اختلف الفقهاء في حكم التختم بالفضة للرجال عَلَى النحو الآتي
ذهب جمهور العلماء من المتقدمين والمتأخرين إلى جواز اتخاذ خاتم الفضة ، سواء كَانَ ذا سلطان أم غيره ([1]) . وبه قَالَ جمهور الشافعية ([2]) .
ذهب الحنفية إلى أنه إذا قصد بلبسه الخاتم التجبر والاستعلاء كره ، وإن لَمْ يقصده لَمْ يكره ، ومع ذَلِكَ فإن تركه لِمَنْ لا يحتاج إلى الختم أفضل ، ولا كراهة عندهم في لبسه للزينة إذا خلا من محذور ([3]) .
الأولى أن يَكُوْن الخاتم أقل من المثقال؛لأنَّهُ أبعد عن السرف. وبه قَالَ ابن([4])الملك .
ذهب بعض الشافعية إلى تحريم لبس خاتم الفضة للرجل إذا زاد عَلَى المثقال ([5]) .
كراهة لبس خاتم الفضة لكل مكلف ، ذي سلطان أَوْ غيره ، حكاه ابن عَبْد البر عن بعض أهل العلم من غَيْر تعيين ([6]) .
خص أهل الشام الكراهة بغير ذوي السلطان ([7]) .
يجوز اتخاذ خاتم الفضة للرجل ، بَلْ يندب بشرط نية الاقتداء بالنبي r ، ويحرم لبسه إذا أدى إلى العجب . وإليه ذهب المالكية ([8]) .
المبحث الثاني
أثر التَّفَرُّد في اختلاف الْحَدِيْث ، وأثر ذَلِكَ في اختلاف الفقهاء
التَّفَرُّدُ في اللغة :
مأخوذ من الفعل الثلاثي المزيد بحرفين ( تَفَرَّدَ ) .
يقال : فَرَدَ بالأمر والرأي : انْفَرَدَ ، وفَرَدَ الرجلُ : كَانَ وحده مُنْفرِداً لا ثاني مَعَهُ . وفَرَّدَ برأيه : اسْتَبَدَّ .
وَقَدْ أشار ابن فارس ([9]) إلى أن جميع تراكيب واشتقاقات هَذَا الأصل تدل عَلَى الوحدة . إِذْ قَالَ : (( الفاء والراء والدال أصل صَحِيْح يدل عَلَى وحدة . من ذَلِكَ : الفرد وَهُوَ الوتر ، والفارد والفرد : الثور المنفرد … )) ([10]) .
التفرد في الاصطلاح :
عرّفه أبو حفص الميانشي ([11]) الفرد بأنه : ما انفرد بروايته بعض الثقات عن شيخه ، دون سائر الرُّوَاة عن ذَلِكَ الشيخ ([12]) .
ويظهر من هَذَا التعريف بعض القصور في دخول بعض أفراد المُعَرَّف في حقيقة التعريف ، إِذْ قَصَرَه عَلَى انفراد الثقة فَقَطْ عن شيخه ([13]) .
وعرّف الدكتور حمزة المليباري التفرد وبيّن كيفية حصوله ، فَقَالَ : (( يراد بالتفرد: أن يروي شخص من الرُّوَاة حديثاً دون أن يشاركه الآخرون )) ([14]) .
وهذا التعريف الأخير أعم من التعريف الأول ، فإنه شامل لتفرد الثقة وغيره ، وعليه تدل تصرفات نقاد الْمُحَدِّثِيْنَ وجهابذة الناقلين ، ولقد كثر في تعبيراتهم : حَدِيْث غريب ، أو تفرّد بِهِ فُلاَن ، أو هَذَا حَدِيْث لا يعرف إلا من هَذَا الوجه ، أَوْ لا نعلمه يروى عن فُلاَن إلاّ من حَدِيْث فُلاَن ، ونحوها من التعبيرات ([15]) .
ولربما كَانَ الحامل للميانشي عَلَى تخصيص التعريف بالثقات دون غيرهم ، أن رِوَايَة الضعيف لا اعتداد بِهَا عِنْدَ عدم المتابع والعاضد . ولكن من الناحية التنظيرية نجد الْمُحَدِّثِيْنَ عِنْدَ تشخيصهم لحالة التفرد لا يفرقون بَيْنَ كون المتفرد ثقة أو ضعيفاً ، فيقولون مثلاً : تفرد بِهِ الزهري ، كَمَا يقولون : تفرد بِهِ ابن أبي أويس ([16]).
وبهذا المعنى يظهر الترابط الواضح بَيْنَ المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي ، إِذْ إنهما يدوران في حلقة التفرد عما يماثله .
والتفرد ليس بعلة في كُلّ أحواله ، ولكنه كاشف عن العلة مرشد إلى وجودها ، وفي هَذَا يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي : (( وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الْحَدِيْث إذا تفرد بِهِ واحد – وإن لَمْ يروِ الثقات خلافه - : إنه لا يتابع عَلَيْهِ .ويجعلون ذَلِكَ علة فِيْهِ ، اللهم إلاّ أن يَكُوْن ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أَيْضاً ولهم في كُلّ حَدِيْث نقد خاص ، وليس عندهم لِذَلِكَ ضابط يضبطه )) ([17]) .
ومعنى قوله : (( ويجعلون ذَلِكَ علة )) ، أن ذَلِكَ مخصوص بتفرد من لا يحتمل تفرده، بقرينة قوله : (( إلا أن يَكُوْن ممن كثر حفظه … )) ، فتفرده هُوَ خطؤه ، إِذْ هُوَ مظنة عدم الضبط ودخول الأوهام ، فانفراده دال عَلَى وجود خلل ما في حديثه ، كَمَا أن الحمّى دالة عَلَى وجود مرض ما ، وَقَدْ وجدنا غَيْر واحد من النقاد صرح بأن تفرد فُلاَن لا يضر ، فَقَدْ قَالَ الإمام مُسْلِم : (( هَذَا الحرف لا يرويه غَيْر الزهري ، قَالَ : وللزهري نحو من تسعين حديثاً يرويها عن النَّبِيّ r لا يشاركه فِيْهَا أحد بأسانيد جياد )) ([18]) .
وَقَالَ الحافظ ابن حجر : (( وكم من ثقة تفرد بما لَمْ يشاركه فِيْهِ ثقة آخر ، وإذا كَانَ الثقة حافظاً لَمْ يضره الانفراد )) ([19]) .
وَقَالَ الزيلعي ([20]) : (( وانفراد الثقة بالحديث لا يضره )) ([21]).
وتأسيساً عَلَى ما أصّلناه من قَبْل من أن تفرد الرَّاوِي لا يضر في كُلّ حال ، ولكنه ينبه الناقد عَلَى أمر ما ، قَالَ المعلمي اليماني : (( وكثرة الغرائب إنما تضر الرَّاوِي في أحد حالين :
الأولى : أن تكون مع غرابتها منكرة عن شيوخ ثقات بأسانيد جيدة .
الثانية : أن يَكُوْن مع كثرة غرائبه غَيْر معروف بكثرة الطلب )) ([22]) .
وتمتع هَذَا الجانب من النقد الحديثي باهتمام النقاد ، فنراهم يديمون تتبع هَذِهِ الحالة وتقريرها ، وأفردوا من أجل ذَلِكَ المصنفات، مِنْهَا: كتاب " التفرد " ([23]) للإمام أبي داود ، و " الغرائب والأفراد " ([24]) للدارقطني ، و " المفاريد " ([25]) لأبي يعلى ، واهتم الإمام الطبراني في معجميه الأوسط والصغير بذكر الأفراد ، وكذا فعل البزار في مسنده ، والعقيلي ([26]) في ضعفائه . وَهُوَ ليس بالعلم الهيّن ، فهو (( يحتاج لاتساع الباع في الحفظ ، وكثيراً ما يدعي الحافظ التفرد بحسب علمه ، ويطلّع غيره عَلَى المتابع )) ([27]) .
وفي كُلّ الأحوال فإن التفرد بحد ذاته لا يصلح ضابطاً لرد الروايات ، حَتَّى في حالة تفرد الضعيف لا يحكم عَلَى جميع ما تفرد بِهِ بالرد المطلق ، بَلْ إن النقاد يستخرجون من أفراده ما يعلمون بالقرائن والمرجحات عدم خطئه فِيْهِ ، وَهُوَ ما نسميه بعملية الانتقاء ، قَالَ سفيان الثوري : (( اتقوا الكلبي ([28]) ، فقيل لَهُ : إنك تروي عَنْهُ ، قَالَ : إني أعلم صدقه من كذبه )) ([29]) .
ومثلما أن تفرد الضعيف لا يرد مطلقاً ، فكذلك تفرد الثقة – وكما سبق في كلام ابن رجب – لا يقبل عَلَى الإطلاق ، وإنما القبول والرد موقوف عَلَى القرائن والمرجحات. قَالَ الإمام أحمد : (( إذا سَمِعْتَ أصحاب الْحَدِيْث يقولون : هَذَا حَدِيْث غريب أَوْ فائدة . فاعلم أنه خطأ أو دخل حَدِيْث في حَدِيْث أَوْ خطأ من المُحدِّث أَوْ حَدِيْث ليس لَهُ إسناد ، وإن كَانَ قَدْ رَوَى شعبة وسفيان ، فإذا سمعتهم يقولون : هَذَا لا شيء ، فاعلم أنه حَدِيْث صَحِيْح )) ([30]) .
وَقَالَ أبو داود : (( والأحاديث الَّتِيْ وضعتها في كتاب " السنن " أكثرها مشاهير ، وَهُوَ عِنْدَ كُلّ من كتب شَيْئاً من الْحَدِيْث ، إلا أن تمييزها لا يقدر عَلَيْهِ كُلّ الناس ، والفخر بِهَا : بأنها مشاهير ، فإنه لا يحتج بحديث غريب ، وَلَوْ كَانَ من رِوَايَة مالك ويحيى بن سعيد و الثقات من أئمة العلم )) ([31]) .
ونحن نجد أمثلة تطبيقية متعددة في ممارسة النقاد ، مِنْهَا قَوْل الحافظ ابن حجر في حَدِيْث صلاة التسبيح : (( وإن كَانَ سند ابن عَبَّاسٍ يقرب من شرط الحسن إلا أنه شاذ لشدة الفردية وعدم المتابع والشاهد من وجه معتبر )) ([32]) .
ويمكننا أن نقسم التفرد – حسب موقعه في السند – إلى قسمين :
الأول : تفرد في الطبقات المتقدمة :
كطبقة الصَّحَابَة ، وطبقة كبار التَّابِعِيْنَ ، وهذا التفرد مقبول إذا كَانَ راويه ثقة
–وهذا الاحتراز فِيْمَا يخص طبقة التَّابِعِيْنَ – ، فهو أمر وارد جداً لأسباب متعددة يمكن حصرها في عدم توفر فرص متعددة تمكّن الْمُحَدِّثِيْنَ من التلاقي وتبادل المرويات ، وذلك لصعوبة التنقل في البلدان ، لا سيما في هذين العصرين .
فوقوعه فيهما لا يولد عِنْدَ الناقد استفهاماً عن كيفيته ، ولاسيما أن تداخل الأحاديث فِيْمَا بينها شيء لا يكاد يذكر ، نظراً لقلة الأسانيد زياد على قصرها . هَذَا فِيْمَا إذا لَمْ يخالف الثابت المشهور ، أو من هُوَ أولى مِنْهُ حفظاً أَوْ عدداً .
وإن كَانَ المتفرد ضعيفاً أَوْ مجهولاً -فِيْمَا يخص التَّابِعِيْنَ- فحكمه بيّن وَهُوَ الرد([33]).
الثاني : التفرد في الطبقات المتأخرة
فبعد أن نشط الناس لطلب العلم وأداموا الرحلة فِيْهِ والتبحر في فنونه ، ظهرت مناهج متعددة في الطلب والموقف مِنْهُ ، فكانت الغرس الأول للمدارس الحديثية الَّتِيْ نشأت فِيْمَا بَعْد ، فكان لها جهدها العظيم في لَمِّ شتات المرويات وجمعها ، والحرص عَلَى تلقيها من مصادرها الأصيلة ، فوفرت لَهُم الرحلات المتعددة فرصة لقاء المشايخ والرواة وتبادل المرويات ، فإذا انفرد من هَذِهِ الطبقات أحد بشيء ما فإن ذَلِكَ أمر يوقع الريبة عِنْدَ الناقد ، لا سيما إذا تفرد عمن يجمع حديثه أَوْ يكثر أصحابه ، كالزهري ومالك وشعبة وسفيان وغيرهم ([34]) .
ثم إنّ العلماء قسموا الأفراد من حَيْثُ التقييد وعدمه إلى قسمين :
الأول: الفرد المطلق : وَهُوَ ما ينفرد بِهِ الرَّاوِي عن أحد الرُّوَاة ([35]) .
الثاني: الفرد النسبي : وَهُوَ ما كَانَ التفرد فِيْهِ نسبياً إلى جهة ما([36]) ، فيقيد بوصف يحدد هَذِهِ الجهة .
وما قِيْلَ من أن لَهُ أقساماً أخر ، فإنها راجعة في حقيقتها إلى هذين القسمين .
أما الحكم عَلَى الأفراد باعتبار حال الرَّاوِي المتفرد فَقَطْ من غَيْر اعتبار للقرائن والمرجحات ، فهو خلاف منهج الأئمة النقاد المتقدمين ، إذن فليس هناك حكم مطرد بقبول تفرد الثقة ، أو رد تفرد الضعيف ، بَلْ تتفاوت أحكامهما ، ويتم تحديدها وفهمها عَلَى ضوء المنهج النقدي النَّزيه ؛وذلك لأن الثقة يختلف ضبطه باختلاف الأحوال والأماكن والشيوخ لخلل يحدث في كيفية التلقي للأحاديث أَوْ لعدم توفر الوسائل الَّتِيْ تمكنه من ضبط ما سَمعه من بعض شيوخه ، أو لحدوث ضياع في بعض ما كتبه عن بعض شيوخه حَتَّى وَلَوْ كَانَ من أثبت أصحابهم وألزمهم ، ولذا ينكر النقاد من أحاديث الثقات – حَتَّى وَلَوْ كانوا أئمة – ما ليس بالقليل .
ومن أمثلة التفرد ما يأتي :
النموذج الأول :
حَدِيْث العلاء بن عَبْد الرحمان ([37])، عن أبيه ([38]) ، عن أبي هُرَيْرَة ، أن رَسُوْل الله r قَالَ : (( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا )) .
أخرجه عَبْد الرزاق ([39]) ، وابن أبي شيبة ([40]) ، وأحمد ([41]) ، و الدارمي([42]) ، وأبو داود ([43])، وابن ماجه ([44])، والترمذي ([45]) ، والنسائي ([46]) ، والطحاوي ([47]) ، وابن حبان ([48])، والطبراني ([49]) ، والبيهقي ([50]) ، والخطيب ([51]) ، جميعهم من هَذِهِ الطريق .
قَالَ أبو داود : (( لَمْ يجئ بِهِ غَيْر العلاء ، عن أبيه )) ([52]) .
وَقَالَ النسائي: (( لا نعلم أحداً رَوَى هَذَا الْحَدِيْث غَيْر العلاء بن عَبْد الرحمان))([53]).
وَقَالَ الترمذي : (( لا نعرفه إلا من هَذَا الوجه عَلَى هَذَا اللفظ )) ([54]) .
وأورده الحافظ أبو الفضل بن طاهر المقدسي([55]) في أطراف الغرائب والأفراد ([56]).
وَقَدْ أنكره الحفاظ من حَدِيْث العلاء بن عَبْد الرحمان :
فَقَالَ أبو داود : (( كَانَ عَبْد الرحمان - يعني : ابن مهدي ([57])- لا يحدّث بِهِ . قلت لأحمد : لِمَ ؟ قَالَ : لأنَّهُ كَانَ عنده أن النَّبِيّ r كَانَ يصل شعبان برمضان ، وَقَالَ : عن النَّبِيّ r خلافه )) ([58]) .
وَقَالَ الإمام أحمد : (( العلاء ثقة لا ينكر من حديثه إلا هَذَا )) ([59]) .
وَقَالَ في رِوَايَة الْمَرُّوذِيِّ ([60]) : (( سألت ابن مهدي عَنْهُ فَلَمْ يحدثني بِهِ، وَكَانَ يتوقاه. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْد الله : هَذَا خلاف الأحاديث الَّتِيْ رويت عن النَّبِيّ r )) ([61]) .
واستنكره ابن معين أَيْضاً ([62]) .
وزعم السخاوي ([63]) أن العلاء لَمْ يتفرد بِهِ وأنّ لَهُ متابعاً في روايته عن أبيه ، فَقَدْ رَوَى الطبراني ([64]) الْحَدِيْث قائلاً: (( حَدَّثَنَا أحمد بن مُحَمَّد بن نافع، قَالَ: أَخْبَرَنَا عبيد الله ابن عَبْد الله المنكدري ، حَدَّثَنِي أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن عَبْد الرحمان بن يعقوب الحرقي ، عن أبي هُرَيْرَة ، قَالَ : قَالَ رَسُوْل الله r : (( إذا انتصف شعبان فأفطروا )) .
قَالَ الطبراني عقبه : (( لَمْ يروِ هَذَا الْحَدِيْث عن مُحَمَّد بن المنكدر إلا ابنه المنكدر ، تفرد بِهِ ابنه : عَبْد الله )) .
والحق أن هَذَا الْحَدِيْث لا يصلح للاستشهاد ، فضلاً عن أن يشد عضد رِوَايَة العلاء ؛ إذ هُوَ مسلسل بالضعفاء والمجاهيل : بدءاً من شيخ الطبراني وَهُوَ : أحمد بن مُحَمَّد ابن نافع ، لَمْ أقف لَهُ عَلَى ترجمة ، إلا ما أورده الذهبي في ميزان الاعتدال ([65]) وَقَالَ : (( لا أدري مَنْ ذا ؟ ذكره ابن الجوزي مرة وَقَالَ : اتهموه . كَذَا قَالَ لَمْ يزد )) ([66]) .
وعبد الله بن المنكدر – المتفرد بهذا الْحَدِيْث – ، قَالَ فِيْهِ العقيلي : (( عن أبيه ، ولا يتابع عَلَيْهِ )) ([67]).
وَقَالَ الذهبي: (( فِيْهِ جهالة ، وأتى بخبر منكر )) ([68]). وَقَالَ مرة : (( لا يعرف ))([69]).
والمنكدر بن مُحَمَّد – الَّذِيْ لَمْ يرو هَذَا الْحَدِيْث عن أبيه غيره – قَالَ فِيْهِ أبو حاتم: (( كَانَ رجلاً صالحاً لا يقيم الْحَدِيْث وَكَانَ كثير الخطأ ، لَمْ يَكُنْ بالحافظ لحديث أبيه )) ([70]). وَقَالَ النسائي : (( ضعيف )) ، وَقَالَ مرة : (( ليس بالقوي )) وبنحوه قَالَ أبو زرعة ([71]) . وَقَالَ ابن حبان : (( قطعته العبادة عن مراعاة الحفظ والتعاهد في الإتقان ، فكان يأتي بالشيء الَّذِيْ لا أصل لَهُ عن أبيه توهماً )) ([72]). وَقَالَ الذهبي : (( فِيْهِ لين )) ([73]) .
وبهذا تبين أن الشاهد غَيْر صالح للاعتبار ، فهو جزماً من أوهام المنكدر بن مُحَمَّد. ويبقى الْحَدِيْث من أفراد العلاء بن عَبْد الرحمان ، عن أبيه .
قَالَ ابن رجب : (( واختلف العلماء في صحة هَذَا الْحَدِيْث ثُمَّ العمل بِهِ ، أما تصحيحه فصححه غَيْر واحد ، مِنْهُمْ : الترمذي ، وابن حبان ، والحاكم ، وابن عَبْد البر. وتكلم فِيْهِ من هُوَ أكبر من هؤلاء وأعلم . وقالوا : هُوَ حَدِيْث منكر، مِنْهُمْ: عَبْد الرحمان ابن مهدي ، وأحمد ، وأبو زرعة الرازي ، والأثرم ، ورده الإمام أحمد بحديث :
(( لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين )) ، فإن مفهومه جواز التقدم بأكثر من
يومين )) ([74]) .
أثر الْحَدِيْث في اختلاف الفقهاء ( حكم صوم النصف الثاني من شعبان )
اختلف الفقهاء في حكم صوم النصف الثاني من شعبان عَلَى النحو الآتي :
أولاً : ذهب قوم إلى كراهة الصوم بَعْدَ النصف من شعبان إلى رمضان . هكذا نقله الطحاوي ([75]) من غَيْر تعيين للقائلين بِهِ . وَهُوَ قَوْل جمهور الشافعية ([76]) . ونقله ابن حزم عن قوم ([77]) .
ثانياً : خص ابن حزم ([78]) - جمعاً بَيْنَ أحاديث الباب – النهي باليوم السادس عشر من شعبان ([79]) .
ثالثاً : ذهب الروياني ([80]) من الشافعية إلى تحريم صوم النصف الثاني من شعبان ([81]) .
رابعاً : ذهب جمهور العلماء إلى إباحة صوم النصف الثاني من شعبان من غَيْر كراهة ([82]) .
واستدل أصحاب المذاهب الثلاثة الأول بحديث عَبْد الرحمان بن العلاء ، عَلَى اختلاف في تحديد نوع الحكم .
وأجاب الجمهور بتضعيف حديثه ، وعدم وجود ما يقتضي التحريم أو الكراهة ، بَلْ وجود ما يعضد القَوْل بالاستحباب .
ومذهب الجمهور هُوَ الراجح في عدم الكراهة وجواز صيام النصف الثاني من شعبان لضعف حَدِيْث العلاء وعدم صحته . والأصل الجواز حَتَّى يأتي دليل التحريم أَوْ الكراهة.
النموذج الثاني :
حَدِيْث قتيبة بن سعيد ، عن الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ([83])، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ([84])، عن معاذ بن جبل ([85]) : (( أن النَّبِيّ r كَانَ في غزوة تبوك إذا ارتحل قَبْلَ زيغ الشمس أخّر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعاً ، وإذا ارتحل بَعْدَ زيغ الشمس عجّل العصر إلى الظهر ، وصلى الظهر والعصر جميعاً ثُمَّ سار . وَكَانَ إذا ارتحل قَبْلَ المغرب أخّر المغرب حَتَّى يصليها مع العشاء ، وإذا ارتحل بَعْدَ المغرب عجّل العشاء فصلاها مع المغرب )) .
رَوَاهُ أحمد ([86]) ، وأبو داود ([87]) ، والترمذي ([88]) ، وابن حبان ([89]) ، والدارقطني([90])،
والحاكم ([91]) ، والبيهقي ([92]) ، والخطيب البغدادي ([93]) ،والذهبي ([94])، كلهم من طريق قتيبة هَذِهِ .
أقول : هَذَا الْحَدِيْث تفرد بِهِ قتيبة ، عن الليث ، ونص الحفاظ عَلَى ذَلِكَ :
قَالَ أبو داود : (( لَمْ يروِ هَذَا الْحَدِيْث إلا قتيبة وحده )) ([95]) .
وَقَالَ الترمذي : (( حَدِيْث معاذ حَدِيْث حسن غريب ، تفرّد بِهِ قتيبة ، لا نعرف أحداً رَوَاهُ عن الليث غيره . وحديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ : حَدِيْث غريب )) ([96]) .
وَقَالَ البيهقي : (( تفرد بِهِ قتيبة بن سعيد ، عن ليث ، عن يزيد )) ([97]) .
وَقَالَ الْخَطِيْب : (( لَمْ يروِ حَدِيْث يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، عن الليث: غَيْر قتيبة )) ([98]) .
وأورده الحافظ ابن طاهر المقدسي في : " أطراف الغرائب والأفراد " ([99]) .
وَقَالَ الذهبي : (( ما رَوَاهُ أحد عن الليث سوى قتيبة )) ([100]) .
وَقَدْ أنكر هَذَا الْحَدِيْث عَلَى قتيبة سنداً ومتناً :
أما في السند : فالرواية المحفوظة هِيَ رِوَايَة أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ . قَالَ أبو سعيد بن يونس ([101]): (( لَمْ يحدث بِهِ إلا قتيبة ، ويقال : إنه غلط ، وإن موضع يزيد بن أبي حبيب : أبو الزبير ([102]) )) ([103]) .
وَقَالَ البيهقي : (( وإنما أنكروا من هَذَا رِوَايَة يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، فأما رِوَايَة أبي الزبير عن أبي الطفيل فهي محفوظة صحيحة )) ([104]) .
وَقَدْ وقفت عَلَى ثمانية أنفس رووه عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل، عن معاذ وهم:
مالك بن أنس ([105]) : ومن طريقه الشَّافِعِيّ ([106])، وعبد الرزاق ([107]) ، وأحمد ([108]) ، والدارمي ([109]) ، ومسلم ([110]) ، وأبو داود ([111]) ، والنسائي ([112]) ، وابن خزيمة ([113]) ، والطحاوي ([114]) ، والشاشي ([115]) ، وابن حبان ([116]) ، والطبراني ([117]) ، والبيهقي([118]).
قرة ([119]) بن خالد ([120]): عِنْدَ أبي داود الطيالسي ([121]) ، وأحمد ([122]) ، ومسلم ([123]) ، والبزار([124])، وابن خزيمة ([125]) ، والطحاوي ([126]) ، والشاشي ([127]) ، وابن حبان ([128]) ، والطبراني ([129]) .
عمرو بن الحارث ([130]): عِنْدَ الطبراني ([131]) .
هشام بن سعد ([132]): عِنْدَ الإمام أحمد ([133]) ، وعبد بن حميد ([134]) ، والبزار ([135]) ، والشاشي ([136]) ، والطبراني ([137]) .
سفيان بن سعيد الثوري : ومن طريقه أخرجه عَبْد الرزاق ([138]) ، وابن أبي شيبة ([139])، وأحمد ([140]) ، وابن ماجه ([141]) ، والطبراني ([142]) ، وأبو نعيم ([143]) .
أبو خيثمة ([144]) زهير بن معاوية : عِنْدَ مُسْلِم ([145]) ، والطبراني ([146]) .
أشعث بن سوار ([147]) : وروايته عِنْدَ الطبراني ([148]) .
زيد بن أبي أنيسة ([149]): كَمَا أخرجها الطبراني ([150]) .
أقول : فَقَدْ خالف قتيبة في روايته هَذَا الْحَدِيْث عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب هؤلاء الرُّوَاة .
أما الليث بن سعد فَقَدْ رَوَى أصحابه الْحَدِيْث عَنْهُ ، عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ ، بِهِ . وهم :
حماد بن خالد ([151]) : أخرجه أحمد ([152]) .
عَبْد الله بن صالح ([153]): عِنْدَ الطبراني ([154]) .
يزيد بن خالد بن يزيد الرملي ([155]) : عِنْدَ أبي داود ([156]) ، والبيهقي ([157]). إلا أنه قرن الليث بن سعد مع المفضل ([158]) بن فضالة ([159]) .
وهكذا يتجه الحمل في إسناد هَذَا الْحَدِيْث إلى قتيبة بن سعيد لا محالة ، في إبدال يزيد بن أبي حبيب موضع أبي الزبير المكي .
وأما الْمَتْن : فكل من رَوَى الْحَدِيْث ([160]) من طريق أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ . فإنما ذكر مطلق الجمع من غَيْر تعرض لجمع التقديم في شيء من طرق الْحَدِيْث، إلا في رِوَايَة قتيبة بن سعيد .
وأما رِوَايَة يزيد بن خالد الرملي – الآنفة – فَقَدْ وقع لفظها مقارباً للفظ حَدِيْث قتيبة ، إلا أن الحفاظ أعلّوا هَذِهِ الرِّوَايَة ، قَالَ الحافظ ابن حجر : (( وله طريق آخر عن معاذ بن جبل ، أخرجها أبو داود من رواية هشام بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، وهشام مختلف فِيْهِ ، وَقَدْ خالف الحفاظ من أصحاب أبي الزبير ك : مالك والثوري وقرة بن خالد وغيرهم . فَلَمْ يذكروا في روايتهم جمع التقديم )) ([161]) .
وَقَالَ الترمذي : (( وحديث الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ : حَدِيْث غريب .
والمعروف عِنْدَ أهل العلم حَدِيْث معاذ من حَدِيْث أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ ، أن النَّبِيّ r جمع في غزوة تبوك بَيْنَ الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء ، رَوَاهُ قرة بن خالد وسفيان الثوري ومالك وغير واحد ، عن أبي الزبير المكي )) ([162]) .
وَقَالَ الذهبي : (( غلط في الإسناد ، وأتى بلفظ منكر جداً )) ([163]) .
وَقَالَ الْخَطِيْب : (( هُوَ منكر جداً من حديثه )) ([164]) .
وَقَدْ أفاض الْحَاكِم في بيان علة الْحَدِيْث في فصل ممتع ، فَقَالَ : (( هَذَا حديث رواته أئمة ثقات وَهُوَ شاذ الإسناد والمتن لا نعرف لَهُ علة نعلله بِهَا ، وَلَوْ كَانَ الْحَدِيْث عِنْدَ الليث ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل لعللنا بِهِ الْحَدِيْث ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَ يزيد بن أبي حبيب عن أبي الزبير لعللنا بِهِ ، فلما لَمْ نجد لَهُ العلتين خرج عن أن يَكُوْن معلولاً ، ثُمَّ نظرنا فَلَمْ نجد ليزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل رِوَايَة ، ولا وجدنا هَذَا الْمَتْن بهذه السياقة عِنْدَ أحد من أصحاب أبي الطفيل ، ولا عِنْدَ أحد ممن رَوَاهُ عن معاذ بن جبل عن أبي الطفيل ، فقلنا الْحَدِيْث شاذ )) ([165]) .
وَقَالَ أبو حاتم : (( كتبت عن قتيبة حديثاً ، عن الليث بن سعد لَمْ أصبه بمصر عن الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ ، عن النَّبِيّ r أنه كَانَ في سفر فجمع بَيْنَ الصلاتين )) ثُمَّ قَالَ : (( لا أعرفه من حَدِيْث يزيد والذي عندي أنه دخل لَهُ حَدِيْث في حَدِيْث )) ([166]) .
وأكثر العلماء قلّدوا الْحَاكِم في تشخيص سبب النكارة ، وَهُوَ أن خالداً المدائني أدخل الْحَدِيْث عَلَى الليث بن سعد ، فسمعه قتيبة من الليث وَهُوَ ليس من حديثه ([167]) .
ورد الإمام الذهبي هَذَا القَوْل ، فَقَالَ : (( هَذَا التقرير يؤدي إلى أن الليث كَانَ يقبل التلقين ، ويروي ما لَمْ يَسْمَع ، وما كَانَ كذلك . بَلْ كَانَ حجة متثبتاً ، وإنما الغفلة وقعت فِيْهِ من قتيبة ، وَكَانَ شيخ صدق ، قَدْ رَوَى نحواً من مئة ألفٍ ، فيغتفر لَهُ الخطأ في حَدِيْث واحدٍ )) ([168]) .
وَقَالَ أَيْضاً : (( ما علمتهم نقموا عَلَى قتيبة سوى ذَلِكَ الْحَدِيْث المعروف في الجمع في السفر )) ([169]) .
والأصوب – والله أعلم – التعليل بما قاله أبو حاتم ، من أن قتيبة دخل لَهُ حَدِيْث الليث ، عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير ، فظنه حَدِيْث الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل ، وحمل متن حَدِيْث هشام فنسبه إلى رِوَايَة يزيد .
ولهذا صرح غَيْر واحد من أئمة الْحَدِيْث أنه لَمْ يصح في جمع التقديم شيء ، قَالَ أبو داود : (( ليس في جمع التقديم حَدِيْث قائم )) ([170]) .
وَقَالَ ابن حجر : (( والمشهور في جمع التقديم ما أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان من طريق الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ بن جبل . وَقَدْ أعله جَمَاعَة من أئمة الْحَدِيْث بتفرد قتيبة عن الليث )) ([171]) .
أثر الْحَدِيْث في اختلاف الفقهاء ( الجمع بَيْنَ الصلاتين )
اختلف الفقهاء في حكم الجمع بَيْنَ الصلاتين بعذر السفر عَلَى أقوال هِيَ :
الأول : يجوز الجمع بَيْنَ الظهر والعصر في وقت أيهما شاء تقديماً أو تأخيراً ، وكذا المغرب والعشاء ، وَهُوَ قَوْل جمهور العلماء مِنْهُمْ : سعيد بن زيد ([172]) ، وسعد ([173])، وأسامة ([174]) ، ومعاذ بن جبل ، وأبو موسى ([175]) ، وابن عَبَّاسٍ ، وابن عمر . وبه قَالَ طاووس ، ومجاهد ، وعكرمة([176]) ، والثوري ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وابن ([177]) المنذر ([178]) . وإليه ذهب مالك في المشهور عَنْهُ ([179]) ، والشافعية ([180]) ، وأحمد في
أصح الروايتين ([181]) ، والهادوية من الزيدية ([182]) .
الثاني : لا يجوز الجمع بَيْنَ فرضين في حال من الأحوال ، إلا الظهر والعصر للحاج جمع تقديم بعرفة ، والمغرب والعشاء تأخيراً بمزدلفة ، وهذا الجمع بسبب النسك لا بسبب السفر . وبه قَالَ الحسن البصري ([183]) ، وابن سيرين ([184]) ، والنخعي ([185]) ، ومكحول ([186]) ، وإليه ذهب أبو حَنِيْفَة وعامة أصحابه ([187]) .
الثالث : يجوز الجمع بَيْنَ الظهر والعصر،أو بَيْنَ المغرب والعشاء جمع تأخير لا تقديم . وَهُوَ قَوْل الأوزاعي في إحدى الروايتين عَنْهُ([188]).وإليه ذهب الإمام أحمد في رِوَايَة ([189]) ، ومالك في رِوَايَة ابن القاسم واختياره ([190]) ، وَهُوَ ظاهر مذهب ابن حزم ([191]) .
واستدل أصحاب المذهب الأول بحديث معاذ من رِوَايَة قتيبة ، وَقَدْ تبين عدم صحته .
نموذج آخر للتفرد :
ما تفرد بِهِ ([192]) أبو قيس : عَبْد الرحمان بن ثروان ([193]) ، عن هزيل بن شرحبيل ([194]) ، عن المغيرة بن شعبة ([195]) ، قَالَ : (( توضّأ النَّبِيّ r ومسح عَلَى الجوربين )) .
وَقَدْ رَوَاهُ من هَذَا الوجه : ابن أبي شيبة ([196])، والإمام أحمد ([197]) ، وعبد بن حميد ([198]) ، وأبو داود ([199]) ، وابن ماجه ([200]) ، والترمذي ([201]) ، والنسائي ([202]) ، وابن المنذر ([203]) ، وابن خزيمة ([204]) ، والطحاوي ([205]) ، وابن حبان ([206]) ، والطبراني ([207]) ، وابن حزم ([208]) ، والبيهقي ([209]) .
هكذا تفرد بِهِ أبو قيس ، عن شرحبيل ([210]) ، وَقَدْ صححه بعض أهل العلم مِنْهُمْ : الترمذي ([211]) ، وابن خزيمة وابن حبان ([212]) ، وغيرهم ([213]) .
عَلَى أنّ آخرين من جهابذة هَذَا الفن قَدْ أعلوا الْحَدِيْث بتفرد أبي قيس عن هزيل ابن شرحبيل ، وأعلوا الْحَدِيْث بهذا التفرد .
قَالَ علي بن المديني : (( حَدِيْث المغيرة رَوَاهُ عن المغيرة أهل الْمَدِيْنَة ، وأهل الكوفة، وأهل البصرة ، ورواه هزيل بن شرحبيل إلا أنه قَالَ : (( ومسح عَلَى الجوربين )) ، وخالف الناس )) ([214]) .
وَقَالَ يحيى بن معين : (( الناس كلهم يروونه عَلَى الخفين غَيْر أبي قيس )) ([215]) .
وَقَالَ أبو مُحَمَّد يحيى بن منصور ([216]) : (( رأيت مُسْلِم بن الحجاج ضعف هَذَا الخبر، وَقَالَ أبو قيس الأودي ، وهزيل بن شرحبيل لا يحتملان هَذَا مع مخالفتهما الأجلّة الَّذِيْنَ رووا هَذَا الخبر عن المغيرة وقالوا : مسح عَلَى الخفين )) ([217]) .
وَقَالَ النسائي : (( ما نعلم أن أحداً تابع أبا قيس عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَة ، وَالصَّحِيْح عن المغيرة : أن النَّبِيّ r مسح عَلَى الخفين ، والله أعلم )) ([218]) .
وَقَالَ أبو داود : (( كَانَ عَبْد الرحمان بن مهدي لا يحدّث بهذا الْحَدِيْث ؛ لأن المعروف عن المغيرة أن النَّبِيّ r مسح عَلَى الخفين )) ([219]) .
وَقَالَ ابن المبارك : (( عرضت هَذَا الْحَدِيْث – يعني حَدِيْث المغيرة من رِوَايَة أبي قيس – عَلَى الثوري فَقَالَ : لَمْ يجئ بِهِ غَيْره ، فعسى أن يَكُوْن وهماً )) ([220]) .
وذكر البيهقي حَدِيْث المغيرة هَذَا وَقَالَ : (( إنه حَدِيْث منكر ضعّفه سفيان الثوري، وعبد الرحمان بن مهدي، وأحمد بن حَنْبَل ، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني ، ومسلم بن الحجاج ، والمعروف عن المغيرة حَدِيْث المسح عَلَى الخفين )) ([221]) .
قَالَ الإمام النووي : (( وهؤلاء هم أعلام أئمة الْحَدِيْث وإن كَانَ الترمذي قَالَ : حَدِيْث حسن [ صَحِيْح ] فهؤلاء مقدمون عَلَيْهِ ، بَلْ كُلّ واحد من هؤلاء لَوْ انفرد قدم عَلَى الترمذي باتفاق أهل الْمَعْرِفَة )) ([222]) .
وَقَالَ المباركفوري : (( أكثر الأئمة من أهل الْحَدِيْث حكموا عَلَى هَذَا الْحَدِيْث بأنه ضعيف )) ([223]) .
فحكم نقاد الْحَدِيْث وجهابذة هَذَا الفن عَلَى هَذَا الْحَدِيْث بالرد لتفرد أبي قيس بِهِ لَمْ يَكُنْ أمراً اعتباطياً ، وإنما هُوَ نتيجة عن النظر الثاقب والبحث الدقيق والموازنة التامة بَيْنَ الطرق والروايات ؛ إِذْ إن هَذَا الْحَدِيْث قَدْ رَوَاهُ الجم الغفير عن المغيرة بن شعبة ، وذكروا المسح عَلَى الخفين ، وهم :
أبو إدريس ([224]) الخولاني ([225]) .
الأسود ([226]) بن هلال ([227]) .
أبو أمامة ([228]) الباهلي ([229]) .
بشر ([230]) بن قحيف ([231]) .
بكر ([232]) بن عَبْد الله المزني ([233]) .
جبير ([234]) بن حية الثقفي ([235]) .
الحسن البصري ([236]) .
حمزة ([237]) بن المغيرة بن شعبة ([238]) .
زرارة ([239]) بن أوفى ([240]) .
الزهري ([241]) .
زياد ([242]) بن علاقة ([243]) .
أبو السائب ([244]) ، مولى هشام بن زهرة ([245]) .
سالم ([246]) بن أبي الجعد ([247]) .
سعد ([248]) بن عبيدة ([249]) .
أبو سفيان ([250]) : طلحة بن نافع ([251]) .
أبو سلمة ([252]) .
أبو الضحى ([253]) مُسْلِم بن صبيح ([254]) .
عامر بن شراحيل الشعبي ([255]) .
عباد ([256]) بن زياد ([257]) .
عَبْد الرحمان ([258]) بن أبي نُعْم ([259]) .
عروة ([260]) بن المغيرة بن شعبة ([261]) .
عروة بن الزبير ([262]) .
علي ([263]) بن ربيعة الوالِبي ([264]) .
عمرو ([265]) بن وهب الثقفي ([266]) .
فضالة ([267]) بن عمير ، أو عبيد الزهراني ([268]) .
قَبِيصة ([269]) بن بُرْمة ([270]) .
قتادة بن دعامة ([271]) .
مُحَمَّد بن سيرين ([272]) .
مسروق ([273]) بن الأجدع ([274]) .
هزيل بن شرحبيل ([275]) .
أَبُو ([276]) وائل ([277]) .
وَرّاد ([278]) : كاتب المغيرة ([279]) .
وغيرهم ([280]) .
أقول : إن اجتماع هَذِهِ الكثرة الكاثرة عَلَى خلاف حَدِيْث أبي قيس ريبةٌ قويةٌ تجعل الناقد يجزم بخطأ أبي قيس ؛ فعلى هَذَا فإن رِوَايَة أبي قيس معلولة بتفرده الشديد . قَالَ المباركفوري : (( الناس كلهم رووا عن المغيرة بلفظ : (( مسح عَلَى الخفين )) وأبو قيس يخالفهم جميعاً )) ([281]) .
وَقَدْ تكلف الشيخ أحمد شاكر فذكر إنهما واقعتان ([282]) ، وَهُوَ بعيد إِذْ إنهما لَوْ كانا واقعتين لرواه جمع عن المغيرة كَمَا روي عَنْهُ المسح عَلَى الخفين .
ومما يقوي الجزم بإعلال حَدِيْث أبي قيس بالتفرد أنه لَمْ يرد مرفوعاً بأحاديث توازي أحاديث المسح عَلَى الخفين ، فسيأتي إنه لَمْ يرد إلا من حَدِيْث أبي موسى وثوبان وبلال ، وفي كُلّ واحد مِنْهَا مقال . أما أحاديث المسح عَلَى الخفين فهو متواتر عن النَّبِيّ r وَقَدْ رَوَاهُ عن النَّبِيّ r أكثر من ستة وستين نفساً ذكرهم الكتاني ([283]) .
وَقَدْ أسند ابن المنذر ([284]) إلى الحسن البصري قَالَ : (( حَدَّثَنِي سبعون من أصحاب النَّبِيّ r أنه u : مسح عَلَى الخفين )) ([285]) .
أثر حَدِيْث أبي قيس في اختلاف الفقهاء ( حكم المسح عَلَى الجوربين )
اختلف الفقهاء في جواز المسح عَلَى الجوربين عَلَى مذاهب :
المذهب الأول :
ذهب فريق من الفقهاء إلى جواز المسح عَلَى الجوربين ، روي هَذَا عن : علي([286]) بن أبي طالب ([287]) ، وعمار ([288]) بن ياسر ([289]) ، وأبي ([290]) مسعود ([291]) ، وأنس بن مالك ([292]) ، وعبد الله بن عمر ([293]) ، والبراء ([294]) بن عازب ([295]) ، وبلال ([296]) بن رباح ([297]) ، وأبي أمامة ([298]) ، وسهل ([299]) بن سعد ([300]) .
وَهُوَ مروي عن : نافع ([301]) وعطاء ([302]) ، وإبراهيم النخعي ([303]) ، وسعيد ([304]) بن جبير ([305]) ، وسفيان الثوري ([306]) ، وعبد الله بن المبارك ([307]) .
وإليه ذهب : داود([308]) ([309]) ، وابن حزم ([310]) .
وذهب
" الضعفاء الكبير " ، توفي سنة ( 322 ه ) .
( 50 ه ) ، وتوفي سنة ( 128 ه ) .
(( والليث بن سعد )) كَمَا في المطبوع من سنن أبي داود ، وانظر : تحفة الأشراف ( 11320 ) .
=(( سألت محمداً عن هَذَا الْحَدِيْث فَقَالَ : لا يصح هَذَا . روي عن ابن المبارك ، عن ثور بن يزيد ، قَالَ : حُدثت عن رجاء بن حيوة ، عن كاتب المغيرة ، عن النَّبِيّ r مرسلاً وضعف هَذَا ، وسألت أبا زرعة ، فَقَالَ نحواً مِمَّا قَالَ مُحَمَّد بن إسماعيل )). انظر : العلل الكبير : 56 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق