الكشف عن الاختلاف
الدكتور ماهر الفحل
الكشف عن الاختلافات
الحديثية الواقعة في الأسانيد والمتون ليس بالأمر الهيّن اليسير ، بَلْ هُوَ أمر
شاق للغاية ، ولا يتمكن لَهُ إلا من رزقه الله فهماً واسعاً واطلاعاً كبيراً .
ومعرفة الاختلافات الواقعة في المتون والأسانيد لا يمكن الوصول إليها إلا بجمع
الطرق والنظر فِيْهَا مع الْمَعْرِفَة التامة بالرواة والشيوخ والتلاميذ ، وكيفية
تلقي التلاميذ من الشيوخ والأحوال والوقائع وطرق التحمل وكيفية الأداء من أجل
مَعْرِفَة الخطأ من الصواب وكيفية وقوع الخلل والخطأ في الرِّوَايَة . وهذا يستدعي
جهداً جهيداً ، قَالَ الحافظ ابن حجر : (( هَذَا الفن أغمض أنواع الْحَدِيْث
وأدقها مسلكاً ، ولا يقوم بِهِ
إلا مَنْ منحه الله تَعَالَى فهماً غائصاً ، واطلاعاً حاوياً وإدراكاً لمراتب الرواة ومعرفة
ثاقبة )) ([1]) .
إلا مَنْ منحه الله تَعَالَى فهماً غائصاً ، واطلاعاً حاوياً وإدراكاً لمراتب الرواة ومعرفة
ثاقبة )) ([1]) .
وَقَالَ ابن رجب الحنبلي
: (( حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كُلّ
واحد مِنْهُمْ ، لَهُمْ فهم خاص يفهمون بِهِ أن هَذَا الْحَدِيْث يشبه حَدِيْث
فُلاَن ، ولا يشبه حَدِيْث فُلاَن فيعللون الأحاديث بِذَلِكَ )) ([2])
.
ويشترط فيمن يتكلم في
العلل ويكشف عن اختلافات المتون والأسانيد أن يَكُوْن ملماً بالروايات مطالعاً
للكتب واسع البحث كثير التفتيش ، لذا قَالَ ابن رجب الحنبلي : (( ولابدَّ في هَذَا
العلم من طول الممارسة ، وكثرة المذاكرة ، فإذا عدم المذاكرة بِهِ فليكثر طالبه
المطالعة في كلام الأئمة العارفين كيحيى القطان ، ومن تلقى عَنْهُ كأحمد وابن
المديني([3])
وغيرهما ، فمن رزق مطالعة ذَلِكَ ، وفهمه وفقهت نفسه فِيْهِ وصارت لَهُ
فِيْهِ قوة نفس وملكة ، صلح لَهُ أن يتكلم
فِيْهِ )) ([4]) . ويشترط فيمن يريد
الكشف عن الاختلافات الحديثية أن يعرف الأسانيد الصحيحة والواهية . والثقات
الذِيْن ضعفوا في بعض شيوخهم ، والثقات الَّذِيْنَ تقوّى أحاديثهم بروايتهم عن بعض
الشيوخ ؛ لأنه مدار الترجيح وبه يعرف تعيين الخطأ من الصَّحِيْح .
وبالإمكان تنظير نقاط
ندرك من خلالها الاختلافات سواء أكانت في المتون أم في الأسانيد ، يستطاع من
خلالها كشف الوهم والاختلافات ، وكيفية التعامل مع ذَلِكَ تصحيحاً أَوْ تضعيفاً
وكما يأتي :
أولاً. مَعْرِفَة من يدور
عَلَيْهِ الإسناد من الرُّوَاة ([5])
:
إنّ مَعْرِفَة من يدور
عليهم الإسناد من الرُّوَاة المكثرين الَّذِيْنَ يكثر تلامذتهم وتتعدد مدارسهم
الحديثية ، فِيْهِ فائدة عظيمة لناقد الْحَدِيْث الَّذِيْ من همه مَعْرِفَة
الاختلافات وكيفية التوفيق بينها ؛ لأن هَذَا يعطي صورة واضحة للأسانيد الشاذة
أَوْ المنكرة ، واختلاف الناقلين عن ذَلِكَ المصدر .
وإنا نجد علماء
الْحَدِيْث الأجلاء يهتمون بهذا أيما اهتمام ، فَقَدْ سأل عَبْد الله بن الإمام
أحمد ([6])
أباه: (( أيما أثبت أصحاب الأعمش ؟ فَقَالَ:سُفْيَان الثوري أحبهم إليَّ ، قلت
لَهُ : ثُمَّ من ؟ فَقَالَ : أبو معاوية ([7]) في الكثرة والعلم –
يعني : عالماً بالأعمش – قلت لَهُ : أيما أثبت أصحاب الزهري ؟ فَقَالَ : لكل واحد
مِنْهُمْ علة إلا أن يونس ([8])
وعقيلاً ([9])
يؤديان الألفاظ وشعيب بن أبي حمزة ([10])، وليس هم مثل معمر ،
معمر يقاربهم في الإسناد . قلت : فمالك ؟ قَالَ : مَالِك أثبت فِي كُلّ شيء … )) ([11])
.
وَقَدْ اهتم الإمام
عَلِيّ بن المديني بهذا الباب ، فذكر فِي علله من يدور عَلَيْهِمْ
الإسناد ([12])، وبهذا الاهتمام البالغ استطاع الْعُلَمَاء مَعْرِفَة من يدور عَلَيْهِمْ الإسناد ، ومَنْ أَكْثَر الناسُ عَنْهُمْ جمعاً ورواية ، وَقَدْ طبقوا هَذَا المنهج عَلَى الرُّوَاة كافة حَتَّى تعرَّفوا عَلَى أوثق النَّاس فِيْهِ وأدناهم ، كَمَا ثبَّتوا حماد بن سَلَمَة ([13]) فِي ثابت
البناني ([14])، وهشام بن حسان ([15]) في ابن سيرين ([16]) . وهذه الأمور تعين الناقد عَلَى مَعْرِفَة الاختلافات ، ثُمَّ كيفية الترجيح والتوفيق بَيْنَ الروايات .
الإسناد ([12])، وبهذا الاهتمام البالغ استطاع الْعُلَمَاء مَعْرِفَة من يدور عَلَيْهِمْ الإسناد ، ومَنْ أَكْثَر الناسُ عَنْهُمْ جمعاً ورواية ، وَقَدْ طبقوا هَذَا المنهج عَلَى الرُّوَاة كافة حَتَّى تعرَّفوا عَلَى أوثق النَّاس فِيْهِ وأدناهم ، كَمَا ثبَّتوا حماد بن سَلَمَة ([13]) فِي ثابت
البناني ([14])، وهشام بن حسان ([15]) في ابن سيرين ([16]) . وهذه الأمور تعين الناقد عَلَى مَعْرِفَة الاختلافات ، ثُمَّ كيفية الترجيح والتوفيق بَيْنَ الروايات .
ثانياً. مَعْرِفَة
الرُّوَاة ([17])
:
وهذه النقطة تتفرع إلى
صور :
أ. مَعْرِفَة وفيات
الرُّوَاة ومواليدهم : وهذه الصورة لها خصيصة كبيرة ؛ إِذْ بمعرفة الولادة والوفاة
تتضح صورة اتصال التلميذ بالشيخ ، وإمكانية المعاصرة من عدمها .
ب. مَعْرِفَة أوطان
الرُّوَاة : وهذه الصورة لها أَيْضاً خصيصة عالية إذ إن بعض الرُّوَاة ضُعِّفُوا
في روايتهم عن بعض أصحاب المدن خاصة كَمَا في إسماعيل بن عياش فهو
غاية في الشاميين ([18])، مخلط عن المدنيين ([19]) ، وَقَالَ الْحَاكِم في " مَعْرِفَة علوم
الْحَدِيْث " ([20]) : (( الكوفيون إذا رووا عن المدنيين زلقوا )) .
غاية في الشاميين ([18])، مخلط عن المدنيين ([19]) ، وَقَالَ الْحَاكِم في " مَعْرِفَة علوم
الْحَدِيْث " ([20]) : (( الكوفيون إذا رووا عن المدنيين زلقوا )) .
ج. مَعْرِفَة شيوخ
الرُّوَاة وتلاميذهم ([21])
: وهذه الصورة لها أهمية بالغة ؛ إذ بِهَا يعرف السند المتصل من المنقطع من
المدلس.ويستطاع من خلال ذَلِكَ التمييز بَيْنَ المجملين([22])في السند.
د. مَعْرِفَة السابق
واللاحق من الرُّوَاة ([23])
: وحقيقته مَعْرِفَة من اشترك في الرِّوَايَة عَنْهُ راويان متقدم ومتأخر تباين
وقت وفاتيهما تبايناً شديداً فحصل بينهما أمد بعيدٌ ، وإن كَانَ المتأخر منهما
غَيْر معدود من معاصري الأول وذوي طبقته ([24]) . ومعرفة هَذَا النوع
من علوم الْحَدِيْث لَهُ أهمية كبيرة حَتَّى لا يظن انقطاع ما ليس بمنقطع ولا يجعل
الصواب خطأً .
ه. مَعْرِفَة الثقات
ودرجاتهم ومراتبهم وضبطهم وأيهم الَّذِيْ يقدم عِنْدَ الاختلاف ([25])
: وهذا الأمر مهم للغاية ومن خلاله يتم الترجيح بَيْنَ الرُّوَاة .
و. مَعْرِفَة المتشابه من
الأسماء وكذا الكنى : وهذا الأمر لَهُ أهمية بالغة في مَعْرِفَة الاختلافات . ومن
خلال مَعْرِفَة المتشابه يتنبه الناقد إلى عدم الخلط بَيْنَ الرُّوَاة إِذْ قَدْ
تتفق الأسماء ويختلف الشخص وعدم الْمَعْرِفَة والتمييز يؤدي إلى الخلط .
ز. لابد من مَعْرِفَة من
اشتهر بالتدليس من الرُّوَاة : وكذلك من يرسل ، وكذا من ضعِّف حديثه لآفة صحية
أَوْ تَغَيَّرَ اوِ اختلط ([26])
.
ثالثا. جمع الأبواب ([27])
:
لا يمكن للبصير الناقد أن
يكشف عن الاختلافات ويقارن بينها إلا بَعْدَ جمع طرق حَدِيْث الباب والموازنة
والمقارنة والنظر الثاقب ، قَالَ علي بن المديني : (( الباب إذا لَمْ تجمع طرقه
لَمْ يتبين خطؤه )) ([28]).
الدكتور
ماهر ياسين الفحل
العراق /الأنبار/الرمادي/ص .ب 735
al-rahman@uruklink.net
([1]) النكت عَلَى كتاب ابن الصَّلاَحِ 2/711
.
([2]) شرح علل الترمذي 2/861 .
([3]) هُوَ علي بن عَبْد الله بن جعفر السعدي
، أبو الحسن البصري ، إمام العلل الناقد الهمام ، قَالَ البخاري :
(( ما استصغرت نفسي عِنْدَ أحد إلا عِنْدَ علي بن المديني )) ، له : " العلل " ، توفي سنة (234 ه ) .
(( ما استصغرت نفسي عِنْدَ أحد إلا عِنْدَ علي بن المديني )) ، له : " العلل " ، توفي سنة (234 ه ) .
الجرح والتعديل 6/193 ، وتهذيب الكمال
5/269 (4685) ، وتاريخ الإِسْلاَم وفيات سنة (234 ه) : 276 فما بعدها
([4]) شرح علل الترمذي 2/664 .
([5]) الْحَدِيْث المعلل : 50 .
([6]) هُوَ عَبْد الله بن أحمد بن حَنْبَل
الشيباني ، أبو عَبْد الرحمان البغدادي ، مولده سنة ( 213 ه ) ، قَالَ الْخَطِيْب
: كَانَ ثقة ثبتاً فهماً ، وَهُوَ راوي المسند والمسائل عن أبيه ، توفي سنة ( 290
ه ) .
تاريخ
بغداد 9/375 ، والمنتظم 6/39 ، وتهذيب الكمال 4/84 ( 3145 ) .
([7]) هُوَ مُحَمَّد بن خازم أبو معاوية
الكوفي الضرير ، عمي وَهُوَ صغير : ثقة من أحفظ الناس لحديث الأعمش، وإذا حدّث عن
غيره وهم ، توفي سنة ( 195 ه ) .
التاريخ
الكبير 1/74 ( 191 ) ، ونكت الهميان : 247 ، والتقريب ( 5841 ) .
([8]) هُوَ يونس بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي
أبو يزيد مولى آل أبي سفيان،أحد الأثبات عن الزهري وغيره ، مات في سنة ( 159 ه )
.
الجرح
والتعديل 9/247 ، والكاشف 2/404 (6480) ، وتهذيب التهذيب 11/450.وقارن بتقريب
التهذيب ( 7919 ) .
([9]) هُوَ عقيل بن خالد بن عقيل الأيلي ، أبو
خالد الأموي مولاهم ، روى عن الزهري فأجاد ، قَالَ يونس بن يزيد : ما أحد أعلم
بحديث الزهري من عقيل ، توفي سنة ( 142 ه ) .
الكامل
في التاريخ 5/528 ، وسير أعلام النبلاء 2/301 ، وتهذيب التهذيب 7/255 .
([10]) هُوَ شعيب بن أَبِي حمزة – واسم أبيه
دينار – الأموي مولاهم أبو بشر الحمصي : ثقة عابد ، قَالَ ابن معين : هُوَ مثل
عقيل ويونس في الزهري ، مات سنة (162ه) عَلَى الأصح .
الجرح
والتعديل 4/344 ، ومشاهير علماء الأمصار : 182 ، وتهذيب الكمال 3/396 ( 2733 ) .
([11]) العلل للإمام أحمد برواية عَبْد الله
1/382-383 ( 2451 ) .
([12]) انظر : العلل ، لابن المديني : 36-39 .
([13]) هُوَ حماد بن سلمة بن دينار البصري أبو
سلمة البزاز . وَهُوَ ابن أخت حميد الطويل ، قَالَ ابن معين : أثبت الناس في ثابت
البناني حماد بن سلمة ، توفي سنة ( 167 ه ) .
الطبقات
الكبرى 7/282 ، وتاريخ الإسلام وفيات سنة (167 ه ) :144 ، وبغية الوعاة 1/548 .
([14]) هُوَ ثابت بن أسلم البناني – وبنانة بطن
من العرب – أبو مُحَمَّد البصري : ثقة كَانَ من أعبد أهل البصرة، أدرك عدداً من
الصَّحَابَة ولازم أنس بن مالك وأكثر عنه ، توفي سنة ( 127 ه ) ، وَقِيْلَ : (126
ه) . الأنساب 1/418 ، وتهذيب الكمال 1/402 ( 797 ) ، وتقريب التهذيب ( 810 ) .
([15]) هُوَ هشام بن حسان الأزدي أبو عَبْد
الله البصري ، الإمام محدث البصرة ، قَالَ ابن المديني : هشام أثبت من خالد
الحذّاء في ابن سيرين ، توفي سنة ( 146 ه ) وَقِيْلَ : ( 147 ه ) .
تاريخ
خليفة : 424 ، وتهذيب الكمال 7/397 ( 7167 ) ، وسير أعلام النبلاء 6/355 .
([16]) هُوَ مُحَمَّد بن سيرين بن أبي عمرة
الأنصاري أبو بكر البصري: ثقة ثبت عابد فقيه ، كَانَ مولى لأنس بن مالك ، ولد في
خلافة عثمان أدرك عدة من الصَّحَابَة ، مات سنة (110 ه ) .
الْمَعْرِفَة
والتاريخ 2/54 ، وتذكرة الحفاظ 1/73 ، والنجوم الزاهرة 1/268 .
([17]) الْحَدِيْث المعلل : 50 .
([18]) قَالَ إمام الصنعة مُحَمَّد بن إسماعيل
البُخَارِيّ : (( إنما حَدِيْث إسماعيل بن عياش عن أهل الشام )) . الجامع الكبير
للترمذي 1/175 عقيب ( 131 ) .
([19]) انظر : الكاشف 1/249 ( 400 ) . وتقدم الْحَدِيْث
عَنْهُ .
([20]) الصفحة : 115 .
([21]) الْحَدِيْث المعلل : 51 .
([22]) المجمل: هُوَ أن يَكُوْن في السند راوٍ
يروي عن شيخ ولا يصرح باسم أبيه أَوْ بلقبه أو ما يميزه من غيره من الرُّوَاة
الَّذِين رووا عن هَذَا الشيخ ، وَقَدْ عقد الذهبي فصلاً بديعاً في التمييز بَيْنَ
السفيانيين والحمادين= =وغيرهما في كتابه " السير " 7/463-467 ، وهذا ما
رأيناه في تعريفنا للمجمل وقارن في ذَلِكَ الإحكام في أصول الأحكام ، لابن حزم
1/42 ، والتعريفات ، للجرجاني : 114 .
([23]) الْحَدِيْث المعلل : 52 .
([24]) انظر : مَعْرِفَة أنواع علم الْحَدِيْث
: 286 طبعة نور الدين ، وطبعتنا : 424 ، وانظر في هَذَا النوع من علوم الْحَدِيْث
: الإرشاد 2/640-642 ، والتقريب : 171 ، وفي طبعتنا : 235 ، واختصار علوم
الْحَدِيْث: 205 ، والشذا الفياح 2/570-572 ، ومحاسن الاصطلاح: 491 ، والمقنع
2/547-548 ، وشرح التبصرة والتذكرة طبعة دار الكتب العلمية 3/101 ، وفي طبعتنا
2/193، ونُزهة النظر : 162 وطبعة عتر : 62 ، وفتح المغيث 3/183-186 ، وتدريب
الرَّاوِي 2/262-263 ،وفتح الباقي 2/232 ، وتوضيح الأفكار 2/480-481 .
([25]) الْحَدِيْث المعلل : 52 .
([26]) الْحَدِيْث المعلل : 53 .
([27]) الْحَدِيْث المعلل : 54 .
([28]) الجامع لأخلاق 2/212 ( 1641 ) .
-----------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق