر، وداود بن على، وهو روايةٌ ثانية عن أحمد.
وقالت طائفة أخرى: لا يثُبت بأقلَّ مِن خمس رضعات، وهذا قول عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وعطاء، وطاووس، وهو إحدى الروايات الثلاث عن عائشة رضى الله عنها، والرواية الثانية عنها: أنه لا يحرم أقل من سبع، والثالثة: لا يحرم أقل من عشر. والقول بالخمس مذهب الشافعى، وأحمد فى ظاهر مذهبه، وهو قولُ ابن حزم، وخالف داود فى هذه المسألة.
فحجةُ الأولين أنه سبحانه علَّقَ التحريم باسم الرضاعة، فحيث وجد اسمُها وُجدَ حكمُها، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَة مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" وهذا موافق لإطلاق القرآن.
وثبت فى "الصحيحين"، عن عقبة بن الحارث، أنه تزوج أمّ يحيى بنت أبى إهاب، فجاءت أمةٌ سوداء، فقالت: قدأرضعتُكما، فذكر ذلك للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعرض عنى، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له، قال: "وكيْف وقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُما فنهاهُ عنها"، ولم يسأل

عن عدد الرضاع، قالوا: ولأنه فعل يتعلق به التحريم، فاستوى قليلهُ وكثيره، كالوطء الموجب له، قالوا: ولأن إنشاز العظم، وإنبات اللحم يحصُل بقليله وكثيره. قالُوا: ولأن أصحابَ العدد قد اختلفت أقوالهم فى الرضعة وحقيقتها، واضطربت أشدَّ الاضطراب، وما كان هكذا لم يجعله الشارعُ نصاباً لِعدم ضبطه والعلم به.
قال أصحابُ الثلاث: قد ثبت عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا تُحرِّمُ المصَّةُ والمصَّتان"، وعن أم الفضل بنتِ الحارث قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تُحَرِّمُ الإمْلاجَةُ والإمْلاَجَتَانِ ". وفى حديث آخر: أن رجلاً قال: يا رسولَ الله، هل تُحَرِّمُ الرضعةُ الواحِدة؟ قال: "لا". وهذه أحاديث صحيحة صريحة، رواها مسلم فى "صحيحه"، فلا يجوز العدولُ عنها فأثبتنا التحريمَ بالثلاث لِعموم الآية، ونفينا التحريمَ بما دونها بصريحِ السنة قالُوا: ولأن ما يُعتبر فيه العدد والتكرارُ يُعتبر فيه الثلاث. قالوا: ولأنها أولُ مراتب الجمع، وقد اعتبرها الشارعُ فى مواضع كثيرة جداً.
قال أصحابُ الخمسِ: الحجةُ لنا ما تقدَّم فى أول الفصل من الأحاديث الصحيحة الصريحة، وقد أخبرت عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفى والأمرُ على ذلك، قالُوا: ويكفى فى هذا قولُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسهلة بنت سهيل: "أَرضِعِى سَالِماً خَمْسَ رَضَعَاتٍ تَحْرُمِى عَلَيْهِ". قالُوا: وعائشة أعلمُ الأمة بحكم هذه المسألة هى ونساءُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

وكانت عائشةُ رضى الله عنها إذا أرادت أن يدْخُلَ عليها أحد أمرت إحدى بَنَاتِ إخوتِها أو أخواتِها فأرضعتهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ. قالوا: ونفىُ التحريم بالرضعة والرضعتين صريحٌ فى عدم تعليق التحريم بقليل الرضاع وكثيرة، وهى ثلاثةُ أحاديث صحيحة صريحة بعضُها خرج جواباً للسائل، وبعضُها تأسيسُ حكم مبتدأ. قالُوا: وإذا علقنا التحريمَ بالخمس، لم نكن قد خالفنا شيئاً من النصوص التى استدللتُم بها، وإنما نكونُ قد قيدنا مطلقها بالخمس، وتقييدُ المطلقِ بيانٌ لا نسخ ولا تخصيصٌ.
وأما من علَّق التحريمَ بالقليل والكثير، فإنه يُخالف أحاديثَ نفى التحريم بالرضعة والرضعتين، وأما صاحبُ الثلاث، فإنه وإن لم يُخالفها، فهو مخالفٌ لأحاديث الخمس.
قال من لم يُقيده بالخمس: حديثُ الخمس لم تنقله عائشةُ رضى الله عنها نقلَ الأخبار، فيحتج به، وإنما نقلته نقل القرآن، والقرآن إنما يثُبت بالتواتر، والأمة لم تنقل ذلك قرآناً، فلا يكون قرآناً، وإذا لم يكن قرآناً ولا خبراً، امتنع إثباتُ الحكم به.
قال أصحابُ الخمس: الكلامُ فيما نقل مِن القرآن آحاداً فى فصلين، أحدهما: كونُه من القرآن، والثانى: وجوبُ العمل به، ولا ريبَ أنهما حكمان متغايران، فإن الأول يُوجب انعقادَ الصلاة به، وتحريمَ مسه على المحدث، وقراءتهِ على الجنبِ، وغير ذلك من أحكام القرآن، فإذا انتفت هذه الأحكامُ لعدم التواتر، لم يلزم انتفاءُ العمل به، فإنه يكفى فيه الظَّنُّ، وقد احتجًَّ كُلُّ واحد من الأئمةِ الأربعة به فى موضع، فاحتج به الشافعى وأحمد فى هذا الموضع، واحتج به أبو حنيفة فى وجوب التتابع فى صيام الكفارة بقراءة ابن مسعود "فصيامُ ثلاثة أيام متتابعات".

واحتج به مالك والصحابة قبله فى فرض الواحد من ولد الأم أنه السدس بقراءة أبى، "وإن كان رجل يُورث كلالة، أو امرأة وله أخ، أو أخت من أم، فلكل واحد منهما السدس"، فالناسُ كلهم احتجُّوا بهذه القراءة، ولا مستند للإجماع سواها.
قالوا: وأما قولُكم إما أن يكون نقله قرآناً أو خبراً، قلنا: بل قرآناً صريحاً. قولُكم: فكان يجب نقله متواتراً، قلنا: حتى إذا نسخ لفظُه أو بقى، أما الأول، فممنوع، والثانى، مسلَّم، وغايةُ ما فى الأمر أنه قرآن نُسِخَ لفظُه، وبقى حكمه، فيكونُ له حكمُ قوله: "الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجمُوهما" مما اكتفىَ بنقله آحاداً، وحكمُه ثابت، وهذا مما لا جواب عنه. وفى المسألة مذهبان آخران ضعيفان.
أحدهما: أن التحريم لا يثبت بأقلَّ مِن سبع، كما سئل طاووس عن قول من يقول: لا يحرم من الرضاع دون سبع رضعات، فقال: قد كان ذلك، ثم حدث بعد ذلك أمر جاء بالتحريم، المرة الواحدة تُحرِّمُ، وهذا المذهب لا دليل عليه.
الثانى: التحريمُ إنما يثبتُ بعشر رضعات، وهذا يُروى عن حفصة وعائشة رضى الله عنهما.
وفيها مذهب آخر، وهو الفرق بين أزواج النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرهن قال طاووس: كان لأزواج النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رضعات محرمات، ولسائر الناس رضعات معلومات، ثم تُرِكَ ذلك بعد، وقد تبين الصحيحُ من هذه الأقوال، وبالله التوفيق.

فصل
فإن قيل: ما هى الرضعةُ التى تنفصلُ من أختها، وما حدُّها؟ قيل: الرضعةُ فعلة مِن الرضاع، فهى مرة منه بلا شك، كضربة وجلسة وأكلة، فمتى التقم الثدىَ، فامتصَّ منه ثم تركه باختياره مِن غير عارض كان ذلك رضعة، لأن الشرع ورد بذلك مطلقاً، فحُملَ على العُرف، والعُرف هذا، والقطعُ العارضُ لتنفس أو استراحة يسيرة، أو لشىء يلهيه ثم يعودُ عن قرب لا يخرجه عن كونه رضعة واحدة، كما أن الآكل إذا قطع أكلته بذلك، ثم عاد عن قريب لم يكن ذلك أكلتين بل واحدة، هذا مذهب الشافعى، ولهم فيما إذا قطعت المرضعةُ عليه، ثم أعادته وجهان. أحدهما: أنها رضعة واحدة ولو قطعته مراراً حتى يقطع بإختياره، قالُوا: لأن الاعتبار بفعله لا بفعل المرضعة، ولهذا لو ارْتَضَع منها وهى نائمة حُسِبَت رضعة، فإذا قطعت عليه، لم يُعتد به، كما لو شرع فى أكلة واحدة أمره بها الطبيبُ، فجاء شخص فقطعها عليه، ثم عاد، فإنها أكلة واحدة.
والوجه الثانى: أنها رضعة أخرى، لأن الرضاعَ يَصِحُّ من المرتضع، ومن المرضعة، ولهذا لو أَوْجَرَتْهُ وهو نائم احتسِبَ رضعة.
ولهم فيما إذا انتقل من ثدى المرأة إلى ثدى غيرها وجهان. أحدهما: لا يعتد بواحد منهما لأنه انتقل من إحداهما إلى الأخرى قبل تمام الرضعة، فلم تتم الرضعة من إحداهما. ولهذا لو انتقل من ثدى المرأة إلى ثديها الآخر كانا رضعةً واحدةً.
والثانى: أنه يحتسب من كل واحد منهما رضعة، لأنه ارتضع،

وقطعه بإختياره من شخصين.
وأما مذهبُ الإمام أحمد رحمه الله، فقال صاحب "المغنى": إذا قطع قطعاً بيناً بإختيارهِ، كان ذلك رضعة، فإن عاد كان رضعةً أخرى، فأما إن قطع لِضيق نفس، أو للانتقال من ثدى إلى ثدى، أو لشىء يُلهيه، أو قطعت عليه المرضعة، نظرنا، فإن لم يَعُدْ قريباً، فهى رضعة وإن عاد فى الحال، ففيه وجهان، أحدهما: أن الأولى رضعة، فإذا عاد فهى رضعة أخرى، قال: وهذا اختيار أبى بكر، وظاهر كلام أحمد فى رواية حنبل، فإنه قال: أما ترى الصبى يرتضع من الثدى، فإذا أدركه النَّفسُ، أمسكَ عن الثدى ليتنفس، أو ليستريح، فإذا فعل ذلك، فهى رضعة، قال الشيخ: وذلك أن الأولى رضعةٌ لو لم يعد، فكانت رضعة، وإن عاد، كما لو قطع بإختياره. والوجه الآخر أن جميع ذلك رضعة، وهو مذهب الشافعى إلا فيما إذا قطعت عليه المرضعة، ففيه وجهان، لأنه لو حلف: لا أكلتُ اليومَ إلا أكلةً واحدةً، فاستدام الأكلُ زمناً، أو انقطع لشرب ماء أو انتقال من لون إلى لون، أو انتظار لما يُحمل إليه من الطعام لم يُعدّ إلا أكلة واحدة فكذا ههنا، والأول أصح، لأن اليسير من السعوط والوَجُور رضعة، فكذا هذا.
قلتُ، وكلامُ أحمد يحتملُ أمرين، أحدهما: ما ذكره الشيخ، ويكون قوله: "فهى رضعة"، عائداً إلى الرضعة الثانية. الثانى: أن يكون المجموعُ رضعة، فيكون قوله: "فهى رضعة" عائداً إلى الأول، والثانى، وهذا أظهر محتمليه، لأنه استدل بقطعه للتنفس، أو الاستراحة على كونها رضعة واحدة. ومعلوم أن هذا الاستدلال أليقُ بكون الثانية مع الأولى

واحدة من كون الثانية رضعةً مستقلة، فتأمله.
وأما قياسُ الشيخ له على يسير السَّعوط والوَجور، فالفرقُ بينهما أن ذلك مستقل ليس تابعاً لرضعة قبله، ولا هو مِن تمامها، فيقال: رضعة بخلاف مسألتنا، فإن الثانية تابعة للأولى، وهى من تمامها فافترقا.
فصل
والحكم الرابع: أن الرضاع الذى يتعلَّق به التحريمُ ما كان قبل الفطام فى زمن الارتضاع المعتاد، وقد اختلف الفقهاء فى ذلك، فقال الشافعى، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد: هو ما كان فى الحولين، ولا يُحَرَّمُ ما كان بعدهما، وصح ذلك عن عمر، وابنِ مسعود، وأبى هريرة، وابن عباس، وابن عمر، ورُوى عن سعيد بن المسيِّب، والشعبى وابن شُبْرُمَةَ، وهو قولُ سفيان. وإسحاق وأبى عُبيد، وابنِ حزم، وابنِ المنذر، وداود، وجمهور أصحابه.
وقالت طائفة: الرضاعُ المحرم ما كان قبل الفطام، ولم يحدوه بزمن، صحَّ ذلك عن أم سلمة، وابن عباس ورُوى عن على، ولم يصح عنه، وهو قولُ الزهرى، والحسن، وقتادة، وعِكرمة، والأوزاعى. قال الأوزاعى: إن فُطمَ وله عام واحد واستمر فِطامُه، ثم رضع فى الحولين، لم يُحَرِّم هذا الرضاعُ شيئاً، فإن تمادى رضاعُه ولم يُفطم، فما كان فى الحولين فإنه يُحرِّمُ. وما كان بعدهما، فإنه لا يُحرِّمُ، وإن تمادى الرضاعُ. وقالت طائفة: الرضاعُ المحرِّمُ ما كان فى الصغر، ولم يوقته هؤلاء بوقت، وروى هذا عن ابن عمر، وابن المسيِّب، وأزواج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلا

عائشة رضى الله عنها. وقال أبو حنيفة وزفر: ثلاثون شهراً، وعن أبى حنيفة رواية أخرى، كقول أبى يوسف ومحمد. وقال مالك فى المشهور من مذهبه: يُحرِّمُ فى الحولين، وما قاربهما، ولا حُرمة له بعد ذلك. ثم روى عنه اعتبارُ أيام يسيرة، وروى عنه شهران. وروى شهر، ونحوه. وروى عنه الوليدُ بن مسلم وغيره: أن ما كان بعدَ الحولين مِن رضاعِ بشهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر، فإنه عندى من الحولين، وهذا هو المشهورُ عند كثير من أصحابه. والذى رواهُ عنه أصحابُ الموطأ وكان يُقرأ عليه إلى أن مات قوله فيه: وما كان مِن الرضاع بعد الحولين كان قليلُه وكثيرُه لا يُحرِّمُ شيئاً، إنما هو بمنزلة الطعام، هذا لفظه. وقال: إذا فُصلَ الصبى قبلَ الحولين، واستغنى بالطعام عن الرِّضاع، فما ارتضع بعد ذلك لم يكن للرضاع حرمة. وقال الحسنُ بن صالح، وابن أبى ذِئب وجماعةٌ من أهل الكوفة: مدةُ الرضاع المُحرِّم ثلاثُ سنين، فما زاد عليها لم يُحرم، وقال عمرُ بنُ عبد العزيز: مدته إلى سبعِ سنين، وكان يزيدُ بن هارون يحكيه عنه كالمتعجِّبِ من قوله. وروى عنه خلافُ هذا، وحَكَى عنه ربيعة، أن مدته حولان، واثنا عشر يوماً.
وقالت طائفة من السلف والخلف: يحرمُ رضاع الكبير، ولو أنه شيخ، فروى مالك، عن ابن شهاب، أنه سئل عن رضاع الكبير، فقال: أخبرنى عروة بن الزبير، بحديثِ أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سهلة بنت سهيل برضاع سالم، ففعلت، وكانت تراه ابناً لها. قال عروةُ: فأخذت بذلك عائشة أمُّ المؤمنين رضى الله عنها فيمن كانت تُحبُّ أن يدخل عليها من الرجال، فكانت تأمر أختَها أمّ كلثوم، وبنات أخيها يرضعن من أحبَّت أن يدخل عليها

من الرجال.
وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جريج، قال: سمعتُ عطاء بن أبى رباح وسأله رجلٌ فقال: سقتنى امرأةٌ من لبنها بعد ما كنت رجلاً كبيراً. أفأنكِحُها؟ قال عطاء: لا تَنْكِحْهَا، فقلت له: وذلك رأيُك؟ قال: نعم، كانت عائشة رضى الله عنها تأمر بذلك بنات أخيها. وهذا قولُ ثابت عن عائشة رضى الله عنها. ويروى عن على، وعروة بن الزبير. وعطاء بن أبى رباح، وهو قولُ الليث بن سعد، وأبى محمد ابن حزم، قال: ورضاعُ الكبير ولو أنه شيخ يُحرِّمُ كما يحرِّم رضاع الصغير. ولا فرق، فهذه مذاهب الناس فى هذه المسألة.
ولنذكر مناظرةَ أصحاب الحولين، والقائلين برضاع الكبير، فإنهما طرفان، وسائر الأقوال متقاربة.
قال أصحابُ الحولين: قال الله تعالى: {وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] قالوا: فجعل تمامَ الرضاعة حولين، فدلَّ على أنه لا حكم لما بعدهما، فلا يتعلَّق به التحريم. قالوا: وهذه المدة هى مدة المجاعة التى ذكرها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقصَر الرضاعةَ المحرمة عليها. قالوا: وهذه مدة

الثدى الذى قال فيها: "لا رضاع إلا ما كان فى الثدى" ، أى فى زمن الثدى، وهذه لغة معروفة عند العرب، فإن العرب يقولون: فلان ماتَ فى الثَّدى، أى: فى زمن الرضاع قبل الفطام، ومنه الحديث المشهور: "إِنَّ إبْرَاهِيمَ مَاتَ فى الثَّدْى وإنَّ لَهُ مُرْضِعاً فى الجَنَّةِ تُتِمُّ رَضَاعَهُ ". يعنى إبراهيم ابنَه صلواتُ الله وسلامه عليه. قالوا: وأكَّد ذلك بقوله: "لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء" وكان فى الثدى قبل الفطام، فهذه ثلاثةُ أوصاف للرضاع المُحرِّم، ومعلوم أن رضَاعَ الشيخ الكبير عارٍ من الثلاثة. قالوا: وأصرحُ مِن هذا حديثُ ابن عباس: "لا رضاع إلا ما كان فى الحولين".قالوا: وأكدَهُ أيضاً حديث ابن مسعود: "لا يُحرِّمُ مِنَ الرَّضاعةِ إلا ما أَنْبَتَ اللَّحْمَ وأَنْشَزَ العَظْمَ" ، ورضاعُ الكبير لا ينبت لحماً، ولا يُنشز عظماً.
قالوا: ولو كان رضاعُ الكبير محرِّماً لما قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة وقد تغيَّر وجهُه، وكَرِه دخولَ أخيها من الرضاعة عليها لما رآهُ كبيراً: "انظُرنَ مَنْ إخوانكن" فلو حرَّم رَضَاع الكبير، لم يكن فرق بينه وبين الصغير، ولما كره ذلك وقال: "انظرن مَن إخوانُكن" ثم قال: "فإنَّما الرضَاعَةُ مِنَ المجَاعَة" وتحتَ هذا من المعنى خشيةَ أن يكونَ قد ارتضع فى غير زمن الرضاع وهو زمن المجاعة، فلا ينشر الحرمة، فلا يكون أخاً. قالوا: وأما حديثُ سهلة فى رضاع سالم، فهذا كان فى أوَّل الهجرة لأن==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق