حكم التدليس ، وحكم من عرف بِهِ الدكتور ماهر الفحل :
مضى بنا في أنّ مجموع معانيه تؤول إلى إخفاء العيب ، وليس من معانيه
الكذب ، ومع ذَلِكَ فَقَدْ اختلف العلماء في حكمه وحكم أهله .
فَقَدْ ورد عن بعضهم ومنهم - شعبة - التشديد فِيْهِ ، فروي عَنْهُ أنه قَالَ :
(( التدليس أخو الكذب )) ([1]) ، وَقَالَ أَيْضاً : (( لإنْ أزني أحب إليّ من أن أدلس )) ([2]) .
(( التدليس أخو الكذب )) ([1]) ، وَقَالَ أَيْضاً : (( لإنْ أزني أحب إليّ من أن أدلس )) ([2]) .
ومنهم من سهّل أمره وتسامح فِيْهِ
كثيراً ، قَالَ أبو بكر البزار : (( التدليس ليس بكذب ، وإنما هُوَ تحسين
لظاهر الإسناد )) ([3]) .
وَالصَّحِيْح الَّذِيْ عليه الجمهور أنه ليس بكذب يصح به القدح في عدالة
الرَّاوِي حَتَّى نرد جميع حديثه، وإنما هُوَ ضَرْبٌ من الإيهام، وعلى هَذَا نصّ
الشَّافِعِيّ –رحمه الله– فَقَالَ: ((ومن عرفناه دلّس مرة فَقَدْ أبان لنا عورته
في روايته، وليست تِلْكَ العورة بالكذب فنرد بِهَا حديثه،ولا النصيحة في
الصدق،فنقبل مِنْهُ ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق))([4]).
ويمكن حمل التشدد الوارد عن شعبة عَلَى (( المبالغة في الزجر عَنْهُ
والتنفير )) ([5]) .
وإذا تقرر هَذَا ، فما حكم حَدِيْث من عرف بِهِ ؟ للعلماء فِيْهِ
أربعة مذاهب :
الأول : لا تقبل رِوَايَة المدلس ، سواء صرح بالسماع أم لا ، حكاه
ابن الصَّلاَحِ عن فريق من أهل الْحَدِيْث والفقه ([6])
، وهذا مبني عَلَى القَوْل بأنّ التدليس نفسه جرح تسقط بِهِ عدالة من عُرِف بِهِ ([7]) . وهذا الَّذِيْ
استظهره عَلَى أصول مذهب الإمام مالك القاضي عَبْد الوهاب في الملخص ([8]) .
الثاني : قبول رِوَايَة المدلس مطلقاً ، وَهُوَ فرع لمذهب من قَبِلَ
المرسل ونقله الْخَطِيْب البغدادي عن جمهور من قَبِلَ المراسيل ([9]) ، وحكاه الزركشي عن
بعض شارحي أصول البزدوي من الحنفية ([10])
. وبنوا هَذَا عَلَى ما بنوا عَلَيْهِ قبول المرسل ؛ من أنّ إضراب الثقة عن ذكر
الرَّاوِي تعديل لَهُ ، فإن من مقتضيات ثقته التصريح باسم من روى عَنْهُ إذا كَانَ
غَيْر ثقة ([11]) .
الثالث : إذا كَانَ الغالب عَلَى تدليسه أن يَكُوْن عن الثقات فهو
مقبول كيفما كانت صيغة التحديث ، وإن كَانَ عن غَيْر الثقة هُوَ الغالب رد حديثه
حَتَّى يصرح بالسماع ، حكاه الْخَطِيْب عن بعض أهل العلم ([12])
، ونقله الزركشي عن أبي الفتح الأزدي ([13])
.
الرابع : التفصيل بَيْنَ أن يروي بصيغة مبينة للسماع، فيقبل حديثه،
وبين أن يروي بصيغة محتملة للسماع وغيره فلا يقبل. وهذا الَّذِيْ عَلَيْهِ جمهور
أَهْل الْحَدِيْث وغيرهم([14]) وصححه جمع ، مِنْهُمْ
: الْخَطِيْب البغدادي ([15]) وابن الصَّلاَحِ([16]) وغيرهما .
ثالثاً . حكم الْحَدِيْث المدلس :
لما كَانَ في حَدِيْث المدلس شبهة وجود انقطاع بَيْنَ المدلس ومن
عنعن عَنْهُ ، بحيث قَدْ يَكُوْن الساقط شخصاً أو أكثر ، وَقَدْ يَكُوْن ثقة أَوْ
ضعيفاً . فلما توافرت هَذِهِ الشبهة اقتضى ذَلِكَ الحكم بضعفه ([17]) .
الدكتور ماهر ياسين الفحل
([1]) رَوَاهُ ابن عدي في
الكامل 1/107، والبيهقي في مناقب الشَّافِعِيّ 2/35،والخطيب في الكفاية (508 ت ،
355 ه) .
([2]) رَوَاهُ ابن أبي
حاتم في تقدمة الجرح والتعديل 1/173 ، وابن عدي في الكامل 1/107 ، والخطيب في
الكفاية ( 508 ت ، 356 ه) .
([3]) نكت الزركشي 2/81 .
([4]) الرسالة : 379 الفقرة ( 1033 و 1034 ) .
([5]) مَعْرِفَة أنواع علم الْحَدِيْث : 67 ،
وطبعتنا 159.
([6]) المصدر نفسه . وسبقه بالنقل الْخَطِيْب
في كفايته ( 515 ت ، 361 ه) .
([7]) شرح السيوطي عَلَى ألفية العراقي : 174
.
([8]) نكت الزركشي 2/87 .
([9]) الكفاية ( 515 ت ،
361 ه) .
([10]) نكت الزركشي
2/87-88 ، وانظر : تدريب الراوي 1/229 .
([11]) انظر : الكفاية (
515 ت ، 361 ه) .
([12]) الكفاية ( 515 ت ،
361 ه) .
([13]) نكت الزركشي 2/89 .
([14]) جامع التحصيل : 98
.
([15]) الكفاية ( 515 ت ،
361 ه)
([16]) مَعْرِفَة أنواع
علم الْحَدِيْث : 167 ، وطبعتنا : 159 .
([17]) انظر : المنهل
الروي : 72 ، الشذا الفياح 1/177 ، ونزهة النظر : 113 ، ومنهج النقد في علوم
الْحَدِيْث : 383 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق