أباطيل و خرافات حول القرآن الكريم و النبي
محمد- عليه الصلاة و السلام-
دحض أباطيل عابد الجابري و خرافات هشام جعيط حول القرآن و نبي الإسلام-
الدكتور خالد كبير علال
-حاصل على دكتوراه دولة في التاريخ الإسلامي من جامعة الجزائر-
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العلمين و الصلاة و السلام على نبينا محمد أشرف الأنبياء و المرسلين ، و بعد :
أفردت هذا الكتاب للرد على الباحثيّن محمد عابد الجابري المغربي ، و هشام جعيط التونسي ، فيما ذكراه من أباطيل و خرافات حول القرآن الكريم . الأول ذكر أباطيله في كتابه مدخل إلى القرآن الكريم ، ط1 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 2006 . و الثاني ذكر خرافاته في كتابه تاريخية الدعوة المحمدية في مكة ، ط1 ، دار الطليعة ، بيروت ، 2007 .
و مع أن الأباطيل و الخرافات لا تحتاج إلى رد و دحض لأن اسمها كاف لرفضها و إظهار بطلانها و تهافتها ، إلا أنني وجدتُ نفسي مضطرا للرد عليهما لأنهما ألبسا باطلهما ثوب العلم و الموضوعية . و قد تتبعتُ أباطل الجابري و أفردتُ لها الفصل الأول ،و جمعتُ معظم خرافات هشام جعيط و خصصتُ لها الفصل الثاني . و قد ناقشتهما في مزاعمهما مناقشة علمية موضوعية ، أقمتها على منهج علمي نقدي قائم على النقل الصحيح ،و العقل الصريح ، و التاريخ الصحيح .
و قد تشددتُ أحينا في الرد عليهما ، لكن شدتي كانت في محلها ،و لم تخرج عن الإطار العلمي الموضوعي . فهي شدة قائمة على الحق و العدل و الدليل . خلاف المنهج الذي اتبعه الجابري و جعيط القائم على التلاعب ،و التحريف ،و التغليط . و سيتبين لنا ذلك جليا في الفصلين الآتيين إن شاء الله تعالى .
و أخيرا جعلنا الله و اياكم من عباده المؤمنين الصالحين ،و رزقنا الإخلاص في القول و العمل ،و تقبل منا هذا العمل ،و وفقنا لما يحبه و يرضاه ، إنه تعالى سميع مجيب .
-/ خالد كبير علال
الجزائر : 29/صفر/ 1429/ 02/03/ 2008
الفصل الأول
أباطيل محمد عابد الجابري حول القرآن الكريم و النبي
–عليه الصلاة و السلام-
أولا : تحريف الجابري لمعنى أمي و أميين .
ثانيا : زعم الجابري باحتمال تعرض القرآن للتحريف .
ثالثا : نقد موقف الجابري في نظرته إلى قصص القرآن .
رابعا : أباطيل أخرى متفرقة .
خامسا : نقد منهجية الجابري العلمية .
الفصل الأول
أباطيل محمد عابد الجابري حول القرآن الكريم و النبي
–عليه الصلاة و السلام-
تضمن كتاب مدخل إلى القرآن الكريم[1] للباحث محمد عابد الجابري أخطاء و أباطيل كثيرة تتعلق بأمية النبي-عليه الصلاة و السلام- ،و بالقرآن الكريم من حيث الزيادة و النقصان ، و بأهمية قصص القرآن و أهدافها،و غيرها من المواضيع المتنوعة المتعلقة بمضمون القرآن و تاريخه . و هذه المواضيع هي التي سنبيّن من خلالها أخطاء الجابري و أباطيله .
أولا : تحريف الجابري لمعنى أمي و أميين :
استدل الباحث محمد عابد الجابري في تحريفه لمعنى أمي و أميين ،و زعمه بأن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان يعرف القراءة و الكتابة ، استدل بالقرآن و السيرة النبوية ، و الحديث النبوي ،و اللغة العربية ،و أقوال أهل العلم .
( أ ) استدلاله بالقرآن الكريم :
تدرج الجابري في الاستدلال بالقرآن الكريم من أجل الوصول إلى الزعم بأن الرسول-صلى الله عليه و سلم- كان يقرأ و يكتب . فذكر منه طائفة من الآيات القرآنية وجهها كما يريد هو ، من ذلك أنه قال : إن القرآن ذكر بأن التوراة و الإنجيل بشرا بقدوم النبي الأمي ،و هذا في قوله تعالى : ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ))-الأعراف : 157 - . ثم فسّر ذلك بقوله : (( أي من غير اليهود اسمه أحمد ))، و أشار إلى أنه سيفصل في مفهوم الأمي و الأميين لاحقا[2] .
و تفسيره هذا ناقص لا يُمثل إلا جانبا من الآية ، فهي تتضمن حقا بأن النبي المُبشّر به هو من غير اليهود و النصارى ، لكن وصفها له بأنه النبي الأمي يتضمن أيضا معنى آخر هو أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- كان لا يقٌرأ و لا يكتب ،و هذا ما سيتبين لنا لاحقا من خلال مناقشتنا و ردودنا على تأويلات الجابري و تحريفاته .
و منها أيضا قوله تعالى : (( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ))-آل عمران : 20 - ، فقال الجابري في تفسير ذلك : (( الذين أوتوا الكتاب هم اليهود و النصارى ، أما الأميون فهم العرب ))[3] . و تفسيره هذا ناقص أيضا ، لأن عبارة (( الأميين )) لا تخص العرب كلهم ، و إنما تخص المشركين منهم فقط ، دون العرب المتهودين و المتنصرين . كما أنها تخص أيضا كل الشعوب التي كانت وضعيتها الدينية تُشبه وضعية العرب المشركين في افتقادهم للكتاب الإلهي و جهلهم به .
و منها أيضا إنه ذكر قوله تعالى ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ))-الجمعة : 2- ، ثم فسّره بقوله : (( و المقصود : العرب ))[4] . و تفسيره هذا ناقص و مرجوح ، لأن تتضمن وصفا للقوم الذين بُعث فيهم رسول الله ، بأنهم أميون في معظمهم ، فجاء الرسول-عليه الصلاة و السلام- ليُعلمهم الكتابة و الحكمة ،و ذلك يتضمن تعليمهم القراءة و الكتابة أيضا . فهم أميون ليس لأنهم عرب ،و إنما هم أميون لأنهم لا علم لهم بالكتاب الإلهي ،و لأن معظمهم لا يقرأ و لا يكتب .
و منها أيضا إنه عندما ذكر قوله تعالى : ((وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ))- البقرة : 78 -، ذكر أن الآية تقصد أناسا من (( العرب اعتنقوا اليهودية ،و لا علم لهم بالتوراة ،و إنما يختلقون كلاما يقولون : إنه من التوراة ))[5] . و تفسيره هذا لا يصح ، و مُستبعد جدا ، و لا دليل يُثبته . لأن سياق الآية و هو : ((ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ، أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُون ،َوَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ، أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ، وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ))- البقرة : 74-74- ، فالسياق واضح أنه يتكلم عن اليهود عامة ، و خصّت طائفة منهم من دون أن تُشير من قريب و لا من بعيد ، إلى أن هذه الطائفة هي من العرب الذين تهوّدوا حسب زعم الجابري .
و هو لم يقدم دليلا صحيحا يُثبت ما ذهب إليه . ففسر تلك الآية بناء على رغبته و ما يريده هو منها من دون أي شاهد شرعي و لا عقلي صحيح . لذا فإن الآية و سياقها يردان ما زعمه الجابري ،و حتى إذا افترضنا أنه ذكر رواية في سبب نزل تلك الآية تدعم ما ذهب إليه ، فهي رواية لا تصح ، لأنه لا يمكن أن نُحكّم رواية تاريخية ظنية في معنى آية قرآنية واضحة في معناها و سياقها . لأن القرآن هو الحكم على نفسه و غيره ، و ليست الروايات هي الحكم عليه .
و بناء على ذلك فإن معنى تلك الآية هو أنها خاطبت جماعة من اليهود من أية إشارة إلى أصلها العرقي .و قد نص على ذلك جماعة من كبار العلماء كمجاهد ،و أبي العالية ، و إبراهيم النخعي ، و الطبري[6] ، من أن تلك الجماعة كانت تجهل التوراة و لا علم لها بها . و هذا جهل عام- حسب الآية – يتضمن الجهل بقراءة التوراة و كتابتها و فهمها . لأن الآية لم تحدد نوع هذه الأمية التي وُصف بها هؤلاء اليهود ،و الأمية قد تكون عامة تشمل القراءة و الكتابة ، و الفهم و التلاوة ، و قد تكون جزئية تشمل جانبا من ذلك فقط . و بما أن الآية لم تحدد نوع هذه الأمية فهي إذن تشمل المعنيين . و بما أن تلك الجماعة من أهل الكتاب ،و لم يكن لها علم بالكتاب ، فهذا يعني أن معنى الأمي ، و الأمية ، و الأميين ليس معنى عرقيا خاصا بالعرب الذين لا كتاب لهم ، و إنما هو معنى يعني عدم القراءة و الكتابة ، ويشمل كل الناس الذين هم على هذه الحالة ،و ليس خاصا بالعرب كما يدعي الجابري .
و منها إنه عندما ذكر قوله تعالى : ((َمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ))-آل عمران : 75- قال : إن المقصود بالأميين هنا هم العرب ، و عنى ذلك أنه ليس علينا في غش العرب من حرج[7] . و تفسيره هذا ناقص و فيه تخصيص للآية دون دليل ، و هي واضحة في أنهل تحكي موقف أهل الكتاب من غيرهم من بني آدم . و فالأميون المعنيون في هذه الآية هم كل الناس من غير أهل الكتاب ، كالمسلمين ، و العرب المشركين ، و الصابئة ، و المجوس ، و الهندوس . و هي أيضا لا تشمل العرب عامة ، و إنما تشمل العرب المشركين فقط ،و لا يدخل فيها العرب الكتابيون ، الذين هم أيضا من أهل الكتاب يقرؤونه و يكتبونه ، لكن غيرهم من بني آدم فهم أميون أمية كاملة أو جزئية .
و منها أيضا إن الجابري فسّر قوله تعالى : ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ))-الجمعة : 2- ، بأن المقصود بالأميين هم العرب[8] . و تفسيره للأميين بأنه يخص العرب ، هو صحيح في أن العرب هم المعنيون بذلك ابتداء ، لكنه ليس خاصا بهم فقط ، و إنما يشمل أيضا شعوبا أخرى حالها كحال العرب الذين خاطبتهم الآية . فاسم الأميين لا يخص العرب فقط ، و غنما يشمل أيضا أناسا آخرين . لذا وجدنا المفسر ابن جرير الطبري عندما فسّر قوله تعالى : ((غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ))-الروم :2- 3 - ، قال : (( فبلغ ذلك النبي-صلى الله عليه و سلم- و أصحابه ، فشق ذلك عليهم ، و كان النبي-صلى الله عليه و سلم- يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم ))[9] .
كما أن الله تعالى لم يذكر العرب المخاطبين في الآية بجنسهم و عرقيتهم ، كأن يقول : (( هو الذي بعث في العرب )) و إنما وصفهم بصفة أساسية كانت فيهم و في غيرهم ، و هي صفة الأمية التي من معانيها عدم القراءة و الكتابة ، و الجهل بالكتاب الإلهي . لذا ذكر الله تعالى مراده من وصفه لهم بالأميين حين قال : ((ُ هو الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (الجمعة : 2 )،. فهم أميون ليس لأنهم عرب ، و إنما هم أميون لأنهم لا يقرؤون و لا يكتبون الكتاب الإلهي ،و غيره من الكتب . و هذه الصفة تصدق على كل شعوب العالم مع الاختلاف في نوع الأمية و درجتها .
و بذلك يتبن أن الله تعالى وصف العرب بالأميين ليس لأنهم يُسمون بالأميين ، و إنما وصفهم بذلك لأنهم كانوا فعلا أميين من جهتين ، أولها إنهم لم يكن لديهم كتاب إلهي ، فهم يفتقدونه و لا يقرؤونه ، و لا يكتبونه . و الثانية إن معظم العرب كانوا أميين لا يقرؤون و لا يكتبون . ، و هذه هي السمة الغالبة عليهم ، و لا تنقضها الاستثناءات القليلة التي تشهد على معرفة بعض العرب للقراءة و الكتابة ز فهي استثناءات تؤكد القاعدة و لا تنفيها . و مثال ذلك أنه إذا وجدنا مجتمعا ما فيه 90 % من أهله لا يقرؤون و لا يكتبون ، فيصح أن نصفه بأنه مجتمع أمي ،و لا ينقص من ذلك وجود 10 % يقرؤون و يكتبون .
و منها أيضا أن الجابري عندما ذكر قوله تعالى : ((وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ))-العنكبوت : 48 - ، زعم أن المقصود بذلك الكتاب هو أحد كتب أهل الكتاب : التوراة أو الإنجيل ، فهذه الكتب هي وحدها التي يمكن أن ينصرف إليها اتهام قريش بكونه كان ينسخ منها . و هذا ما تشهد له آيات أخرى ، كقوله تعالى : (( ما كنت تدري ما لكتاب و )) ، و ((وَقَالُوا أساطيرالْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ))-الفرقان : 5-، و ((وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ )) - النحل : 103-[10] .
و تفسيره هذا غير صحيح ، و فيه تغليط و تحريف و تدليس على القراء ، لأنه أولا إن الآية الأولى((وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ))-العنكبوت : 48 - لم ترد في سياق الرد على اتهامات قريش كالآيات الأخرى التي ذكرها ،و إنما وردت في سياق آخر ، هو قوله تعالى : ((وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ))-العنكبوت : 47- ، تضمن تقريرا و تأكيدا على أن القرآن كلام الله ، و أن محمدا رسوله ، و ما كان يقرأ كتابا و لا يكتب شيئا . و هي-أي الآية- قد قررت أمرا عاما مطلقا هو أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- ما كان يتلو أي كتاب ،و لا يخط شيئا . و ليس كما زعم الجابري من أن معنى الآية هو أن النبي-عليه الصلاة و السلام- ما كان يتلو أحد الكتابين : التوراة أو الإنجيل . فقوله هذا هو تحريف للآية التي ذكرت الكتاب بالنكرة و ليس بالتعريف ، مما يعني أنها تقصد مطلق الكتاب ،و ليس كتابا بعينه كالتوراة و الإنجيل كما زعم الجابري . فالآية قررت و أكدت على أمية النبي-عليه الصلاة و السلام- التي معناها أنه لم يكن يعرف القراءة و لا الكتابة مطلقا ، و ليس كما زعم الجابري من دون أي دليل يُثبت زعمه ،و الآية نفسها شاهدة على بطلان تفسيره .
و واضح من ذلك أن الجابري يريد من تأويله التحريفي الوصول إلى أمر خطير جدا ، يقفز من خلاله فوق الآية و يقرر ما يُخالفها ،و هو أن النبي –صلى الله عليه و سلم – ما كان يقرأ و لا يكتب التوراة و الإنجيل ، لكن الآية لم تنف عنه معرفة القراءة و الكتاب مطلقا ، فمن المحتمل أنه كان يقرأ و يكتب غيرهما . و هذا تفسير باطل و مُنكر ،و فيه تحريف و تغليط و تدليس .
و ثانيا إن الجابري لم يكتف بتحريف الآية –التي لم يذكر على تأويله لها دليلا صحيحا- ،و إنما تسلط على فهم القارئ أيضا ليُوجهه الوجهة التي يريد الوصول إليها . و ذلك عندما قال : فهي وحدها –أي كتب اليهود و النصارى- التي يمكن أن ينصرف إليها اتهام قريش بكونه كان ينسخ منا . و هذا ما تشهد له آيات أخرى ... . و زعمه هذا لا يصح ، لأن الآية لم تكن في صدد الرد على قريش كما سبق أن بيناه .
و أما ذكره لقوله تعالى : ((وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ))-الفرقان : 5- ، و ((وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ))-النحل : 103- ، فالآيتان شاهدتان ضد الجابري ،و مُبطلتان لزعمه . لأنه لو كان النبي-عليه الصلاة و السلام- يعرف القراءة و الكتابة ما قالت قريش (( اكتتبها )) ،و (( إنما يعلمه بشر )) ، و إنما تقول : كتبها و تعلّمها بنفسه . و بما أنها قالت : (( اكتتبها )) ، و (( إنما يُعلمه بشر )) ، فهذا دليل قوي دامغ يبطل زعم الجابري من أساسه ، و يُثبت أن رسول الله كان فعلا لا يقرأ و لا يكتب .
و ثالثا إن مما يُبطل ذلك الزعم أيضا ، أن الله تعالى قال لنبيه : ((فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ))-يونس : 94 -. و الشاهد هنا هو أنه لو كان رسول الله –عليه الصلاة و السلام- يعرف القراءة ، ما قال له الله تعالى : ((فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ))،و إنما يأمره بأن يقرأ بنفسه ما عند أهل الكتاب ، ليتحقق من صحة نبوته . و القراءة بنفسه أوثق و أصدق من أن يسأل أهل الكتاب الذين ربما لا يُصدقونه القول . و بما أنه لم يأمره بذلك دلّ هذا على أن رسول الله ما كان يعرف القراءة و الكتابة.
و قد توصل الجابري من تأويله لتلك الآيات و تحريفه لها إلى عدة نتائج ، هي أن معنى الأميين في القرآن هم العرب الذين ليس لهم كتاب مُنزل ، مقابل اليهود و النصارى الذين لهم كتاب مُنزل . و أن معنى النبي الأمي هو أنه من أمة ليس لها كتاب مُنزل ،و ليس أن لا يقرأ و لا يكتب . و أن وصفه بأنه النبي الأمي لا يعني بالضرورة أنه لم يكن يعرف القراءة و الكتابة . كما أن وصف القرآن للعرب بأنهم أميون لا يُفيد بالضرورة أنهم كانوا لا يقرؤون و لا يكتبون .و أنه ليس في القرآن ما يدل على أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان يجهل القراءة و الكتابة . ثم قرر في النهاية و بصراحة أن الرسول-صلى الله عليه و سلم- كان يعرف القراءة و الكتابة[11] .
و قد سبق أن بيّنا بطلان ما ذهب إليه الجابري ، و تتبعنا تأويلاته التحريفية للآيات التي احتج بها ، و بيّنا فساد ذلك آية آية . لكننا هنا نزيد الأمر وضوحا و إثراء و إبطالا لما ذهب إليه الجابري . أولا إن القرآن الكريم قد حدد معنى أمي ،و أميين بدقة و وضوح ، حسب استعماله لعبارتي الأمي و الأميين ، و حسب سياق ورودها في القرآن نفسه . فقد سبق أن بينا معنى أمي ،و أميين في القرآن الكريم ، و تبيّن أن عبارتي أمي و أميين لهما معني واحد أصيل هو الجهل بالقراءة و الكتابة ، لكنه قد يضيق و يتسع حسب موقعه في الجملة و سياقه ، و وروده في النص . فاليهود سموا غيرهم الأميين لأنهم يجهلون التوراة قراءة و كتابة ، و العرب المشركون أميون لأنهم لا كتاب لهم يقرؤونه و يكتبونه و من جهة ، و الغالب عليهم عدم القراءة و الكتابة من جهة أخرى . و القرآن الكريم وصف جماعة من اليهود بالأميين لأنهم كانوا يجهلون التوراة قراءة و كتابة و فهما ؛ و وصف النبي –عليه الصلاة و السلام- بأنه أمي لأنه كان من قوم أميين لا كتاب لهم ،و لا علم لهم به من جهة ،و أنه كان لا يعرف القراءة و الكتابة من جهة أخرى ، فهو أمي من جهتين .
و ثانيا إن زعمه بأن تلك الآيات لا تفيد بالضرورة أن النبي-عليه الصلاة و السلام- لم يكن يعرف القراءة و الكتابة ، هو زعم باطل ،و تأويل فاسد ، خلافه عكسه هو الصحيح . لأنها في وصفها لرسول الله بالأمي ،و أنه ما قرأ و لا كتب يُفيد بالضرورة بأنه كان أميا لا يعرف القراءة و لا الكتابة . و هذا خلاف وصفها للعرب المشركين بأنهم أميون ،و أن النبي-عليه الصلاة و السلام- جاء ليُعلمهم الكتابة و الحكمة ، فهذا وصف عام يغلب عليهم و لا يفيد بالضرورة أن كل فرد منهم كان لا يقرأ و لا يكتب ، و إنما قد يُفيد ذلك و قد لا يُفيد ، فإذا قلنا –مثلا- إن مجتمعا تمثل فيه الأمية 100 % ، فهو مجمع أمي حقا ؛ و إذا قلنا أن مجتمعا آخر تُمثل فيه الأمية 95 % ، فهو أيضا مجتمع أمي ،و لا تخرجه تلك الطائفة المتعلمة من الأمية . و هذا خلاف وصف الفرد الواحد بأنه أمي لا يقرأ و لا يكتب ، فهذا وصف صحيح ينطبق عليه بالضرورة ، كما هو حال رسول الله-عليه الصلاة و السلام- الذي كان أميا لا يعرف القراءة و لا الكتابة ،و يعيش في مجتمع أمي لأن معظم أهله لا يقرؤون و لا يكتبون .
و بذلك يتبين أن معنى الأمي في القرآن الكريم هو عدم معرفة القراءة و الكتابة ، ما يعني بالضرورة أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان أميا لا يعرف القراءة و لا الكتابة ، خلاف المعنى الذي ذهب إليه الجابري ، فهو معنى لا يصح بناه على تأويل فاسد . و لتأكيد ذلك و إثرائه ،و قطع الطريق أمام تأويلات الجابري نورد طائفة من الشواهد تُثبت أن معنى أمي في القرآن و اللغة العربية ، هو الذي لا يعرف القراءة و الكتابة ، الأمر الذي يعني بالضرورة أن محمد –عليه الصلاة و السلام- كان أميا لا يعرف القراءة و الكتابة ، خلاف ما ادعاه الجابري في تأويله الفاسد لمعنى أمي و أميين .
أولها –أي الشواهد- يتضمن حديثين ، الأول حديث صحيح يقول فيه الرسول-صلى الله عليه و سلم- : (( الدجال أعور بعين الشمال ، بين عينيه مكتوب : كافر ، يقرؤه الأمي و الكاتب )) ، و في رواية أخرى يقرؤه المؤمن أمي و كاتب )) ،, في أخرى (( يقرؤه كل مؤمن أمي و كاتب ))[12] . فالحديث واضح و صريح في أن معنى الأمي هو الذي لا يكتب ، و ليس الأمي هو العربي الذي ليس عنده كتاب منزل .
و أما الحديث الثاني فهو حديث ضعيف ، لكنه يصلح شاهدا ،و يؤيد ما ذكرناه عن الأمي من جهة ، و يتقوى معناه بالحديث الصحيح من جهة أخرى . و و مضمونه (( إن الله يُعافي الأميين يوم القيامة ، ما لا يُعافي العلماء ))[13] . فالأميون مقابل العلماء ، بمعنى أنهم لا يقرؤون و لا يكتبون . و ليس الأميون هم العرب مقابل أهل الكتاب ، كما أراد أن يُوهمنا به الجابري .
و الشاهد الثاني يتضمن طائفة من أقوال كبار المفسرين في معنى الأمي و الأميين في القرآن الكريم ، ابتداء من الصحابة إلى علماء القرن الرابع الهجري ، مرورا بالتابعين و تابعيهم و من جاء بعدهم . و هؤلاء أهل اختصاص أقوالهم لها حجيتها و مكانتها في الفهم الصحيح للقرآن و في تحديد معاني اللغة العربية . و أقوال الصحابة في ذلك أولى من أقوال من جاء بعده ، لأنهم تلقوا التفسير مباشرة من رسول الله من جهة ،و لأن القرآن نزل بلغتهم و هم عرب أقحاح أعلم من غيرهم باللغة العربية من جهة أخرى . و التابعون هم أيضا أقوالهم أولى في فهم القرآن و اللغة العربية ممن جاء بعدهم ، لأنهم تلقوا ذلك من أعلم الناس بعد النبي-عليه الصلاة و السلام- ، و هم الصحابة رضي الله عنهم . و كذلك تابع التابعين فهم أعلم بأقوال الصحابة و التابعين ،و باللغة العربية ممن جاء بعدهم ، لقربهم من مصدر العلوم الشرعية و اللغة العربية .
و أما أقوالهم في معنى أمي و أميين ، فأولها قول الصحابي عبد الله بن عباس –رضي الله عنه- ، إنه فسّر عبارة الأميين في قوله تعالى : ((و قل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ))-آل عمران : 20 -، بأنهم الذين لا يكتبون . و فسّرها في قوله تعالى : ((وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ))-العنكبوت : 48- ، بأنها تعني الذي لا يقرأ و لا يكتب ،و أن الرسول-صلى الله عليه و سلم- كان أميا لا يقرأ و لا يكتب[14] .
و القول الثاني هو للتابعي المفسر الضحاك بن مزاحم (ت 102هجرية ) ، إنه فسّر قوله تعالى ((وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ )) ، بقوله : كان نبي الله لا يكتب و لا يقرأ ،و كذلك جعل نعته في التوراة و الإنجيل ، إنه نبي لا يقرأ و لا يكتب[15] .
و القول الثالث هو للتابعي المفسر مجاهد بن جبر(ت 103هجرية ) ، إنه فسّر معنى الأميين في قوله تعالى : ((وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ))-البقرة : 78 - ، بأنهم أناس من اليهود لا يفقهون الكتاب الذي أنزله الله على موسى-عليه السلام- . و فسّر قوله تعالى : (( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ )) -الأعراف : 157 -، بأن معناه هو أن رسول الله كان مكتوبا عند أهل الكتاب بأنه (( لا يخط بيمينه و لا يقرأ كتابا ))[16] .
و القول الرابع هو للمفسر قتادة السدوسي (ت117 هجرية ) ، إنه فسّر معنى قوله تعالى : ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ))-الجمعة : 2-، بقوله : (( كانت هذه الأمة أمية لا يقرؤون كتابا )) . و فسّر قوله تعالى : ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ))-الأعراف : 157 - ، بقول : )) : هو نبيكم كان أميا لا يكتب )) . و فسّر قوله تعالى : ((وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ))-العنكبوت : 48-، بقوله : كان نبي الله لا يقرأ كتابا قبله ،و لا يخطه بيمينه ،و كان أميا ، و الأمي الذي لا يكتب[17] .
و القول الخامس هو للمفسر مقاتل بن سليمان(ت150 هجرية ) ، ذكر أن معنى المي هو الذي لا يقرأ و لا يكتب ،و لا يخطه بيمينه[18] .
و أما القول الأخير فهو للمفسر المشهور أبي جعفر بن جرير الطبري (ت310هجرية) ، إنه فسّر معنى قوله تعالى : ((وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ))-البقرة : 78 - ، بأنهم الذين لا يكتبون و لا يقرؤون)) .و نصّ على أن الأمة الأمية من العرب هم الذين (( لا يقرؤون كتابا ،و لا وعوا من علوم أهل الكتاب علما ...)) .و ذكر أن الأمي سُمي أميا لأنه لا يكتب نسبة إلى أمه ، لأن الكتابة كانت في الرجال دون النساء ، فنُسب من لا يكتب و لا يخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتابة دون أبيه . و بناء على ذلك و صف الطبري النبي-عليه الصلاة و السلام- بأنه كان (( أميا نشأ بين أميين لا يكتب و لا يقرأ و لا يحسب ))[19] .
و واضح من أقوال هؤلاء المفسرين الكبار القريبين من مصدر العلوم الشرعية ،و اللغة العربية ، أن معنى أمي في القرآن و اللغة ، هو الذي لا يقرأ و لا يكتب ، و ليس معناه العربي الذي ليس له كتاب كما زعم الجابري . لذا فإن أقوالهم حجة دامغة تبطل زعم الجابري من أساسه .
و أما الشاهد الثالث فيتضمن طائفة من أقوال كبار الفقهاء المسلمين من التابعين و تابعيهم ، حول معنى الأمي و الأميين . و هي أقوال لها حجيتها و مكانتها من جهة . و هي أيضا أدلة صحيحة في تحديد معنى أمي و أميين في القرآن الكريم و اللغة العربية من جهة ثانية .و أصحابها فقهاء كبار لهم اهتمام كبير بتحديد معاني ألفاظ القرآن الكريم تحديدا صحيحا لغة و شرعا من جهة ثالثة .
منها قول الفقيه إبراهيم النخعي (ت 95هجرية ) ،و مفاده أنه فسّر قوله تعالى (( و منهم أميين )) بأنه يُوجد من اليهود من كان لا يقرأ الكتاب[20] . و القول الثاني هو للعالم الفقيه الحسن البصري (ت 110 هجرية ) ، إنه عندما فسّر قوله تعالى : ((اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ))-الإسراء : 14- ، قال : يقرأ الإنسان كتابه أميا كان أو غير أمي[21] . و معنى ذلك أن الأمي هو الذي لا يقرأ ، لكنه يوم القيامة يصبح الأمي قادرا على قراءة كتابه .
و القول الثالث هو للإمام أبي حنيفة النعمان (ت150هجرية ) ، قال فيه : إذا تعلّم الأمي سورة أثناء الصلاة ، فإنه يقرأها و يبني عليها ، ثم غيّر فتواه[22] ,
و القول الرابع هو للفقيه أبي يُوسف يعقوب (ت 182 هجرية ) صاحب أبي حنيفة ، كان يقول عن صلاة الأمي : (( و أما نحن فنرى إذا صلى الأمي بقوم أميين ،و بقوم يقرؤون فصلى بهم تمام الصلاة ، و قد قعد قدر التشهد ، ثم عَلِمَ سورة ، إنه يثجزيه صلاته ،و صلاة من خلفه ممن لا يقرأ . و أما من كان يقرأ فصلاته فاسدة ))[23] .
و القول الخامس هو للفقيه محمد بن الحسن الشيباني (ت 189هجرية ) ،ذكر أنه سأل صاحبه أبا حنيفة النعمان فقال له : (( أرأيت رجلا أميا صلى بقوم أميين ، و منهم من يقرأ ، و فيهم من لا يقرأ ... )) . و سأله أيضا : (( أرأيت إن افتتح بهم الصلاة و هو أمي ، فصلى بهم تمام الصلاة ، فلما قعد قدر التشّهد و لم يُسلّم ، عَلِمَ سورة ... )) . و سأله أيضا : (( قُلتُ : إذا افتتح أمي بقوم الصلاة ، فصلى بهم ركعة ، أو ركعتين ، أو ثلاثة ، ثم عَلِمَ سورة . قال : صلاتهم فاسدة . قلتُ : و كذلك لو كان فيهم قوم يقرؤون . قال : نعم ))[24] .
و آخرها- أي السادس- هو قول للإمام الشافعي (ت 204 هجرية ) ، و مفاده أنه قال : (( فإن أمّ أمي بمن يقرأ أعاد القارئ ، و إن اِئتم مثله أجزأه ))[25] .
و واضح من أقوال هؤلاء الفقهاء الأوائل الكبار ، أن الأمي ليس هو العربي الذي ليس عنده كتاب منزل ، كما زعم الجابري ، و إنما هو الجاهل الذي لا يقرأ ، فالفرق كبير جدا بين المعنيين .
و أما الشاهد الأخير- و هو الرابع- ، فيتضمن طائفة أخرى من أقوال أهل العلم على اختلاف تخصصاتهم . و هي شواهد قوية صحيحة تُثبتُ المعنى الصحيح لعبارتي أمي و أميين ، و الذي يعني عدم معرفة القراءة و الكتابة ، خلاف ما ادعاه الجابري .
أولها قول للمؤرخ محمد بن إسحاق بن يسار المديني (ت 151 هجرية ) صاحب السيرة النبوية المشهورة ، يقول فيه : (( كانت العرب أميين لا يدرسون كتابا ،و لا يعرفون من الرسل عهدا ))[26] .
و الثاني هو للمحدث الحافظ يحيى بن معين ( ت223 هجرية ) ، يقول فيه : (( كان جعفر بن برقان أميا ، لا يكتب و لا يقرأ . و قال أيضا : (( كان أبو عوانة أميا يستعين بإنسان يكتب له ))[27] .
و القول الثالث هو للمتكلم الأديب اللغوي الجاحظ (ت 250 أو 255 هجرية) ، و صف فيه العرب بأنهم كانوا أميين لا يكتبون ،و مطبوعين لا يتكلفون . و ذكر قولا لشيخ بصري يقول فيه : (( إن الله جعل نبيه أميا لا يكتب ، و لا يحسب ، و لا ينسب ... ليتفرد الله بتعليمه ))[28].
و القول الرابع هو للغوي النحوي الأديب محمد بن قتيبة (ت 276 هجرية ) ، يقول فيه : (( إنما قيل لمن لا يكتب : أمي ، لأنه نُسب إلى أمة العرب ، أي جماعتها . و لم يكن ممن يكتب من العرب إلا قليل ، فنُسب من لا يكتب إلى الأمة ، فقيل : أمي ، كما نقول : رجل عامي ، نُنسبه إلى عامة الناس . ثم لزم هذا الاسم كل من لا يكتب. فقيل : العرب أميون ))[29].
و القول الخامس هو للمؤرخ البلاذري (ت279 هجرية) ، إنه عندما ترجم لعبد الله بن صفوان بن أمية ، وصفه بأنه (( كان أميا لا يقرأ و لا يكتب ))[30] .
و آخرها- أي القول السادس- هو للمحدث الفقيه ابن خزيمة (ت 311 هجرية )) ، وصف فيه النبي-عليه الصلاة و السلام- بأنه كان أميا لا يكتب و لا يحسب[31] .
و ختاما لما ذكرناه يُستنتج منه أن معنى أمي و أميين في القرآن و اللغة العربية ،و عند علماء الشريعة و اللغة ، ليس كما زعم الجابري بأنه يعني العرب غير الكتابيين ،و أن القرآن لا ينفي معرفة النبي بالقراءة و الكتابة . فهذا زعم باطل ،و تأويل فاسد . و إنما يعني أن معنى أمي هو الذي لا يعرف القراءة و الكتابة . و بما أن القرآن وصف النبي-عليه الصلاة و السلام- بأنه أمي ،و أنه ما كان يتلو من كتاب و لا يخطه بيمينه ، فإن هذا يعني بالضرورة أنه-عليه الصلاة و السلام- كان لا يعرف القراءة و الكتابة .
( ب ) : استدلال الجابري بالروايات التاريخية و الحديثية :
استدل الجابري بروايات تاريخية و حديثية كشواهد على صحة ما زعمه من أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان يقرأ و يكتب . فلم تصح استدلالاته ،و لم يُوفق في زعمه . و تبيان ذلك فيما يأتي :
من ذلك إنه استدل على رأيه ، بخروج النبي-صلى الله عليه و سلم- إلى الشام للتجارة ، فذكر أنه : (( كان قبل النبوة يتردد على الشام في تجارة لخديجة ، التي تزوجته بسبب ما لمسته من أخلاقه و كفاءته ،و أنه من غير المتوقع أن يكون جاهلا بالكتابة و الحساب ،و هو يقوم بمهام التجارة . بينما كان أقرانه ممن هم أقل شأنا منه يعرفون ذلك . أدركنا كم هي راجحة الأراء التي قالت بأن النبي-صلى الله عليه و سلم- كان يعرف الكتابة و القراءة ))[32] .
و قوله لا يصح لأنه أولا ليس صحيحا أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان يتردد على الشام للتجارة ، لأنه لم يكن تاجرا محترفا ، حتى يُقال : إنه كان يتردد على الشام . و الثابت في السيرة النبوية أن رسول الله لم يخرج إلى الشام إلا مرتين ، الأولى خرج فيها مع عمه أبي طالب و كان ما يزال صغيرا . و الثانية خرج فيها إلى الشام للتجارة في أموال خديجة-رضي الله عنها- قبل زواجه بها . و لم يخرج إلى الشام إلا في هاتين السفرتين ، الأولى لم يكن فيها تاجرا ،و الثانية هي التي كان فيها تاجرا[33] . فليس صحيحا ما ذكره الجابري من أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان يتردد على الشام للتجارة ، فهو لم يتردد عليها أبدا ، لا من أجل التجارة ،و لا من أجل أمر آخر . فزعمه هذا هو من قبيل التحريف و التغليط و التدليس ،و كان عليه أن يُوثق زعمه إن كان صحيحا ما قاله .
و ثانيا إن استدلاله بأن خروج النبي-عليه الصلاة و السلام- إلى التجارة يعني أنه من غير المتوقع أن يكون لا يعرف الكتابة ، هو استدلال ضعيف ،و مُستبعد أيضا ، و لا يثبت بالنسبة للرسول و لكثير من الناس . لأن ممارسة التجارة لا تستلزم معرفة الكتابة ، فكم من تاجر لا يعرف القراءة و لا الكتابة ،و يعتمد أساسا على ذاكرته القوية التي لا تخونه إلا نادرا . و هذا أمر معروف و مُشاهد في زماننا هذا . و النبي-عليه الصلاة و السلام – لم يكن تاجرا محترفا ،و لا شبه محترف ،و لا تاجرا أصلا ، و إما خرج تاجرا مرة واحدة في حياته . الأمر الذي يعني أن استنتاج الجابري غير صحيح .
و ثالثا إنه سبق أن أثبتنا أن القرآن الكريم نص صراحة على أن رسول الله كان أميا لا يقرأ و لا يكتب . و هذا وحده كاف لإبطال زعم الجابري ، لأن ما قرره القرآن لا يمكن رده برواية تاريخية ،و لا باستنتاج ،و لا بتأويل .
و أما استدلاله الثاني –على ما ذهب إليه- فيتمثل في أنه استدل بحديث نزول الوحي أول مرة على النبي-عليه الصلاة و السلام- في غار حراء . فأورد روايتين ، الأولى رواها محمد بن إسحاق و مفادها أن جبريل نزل على رسول الله في غار حراء و هو نائم ، و عرض عليه كتابا و قال له : اقرأ ، فرد الرسول بقوله : (( ما أقرأ )) ، ثم كرر عليه الأمر ثانية ، فرد عليه : (( ما أقرأ )) . فكرر عليه الأمر للمرة الثالثة ، فقال رسول الله : (( ماذا أقرأ )) مرتين ، فقال جبريل : ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ))-العلق : 1-، فقرأها النبي-عليه الصلاة و السلام-[34] .
و أما الرواية الثانية فقد رواها البخاري ، و فيها أن النبي-عليه الصلاة و السلام- لما أمره جبريل بالقراءة – دون ذكر للكتاب- قال : ما أنا بقارئ . كرر ذلك ثلاثا ، فكان جبريل في كل مرة يضمه ثم يطلقه ، و بعد الثالثة قال له : ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ))-العلق : 1 -[35] .
و ذكر الجابري أن عبارة(( ما أقرأ )) في رواية ابن إسحاق ، تُفيد النفي و الاستفهام معا ، فيمكن حملها على أن الرسول نفى أنه يقرأ ،و يمكن حملها على أنه استفهم و طلب ماذا يقرأ . ثم رجّح الجابري الفهم الثاني ، لأن الرواية نفسها ذكرت أن الرسول قال أيضا (( ماذا اقرأ )) ، مما يعني أن رد النبي-عليه الصلاة و السلام- كان استفهاميا عما يُريد منه أن يقرأ ،و ليس نفيا بأنه لا يعرف القراءة . و هذا يعني ضمنيا أن الرسول كان يعرف القراءة لأنه طلب ماذا يقرأ ،و لم ينف معرفته بالقراءة[36] .
و أما رواية البخاري فيرى الجابري أن عبارة (( ما أنا بقارئ )) الواردة فيها ، فهي تفيد نفي معرفة النبي للقراءة . لكن يمكن حملها أيضا على النفي و الاستفهام معا كما في رواية ابن إسحاق (( ما أقرأ )) ؛ و ذلك باعتبار أن الباء زائدة في لفظ البخاري (( ما أنا بقارئ )) ، كقولنا : ما أنا فاعل بكم ؟ . فتكون عبارة البخاري تفيد النفي و الاستفهام معا ن خلاف عبارة ابن إسحاق الثانية(( ماذا أقرأ )) ، فهي لا يمكن حملها على إلا على الاستفهام . و من ثم يكون النبي رد على جبريل استفسارا عما يريد منه أن يقرأ ،و ليس نفيا لمعرفة القراءة[37] .
ثم أشار الجابري إلى أنه يُمكن أن يٌقال : إن القراءة التي أُمر بها النبي-عليه الصلاة و السلام- بقراءتها هي قراءة التلاوة و الحفظ ،و ليست القراءة من الكتاب . ثم رجّح الرأي القائل بأن القراءة المأمور بها هي القراءة من كتاب ، و ليس مجرد التلاوة ، لأن رواية ابن إسحاق ذكرت أن جبريل جاء بكتاب إلى رسول الله ،و قال له : اقرأ . و لا يمكن أن يفعل ذلك لو لم يكن يعرف أن النبي يُحسن القراءة في كتاب .و يري أيضا أن ذكر الكتاب مرتين في رواية ابن إسحاق هي قرينة واضحة تُشير إلى أن الأمر يتعلق بشخص يعرف الكتابة و القراءة ،و يُريد أن يُبين لمخاطبه نوع مشاعره عندما خاض هذه التجربة مع جبريل . و من دون (( إعطاء هذه الوظيفة للعبارتين اللتين ذَكر فيهما النبي (( الكتاب )) سيكونان فضلا من القول ،و نحن ننزه النبي-صلى الله عليه و سلم- عن ذلك ))[38] .
و أقول : إن النتيجة التي وصل إليها لا تصح ، بناها على تحليل غير صحيح ،و فهم مُخالف للحقيقة الشرعية و التاريخية المتمثلة في أن رسول الله كان أميا لا يعرف القراءة و لا الكتابة ،و تفصيل ذلك فيما يأتي :
أولا إنه-أي الجابري- لم يُفرق بين الرواية الصحيحة ،و الرواية الضعيفة ،و كان عليه أن يتأكد أولا من صحة رواية ابن إسحاق التي قدّمها على الرواية الصحيحة التي رواها البخاري و مسلم و أحمد[39]. و هذا خطأ منهجي كبير وقع فيه الجابري في التعامل مع الروايات ، فلم يحقق رواية ابن إسحاق ،و بنى عليها رأيه ، بعدما أخضعها للتأويل الفاسد ، و جعلها حكما على رواية البخاري ،و هذا عمل غير مقبول علميا .
فبالنسبة لإسناد رواية ابن إسحاق ، فهو لا يصح لأن فيه انقطاعا و جهالة الراوي . و ذلك أن الراوي الذي حدّث عنه ابن إسحاق روى الخبر عن مجهول ، عبّر عنه بقوله : (( عن بعض أهل العلم ))[40] . و نفس الرواية ذكرها ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق بإسناد مغاير ، فقال : (( قال ابن إسحاق وحدثني وهب بن كيسان ، قال : قال عبيد : ))[41] ،و هذا الإسناد هو أيضا لا يصح لانقطاعه و إرساله ، لأن عبيدا هذا هو عبيد بن عمير بن قتادة ،و هو تابعي و ليس صحابيا[42] . و نفس الرواية ذكرها الطبري[43] ، لكنها لا تصح لأن إسنادها هو نفس الإسناد السابق . و روى أيضا رواية أخرى شبيهة برواية ابن إسحاق[44] . لكنها لا تصح ÷ي أيضا ، لأن راويها هو عبد الله بن شداد ،و هو تابعي و ليس صحابيا[45] . فحديثه هذا مرسل .
و بناء على ذلك فإنه لا يصح الاعتماد على رواية ابن إسحاق ، في وجود الرواية الصحيحة التي رواها البخاري و مسلم و أحمد. فهذه الرواية هي الحكم و المنطلق ، و ليست رواية ابن إسحاق ، التي لا يصح الاعتماد عليها في أمر خطير كالذي نحن نبحث فيه . فهي رواية ضعيفة يمكن الاستئناس بها و تكون تابعة للرواية الصحيحة التي رواها البخاري و مسلم و أحمد .
و ثانيا إنه على فرض قبول رواية ابن إسحاق ، فإنه يجب فهمها انطلاقا من نصوص القرآن و الأحاديث الصحيحة ، كرواية البخاري و مسلم السابق ذكرها التي نصت على أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان أميا لا يقرأ و لا يكتب . الأمر الذي يعني أن عبارة (( ما أقرأ )) التي وردت في رواية ابن إسحاق تعني النفي فقط ، بمعنى أن معناها : أنا لا أقرأ ،و لا تحتمل النفي و الاستفهام معا كما قال الجابري . و بما أن القرآن الكريم نص على أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان أميا لا يعرف القراءة و لا الكتابة ، فإن القول بأن عبارة ابن إسحاق تحتمل النفي و الاستفهام معا ، هو قول غير صحيح ،و إنما هي نافية و ليست استفهامية . و بما أن الأمر كذلك فإن العبارة الثانية التي في رواية ابن إسحاق (( ماذا أقرأ )) ، تعني : ماذا أقول شفويا ، و ما ذا أردد تلاوة ،و لا تعني القراءة من كتاب .
و رابعا إن كلا من الروايتين –أي رواية ابن إسحاق و البخاري- أشارت إلى أن جبريل-عليه السلام- ضمّ النبي-عليه الصلاة و السلام- و غتّه بقوة شديدة ثلاث مرات ،و ثم يُرسله في كل مرة . فعل به ذلك عندما كان يأمره بالقراءة فيقول رسول الله : ما أنا بقارئ في رواية البخاري ،و : ما أقرأ في رواية ابن إسحاق . و هذا يعني أن معناهما واحد ،و هو نفي الرسول عن نفسه معرفته بالقراءة ، فكان كلما ينفي ذلك يضمه جبريل و يغته . فلما فهم أن مراد جبريل بالقراءة هو قراءة التلاوة و الترديد ،و ليست القراءة من كتاب ، قال له : ماذا أقرأ - حسب رواية ابن إسحاق - ، فتركه و تلا عليه : ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ))العلق : 1- . و هذا مفهوم ضمنيا في رواية البخاري ، فلما فهم منه النبي-عليه الصلاة و السلام- منه ذلك ،و استعد للسماع منه ، تركه و تلا عليه قوله تعالى (( اقرأ باسم ربك ...)) ، فسمع منه و حفظه ،و انقلب إلى أهله خائفا[46] .
و رابعا إن تأويل الجابري لعبارة (( ما أنا بقارئ )) الواردة في رواية البخاري ، و زعمه بأنها تحتمل النفي و الاستفهام معا . هو تأويل لا يصح لأمرين أساسيين ، أولهما هو أنه ثبت في القرآن الكريم أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان أميا لا يقرأ و لا يكتب ، الأمر الذي يعني-بالضرورة- أن عبارة البخاري تفيد النفي لا الاستفهام قطعا .
و الأمر الثاني هو زعمه بأن الباء في عبارة (( ما أنا بقارئ)) ، هي باء زائدة ،و هذا تحريف للعبارة ، و تلاعب بها ، و تغليط للقراء ، لأن عبارة (( ما أنا بقارئ )) تختلف في معناها عن عبارة (( ما أنا قارئ )) ، فالأولى تحتمل النفي ،و الثانية تحتمل النفي و الاستفهام معا . و هذا يعني أن الباء ليست زائدة كما زعم الجابري ؛ و إنما هي مقصودة لإثبات النفي ، عبّر بها الرسول-عليه الصلاة و السلام- عن نفسه بأنه أمي لا يقرأ و لا يكتب .
و أما قوله بأن عبارة (( ما أنا بقارئ)) ، هي كعبارة (( ما أنا فاعل بكم )) التي تفيد الاستفهام ، هو تحريف للمعنى ،و تلاعب به ، لأنه عبارة (( ما أنا بقارئ)) لا تُشبه في الصياغة و النفي عبارة (( ما أنا فاعل بكم )) ،و إنما تُشبه عبارة (( ما أنا بفاعل )) ، التي تحمل النفي كعبارة (( ما أنا بقارئ)) . لذا فإن عبارة (( ما أنا فاعل بكم )) ، هي عبارة استفهامية لا تقابل عبارة(( ما أنا بقارئ)) التي تفيد النفي ،و لا تقابل أيضا عبارتي (( ما أنا قارئ)) و (( ما أقرأ )) ، اللتين تحملان النفي و الاستفهام معا .
و خامسا إن ترجيح الجابري بأن القراءة التي أُمر بها النبي-عليه الصلاة و السلام- هي القراءة من كتاب ، و ليست قراءة التلاوة و الحفظ و الترديد ، هو ترجيح لا يصح لأمور ثلاثة ، أولها إنه اعتمد فيما ذهب إليه على رواية ابن إسحاق التي أشارت إلى وجود الكتاب مرتين ، و هي رواية ضعيفة ، لا يصح الاعتماد عليها ،و ترك رواية البخاري الصحيحة ، التي نصت على نفي معرفة النبي-صلى الله عليه و سلم- للقراءة من جهة ، و لم تُشر إلى وجود أي كتاب من جهة ثانية .
و الأمر الثاني هو أنه على فرض صحة رواية ابن إسحاق ، فهي رواية رمزية تمت حوادثها في المنام ، خلاف رواية البخاري التي تمت حوادثها في حالة يقظة ، فيكون أمر الكتاب هو أمر رمزي لا حقيقي ، لذا ذكرت هذه الرواية-أي رواية ابن إسحاق- أن النبي-عليه الصلاة و السلام- قال : (( فانصرف عني ، و هببتُ من نومي فكأنما كُتب في قلبي كتاب )) . فالرواية رمزية ، لا يصح تقديمها على رواية البخاري ، التي هي الأصل و المرجع و الحكم .
و أما الأمر الثالث هو أنه إذا افترضنا صحة رواية ابن إسحاق ، فإن ذكرها للكتاب مرتين ، لا يعني بالضرورة أن الأمر بالقراءة كان أمرا بالقراءة من الكتاب ، فقد يكون الكتاب له هدف رمزي . كما أن وجود الكتاب لا يعني بالضرورة أن الرسول –عليه الصلاة و السلام – كان يعرف القراءة و الكتابة . لذا فإن ما ذهب إليه الجابري ضعيف جدا ، بل لا يصح ، لأنه بما أن رسول الله كان أميا لا يقرأ و لا يكتب بشهادة القرآن الكريم ، فإ ذكر الكتاب في رواية ابن إسحاق ، جاء لتأيد أمية الرسول-عليه الصلاة و السلام- في أنه لا يعرف القراءة و الكتابة ، من خلال امتناعه من القراءة عندما قُدم له الكتاب في المنام . فهذا الامتناع دليل على أنه لا يعرف القراءة و الكتابة ، فأصر على الامتناع ، إلى أن تبين له أن المطلوب منه هو القراءة بالتلاوة و الترديد و الحفظ ، ففعل ذلك . فالكتاب كان له دور رمزي لتأكيد أمية الرسول و ليس لإثبات خلافها .
و أما استدلاله الثالث فيتمثل في أنه استدل بموقف قريش من النبي-عليه الصلاة و السلام- و القرآن الكريم . فذكر أن قريشا لم تتهم رسول الله بأنه كتب القرآن ،و إنما اتهمته بأنه كان يتلقى ما ورد فيه كالقصص من أُناس من أهل الكتاب كانوا في مكة . لكن لم (( يذكر أحد من الرواة أن خصوم الدعوة المحمدية من قريش قد نسبوا إليه كتابة القرآن ، ليس لأنهم كانوا يعرفون أنه لا يقرأ و لا يكتب ن بل لأن المعرفة بالكتابة و القراءة ، عندهم ، و عند جميع الأمم على اليوم ليست شرطا في الإتيان بالكلام البليغ . فالقول البليغ ليس مرهونا بالمعرفة بالقراءة و الكتابة . و قد كان شعراء العرب و خطباؤهم يقولون الشعر، و يخطبون ارتجالا من دون إعداد لا قولا و لا كتابة ))[47] .
و قوله هذا زعم باطل ، فيه تغليط و تدليس على القراء ، لأنه أولا أن مضمون كلامه أن قريشا لم تكن تعتقد أن رسول الله كان أميا ، و إنما كانت تعتقد أنه كان يعرف القراءة و الكتابة . و هذا زعم باطل سبق بيان بطلانه ، و كان عليه أن يُوثّقه . لأن زعمه هذا هو حكاية لخبر ، و الخبر يجب توثيقه ، و هو لم يُوثّقه[48] . فمن أين جاء بزعمه هذا . ؟ ! .
و قوله بأنه لا أحد من الرواة ذكر أن قريشا نسبت إلى الرسول-عليه الصلاة و السلام- كتابة القرآن ، فهذا يحتاج إلى توضيح ،و إزالة الغموض الذي يكتنفه ،و التغليط حوله .لأن الحقيقة هي أن قريشا اتهمت فعلا الرسول-عليه الصلاة و السلام- بأنه كتب جانبا من القرآن بواسطة بعض أهل الكتاب . بمعنى أن ذلك كُتب له بطلبه و أمره ، و قد سجل القرآن هذا الاتهام على لسان قريش ، في قوله سبحانه : (( و قالوا ما هي اكتتبها )) ، و (( إنما يعلمه بشر )) . فهذا دليل قاطع على أن قريشا اتهمت الرسول بكتابة القرآن بواسطة أهل الكتاب ،و هذا الاتهام يتضمن أيضا دليلا دامغا على أن قريشا كانت تعرف أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان أميا لا يعرف القراءة و لا الكتابة ، لهذا اتهمته بأن بعض أهل الكتاب كتب علّمه ،و كتب له القرآن . فلو كانت تعتقد أنه يعرف القراءة و الكتابة لاتهمته مباشرة بأنه تعلّم ذلك و كتبه بنفسه ،و لا ما قالت : (( اكتتبها )) ، و (( إنما يُعلمه بشر )) . و لا شك أن الذي يعرف القراءة و الكتابة يكتب و يُطالع بنفسه . و هذا لم يثبت في حق رسول الله ،و لا اتهمته به قريش .
و عندما اتهمت قريش النبي-عليه الصلاة و السلام- بأنه يأخذ عن أهل الكتاب ، كان اتهامها هذا يخص قصص القرآن و أخباره عن نشأة العالم و نهايته ،و لم يكن يتعلق ببلاغته و فصاحته ، لأنها تعلم أنه إذا كانت هي قد عجزت عن الإتيان بمثل القرآن في فصاحته و بلاغته و نظمه ، فن غيرها من الكتابيين أعجز ،و ليس في مقدورهم الإتيان بمثله . لكنها كانت تعتقد أن ما ذكره القرآن من أخبار الأنبياء و الأولين و نشأة العلم ، هو أمر لا يتأتى إلا بالإطلاع على كتب أهل الكتاب و غيرهم ، لذلك اتهمت رسول الله بالأخذ عن هؤلاء . و من ثمّ فإن معرفة القراءة و الكتابة هي شرط-في اعتقادها- للإتيان بما جاء به القرآن الكريم . و بما أنها كانت تعرف أن محمدا-عليه الصلاة و السلام- كان أميا لا يقرأ و لا يكتب ، فاتهمته باكتتاب ذلك و أخذه عمن يعرف القراءة و الكتابة ،و له علم بما عند الكتابيين . لكنها مع ذلك فشلت في إثبات زعمها ، لأن القرآن الكريم تحدى الإنس و الجن معا ،و لا يقبل التفسير البشري أصلا .
و ثانيا إن الجابري يُريد أن يُوهمنا بأن قريشا لم يكن يهمها أكان الرسول يعرف القراءة و الكتابة ،أو لا يعرف ذلك . لأنها-حسب زعمه- كانت تعلم أن الإتيان بالكلام البليغ الذي جاء به القرآن ، ليس مرهونا بمعرفة القراءة و الكتابة ،و من ثم فهي ليست شرطا فيه . و هذا تغليط و تدليس على القراء ، لأن قريشا إذا كانت تعلم ذلك ، فإنه كان يهمها جدا معرفة حال النبي-عليه الصلاة و السلام- من حيث معرفته بالقراءة و الكتابة من عدمها ، لتتخذ منه موقفا واضحا ،و تجد تفسيرا للقرآن الذي جاء به . فلو كانت تعتقد أن النبي يعرف القراءة و الكتابة ، لوجدت تفسيرا سهلا لتعلل به نبوة محمد-عليه الصلاة و السلام- ،و القرآن الذي جاء به ، فتتهمه بأنه اطلع بنفسه على تراث أهل الكتاب ، و أخذ منه يُناسبه في دعوته . لكنها لم تتهمه بذلك ، مع أنه سلاح قوي جدا في يدها ، الأمر الذي يعني قطعا أنها كانت تعلم أن محمدا لا يعرف القراءة و لا الكتابة . و هذا هو الذي جعلها تتهمه بالأخذ عن أهل الكتاب بالاكتتاب ،و التعلم على يدهم ،و لم تتهمه بالإطلاع المباشر على كتبهم . فمعرفة قريش بحال النبي من حيث معرفته بالقراءة من عدمها ، هو أمر هام جدا ،و ضروري بالنسبة لقريش ،و ليس كما زعم الجابري الذي حاول تغليطنا بخلاف ذلك .
و أما استدلاله الرابع ، فيتمثل في أنه استدل بحديث نبوي صحيح ، يقول فيه النبي-عليه الصلاة و السلام- : (( إنا أمة أمية ، لا نكتب و لا نحسب ))[49] . فقال : إن للحديث تأويلين ن أولهما إن جملة (( لا نكتب و لا نحسب )) هي وصف للأميين كأن نقول : نحن أمة أمية من صفاتها أنها لا تكتب و لا تحسب . و الثاني هو أن تلك الجملة هي بدل أو عطف بيان ، بمعنى أنها تفسر المعنى المقصود في قوله-عليه الصلاة و السلام- : (( إنا أمة أمية )) . ثم قال الجابري : إن في التأويلين لا يمكن(( أن يكون معنى : أمية ، هو الجهل بالكتابة و الحساب ، لأن معنى هذا الحديث سيصبح حينئذ كما يلي: (( نحن أمة نجهل الكتابة و الحساب ،و لا نكتب و لا نحسب ))،و هذا تكرار لا معنى له . و من هنا يبدو واضحا أن معنى: الأمية ، شيء آخر غير (( لا نكتب و لا نحسب ))[50] .
و رأيه هذا لا يصح ، لأنه سبق أن بينا بالأدلة القاطعة و الدامغة بأن معنى: أمي و أميين ، ليس كما زعم الجابري ،و إنما المعنى يضيق و يتسع حسب سياق الكلام ، لكن المعنى الأساسي الذي لا يتغير ، هو الجهل بالقراءة و الكتابة . و عليه فإن ما قاله الجابري في رحه للحديث غير صحيح .
و أما مثاله الذي ضربه في شرحه للحديث ، فهو مثال لا يُعبر عن معنى الحديث، و لا عن حقيقته ، لأن الحديث شرح نفسه بنفسه ،و فيه تأكيد للمعنى المراد ،و ليس فيه تكرار و لا زيادة لا فائدة منها ، كما أراد أن يُوهمنا به الجابري .
و مثاله الذي ضربه ، هو الذي فيه ركاكة في التعبير ،و تكرار لا مبرر له ،و لا فائدة منه . فنحن إذا قلنا : (( نحن أمة لا نعرف الكتابة و الحساب )) ، لا نحتاج أصلا إلى الزيادة التي ذكرها الجابري في مثاله ، و هي : (( لا نكتب و لا نحسب )) ، لأن المعنى واضح بيّن لا يحتاج إلى زيادة . و الحديث النبوي لا يُوجد فيه تكرار ، و لا لغو ، و لا ركاكة في التعبير ، ،و إنما تضمن عبارة : أمية ، شرحها النبي –عليه الصلاة و السلام- بقوله : (( لا نكتب و لا نحسب )) ، و الحديث يمكن التعبير عنه بلفظ آخر ، كقولنا : نحن أمة نجهل الكتابة و الحساب . و في هذه الحالتين لا مبرر لذكر الزيادة التي ذكرها الجابري .
و أما استدلاله الخامس فيتمثل في أنه استدل بحديث صلح الحديبية ، الذي تمّ في السنة السادسة للهجرة . فذكر أنه توجد أخبار تُفيد ،و بعضها يُؤكد على أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كتب و قرأ بعض المناسبات ، منها حادثة صلح الحديبية ، و خلاصتها –حسب رواية مسلم عن الصحابي البراء بن عازب ، التي أوردها الجابري- أنه لما أمر رسول الله بكتابة وثيقة الصلح مع ممثل قريش ،و كتب علي بن أبي طالب : محمد رسول الله ، اعترض ممثل قريش ،و أمر بأن يُكتب أسم محمد و أبيه ؛ فأمر النبي-عليه الصلاة و السلام- عليا بأن يزيل عبارة : رسول الله ، فامتنع علي ، فقال له : أرني مكانها ، فمحاها و كتب ابن عبد الله )) . و قد تدخل الجابري في توجيه ما نقلناه عنه بإضافة اسم النبي أمام : و كتب ، فأصبحت الجملة هكذا : (( أرني مكانها ، فمحاها و كتب( النبي ) ابن عبد الله )) . ثم أشار الجابري إلى أن نفس الرواية ذكرها البخاري مع زيادة عبارة من الراوي ، هي : (( و ليس يُحسن يكتب )) . فأصبحت العبارة هكذا : (( فاخذ رسول الله –صلى الله عليه و سلم- الكتاب و لا يُحسن أن يكتب . فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ))[51] .
و أقول : إن استنتاجه – من حديث صلح الحديبية- بأن رسول الله كان يعرف القراءة و الكتابة ، هو استنتاج غير صحيح ، لأن الحديث الذي أورده و اعتمد عليه ، لا ينص صراحة على أن النبي-عليه الصلاة و السلام- هو الذي كتب اسمه بيده في المرة الثانية . لأنه بما أن عليا- رضي الله عنه- هو الذي كان يكتب ،و أن رسول الله محا عبارة: رسول الله ، ثم قالت الرواية : (( و كتب ابن عبد الله )) ، ف، الأمر يحتمل أمرين ، أولهما هو أن النبي-صلى الله عليه و سلم- عندما محا العبارة ، كتب علي مكانها عبارة : ابن عبد الله ، كتبها مباشرة ، أو بأمر من رسول الله . و الأمر الثاني هو أن النبي –عليه الصلاة و السلام- هو الذي –عندما محا عبارة رسول الله- كتب مكانها : ابن عبد الله . فما هو الاحتمال الصحيح ؟ . إنه الاحتمال الأول ، لأنه توجد أدلة و شواهد صحيحة تُثبته . و أما الاحتمال الثاني ، فهو احتمال ساقط ،و لا توجد شواهد تُثبته .
و أما الشواهد التي تُثبت الاحتمال الأول ، فأولها إنه سبق أن أثبتنا أن رسول الله كان أميا لا يقرأ و لا يكتب ،و بما أنه كان كذلك ف،ه ليس هو الذي كتب عبارة: ابن عبد الله ، و إنما علي-رضي الله عنه- هو الذي كتبها . و هذا الشاهد كاف وحده لإثبات ما قلناه و إبطال ما ذهب إليه الجابري .
و الثاني يتمثل في رواية أخرى رواها البخاري حول صلح الحديبية ، ليس فيها أية إشارة أو إيهام بأن النبي-عليه الصلاة و السلام- هو الذي كتب،و إنما أشارت صراحة إلى أن عليا هو الذي كتب ، لأنه عندما اعترض ممثل قريش على كتابة: محمد رسول الله ، قال رسول الله : إني رسول الله و إن كذبتموني ، أكتب محمد بن عبد الله[52] .
و الشاهد الثالث يتمثل في رواية أخرى رواها مسلم في صحيحه تتعلق بصلح الحديبية ، رواها عن الصحابي أنس بن مالك –رضي الله عنه- ، لا توجد فيها أية إشارة أو إيهام بأ رسول الله كتب شيئا ، و إنما علي-رضي الله عنه- هو الذي كتب ،و قد قال له النبي-عليه الصلاة و السلام- : (( اكتب من محمد بن عبد الله ... ))[53] .
و الشاهد الرابع في رواية صحيحة الإسناد رواها أحمد بن حنبل في مسنده ، مفادها أنه لما اعترض ممثل قريش على كتابة عبارة : (( محمد رسول الله )) ، قال النبي-عليه الصلاة و السلام- لعلي بن أبي طالب ، : (( اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله ،و أنا رسول الله ، فكتب ))[54] . و هذه الرواية لا يُوجد فيها أي تلميح و لا إشارة إلى أن النبي هو الذي كتب ، و إنما نصت صراحة على عليا هو الذي كتب .
و الشاهد الخامس يتمثل في رواية أوردها النسائي في سننه الكبرى ، تتعلق بصلح الحديبية ، و مفادها أنه لما اعترض ممثل قريش على كتابة: (( محمد رسول الله )) ، قال الرسول-صلى الله عليه و سلم- لعلي: (( اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله ... و أنا رسول الله ، فكتب ))[55] . و هذه الرواية هي أيضا صريحة في أن الذي كتب هو علي-رضي الله عنه- و ليس رسول الله هو الذي كتب .
و الشاهد السادس يتمثل في رواية صحيحة الإسناد ، رواها الحافظ ابن حبان في صحيحه ، عن الصحابي البراء بن عازب ، الذي روى عنه مسلم الرواية التي احتج بها الجابري . و مفادها-أي رواية ابن حبان- أنه لما اعترض ممثل قريش على كتابة: ((مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ))-الفتح :29-،و امتنع علي من محوها ، أخذ الرسول الكتاب لمحو العبارة ، ثم تقول الرواية عن النبي : (( فأمر فكتب مكان رسول الله محمداً ...))[56] . فهذه الرواية الصحيحة شرحت و فصّلت ما أجمتله رواية مسلم ، فبيّنت أن رسول الله عندما محا العبارة بنفسه ، ليس هو الذي كتب ، و إنما أمر عليا بكتابة : محمد بن عبد الله ، فهو امتنع من المحو ،و لم يمتنع من الكتابة ،و النبي محا و لم يكتب .
و الشاهد السابع يتمثل معطيات و قرائن تتعلق بكتابة وثيقة صلح الحديبية ، رواها البخاري و مسلم ، و بعضها انفرد به البخاري. و هي مجملها تُبيّن أن النبي-عليه الصلاة و السلام- لم يكتب شيئا بيده ، و إنما علي هو الذي حرر الوثيقة كلها . فمن ذلك أنه بما أن عليا –رضي الله عنه- هو محرر وثيقة الصلح ، فمن الطبيعي يستمر في كتابتها ، لأنه لم يمتنع عن الكتابة ،و إنما رفض محو عبارة : رسول الله ، فلما محاه النبي-عليه و السلام- واصل علي الكتابة مباشرة و كتب : محمد بن عبد الله . و هذا هو الذي ذكرته بعض الروايات السابقة صراحة ، بأن رسول الله قال لعلي: اكتب محمد بن عبد الله . و بعضها أيضا ذكر أن النبي أمر عليا بالكتابة فكتب .
و حتى عبارتي (( كتب)) ،و (( فكتب)) ، اللتين ذكرهما الجابري نقلا عن مسلم و البخاري ، فهما لا يُفيدان بالضرورة أن رسول الله هو الذي كتب ، و إنما يعني ذلك أيضا أنه أمر الكاتب بأن يكتب فكتب . فعُبر عن ذلك بنسبة الكتابة إلى النبي-عليه الصلاة و السلام- ،و ليس هو الذي كتب ، إنما هو أمر بالكتابة . و هذا أسلوب معروف في اللغة العربية ، كقولنا : بنى السلطان مدرسة ، و بنى مسجدا . بمعنى أنه أمر ببناء ذلك ، لا أنه بناه بيده .
و منها أيضا- أي القرائن و المعطيات- أن رواية البخاري ذكرت صراحة أن رسول الله كان لا يكتب[57] . و هذا أشارت إليه ضمن رواية صلح الحديبية ،الأمر يعني أن لا يصح أن يُفهم منها أن رسول الله هو الذي كتب عندما ذكرت عبارتي: (( وكتب )) ، و (( فكتب )) ، فهذا فَهم يُوقع في تناقض واضح . لأنه لا يصح أن يكون الرسول لا يكتب ،و لا يُحسن الكتابة ،و ثم هو يكتب !!. لذا فإن المقصود من ذلك هو أن عليا هو الذي استمر في الكتابة بعدما محا النبي-عليه الصلاة و السلام- عبارة (( رسول الله )) .
و منها أيضا إن رواية البخاري ذكرت أن الرسول-صلى الله عليه و سلم- تناول وثيقة الصلح لمحو عبارة : رسول الله ، و كان لا يكتب ،و لا يُحسن أن يكتب[58]. و هذا يعني أنه تناول الكتاب لمحو العبارة ،و ليس ليكتب العبارة الأخرى ، لأنه لا يعرف الكتابة ، فكيف يٌقال أنه كتبها ؟ ! . فلما أزالها ، واصل علية الكتابة ،و هذا هو الفهم الصحيح المنسجم مع السياق ،و المعطيات العلمية الصحيحة التي نصت على أن النبي كان لا يعرف القراءة و لا الكتابة .
و منها أن روايتي مسلم و البخاري ذكرتا أنه لما امتنع علي من محو عبارة : رسول الله ، طلب منه النبي-عليه الصلاة و السلام- أن يُريه العبارة ليمحوها ، فلما أراه أياها محاها . فإذا كان رسول الله لا يعرف و لا يُميز العبارة المراد محوها-و كانت رواية البخاري قد صرّحت بأنه كان لا يكتب- فلا يصح القول بأنه هو الذي كتب تلك العبارة !!
و نحن إذا جمعنا بين هذه المعطيات و القرائن التي ذكرناها في هذا الشاهد- أي الثامن- و بين الشواهد السابقة تبين قطعا أن الرسول-عليه الصلاة و السلام- ما كتب في صلح الحديبية ،و لا كان يعرف القراءة و الكتابة ، خلاف لما قاله الجابري .
و أشير هنا إلى أن الجابري لم يكن منهجيا ،و لا موضوعيا في تناوله لما يُقال إن الرسول كتب اسمه في صلح الحديبية . فهو لم يجمع كل الأحاديث المتعلقة بصلح الحديبية ،و لا قارن بينها ،و لا حقق أسانيدها و متونها ،و لا رجع إلى الكتب المتخصصة في نقد الأحاديث و تمحيصها و الحكم عليها ، ليستعين بها في الموضوع الذي خاض فيه ،و لم يُوفيه حقه الذي يستحقه .
كما انه أشار إلى أن رواية البخاري –في صلح الحديبية- فيها زيادة في وصف النبي-عليه الصلاة و السلام- ،و هي (( ليس يُحسن أن يكتب )) ،و هي زيادة صحيحة أوردها البخاري حقا . لكن الجابري كان عليه أن يُشير أيضا إلى رواية أخرى أوردها البخاري أيضا حول نفس الموضوع ، ذكرت في وصفها للنبي-صلى الله عليه وسلم- بأنه (( كان لا يكتب)) ، بدلا من ((ليس يُحسن أن يكتب ))[59] . و عبارة (( كان لا يكتب )) أكثر وضوحا و دقة من العبارة الأخرى (( ليس يُحسن أن يكتب )) ، التي قد يُفهم منها أن رسول الله كان يعرف الكتابة لكنه لا يُحسنها . و هذا فهم باطل ، لأن معناها أنه كان لا يعرف الكتابة .و هذا المعنى هو الذي أشارت إليه عبارة (( كان لا يكتب )) ، التي لم يذكرها الجابري ، فلا أدري هل تعمد إغفالها ، أو غابت عنه .
و ثانيا إن الجابري غلّط القراء و دلّس عليهم عندما تدخل في توجيه رواية مسلم المتعلقة بكتابة وثيقة صلح الحديبية ،و ذلك أنه وضع عبارة(( النبي )) داخل نص الرواية ،وضعها هكذا ، قال رسول الله : (( أرني مكانها ، فأراه مكانها ، فمحاها و كتب( النبي) ابن عبد الله )) هو هنا قد أقحم عبارة النبي في النص ،و هذا عمل يشبه التحريف ،و مخالف لسياق الكلام ، لأن هذه الرواية سبق أن بينا أنها تحتمل أن عليا هو الذي كتب عبارة : محمد بن عبد الله ، كما أنها تحتمل أيضا أن النبي- عليه الصلاة و السلام – هو الذي كتب . لذا فإن عمل الجابري بإضافته كلمة: النبي بين قوسين داخل النص ، هو نفي فلاحتمال الأول ،و إثبات للثاني بطريقة غير علمية ، لأنه جعل قرينة من خارج النص و أقحمها فيه ليُرجح الاحتمال الذي يرغب فيه من جهة ، و يجعل النص يحتمل احتمالا واحدا ، هو أن رسول الله هو الذي كتب عبارة : محمد بن عبد الله . مع ان الصواب هو أن تبقى الرواية تحتمل الأمرين ، و البحث عن القرائن و الشواهد الداخلية و الخارجية –من دون تحريف للنص- لإثبات الاحتمال الصحيح . و نحن قد قمنا بذلك فعلا ، فأتينا بأدلة كثيرة أثبتنا بها أن احتمال كتابة علي لعبارة : محمد بن عبد الله ، هو الاحتمال الصحيح ،و ليس الاحتمال الذي قال به الجابري ، الذي لم يُقدم دليلا صحيحا على ما ذهب إليه . فعل ذلك ليُِؤثر في القارئ ،و يتدخل في توجيه فكره حسب ما يُريده الجابري .
و ثالثا ذكر الجابري أنه توجد روايات و أخبار نُقلت عن الصحابة تُفيد ،و بعضها يُؤكد على أن النبي-صلى الله عليه و سلم- كتب و قرأ في بعض المناسبات ،و في مقدمتها –أي الأخبار- ما رُوي عنه في صدد كتابة وثيقة صلح الحديبية ،و منها رواية مسلم عن الصحابي البراء بن عازب[60] .
و قوله هذا غير علمي ،و افتراء على الحقيقة ،و تغليط للقراء و تدليس عليهم ، لأن كل الروايات التاريخية و الحديثية التي ذكرها[61] لا توجد من بينها رواية واحدة صحيحة تُكد أن رسول الله كان يقرأ و يكتب . لكن الجابري لا يُميز بين صحيح الروايات من سقيمها ،. فكان يعتمد على كل الروايات التي عثر عليها ،و يبني عليها أفكاره من دون جمع شامل و لا تحقيق لها . من ذلك أنه عندما ذكر روايتي مسلم و البخاري المتعلقتين بصلح الحديبية ، لم يجمع الروايات الأخرى المتعلقة بنفس الموضوع ، و المروية في الصحيحين ،و في الكتب الحديثية الأخرى .
و أما استدلاله السادس ، فيتمثل في أنه استدل بحديث رواه مسلم و البخاري ، و مفاده أنه لما اشتد الوجع بالنبي-عليه الصلاة و السلام- في مرض موته ، قال : (( هلموا اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ))،و في رواية (( ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلوا ...)) . ثم أشار الجابري إلى أنه لا أحد من الحاضرين استغرب ذلك القول من رسول الله ، حتى أن بعضهم كان يقول : (( قرّبوا يكتب لكم كتابا ))[62] .
و قوله هذا لا يصح ، لأنه يجب النظر إلى الحديث الذي ذكره انطلاقا من كل النصوص الشرعية المتعلقة بأمية النبي من جهة ، و النظر أيضا من جهة إلى مكانة قائله من جهة ثانية .فبالنسبة للنصوص فقد سبق أن بينا – من خلالها- أن رسول الله كان أميا لا يقرأ و لا يكتب.و هذا يُوجب علينا النظر إلى ذلك الحديث- الذي ذكره الجابري- انطلاقا من هذه النصوص ، و من ثم فإن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان لا يعرف القراءة و لا الكتابة ، مما يعني بالضرورة أن عندما قال (( هلموا اكتب لكم كتابا )) ، كان يقصد أنه سيأمر من يكتب لهم كتابا ، لا أنه هو الذي يكتبه بيده .
و أما بالنسبة لمكانة القائل ،و هو رسول الله ، فهو النبي ، و القائد ،و الزعيم ، و الحاكم ، و المربي ، و من كان هذه بعض صفاته ، فعندما يُروى أنه كتب كذا ،و أرسل إلى فلان خطابا ، فإن المقصود بذلك أنه أمر بكتابة ذلك . و هذا أمر معروف في حياة الخلفاء و الأمراء و الملوك ، إنهم يأمرون ببناء المدارس و الجسور ،و المساجد ، لكن الناس يقولون : إن هؤلاء هم الذين بنوا ذلك ، مع أنهم لم يُمارسوا ذلك بأيديهم .
و الشاهد على ما قلناه أيضا ، هو أن الحاكم النيسابوري ذكر رواية عن صلح الحديبية نسبت كتابة وثيقة الصلح إلى النبي-عليه الصلاة و السلام- من بدايتها ، فقالت : (( فكتب رسول الله –صلى الله عليه و سلم- بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال سهل-ممثل قريش- لا نكتب بسم الله الرحمن الرحيم ... ثم تعود الرواية و تذكر أنه لما اعترض ممثل قريش على بعض عبارات الصلح ، قال رسول الله للكاتب : (( اكتب باسمك الله )) ، و قال أيضا : (( اكتب من محمد رسول الله ...))[63] .
فواضح من ذلك أن المقصود من قوله : (( فكتب رسول الله ...)) ، أن النبي-عليه الصلاة و السلام- أمر الكاتب بالشروع في كتابة وثيقة الصلح ،و ليس هو الذي شرع في الكتابة ، لأن الثابت أن عليا هو الذي كتب وثيقة الصلح و ليس رسول الله . و لأنه أيضا أن الرواية نفسها فسّرت ذلك و أكدته ، عندما ذكرت أن النبي قال للكاتب: اكتب ، أكتب ، فلو كان هو الكاتب ما قال ذلك .
و الشاهد الثاني يتمثل في أن رجلا من اليمن جاء إلى رسول الله و طلب منه أن يكتب له شيئا يأخذه معه ، فقال له : (( اكتب لي يا رسول الله ...)) ، فقال النبي-عليه الصلاة و السلام- : (( اكتبوا لأبي فلان ))[64] .
و بذلك يتبين جليا أنه عندما يُروى أن النبي-صلى الله عليه و سلم- كتب ، أو طُلب منه أن يكتب ، فليس معنى ذلك أنه كان يعرف الكتابة و القراءة ،و إنما المقصود بذلك أنه يأمر كُتابه بأن يكتبوا ما طلب منهم .
و أما لماذا لم يستغرب الصحابة من قول رسول الله : (( هلموا اكتب لكم كتابا ...))، و لا من قول أحدهم : (( قرّبوا يكتب لكم كتابا )) ، فهم لم يستغربوا لأنهم كانوا يعلمون أن الرسول-صلى الله عليه و سلم- كان أميا لا يعرف القراءة و لا الكتابة ،و أن المقصود من ذلك ، أنه يأمر من يكتب له ذلك . و ليس المقصود من ذلك ما زعمه الجابري .
و أما استدلاله السابع فيتمثل في أن استدل بطائفة من الروايات الحديثية نقلها عن المفسر القرطبي ، فقال الجابري : (( و قد علّق القرطبي في تفسيره على ذلك –أي وثيقة الصلح- بقوله : قال علماؤنا –رضي الله عنهم- : و ظاهر هذا أنه صلى الله عليه و سلم محا تلك الكلمة التي هي : رسول الله –صلى الله عليه و سلم- بيده و كتب مكانها: ابن عبد الله )) . و أضاف القرطبي : (( ذكر النقاش عن الشعبي أنه قال : ما مات النبي- صلى الله عليه و سلم- حتى كتب )) . و أشار القرطبي أيضا إلى حديث أبي كشة السلولي ،و مضمونه أن رسول الله قرأ صحيفة لعيينة بن حصن ،و أخبر بمعناها . و أضاف القرطبي : (( و نقل عن القاضي عياض أن معاوية كان يكتب بين يدي النبي - صلى الله عليه و سلم- فقال له النبي: (( ألق الدواة و حرّف القلم ،و أقم الباء ، و فرّق السين ، و لا تُعّور الميم ، و حسّن الله ، و مدّ الرحمن ، و جوّد الحيم )) . ثم ذكر الجابري أنه (( يرى بعضهم في كلامه- صلى الله عليه و سلم- عن الحروف ، بما ذكر ، دليلا على أن كان يعرف أشكالها . و شبيه بهذا ما ورد في حديث رواه البخاري جاء فيه أن النبي قال : (( الدجال ممسوخ العين ، مكتوب بين عينيه كافر ، ثم تهجاها (( كف ر ، يقرؤه كل مسلم ))[65] .
و أقول : إن الجابري لم يكن أمينا في نقله لكلام القرطبي في تفسيره ، و ذلك أنه مارس نوعا من التحريف ، و التدليس ، و التغليط ، و وجهه لتأييد زعمه بأن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان يعرف القراءة و الكتابة . و من ذلك أن الجابري نقل حديثا عن القرطبي عن أبي كبشة السلولي ، مفاده أن رسول الله قرأ صحيفة لعيينة بن حصن ،و أوجز معناها ،و لم يذكر تعليق القرطبي على ذلك . فالجابري ذكر كلاما مقصوصا من سياق كلام القرطبي ، و تمامه (( قال ابن عطية : و هذا كله ضعيف ))[66] . فالجابري قص قول القرطبي ، فأخذ منه ما يُؤيد زعمه ،و ترك ما يُخالفه و يُبطله . و عمله هذا ليس من الموضوعية ،و لا من الحيدة العلمية في شيء .
و ثانيا إنه نقل عن القرطبي أنه قال : قال علماؤنا- رضي الله عنهم- و ظاهر هذا أنه صلى الله عليه و سلم- محا تلك الكلمة التي هي : رسول الله –صلى الله عليه و سلم- بيده و كتب مكانها: ابن عبد الله ...)) . و يُفهم من كلامه أنه-أي القرطبي- موافق لما نقله عن هؤلاء العلماء ، و أنه يقول برأيهم و لا يُخالفهم ، لأن الجابري أورد ذلك بطريقة تُشير إلى أنه يقول بذلك . و هذا غير صحيح ، لأن القرطبي عندما ذكر ما قاله هؤلاء العلماء لم يكن موافقا لهم ، مع انه قال: (( قال علماؤنا )) ، ثم أورد بعد ذلك رأيا آخر لطائفة من العلماء خالفوا به ما قاله الأولون ،و نصوا على أن رسول الله لم يكن يقرأ و لا يكتب[67] . فهو هنا كان في صدد عرض أراء أهل العلم ،و لم يكن مؤيدا للرأي الأول ،و الجابري أراد أن يُوهمنا بذلك .
ثم بعد ذلك ذكر القرطبي رأيه بصراحة ، عندما قال : إن الصحيح هو أن النبي –عليه الصلاة و السلام- (( ما كتب ولا حرفا واحدا وإنما أمر من يكتب وكذلك ما قرأ ولا تهجى ))[68] . فواضح من كلامه أنه لم يقل برأي القائلين بمعرفة رسول الله للقراءة و الكتابة . و هذا خلاف ما يُفهم من ما نقله الجابري من كلام القرطبي . فالجابري لم يكن علميا و لا موضوعيا فيما نقله عن القرطبي ،و كان عليه أن يتحرى في النقل ،و يوسع مجال بحثه لمعرفة موقف الرجل الحقيقي من الموضوع .
و ثانيا إن الجابري نقل عن القرطبي ما رواه القاضي عياض من أن معاوية كان يكتب بين يدي النبي-عليه الصلاة و السلام- فقال له : (( ألق الدواة ، و ... )) . نقل الجابري ذلك بطريقة توحي بأن القرطبي و القاضي عياض يقولان بما ورد في الحديث . و هذا لا يصح عنهما ، لأنه –أي الجابري- بتر الكلام المنقول و لم يُكمله . و الحقيقة هي أن القرطبي أورد قول القاضي عياض السابق ، ثم أتبعه بقول آخر يقول فيه : (( و هذا و إن لم تصح الرواية –أي السابقة- أنه صلى الله عليه و سلم كتب ، فلا يُبعد أن يُرزق على هذا ،و يُمنع القراءة و الكتابة))[69] ز فالرواية التي أوردها القاضي عياض هي ليست صحيحة عنده ، لكن الجابري لم يلتفت إلى ما قاله القاضي ، و أخذ منها ما يحتاجه ،و وظفه –بطريقة غير علمية- لتأييد زعمه الباطل بأن النبي كان يعرف القراءة و الكتابة .
و أشير هنا إلى أن الجابري لم يكتف بعدم نقل تعليق القاضي عياض على تلك الرواية ، و إنما علّق عليها بتعليقين ، أولهما إنه قال: (( و يرى بعضهم في كلامه –صلى الله عليه و سلم- عن الحروف بما ذُكر ، دليلا على أنه كان يعرف أشكالها ))[70] . و استنتاجه هذا و إن كان لا يصح –لأن الرواية لم تصح على ما ذكره القاضي عياض- ، فإنه كان عليه –أي الجابري- أن يُوثق تعليقه هذا ،و لا يكتف بقوله : (( و يرى بعضهم )) . فمن هذا البعض ؟ ، فنحن نريد معرفته . إنه لم يذكره لنا ، و لا وثّق كلامه ، و لا صرّح بأنه هو شخصيا صاحب هذا الرأي ،و لا أورده بطريقة لا تُلزمه التوثيق كأن يقول : و قد يرى بعض الناس ، أو و ربما يقول بعض أهل العلم .
و أما تعليقه الثاني فيتمثل في أنه قال : (( و شبيه بهذا ما ورد في حديث رواه البخاري جاء فيه أن النبي-عليه الصلاة و السلام – قال : الدجال ممسوخ العين ، مكتوب بين عينيه كافر ، ثم تهجّاها : ك ف ر ، يقرؤه كل مسلم ))[71] . و هذا الحديث ذكره الجابري ليُدعم زعمه بأن النبي كان يعرف القراءة و الكتابة ، و قد نقله من صحيح البخاري مباشرة ، تعليقا على ما نقله عن القرطبي فيما ذكره عن القاضي عياض ،و لم يُشر إلى أن القرطبي هو أيضا نقل هذا الحديث في نفس الموضع السابق ، رد به على الذين يحتجون به . فالجابري تجنب الأمر كلية ، فعندما وجد الحديث عند القرطبي ، تجاوزه و رجع إلى البخاري مباشرة و أخذ منه الحديث ، و أغفل ما قاله القرطبي في شرحه للحديث شرحا صحيحا . فالجابري لم يُعجبه ما قاله القرطبي فتجاوزه ،و وظّف الحديث على طريقته . و أما نص كلام القرطبي فيتمثل في قوله : (( فإن قيل : فقد تهجى النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر الدجال فقال : ( مكتوب بين عينيه ك ا ف ر ) وقلتم إنا المعجزة قائمة في كونه أميا قال الله تعالى : { وما كنت تتلو من قبله من كتاب } الآية وقال : ( إنا امة أمية لانكتب ولا نحسب ) فكيف هذا ؟ فالجواب ما نص عليه صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة والحديث كالقرآن يفسر بعضه بعضا ففي حديث حذيفة : [ يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب ] فقد نص في ذلك على غير الكتاب ممن يكون أميا وهذا من أوضح ما يكون جليا ))[72] .
و رابعا إن الجابري كما أنه لم يكن أمينا في نقله لكلام القرطبي ، ف،ه أيضا لم يُحاول تمييز صحيح تلك الروايات من سقيمها ، فاعتمد عليها مباشرة من دون أي تحقيق لها ،و هذا عمل غير علمي ، لأن تاريخنا العلمي ،و السياسي ،و الاجتماعي المتعلق بالقرون الثلاثة ، هو تاريخ مملوء بالروايات التاريخية و الحديثية المكذوبة ،و الضعيفة –إلى جانب الصحيحة- فهذا التاريخ فيه جانب كبير لعبت به الأهواء و العصبيات ، لتحقيق أغراض دينية ، و مذهبية ، و سياسية ، و عرقية[73] .
و بما أن الوضع كذلك ، فلا يصح أبدا الاعتماد على كتب التراث الإسلامي من دون معرفة مؤلفيها جرحا و تعديلا من جهة ، و تحقيق متونها و أسانيدها من جهة أخرى . و هذا العمل لم يقم به الجابري أصلا ، و وجدناه يعتمد على الروايات الضعيفة و الموضوعة و الصحيحة على حد سواء .
فمن ذلك أنه ذكر ثلاثة أحاديث لتأييد ما ذهب إليه ، و سكت عن درجتها من حيث الصحة و الضعف و البطلان ، أولها حديث الشعبي الذي يقول : (( ما مات النبي-صلى الله عليه و سلم- حتى كتب )) . و هذا حديث ضعيف مُنكر ، بل موضوع في إسناده جماعة من الضعفاء و المجهولين[74] .
و الثاني هو حديث (( ألق الدواة ،و حرّف القلم ...)) ، و هذا حديث غير صحيح ، فلم أعثر له على أي أثر في المؤلفات الحديثية المعروفة ، كالصحاح ، و السنن ن و المسانيد ، و المعاجم ، و الموطآت . و قد ضعّفه الفقيه ابن عطية ، و ذكر الحافظ ابن حجر أن الجمهور ضعّفوا هذا الحديث[75] .
و أما الثالث فهو حديث صحيفة عيينة بن حصن الذي ذكر أن النبي-عليه الصلاة و السلام- قرأ الصحيفة و فهمها ،و أخبر ما فيها . و هذا الحديث هو أيضا لا يصح ، أولا مخالف للقرآن الذي نص صراحة على أن رسول الله كان أميا لا يقرأ و لا يكتب . و إذا قيل أنه تعلّم بعض القراءة بعد النبوة ، فهذا لا يصح أيضا لأنه مخالف للقرآن و نقض له ، الذي وصف النبي-عليه الصلاة و السلام- بأنه النبي الأمي بصيغة التعريف ، فإذا قيل بعد ذلك أنه تعلّم القراءة و الكتابة تعلما كاملا ، أو ناقصا ،أو شبه ناقص ، فهو نقض للقرآن ، لأن النبي في هذه الحالة لا يصبح هو النبي الأمي ، و لا ينطبق عليه وصف القرآن له بذلك . لذا فإن أية رواية تزعم أن رسول الله كان يعرف القراءة و الكتابة ، أو انه تعلّم ذلك بعد النبوة ، فهي رواية باطلة بالضرورة . هذا فضلا على أنه لا توجد رواية حديثية و لا تاريخية صحيحة تُثبت أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان يعرف القراءة و الكتابة .
و ثانيا إن الحافظ ابن حجر العسقلاني ذكر أن هذا الحديث لا يصح ، و قد قال الجمهور بضعفه[76]. و ثالثا إن ذلك الحديث لا يصح أيضا لأن حديث صحيفة عيينة بن حصن صح من طريق صحيح ،و لا يُوجد فيه أن رسول الله أخذ الصحيفة فنظر فيها و قرأها و فهمها . و الصحيح هو أن النبي- عليه الصلاة و السلام- عندما أمر معاوية بأن يكتب لعيينة ما طلب ، أراد عيينة التأكد من هل كتب له ما أراد أم لا ؟ ، فعاد إليه مرة أخرى و اتصل بمعاوية ، الذي هو بدوره اتصل برسول الله و أخبره بالأمر . و لم تذكر الرواية أنه أخذ منه الصحيفة ، ولا قرأها ، فالرواية لم تشر إلى ذلك مطلقا . فلما سمع بذلك رسول الله قال : (( من سأل و عنده ما يُغنيه ، فإنه يستكثر من نار جهنم ))[77] .
و بذلك يتبين أن الرواية التي ذكرها الجابري لا تصح ، و هو قد نقلها عن القرطبي ، فلو رجع إلى مصادر الحديث المعتبرة لوجد الحديث الصحيح في مُسند أحمد ،و سنن أبي داود ، الذي لا تُوجد فيه تلك الزيادات الباطلة المقحمة في الحديث .
( ج )استدلال الجابري باللغة العربية :
استدل الجابري باللغة العربية لتأييد زعمه بأن رسول الله كان يعرف القراءة و الكتابة ، فتمثّل ذلك في أنه أدعى أن لفظ أمي ، و ما اشتق منه كأمية، و أميين هو لفظ مُعرّب لا أصل له في اللغة العربية . و زعم أيضا أن هذا اللفظ هو مصطلح قرآني خاص ، كالمصطلحات القرآنية الأخرى التي ليس لها أصل في اللغة العربية . و قال إن المعاجم العربية لم تذكر شاهدا من الشعر أو النثر العربي قبل الإسلام ورد فيه لفظ أمي ، بمعنى عدم المعرفة بالقراءة و الكتابة . لكن كل ما فعلته تلك المعاجم أنها حاولت أن تجد للفظ أمي صلة بلفظ الأم . و كان اللغوي الزجاج(ت310هجرية) قد اقترح أن يكون لفظ الأمي نسبة إلى الأم ، ثم أوّله بأن الأمي هو الذي تلده أمه لا يقرأ و لا يكتب . و عنه أخذه آخرون ، كابن منظور الإفريقي صاحب لسان العرب ، مما أعطى لاقتراحه صدقية . فأصبح الأمي من لا يعرف القراءة و الكتابة. ثم قرر أن هذا المعنى لعبارة أمي هو اجتهاد من علماء اللغة في أيجاد أصل كلمة أمي في لغة العرب[78] .
و قوله هذا لا يصح ، و فيه تغليط للقراء و تدليس عليهم ، لأنه أولا إذا سلّمنا أنه لم يرد عن العرب قبل الإسلام شاهد لغوي يدل على أن معنى أمي و أميين هو الذي لا يعرف القراءة و الكتابة ، فهذا ليس دليلا على ان العرب لم يعرفوا ذلك المعنى . لأن ما وصلنا من تراث العرب العري و النثري قبل الإسلام هو قليل بالمقارنة إلى إنتاجهم في الشعر و النثر طيلة العصر الجاهلي الطويل . فعدم العثور-على فرض ذلك- على شاهد شعري أو نثري يدل على أن معنى أمي عند عرب الجاهلية هو الذي لا يقرأ و لا يكتب ، ليس دليلا صحيحا و لا قطعيا على عدم وجود هذا المعنى عندهم . فعدم عثورنا على ذلك لا يدل على انه غير موجود .
و ثانيا إن المعاجم العربية ليس واجبا عليها بأن تورد شاهدا لغويا عن عرب الجاهلية ، كلما أرادت تحديد معنى لغوي لكلمة من الكلمات . و إنما يكفيها أن تورد الشواهد من القرآن ،و السنة النبوية ، و أقوال الصحابة و التابعين ،و أقوال أعراب البادية ،و علماء القرنين الأول و الثاني . و القرآن الكريم هو المصدر الأول و الأساسي للغة العربية ،و الذي لا يُضارعه أي مصدر من مصادر اللغة العربة ، و قد أنزله الله تعالى بلسان عربي مبين ، على عرب أقحاح . فهو أساس اللغة العربية و ليس الشعر و لا النثر العربيين قبل الإسلام .
و ثالثا إنه ليس صحيحا بأن اللغوي أبا إسحاق الزجاج (ت 310 هو الذي اقترح معنى عبارة أمي ، ليصبح بذلك أن الأمي هو الذي لا يقرأ و لا يكتب ، كما زعم الجابري . فهذا المعنى ليس اقتراحا من الزجاج و لا اجتهادا من علماء اللغة العربية،و إنما هو معنى أصيل في اللغة العربية قبل أن تُجمع اللغة العربية ، و قبل أن يُولد الزجاج . و ذلك أنه سبق أن اثبتنا بالأدلة الصحيحة و القطعية أن معنى أمي في الشرع و اللغة هو الذي لا يعرف القراءة و الكتابة ، و قد ذكرنا على ذلك الشواهد الكثيرة و المتنوعة من القرآن و الحديث ، و من أقوال علماء القرن الأول الهجري ، كالصحابة و التابعين . ثم من أقوال علماء الفقه و الأدب ، و اللغة و التفسير الذين عاشوا في القرن الثاني الهجري و ما بعده ، من الذين عاشوا قبل الزجاج ،و الذين عاصروه . و من يريد تفصيل ذلك فليرجع إلى المطلب الأول الذي رددنا فيه على الجابري في استدلاله على زعمه بالقرآن .
و رابعا إن زعم الجابري بأن أصل كلمة أمي ليس عربيا ،و إنما هو مُعرّب ، هو مجرد دعوى لم يذكر عليها دليلا صحيحا و لا ضعيفا يُؤيد به ما ذهب إليه . و الدعوى لا يعجز عنها أحد ، ففي مقدور أي إنسان أن يدعي ما يشاء خدمة لأهدافه و مصالحه و أهوائه و ظنونه ؛ لكن ليس في مقدور أي إنسان أن يأتي بالدليل الصحيح على ما يدعيه . لذا فإن زعم الجابري لا يصح ، لأن علماء اللغة الذين اختلفوا في أصل كلمة أمي ، و أميين ، لم يختلفوا في معناها ،و لا في هل هي عربية الأصل أم لا ؟ . فهم قد اتفقوا على معناها ،و على أنها عربية ، لكنهم اختلفوا في مصدرها اللغوي ، فهل هو مأخوذ من كلمة أُم ، أو أُمة[79] ؟ . و في الحالتين فإن العبارة عربية الأصل ، و هذا أمر واضح بيّن لا لًبس فيه ، لأن كلمة أُم ، و أُمة ، عما كلمتان عربيتان مذكورتان في القرآن الكريم و الحديث النبوي ،و هذا أمر لا يحتاج إلى توثيق .
و أُؤكد هنا على أن اللغويين لم يختلفوا في معنى أمي و أميين ، فهم في ذلك موافقون للقرآن الكريم و السنة النبوية ، و أقوال السلف الأول من الصحابة و التابعين و من جاء بعدهم ، من أن معنى أمي على إطلاقه هو الذي لا يقرأ و لا يكتب ، و قد يضيق معناه عندما يُقصد به ما يُريده اليهود عندما يُطلقونه على غيرهم من الأمم ،و هذا سبق أن بيناه و وثّقناه ، فيم تقدم ذكره .
و الجابري يُريد أن يُوهمنا بأن اختلاف أهل العلم في مصدر كلمة أمي ، و أميي ، يتعلق بأصلها هي هل عربية أم لا ؟ . و هذا تغليط مكشوف ، لأن الاختلاف كان في المصدر اللغوي ، أهو أُم ، أو أُمة ، و لم يكن في الأصل ، أهي عربية أو أعجمية .
و أراد أن يُوهمنا أيضا أن اختلاف هؤلاء حول تلك الكلمة لا يتعلق بأصلها فقط ، و إنما يتعلق أيضا بمعناها الذي زعم الجابري أنه لم يكن يعني في الأصل عدم معرفة القراءة و الكتابة ، الذي هو معنى مُستحدث اقترحه الزجاج . و هذا زعم باطل سبق تبيان بطلانه .
و الشواهد الآتية تزيد ما ذكرناه تأكيدا و إثراء، و دحضا لما زعمه الجابري ، أولها يتعلق بمعنى أمي و مصدره عند المفسر ابن جرير الطبري (ت310هجرية ) ، إنه يرى أن الأميين هم الذين لا يكتبون و لا يقرؤون. و قيل للأمي بأنه أُمي نسبة إلى أمه ، لأن الكتابة كانت في الرجال دون النساء ، فنُسب من لا يكتب و لا يخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتابة دون أبيه[80] .
و الشاهد الثاني هو قول للغوي أبي إسحاق الزجاج (ت 310هجرية) ، فالأمي عنده هو الذي لم يتعلم الكتابة ،و المنسوب (( إلى ما عليه جَبَلَتْه أُمُّه ، أي لا يَكتُبُ ، فهو في أَنه لا يَكتُب أُمِّيٌّ ، لأن الكِتابة هي مُكْتسَبَةٌ ، فكأَنه نُسِب إلى ما يُولد عليه ، أي على ما وَلَدَته أُمُّهُ عليه ))[81] .
و الشاهد الثالث- و هو الأخير- هو قول للأديب محمد بن قتيبة (ت276هجرية) ، و الأمي عنده هو الذي لا يكتب ،و قيل له : أُمي ، لأنه (( نُسب إلى أمة العرب ، أي جماعتها ، و لم يكن من يكتب من العرب إلا القليل ، و فنُسب من لا يكتب إلى الأمة ، فقيل : أُمي ، كما نقول : رجل عامي ، ننسبه إلى عامة الناس . ثم لزِم هذا الاسم كل من لا يكتب ، فقيل : العرب أميون ))[82] .
فواضح من هذه الشواهد أن هؤلاء الأعلام لم يختلفوا في معنى أمي ،و لا في أصل الكلمة ، فمعناها عندهم واحد ، و هو الذي لا يقرأ و لا يكتب،و أصلها عربي ، و لم يكن محل خلاف بينهم . و إنما اختلفوا في مصدرها اللغوي كما سبق أن بيناه . و حتى ابن قتيبة الذي جعل مصدرها من الأمة ، - و هو الرأي الذي قال به الجابري أيضا- فإنه لم يُخالف هؤلاء في معناها و أصلها العربي ، لكنه لا يتفق مع رأي الجابري ، مع اتفاقهما على أن مصدرها من كلمة الأمة .
و خامسا إن زعم الجابري بأن لفظ أمي هو مصطلح خاص بالقرآن ، و ليس عربي الأصل ، هو زعم لا يصح بدليل الشواهد الثلاثة الآتية : أولها هو أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين ، لقوله تعالى : (( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ))-الشعراء :193- 195-. و من ثم فإن لفظ أمي هو لفظ عربي أصيل استخداما و اشتقاقا .
و الثاني يتمثل في مخاطبة القرآن الكريم للعرب بأنهم أميون ، كقوله تعالى : (( . هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ))-الجمعة : 2 -و هذا دليل دامغ على أن على أنهم يفهمون معنى هذا اللفظ ،و إلا ما خاطبهم به الله سبحانه و تعالى .
و أما الشاهد الأخير- و هو الثالث- ، فيتمثل في أنه سبق أن بينا أن أهل اللغة العربية اختلفوا في مصدر كلمة أمي ، و هل هي من أُم ، أو من أمة ؟ ، و لم يختلفوا في أصلها العربي و لا في معناها.
( د ) استدلال الجابري بأقوال أهل العلم :
استدل الجابري بٌأقوال بعض كبار أهل العلم في معنى أمي و أميين ، محاولة منه لتوظيف مواقفهم و توجيهها لتأييد زعمه بأن معنى أمي ليس هو الذي لا يعرف القراءة و الكتابة،و إنما هو لفظ أطلق على أمة العرب التي ليس لها كتاب منزل . فهل وُفق فيما ذهب إليه ؟ .
إنه استدل بثلاثة أقوال ، أولها للصحابي عبد الله بن عباس ، و ثانيها للنحوي أبي زكريا الفراء(ت207هجرية) ،و ثالثها لشيخ الإسلام ابن تيمية(ت 728هجرية ) . فأما الأول فيتعلق بتفسير قوله تعالى : ((وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ))-البقرة : 78 - ،و قد ذكر الجابري أن ابن عباس-رضي الله عنه- قال في معنى ذلك : (( الأميون قوم لم يُصدقوا رسولا أرسله الله ، و لا كتاب أ،زله الله ، و فكتبوا كتابا بأيديهم ثم قالوا لقوم سفلة : هذا من عند الله . و قد قال القرآن : إنهم يكتبون الكتاب بأيديهم ، ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله و رسله ))[83] .و يرى الجابري أن الأمين الذين ذكرتهم الآية هم جماعة من العرب اعتنقوا اليهودية ،و لا علم لهم بالتوراة ،و إنما يختلقون كلاما و يقولون إنه من التوراة . و بما ان معنى الأمي عند الجابري ليس الذي لا يعرف القراءة و لا الكتابة ، و إنما هم العرب الذين ليس لهم كتاب مُنزل ، فإنه رجّح ما قاله ابن عباس في معنى أميين المذكورين في الآية ، مخالفا بذلك ما قاله جميع المفسرين تقريبا في أن الآية تتعلق بطائفة من اليهود تجهل القراءة و الكتابة[84] .
و رأيه هذا –الذي انتصر له- لا يصح ، لأنه أولا سبق أن بينا أن التفسير الصحيح لتلك الآية ليس هو كما ذهب إليه الجابري ،و إنما هو خلافه ،و قد أثبتنا ذلك بالأدلة القاطعة في المطلب الأول من هذا المبحث . .
و ثانيا إن ذلك القول المنسوب لابن عباس-رضي الله عنه- هو قول لا تصح نسبته إليه ، لأن إسناده ضعيف ، و قد قال الحافظ ابن كثير : إن إسناد رواية ابن عباس فيه نظر[85]. و من رجاله بشر بن عمارة ، و الضحاك بن مزاحم[86] ، الأول ضعيف، و الثاني كان كثير الإرسال ، و لم يسمع من ابن عباس[87] .
و ثالثا إن لابن عباس أقوالا أخرى في معنى أمي ، و أميين ، تخالف ما ذكرته عنه تلك الرواية الضعيفة المنسوبة إليه . فمن ذلك إنه فسّر معنى الأميين في قوله تعالى : (( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ ))-آل عمران : 20 - بأنهم الذين لا يكتبون . و فسّر قوله تعالى : ((وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ))-العنكبوت : 48- من قلبه من كتاب ))، بقوله : (( كان نبيكم أميا لا يقرأ و لا يكتب و لا يحسب ))[88] .
و رابعا إن ذلك التفسير –المنسوب إلى ابن عباس- هو تفسير غير صحيح لمعنى أميين ، و لا يصدق على العرب،و لا على اليهود . و قد انتقده الطبري عندما قال : (( و هذا التأويل على خلاف ما يُعرف من كلام العرب المستفيض بينهم . و ذلك أن الأمي عند العرب هو الذي لا يكتب[89] ,
و أما لماذا لا يصدق على العرب ؟ ، فسبب ذلك هو أن ذلك القول- المنسوب إلى ابن عباس – وصف الأميين المذكورين فيه ، بأنهم لم يُصدّقوا رسولا أرسله الله ، و لا رسولا أرسله الله ،و لا كتابا أنزله الله ، فكتبوا كتابا بأيديهم ... . و العرب المشركون الذين خاطبهم القرآن ، ما جاءهم رسول قبل محمد- عليه الصلاة و السلام- ، و لا جاءهم كتاب منزل قبل القرآن . ،و لا كتبوا كتابهم بأيديهم و قالوا هو من عند الله . و هذه حقائق ثابتة لا شك فيها . و أما لماذا لا يصدق على اليهود أيضا ؟ ، فالسبب هو أن اليهود أمنوا برسل أرسلهم الله إليهم ، و بكتبهم التي جاؤوا بها ،و لم يجحدوا كل كتب الله و رسله . و نحن ننزه حَبر الأمة-أي ابن عباس- من أن يقول هذا الكلام الباطل شرعا و تاريخا ، فهو كلام لا يقوله إلا جاهل ،و لا يقوله عالم يعي ما يقول .
فالجابري أغفل أقوال ابن عباس الصحيحة التي تخالف ما ذهب إليه ، و تمسك بقول باطل متنا و إسنادا ، و التي ترده أيضا أقوال ابن عباس الأخرى التي ذكرنا طرفا منها .
و أما قول الفراء ، فإن الجابري أخذ به ،و رجّحه على رأي الزجاج ،و مفاده هو أن المقصود بالأميين هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب . و رأيه هذا-عند الجابري- أحق بأن يُتبع من رأي الزجاج . لأن الفراء أسبق زمنيا من رأي الزجاج الذي اقترح أن معنى الأمي هو الذي لا يقرأ ،و لا يكتب ، و مصدره من كلمة أُم[90] .
و أقول : إن الجابري لم يُوثق ما نقله عن الزجاج و لا عن الفراء ، و كان عليه أن يُوثق ذلك ، لكي تسهل العودة إليه ، و نتأكد مما نقله عنهما الجابري ، و من حق القارئ عليه أن يُوثق كل ما ينقله في كتابه .
وأما ما نقله عن الفراء ، فإنه-أي الفراء- لم يكن في صدد تحديد المصدر و المعنى الدقيق و الشامل لكلمتي أمي و أميين من الناحية اللغوية ،و الشرعية ، و إنما كان في صدد تفسير قوله تعالى : ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ ))-الجمعة : 2- ، فقال : هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب))[91] . بمعنى أنهم الأميون من العرب الذين لم يكن لهم كتاب يقرؤونه و لا يكتبونه ، و هذا تفسير صحيح. و هو جزء من المعنى الشامل لكلمتي أمي و أميين ، و هذا سبق أن ناقشناه و بيناه و وثقناه في المطلب الأول من هذا المبحث ، و بينا خطأ الجابري فيما ذهب إليه ، فلا نعيده هنا .
لذا فإن تفسر الفراء- السابق الذكر- هو تفسير خاص بتلك الآية و ما يُشبهها ،و لا يصلح لتفسير- مثلا- قوله تعالى : ((وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ))- البقرة : 78 - ،و (( قالوا ليس لنا في الأميين سبيلا )) . و ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ))-الأعراف : 157 - . الآية الأولى تخص جماعة من اليهود لا تعرف قراءة التوراة و لا كتابتها . و الثانية تخص كل الأمم غير الكتابية كأمة العرب و الفرس . و الثالثة تخص النبي-عليه الصلاة و السلام- الذي جمع بين أميتين : الأولى أنه كان لا يعرف القراءة و الكتابة ،و الثانية أنه كان ينتمي إلى أمة أمية من جهتين : الأولى أنه ينتمي إلى أمة تغلب عليها الأمية ، و الثانية أنه ينتمي إلى أمة ليس عندها كتاب منزل ، و من ثم فهي لا تقرأ كتابا منزلا و لا تكتبه .
و عليه فإنه لا يُوجد أي تناقض بين التفسير الخاص الذي فسّر به الفراء قوله تعالى : ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ))-الجمعة : 2- ،و بين التفسير العام الذي ذكرناه ، فهو جزء منه . كما أنه لا يتناقض مع التفسير الذي قال به الزجاج الذي حدد المعنى الشامل لكلمتي أمي و أميين ، بمعنى عدم معرفة القراءة و الكتابة . و تعريفه هذا ليس من إبداعه ، بل هو تعريف معروف و أصيل ، مصدره القرآن الكريم ، و الحديث النبوي ،و لغة العرب كما كانت زمن الصحابة و التابعين قبل يُولد الفراء[92] .
و حتى إذا افترضنا أن الفراء قال : إن معنى كلمتي أمي ، و أميين يعني العرب غير الكتابين فقط ،و لا يحمل مطلقا معنى عدم معرفة القراء و الكتابة . فهو قول غير صحيح ، و باطل مردود على قائله . لأنه سبق أن بينا بالأدلة القاطعة و الدامغة بأن معنى ذلك هو الأمي الذي لا يعرف القراءة و الكتابة ، و أثبتنا ذلك بالقرآن الكريم ، و السنة النبوية ، و أقوال الصحابة و التابعين و تابعيهم . و عليه فإن هذا القول المُفترض لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتقدم على النصوص الشرعية ،و أقوال العلماء الأوائل من الصحابة و التابعين و تابعيهم .
و أما استدلاله بقول الشيخ تقي الدين بن تيمية ، فإنه ذكر أن ابن تيمية أخذ برأي الفراء في نسبة عبارة أمي إلى الأمة ، لا إلى الأم ، و بالتالي إلى الأمم التي ليس لها كتاب مُنزل . فذكر أن ابن تيمية قال : (( و الصواب أنه نسبة إلى الأمة ، كما يُقال : عامي نسبة إلى العامة ، التي لم تتميز بما تمتاز به الخاصة )) . و قال في معنى قوله تعالى : ((فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ))-الأعراف : 158- : هو أمي (( بهذا الاعتبار لأنه لا يكتب و لا يقرأ ما في الكتب( يعني التوراة و النجيل )[93] لا باعتبار أنه لا يقرأ من حفظه ، بل كان يحفظ القرآن أحسن حفظ )) . ثم نقل قول ابن تيمية في معنى قوله تعالى : ((وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ))-البقرة : 78 - ، فقال الجابري : (( و يشرح ابن تيمية المقصود بالكتاب هنا فيقول : و الكتاب هنا المراد به الكتاب المنزل . و هو التوراة ، ليس المراد به الخط ، فإنه قال : (( و إن هم إلا يظنون )) ، فهذا يدل على أنه نفى عنهم العلم بمعاني الكتاب (... ) و هؤلاء و إن كانوا يكتبون و يقرؤون فهم أميون من أهل الكتاب، كما نقول نحن لمن كان كذلك : هو أمي ساذج ، و عامي ، و إن كان يحفظ القرآن و يقرأ المكتوب إذا كان يعرف معناه ))[94]
و أقول : إن الجابري لم يكن أمينا فيما نقله عن الشيخ ابن تيمية ، فقد مارس التحريف و التغليط و التدليس ، في ذكره لموقف ابن تيمية و توجيهه ليُدعم به رأيه في مصدر كلمة أمي و معناها ،و بيان ذلك فيما يأتي :
أولا إن ترجيح ابن تيمية للرأي القائل بأن مصدر كلمة أمي ، هو الأمة و ليس الأم ، فهو ترجيح يتعلق بمصدر كلمة أمي ، و لا يعلق بمعناها على ما أراد أن يُوهمنا به الجابري من أن قول الشيخ بذلك يعني أنه يقول برأي الجابري الذي يعني أن معنى أمي و أميين ، يعني الأمة و الأمم التي ليس لها كتاب مُنزل فقط . فهذا رأي لا يصح ، لأن الجابري نسي أو تناسى ، أن هؤلاء سموا أميين لأنهم لا يعرفون الكتاب الإلهي و لا يقرؤونه و لا يكتبونه ، فهذا هو سبب تسميتهم بذلك . لذا أطلق الله تعالى على جماعة من أهل الكتاب أنفسهم بأنهم أميون ، لأنه لا علم لهم بالكتاب قراءة و كتابة و فهما .
و الشيخ ابن تيمية – مع قوله بذلك- فإنه نصّ صراحة على أن معنى أمي ليس كما زعم الجابري الذي أراد أن يُوجه كلام الشيخ إلى ما يريده هو . فقد نص على أن معنى أمي واسع ، يشمل عدم معرفة القراءة و الكتابة ، و افتقاد الكتاب الإلهي ،و عدم قراءته أيضا . فقال : (( و يُقال الأمي لمن لا يقرأ ، و لا يكتب . ثم يُقال لمن ليس لهم كتاب مُنزل من الله يقرؤونه ،و إن كان قد يكتب و يقرأ ما لم يُنزّل . و بهذا المعنى كان العرب كلهم أميين ...))[95] .
و ثانيا إن الجابري –عندما نقل تفسير ابن تيمية لتلك الآية- و فسّره بأنه الذي لا يقرأ و لا يكتب ما في الكتب )) تدخل الجابري و فسّر عبارة (( ما في الكتب )) بقوله : ( يعني التوراة و الإنجيل )) وضع ذلك بين قوسين داخل كلام ابن تيمية ، ثم و اصل نقل كلامه . فعمله هذا هو تصرف غير علمي في توجيه كلام الشيخ ليُؤيد به الجابري رأيه . كما أن الذي لا ينتبه للزيادة الموضوعة بين قوسين ، يعتقد أنها جزء من كلام ابن تيمية ،و الحقيقة ليست كذلك . فالجابري قد مارس نوعا من التحريف و التدليس ما أدى إلى تغيير المعنى . فكلام الشيخ هو : (( ...لأنه لا يكتب و لا يقرأ ما في الكتب ، لا باعتبار أنه لا يقرأ من حفظه ، بل كان يحفظ أحسن حفظ )). فهذا كلام عام يشمل عدم القراءة من كل الكتب ،و لا يخص كتابا و لا كتابين و لا كتبا معينة بذاتها . و قد حد ها الجابري بكتابين هما : التوراة و الإنجيل ، مع أن كلام ابن تيمية واضح لا يُوجد فيه أي تحديد (( لا يقرأ ما في الكتب )) ، فلا توجد فيه أية قرينة تدل على أن صاحبه أراد كتبا معينة بذاتها . و الشيخ استخدم صيغة الجمع ، مما يعني كل الكتب مطلقا ، و لم يستخدم صيغة التثنية ، فلو قصد بقوله التوراة و الإنجيل لاستخدم صيغة التثنية .
و مما يُبطل زعمه أيضا هو أن الشيخ ابن تيمية لم يكن يعتقد بأن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان أميا بمعنى أنه لا يقرأ و لا يكتب التوراة و الإنجيل ، كما أراد أن يُوهمنا بذلك الجابري . و إنما كان يعتقد أن رسول الله كان فعلا لا يعرف القراءة و الكتابة مطلقا ، بدليل ، ما نقلناه عنه سابقا ،و بما سنذكره من الشواهد القاطعة الدامغة فيما يأتي :
منها إنه نص على أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان (( كان أميا لا يقرأ كتابا ، ولا يحفظ كتابا من الكتب لا المنزلة ولا غيرها . ولا يقرأ شيئا مكتوبا لا كتابا منزلا ولا غيره، ولا يكتب بيمينه كتابا ، ولا ينسخ شيئا من كتب الناس المنزلة ولا غيرها )) . و منها إنه قال : (( وكان أميا من قوم أميين ، لا يعرف لا هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب التوراة والإنجيل ، ولم يقرأ شيئا عن علوم الناس ولا جالس أهلها ))[96] . و (( كان أميا نشأ بين قوم أميين ، لم يكن يقرأ كتابا ، و لا يكتب بخطه شيئا ))[97] . و كانت أميته من (( جهة أنه لا يكتب و لا يقرأ مكتوبا))[98] .
و ثالثا إن الجابري نقل كلاما متفرقا لابن تيمية في سياقات متنوعة ، و ذكره في فقرة واحدة تتعلق بفكرة واحدة موضوعها تفسير قوله تعالى : (( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ))-البقرة : 78- ، و من دون أن يذكر مقدمات كلام الشيخ و لا مقصوده منه ، ليُوهمنا و يُغالطنا بأن معنى الأمي عند ابن تيمية لا يعني الذي لا يقرأ و لا يكتب ، فقد يكون الإنسان يقرأ و يكتب و هو من الأميين . و كلام الجابري هذا سبق أن نقلناه ،و الجزء الأول منه يبدأ بقول ابن تيمية : (( و الكتاب هنا المراد به الكتاب المنزل ... إلى: العلم بما في الكتاب )) . ثم وضع الجابري ثلاثة نقاط بين قوسين إشارة إلى كلام محذوف . ثم بدأ الجزء الثاني من كلام الشيخ ابن تيمية ، بقوله : (( و هؤلاء و إن كانوا يكتبون و يقرِون ، فهم أميون من أهل الكتاب ، كما نقول : ... إلى : كان يعرف معناه )) .
فواضح من كلامه أن الأميين المقصودين هم طائفة من اليهود كانت تعرف القراءة و الكتابة ، و مع ذلك فهم من الأميين . لكن الحقيقة حلاف ذلك ، و ليس كما أراد أن يُوهمنا به الجابري . لأن كلام ابن تيمية ليس كما أراد أن يُوهمنا به الجابري ، و إنما له وجهان مرتبطان بتفسير ابن تيمية لتلك الآية ، و هذا لم يشر إليه الجابري . فالشيخ ذكر الوجهين ثم شرحهما بقوله : (( فهؤلاء الأميون الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني و إن هم إلا يظنون . فعن ابن عباس و قتادة في قوله L( و منهم أميون )) أي غير عارفين بمعاني الكتاب يعلمونها حفظا و قراءة بلا فهم ، و لا يدرون ما فيه . و قوله (( إلا أماني )) أي تلاوة ، فهم لا يعلمون فقه الكتاب ، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم قاله الكسائي و الزجاج . و كذلك قال ابن السائب : لا يحسنون قراءة الكتاب و لا كتابته إلا أمانى إلا ما يحدثهم به علماؤهم . و قال أبو روق و أبو عبيدة : أي تلاوة و قراءة عن ظهر القلب ، و لا يقرؤونها في الكتب . ففي هذا القول جعل الأماني التي هي التلاوة ، تلاوة الأميين أنفسهم و في ذلك جعله ما يسمعونه من تلاوة علمائهم ، و كلا القولين حق و الآية تعمهما فإنه سبحانه و تعالى قال: لا يعلمون الكتاب ،و لم يقل: لا يقرؤون و لا يسمعون . و قال أيضا : (( أي لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة لا يفهمون معناها . و هذا يتناول من لا يحسن الكتابة و لا القراءة من قبل ، و إنما يسمع أماني علما كما قال إبن السائب و يتناول من يقرأه عن ظهر قلبه و لا يقرأه من الكتاب كما قال أبو روق و أبو عبيدة ))[99] .
و بذلك يتبين أن الشيخ فسّر تلك الآية تفسيرا عاما يشمل طائفة من أهل الكتاب كانت لا تفهم الكتاب المنزل ، إما لأنها لا تقرأ و لا تكتب و لا تفهم ، و إما لأنها تقرأ و تكتب و لا تفهم ، فالآية تشمل كل هؤلاء . و كلام الشيخ الأخير هو الذي أشار إليه الجابري و عبّر عنه بقوله : (( و هؤلاء و إن كانوا يكتبون و يقرؤون فهم أميون من أهل الكتاب ))، و قد بناه على الوجه الذي يخص الذين يقرؤون الكتاب و يكتبونه و لا يفهمونه ، فهم أميون مع معرفتهم للقراءة و الكتابة ، كالصنف الأمي الآخر الذين لا يقرؤون و لا يكتبون و لا يفهمون . فالصنفان جمعتهما الآية تحت اسم الأميين ، فعلة الأمية هنا إما من عدم معرفة القراءة و الكتابة ، و إما من عدم الفهم . و هذا التفسير ينطبق على الآية التي فسّرها ابن تيمية . علما بأن الأمي عند ابن تيمية هو الذي لا يقرأ و لا يكتب ، هو الذي ينطبق على النبي-عليه الصلاة و السلام ،و هذا سبق بيانه و توثيقه آنفا .
و يُستنتج من ذلك أن الجابري لم يكن أمينا في نقله لكلام ابن تيمية ، فمارس التحريف و التغليط و التدليس ،و وجه كلامه توجيها يُؤيد رأيه الذي يقول به ، على حساب الحقيقة . فالشيخ على خلاف أساسي معه ، الذي نصّ صراحة على أن رسول الله كان لا يعرف القراءة و الكتابة ،و هذا خلاف زعم الجابري .
و ختاما لهذا المبحث- أي الأول- يتبين جليا أننا تتبعنا مزاعم الجابري و أباطيله المتعلقة بدعوى معرفة النبي-عليه الصلاة و السلام- للقراءة و الكتابة ، و أثبتنا تهافتها و بطلانها بالأدلة الصحيحة من القرآن الكريم ، و السنة النبوية ، و اللغة العربية ، و أقوال الصحابة و التابعين و من جاء بعدهم .
ثانيا : زعم الجابري بضياع آيات من القرآن الكريم :
قبل أن يُفصح الباحث محمد عابد الجابري عن موقفه من هل تعرّض القرآن للتحريف بالزيادة ، أو بالنقصان ، أو بهما معا ؟ . فإنه تساءل عن ذلك أولا ، ثم ذكر طائفة من الروايات التاريخية اعتمد عليها فيما ذهب إليه ثانيا . ثم ذكر موقف الشيعة و أهل السنة من ذلك الاحتمال ثالثا . ثم أفصح عن موقفه النهائي من ذلك رابعا . و نحن سنتتبع مزاعمه و أباطيله المتعلقة بهذا الموضوع ،و نُبين تهافتها و بطلانها كلها ، إن شاء الله تعالى .
أولا إنه بعدما تساءل : هل المُصحف الموجود اليوم يضم جميع ما نزل من القرآن ، أم سقطت أو رُفعت منه أشياء[100] . ثم شرع في ذكر الروايات[101] التي تتعلق بذلك . أولها ما ذكره نقلا عن القرطبي ، و مفادها أن عائشة أم المؤمنين –رضي الله عنها- قالت : (( كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله-صلى الله عليه و سلم- مائتي آية ، فلما كُتب المصحف لم يقدر منها إلا على ما هي عليه الآن))[102] –أي 73 آية - . فهل هذه الرواية صحيحة ؟ .
إنها لا تصح إسنادا و لا متنا ، فأما إسنادها فقد أورده القرطبي عن أبي بكر الأنباري ، الذي قال : و قد حدثنا ابن أبي مريم ، عن أبي لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عائشة قالت : ... ))[103] . و هذا الإسناد لا يصح لأمرين ، أولهما وجود عبد الله بن لهيعة ، و هو ضعيف[104] . و الثاني هو أن هذا الخبر لا يُوجد فيه تصريح بالسماع عند كل الرواة ، ففيه عنعنة ابن أبي مريم ، و ابن لهيعة ، و أبي الأسود . و قد ذكر المفسر المعاصر ابن عاشور أن تلك الرواية رواها القاسم بن سلام ، و أبو بكر بن الأنباري بسند ضعيف[105] .
و أما متنها فهو مُنكر ، لأنه إذا كان المقصود من تلك الرواية أن سورة الأحزاب سقط منها أكثر من النصف بسب النسخ ، فإن النسخ لم يحدث و لا يحدث إلا في زمن النبي-عليه الصلاة و السلام – و على يده فقط . لذا فلو حدث ذلك ، فإنه حدث بأمر منه و في زمانه . و لا يصح أن يقال : إنها أُسقطت زمن عثمان عندما كتب المصاحف ، و هذا الذي أشارت إليه الرواية[106] . لأنه لا يصح و لا يُعقل أن يُنسخ ذلك العدد الكبير من آيات سورة الأحزاب ، و يبقى المسلمون يتلونها إلى سنة 25 هجرية ، عندما كتب عثمان المصاحف إلى الأمصار . فهذا باطل ، لأن النسخ عندما كان يحدث زمن نزول الوحي ، فـإن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان يُبلّغ أمته حالا ،و ما عليها إلا الالتزام بذلك . و أما الزعم بأنها ظلت تُتلى مع نسخها فهذا باطل بالضرورة الشرعية .
و أما إذا كان المقصود من تلك الرواية أن إسقاط نصف سورة الأحزاب تَمّ زمن عثمان ،و لا علاقة له بالنسخ الشرعي ، و هذا هو ظاهر الرواية ، فهو أمر لا يصح ،و لا يمكن قبوله من جهة ، و هو اتهام خطير للصحابة و طعن فيهم من جهة أخرى .
و أما لماذا لا يصح ، فإن ذلك يعني أن القرآن أُنقص منه كثير من الآيات ، و هذا باطل ، لأن الله تعالى تكفل بحفظ في قوله تعالى : ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))-الحجر : 9- ، و ((وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ))- فصلت :41- 42 - ، و ((الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ))-هود : 1-. و لأن الصحابة الذين زكاهم الله تعالى ، و شهد لهم بالإيمان و العمل الصالح ،و جعلهم قدوة للأمة ، لا يمكن أن يُقدموا على إسقاط حرف من القرآن . و قد نصت الروايات الصحيحة على أن الصحابة جمعوا القرآن كله زمن الصدّيق ، و وحّدوه زمن عثمان بطريقة علمية جماعية حازت إجماع الصحابة كلهم ، و قد شملت القرآن كله من دون زيادة و لا نقصان[107] .
و أما إذا قيل : إن المقصود بذلك الإسقاط أو الإنقاص هو أن الصحابة أسقطوا المنسوخ من سورة الأحزاب ، فهذا احتمال لا يصح ، لأن الرواية لم تُشر إلى ذلك ،و لا إلى سبب الإسقاط المزعوم . و لا يُعقل أن يُنسخ أكير من نصف سورة الأحزاب زمن النبي-عليه الصلاة و السلام- ، و يبقى المسلمون يتلون هذا المنسوخ بعد وفاته ، إلى زمن عثمان- رضي الله عنه- سنة 25 هجرية ، أي لمدة 15 سنة . فهذا احتمال لا يصح ، و لا يمكن قبوله ، لأن النسخ كان يتم في حياة رسول الله و بأمره ، فما كان من المسلمين إلا الالتزام بأوامره حالا و بدون تأخر .
و مما يُبطل ذلك أيضا هو أن الرواية نصت على أن عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- هي التي روت ذلك ،و كانت على علم بالقسم المنسوخ من سورة الأحزاب ، إلى أن أُسقط عندما كتب عثمان المصاحف . و هذا لا يصح في حقها ، لأنه يعني أنها كانت تعلم بذلك المنسوخ ، و سكتت عنه ، و لم تنبه المسلمين إلى ذلك . و هذا كتمان للحقيقة ، و تضليل للمسلمين ،وإقٌرارهم على مخالفة الشرع الذي نص على ذلك النسخ من جهة . و فيه إساءة لها و للصحابة من جهة أخرى .
و أما الرواية الثانية فمفادها أن الجابري ذكر أن السيوطي- و غيره- قال : إن دعاء القنوت كان من جملة القرآن المنزل على النبي-عليه الصلاة و السلام- ،و أنه كان (( سورتين ، كل سورة ببسملة و فواصل ، إحداهما تسمى سورة الخلع ، و الأخرى تسمى سورة الحفد . و رُوي أنهما كانتا في مصحف ابن عباس ،و أُبي بن كعب ، و ابن مسعود ،و أن عمر بن الخطاب قنت بهما في الصلاة ،و أن أبا موسى الأشعري كانا يقرأهما )) . ثم قال الجابري : (( غير أن علماء السنة قد اعتبروهما ضربا من الدعاء لا قرآنا منزلا . و هما بالتتابع (( اللهم إنا نستعينك و نستغفرك و نثني عليك ، و لا نكفرك ،و نخلع و نترك من يفجرك )) . و (( اللهم أياك نعبد ، و لك نصلي و نسجد ، و إليك نسعى و نحفد ، نرجو رحمتك ، و نخشى عذابك ، إن عذابك بالكافرين ملحق ))[108] .
و أقول : أولا إن الجابري ترك الأمر مُلغزا مُعلقا ، و كان عليه أن يجمع الروايات المتعلقة بالموضوع و يحققها ،و يفصل فيها ، لكنه لم يفعل ذلك و كأنه فعله عمدا ، ليصل إلى القول بأن القرآن نقُصت منه سُور بأكملها . و الصواب في هذا الموضوع هو أن ذلك الدعاء ليس قرآنا ،و لا كان قرآنا و نُسخ ، و إنما هو دعاء قاله النبي-عليه الصلاة و السلام- ، بدليل الشواهد الآتية :
أولها هو أني تتبعتُ روايات سورتي الحفد و الخلع المزعومتين ، في مصنفات علوم القرآن و الحديث ، كمصنف عبد الرزاق ، و مصنف ابن أبي شيبة ، و الاتقان في علوم القرآن ، و الدر المنثور للسيوطي ، و كتاب الدعاء للطبراني ، فلم يصح منها و لا إسناد[109] .
و الثاني هو أنه توجد روايات أخرى بعضها صحيح الإسناد ذكرت ذلك الدعاء على أنه دعاء القنوت ، و لم تُشر –من قريب و لا من بعيد- إلى أنه قرآن ، و لا هو يمثل سورتي الحفد و الخلع . و من الذين رووا ذلك : يحيى بن معين ، و أحمد بن حنبل ، و الطحاوي ، و البيهقي ، و عبد الرزاق ، و ابن أبي شيبة ، و ابن خزيمة[110] .
و الشاهد الثالث مفاده أن تلك الرواية زعمت أن سورتي الخلع و الحفد كانتا في مصحف أُبي بن كعب ، و ابن عباس ، و ابن مسعود- رضي الله عنهم- . و هذا لا يصح لأن قراءات هؤلاء الأعلام قد وصلتنا بالتواتر ، و هي ضمن القراءات العشرة الصحيحة المُعتمدة ، و لا تُوجد فيها سورتا الحفد و الخلع المزعومتان[111] .
و الشاهد الرابع هو أن السورتين المزعومتين لا يُشبهان القرآن تماما ، فلا توجد فيهما لغته ، و لا روحه ، و لا تركيبه ، و ذوقه ، و لا موسيقاه . فنحن عندما نسمع آية قرآنية واحدة ، نعرف أنها قرآن بالسماع و الذوق ، و هذا لا نجده عند سماعنا للحفد و الخلع ، فهما مجرد دعاء عادي لا غير .
و ثانيا إن الجابري ذكر أن السيوطي قال : إن دعاء القنوت من جملة ما نزل من القرآن ، و أنه كان في سورتين . و نقله هذا ناقص ، كان عليه أن ينقله كاملا إن كان موضوعيا ، و كأنه تعمّد ذلك لأنه يُؤيد زعمه بضياع جزء من القرآن . و السيوطي قال ذلك لكنه نصّ على أن السورتين منسوختان[112] . و نحن لا نوافق السيوطي فيما قاله عن السورتين المزعومتين ، و قوله لا يصح ، ترده الشواهد التي سبق ذكرها . و لا يُعقل ، و لا يصح أن تُنسخ سورتان من القرآن الكريم زمن النبي –عليه الصلاة و السلام- و لا يعلم بنسخهما خمسة من كبار علماء الصحابة المتضلعين في علوم الشريعة ، و هم : ابن عباس ، و أُبي بن كعب ، و ابن مسعود ، و عمر بن الخطاب ، و أبو موسى الأشعري –رضي الله عنهم- ، و لا يُخبرهما أحد من المسلمين . و الأغرب في الأمر أيضا هو أن تلك الرواية ذكرت أن عمر بن الخطاب و أبا موسى الأشعري كانا يقرآن السورتين أمام الملأ . فهل يُعقل أن يتم ذلك و لا ينبههما أحد من المسلمين بأن الآيتين منسوختان ؟ ، فهل كان كل منهما يعيش في جزيرة منفصلا عن جماهير المسلمين ؟ ، و هل يُعقل أن الأمر يظل خافيا عن هؤلاء الصحابة إلى كتب عثمان المصاحف ؟ . فالحقيقة إذاً هي أن السورتين المزعومتين ليستا من القرآن ، و لا نُسختا منه ،و إنما هما دعاءان من أدعية النبي –عليه الصلاة و السلام- .
و أما الرواية الثالثة فمفادها أن الجابري ذكر رواية –دون توثيق- مضمونها أن عمر بن الخطاب قال لعبد الرحمن بن عوف : (( ألم تجد فيما أُنزل علينا " أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة " ، فأنا لا أجدها . فقال :أُسقطت في ما أُسقط من القرآن ))[113] .
و أقول : إن المقصود بالإسقاط في هذه الرواية هو أن تلك الآية نُسخت من القرآن كما نُسخت آيات أخرى ، لأن النسخ أمر ثابت شرعا ، لقوله تعالى : ((مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))-البقرة : 106- . لكن مع ذلك فإن الرواية لا تصح ، لأن في إسنادها عدم تصريح بالسماع ، فقد عنعنه ابن أبي مريم عن نافع بن عمر الجمحي ، و عنعنه أيضا نافع بن عمر عن أبي مليكة[114] . و هذا يعني أن الإسناد اتصاله غير ثابت .
و أما متنها فظاهره مُنكر ، لأن عبارة (( أُسقطت في ما أُسقط من القرآن )) مُستهجنة ، تشير إلى حدوث أمر غير شرعي ؛ فهي عبارة لا تعبّر عن المعنى الصحيح و الشرعي للنسخ في القرآن الكريم ، و إنما هي تتسع لمعاني أخرى ، و لا تؤدي معنى النسخ في الشرع ، المذكور في قوله تعالى : ((مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))-البقرة : 106-. لذا كان من المفروض-لو صح الخبر- أن يكون جواب عبد الرحمن هكذا : نُسخت فيما نسخه الله تعالى . أو أنسيت فيما أنساه الله تعالى .
و لا يصح أن يُقال : إن عمر بن الخطاب لم يكن على علم بمصير تلك الآية المزعومة ، حتى يأتي عبد الرحمن و يُخبره بها . فهذا لا يُعقل لأن عمر بن الخطاب كان من المقرّبين من رسول الله ، و كان كغيره من الصحابة كثير القراءة للقرآن . فرجل هذا حاله لا يصح أن يُقال : إنه لم يكن على علم بنسخ تلك الآية زمن النبي-عليه الصلاة و السلام- و ما بعده ، حتى سأل عنها عبد الرحمن بن عوف .
و أما الرواية الرابعة فقد نقلها الجابري عن السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن، و مفادها أن الصحابي مسلمة بن مخلد الأنصاري قال ذات يوم : أخبروني بآيتين في القرآن لم تُكتبا في المصحف ، فلم يُخبروه . فقال : الأولى هي (( إن الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون )). و الثانية هي : (( و الذين آووهم و نصروهم و جادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم ، أولئك لا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين ، جزاء بما كانوا يعملون ))[115] .
هذه الرواية لا تصح إسنادا و لا متنا ، فأما إسنادا فإن من رجاله : عبد الله بن لعيهة ، و أبو سفيان الكلاعي[116] ، الأول ضعيف ، و الثاني مجهول[117] . و أما متنها فهو ظاهر البطلان ، لأنه مُلفق من مجموعة عبارات و آيات قرآنية من جهة ، و يرده القرآن نفسه من جهة أخرى لأنه نص على أنه كتاب مُحكم محفوظ ، لا يأتيه الباطل أبدأ ،و تلك الرواية زعمت أنه أنقص من القرآن تلك الآيتين .
و الرواية الخامسة ، مفادها أنه رُوي عن حميدة بنت أبي يُونس أنها قالت : قرأ عليّ أُبي بن كعب و هو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة : (( إن الله و ملائكته يصلون على النبي، يأيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلذموا تسليما ،و على الذين يصلون في الصفوف الأولى ". ثم قالت : قبل أن يُغير عثمان المصاحف ))[118] .
و هذه الرواية هي أيضا لا تصح إسنادا و لا متنا ، فأما إسنادا فإن من رواته : حميدة بنت أبي يونس ، و ابن جريج ، و حميد بن أبي حميد الطويل[119] . الأولى مجهولة ، فلم أعثر لها على أي ذكر في كتب الجرح و التعديل ، و لا في كتب المتون و التراجم و التواريخ . و الثاني ثقة ، لكنه مُدلّس ، و قد عنعن الرواية عن حميد بن أبي حميد الطويل ، الذي هو بدوره أيضا كان كثير التدليس ،و قد عنعن الرواية عن حميدة بنت أبي يونس[120] .
و أما متنها فمُنكر ، و مُستهجن ، و لا يصح ، لأن عثمان-رضي الله عنه- لم يُغيّر المصاحف ، و إنما وحدها و نسخها من المصحف الإمام الذي جمعه أبو بكر-رضي الله عنه- . و هذا القول يتضمن أيضا طعنا في عثمان و تعريضا به من جهة ، و هو باطل لأن العمل الذي قام به عثمان هو عمل جليل من جهة أخرى ، قام به بعد مشاورته للصحابة و موافقتهم له في ذلك .
و من مظاهر بطلانها أيضا أن الزيادة الملحقة بالآية القرآنية ،و هي (( و على الذين يصلون في الصفوف الأولى )) ، ليست قرآنا ،و إنما هي حديث نبوي صحيح[121] . علما بأن الجابري أخطأ في نقلها-أي الزيادة- ، فهي عند السيوطي هكذا(( الذين يصلون الصفوف الأولى ))[122] . و عند أحمد ، و ابن حبان ، و ابن ماجة ، و أبي داود ، هكذا : (( الذين يصلون الصفوف ))[123] . فالفرق واضح بين الزيادتين .
و أما الرواية السادسة فمفادها أنه يُروى أن الصحابي أُبي بن كعب –رضي الله عنه- قال : (( قال لي رسول الله –صلى الله عليه و سلم- : إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن ، فقرأ سورة (( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين )) ، و من بقيتها – و هذا غير موجود في المصحف – (( لو أن ابن آدم نال واديا من مال فأُعطيه ،و إن سأل ثانيا فأُعطيه ،و إن سأل ثالثا . و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، و يتوب الله على من تاب. و إن ذات الدين عند الله الحنفية غير اليهودية ، و لا النصرانية،و من يعمل خيرا فلن يكفره ))[124] .
واضح من هذه الرواية أن كتاب الله قد نقُصت منها آيات قرآنية ، لأن الرواية لم تذكر أن تلك الآيات نُسخت أو أُنسيت . فهل هي رواية صحيحة ؟ . كلا إنها ليست صحيحة إسنادا و لا متنا ، فأما إسنادا فإن فيه عنعنة ، و من رواته عاصم بن بهدلة[125] . فالعنعنة تُشير إلى عدم تصريح شعبة بن الحجاج بالسماع من عاصم بن بهدلة . و أما الراوي – و هو عاصم بن بهدلة- فهو و إن كان ثقة ، فإنه ضعيف في ضبطه ، و كان كثير الخطأ في حديثه ، و مضطرب فيه، و في حديثه نكرة . و كان سيء الحفظ ،و خلّط في آخر عمره ،و عندما روى له الشيخان البخاري و مسلم رويا له مقرونا بغيره[126]. و هذا اعتراف منهما بضعف الرجل ،و أنه ليس حجة بنفسه .
و أما متنها فهو ظاهر البطلان لأنه يعني أن كتاب الله قد ذهبت منه آيات قرآنية ، و هذا زعم باطل ، يجب رفضه . لأن كل رواية تاريخية أو حديثية تزعم ذلك أو مثله ، فهي رواية باطلة قطعا ، لأنها مخالفة لثوابت الشرع و التاريخ في سلامة القرآن الكريم من التحريف على اختلاف أشكاله .
و مما يزيد في بطلانها ، أن أصل الحادثة المذكورة في تلك الرواية موجودة في الصحيحين من دون أي ذكر لتلك الآيات المزعومات . و قد نصت رواية الصحيحين على أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- قال لأُبي بن كعب : (( إن الله عزّ وجل أمرني أن أقرأ عليك " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين " ، فقال أُبي : و سماني لك ؟ ، قال : نعم ، فبكى أُبي[127] . فأين تلك الآيات المزعومة ؟ .
و من ذلك أيضا أن تلك الآيات المزعوم أنها آيات قرآنية هي في الحقيقة ليست كذلك ،و إنما هي في الأصل حديث نبوي صحيح . فقد روى البخاري و مسلم أن الصحابي عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- سمع رسول الله-عليه الصلاة و السلام- يقول : (( لو كان لابن آدم واديان من مال ، لابتغى ثالثا ، و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ،و يتوب الله على من تاب))[128] .
و يزيد ذلك تأكيدا أن تلك الآيات المزعومة المروية عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حبيش ، عن أُبي بن كعب ، لا وجود لها أصلا قي قراءة حفص و شعبة بن عباس المروية عن عاصم بن بهدلة بن أبي النجود ، و التي تنتهي إلى الصحابة : أُبي بن كعب ، و عثمان ، و علي ، و ابن مسعود ، و زيد بن ثابت[129]- رضي الله عنهم- .
و يُضاف إلى ذلك أيضا أن تلك الآيات المزعزمات أُسلوبها شاهد على أنها ليست من القرآن ، فهي كلمات مُقحمة في سورة البينة ز و كل من له تذوّق للقرآن الكريم يُفرّق بينها و بين آيات سورة البينة ،و يُدرك منذ الوهلة الأولى أنها ليست قرآنا .
و أما الرواية السابعة ، فهي أن الصحابي عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- قال : (( لا يقولن أحدكم قد أخذتُ القرآن كله ، و ما يُدريه ما كله ! ، قد ذهب قرآن كثير ، و لكن ليقل : قد أخذتُ منه ما ظهر))[130] .
و أقول : إن الرواية لا تصح ، لأن في الإسناد عنعنتين ، الأول عنعنة أسماعيل بن علية عن أيوب السختياني . و الثانية عنعنة أيوب السختياني عن نافع مولى ابن عمر[131] . و هذا يعني أن هؤلاء لم يُصرّحا بالسماع ، مما يدل على أن الإسناد ليس متصلا . و مع أن رواة هذا الخبر كلهم ثقاة و هم : القاسم بن سلام ، و إسماعيل بن علية ، و أيوب السختياني ، و نافع مولى ابن عمر ، و ابن عمر ، إلا أنني أعتقد أن الرواية لا تصح لما فيها من عنعنة ، و لما قد يكون قد حدث لبعض روايتها من سهو ، أو وهم ، أو خطأ . لأن متنها مُنكر جدا و باطل ، و لا يصح بدليل المعطيات الآتية :
أولا إن الرواية ذكرت أن ابن عمر قال : " قد ذهب قرآن كثير " ، و عبارة : ذهب ، تعني الضياع ، و لا تعني النسخ ،و لا الرفع ، و لا النسيان ، المُعبر عنها في قوله تعالى : ((مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))-البقرة : 106-. . و الشاهد على أنها تعني الضياع لا النسخ هو أنه عندما اقترح عمر على أبي بكر- رضي الله عنهما- جمع القرآن قال له : (( أني أخشى أن يستحر القتل بقراء القرآن في المواطن كلها ، فيذهب قرآن كثير ))[132] . فمعنى الذهاب هو الضياع و الفقدان ، مما يعني أن القول المنسوب لابن عمر يقصد ذلك . و هذا أمر باطل ، و لا يصح أن يُقال في حق القرآن الكريم ، و لا يصح أن يعتقده مسلم ، لأنه مخالف للشرع و التاريخ الصحيح معا ، في أن القرآن لم يتعرض لأي نوع من أنواع التحريف[133] .
و كما أن ذلك القول مخالف للشرع و التاريخ الصحيح ، فهو أيضا طعن في كل الصحابة عامة ، و ابن عمر خاصة . فإذا كان القرآن قد ضاع منه كثير ، فأين كان هو و باقي الصحابة ؟ ! . فلماذا ضيّعوه ،و لم يُحافظوا عليه ؟ . و بما أن الصحابة بريئون من ذلك فإن الرواية لا تصح .
و ثانيا إنه إذا قيل : إن المقصود من قول ابن عمر ، هو ما حدث من نسخ و رفع لآيات من القرآن . فنحن نقول: إن هذا التبرير هو تأويل يرفضه ظاهر الرواية التي ذكرت صراحة أنه ظاع من القرآن آيات كثيرة ، و لم تذكر و لا أشارت –من قريب و لا من بعيد- إلى أن المقصود من ذلك الذهاب هو النسخ و الرفع . لذا فإن الصواب هو رفض تلك الرواية برمتها ،و الحكم عليها بالبطلان ،و لا نبحث لها عن تأويلات لا يحتملها ظاهر الرواية . كما أن البحث عن مثل هذه التأويلات ضرره أكثر من نفعه ، لأنها تُؤدي إلى ترك هذه الرواية و أمثالها في الوسط الشرعي ، و هي تطعن فيه و مخالفة له من جهة. و تثير حوله الإشكالات و الطعون و الشبهات ، و تُشوّه تاريخ القرآن من جهة ثانية . و تُساهم في توسيع مجال الظنيات فيما يتعلق بتاريخ القرآن من جهة ثالثة . و بذلك نربح كثيرا برفضنا لتلك الرواية ،و لا نخسر شيئا ، فقد رفضناها بطريقة علمية موضوعية .
و أما إذا قيل : كيف ترفض رواية ظاهر إسنادها صحيح ،و رواتها ثقاة ؟ ، فالأمر ليس كذلك ، لأن الرواية معنعنة ،و متنها مُنكر ، و صحة الإسناد- من الناحية الظاهرية- لا تعني صحة المتن بالضرورة ،و صحة المتن لا تعني صحة الإسناد بالضرورة . و الرواية لكي تُقبل لا بد أن يصح إسنادها و متنها معا ، فإذا تخلف أحدهما لا تُقبل الرواية ، اللهم إلا إذا صح متنها من طريق إسناد آخر له نفس المتن .
و الإسناد قد يحكم ببطلان المتن ،و إن كان ظاهره مقبولا ، و المتن قد يحكم ببطلان الإسناد و إن كان ظاهره صحيحا . لأنه قد تكون في الإسناد-أو المتن- علل خفية ، كأن يكون الإسناد مركباً ، أو مدلسا ، أو حدث فيه سهو أو وهم ، أو خطأ من بعض رواته .
و ثالثا إن من مظاهر بطلان متن تلك الرواية ، هو أنه لا يصح القول بأن القرآن ذهب منه كثير ، و ما نقرأ منه إلا بعضه ... . فهذا القول إن كان المقصود منه ضياع كثير من القرآن ، فهو قول باطل مردود على قائله . و إن كان المقصود منه ذهاب كثير من القرآن بسب النسخ و الرفع –و هذا لم تُشر إليه الرواية- فإنه لا يصح أيضا ، لأن النسخ ليس نقصا ،و لا ضياعا ، و لا طعنا ، و لا عيبا في القرآن ، و إنما هو أمر ثابت شرعا ، نسخ الله به آيات قرآنية أدت دورها ،و لم يصبح لوجودها مبرر حسب إرادة الله و حكمته . فهذا النسخ لم يُنقص من القرآن ، و لا أضاع منه شيئا ، فهو ما يزال كتابا مُحكما كاملا لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه أبدا .
و أما الرواية الثامنة فمفادها أن الجابري ذكر حديثا رواه زيد بن ثابت يقول فيه : (( كنا عند رسول الله نُؤلف القرآن من الرقاع)) ، وعلق عليه الجابري بقوله : (( أي يُرتبون الآيات داخل السور . و مع ذلك لا يبعد أن تبقى خارج هذا التأليف آية أو أكثر مكتوبة على رقعة أو عظم ، أو غير مكتوبة و لكن محفوظة في صدر هذا الصحابي أو ذاك ))[134] .
و قوله هذا يتضمن توجيها سيئا و مُغرضا للحديث ، لأن الحديث يدل على اهتمام رسول الله و صحابته بالقرآن الكريم ترتيبا و جمعا . لكن الجابري تخطى ذلك و افترض احتمالا زعم فيه أن الحديث لا ينفي إمكانية بقاء بعض القرآن خارج ذلك التدوين و الجمع و الترتيب ، و أن بعضه قد لا يكون قد دُوّن أصلا ن و إن كان محفوظا في الصدور . و زعمه هذا لا يصح ، بدليل الشواهد الآتية :
أولها إن الحديث نفسه[135] شاهد قوي على أن النبي-عليه الصلاة و السلام- و صحابته كانوا يهتمون بكتابة القرآن و جمعه و ترتيبه ، و هذا كله يندرج ضمن ما وعد الله به بأنه سيحفظ كتابه ، في قوله سبحانه : ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))-الحجر : 9- . و هذا يستلزم الحفظ الكامل له ، و الاستمرار في ذلك العمل ، و عدم التواني فيه كتابة و ترتيبا و حفظا .
و الشاهد الثاني هو أن الله تعالى وصف القرآن بأنه ((الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ))-هود : 1- ، و أنه ((وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ))- فصلت :41- 42 - ، و أنه كامل ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ))-المائدة : 3- ، و أن الله سيتكفل بحفظه ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))-الحجر : 9-. و هذا كله لا يتم بشكل كامل و صحيح و نهائي إلا بحفظ القرآن و جمعه كله كتابة و حفظا . و هذا هو الذي تمّ زمن النبي-صلى الله عليه و سلم- ، ثم توثّقت العملية أكثر بجمع القرآن كله في مصحف واحد زمن أبي بكر- رضي الله عنه- .
و الشاهد الثالث يتمثل في حديث نبوي حسّنه الهيثمي ، يقول فيه الصحابي زيد بن ثابت- رضي الله عنه- : (( كنتُ جار رسول الله-صلى الله عليه و سلم- إذا نزل الوحي أرسل إليّ فكتبتُ الوحي ))[136] . و هذا الحديث شاهد قوي على أن رسول الله كان حريصا على تدوين ما ينزل عليه من القرآن الكريم .
و الشاهد الرابع يتمثل في قول الرسول-عليه الصلاة و السلام- : (( لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن ، و من كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه ))[137] . و هذا دليل قاطع على اهتمام رسول الله بتدوين القرآن و الحرص عليه ، و متابعة عملية تدوينه ،و أمر الصحابة بتخصيص القرآن بالكتابة دون غيره من الكلام . و من كانت هذه هي حاله في الاهتمام بكلام الله تعالى ، لا يمكن أن يُهمل آية منه من دون تدوين .
و الشاهد الخامس يتضمن طائفة من الحوادث العملية التي تبيّن الاهتمام الكبير الذي أولاه رسول الله للقرآن الكريم جمعا و تدوينا ، خلال العهدين المكي و المدني ، مما يدل على أن رسول الله لم يُهمل من القرآن شيئا، فد جمعه كله تدوينا و حفظا . فمن ذلك إنه كان لرسول الله كُتاب وحي في العهد المكي ، مهم : عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، و أبو بكر الصديق، و عمر بن الخطاب ، و عثمان بن عفان-رضي الله عنهم[138] . فلو لم يكن رسول الله يُدون القرآن و يحرص على تدوينه ، ما اتخذ كُتابا للوحي منذ العهد المكي - مرحلة الضعف و المحنة- ، و لاكتفى بحفظه في الصدور ، و بما أنه لم يكتف بذلك و اتخذ كتابا للوحي دل ذلك على أنه كان يُدون القرآن و حريصا على تدوينه منذ المرحلة المكية . و في العهد المدني ازداد عددهم فقُدر بأربعين كاتبا على رأسهم زيد بن ثابت ، و أُبي بن كعب[139] . فهذا العدد الكبير دليل دامغ على حرص النبي-صلى الله عليه و سلم- على تدوين القرآن كله عند نزوله ، فعندما يغيب أو يتعب بعضهم يخلفهم آخرون . و لو لم يكن شديد الحرص على تدوينه كله ما اتخذ ذلك العدد الكبير من كُتاب الوحي .
و المثال الثاني يتمثل في حادثة إسلام عمر بن الخطاب ، فإنه وجد صحيفة عند أخته مكتوبا فيها بعض سور القرآن الكريم ، فقرأها و كانت سببا في إسلامه[140] . فهذه الحادثة تُشير إلى أن القرآن كان يُكتب منذ العهد المكي ، وأن الصحابة الأوائل كانوا يهتمون بذلك .
و المثال الثالث يتمثل في أن رسول الله-عليه الصلاة و السلام- عندما هاجر إلى المدينة مع أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- ، أخذ معه أدوات الكتابة ، من قلم و رقاع ، و عندما أدركهم سراقة بن مالك في مطاردته لهما ، و أراد سراقة الرجوع ، سال رسول الله بأن يكتب له كتابا ، فأمر النبي عامر بن فهيرة بأن يكتب له ذلك ، فكتب له ما أراد[141] . فهذه الحادثة دليل على أن رسول الله كان حريصا على تدوين القرآن عند نزوله ، حتى و إن كان مهاجرا فارا بدينه من الكفار ، لأنه لم يحمل معه أدوات الكتابة إلا ليدون القرآن في أي مكان نزل عليه .
و المثال الثالث يتمثل في أن الصحابي رافع بن مالك الأنصاري –رضي الله عنه- ، عندما لقي رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بالعقبة أعطاه ما أُنزل عليه من القرآن في العشر سنين التي خلت ، فقدم به رافع إلى المدينة[142] . فهذا الخبر شاهد على أن القرآن الذي كان قد نزل على رسول الله ، كان مكتوبا ، لأنه لو لم يكن مُدونا فلا معنى أن يُعطيه له الرسول ليأخذه معه إلى المدينة ، و ما ذا يُعطيه ، و المحفوظ لا يُعطى ؟ ، كما أن رافعا ليس في مقدوره أن يحفظ القرآن كله في مدة بيعة العقبة القصيرة . و لماذا يُتعب نفسه لحفظه في هذه المدية القصيرة ، و رسول الله و الصحابة الأوائل يحفظونه ،و هم سيُهاجرون إلى المدينة قريبا ؟ ، فكان يكفيه حفظ بعض السور أو كتابتها و يأخذها معه ريثما يأتي هؤلاء . و بناء على ذلك فإن معنى : أعطاه ما أُنزل عليه ، هو أن النبي –عليه الصلاة و السلام- أعطاه كل ما أُنزل عليه من القرآن مكتوبا مُدونا .
و المثال الأخير-أي الرابع- مفاده أنه لما جُمع القرآن كله في بداية عهد أبي بكر الصديق ، من الرقاع و القراطيس و العظام ، لم يحدث أي إشكال فيما يخص القرآن المكي[143] . مما يعني أنه كان مكتوبا كله منذ المرحلة المكية ، أو أنه دُون من جديد أيضا ، أو أن الأمرين حدثا معا .
و الشاهد الأخير- و هو التاسع-يتمثل في الحديث الذي ذكره الجابري نفسه و احتج به على رأيه . فهذا الحديث شاهد قوي على أن جمع القرآن كان عاما لكل آيات القرآن ، و ليس كما أراد أن يُوهمنا به الجابري بأن الجمع ربما لم يشمل بعض الآيات . لأن الحديث قال : (( كنا عند رسول الله نؤلف القرآن )) ، فلم يقل نؤلف بعض القرآن ، فالتأليف كان شاملا لكل القرآن و ليس لبعضه . و من يقول خلاف ذلك عليه أن يأتي بدليل صحيح يثبت أن الجمع و التدوين و التأليف لم يشمل كل القرآن . و هذا لم يقدمه الجابري ليدعم به الاحتمال الذي افترضه . لأن رأيه هذا ليس دليلا ، و إنما هو مجرد احتمال نظري يقيل الخطأ و الصواب معا . و لا يصح أحدهما إلا بدليل شرعي أو تاريخي صحيح ، و الحديث الذي ذكره ، و الشواهد الصحيحة التي ذكرناها كلها تشهد على أن القرآن كتب كله ،و من ثم فإن اعتراضه النظري لا يصح .
و أما الرواية التاسعة فهي مرتبطة بالرواية السابقة لأنها هي الدليل العملي الذي استشهد به الجابري على احتماله النظري السابق ، فقال : (( و هذا ما يُستفاد من رواية ذكرها أبو داود في سننه تخص الآيتين الأخيرتين من سورة التوبة ، و لم تكونا قد أُدرجتا فيها عندما جُمع القرآن زمن عمر ابن الخطاب. تقول الرواية –نقلا عن الزبير بن العوام- : أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقال: أشهد إني سمعتها من رسول الله ، و وعيتها . فقال عمر : أنا أشهد لقد سمعتها ، ثم قال : لو كانتا ثلاث آيات لجعلتها على حدة ، فانظروا آخر سورة من القرآن فألحقوهما في آخرها. فألحقوها بسورة براءة- التوبة- . و الآيتان هما: (( لقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ، فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ))-التوبة :128- 129-[144] .
و هذه الرواية لا تصح إسنادا و لا متنا ، و بذلك يسقط احتماله النظري الذي بناها عليها من جهة ، و هو قد ارتكب في ذكره لها ثلاثة أخطاء من جهة أخرى . فأما إسنادها فضعيف لأن فيه عنعنة محمد بن إسحاق ، و هو مُدلّس و لم يُصرّح بالسماع[145] . و فيه أيضا انقطاع ، لأن راويه عباد بن عبد الله بن الزبير(ت 90 هجرية ) لم يكن شاهد عيان لما روى ، و لم يذكر عمن رواها . و هو قد كان صغيرا أو أنه لم يُولد أصلا زمن عمر بن الخطاب ، لأن أباه عبد الله كان له من العمر 24 سنة عندما تُوفي عمر[146] .
و أما متنها فهو مُنكر جدا و لا يصح ، لأن الرواية الصحيحة التي رواها البخاري و غيره من المحدثين تخالف ذلك صراحة . فهي قد نصّت على أن القرآن الكريم قد جُمع كله زمن أبي بكر،و لم ينقص منه شيء ،و أن تلك الآيات التي ذكر الجابري أن الحارث بن خُزيمة جاء بها كان زيد بن ثابت قد جمعها عندما جمع القرآن كله زمن أبي بكر[147] .
و أُشير هنا إلى أن الجابري وقع في تناقض صارخ ،و لم يُبال به ، أو لم ينتبه له ، و مفاده أن الجابري ذكر أولا رواية مجيء الحارث بن خزيمة بالآيتين الأخيرتين من سورة التوبة. لكنه بعد نحو صفحة أورد رواية جمع أبي بكر للقرآن كما رواها البخاري ، فذكر أن زيد بن ثابت تولى العملية فوجد آخر سورة التوبة –براءة- مع أبي خزيمة ، و لم يجدها عند غيره ،و قوله تعالى : (((( لقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ، فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ))-التوبة :128- 129- [148] . و هذا تناقض واضح مع ما ذكره في الرواية الأولى التي نصت على أن الحارث بن خزيمة هو الذي جاء بتلك الآيتين إلى عمر . فهذا تناقض ، لأنه لا يصح أن يقال : إن آخر سورة التوبة وُجد مع شخصين بطريقتين مختلفتين ، و جُمع مرتين ، الأولى زمن أبي بكر ، و الثانية زمن عمر ، و الجابري قد نص صراحة على أن الرواية الأولى جرت عندما جُمع القرآن زمن عمر ابن الخطاب[149] !! .
و أما الأخطاء التي وقع فيها الجابري ، فأولها ، إنه قال : رواية ذكرها أبو داود في سننه . و هذا غير صحيح ، لأن الرواية لا وجود لها في سنن أبي داود ، و رواها ابنه أبو بكر بن أبي داود في كتابه المصاحف ، و أحمد بن حنبل في مسنده[150] .
و الثاني قال فيه الجابري : (( نقلا عن الزبير بن العوام )) . و هذا غير صحيح ، و خطأ واضح ، و الصواب هو أن الذي روى الخبر هو عباد بن عبد الله بن الزبير[151] . فالحفيد هو الذي روى الخبر و ليس الجد ، الذي هو الزبير بن العوام- رضي الله عنه- . و الحفيد لم يذكر ممن سمع الخبر أمن أبيه ، أو من جده ، أو من شخص آخر . و هذا يعني أن الجابري ربما لم يعد أصلا إلى سنن أبي داود ، مع أنه قال : (( رواية ذكرها أبو داود في سننه )) ، لأنه لو رجع إليها فإنه لن يجد فيها الرواية أصلا . اللهم إلا أن يُقال : إنه أخلط بين الأب و سننه ، و بين الابن و كتابه المصاحف . و مع هذا فإنه لن يجد الزبير بن العوام بأنه هو الذي روى الخبر .
و الخطأ الأخير-أي الثالث- يتمثل في أن الجابري قال : (( عندما جُمع القرآن زمن عمر بن الخطاب )) . و هذا تعبير غير دقيق و لا يصح ، لأن القرآن لم يُجمع زمن عمر ، و إنما جُمع في خلافة أبي بكر . و الرواية التي ذكرها لم تنص على أن الحارث بن خزيمة جاء بالآيتين في خلافة عمر ، و إنما قالت : (( أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين ... إلى عمر بن الخطاب فقال : ... ))[152] . فقوله : إلى عمر لا يعني أن ذلك حدث في زمن خلافته ، و إنما جاء إليه بالآيتين لأنه كان الوزير الأول لأبي بكر ، و هو صاحب فكرة جمع القرآن التي اقترحها على الخليفة أبي بكر- رضي الله عنهما- .
و الرواية العاشرة مفادها أن الجابري ذكر روايتين للبخاري تتعلقان بتاريخ القرآن ، الأولى تخص جمع القرآن زمن أبي بكر ، و مفادها أن زيد بن ثابت تولى جمع القرآن من الصدور و الرقاع حتى وجد الآيتين من آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري ، لم يجدها مع أحد غيره ، و هما : (( لقد جاءكم رسول ))[153] . و الثانية ذكر الجابري أنها تتحدث عن جمع القرآن زمن الخليفة عثمان بن عفان . و بعدما ذكر ما حدث في العملية قال : (( ثم تذكر الرواية أن زيد بن ثابت قال: " فقدتُ آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، فكنتُ أسمع رسول الله يقرأها ، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري. : ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ))-الأحزاب : 23- . ثم ذكر الجابري أنه يُستفاد من الرواية الثانية أن جمع القرآن زمن أبي بكر ، اقتصر على جمع الصحف المكونة من المواد المكتوب عليها كالقماش ، و ورق الحرير ، و الرقوق الناعمة . بينما " كان جمعه في عهد عثمان ضم تلك الصحف وجعلها في مصحف واحد " . ثم استنتج من ذلك أنه (( كانت هناك آيات لم تكن معروفة من لدن الجميع ، و أن زيد بن ثابت استدرك بعضها )) [154] .
و أقول : إن الجابري أخطأ في الفهم و الاستنتاج ،و انتهى إلى نتائج خطيرة جدا ، و باطلة شرعا و تاريخا و عقلا . فأستنتج أن آيات من القرآن لم تُدوّن في المصحف الإمام الذي جمعه أبو بكر ، و ظلت خارج المصحف إلى زمن عثمان حيث تنبه زيد بن ثابت لبعضها كآية (( من المؤمنين رجال ...))، فألحق بعضها بالمصحف ،و ضاع الذي لم يتنبه له ، لأنه قال: (( استدرك بعضها )) ، بمعنى أنه لم يستدرك كل الآيات . فالقرآن الكريم –في نظر الجابري- لا يشمل كل ما نزل من القرآن-غير المنسوخ- ، فقد كان ناقصا منذ أن جمعه أبو بكر سنة 11هجرية ، و عندما وحّد عثمان المصحف سنة 25 هجرية أُلحقت به الآية التي استدركها زيد بن ثابت ، و ضاعت الآيات الأخرى التي لم تُستدرك ، فبقي القرآن ناقصا إلى يومنا هذا .
فما هو السبب الذي أوصل الجابري إلى هذه النتائج الخطيرة و الباطلة ؟ ، إنه أخطأ في فهم الروايتين ، ففهم من الأولى أن زيد بن ثابت جمع القرآن زمن أبي بكر ،و فهم من الثانية أن زيدا –في زمن عثمان- وجد أية مفقودة من سورة الأحزاب عند أحد الصحابة ، فألحقها بالمصحف . ثم استنتج من ذلك أنه من المحتمل أيضا أن تكون آيات أخرى قد ضاعت من الصحابة ، لم يتنبهوا لها . فأخطأ في كل ذلك، لأنه لم يتنبه إلى أن رواية البخاري الثانية مقسمة إلى قسمين ، الأول يتعلق بعمل عثمان في طلب المصحف الإمام من حفصة أم المؤمنين ،و نسخه و توحيده و إرجاع المصحف إلى حفصة[155] .
و قسمها الثاني لا يتعلق بالأول ، و إنما يخص أية الأحزاب التي ذكر زيد أنه افتقدها ، يعني أنه افتقدها في الجمع الأول زمن أبي بكر- رضي الله عنه- ،و ليس أنه افتقدها زمن عثمان. فهذا القسم مرتبط برواية البخاري الأولى ، مع أنه-أي القسم الثاني- ورد مع القسم الأول في نفس الرواية الثانية المتعلقة بزمن عثمان- رضي الله عنه- .و الحقيقة أن الراوي الذي روى عنه البخاري الرواية الثانية فرّق بين قسمي الرواية الواحدة ، فعندما ذكر القسم الأول ، قال مرة أخرى : (( قال ابن شهاب و أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت سمع زيد بن ثابت قال : (( فقدتُ آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف ، قد كنتُ أسمع رسول الله-صلى الله عليه و سلم- يقرأها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري" مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ))-الأحزاب : 23- " ، فألحقناها في سورتها في المصحف ))[156] .
فالقسم الأول لا علاقة له بالقسم الثاني ،و الراوي قد فرّق بينهما ، لكن الجابري جعل الرواية الثانية كلها قسما واحدا يتعلق بنسخ القرآن و توحيده زمن عثمان ، و عليه بنى استنتاجه . و هنا حدث الخطأ ، إما لأنه لم ينتبه إلى الأمر ، أو أنه تعمد إغفاله ليصل إلى زعمه بضياع بعض آيات القرآن .
و إذا كان الأمر على ما قررناه ، و زعم الجابري لا يصح ، فما هي الأدلة التي تُثبت ذلك ؟ . إننا سنثبتُ ما قلناه بالشواهد القوية الآتية : أولها يتمثل في قول زيد بن ثابت-رضي الله عنه- : (( فقدتُ آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، فكنتُ أسمع رسول الله يقرأها ، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري )) .فقوله هذا شاهد قوي على أن الأمر يتعلق بعملية جمع للقرآن التي تمت زمن أبي بكر ، و لا يتعلق بعملية توحيد المصاحف زمن عثمان ، لهذا قال : (( فقدتُ آية من الأحزاب )) ، فالرجل كان يقوم بعملية جمع للقرآن ، و هذه لم تحدث إلا زمن أبي بكر-رضي الله عنه- ، و هو قال : فقدت ُ ، و لم يقل : نسيتُ ، مما يعني أنه فقد شيئا ماديا مكتوبا .
كما أن قوله : (( ، فكنتُ أسمع رسول الله يقرأها )) هو دليل آخر قوي على أن عمله تمّ في وقت قريب العهد من وفاة رسول الله –عليه الصلاة و السلام- ، و هذا لا يصدق على ما حدث زمن عثمان ، و إنما يصدق على جمع القرآن الذي حدث زمن خلافة أبي بكر، في سنة 11 هجرية التي تُوفي فيه رسول الله . و لا يصح أن يٌقال: إن زيدا قال ذلك أثناء توحيد المصاحف زمن عثمان- رضي الله عنه- . فأين كان مدة 14 سنة ، من 11 إلى 25 هجرية ؟ ! . و بما أنه كان يحفظها ، و يسمع النبي-عليه الصلاة و السلام- يقرأها ، فلماذا لم يكتبها في المصحف الإمام زمن أبي بكر ؟ . و لا يصح أن يُقال : ربما زيد نسيها . فهذا أمر لا يُنسى بهذه الطريقة ، لأن الرجل كان يحفظ القرآن كله ، و متخصصا فيه رسما و تلاوة و فهما ، و لا يمكن-واقعيا- أن ينساها مدة 14 سنة ، و لا يتذكرها . و أين كان الصحابي خزيمة بن ثابت الذي كانت تلك الآية عنده ؟ . فهل يُعقل أن تبقى الآية عنده 14 سنة من دون أن يُخبر بها ؟! . فكل ذلك يُثبت أن تلك الآية بجمع القرآن زمن أبي بكر ، و ليس بتوحيده زمن عثمان .
و الشاهد الثاني يتمثل في أن القول بأن آية ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ))-الأحزاب : 23- ألحقت بالمصحف سنة 25 هجرية عندما وحده عثمان ، هو قول يعني أن القرآن ظل ناقصا 14 سنة ، و لم تنتبه إليه الأمة إلا عندما وُحد في تلك السنة . و هذا قول باطل شرعا و عقلا . فأما شرعا فإن القرآن الكريم نص ّ صراحة على أن الله تعالى حفظ كتابه ،و إنه لا يأتيه البطل أبدا ، في قوله تعالى : ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))-الحجر : 9- ، و ((وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ))- فصلت :41- 42 - ،و هذا يعني بالضرورة أن النبي-صلى الله عليه و سلم- ترك القرآن كاملا لا نقص فيه ، و أنه لم يتعرض بعده إلى أي نقص و لا زيادة و لا تحريف .
كما أن ذلك الزعم يعني أن الأمة اجتمعت على خطأ و ضلال مدة 14 سنة حتى استدركت بعض القرآن ،و بقي بعضه ضائعا إلى يومنا هذا ، مما يعني أنها ما تزال على ذلك الخطأ و الضلال إلى وقتنا الحاضر . و هذا زعم باطل مخالف للحديث النبوي الذي نصّ على أن أمة الإسلام لا تجتمع على ضلال[157] .
و أما عقلا ، فلا يصح في العقل أن أمة الإسلام التي هي أمة العلم و الجهاد التي كان فيها عدد كبير يحفظ القرآن كله ، و كثير القراءة له ، تنسى أية من القرآن مدة 14 سنة ،فهذا لا يمكن أن يحدث ، خاصة إذا علمنا أن هذه الآية المزعوم أنها نُسيت ، تتعلق بالجهاد الذي هو من أساسيان دين الإسلام ،و قد ضرب فيه المسلمون أروع البطولات ، و به أطاحوا دولتي الفرس و الروم ، فكانت لهم تلك الآية محركا قويا للجهاذ و الموت في سبيل الله ، فهي تقول لهم : ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ))-الأحزاب : 23- . إن آية كهذه لا يمكن أن تنساها أمة الإسلام 14 سنة .
و الشاهد الثالث يتمثل في أن جمع أبي بكر للقرآن شمل القرآن كله ، و بما الأمر كذلك فإن آية ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ))-الأحزاب : 23- ، كانت قد جُمعت فعلا و لم تُنس. و الشاهد على ذلك الأدلة الآتية : أولها إن أبا بكر- رضي الله عنه- أمر زيدا بجمع القرآن كله و ليس بعضه ، فقال له : (( فتتبع القرآن فاجمعه ))[158] . و الثاني هو أن جهود زيد في جمعه للقرآن من الصدور و المدونات ، و حرصه الشديد على ذلك ، هو دليل قوي على أنه جمع كل القرآن ، خاصة و أنه كان يحفظه كله ، فلو ضاع منه شيء أو نسيه لذكر ذلك و استمر في البحث عنه . فلما افتقد آية –كان يحفظها و سمعها من رسول الله- بحث عنها حتى وجدها مكتوبة عند ذلك الصحابي . و الثالث هو شهادة علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- إنه يقول فيها : (( أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر. إن أبا بكر أول من جمع القرآن بين لوحين ))[159] . فهذه شهادة عامة تشمل كل القرآن ، فلو كان نقُص منه شيء لأشار إلى ذلك علي بن أبي طالب .
و الدليل الرابع هو أنه عندما وَحّد عثمان بن عفان- رضي الله عنه- المصاحف نصّت رواية البخاري- و غيره- على أن الذين تولّوا تلك العملية نسخوا المصاحف من المصحف الإمام الذي جمعه الصدّيق ،و كان عند حفصة أم المؤمنين ، ثم أرجعوه إليها ،و لم يُدخلوا في المصاحف المنسوخة شيئا لم يكن موجودا في المصحف الإمام ،و لا قاموا بعملية جمع جديدة للقرآن الكريم . فهذا دليل قوي دامغ على بطلان زعم الجابري .
و الدليل الخامس يتمثل في أنه عندما جُمع القرآن زمن أبي بكر- رضي الله عنه- لم تحدث أية معارضة ، و لا ظهرت أية انتقادات من الصحابة لعملية الجمع . فلو حدثت أية نقائص ، أو أُهملت آيات أو أُسقطت من المصحف الإمام ما سكت هؤلاء ،و لتدخلوا فورا لتدارك الأمر . و بما أن ذلك لم يحدث[160] ، دل هذا على أن القرآن قد جُمع كله زمن أبي بكر .
و أما الشاهد الرابع فيتمثل في أن كثرة الصحابة القراء المتخصصين في القرآن حفظا و تلاوة و رسما[161] ، و شدة اهتمام الصحابة بالقرآن و تعظيمهم له ، و حرصهم على تبليغه إلى كل بني آدم ، كل ذلك يجعل الاهتمام بالقرآن –كتابة و حفظا- أمرا ضروريا يحول دون حدوث أي نقص و لا زيادة فيه .
و الشاهد الخامس مفاده أن آية (( من المؤمنين رجال )) نزلت في اللذين اُستشهدوا في غزوة أحد سنة 3 للهجرة ، نزلت في أنس بن النضر و أصحابه الذين استشهدوا معه . و قد سأل الصحابة رسول الله عن هذه الآية[162] . فهل يُعقل أن هذه الآية التي شهد الصحابة نزولها على شهداء بدر ، و سمعوها من رسول الله ، و سألوه عنها ، أنها تغيب عنهم أو ينسوها عندما جُمع القرآن زمن أبي بكر ، ثم يستمر نسيانهم لها مدة 14 سنة ؟ ؟ !! . إن هذا لا يمكن أن يحدث على أرض الواقع .
كما أن قول زيد – رضي الله عنه- : (( فقدتُ آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف ، قد كنتُ أسمع رسول الله – صلى الله عليه و سلم- يقرأها )) لا يعني أنه نسيها كلية ، و لم يكن الصحابة على علم بها ، و إنما يعني أنه لم يجدها مكتوبة في نسخها الأصلية التي كُتبت بين يدي رسول الله ، حتى وجدها مكتوبة عند الصحابي خزيمة بن ثابت . و إلا فهو –و غيره من الصحابة- كان يحفضها و سمعها من النبي-صلى الله عليه و سلم- كما صرّح هو بذلك ،و يُِؤيد ذلك أيضا أنه لم يثق : نسيتُ ،و إنما قال : فقدت ، مما يعني أنه فقدت شيئا ماديا مكتوبا . و يُؤيد ذلك أيضا أنه قال ، فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف . ، مما يُشير إلى أنه فقد المكتوب لا المحفوظ ، فعندما وصل إلى التدوين لم يجد النسخة الأصلية لتلك الآية التي كان يحفظها .
و الشاهد السادس مفاده أن المسلمين فيما بين سنتي : 11-25 هجرية –أي ما بين جمع القرآن زمن الصدّيق و توحيده زمن عثمان- كانت آية ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ))-الأحزاب : 23- معروفة لديهم ، و متداولة بينهم . فمن ذلك أنه في معركة القادسية سنة 14 للهجرة ، كان احد المسلمين يُعانق فرسه و يتلو قوله تعالى : ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ))-الأحزاب : 23- [163] . و عندما فتح القائد المُظفر أبو عبيدة بن الجراح (ت 18هجرية ) –رضي الله عنه- منطقة غزاز أمر الشاعر ربيعة بن معمر بأن يخطب في الجيش ، فكان مما قاله لهم أنه ذكّرهم بقوله تعالى : (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ))-الأحزاب : 23- [164] . و عندما أرسل الخليفة عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- رسالة إلى قائده أبي عبيدة بن الجراح تتعلق بالجهاد ، كان مما جاء فيها أنه ذكّره بقوله تعالى : ((عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ))[165] . فهل يصح بعد هذا أن يُقال : إن تلك الآية كانت مفقودة ، و نسيها المسلمون ، و لم يتذكرها إلا زيد بن ثابت عندما وحّد المصاحف زمن الخليفة عثمان سنة 25 هجرية ؟! . ألم تكن تلك الآية منتشرة بين المسلمين قبل سنة 25 هجرية ؟ . و أليس هذا الزعم من الأباطيل و المضحكات ؟ ! .
و الشاهد السابع هو أن موقفنا الذي ذكرناه من أن رواية البخاري الثانية لا تتعلق بحادثة واحدة فقط ، و إنما تتعلق بحادثتين منفصلتين زمانا و موضوعا و ظروفا ، قد قال به بعض أهل العلم المتقدمين ، كالخطيب البغدادي ،و ابن حجر العسقلاني . فذكرا أن الراوي إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع هو الذي تصرّف في رواية الشهاب الزهري[166]-التي أوردها البخاري في صحيحه- . بمعنى أنه هو الذي أدمج روايتين في رواية واحدة .
و منهم أيضا الحافظ ابن كثير ، إنه تنبه إلى الخلل الذي حدث في رواية البخاري الثانية ،و فصل القسم الثاني منها عن القسم الأول ، فقال: (( و أما ما رواه الزهري عن خارجة عن أبيه في شأن آية الأحزاب،و إلحاقهم إياها في سورتها ، فذكره لهذا بعد جمع عثمان فيه نظر . و إنما هذا كان حال جمع الصديق الصحف كما جاء مُصرحا به في غير هذه الرواية عن الزهري عن عبيد بن السباق عن زيد بن ثابت . و الدليل على ذلك إنه قال : فألحقناها بسورتها من المصحف . و ليست هذه الآية مُلحقة في الحاشية في المصاحف العثمانية ))[167] .
و بذلك يتبين – من تلك الشواهد- أن القسم الثاني من رواية البخاري الثانية هي رواية مستقلة عن القسم الأول ، و ترتبط بجمع زيد للقرآن زمن أبي بكر ،و لا ترتبط بتوحيده زمن عثمان . و بذلك يسقط فهم الجابري و استنتاجه منه ،و يتبين أن القرآن الكريم كان كاملا عندما جمعه أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- ، فلم تنقصه آية ، و لا كلمة ، و لا حرف ، لأن الله تعالى تولى حفظه ، فوفر له الظروف التي حفظته زمن النبي-عليه الصلاة و السلام- ، و صحابته ،و من جاء بعدهم إلى يومنا هذا .
و أما قول الجابري بأنه يُستفاد من رواية البخاري الثانية بأن جمع القرآن زمن أبي بكر اقتصر على جمع الصحف ، بينما كان جمعه في عهد عثمان عبارة عن ضم لتلك الصحف ، و جعلها في مصحف واحد . فهو استنتاج لا يصح ، لأنه ما حدث للقرآن زمن أبي بكر ليس هو مجرد تجميع للصحف التي كُتب فيها القرآن ،و إنما هو أيضا تكوين لمصحف جديد كتابة و تنظيما ، عُرف بالمصحف الإمام . و الدليل على ذلك الشواهد الآتية :
أولها إن رواية البخاري الأولى –المتعلقة بجمع القرآن زمن الصدّيق- ذكرت أن زيدا قال: (( فقدتُ آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف ...)). فهو إذاً قد جمع الصحف –المتنوعة الأحجام و الأنواع- و أعاد نسخها في مصحف واحد .
و ثانيها هو أن الخليفة عثمان بن عفان- رضي الله عنه- عندما أراد توحيد المصاحف طلب من أم المؤمنين حفصة المصحف الإمام ، فنسخه و أعاده إليها[168] . و هذا يعني أن القرآن الكريم أُعيد نسخه في مصحف واحد يمكن حمله و نقله و إرجاعه . و لو أُبقي القرآن في الصحف التي كُتب فيها زمن النبي-عليه الصلاة و السلام- لما أمكن نقله في كتاب . لأن المواد التي كُتب فيها كانت متنوعة الأحجام و كثيرة المواد ، من صلبة و لينة ،كالعظام ، و الأحجار الرقيقة ، و الجريد ، و الرقاع ، و القراطيس . فلو جُمعت هذه المواد الجامعة لكل القرآن لتكونت كومة كبيرة يصعب حملها و لا يمكن تكوين مصحف منها ،و لا تصفحه . و هذا كله يستلزم أن القرآن عندما جُمع زمن أبي بكر أُعيد نسخه في مصحف واحد مُكوّن من مواد لينة و رقيقة كالجلد و الورق .
و الشاهد الثالث يتمثل فيما رواه ابن حجر العسقلاني و جلال الدين السيوطي ، فذكر الأول أن القرآن عندما جُمع زمن أبي بكر أُعيدت كتابته في قراطيس[169] . و ذكر الثاني أن القرآن بعدما كان مُفرقا جُمع زمن أبي بكر في أوراق ، و ضُم في مصحف واحد ، و رُبطت أوراقه بخيط حتى لا يضيع منها شيء[170] .
و أما ما حدث للقرآن زمن عثمان- رضي الله عنه- فهو ليس كما ذهب إليه الجابري ، و إنما هو عملية نسخ للمصحف الإمام في مصاحف جديدة حسب الأمصار من جهة ، و هو أيضا توحيد له و لرسمه و لقراءاته من جهة ثانية . و هذا أمر صرّحت به رواية البخاري السابق ذكرها ، لكن الجابري أغفل ذلك .
و أُشير هنا إلى أن الجابري قال باحتمال أن يكون القرآن قد ضاعت منه آيات ،و رجّحه . ثم ذكر موقف أهل السنة و الشيعة من : هل سقطت من القرآن آيات أم لا ؟ ، فذمر أن السنيين قال بعضهم بأن ما سقط من القرآن هو من المنسوخ ، و أنكر آخرون أن (( يكون ذلك من النسخ ، و قالوا : إن ما ذُكر من الزيادة و النقصان في القرآن يرجع إلى خبر الآحاد ، و أن القرآن لا يثبت بها، و إنما يثبت بالتواتر ))[171] .
و قوله هذا صحيح ، فقد قال به علماء سنيون ، لكن كلامه هذا ناقص ، لأن السنيين قالوا أيضا : إن كثيرا مما يتعلق بتاريخ القرآن شكلا و مضمونا ، كالنسخ و القراءات هو من الضعيف و الموضوع المكذوب الذي لا يصح أصلا[172] . و نحن قد سبق أن تتبعنا الرويات الست التي ذكرها الجابري ، و بينا أن معظمها لا يصح إسنادا و لا متنا . و قد تتبعتُ روايات كتاب المصاحف لابن أبي داود ، فتبين لي أن من بينها أكثر من 160 رواية غير صحيحة ، بعضها ضعيف ، و بعضها الآخر موضوع[173] . علما بأنه لا يُوجد من بين علماء أهل السنة من قال بأن القرآن تعرّض للتحريف بالزيادة أو بالنقصان أو بهما معا .
و أما موقف الشيعة ، فقد ذكر الجابري نصوصا من كتبهم المعتمدة عندهم ، نصّت صراحة بتعرض القرآن للتحريف الواسع بالزيادة و النقصان . و أشار إلى أن بعض علمائهم أنكر ذلك[174] . لكنه –أي الجابري- لم يتنبه إلى أن قول بعضهم بعدم التحريف هو مظهر من مظاهر التقية التي يُمارسها الشيعة ، فهي أصل من أصول مذهبهم يستخدمونها في حوارهم مع السنيين . و إلا فإن قولهم بتحريف القرآن هو من ضروريات مذهبهم ، لأن مذهبهم لا يثبت بالقرآن إلا إذا قالوا بتحريفه ،و أنه حُذفت منه الآيات التي تنص على مذهبهم الإمامي . و هذا زعم باطل ينقضه القرآن الكريم ، و الروايات الحديثية و التاريخية الصحيحة الموافقة للقرآن نفسه .
و بما أننا قد انتهينا من تتبع الروايات التي أوردها الجابري كشواهد على زعمه بتعرض القرآن للتحريف ، و التي لم تصح و لا رواية واحدة منها . فما هو موقف الجابري الحقيقي و الصريح من هذا الأمر ؟ .
إنه لم يكن صريحا واضحا في موقفه النهائي ، إنه تارة يُلمّح ، و تارة يفترض الاحتمالات ، و تارة أخرى يُغالط و يُدلّس ، و يُؤوّل و يختفي وراء النصوص الشرعية . لكن يمكننا معرفة موقفه النهائي من تتبع إشاراته و تلميحاته و استنتاجاته . لذا سنذكر طائفة من أقواله تساعدنا على معرفة ذلك .
أولها إنه تساءل بقوله : هل المصحف الإمام الذي جُمع زمن عثمان يضم القرآن كله : جميع ما نزل من آيات و سور ، أم أنه سقطت منه أو رُفعت منه أشياء حين جمعه[175] ؟ . فأجاب عن ذلك بجواب عام مفاده أن جميع علماء الإسلام –على اختلاف تخصصاتهم- يعترفون بوجود آيات و ربما سُور سقطت ،و لم تُدرج في المصحف ، لأنها منسوخة. ثم شرع في ذكر أنواع الإسقاط و النقص[176] ،و هي التي سبق أن ناقشناه فيها ،و رددنا عليه من خلالها .
و نحن نرى أمرا آخر ، هو أنه إذا كان سؤال الجابري يتعلق بالآيات المنسوخة كما أجاب هو عن ذلك . فإن سؤاله هذا لا يصح طرحه أصلا ، لأنه في غير محله ، و لا جدوى منه ، و هو عبث ، لأن جوابه معروف مسبقا شرعا و تاريخا و عقلا . لأن الآيات التي ثبت نسخها هي منذ أن نزل الوحي بنسخها ، فهي قد نًسخت و أُزيلت و رُفعت من المصحف المكتوب و المحفوظ معا . و من ثم فإن الصحابة لن يُدوّنوها و لا يكتبونها في المصحف ،و هذا أمر ضروري و طبيعي ،و لا عجب فيه ، لكن المرفوض هو لو أنهم دوّنوها فيه . فيكون عملهم هذا هو نوع من التحريف للقرآن لأنهم أدخلوا فيه ما نسخه الله تعالى و أزاله من كتابه العزيز. و أما عدم كتابتهم لذلك المنسوخ في المصحف فهو الأمر الصحيح و الصواب الذي لا يصح أن نسميه إسقاطا ، و لا تحريفا ، و لا إنقاصا ، لأنه تطبيق لأمر شرعي ، أمر الله تعالى به . لكن الجابري أٍرد أن يُوهمنا بسؤاله ، عندما سمّى عدم كتابة الصحابة للمنسوخ إسقاطا ، فهذا سؤال لا يصح طرحه أصلا .
فهل الجابري أخطا في طرحه لهذا السؤال ؟ ، نعم إنه أخطأ في ذلك ، فهو سؤال لا يصح طرحه . لكن يبدو أنه تعمد طرحه ليختفي من وراء النسخ ، و يصل إلى ما يُريد طرحه و تحقيقه . و يبدو لي أن حقيقة الرجل أنه أردا أن يسأل : هل عندما جمع الصحابة القرآن زادوا فيه ،و أنقصوا منه ، و ضاع منهم شيء من القرآن ؟. و سؤال كهذا لا يصح ان يطرحه مسلم أبدا ، اللهم إلا إذا طرحه من باب الافتراض و الاحتمال للرد على الطاعنين في القرآن الكريم ، فهو قد طرحه افتراضا لا اعتقادا . و أما إذا طرحه اعتقادا باحتمال صوابه ، أو لتصويبه ، فهو نقض لإيمانه ،و عليه أن يُراجع نفسه ،و يُجدد إيمانه بالتوبة و الاستغفار من جهة ، و يعلم أنه متناقض مع نفسه ،و عليه أن يسعى لإزالة تناقضه بالإخلاص و اليقين و المجاهدة .
و أما القول الثاني فمفاده أن الجابري قال : (( كانت هناك آيات لم تكن معروفة من لدن الجميع ، و أن زيد بن ثابت استدرك بعضها ))[177] . و قوله هذا فيه تغليط و تدليس ،و يتضمن القول بضياع شيء من القرآن لم يُستدرك . و زعمه هذا باطل و لا يصح ، لأنه إذا كانت بعض الآيات لم يكن يعرفها كل الصحابة عند نزولها ، لأنهم لم يكونوا مع النبي- عليه الصلاة و السلام- ، فهذا لا يطعن في توثيق القرآن و حفظه ، لأن رسول الله كان إذا نزل عليه الوحي أخبر أصحابه بذلك و أمر بكتابته . و الشاهد على ذلك أيضا أن عمر بن الخطاب عندما اقترح على أبي بكر جمع القرآن قال له : (( أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن ، فيذهب كثير من القرآن ، إلا أن تجمعوه ))[178] .: اكتبوه ، أو دوّنوه ، أو أكملوا كتابته ،و إنما قال له : اجمعوه . لأنه كان يعلم أن القرآن كله محفوظ تدوينا و حفظا،. و نفس الأمر قاله أبو بكر لزيد- رضي الله عنهما- فقال له :" تتبع القرآن فاجمعه ". فلم يقل له أكتبه ، أو أكمل كتابته . فهذا دليل دامغ على بطلان زعم الجابري .
و لا يملك الجابري أي دليل صحيح يُثبتُ أن رسول الله كان لا يكتب بعض الآيات ،و لا يُخبر بها أصحابه . لذا فإن زعم الجابري باطل شرعا و تاريخا ،و ينقضه قوله تعالى : ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ))-المائدة : 67- كما أن معرفة بعض الصحابة بنزول القرآن ، قبل أن يسمع به باقي الصحابة ، لا تقدح في القرآن ، لأنه لا يُعقل أن يكون كل الصحابة عند النبي-عليه الصلاة و السلام- ليحضروا نزول الوحي . لذا كان الحاضرون يُخبرون الغائبين بما نزل من القرآن الكريم .
و أما استدلاله باستدراك زيد لآيتين من سورة التوبة ، و لأية من سورة الأحزاب ، فقد سبق أن بينا بالأدلة القاطعة أن ذلك لم يكن استدراكا ، بمعنى أنه حدث نسيان و ضياع لها فتذكرها زيد بن ثابت و ألحقها بالمصحف . و إنما الذي حدث هو أن زيدا عندما جمع القرآن زمن أبي بكر افتقد تلك الآيات مكتوبة ، و لم يفتقدها بسبب النسيان و الضياع ، فخرج يبحث عن المكتوب و ليس عن المحفوظ ، لأنه هو شخصيا كان يحفظها-كغيره من الصحابة- ،و سمعها بنفسه من النبي-عليه الصلاة و السلام- ،و هذا أمر سبق أن أثبتناه و وثقناه .
و لذلك لا يصح قول الجابري بأن زيدا استدرك آيات لم تكن معروفة من لدن الجميع . فهو لم يستدرك شيئا من القرآن ، و إنما جمعه بطريقة علمية قمة في التوثيق و الحرص و الموضوعية ، جمع من خلالها بين المحفوظ المُتقن و الأصل المكتوب . و قد تمت العملية على يد رجل مُختص في القرآن حفظا و رسما و قراءات ، و مع ذلك أشرك في عمله غيره من الصحابة ، و كان يخرج إليهم و يجمعه من الصدور و المكتوب ، تحت رعاية خليفة المسلمين أبي بكر ، و وزيره عمر- رضي الله عنهما- . و لم يتوقف من الجمع إلا بعدما تأكد يقينا أنه جمع كل القرآن لأنه كان يحفظه كله ، معتمدا على المحفوظ و المكتوب معا[179] ، و بذلك يتبن أن الجابري كان محرفا مُغالطا مُدلسا عندما زعم أن زيدا استدرك بعض الآيات من القرآن الذي لم يكن معروفا لدي جميع الصحابة .
و أما القول الثالث فمفاده أن الجابري –بعدما عرض الروايات التي أشارت إلى سقوط شيء من القرآن[180]- عقّب على ذلك بقوله : (( فإذا تجاوزنا ما قيل بصدد آية أو بضع آيات مما سبق ذكره ، باعتبار أن ذلك من المور المقبولة في كل عملية جمع تتم في ظروف مماثلة )) ، و لا نعتقد أن ما سقط منهما – من سورتي الأحزاب و التوبة- من الآيات ، إذا كان هناك سقوط بالفعل يتعلق بهذا الموضوع ... و كل ما يمكن قوله – على سبيل التخمين لا غير- هو أن يكون الجزء الساقط من سورة براءة هو القسم الأول منها... و أما سورة الأحزاب فيبدوا أن ما سقط منها مُبالغ فيه ...))[181] .
إنه بنى قوله هذا على التغليط و التدليس ، و التخمين و الظن ، و هو قول لا يصح شرعا و لا تاريخا ، لأنه أولا سبق أن بينا أن الروايات التي اعتمد عليها في قوله بتحريف القرآن هي روايات باطلة إسنادا و متنا ، و الصحيح منها لا علاقة له بذلك الزعم . و بينا أن النسخ لا يصح تسميته إسقاطا و لا ضياعا ،و هو أمر تم على يد رسول الله و في زمنه ، على مسمع و مرأى من الصحابة . لكن الجابري مُصر على تسمية النسخ بأنه إسقاط ، ليختفي من ورائه في إثارة الشكوك و الشبهات، من جهة ، و الطعن في القرآن و الصحابة الذين جمعوه من جهة أخرى .
و أما زعمه بأن سقوط آية أو بضع آيات أثناء جمع القرآن بأنه أمر معقول و عادي ، فهو قول باطل مردود ، و غير معقول ،و ليس عاديا . لأن القرآن يختلف عن كل كتب العلم ، و جُمع بطريقة علمية موضوعية دقيقة و مضبوطة ، على أيدي جماعة مؤمنة مُخلصة ، تقية متخصصة ، مارست عملها في ظروف سياسية و اجتماعية و فكرية عادية للغاية ، في ظل خلافة راشدة مُمثلة للأمة و مُتحدة معها،و قبل كل ذلك توفر الرعاية و التوفيق الإلهيين للصحابة ، لأن الله تعالى تكفل بحفظ كتابه ، و أخبرنا أنه لا يأتيه الباطل أبدا. فعملية تتم في بتلك الطريقة ، و في تلك الظروف لا يمكن أن يدخلها نقص و لا خلل ،و لا يمكن أن يضيع فيها حرف من القرآن الكريم .
لكن الجابري عكس الأمر من جهة ، و هوّن من دعوى سقوط أية أو بضع آيات من القرآن من جهة أخرى و جعل ذلك أمرا عاديا للغاية ، فهو مقبول و مُبرر ، و لا حرج فيه . فعل ذلك بطريقة تغليطية تدليسية ليجعل النفوس تتقبل افتراءه و مغالطته تدريجيا ، حتى تصل إلى القول بتحريف القرآن صراحة ،و رفضه كلية . و تبدأ العملية هكذا: فبما أن القرآن حدث فيه نقص ، و ضاع منه قليل من الآيات ، فمن الممكن أيضا أن تكون آيات كثيرة سقطت منه و لا علم لنا بها . و بما أن ذلك حدث فمن الممكن أن بعض الصحابة تعمد فعله ، و من الجائز أن بعضهم أدخل فيه ما ليس منه . و بما أن كل ذلك حدث أو قد يحدث ، فهذا يجعلنا نشك في القرآن كله ،و لا يصح الاحتجاج به و لا الالتزام به ، لأن المنطق يقول : إذا دخل الاحتمال سقط الاستدلال . و بذلك ينتهي بنا زعم الجابري إلى إنكار القرآن و الكفر به . فيكون بذلك قد ارتكب جريمة كبيرة في حق القرآن الكريم ، من دون أي دليل صحيح من الشرع ، و لا من التاريخ ، و لا من العقل من جهة . و يكون قدّم نفسه نموذجا سيئا للطاعنين في القرآن بالتحريف و التغليط بالتأويل التحريفي من جهة أخرى . .
و أما قوله الرابع فمفاده أن الجابري حاول أن ينفي عن نفسه القول بتحريف القرآن من جهة ، لكنه قال به من جهة أخرى ، و ذلك أنه قال : (( و خلاصة الأمر ليس ثمة أدلة قاطعة على حدوث زيادة أو نقصان في القرآن كما هو في المصحف بين أيدي الناس منذ جمعه زمن عثمان . و أما قبل ذلك فالقرآن كان مُفرقا في صُحف و في صدور الصحابة ، و من المؤكد أنه ما كان يتوفر عليه هذا الصحابي أو ذاك من القرآن مكتوبا أو محفوظا ، كان يختلف عما كان عند غيره كما و ترتيبا . و من الجائز أن تحدث أخطاء حين جمعه زمن عثمان أو قبل ذلك . فالذين تولّوا هذه المهمة لم يكونا معصومين ، و قد وقع تدارك بعض النقص كما ذُكر في مصادرنا ))[182] .
واضح من كلامه أنه يقول بضياع بعض القرآن ، و أن مصحفنا الموجود عندنا ناقص ، و قد ضاعت منه آيات سهوا أو عمدا أو بهما معا .و زعمه هذا باطل جملة و تفصيلا ، بناه على ظنون و معطيات غير صحيحة أصلا . لأنه أولا زعم أن القرآن قبل توحيده زمن عثمان- رضي الله عنه- كان مُفرقا في الصحف و الصدور ،و هذا غير صحيح تماما ،و لا أدري من أين جاء به الجابري ، فهو لم يُوثق زعمه هذا . و الروايات الصحيحة نصت صراحة على أن القرآن جُمع كله زمن أبي بكر- رضي الله عنه- ، اعتمادا على المحفوظ و المكتوب معا . ثم جُمع في مصحف واحد ، وظل عند أبي بكر ، ثم عند عمر ، ثم عند أبنته حفصة- رضي الله عنهم- ، ثم طلبه عثمان ، فنسخه من أية زيادة و لا نقصان و أرجعه إليها . ،و لم تحدث أية عملية جمع جديدة للقرآن[183] .
فالجابري هنا يتعمد تحريف التاريخ ليجد مبررا للزعم بأن القرآن لم يكن محفوظا حفظا جيدا قبل سنة 25 هجرية ، مما يجعله عرضة للضياع و الزيادة و النقصان ، . هذا ما يريد الجابري الوصول إليه بتحريفه للتاريخ ، و إغفاله للروايات الصحيحة ، و تأويله الفاسد لها ، و اعتماده على الروايات المكذوبة التي لم يحققها إسنادا و لا متنا . فالروايات كلها عنده سواء ، يأخذ منها ما يريد ، و يترك منها ما يريد من دون منهج علمي نقدي تحقيقي ز و هذا ليس من العلم و لا من الموضوعية في شيء .
و أما زعم الجابري بأنه (( وقع تدارك بعض النقص كما في مصادرنا ))، فهذا يعني أنه قد ضاعت من القرآن الكريم آيات لم تُستدرك ، و هذا زعم باطل سبق أن بينا بطلانه بالأدلة القاطعة و الدامغة . و بيّنا أنه لم يحدث أي استدراك لآية أو أكثر من القرآن ،و إنما الذي حدث هو عمل علمي جماعي تم بأمر من خليفة المسلمين أبي بكر- رضي الله عنه- في ظروف عادية للغاية ، جُمع خلالها القرآن كله و لم يسقط منه حرف واحد ، و هذا أمر سبق تبيانه و توثيقه .
و هو قد افترى على المصادر عندما قال : (( كما ذُكر في مصادرنا )) ، لأن هذه المصادر التي رجع إليها و ذكر رواياتها ، لا توجد فيها رواة صحيحة قالت بأن آيات من القرآن تداركها الصحابة ، و أخرى سقطت منهم و ضاعت . فهذا زعم باطل ، و قد بينا أن معظم الروايات التي احتج بها ، غير صحيحة إسنادا و متنا . و الصحيح منها لم تذكر ما زعمه الجابري ، و إنما أشارت إلى أن آيات من القرآن قد نُسخت ، و هذا أمر شرعي معروف في دين الإسلام . لكن الجابري يختفي من وراء النسخ و يُؤوّله ليصل إلى القول بأن القرآن ضاعت منه آيات أُسقطت من المصحف ،و هذا افتراء على الحقيقة ،و تغليط للقراء ، لأن النسخ ليس نقصا و لا ضياعا .
و ثانيا إن الجابري احتج باحتمال عقلي لتأييد زعمه بأن القرآن قد يكون ضاع منه شيء ، فقال : (( و من الجائز أن تحدث أخطاء حين جمعه ،زمن عثمان أو قبله )). و احتماله هذا هو مجرد احتمال نظري لا يُوجد دليل عقلي و لا عملي على حدوثه في الواقع ، و إنما خلافه –بعدم حدوث أي خطأ – هو الثابت شرعا و تاريخا و عقلا ،و الدليل على ذلك الشواهد الآتية .
أولها إن الإمكان العقلي لأمر ما ، لا يعني بالضرورة أنه حدث في الواقع فعلا . لأن الإمكان النظري شيء ،و حدوثه في الواقع شيء آخر . و للتأكد من حدوثه ، لا بد من أدلة صحيحة تُثبت حدوثه في الواقع . و الجابري عندما أجاز وقوع أخطاء أثناء جمع القرآن يكون قد أدخل احتماله مجال الإمكان العقلي فقط ، و هذا لا يكفي لإثبات حدوث ذلك في الواقع ، لأن احتماله هذا ، يُقابله احتمال آخر- بنفس الدرجة- بإمكانية أن لا يكون وقع أي خطأ أثناء جمع القرآن . لذا كان عليه أن يُقدم الدليل التاريخي الصحيح على أن احتماله النظري حدث في الواقع فعلا . لكنه لم يقدم دليلا صحيحا يُؤيد به زعمه بحدوث نقص و ضياع للقرآن زمن عثمان و بعده .
علما بأنه إذا كان من الجائز أن يُخطئ الإنسان في أعماله ، فمن الجائز أيضا أن لا يُخطئ فيها أصلا، و في الحالتين لا بد من أدلة تُثبت وقوع أحد الاحتمالين في الواقع العملي . فاحتجاج الجابري بالإمكان العقلي ليس حجة في ذاته ،و إنما يحتاج إلى دليل صحيح يثبت حدوثه في الواقع .
و الشاهد الثاني –على عدم حدوث ذلك الاحتمال- هو أن كل الروايات التاريخية التي أوردها الجابري ، لا توجد من بينها رواية واحدة صحيحة ذكرت أن الذين جمعوا القرآن الكريم وقعوا في أخطاء أدت إلى ضياع بعض القرآن الكريم .
و الشاهد الثالث مفاده أن الله تعالى أخبرنا أنه يتولى حفظ كتابه ، و أنه كتاب مُحكم لا يأتيه الباطل أبدا ،لقوله تعالى : ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))-الحجر : 9- ، و ((الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ))-هود : 1- ، و ((وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ))- فصلت :41- 42 - . و هذا يستلزم حتما أن الله تعالى قد حفظ كتابه حفظا كاملا ، و أنه سبحانه قد وَفّق كُتابه و جامعيه من أن يقعوا في أي خطأ ، أو نسيان ، أو يضيع منهم شيء من القرآن . فهذه رعاية إلهية قطعية تحول دون حدوث أي نقص في القرآن ،و هي رعاية ما تزال مُستمرة إلى يومنا هذا .
و أما الشاهد الرابع-على عدم حدوث ذلك الاحتمال- فمفاده هو أن الله تعالى أخبرنا أنه أكمل دينه في قوله سبحانه : ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ))-المائدة : 3- ، و هذا يستلزم أن يكون كتابه المنزل محفوظا كاملا لا نقص فيه و لا زيادة ، لأن حدوث خلاف ذلك ، بمعنى تعرّضه للتحريف ، هو نقض لمبدأ اكتمال دين الإسلام . و بما أنه اُكتمل حقا و فعلا فإن هذا يستلزم أن القرآن لم يتعرض للتحريف بالزيادة و لا بالنقصان .
و الشاهد الخامس-على بطلان زعمه- هو أن تكوين النبي-عليه الصلاة و السلام- لجماعة كبيرة من الصحابة-عُرفت بالقراء- تخصصت في القرآن الكريم حفظا و تلاوة ، و فهما و رسما، و استمرارها في نشاطها القرآني الجماعي من بعده[184] ، هو ضامن قطعي –على المستوى العملي- على عدم حدوث أي نقص في القرآن سهوا و لا عمدا ، لأنها كانت هي الجماعة المتخصصة ، و المراقبة ، و المدققة ، و الحارسة ، و الحافظة له .
و الشاهد السادس مفاده أن قيام لجنة متخصصة بجمع القرآن- زمن أبي بكر- ، برئاسة كبيرها زيد بن ثابت ، بالاعتماد على المحفوظ و المكتوب معا ، مع الحرص الشديد و التعظيم الكبير للقرآن ، كل ذلك يجعل حدوث أخطاء تُؤدي إلى ضياع شيء من القرآن ، هو أمر لا يصح القول به ،و لا افتراضه ، لأن تلك اللجنة قامت بعملها على اكمل وجه من الحرص ، و التحري ، و التتبع ، و الدقة ، حتى أنها تنبّهت لثلاثة آيات فقدتها مكتوبة مع حفظها لها ، فبحثت عنها حتى وجدتها مكتوبة في أصولها . فهذا دليل قاطع على الحرص الشديد ،و الإصرار الكبير على جمع القرآن جمعا صحيحا كاملا لا خلل فيه ، بحيث لا يحدث أي خطأ يُؤدي ضياع شيء من القرآن . علما بان تلك الآيات المفقودات لم يحدث فقدانها بسب الخطأ و النسيان ، و إنما حدث بعضه على مستوى الوثائق الأصلية التي تتعلق بثلاث آيات . فتداركتها اللجنة بسرعة و بسهولة ، مما يعني أن اللجنة لم تنه عملها إلا بعد المراجعات النهائية ،و التأكد من جمع كل القرآن ،و أنه لم يضع و لم يسقط منه شيء محفوظ و لا مكتوب[185] .
و أما الشاهد –على عدم حدوث تلك الأخطاء المحتملة- مفاده أن جمع القرآن زمن أبي بكر ، و توحيده زمن عثمان- رضي الله عنهما- كل ذلك تمّ في ظروف سياسية و اجتماعية و فكرية عادية و موحدة ، و مستقرة في ظل وحدة الأمة و تماسكها ، و تعاونها و قوتها ؛ الأمر الذي وفّر للجنة الأمن و الرعاية ،و حرية التحرك و التحري ، في الجمع و التدوين ، فقامت بعملها على أكمل وجه ، في ظروف لا قهر فيها و لا إرهاب ،و لا خوف من سلطان.
و الشاهد الثامن مفاده أن عملية جمع القرآن زمن أبي بكر- رضي الله عنه-تمت بإجماع من الأمة كلها ، و لم تحدث أية معارضة على الجمع ،و لا على طريقة التدوين و لا على المضمون . و هذا يعني أن الأمة هي التي تولت جمع القرآن و تدوينه ، فلو حدث نقص أو ضياع شيء من القرآن ما غاب ذلك عنه و لاستدركته ، و بما أن ذلك لم يحدث ،و هي لا تجتمع على ضلالة ، فإن موقفها هذا دليل قاطع على عدم حدوث أية أخطاء و لا تحريفات في جمعه و تدوينه .
و أما الشاهد الأخير – و هو التاسع- فمفاده أن الذين جمعوا القرآن و دوّنوه و خدموه ، هم الصحابة- رضي الله عنهم – الذين أمنوا بالإسلام ، و جاهدوا في سبل الله بأموالهم و أنفسهم و أولادهم . هؤلاء يستحيل – عمليا- أن يُفرّطوا في القرآن ، أو يُحرّفوه ، أو يُهملوه ، أو يتهاونون في جمعه و كتابته . لهذا رضي الله عنهم ،و شهد لهم بالإيمان و العمل الصالح ، و دخول الجنة ،و لو لم يكونوا أمناء على كتاب الله حفظا و تدوينا و صيانة، لما شهد لهم بذلك ، كقوله سبحانه : ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ))-الفتح : 18-، و ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ))-التوبة : 100- )) ، و ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ))-النور : 55 -. و بما أن هذا الوعد قد تحقق على أيديهم ، فمعنى ذلك أنهم حقا كانوا مؤمنين أتقياء صالحين ، و من كانت هذه صفاتهم لا يمكن أن يُحرّفوا كتاب الله ، و لا يتهاونون في حفظه و صيانته .
و بذلك يتبن –من الشواهد التي ذكرناها- أن قول الجابري باحتمال أن يكون القرآن قد تعرّض للنقصان و الضياع عند جمعه و تدوينه ، هو مجرد احتمال نظري ممكن يُقابله احتمال نظري آخر بامكانية عدم تعرّضه لذلك من جهة ، و يُبطله و يُكذبه الشرع و التاريخ الصحيح كما سبق أن بيناه من جهة أخرى .
و أما قوله بأن الذين (( تولوا هذه المهمة لم يكونوا معصومين )) ، فهو نوع من التغليط ليُؤيد به الجابري رأيه باحتمال أن تكون وقعت أخطاء أثناء جمع القرآن و تدوينه . و هذا الاحتمال النظري سبق الرد عليه ، كما أنه إذا كانت العصمة تعني عدم الوقوع في الخطأ ، فإن عدم العصمة لا تعني أيضا ضرورة الوقوع في الخطأ ،و إنما تعني أن عمل الإنسان عرضة للصواب و الخطأ معا ، و يمكنه أن يحتاط لنفسه فلا يقع في الخطأ ، و بذلك يُمكنه أن يصنع لنفسه عصمة عملية تقوم على كثرة الحرص و الاحتياطات ،و التعاون و المراجعات . و هذا هو الذي فعله الصحابة في جمعهم للقرآن و تدوينه ، فكان عملهم هذا محفوظا و مُحاطا و موجها بثلاثة أنواع من العصمة ، تنسف احتمال الجابري من أساسه :
أولها عصمة الحفظ الإلهي للقرآن ، و بما أن الله تعالى أخبرنا أن يحفظ القرآن الكريم ، و أنه كتاب مُحكم ، و لا يأتيه الباطل أبدأ، فإن هذا يستلزم حتما أنه سبحانه سيحفظ كتابه من أي تحريف إلى الأبد ، فهيأ له الظروف التي حفظته على أيدي الصحابة الأمناء الكرام .
و ثانيها عصمة الإجماع ،و ذلك أن النبي-صلى الله عليه و سلم- ذكر أن أمته لا تجتمع على ضلالة[186] . و بما أن الأمة أجمعت على الطريقة التي جُمع بها القرآن و دُوّن ، و لم تنكر الأمة منه شيئا ، فإن هذا يعني أن عملها كان صائبا معصوما من الزلل .
و العصمة الثالثة تتمثل في عصمة الاحتياطات ،و الظروف المناسبة ، و الاحترازات ، و المرجعات التي استخدمها الصحابة في جمعهم للقرآن الكريم ، فتمت العملية في ظروف مستقرة جيدة ،و برعاية من الدولة ، و بطريقة جماعية علمية مضبوطة جمعت بين المحفوظ و المكتوب معا . كل ذلك وفّر للصحابة عصمة بشرية جماعية ، تُضاف إلى العصمتين الأولى و الثانية ، مما يعني أنه يستحيل أن يتعرض القرآن للتحريف ، أو يضيع منه حرف واحد .
و أما قوله الأخير- و هو الخامس- فيتمثل في : (( و هذا لا يتعارض مع قوله تعالى " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"-الحجر : 9- ، فالقرآن نفسه ينص على امكانية النسيان و التبديل ،و الحذف و النسخ . قال تعالى مخاطبا رسوله الكريم : " سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى ، إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ))- سورة الأعلى :6- 7- " ، و قال : " وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ "-النحل : 101 - ، و قال : " وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ -الحج : 52- ، و قال : " مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "-البقرة : 106-. ، و قال : " وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ، يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ))-الرعد :38- 39 - . ثم قال الجابري : و مع أن لنا رأيا خاصا في معنى الآية ، في بعض هذه الآيات ، فإن جملتها تُؤكد حصول التغيير في القرآن ، و إن ذلك حدث بعلم الله و مشيئته ))[187] .
و أقول : إن الجابري بعدما ذكر روايات كثيرة باطلة حول ضياع آيات من القرآن ، و انتهى إلى القول صراحة بأن آيات من القرآن ضاعت منه بسب العامل البشري ؛ انتقل هنا إلى القرآن نفسه ليس ليحتج به على بطلان تلك الروايات ، و تهافت الرأي القائل بتحريف القرآن ،و إنما رجع إليه ليُحرّفه و يُؤيد به رأيه في القول بضياع شيء من القرآن . فاستخدم القرآن لضرب القرآن و القول بتحريفه ، بدعوى أنه حدث فيه نسخ و نسيان ،و تغيير و تبديل لآيات منه .
و هو هنا واصل عمليته التحريفية التي مارسها في تعامله مع الروايات التاريخية و الحديثية ، التي أشارت إلى حدوث نسخ في القرآن ،و رفع لقسم من ىياته . فسمى ذلك سقطا و ضياعا ،و لم يُفرّق بين النسخ الذي أقره الشرع ، و بين العمل البشري الذي يُمارس التحريف . فتمسك بذلك ، و تعلق بروايات مكذوبة ،و بتأويلات باطلة ، ليصل إلى القول بضياع شيء من القرآن .
و نفس العمل مارسه مع القرآن ، فتمسك بالنسخ و التغيير ،و لم يُفرّق بين الفعل الإلهي في النسخ و التبديل لآيات من القرآن ، و بين الفعل البشري الذي يُمارس التحريف في القرآن . ثم ادعى أن تلك الآيات –التي ذكرها- تُؤكد حدوث التغيير في القرآن ، دون أن يُحدد نوع التغيير الذي يقصده ،و تركه مفتوحا ليُدخل فيه كل تغيير مهما كان نوعه و فاعله ، كزعمه بضياع آيات من القرآن أثناء جمعه و تدوينه .
و تلك الآيات التي الآيات لا تقرر ما قاله الجابري و يريد الوصول إليه ، و إنما هي أكدت على أن الله تعالى فعال لما يريد ، ينسخ و يُبدل من كتابه العزيز ما يشاء و يختار ، لأنه سبحانه مُطلق الإرادة في فعل ذلك ، عن علم و حكمة ، و رحمة و كمال ، و فعله هذا ليس نقصا ، ولا عيبا ، و لا تحريفا للقرآن .
لكنه من جهة أخرى ذكر سبحانه و تعالى أن القرآن الكريم مُحكم ،و لا يأتيه الباطل أبدأ ، و أنه محفوظ مصون ، لقوله تعالى : ((الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ))-هود : 1-، و ((وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ))- فصلت :41- 42 - ، و ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))-الحجر : 9- . فالله تعالى حفظ كتابه من أن يناله أي تحريف بشري بالزيادة و لا بالنقصان ، فلا يمكن أبدا أن يناله ذلك . فهذا التغيير هو الذي نفاه الله عن كتابه ،و تولى حفظه من أن يناله ذلك ، و هذا خلاف التغيير الأول الذي يعني فعل الله في نسخ و تبديل بعض آيات القرآن الكريم . فهذا الفرق هو الذي تناساه الجابري ،و لم يُفرّق بين التغييريّن و الفعلين ، و زعم أن الفعل البشري التحريفي لا يتعارض مع قوله تعالى : ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))-الحجر : 9- ، فهذا تغليط و افتراء على القرآن و تحريف له ، لأن هذه الآية لا تتناقض مع الفعل الإلهي في النسخ و التبديل ، لكنها تتناقض مع القول بتعرض القرآن للتغيير البشري بمعناه التحريفي لآيات الكتاب العزيز .
و يبدو أن الجابري يريد الوصول إلى القول: إنه لا يصح الاحتجاج بتلك بآية ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))-الحجر : 9-، في نفي تعرض القرآن لأي تحريف من زيادة و نقصان ، بدعوى أن القرآن يشهد على نفسه بأنه تعرّض للتغيير و التبديل ،و لم يحفظ نفسه من ذلك ، و من ثم فإن هذه الآية لا تنفي من أنه قد يتعرّض القرآن لتغيير خارجي بشري بمس بعض آياته . و زعمه هذا تغليط و تدليس ،و باطل بلا شك ، بناه على التلاعب و التأويل الفاسد ،و قد سبق أن بينا الفرق بين التغييرين ، و نسي أو تناسى أن النسخ و التبديل المذكورين في القرآن هما مظهر من مظاهر الحفظ ، فالله تعالى حفظ كتابه بنسخ منه آيات أدت مهمتها. فكان نسخها حفظا للقرآن و ليس تغييرا و لا تحريفا له . فهذا نوع من الحفظ ، يُقابله حفظ آخر يتمثل في حفظ القرآن من كل أنواع التحريف البشري . فالآية إذاً دليل دامغ على بطلان التأويل التحريفي الذي قال به الجابري .
و ختاما لهذا المبحث يتبين منه أن الجابري قال بنوع من التحريف المتمثل في ضياع آيات من القرآن ، معتمدا على روايات مكذوبة ، و تأويلات تحريفية فاسدة ، و استنتاجات خاطئة مغرضة . من دون أن يجمع روايات و يُمحصها و ينقدها لتمييز صحيحها من سقيمها . ثم بنى عليها أباطيل و خرافات ،و تأويلات تحريفية للنصوص الشرعية ، حتى انتهى به الأمر إلى القول بضياع شيء من القرآن الكريم . فتتبعنا أباطيله و تحريفاته ،و بينا زيفها و تهافتها ،و لله الحمد و المنة ، و منه العون و السداد .
ثالثا : نقد موقف الجابري في نظرته إلى قصص القرآن الكريم :
اتخذ الباحث محمد عابد الجابري مواقف عديدة من قصص القرآن الكريم ، بناها على أساس نظرته المذهبية إليها . فكان بعضها صحيحا ،و بعضها الآخر غير صحيح ، يتعلق بخصائص تلك القصص و أهدافها ،و علاقتها بقصص التوراة .
فمن مواقفه غير الصحيحة- المتعلقة بالخصائص- أنه زعم أن الأصالة و الإبداع في قصص القرآن يكمنان في طريقة عرض القرآن لها[188] . و قوله هذا غير صحيح في معظمه ،و ليس فيه من الصواب إلا القليل ، و فيه إغفال كبير لخصائص قصص القرآن و أصالتها و إبداعها ، و موقفه هذا يندرج ضمن طريقته التقزيمية التي مارسها في موقفه من قصص القرآن[189] .
و طريقة العرض التي أشار إليها الجابري ، ما هي إلا جانب واحد من جوانب كثيرة تتعلق بأصالة قصص القرآن و إبداعاتها المتمثلة في خصائصها الكثيرة و المتنوعة ، و المتعلقة بمختلف مظاهر الحياة البشرية في التاريخ القديم . إنه- أي الجابري- أغفل هذه الجوانب و قزّمها بمضمونها و غاياتها من جهة ، و ضخّم طريقة العرض و جعلها أساس الأصالة و الإبداع في قصص القرآن من جهة أخرى .
و موقفه هذا ليس فيه من الصواب إلا القليل ، لأنه قزّم خصائص قصص القرآن و جعلها في خاصية واحدة ، ثم ضخّم هذه الأخيرة و حولها من حبة صغيرة إلى قبة كبيرة ،و ضرب صفحا عن الخصائص الأخرى . و ردا عليه ، و تأييدا لما ذكرته أذكر الخصائص الآتية :
إنها قصص قالها الله تعالى ، و قصّها علينا بكلامه المقدس ،و هي من أحسن القصص لقوله تعالى : ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ))-يوسف : 3- . فهي ليس قصصا عادية ، و إنما هي قصص مقدسة لأن الله تعالى هو الذي حكاها لنا بكلامه المقدس . و هذا خلاف قصص التوراة و الأناجيل المحرفة ، التي كتبها بشر أمثالنا بكلامهم و ألفاظهم ، فهي ليست كلاما إلهيا و لا مقدسا . فشتان بين من يقرأ قصة قصّها الله تعالى عليه ، و بين من يقرأ قصة حكاها له بشر مثله !! .
و منها أيضا إنها قصص حقيقية واقعية صحيحة تتعلق بمواضيع متنوعة من حياة الإنسان ، و قد وصفها الله تعالى بقوله : ((إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ))- آل عمران : 62- ، و ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ))-يوسف : 3-. إنها قصص حقيقية ليست أكاذيب، و لا خرافات و لا مستحيلات .
و منها إنها قصص مهيمنة على قصص أهل الكتاب ، و تحمل إعجازا تاريخيا مذهلا ، فهي مهيمنة على قصص التوراة و الأناجيل المحرفة ، و معجزة لأنها قصص حقيقية صحيحة ، ذكرت طائفة الأخبار لا وجود لها في الكتب الدينية و لا التاريخية القديمة من جهة ، و أوردت أخبارا أخرى صحيحة ، هي مذكورة في الكتب القديمة بطريقة مُحرّفة . فقصص القرآن مُعجزة بالضرورة لأنها أخبرت بأخبار صحيحة عن وقائع مجهولة ،و لأنها أيضا صححت أخبارا وردت إلينا مُحرّفة[190] .
و منها إنها قصص واقعية تربوية حركية ، تعرض حوادث تاريخية من أجل تغيير واقع الناس السيئ إلى واقع جديد يقوم على العبودية التامة لله تعالى، كقوله تعالى : ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ))-الممتحنة : 4 -، و((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ))-يوسف : 111- ، و ((فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ))-آل عمران : 52- .
و بذلك يتبين أن أصالة قصص القرآن الكريم ليست متمثلة في طريقة عرضها فقط ، كما زعم الجابري ، و إنما هي أيضا مُتمثلة أساسا في خصائص كثيرة ذكرنا طرفا منها على سبيل المثال لا الحصر .
و أما عن أهداف قصص القرآن ، فإن الجابري يرى أن القصص التي ذكرها القرآن هي (( للذكر ، أي للموعظة و العبرة )) ، هدفها (( هو ضرب المثل و استخلاص العبرة )) . و الحقيقة التي تطرقها تلك القصص هي (( العبرة ، هي الدرس الذي يجب استخلاصه ))[191] .
و قوله هذا مُبالغ فيه ، و لا يمثل إلا جانبا واحدا من أهداف القصص القرآني ، التي أغفلها الجابري ضمن طريقته التقزيمية في نظرته إلى تلك القصص ، التي لها أهداف كثيرة تمس مختلف جوانب الحياة البشرية .
و منها التعريف بجوانب مهمة جدا من تاريخ نشأة العالم و الإنسان إلى آخر الرسالات السماوية ، كقوله تعالى : ((الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ))-الفرقان : 59- ، و ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ))-فصلت : 11-، و ((هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ))-الإنسان : 1-، و ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )) -البقرة : 30-، و ((قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ))-طه : 123- ، و ((وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ )) -الصافات : 77- .
و منها تصحيح جوانب مُحرفة من تاريخ بعض الأنبياء ، و الرد على دعاوى أهل الكتاب كقوله تعالى : ((وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ))-البقرة:102- و ((مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ))-آل عمران : 67- .
و منها كشف انحرافات أهل الكتاب ،و جرائمهم ،و تحريفهم لكتبهم ، كقوله تعالى : ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ))-التوبة : 30-، و ((وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ))-المائدة : 116- ، و ((وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (البقرة : 72- ، و ((َبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ))-النساء : 155- ، و ((فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ))-المائدة : 13- ، و ((أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ -البقرة : 75- ، و ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ))-المائدة : 78- .
و منها أيضا الرد على شبهات اليهود و النصاري و المشركين و الدهريين من خلال القصص القرآني ، كقوله تعالى : ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ))-التوبة : 30- ، و ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ))-المائدة : 64- ، و ((لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ))-المائدة : 73- ، و ((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ))-الجاثية : 24- .
و منها أيضا إظهار صدق نبوة محمد-عليه الصلاة و السلام- ، و صحة القرآن الذي جاء به من عند ربه ، من خلال القصص القرآني ، كقوله تعالى : ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ))-يوسف : 3-، و ((وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ))-القصص : 46- ، و (((فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ))-يونس : 92- .
و أما موقف الجابري من علاقة قصص القرآن بقصص التوراة فإنه ذكر أنها علاقة تصديق ، مع وجود فروق في طريقة عرض الحوادث ،و يمكن القول أيضا : إنها علاقة حكاية ، بمعنى أن (( القرآن يحكي ما ورد في التوراة من أخبار أنبياء بني إسرائيل )) [192] .
و قوله هذا ليس فيه من الصواب إلا القليل ، و فيه باطل كثير ، و يتضمن تقزيما لمكانة قصص القرآن ،و و إغفالا لفروق أساسية كثيرة تميزت بها قصص القرآن و تفوّقت بها على قصص التوراة . لكن الجابري مُتعصب ، ينطلق من خلفيات مذهبية جعلته يُقزّم قصص القرآن ،و يغفل خصائصها بالنظر إلى قصص التوراة .
و ردا عليه أقول : إن الفروق بين قصص القرآن و التوراة لا تنحصر أساسا في طريقة العرض ، كما زعم الجابري ، و إنما تشمل أيضا جوانب أخرى ، سيأتي ذكرها قريبا . كما أن علاقة قصص القرآن بقصص التوراة ليست علاقة تصديق فقط ، و إنما هي علاقة لها وجه آخر هام جدا ، لم يذكره الجابري ، سنذكرها فيما يأتي :
من ذلك إنها علاقة هيمنة و احتواء و تفوّق ، بدليل قوله تعالى : ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ))المائدة : 48-،و هذه هيمنة عامة ، تشمل كل المجلات ذات العلاقة بين القرآن و التوراة ، فالقرآن مهيمنا عليها في كل المجالات ، كالقصص ، و العقائد ، و التشريع . و هذه الآية لم تغب عن الجابري ، لأنه أخذ منها خاصية التصديق ،و أغفل خاصة الهيمنة ، فهذا عمل انتقائي مُغرض ليس من الموضوعية و الحيدة العلمية في شيء . علما بان التصديق الذي أثبته القرآن لما في التوراة هو تصديق للحق الذي فيها ، و ليس تصديقا مطلقا لما فيها من قصص و عقائد و عقائد .
و منها أيضا إن من خصائص علاقة قصص القرآن بقصص التوراة ، إنها علاقة إدانة ، وذم لليهود ، و كشف لما كانوا يخفونه من حقائق ،و يرتكبونه من جرائم . كقوله تعالى : ((مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ))-الجمعة : 5- ، و ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ))-المائدة : 15- ، و ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ))-المائدة : 78- ، و ((وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ))-البقرة : 72- ، و ((قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ))-المائدة : 24-، و((وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ))-البقرة : 51- .
و منها إنها علاقة تصحيح و تقويم ، فقصص القرآن تُصحح أخبار التوراة من جهة ، و لا تقع في أخطائها من جهة أخرى . و هذا أمر نصّ عليه القرآن في قوله تعالى : ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ))-النمل : 76- ،و ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ))-الكهف : 13- . و مثال ذلك أن التوراة اتهمت النبي سليمان-عليه السلام- أنه انحرف سلوكيا ، و أشرك بالله ، و عبد الأصنام[193] . لكن القرآن الكريم أنكر ذلك و برأ سليمان في قوله تعالى : ((وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ))-البقرة : 102- .
و من ذلك أيضا أن التوراة ذكرت أن بني إسرائيل عندما كانوا في مصر كان عددهم كبيرا ، فقدرتهم بمليونين إلى ثلاثة ملايين نسمة . لكن القرآن الكريم أشار إلى أن عددهم كان قليلا ، في قوله تعالى : ((إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ))-الشعراء : 54- . فالعدد الذي ذكرته التوراة مُبالغ فيه كثيرا ، و مُخالف للشرع و لحقائق التاريخ ،و لا يقبله أي باحث علمي نزيه[194] ، فالقرآن الكريم صحح خطأ التوراة و لم يقع فيه .
و منها أيضا أن قصص القرآن رفعت الأنبياء مكانا عليا إلى مكانهم الذي يليق بهم ، و جعلتهم قدوة مثالية للناس ، و نزّهتهم عن الوقوع في الشرك و الكفر، و ارتكاب الجرائم و الفواحش . لكن التوراة خلاف ذلك تماما ، فقد وصفت الأنبياء بمختلف الصفات القبيحة ،و نسبت إليهم شتى أنواع القبائح و الانحرافات العقدية و السلوكية .
فمن ذلك إنها-أي التوراة- ذكرت أن نوحا-عليه السلام- شرب الخمر فتعرى، لما رآه أحد أبنائه لعنه بسب ذلك ( سفر التكوين : 9/21-27 ) . و ذكرت أيضا أن إبراهيم-عليه السلام- اعترض على الله تعالى، و خاطبه بغير أدب ، بقوله : (( حاشا لك ، أن تفعل مثل هذا الأمر ، أن تُميت البار مع الأثيم ، فيكون البار كالأثيم . حاشا لك ، أديان الأرض لا يصنع عدلا )) – سفر التكوين 8/25- .
و روت أيضا –أي التوراة- أن النبي لوط- عليه السلام- أشربته ابنتاه خمرا ، ثم ضاجعتاه ليحملا منه ، بدعوى الحفاظ على النسل ( سفر التكوين 19/ 31-32 ) . و أشارت إلى أن النبي موسى- عليه السلام- أساء الأدب مع الله تعالى بقوله له : (( لماذا أسأت إلى عبدك؟ ، و لماذا لم أجد نعمة في عينيك ؟ ، حتى أنك وضعت ثقل جميع هذا الشعب عليَّ ... لا أقدر أنا وحدي ... فإن كنت تفعل بي هكذا فاقتلني ))-سفر العدد 11/10-15- . و زعمت أيضا أن موسى و هارون-عليهما السلام- خانا الله تعالى،و لم يقوما بالواجب تجاهه، عندما قال لهما : (( من أجل أنكما لم تُؤمنا بي حتى تُقدساني أمام أعين بني إسرائيل ، لذلك لا تدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم أياها ))-سفر العدد 20/ 12 - . و زعمت أيضا أن النبي سليمان- عليه السلام- عبد أصنام نسائه اللاتي بلغن ألفا ،و أملن قلبه ،و لم يكن كاملا مع الله ، و كان عاصيا له ، فغضب عليه و عاقبه – سفر الملوك الأول:11/ 3-11- .
أليس ذلك دليل قاطع على أن الجابري افترى على قصص القرآن ، عندما جعلها مصدقة لقصص التوراة ، و تحكي قصصها ، و أغفل خصائصها و أهدافها التي تُميزها عن قصص التوراة ؟ ! . إنه قام بعملية إخفاء ، و تحريف ، و تقزيم لقصص القرآن و خصائصها و أهدافها ، و كأنه كان متأثرا بنظرة المستشرقين و تلامذتهم في زعمهم الباطل بان قصص القرآن نُسخة مأخوذة من قصص التوراة[195] .
رابعا : أباطيل أخرى متفرقة :
عثرتُ على مجموعة أخرى من أباطيل الجابري تتعلق بتاريخ القرآن و مضمونه ، أذكر منها الأمثلة الآتية : أولها يتعلق بعدد الصحابة الذين كانوا يحفظون القرآن كله ، و مفاده أن الجابري ذهب إلى القول بأن عدد الصحابة الذين حفظوا القرآن كله كان قليلا ، و استشهد بخبر رواه البخاري عن أنس بن مالك – رضي الله عنه- يقول فيه : جمع القرآن زمن الرسول-عليه الصلاة و السلام- أربعة ، كلهم من الأنصار، هم : أُبي بن كعب ، و معاذ بن جبل ، و زيد بن ثابت ، و أبو زيد[196] .
و قوله هذا غير صحيح ، لأنه أولا لم يُحقق في المر ، و لم يتساءل : هل يُعقل أن ينزل القرآن في مدة 23 سنة ، و لا يحفظه كله إلا أربعة من الأنصار ؟ ، فأين المهاجرون الذين عاشوا في العهدين المكي و المدني ،و شاهدوا نزول القرآن مدة 23 سنة ؟ ، و أين الأنصار الآخرون ؟ ، و أين الجهود الكبيرة التي بذلها رسول الله في تعليم أمته ، و حثها على حفظ القرآن الكريم ؟ . إنه لا يُعقل و لا يصح أن تُثمر جهود النبي-عليه الصلاة و السلام- في تربيته لأصحابه و تعليمهم ، و حثهم على حفظ القرآن ، و الموت في سبيل الله ، بأن يحفظ القرآن منهم أربعة فقط !! . و نحن نرى في زماننا أن أعدادا كبير جدا تحفظ القرآن كله في سنة واحدة ، أو في سنتين ، أو ثلاث سنوات ، أو في أربع سنوات .
و الجابري لم يُحقق في الموضوع ،و اكتفى بالرواية التي ذكرها ، لأنه وجدها شاهدا قويا لتأييد ما يُريد الوصول إليه ، و هو بما أن عدد الصحابة الحافظين للقرآن كله كان قليلا ، فمن الجائز أن يضيع شيء من القرآن و لا يُتنبه إليه و لا يُستدرك[197] .
و أما قول أنس بن مالك الذي استشهد به الجابري ، فلا يصح حمله على إطلاقه ، لأنه توجد روايات و معطيات كثيرة تُقيده من جهة ، و هو ليس قولا يُقصد به الاستقصاء و الحصر من جهة أخرى ، و إنما المقصود به ذكر أبرز حفاظ القرآن من الأنصار الذين تخصصوا فيه حفظا و رسما ، تلاوة و قراءات . و قوله لا ينفي وجود حفاظ آخرين من المهاجرين و الأنصار معا ، فهو لم يقل : لم يحفظ من الصحابة القرآن كله إلا أربعة ، و إنما قال : جمع القرآن أربعة من الأنصار . و عبارة : جمع أوسع من معنى الحفظ فقط ،و إنما يشمل الجامع الشامل للقرآن و التخصص فيه حفظا و تلاوة ، رسما و قراءات .
و ثانيا إنه تتوفر شواهد كثيرة تُثبت أن حفاظ القرآن من الصحابة كانوا كثيرين جدا ، أولها أنه في حادثة بئر معونة زمن النبي- صلى الله عليه و سلم- قُتل فيها 70 صحابيا كانوا كلهم من القراء الذين تخصصوا في قراءة القرآن و تعلّمه و مدارسته ، أرسلهم رسول الله لتعليم بعض القبائل العربية دين الإسلام ، فغدروا بهم و قتلوهم[198] .
فهل يُعقل أن يتخصص هؤلاء في قراءة القرآن و مدارسته و تعليمه ،و يُسمون بالقراء ، و لا يحفظون القرآن كله ، أو لا يكون أكثرهم ، أو نصفهم ، أو ثلثهم لا يحف القرآن كله ؟ ! . و إلا لماذا سُموا قراء ؟ ، و ما الفرق بينهم و بين عامة الصحابة إذا لم يكونوا يحفظون القرآن كله ؟ ! .
و ذلك العدد المذكور شاهد قوي جدا على أن رسول الله كوّن عددا كبيرا من الصحابة تخصصوا في حفظ القرآن و تلاوته و تعلّمه و مدارسته . و بما أنه بعث منهم 70 قارئا لتعليم بعض القبائل العربية ، فهذا يشير إلى أنه لم يبعث كل القراء ، و إنما ترك طائفة منهم لتواصل عملها في التعلّم و التعليم .
و الشاهد الثاني ، مفاده أن من المعروف أن جماعة من أعيان الصحابة كانوا يحفظون القرآن كله ، من غير هؤلاء الأربعة ، و منهم : عبد الله بن مسعود ، و سالم مولى أبي حذيفة ، و أبو بكر الصديق ، و عثمان بن عفان ، و أبو الدرداء ، و عبد الله بن عباس ، و عبد الله بن عمر[199]- رضي الله عنهم- .
و الشاهد الثالث مفاده أنه في موقعة اليمامة سنة 12 هجرية ، قُتل فيها كبير من قراء الصحابة ، فقال عمر لأبي بكر – رضي الله عنهما- : (( أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن ، فيذهب كثير من القُراء ، إلا أن تجمعوه ))[200] . و قد قذّر ابن كثير عد القراء الذين كانوا في المعركة ب: 3 آلاف قارئ ، من جملة 13 ألف مقاتل ، استشهد منهم نحو : 500 قارئ[201] . و ربما يُقال : إن ذلك العدد مُبالغ فيه . و هذا احتمال وارد ، لكن مهما بُولغ فيه ، فإن عدد القراء يبقى كبيرا أيضا ، مما يعني أن حفاظ القرآن كانوا كثيرين فعلا و حقيقة .
و يتبين من كلام عمر- رضي الله عنه- أنه خاف أن يستمر القتل في القراء في معارك أخرى غير اليمامة ، فيذهب كثير من القرآن ،و ليس كله ، لأن المسلمين يُشاركون هؤلاء في حفظ كثير من القرآن ، و لا يحفظونه كله . فذلك التخوّف يدل على أن هؤلاء القراء كانوا يحفظون القرآن كله ،و ليس بعضه ، و إلا ما تخوّف عمر من ذهاب كثير من القرآن إذا استحر القتل بالقراء في مواقع أخرى . فلو كانوا كغيرهم من عامة المسلمين ، ما تخوّف عمر من ذلك ، و ليس لتخوفه معنى من أن يستحر القتل فيهم . و بما أنه تخوّف من استمرار القتل فيهم ، دل هذا أنهم كانوا يحفظون القرآن كله ، فيؤدي قتلهم إلى ذهاب ملا يحفظه عامة المسلمين .
و بذالك يتبين أن عدد حفاظ القرآن الكريم في زمن النبي- عليه الصلاة و السلام- ،و زمن أبي بكر-رضي الله عنه- كان كبيرا يُعد بالمئات ، بل بالآلاف .
و المثال الثاني – من تلك الأباطيل- مفاده أن الجابري كرر مرارا أن القرآن الكريم الموجود بين أيدينا ، جُمع و رُتب في مصحف واحد زمن عثمان. و قال أيضا : إن الجمع النهائي للقرآن تمّ زمن عثمان[202] .
و قوله غير صحيح ، لأنه ثبت بالخبر الصحيح أن القرآن كله كان محفوظا و مكتوبا مُفرقا عندما تُوفي رسول الله –عليه الصلاة و السلام- ، فأمر أبو بكر-رضي الله عنه- بجمعه كله في مصحف واحد . و في زمن عثمان- رضي الله عنه- لم يحدث أي جمع جديد للقرآن أبدا ، و إنما جيء بالمصحف الإمام ، فنُسخُت منه مصاحف حسب الأمصار ، و اُرجع المصحف الإمام إلى حفصة أم المؤمنين- رضي الله عنه- . و أما الذي تمّ زمن عثمان فهو توحيد للمصحف رسما و حرفا و قراءات، لأن السبب في إقدام عثمان على فعل ذلك هو كثرة الاختلافات بين المسلمين بسب تعدد القراءات و اختلاطها، فحسم الأمر بطريقة جماعية صحيحة ، و لم يحدث أي تغيير لمتن القرآن و مضمونه[203] . لكن الجابري لا يريد أن يعترف بهذه الحقيقة،و يظل يُغالط ، و يُدلس ، و يُكرر ، ليفرض زعمه على القراء ، من أن القرآن ضاعت منه آيات لم يستدركها الصحابة . و هذا زعمه هذا باطل مردود عليه ، سبق أن ناقشناه فيه و بينا بطلانه و تهافته ، فلا نعيده هنا .
و أما المثال الثالث من أباطيل الجابري- فيتعلق بالقراءات القرآنية ، و مفاده أن الجابري قال : (( فالأحرف السبعة ترجع إلى زمن النبي- صلى الله عليه و سلم- . أما القراءات فترجع إلى زمن توزيع نسخ المصحف العثماني على الأمصار )) . ثم نقل ما يقوله علماء القراءات من أن كل القراءات الصحيحة لها أسانيد متصلة تصل إلى النبي-عليه الصلاة و السلام- و رجالها ثقات[204] .
فالجابري هنا قال بخلاف ما يقوله علماء القراءات ، فهم أرجعوا أصل القراءات إلى رسول الله بالروايات المسندة الصحيحة ، و هو قد خالفهم عندما زعم أن القراءات ترجع إلى زمن عثمان ، من دون أن يُقدم أي دليل صحيح ، و لا ضعيف .
و ذكر أيضا أن التحريف أنواع ، كاختلاف القراءات ، ثم قال : (( هذه الأنواع من التحريف واقعة في القرآن ، و مُعترف بها بصورة أو أخرى من طرف علماء الإسلام ، تحت العناوين التالية : التأويل ، الأحرف السبعة ، مسألة البسملة[205] .
و قوله غير صحيح ، و فيه تغليط للقراء و تدليس عليهم ، لأنه أولا أنه-أي الجابري- لم يذكر من أين أخذ المعنى الذي عرّف به معنى التحريف في اللغة العربية ،و اكتفى بقوله : (( و التحريف أنواع شرحها بعضهم بقوله : )) ،و كان عليه أن يُوثّقه ، لكنه لم يفعل ذلك . و قد بحثت عن هذا التعريف المنسوب إلى بعض أهل العلم فلم أعثر له على أثر في كتب علوم الشريعة ،و لا في مؤلفات اللغة و النحو و الأدب،و لا في مصنفات العقائد و الملل و التاريخ ،و لا ذكر أنه هو شخصيا صاحب هذا التعريف .
لكن يبدو لي أن الجابري هو صاحب هذا التعريف عبّر به عن نفسه بقوله : (( شرحها بعضهم بقوله : )) ، فهو هذا البعض . و إذا صحّ هذا ، أو لم يصح ، فتعريفه لمعنى التحريف غير مقبول و باطل ، ولا يصح أن ينسبه إلى القرآن ،و لا إلى اللغة ،و لا إلى علماء الإسلام ، و إنما هو مجرد رأي أرتأه لم يُقدم على صحته شاهدا صحيحا من الشرع و لا من اللغة العربية .
و ثانيا إن التحريف في الشرع و اللغة هو لفظ مذموم ،و ليس ممدوحا ، فهو تغيير لمعنى الكلام ، و ميل به إلى غيره . و هو عمل قريب الشبه بما كان اليهود يفعلونه في تغيير معاني التوراة ، لذا ذمهم الله تعالى ، لأنهم يُحرّفون الكَلِم عن مواضعه[206] . و عليه فلا يصح أبدا وصف القراءات الصحيحة ،و الحروف السبعة بأنها من التحريف ، أو هي من أنواعه ، لأن تعريفه للتحريف هو تعريف باطل شرعا و لغة. و هل يُعقل أن يذم الشرع التحريف ، ثم يٌقره ،و يأخذ به في الحروف السبعة و القراءات الصحيحة ؟ ! .
و يبدو أن الجابري استخدم التغليط و التدليس ، للوصول إلى القول بأن القراءات و الحروف السبعة هي من أنواع التحريف . بدعوى أن التحريف هو نوع من أنواع التغيير ، و القراءات و الحروف السبعة فيها اختلافات في الحروف و الشكل ، فهي إذاً نوع من أنواع التغيير ، الذي قد يكون مظهرا من مظاهر التحريف . و هذا الفهم لا يصح ، فيما يتعلق بالقراءات و الحروف السبعة ، لأن التحريف إذا كان نوعا من التغيير ، فإن الاختلاف الموجود في القراءات ليست تغييرا و لا تحريفا ، و إنما هي اختلافات تتعلق بألفاظ تختلف من قراءة إلى أخرى من حيث الشكل ، أو الإفراد و الجمع ، أو زيادة حرف و إنقاصه ، كقوله تعالى : (( فقالوا ربنا بَاعِد بيننا ))-سورة سبأ / 19- ، وقرئ أيضا :" بَاعَدَ "، و " بَعِّد " . و قوله تعالى : (( و انظر إلى العظام كيف ننشزها ))-سورة البقرة/259- ،و قرئ أيضا : " ننشرها " [207] . و كل هذه الاختلافات ليست تحريفا و لا فعلا بشريا ، و إنما هي اختلاف تنوع لا اختلاف تناقض و تحريف ، نزل بها الوحي الأمين على رسول الله –عليه الصلاة و السلام – و قد صحت عنه بالأسانيد الصحيحة[208] .
و أما المثال الرابع- من أباطيل الجابري- فيتعلق ب : هل القرآن الكريم من التراث أم لا ؟ . إنه-أي الجابري- أجاب عن ذلك بصراحة عندما قال : (( لقد أكدنا مرارا أننا لا نعتبر القرآن جزءا من التراث ، و هذا شيء نؤكده هنا من جديد . و في نفس الوقت نُؤكد ايضا ما سبق أن قلناه في مناسبات سابقة من أننا نعتبر جميع أنواع الفهم التي شيدها علماء الإسلام ... هي كلها تراث لأنها تنتمي إلى ما هو بشري ))[209] ,
واضح من كلامه أنه لا يجعل القرآن و لا السنة النبوية من التراث البشري ، لأنهما ليسا من أنواع الفهم التي شيدها علماء الإسلام ، التي كلها أعمال بشرية . و هو و إن كان لم يُلحق السنة النبوية بالقرآن صراحة ، فإن قوله الأخير واضح بأنه استثناها من أن تكون من أعمال علماء الإسلام ، لأن السنة النبوية ليس من أعمال هؤلاء .
و موقفه هذا صحيح تماما ، لكن يُوجد في بعض كتبه ما يُخالف ذلك و يُناقضه . مع أنه نقلنا عنه أنه قال : (( لقد أكدنا مرارا أننا لا نعتبر القرآن جزءا من التراث ، و هذا شيء نؤكده هنا من جديد )) . فكان عليه أن يُشير إلى أنه قال خلاف ذلك في بعض مصنفاته ، لكنه غيّر موقفه الآن . و هو على الرأي الذي قاله صراحة في كتابه هذا : مدخل إلى القرآن الكريم . لكنه لم يفعل ذلك ، مما يعني أنه متناقض مع نفسه ، أو أنه تعمد فعل ذلك ، أو أنه نسيه .
و الشواهد الآتية تُثبت خلاف ما قاله الجابري ، و هي منقولة من مؤلفاته . أولها إنه قال : إن عبد الله بن المقفع لم يكن –في كتبه- يستشهد " بالقرآن ،و لا بالحديث ، و لا بأي عنصر آخر من الموروث الإسلامي[210] . و قال أيضا : إن القرآن ينتمي إلى الموروث الإسلامي الخالص ، بل هو أساس هذا الموروث،و هو أحد الموروثات الخمس المكونة للثقافة العربية . كاللغة العربية التي هي الموروث العربي الخالص[211] .
فواضح من كلامه أنه جعل القرآن و الحديث من الموروث العربي الإسلامي ، و جعلهما من المكونات الأساسية لهذا الموروث المُكوّن من خمسة موروثات حسب زعمه . فهل ذلك الموروث عنده يعني التراث الإسلامي ؟ ، نعم إنه يعني به ذلك ، لأن التراث الإسلامي عند الجابري هو نفسه الموروث الإسلامي . لأنه نصّ على أن التراث مُكوّن من العقيدة و الشريعة ، و اللغة و الأدب ، و العقل و الذهنية ، و التطلعات . و قال : (( ما يُميز التراث العربي الإسلامي ، أنه في نظرنا هو أنه مجموعة عقائد ،و معارف ، و تشريعات ، و رُؤى ، بالإضافة إلى اللغة العربية التي تحملها و تُؤطرها)) ، و قال أيضا : إن التراث العربي الإسلامي ، ضم في مكوناته مفاهيم و تصورات دينية و فلسفية و أخلاقية ، من الحضارات القديمة ، ما يجعلها تحتل مكانة بارزة إلى (( جانب المكانة الأساسية التي يحتلها فيه الإسلام كدين ))[212] .
واضح من كلامه أنه جعل الإسلام بعقائده و شريعته من التراث العربي الإسلامي ، و من مقوماته الأساسية . و من ثم فإن القرآن و الحديث هما بالضرورة أنهما من ذلك التراث ، لأن الإسلام ما هو إلا القرآن و الحديث النبوي . كما أنه نص صراحة على أن الحديث النبوي من التراث عندما قال : (( و لننتقل الآن إلى مثال آخر ، و سيكون هذه المرة نصا من تراثنا ، هو حديث نبوي لعلنا نحفظه جميعا، و قد جاء فيه " كل مُحدثة بدعة ، و كل بدعة ضلالة ، و كل ضلالة في النار" ))[213] .
فالرجل كرر كلامه و أكده على أن الإسلام من التراث العربي الإسلامي الموروث ، و من ثم فإن القرآن و الحديث هما من ذلك التراث بالضرورة ، لأنه لا إسلام دون قرآن و سنة . و لا ندري هل الجابري تعمد ما قاله في كتابه: مدخل إلى القرآن لحاجة في نفسه عندما نفى كون القرآن و الحديث أن يكونا من التراث ، أم انه غيّر موقفه عما قاله في كتبه السابقة لكتابه هذا ؟ . و هذا احتمال وارد ، لكنه ضعيف لأن الجابري نقلنا عنه انه قال : (( لقد أكدنا مرارا أننا لا نعتبر القرآن جزءا من التراث ، و هذا شيء نؤكده هنا من جديد )) ، و هذا مخالف لما نقلناه عنه سابقا عندما جعل القرآن و الحديث من التراث ،و هذا قاله في بعض كتبه ، ككتاب العقل العربي الأخلاقي الذي صدر سنة 2001 . فكان عليه أن يُؤكد الأمر بصراحة و وضوح ، كأن يقول : كنتُ أقول كذا ، و الآن أُغيّر موقفي أقول كذا . لكنه لم يفعل ذلك ، و لم يتراجع عن موقفه الأول بطريقة صحيحة واضحة ،و كأنه يُخفي أمرا لا يُريد البوح به .
علما بأن موقفه الأخير الذي نصّ فيه على أن القرآن ليس تراثا ، هو موقف صحيح ، خلاف موقفه الأول . لأن القرآن الكريم كلام الله تعالى و ليس كلاما بشريا خاضعا لضرورة الزمان و المكان . و كذلك السنة النبوية ، فهي و إن كانت كلاما بشريا ، فإنها ليست كلام بشري عادي ، و إنما هي كلام رسول من رب العالمين . لذا فإن كلامه ليس تراثا بشريا ، و إنما هو كلم نبوي .
و أما المثال الخامس فيتعلق بالديانات السماوية ، و مفاده أن الجابري يقول بوجود ثلاث ديانات سماوية هي : اليهودية ، و النصرانية ، و الإسلام ، من ذلك أنه قال : (( وحدة الأصل في الديانات السماوية الثلاث )) ، و قال أيضا : إن نزول الوحي على الرسول-صلى الله عليه و سلم- دشن عهدا جديدا في تاريخ البشرية ، قوامه قيام دين سماوي جديد إلى جانب اليهودية و النصرانية[214] . ذ
و قوله هذا لا يصح في ميزان القرآن الكريم ، لأن القرآن لا توجد فيه أية إشارة من بعيد و لا من قريب إلى أنه توجد ثلاث ديانات سماوية أو أكثر . و إنما فيه تقرير و تأكيد على تعدد الرسالات السماوية ، ذات الدين الواحد هو دين الإسلام ، كقوله تعالى : ((شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ))-الشورى : 13-، و ((مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ))-آل عمران : 67- . و أما الديانتان اليهودية و النصرانية الحاليتان فهما ديانتان مُحرفتان خرجتا عن أصلهما الإلهي الواحد ،و أصبحتا ديانتين أرضيتين ، لذا قال الله تعالى : ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ ))-آل عمران : 19- ،و ((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )) -آل عمران : 85- و ((لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ))-المائدة : 73-، و ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ))-البينة : 1 -ومع أن الجابري قد أشار إلى وحدة الأصل ، لكنه مع ذلك جعل الدين الإلهي الواحد دينا متعددا مكونا من ثلاثة أديان ،و هذا لا يصح في ميزان القرآن الكريم .
و المثال السادس مفاده أن الجابري قال عن دعوة النبي عيس- عليه السلام- : (( و كما ذكرنا قبل ، كانت دعوته شفوية ، فهو لم يأت بكتاب مُنزل، و إنما كان يقوم بعظات متنقلا من مكان إلى آخر من فلسطين )) .و هو قال بهذا مُسايرة لما يقوله مؤرخو الدين النصراني في الغرب من أن عيسى لم يترك كتابا منزلا يضم كلام الله[215] .
و قوله هذا غير صحيح ، لأنه مُخالف للقرآن مخالفة صريحة ، فقد ذكر الله تعالى أنه أتى عيسى –عليه السلام- كتابا اسمه الإنجيل ، كقوله سبحانه : ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ)) -الأعراف : 157 - ، و ((وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ))-آل عمران : 3- ، ((إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ))-المائدة: 110- ، و ((وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ))-المائدة : 46-، فهذه الآيات نصت صراحة على أن الله تعالى أنزل على عيسى كتابا اسمه الإنجيل ، بصيغة المفرد ،و ليس الجمع: الأناجيل ، فالأناجيل المعروفة ليست هي الإنجيل الذي أنزله الله تعالى ،و إنما هي مذكرات كتبها بعض أتباع المسيح ز و أما الإنجيل الأصلي الكامل فقد ضاع في خضم الاضطهاد الذي تعرض له المسيح و أتباعه على يد اليهود و الرومان ،و بقيت منه شذرات مُبعثرة هنا و هناك ، فظن بعض مؤرخي النصرانية أن عيسى-عليه السلام- لم ينزل عليه كتاب ، بسبب عشرات الأناجيل المنسوبة إليه ،و التي اختارت منها الكنيسة الأناجيل الأٍربعة المعروفة[216] . فأخطأ هؤلاء في ظنهم ، لأن كثرة الأناجيل لا يعني أنه لم ينزل على عيسى كتاب إلهي ، و إنما ذلك يحتمل أمرين ، إما أن تلك الأناجيل ليس لها أصل إلهي ، و إنما كتبها بعض النصارى و نسبوها إلى المسيح . و إما أنها ذات أصل إلهي ، فلما ضاع الأصل الإلهي كثرت الأناجيل و نُسبت إلى المسيح على اختلافاتها و تناقضاتها . و هذا هو الراجح ، لأن وجود هذا العدد الكبير من الأناجيل يُشير إلى وجود الأصل . و بما أن الله تعالى أخبرنا أنه أنزل على عيسى- عليه السلام- كتابا اسمه الإنجيل ، فإن الخلاف قد حُسم ،و أصبح من المؤكد أن عيسى جاء بكتاب منزل . و الجابري خالف ذلك و ساير ما يقوله بعض مؤرخي النصرانية .
و المثال السابع –من أباطيل الجابري- يتعلق بمعراج النبي-عليه الصلاة و السلام- إلى السماء العليا ، و مفاده أن الجابري قال : إنه مما يجب التنبيه إليه ابتداء في هذه المسألة ، هو أن المعراج لم يرد ذكره في القرآن ،و إنما ذُكر الإسراء وحده في قوله تعالى " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ))-الإسراء : 1- " . و إنما ذُكر المعراج في كتب الحديث كصحيحي البخاري و مسلم ،و غيرهما[217] .
و قوله هذا لا يصح ، لأن القرآن الكريم أشار فعلا إلى المعراج في قوله تعالى : ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ، عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ))-النجم :13- 18- . فهذه الآيات واضحة في أنها تتكلم عن معراج النبي-عليه الصلاة و السلام- إلى السماء العليا مع أمين الوحي جبريل-عليه السلام- . و هذا هو الذي نصّ عليه أهل التفسير من أن تلك الآيات تتكلم عن ذلك المعراج[218] .
و أما المثال الأخير- و هو الثامن من أخطاء الجابري – فيتعلق بتقزيم الجابري لمكانة القرآن و الانتقاص منه من جانبين ، الأول تسويته بالتوراة و الأناجيل ، و الثاني الحط من مكانة المعجزة القرآنية . فأما الجانب الأول فإن الجابري زعم أن القرآن لا يتميز (( عن حقيقة التوراة و الإنجيل لا مصدره و لا بمحتواه ،و إنما يتميز بكونه نزل بلسان عربي مبين ... ))[219] .
و قوله هذا باطل و لا يصح ، و مجازفة لا مبرر لها ،و هو من أعجب أخطاء الجابري و أغربها ، لأنه من الخطأ الفادح التسوية بين القرآن الكريم ، و بين التوراة و الأناجيل الحالية. لأن القرآن يختلف عنها مصدرا و مضمونا ،و يتميز عنها بخصائص كثيرة جدا . فمن حيث المصدر فإن القرآن الكريم كلام الله حقيقة بلفظه و معناه ، لكن التوراة و الأناجيل –كما وصلتنا- فهي في معظمها ليست كلاما إلهيا ، و إنما هي كتب محرفة- و هذا بشهادة القرآن و التاريخ و العلم- كتبها أناس مجهولون في أغلبهم ، ضمّونها تاريخ أهلها، و ملؤها بالمتناقضات ، و الخرافات ، و المستحيلات . و الغريب في الأمر أن الجابري لم يتنبه إلى انه متناقض مع نفسه عندما سوى القرآن بالإنجيل في مصدره و محتواه ،و نسي أن يقول بأن عيسى-عليه السلام- لم يأت بكتاب مُنزل ،و إنما ترك تعاليم شفوية تداولها أصحابه من بعده[220] . فقوله هذا نقض لقوله الأول ، لأنه إذا كان إنجيل عيسى هذا حاله فلا يصح أبدا أن نسويه بالقرآن الذي هو من عند الله ،و لا بمحتواه الذي هو كلام الله تعالى لفظا و معنى . فالجابري أبطل كلامه بنفسه .
و أما من حيث المحتوى فإن مما لا شك فيه أن القرآن الكريم مُصدق للحق الذي في التوراة و الأناجيل من جهة ، و مَهيمن و متفوّق عليهما من جوانب كثيرة جدا من جهة ثانية ، و مُخالف لها في أباطيلها و خرافاتها من جهة ثالثة . لذا فإن الفارق بينها و بين القرآن كبير جدا ، نذكر طرفا منه من خلال ستة مجالات : أولها يتعلق بالمتناقضات ، فبالنسبة للتوراة فمن متناقضاتها أن في سِفر التكوين أن الله خلق النور في اليوم الأول من أيام التكوين[221] . ثم يذكر في موضع آخر أن النور خُلق في اليوم الرابع ( الإصحاح :1/14) . و نص نفس الِسفر –أي التكوين- على أن الله تعب عندما خلق الكون ،و استراح في اليوم السابع ( الإصحاح :2/2-3) . و في سِفر أشعيا أن الرب لا يكل و لا يعيى ( الإصحاح : 40/28) .
و في سِفر التكوين أن الرب ندم و حزن عندما خلق الإنسان ، و قرر أن يمحوه من وجه الأرض ( الإصحاح : 6/6-7 ) . لكن سفر العدد ناقض ذلك ، عندما قرر أن الرب ليس إنسانا فيكذب ، ولا ابن إنسان فيندم ( الإصحاح : 23/19 ) .
و من تلك المتناقضات أيضا ، أن في سفر التكوين أن النبي لوط –عليه السلام- هو ابن أخ إبراهيم-عليه السلام- ( الإصحاح :14/12) . ثم نفس السفر –أي التكوين- يقرر في موضع آخر بأن النبي لوط هو أخ إبراهيم ( الإصحاح :14/14 ) . و في سفر الخروج أن موسى –عليه السلام- كلّم الرب وجها لوجه (الإصحاح :13/11) ، لكن نفس السفر قرر في موضع آخر نقيض ذلك ، فذكر أن الرب قال لموسى : لا تقدر أن ترى وجهي (الإصحاح : 33/20) .
و في سفر التكوين أن عدد أبناء بنيامين هو : 10 ( الإصحاح : 46/21 ) ، لكن عددهم في أخبار الأيام هو : 3 ( أخبار الأيام: 1 ، الإصحاح : 7/6 ) ، ثم نفس السفر ذكر في موضع آخر أن عددهم 5 أبناء فقط (نفسه:1، الإصحاح :8 /1-2) .
و أما الأناجيل فمن تناقضاتها : إن إنجيل متى ذكر أن المسيح –عليه السلام- قال عن يُوحنا المعمدان : إنه إيليا ( الإصحاح :11/14) ، لكن في إنجيل يُوحنا أن يوحنا المعمدان أنكر أن يكون هو إيليا (الإصحاح:1/19) . و في إنجيل متى أن يُوحنا لا يأكل و لا يشرب (الإصحاح :11/18) ، لكن في إنجيل مرقس أن يوحنا يأكل جرادا وعسلا بريا (الإصحاح :1/6) .
و منها أيضا ، أن في إنجيل متى حث على إكرام الأب و الأم (الإصحاح: 1/4) ، لكن إنجيل لوقا حث على عكس ذلك ، عندما أمر ببغض الأب و الأم ( الإصحاح :14/26 ) . و في إنجيل يوحنا أن المسيح أقام العشاء الأخير قبل يوم الفصح ، و غسل أرجل تلاميذه (الإصحاح :13/1-5 ) ، لكن في إنجيلي متى و مرقس ، أن العشاء الأخير كان يوم الفصح ، دون ذكر لغسل أرجل التلاميذ ( متى ، الإصحاح :26/12-29 . و مرقس ، الإصحاح : 14 /12-26 ) . و في إنجيل لوقا أن معجزة الصيد حدثت قبل قيامة المسيح ( الإصحاح : 5/1-11 ) ، لكن في إنجيل يوحنا أن معجزة الصيد وقعت بعد قيامة المسيح (الإصحاح :21/1-14 ) .
تلك المتناقضات-و غيرها- هي أدلة دامعة على تلاعب الناس بتلك الكتب ، و هي شاهدة على أنها ليست من عند الله ، و هي لا وجود لها في القرآن الكريم ،و لا لأمثالها . أليس هذا يُبطل زعم الجابري الذي سوى بين مضمون القرآن و مضمون تلك الكتب ؟! .
و أما المجال الثاني من المقارنة ، فيتعلق بالعجائب الخرافية ، ففي العهد القديم ، أن النبي حزقيال رأى عند أحد الأنهار حيوانا له 4 أجنحة و 4 أوجه ( سفر حزقيال : 1/4-10 ) . و ذكر سفر اللاوين وجود طيور تمشي على أربعة أرجل(الإصحاح :11/20 ) .و في نفس السفر أن الأرانب تجتر ( الإصحاح :11/6 ) . و هذا من الكذب المفضوح، لأن الأرانب من الحيوانات القارضة ،و ليست من المجترة .
و في سفر حزقيال أن للأرض 4 زوايا ( الإصحاح : 7/2 ) . و هذا خبر غير صحيح ، لأن الأرض ليست مسطحة لكي تكون لها أربع زوايا ، و إنما هي كروية الشكل ، لا زوايا لها . و في سفر اللاوين أن حيطان المنازل هي أيضا تُصاب بمرض البرص ( الإصحاح :14/35 ) ، فهل الحيطان تمرض ؟ ! .
و في أخبار الأيام الثاني أن الملك يهودان لما ملك مملكة يهوذا ، كان له من العمر 32 سنة ، فدام ملكه 8 سنوات ، فلما مرض ومات خلفه ابنه الأصغر أخزيا ، و كان له من العمر 42 سنة ( أخبار الأيام الثاني: 20/22 ) . و هذا من المستحيلات المبكيات و المضحكات ، فكيف يكون الابن أكبر من أبيه بعامين ؟ ؟ !! ، و ذلك أن الأب تولى الحكم وله 32 سنة ، و حكم 8 سنوات ، فمات وله 40 سنة ، فخلفه ابنه و له 42 سنة .
و أما العهد الجديد –الأناجيل- فهو أيضا يقوم على العهد القديم ، و من ثم فهو معني بتلك المتناقضات أيضا ، و مع ذلك فهو أيضا فيه عجائبه الخرافية ، لعل أهمها أن أناجيله ذكرت أن يسوع هو إله و ابن الله ، لكنه مع ذلك هو مولود ، ولدته مريم ، و اضطهده خُصومه ، حتى أنهم قبضوا عليه و نفوه و صلبوه[222] .
و أمثال تلك الغرائب و الخرافات هي كثيرة في العهدين القديم و الجديد، ذكرنا طرفا منها ، و إلا من يدرسها دراسة نقدية فاحصة موسعة ، فإنه سيجد أكثر مما ذكرناه بكثير ، و يتبين له بالأدلة القاطعة الفارق الكبير بين العهدين و القرآن الكريم ، بل أنه لا مجال للمقارنة بينهما أصلا ، و الشواهد التي ذكرناها هي كافية لإثبات ذلك بما لا يدع مجالا للشك أصلا ، فتلك الخرافات و الغرائب المستحيلات لا وجود لها في القرآن الكريم أصلا . لكن الجابري يُغمض عينيه عن ذلك و لا يبالي بما يقول و لا بزعمه الباطل في تسويته للقرآن بالعهدين القديم و الجديد .
و أما المجال الثالث من المقارنة ، فيتعلق بالأنبياء في التوراة- و هي معتمدة أيضا عن النصارى- و القرآن الكريم ، و هذا سبق أن توسعنا فيه في المبحث الثالث ،و بينا الفارق الكبير بين مكانة الأنبياء في القرآن ، و مكانتهم في التوراة التي نسبت إليهم مختلف القبائح و الانحرافات .
و المجال الرابع يتعلق بعقيدة التوحيد في القرآن و التوراة و الأناجيل ، و كان الجابري قد سوى بينها في المحتوى . و هذا من غرائبه و أخطائه الفاحشة ، لأنه لا مجال للمقارنة بين توحيد القرآن ، و بين تثليث النصرانية ، و تجسيمات التوراة و تشبيهاتها . فالديانة النصرانية- من خلال الأناجيل- ليست ديانة توحيدية في الحقيقة ، لأنها تقول بوجود ثلاثة أقانيم : الأب إله ، و الابن إله ، و روح القدس إله ، و هذه الأقانيم متساوية في الألوهية[223] . فهي ديانة تثليث لا توحيد ، فلا يمكن أن يكون التوحيد تثليثا ،و لا التثليث توحيدا ، فواحد لا يساوي ثلاثة ، و ثلاثة لا تساوي واحدا . لذلك كفّر الله تعالى النصارى المثلثين في قوله سبحانه : -{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} - سورة المائدة/73- . و إذا أصر النصارى على جعل التثليث توحيدا ، فإن كل الأديان تصبح توحيدية و إن تعددت آلهتها ! .
و أما التوحيد في الديانة اليهودية-الحالية – فهو يختلف جذريا عن التوحيد في القرآن الكريم ، علما بأنه وُجد في اليهودية من قال بأن عُزير ابن الله كما قالت النصارى في المسيح عليه السلام ، لقوله تعالى : -{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} - سورة التوبة/30- . و الله في العهد القديم موصوف بصفات شنيعة لا تمت للتنزيه بصلة ، و يستحي الإنسان من ذكرها ، فقد وُصف الله بأنه تعب من خلق العالم ، و استراح في اليوم السابع ، و أنه حزن لأنه خلق الإنسان ( سفر التكوين : 2/3 ، 6/6-7 ) .و أنه استأجر شفرة ليُحلق ذقنه،و ينتف شعره ( أشعيا : 7/20 ) .و أن دخانا صعد من أنفه ، و أن نارا خرجت من فمه ( سفر صموئيل الثاني: 22/9 ) .و أنه ينفخ في البوق و يسير في زوابع الجنوب( سفر زكريا :9/14 ) .و أنه يشرب الخمر ، فاستيقظ يوما كنائم جبار مخمور ( المزامير : 78/65 ) .
و أما التوحيد في القرآن فمختلف تماما عما في العهدين القديم و الجديد –إن وُجد فيهما توحيد- ، فالقرآن فيه التوحيد المطلق ، و التنزيه الكامل ، و الأسماء الحسنى ،و الصفات العلى و المُثلى ، قال تعالى : -{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}- سورة الأعراف/180- و{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} - سورة الشورى/11-و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ،اللَّهُ الصَّمَدُ ،لمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}-سورة الإخلاص/1-4-، و غيرها من آيات التوحيد و التنزيه ، فالقرآن مملوء بذلك .
و أما المجال الخامس من المقارنة ، فيتعلق بصحة المعلومات العلمية في التوراة و القرآن من عدم صحتها ، و هذا أمر في غاية من الأهمية ، و قد أغفله الجابري عندما سوّى بين مضمون القرآن و مضمون التوراة و الأناجيل . و الحقيقة أن التوراة فيها أخطاء علمية فادحة تتعلق بخلق العالم ،و عمر الكون ، و الطوفان [224] . و أما الأناجيل ، فهي مجرد مذكرات تحكي حوادث تتعلق بحياة كتابها ،و تكاد تكون خالية من المعلومات العلمية المتعلقة بالطبيعة ، اللهم إلا الملاحظات الطبيعية العامة المعروفة لدي عامة الناس[225] .
و أما القرآن الكريم فقد تكلم عن نشأة الكون بطريقة علمية صحيحة معجزة ، و أشار إلى حقائق علمية كثيرة ، كتطورات الجنين في بطن أمه ، و قد ذكرها القرآن بطريقة معجزة لم يكتشفها العلم الحديث إلا مؤخرا ، ولم يُكتشف فيه أي خطأ علمي و قد صُنفت في هذا الموضوع مؤلفات كثيرة ، و أُنشئت له هيئة عالمية تضم نخبة من كبار العلماء المسلمين المختصين في مختلف العلوم الحديثة.، ولهذا الهيئة موقع على الأنترنت فيه كثير من أعمالها العلمية بالمجان .
و أما المجال الأخير – و هو السادس- ، فيتعلق بالتوثيق التاريخي ، فبالنسبة للتوراة فقد كُتبت أسفارها على زمني يزيد عن 9 قرون ، بلغات مختلفة ، اعتمادا على التراث الشفوي المنقول بلا أسانيد ، مع الجهل بكتابها الحقيقيين[226] .
و أما الأناجيل المعتمدة عند النصارى اليوم ، فهي قد اُختيرت من بين عشرات الأناجيل في القرن الرابع الميلادي ، و هي ليست لها أسانيد ، مع جهالة مصنفيها ، و اضطراب متونها ، فإنجيل متى مجهول مؤلفه ، و مُختلف في سنة تدوينه ، فقيل : 37 م ، و 48 م، و 62 م ، 64 م ، مع الاختلاف في لغة تدوينه[227] .
و إنجيل مرقس مُختلف في مؤلفه ، فقيل مرقس ، و قيل بطرس . و قيل أنه دُون سنة 56م ، و 60 م ، و 65م [228] . و أما إنجيل يوحنا فمؤلفه مجهول الشخصية ، و هناك شك في نسبة إنجيله إلى يوحنا الحواري ، مع الاختلاف في سنة تدوينه ، فقيل : سنة 68م ، 70 ، 95 ، 96 ، 98 للميلاد[229] . و أما إنجيل لوقا فمختلف في جنسية مؤلفه و صنعته ، و في تاريخ تدوينه ، فقيل : سنة 53، 63، 64 للميلاد[230] .
مع العلم أن الأناجيل الحالية ما هي إلا مجرد قصص و روايات و حكايات عن جوانب من حياة المسيح-عليه السلام- فيها الصحيح و المكذوب و المستحيل . و هي مذكرات شخصية ليست من إملاء المسيح –عليه السلام- ،و لم يشهدها أصلا ، كتبها أصحابها تلبية لرغبات خاصة ، و قد فقدت أصولها و ليست لها أسانيد توثيقية[231] .
و أما القرآن الكريم ، فالأمر معه مُختلف تماما ، فقد ظهر في ضوء التاريخ ، و لم يظهر في ظلامه ، و وصلنا بالتواتر المحفوظ و المكتوب معا ، و هذا أمر سبق أن بيناه و وثقناه ، فلا نعيدها .
و أما قول الجابري بأن القرآن لا يتميز عن التوراة و الإنجيل إلا بكونه نزل بلسان عربي مبين ، فهذه ميزة عادية معروفة ، و لا تمس مصدر القرآن و لا مضمونه و لا مكانته من جهة . و تتضمن تغليطا للقراء و تدليسا عليهم من جهة أخرى . و ذلك أن الجابري أشار إلى هذه الميزة و كأنه أشار إلى ميزة أساسية هامة جدا قليل من يعرفها ، مع أن هذه الميزة معروفة بالضرورة ، لأن الله تعالى ما أرسل من نبي إلا أرسله بلسان قومه ، لقوله سبحانه : ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ))-إبراهيم : 4-، فكما أن القرآن يتميز عن التوراة و الأناجيل بلغته العربية التي نزل بها ، كذلك تلك الكتب تميزت عنه بأن الله تعالى أنزلها بلغة بني إسرائيل التي كانوا يتكلمون بها .
و بذلك يتبين أن ما قاله الجابري هو زعم باطل ، و مجازفة لا مبرر علمي لها ، و هو طعن في القرآن الكريم ،و تقزيم له ، لأنه سواه بالباطل بلا دليل صحيح ، متأثرا بالمستشرقين و تلامذتهم الذين زعموا أن القرآن مأخوذ من التوراة و الأناجيل ، و لا فرق بينه و بينها[232] . لذا فلا أدري هل الجابري كان يعي ما يقول عندما قال بذلك الزعم الباطل ، أم أنه زلة لسان ، أم أنه تعمد قوله عن وعي و سبق إصرار و ترصد ؟ ! .
و أما بالنسبة للمجال الثاني ، فهو يتعلق بتقزيم الجابري لمكانة المعجزة القرآنية و الحط من قيمتها و أهميتها . و قد تمثل ذلك في الأمثلة الآتية :
أولها إن الجابري قال : إنه ركّز على تحرير (( المعجزة المحمدية من المعنى العامي الساذج لمفهوم النبي الأمي )) ، لأن عدم القراءة و الكتابة ليستا شرطا في النبوة التي تقوم على الوحي لا على قراءة الكتب. و هما-أي القراءة و الكتابة- ليستا علامة على المعجزة ، و انه لا (( يليق بنا أن نتصور أن من كمالات الإنسان الذي يختاره الله للنبوة أن يكون لا يعرف القراءة و الكتابة ))[233] .
و قوله هذا لا يصح ، و فيه تغليط للقراء و تدليس عليهم ، لأنه أولا قد سبق أن ناقشنا الجابري في زعمه بأن النبي- عليه الصلاة و السلام- كان لا يعرف القراءة و الكتابة،و بينا بطلانه بالأدلة و الشواهد الصحيحة الدامغة الكثيرة و المتنوعة ، و من ثم فلا معنى لزعمه بأنه يسعى لتحرير المعجزة المحمدية من القول بأن صاحبها كان لا يقرأ و لا يكتب ، لأن سعيه هذا لن يتحقق لأنه بناه على أمر باطل .
و لماذا الجابري يسعى إلى تحقيق ذلك الزعم ؟ ، و لماذا هو منزعج من كون رسول الله كان لا يقرأ و لا يكتب ؟ ! . و هل القول بأنه كان لا يقرأ و لا يكتب يضر معجزة القرآن ، أم أنه لا يُعجب الجابري و يضره ؟ . و بما أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان فعلا و حقا لا يقرأ و لا يكتب ، فلماذا هذا السعي و الإصرار على نفي ذلك و تحريف الحقيقة التاريخية ؟ ! . و أليس القول بأن معجزة القرآن جاء بها نبي لا يعرف القراءة و الكتابة أحسن و أقوى في الإعجاز و التأثير ، و أقطع للشبهات و التخمينات و الظنون من القول بأن الذي جاء بها كان يعرف القراءة و الكتابة ؟ لا شك أن القول الأول بأنه كان لا يقرأ و لا يكتب هو الحسن و الأفضل من القول الثاني الذي يُقلل من قوة المعجزة القرآنية و تأثيرها ،و يُعطي المبرر العقلي السهل للمنكرين و المشككين بأن يطعنوا في نبوة النبي و معجزته ،و يسهل عليهم توجيه التهم إليه ، و إيجاد تفسيرات بشرية لنبوته و معجزته ،و تبرير موقفهم منه ، بدعوى أن الرجل كان عالما واسع الإطلاع على المذاهب و الأديان.
فلماذا الجابري مصر على الأخذ بالقول الثاني ؟ ! ، مع أنه قول مخالف للشرع و الحقيقة التاريخية ، و يُنقص من قيمة المعجزة القرآنية و مكانتها ،و يعطي المبرر السهل للطعن في المعجزة القرآنية . و أليس هذا من مظاهر تقزيم الجابري لتلك المعجزة ؟ .
و ثانيا إن قول الجابري بأنه ليس من شرط النبوة أن يكون النبي لا يعرف القراءة و الكتابة ، فيمكن عكسه بقولنا : ليس من شرط النبوة أن يكون النبي يعرف القراءة و الكتابة ، . و من ثم فإن اعتراضه يسقط و يفقد حجيته النظرية . لأن الله تعالى هو الذي يختار النبي ، و أعلم أين يجعل رسالته ، فإذا جعلها في من لا يعرف القراءة و الكتابة كان فعله هذا صوابا حكيما ، و إذا جعلها في من يقرأ و يكتب و له علم واسع ، كان فعله هذا صوابا حكيما أيضا ، لأن الله تعالى –في الحالتين- جعل رسالته في المكان المناسب . و من ثم فإن اعتراض الجابري يسقط ،و لا يصح ، و لا مبرر له .
و أما قوله بأن النبوة قائمة على الوحي و ليس على قراءة الكتب ، فهذا تغليط للقراء و تدليس عليهم ، لأن الوحي يقوم أساسا على المعجزة ، لذا كان كل نبي يُعطيه الله تعالى معجزة ليُثبت بها صدق نبوته ،و إلا أصبح كل إنسان يستطيع أن يدعي النبوة ، بدعوى أن الله أرسله و أنزل عليه الوحي ،و الدعوى –كما هو معروف- لا يعجز عنها أحد . لذا كان لابد لنبوة محمد-عليه الصلاة و السلام- من معجزة تِؤيده ، فأعطاه الله تعالى معجزة علمية ، جاء بها رجل لا يعرف القراءة و لا الكتابة . فكان هذا أقوى في الإعجاز و التأثير ،و إقامة الحجة و قطع شبهات المنكرين المتكبرين ، و هذا خلاف ما أراد الجابري أن يُوهمنا به في زعمه السابق . و الدليل على صدق ما قلته ، هو أنه قد صحّ أن النبي-صلى الله عليه و سلم- قال : (( ما من الأنبياء نبي إلا أُعطي من الآيات ما مثله أومن أو آمن عليه البشر، و إنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة ))[234] .
و أما قوله بأنه لا يليق بنا أن نتصوّر بأن من كمالات النبي المرسول أنه لا يقرا و لا يكتب . فهذا من مغالطاته ، لأنه ليس شرطا أيضا أن من كمالات النبي المُرسل أن يكون يعرف القراءة و الكتابة . و عدم معرفة النبي للقراءة و الكتابة ليس نقصا و لا عيبا ،و لا حطا من قيمته ،و إنما ذلك من كمالاته و خصائصه المميزة له . لأنه من العادي جدا أن يأتي عالم ما بنظرية علمية ، لكن ليس من العادي أن يأتي إنسان لا يعرف القراءة و الكتابة بمعجزة علمية يتحدى بها الإنس و الجن معا ، فهذا أمر من الخوارق ، من يأتي به فهو أكمل من كل أهل العلم على الإطلاق ، لأنه جاء بما لم يأتي به مخلوق في العالم ،و هذا لا يتأتى إلا لنبي . و هذا هو حال النبي محمد-عليه الصلاة و السلام- ، فكانت عدم معرفته للقراءة و الكتابة كمالا و إعجازا ،و لم تكن نقصا كما كانت في غيره نقصا .
و أما زعمه بأن عدم معرفة القراءة و الكتابة ليس علامة على المعجزة ، فهذا تغليط منه ، لأن المعجزة التي نتكلم عنها هي معجزة القرآن الكريم ، و لسنا نتكلم عن إبداعات العباقرة في الشعر و الخُطب ، و الشعر و الموسيقى ...إلخ ، فهذه الإبداعات قد توصف بالعبقرية و التفرد و الإعجاز ، لكنه وصف مجازي ، أُريد به المبالغة في التعظيم و التقييم ، و إلا فإن الحقيقة هي أن أي عمل بشري مهما كان عظيما مُبدعا ، فإنه عمل إنساني محكوم بزمانه و ظروفه ،و لا إعجاز فيه و لا تحدٍ ، لأنه يمكن الإتيان بمثله ، أو بأحسن منه ، أو بالقريب منه ، في الزمن الذي ظهر فيه ، أو في الزمن الذي يأتي بعده . علما بأن هذا الإبداع يخص جانبا من جوانب المعرفة البشرية و إبداعاتها ،و لا يشمل كل جوانبها من جهة ،و لا يخلو من الخطأ و السلبيات و النقائص من جهة أخرى .
لكن معجزة القرآن تختلف عن ذلك تماما ، إنها معجزة عامة تشمل كل مجلات العلوم ، و قد جاء بها نبي لا يقرأ و لا يكتب ، و تحدى بها الإنس و الجن معا ، بأن يأتوا بمثله منذ نحو 15 قرنا ،و ما يزال التحدي مستمرا و قائما على يمنا هذا . و نحن نرى كتبا كثيرة يٌدسها أصحابها ككتب الهنود و اليهود و النصارى ، لكنها ليست في مكانة القرآن ، فلا إعجاز فيها ،ولا تحد ، مع كثرة الخرافات و المستحيلات و الأخطاء العلمية و التاريخية[235] . لكن القرآن الكريم لا يُوجد في العالم كتاب يُماثله ، و لا يقترب منه ،و لا يتفوّق عليه . أليس هذا علامة على المعجزة ، و من مظاهرها أن الذي جاء بها كان لا يعرف القراءة و الكتابة ؟ . فلماذا الجابري يُغالط و يُدلّس ؟ ! .
و أما المثال الثاني –من أمثلة تقزيم الجابري للقرآن- فمفاده أنه زعم أن علماء الإسلام قالوا بإن الرسول-عليه الصلاة و السلام- كان أميا لا يقرأ و لا يكتب ، لتأكيد الطابع المعجز للقرآن ، لأنه تحدى قريشا ، و الذين يعرفون القراءة و الكتابة لم يقدروا على الإتيان بمثله ، مما يدل على أن القرآن وحي من عند الله . لكن الجابري يرى أن هذا النوع من الاحتجاج كان صالحا في زمن كالعصور الوسطى عندما كان التعليم ناقصا و امتيازا،و قد يُوظفه بعضهم لأغراض يُريدها. لكن الوضع تغير في زماننا بتعميم التعليم و المعرفة ، فأصبح الناس لا يُعطون المعرفة بالقراءة و الكتابة كل تلك الأهمية . ثم تعجّب الجابري من كيف تكون عدم المعرفة بالقراءة و الكتابة دليلا على المعجزة القرآنية[236] ؟ ! .
و قوله هذا زعم لا يصح ، و فيه تغليط للقراء و تدليس عليهم ، لأنه أولا ليس علماء الإسلام هم الذين أبدعوا القول بذلك الاستدلال ،و إنما القرآن نفسه هو الذي استخدمه و نصّ عليه ،و عنه أخذه هؤلاء العلماء ، فقال تعالى : ((وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ))-العنكبوت : 48-،و ((قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ))-الإسراء : 88- ،و ((وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ،فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ))-البقرة :23- 24- .
و لا يصح قوله بأن التعليم في العصر الإسلامي- العصر الوسيط- كان ناقصا و خاصا بفئة من الناس ، فهذا قول باطل ، لأن التعليم كان منتشرا بكثرة في مختلف أمصار العالم الإسلامي ،و بين كل فئات المجتمع ،و متوفرا لعامة الناس . و مثال ذلك أن مدينة دمشق وحدها كانت فيها-في القرن الثامن و بما بعده- أكثر من 120 مدرسة عليا ، هذا فضلا عن المساجد و الجوامع ،و الزوايا و الأربطة ، الخوانق و التُرب ، التي جمعت النشاطين العلمي و الاجتماعي[237] .
و ثانيا إن زعمه بأن الاستدلال الذي حكاه عن علماء الإسلام تجاوزه الزمن ، و أصبح لا يصلح لوقتنا الحاضر ، هو زعم باطل ، لأن هذا الاستدلال كان صالحا زمن رسول الله ، و في زمانهم ،و ما يزال صالحا إلى يومنا هذا ، بشكل أقوى و أصلح و أعظم ، ،و أعجب مما كان عليه في السابق . و هذا خلاف ما أراد أن يُوهمنا به الجابري ، لكي يقطع الطريق أمامنا من أن نستدل بذلك الاستدلال في زماننا هذا .
و تفصيل ذلك هو أن التطور العلمي الكبير و المذهل الذي حققه الإنسان في زماننا هذا –بفضل من الله تعالى و توفيقه- ، و ما ترتب عنه من مكتشفات علمية كثيرة ، في مختلف مجالات العلوم الطبيعية و الإنسانية أظهرت أهمية العلم في حياة الإنسان من جهة ، و أظهرت من جهة أخرى الجانب المظلم من تاريخ الإنسانية عندما كانت خاضعة للخرافات و الأساطير حول الكون و الحياة و الإنسان ، بسبب ما روجته تقوله الأديان الباطلة ، و المذاهب الفلسفية الفاسدة . في هذه الظروف المظلمة ظهرت المعجزة القرآنية ، التي تحدت العلم بأسره ، و رفضت أباطيله و خرافاته و انحرافاته . فلما نظرنا نحن اليوم في هذه المعجزة بمنظار العلم الحديث و المعاصر وجدنا الأمر مختلفا تماما ،و أننا أمام معجزة علمية حقيقة مُذهلة من ثلاثة جوانب : أولها أن المعجزة القرآنية لم تقع في الأخطاء العلمية التي كانت سائدة في زمانها،و كان يُعتقد أنها صحيحة ، كقول أرسطو بأزلية العالم ، و العقول العشرة ، و ثبات الأرض-أي عدم حركتها- ، و أن الشمس باردة و ليست حارة[238] .
و ثانيها هو أن المعجزة القرآنية تكلمت عن ظواهر طبيعية ، و حوادث تاريخية لم تُكشف إلا في العصر الحديث بفضل التطور العلمي في البحث و الاكتشاف الذي أحرزه الإنسان ، فتبين بذلك البق القرآني ،و صحة قوله فيها ، كتكلمه عن نشأة الكون ، و تطور الجنين في بطن أمه ، و إخباره بنجاة جسد فرعون الخروج ، و غير ذلك من الأمثلة ، فهي كثيرة جدا ، قد صُنفت في ذلك كتب كثيرة ، وهي متوفرة ورقيا و إلكترونيا .
و الجانب الثالث يتمثل في أن التطور العلمي المُذهل الذي حققه الإنسان في العصر الحديث و المعاصر ، لم يُمكّن الكفار من الرد على تحدي القرآن لهم إلى يومنا هذا ، و لم يجدوا إلى ذلك سبيلا ،و لم يجدوا فيه خطأ علميا واحدا . فثبت بذلك عجزهم ، و صدق فيهم قوله تعالى : ((وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ،فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ))-البقرة :23- 24- .
فالعلم الحديث هو الذي أظهر تلك الجوانب من المعجزة القرآنية ، و قد أظهرها في أبهى صورة ، و قد زادها قوة و إعجازا و إفحاما كون النبي محمد- عليه الصلاة و السلام- الذي جاء بها كان أميا لا يعرف القراءة و لا الكتابة . الأمر الذي يُثبت أن الاحتجاج بعدم معرفة رسول الله للقراءة و الكتابة على صدق المعجزة القرآنية ، هو احتجاج صحيح ،و ما يزال قائما بقوة و فاعلية إلى يومنا هذا . خلاف ما أراد الجابري أن يُوهمنا به ، عندما حاول تغليطنا بذلك الزعم الباطل .
و أما تعجّبه من كيف تكون عدم معرفة النبي للقراءة و الكتابة دليلا على المعجزة القرآنية ؟ ! ، فإن العجب هنا من ثلاثة أمور ، أولها أن القرآن كتاب فريد من نوعه في العالم كله ،و قد تحدي الإنس و الجن معا ،و لم يرد على تحديه إنس و لا جان . و الثاني إن هذا الكتاب المعجز جاء به إنسان أمي لا يعرف القراءة و لا الكتابة ،و هذا أمر لا مثيل له في العالم بأسره . و العجب الثالث هو من الجابري نفسه ، فكيف سمح لنفسه بأن يُغالط و يعكس الاستدلال الذي هو ضده ،و يجعله لصالحه ؟ ! . و بيان ذلك أن الذي لاشك فيه هو أن العالِم إذا جاء بنظرية علمية ، أو اكتشف حقيقة علمية ، فهذا في حقه أمر عادي للغاية ، و مُتوقع حدوثه من و من غيرها من أهل العلم . لكن العجب كل العجب هو أن يأتي إنسان أمي لا يقرأ و لا يكتب ، بكتاب مُعجز في مختلف مجالات العلوم ، و يتحدى به الإنس و الجن مُنذ أكثر من 14 قرنا ،و لا احد يُبطل تحديه إلى يومنا هذا !! . أليس عدم معرفة القراءة و الكتابة هي من الأدلة الدامغة على صحة النبوة المحمدية و المعجزة القرآنية ؟ . إنه لعجب كبير من الجابري لماذا يُصر على تقزيم المعجزة القرآنية ، بذلك الاستدلال المعكوس ؟ .
و أما المثال الثالث – من تقزيم الجابري لمعجزة القرآن- ، فمفادها انه زعم أن المعجزة القرآنية زمن النبي-عليه الصلاة و السلام- كانت مُتمثلة في الجانب اللغوي ، فلما اتسعت رقعة الإسلام ،و دخلت فيه شعوب كثيرة ، و ظهرت فرق مناهضة للإسلام من أتباع الأديان الأخرى كالمانوية ، أصبح من الضروري على علماء الإسلام توسيع مجال الإعجاز ليشمل معانيه و ليس لفظه فقط . و استشهدوا في ذلك بما ورد في القرآن من إخبار بالغيب ،و بما ذكره من اخبار الأقوام الماضية[239] .
و زعمه هذا لا يصح ، و هو مظهر من مظاهر تقزيمه للمعجزة القرآنية ،و فيه افتراء على القرآن و علماء الإسلام ، لأنه لم يُقدم على زعمه دليلا صحيحا و لا ضعيفا . و ما قاله هو مجرد زعم ، و الزعم لا يعجز عنه أحد ، و نحن نطالبه بالشواهد الصحيحة التي تُثبت ما قال به . ثم بعد ذلك نقول : إن المعجزة القرآنية منذ نزولها كانت معجزة شاملة لمعاني القرآن و ألفاظه ، و لم تكن محصورة في ألفاظه و لغته فقط . و هذا أمر نص عليه الشرع نفسه و ليس علماء الإسلام هم الذين وسعوا مجال إعجازها على حد زعم الجابري . و الشواهد الآتية تثبت ذلك بقوة و وضوح :
أولها إنه لا يُوجد في القرآن الكريم نص يحصر المعجزة القرآنية في ألفاظها دون معانيها . و إنما الموجود هو أن الله تعالى تحدى العرب و كل الناس بالقرآن كله دون تخصيص لجانب منه دون الجوانب الأخرى . بدليل قوله تعالى : ((وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ،فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ))-البقرة :23- 24- ، و ((فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ))-الطور : 34-،و ((وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ))-البقرة : 23 ))- ، و ((أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ))-هود : 13- . فهذه الآيات الكريمات شواهد دامغة على أن الله تعالى تحدى العرب و غيرهم من الكفار بالقرآن كله بمعانيه و ألفاظه معا ، و لم يخصصه بالألفاظ فقط .
و ثانيها قوله تعالى : ((قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ))-الإسراء : 88- ، فهذا نص شاهد وقاطع على أن الإعجاز المُتحدى به هو القرآن كله ، و ليس خاصا بألفاظه فقط ، لأن الله تعالى تحدى به الإنس و الجن معا ،و الغالبية العظمى من بني آدم ليسوا عربا ،و لا يعرفون اللغة العربية ، فكيف يتحداهم بأمر لا يعرفونه ؟. فدلّ هذا بالضرورة على أن مجال المعجزة القرآنية المُتحدى به واسع جدا اتساع علوم القرآن ، و ليس محصورا في اللفظ كما زعم الجابري ، الذي يريد من وراء ذلك تقزيم المعجزة القرآنية ليصل إلى أمر مُبيت سلفا ، سينكشف قريبا بحول الله تعالى .
و الشاهد الثالث- و هو الأخير- يتمثل في حديث نبوي صحيح ، يقول فيه الرسول-صلى الله عليه و سلم- : (( ما من الأنبياء نبي إلا أُعطي من الآيات ما مثله أومن أو آمن عليه البشر، و إنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة ))[240] . فهذا الحديث حجة دامغة على أن معجزة النبي-عليه الصلاة و السلام- هي الوحي الذي أنزله الله تعالى عليه ، و المُتمثل في القرآن الكريم ، فهو الآية المعجزة ، التي تشمل القرآن كله بألفاظه و معانيه معا ، لأن الحديث قال : (( و إنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله )) ، فالحديث نص على أن آية النبي هي الوحي كله ، و لم يقل لغته و ألفاظه .
و أما المثال الرابع – من أمثلة تقزيم الجابري لمعجزة القرآن- فيتعلق بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، و هذا الموضوع أهمله الجابري في كتابه : مدخل إلى القرآن الكريم ، و لم يشر إليه على أنه يمثل جانبا هاما من جوانب المعجزة القرآنية ، مما يدل على تقزيمه له ، أو أنه يُنكره أصلا ، و هذا هو الأرجح ، لأني عثرتُ له على اعتراضات ينتقد من خلالها التفسير العلمي للقرآن و القائلين به . فمن ذلك إنه يرى أنه يجب علينا أن لا نلتمس
و يرى أنه يجب علينا أن لا نلتمس في القرآن ، و لا في الحديث ما يخرج عن معهود العرب من العلوم و المعارف ، و أيد موقفه بجملة اعتراضات و تحفظات ، أولها إنه عندما يقول بعض الناس : إن في القرآن ما اكتشفه العلم الحديث . فإن هذا يطرح علينا تساؤلات ، منها : أين كنتم قبل الاكتشاف ؟ ، و لماذا لم تكتشفوه أنتم[241] ؟ .
و ردا عليه أقول : أولا إن التساؤلين لا يمسان جوهر الموضوع ، و هو : هل يوجد إعجاز علمي في القرآن أم لا ؟ ، نعم يُوجد إعجاز علمي في القرآن الكريم ، فهو مليء بمئات الإشارات العلمية ،و قد صُنفت في ذلك مُصنفات كثيرة ، و أُنشأت له هيئة عالمية تتولاه . و بما أن الأمر كذلك و الإعجاز العلمي في القرآن أصبح حقيقة ثابتة مُعترف بها ، فلا يُوجد أي مبرر علمي و لا شرعي و لا عقلي لرفض ذلك و إهماله .
و ثانيا أن التساؤلين يُجاب عنهما بأن تخلف المسلمين العلمي ، و ضعف مساهمتهم –أو انعدامها- في الاكتشافات العلمية الحديثة ، هما السببان في تأخر المسلمين من الاستفادة من الإشارات العلمية في القرآن الكريم قبل أن يكتشفها غيرهم . و هذا التخلف موضوع آخر ، لا يمنع من الاهتمام بالإعجاز العلمي في القرآن ، و مع ذلك فقد ذكر بعض المسلمين المختصين في التفسير العلمي في القرآن أنه استفاد من بعض الإشارات العلمية في القرآن ، فتوصل بفضلها إلى الكشف عن حقائق لم تكن معروفة[242].
و الاعتراض الثاني مفاده أن العلم يتغير ، و قد تصبح حقيقة اليوم ليست حقيقة الغد ، لذا فإن ربط القرآن بكشف من الكشوف (( ينطوي على مجازفة خطيرة ))[243] . و قوله هذا فيه حق و باطل ، لأنه أولا إن العلم الحديث فيه الحقائق و شبه الحقائق ، و النظريات و شبه النظريات ، فعلى المفسر أن يعتمد أساسا على الحقائق الثابتة ، و إذا استعان بالنظريات فلا يجزم بها ، و إنما يجتهد حسب طاقته للوصول إلى الحقيقة أو الاقتراب منها ، وفق المنهجية العلمية الصحيحة .
و ثانيا إن المفسر للآيات العلمية في القرآن هو مجتهد ، كغيره من المفسرين المجتهدين ، فإن أصاب فله أجران ، و إن أخطأ فله أجر واحد ، و هو في تفسيره لا يربط القرآن بالكشوف الحديثة ، و إنما يُفسره بها حسب اجتهاده ، و لا يترتب عن ذلك أي ضرر على القرآن كنص مقدس محفوظ . فإذا أخطأ ذلك المفسر فهذا ليس كارثة ، و لا حراما ، و ليس جديدا في تاريخ التفسير ، فالمفسرون منذ نزول القرآن إلى يومنا هذا ، فيهم المصيب و فيهم المُخطئ . و الله تعالى هو الذي أمرنا بتدبر كتابه و فهمه و تفجير معانية ، كقوله تعالى : -{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} - سورة النساء/82- و{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} سورة محمد/24-،و من يقرأ القرآن و يجتهد في تدبره و تفسيره ، ليس واجبا عليه أن يُصيب و أن لا يُخطئ ، بل عليه أن يجتهد و الأجر آت بإذن الله .
و أُشير هنا إلى أمر هام جدا ، مفاده أنه لا يمكن أن يحدث تعارض بين حقائق القرآن و حقائق العلم ، فإذا ما حدث ذلك ، فإما أننا أخطأنا في فهم القرآن ، و إما أننا أخطأنا في فهم الحقيقة العلمية ، و إما أن ما حسبناه حقيقة علمية هو ليس كذلك ، و إنما هو مجرد نظرية لم يقم الدليل العلمي القاطع على صدقها ، و إما أننا أخطأنا في فهم الأمرين معا ، لأنه لا يمكن أن يحدث تعارض حقيقي بين كتاب الله المسطور- القرآن- و كتابه المنظور –الكون- .
و أما اعتراضه الثالث فمفاده أن القرآن بيان للناس ، ذكر مظاهر طبيعية معروفة لدي الناس ، و لم تُثر فيهم اشكالات ، كتصطح الأرض ، و جريان الشمس ، و هذا فهمٌ يقوم على المشاهدة الظاهرة للشيء ، و هو يفي بالاعتبار لطرح السؤال المطلوب ، و هو : من خلق هذا ؟ ، و ليس كيف حدث هذا النظام[244] ؟ .
و قوله هذا غير صحيح في معظمه ، لأنه أولا أن في القرآن مظاهر طبيعية و بشرية كثيرة جدا تتجاوز ما كان يعرفه الناس زمن نزول القرآن الكريم ، فهو –أي القرآن- قد اخترق تاريخ الطبيعة و الإنسان و مستقبلهما ، و تكلم عن أعماق الأرض و السماء ، و تكلم بالتفصيل عن مراحل تكوّن الجنين في بطن أمه ، كقوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} سورة الأنبياء/30- ، و من أراد التوسع في الموضوع فالكتب المتخصصة فيه كثيرة .
و ثانيا إنه ليس في القرآن الكريم : من خلق هذا فقط ؟ ، و إنما فيه أيضا الدعوة إلى البحث عن الكيفية ، و السعي في الطبيعة لتسخيرها و الانتفاع بها ،و شكر الله تعالى عليها ، و هذا لا يتأتى إلا بالبحث و الكشف عن السنن الكونية و الاجتماعية ، و توظيفها لخدمة الإنسان . قال تعالى : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الجاثية/13- ،و {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} - سورة العنكبوت/20-، و{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ،وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ،وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} -سورة الغاشية/ 17-18-، و {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ } - سورة آل عمران/137- .
و الاعتراض الرابع مفاده أن أصحاب التفسير العلمي للقرآن يعتمدون على تأويلات و أحيانا على تحليلات غير ناجحة في الغالب ، مع العلم أن هذه الأعمال ليست ذات موضوع اليوم ، كالذي كان زمن طنطاوي جوهري في تفسيره[245] . و قوله هذا ضعيف جدا ، لأن أصحاب التفسير العلمي للقرآن من حقهم أن يجتهدوا كما يجتهد غيرهم من المفسرين ، و قد تكون محاولاتهم الضعيفة طريقا إلى الكشف عن الصحيح المجهول ، علم بأن كل علم له ثوابت و حقائق ، و تأويلات و ظنيات .و موضوع الإعجاز العلمي في القرآن يقوم على حقائق كثيرة جدا لا غبار عليها ، و وجود التأويلات الضعيفة لا يقدح في الأصل ، فأما{ الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} - سورة الرعد/17- .
و حالة علم التفسير العلمي للقرآن هي أحسن بكثير مما كانت عليه زمن طنطاوي جوهري ، فقد اتسعت مجالاته ،و كثرت حقائقه ، و تولاه أساتذة متخصصون أكفاء ضمن الهيئية العالمية للإعجاز العلمي في القرآن و السنة ،. و هو اليوم يُعد من الوسائل الدعوية الهامة النافعة و المفيدة في الدعوة إلى الإسلام بين المسلمين و غيرهم ، و في الرد على شبهات المستشرقين و تلامذتهم الذين يطعنون في أصالة الإسلام و مصدريته ، و يزعمون أنه نسخة محرّفة عن التوراة و الأناجيل . و له أيضا دور كبير في مجال مقارنة الأديان . و بذلك يتبين أن تهوين الجابري من موضوع التفسير العلمي للقرآن هو أمر غير صحيح ، و يندرج ضمن نظرته التقزيمة المنتقصة للمعجزة القرآنية .
و أما اعتراضه الخامس فمفاده أن دعاة التفسير العلمي إذا كانوا يهدفون إلى إثبات أن العلم يُزكي القرآن ، فهذا لسنا في حاجة إليه ، و لا كان القرآن في حاجة إليه ، إنها عملية إيديولوجية ، إذا قبلناها و سلمنا بها ، فعلينا أن نقبل توظيفا ايديولوجيا مارسه الإسماعيليون الباطنيون في استخدامهم لطبيعيات الفلسفة في زمانهم في تأويلهم للقرآن ، و قولهم أن مذهبهم هو الصحيح يشهد له القرآن و العلم مع أن العلم الحديث يحكم ببطلان تلك التي سموها حقائق العلم[246] .
و قوله هذا فيه أخطاء و تغليط للقراء و تدليس عليهم ، لأنه أولا ليس عيبا أن يسعى دعاة التفسير العلمي إلى إثبات أن القرآن سبق العلم الحديث، و أن العلم اكتشف ما في القرآن ، و ليس عيبا أن يزكي القرآن العلم ، و يزكي العلم القرآن ، لأن العملية متكاملة ، فنفسر كتاب الله المسطور بكتابه المنظور ، و العكس صحيح ، و قد قال سبحانه : -{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}- سورة فصلت/53-، فبفضل هذه الآيات الكونية يعرف كثير من الناس أن القرآن حق .
و إذا كان بعض الناس ليس في حاجة إلى أن يزكي العلم القرآن ، و إلى أن يزكي القرآن العلم ، فإن كثيرا منهم – من مسلمين و كفار- في حاجة ماسة إلى ذلك ، لأن في هؤلاء : المسلم الضعيف الإيمان ، و الملحد ، و النصراني ، و اليهودي ، و العلماني ، و المشكاك ، و المريض القلب و العقل ، فهؤلاء كلهم جاء القرآن إليهم و عليه أن يُخاطب كل طائفة بما يناسبها ، و منها من لا يُقنعه إلا التفسير العلمي للقرآن لأنه يقوم على الدليل العلمي المادي الملموس.
و الشاهد على ذلك أن أحد تلاميذ المستشرقين المعاصرين زعم أن (( الصراعات الهائجة التي حصلت بين المسيحية و بين العلم الحديث سوف تحصل مع الإسلام أيضا ، و ربما كنا قد أصبحنا على أبوابها الآن ))[247] . فهذا الرجل- و أمثاله- من ضحايا التغريب و العلمانية ، لو كان يعتقد أن القرآن كتاب الله المسطور ، و الكون كتابه المنظور ، و أن كلا منهما يزكي الآخر ، ما تنبأ بهده الخرافة التي ربما يقول بها كثير من الناس .
و ثانيا إن قوله بأن ذلك الفعل هو عملية أيديولوجية ، فهذا لا عيب فيه إذا كانت العملية تقوم على أسس صحيحة شرعا و علما و عقلا ، و من أجل الحق . فما المانع من أن نوظف الإعجاز العلمي في الدعوة إلى الإسلام و التعريف به ، و الرد على الطاعنين فيه ؟ . و القرآن الكريم ذاته وصف نفسه مرارا بأن فيه آيات كثيرات باهرات تحدى بها عالم الجن و الإنس معا ، و أية فائدة من وجودها إذا لم نوظفها لصالح الإسلام و هداية البشرية ؟ ، و الجابري نفسه سخر كتبه –التي أطلعتُ عليها- لخدمة مذهبيته-أيديولوجيته- التي عنوانها : نقد العقل العربي ، و هو قد صرّح بذلك شخصيا في كتابه : التراث و الحداثة .
و ثالثا إن مثال الإسماعيلية الباطنية الذي ذكره الجابري ، هو لا يصلح لرد ما يقوم به دعاة التفسير العلمي للقرآن ، فإذا كان من حق أية طائفة أن توظف ما تراه صالحا لنشر مذهبها فلها أن تفعل ذلك، و الإسماعيليون فعلوا ذلك انتصارا لمذهبهم ، و نحن أنكرنا عليهم مذهبهم الباطل الذي حرفوا به عقائد الإسلام و شريعته ،و طعنوا به في الصحابة[248] ،و أدخلوا في الدين ما ليس منه . و لأنهم أقاموه على طبيعيات فلسفة اليونان الظنية التجريدية التي لم يقم الدليل على صدقها-في الغالب الأعم- ، و قد جاء العلم الحديث و أثبت بطلان ما ظنوا أنه حقائق على ما ذكره الجابري . لذا فلا مجال للمقارنة بين ما يقوم به أصحاب التفسير العلمي للقرآن و ما قام به الإسماعيلية الباطنية ، فدعاة التفسير العلمي للقرآن ينطلقون من الفهم الصحيح للإسلام القائم على محكمات الكتاب و السنة الصحيحة الموافقة له ، و على ما أجمع عليه الصحابة و التابعيون من جهة ، و على حقائق العلم الحديث ، التي لا مجال للمقارنة بينها و بين طبيعيات الفلسفة القديمة التي قامت أساسا على الظن و التجريد من جهة أخرى .
و ختاما لهذا الموضوع أشير هنا إلى أمر هام جدا ، مفاده أن الذين يرفضون التفسير العلمي للقرآن ، هم على أربعة أصناف على ما يبدو لي : أولها صنف من المسلمين الغيورين على القرآن يتخوفون من حدوث آثار سلبية تُسيء إلى القرآن الكريم من جراء ذلك التفسير ، بسبب الخطأ ، أو دخول غير المختصين في هذا الموضوع .
و الصنف الثاني هو من غير المسلمين كاليهود و النصارى ، هؤلاء لا يرحبون بالتفسير العلمي للقرآن ، لأنه يهدد أديانهم و مصالحهم ، و يكشف عن زيف دياناتهم و عقائدهم و كتبهم المقدسة عند المقارنة بينها و بين العلم الحديث من جهة ، و عند المقارنة بينها و بين القرآن من جهة أخرى ، الأمر الذي يؤدي إلى قيام الحجج الدامغة عليهم على صدق نبوة محمد –عليه الصلاة و السلام- ، و بطلان عقائدهم و كتبهم . لذا فهم يتخوفون من ذلك التفسير كثيرا و يرفضونه ؛ لذا فهم يسعون إلى العمل على إبعاد المسلمين من هذا المجال بمختلف وسائل المكر و الدس ،و التدليس و المغالطات و التخويفات من مغبة ذلك التفسير .
و أما الصنف الثالث فيتمثل في بعض الفرق المنحرفة المنتسبة إلى الإسلام ، التي تطعن في صحة القرآن الكريم و تزعم أن الصحابة حرفوه ، لذا فهي تسعى إلى إبعاد المسلمين عن التفسير العلمي و الرقمي معا ، لأنه يُثبت بالأدلة الدامغة بأن القرآن الكريم لم يتعرض للتحريف ، و أن الله تعالى قد حفظ كتابه على أيدي صحابة نبيه-عليه الصلاة و السلام .
و آخرها-أي الصنف الرابع- يتمثل في الملاحدة و العلمانيين من أبناء المسلمين و غيرهم ، و هؤلاء بما أنهم خُصوم للدين عامة و الإسلام خاصة ، فإنهم لا يُرحبون بالتفسير العلمي للقرآن الكريم ، لأنه ينقض عليهم فكرهم و مذاهبهم ،و يُقيم عليهم الحجج العلمية الدامغة على صدق نبوة محمد –صلى الله عليه و سلم ، و ما يترتب عنها من التزامات .
و أما المثال الأخير – و هو الخامس من تقزيمات الجابري لمعجزة القرآن- فيتعلق بزعمه بأن الإعجاز ليس محصورا في المعجزة القرآنية و لا خاصا بها ، و إنما هو أيضا يشمل أعمالا إبداعيه بشرية لكبار الشعراء و الكتاب . و قد عبّر عن ذلك بقوله : (( و هل يستطيع اليوم أمهر الكتاب و أعلاهم شأنا أن يأتي بمثل القرآن ، أو بمثل سورة من سوره ، بل لا أحد من الشعراء اليوم يمكن أن يأتي بشعر يُماثل شعر المتنبي، و لا بخطبة مماثلة لخطبة قس بن ساعدة ، أو بمقامة من جنس مقامات الهمذاني أو الحريري ، بل لا بقصائد تتطابق مع قصائد نزار قباني . ذلك لأن الإبداع في القول كما في الرسم و النحت ، كما في الفكر و الفلسفة ، لا يمكن تقليده بسب بسيط هو أن التقليد بالتعريف : غير الإبداع . و الوحي المحمدي – القرآن- إذا نُظر إليه من المنظور الأدبي فهو قمة البلاغة و الإبداع . و أما من المنظر الديني فهو تجربة روحية فريدة ))[249] .
و قوله هذا فيه باطل كثير ، و تغليط للقراء و تدليس عليهم ، و ذلك أنه لم يجعل الإعجاز خاصا بالقرآن و مقصورا عليه ،و محصورا فيه ، و إنما جعله يشمل أعمالا إبداعية بشرية لكبار الكتاب و الشعراء . فهي أعمال تتصف-في نظر الجابري- بالإعجاز في بابها ، كما يتصف القرآن بالإعجاز البلاغي . فالقرآن عنده لا ينفرد بصفة الإعجاز ،و إنما تشاركه فيه أعمال بشرية إبداعية كثيرة .
و ردا عليه أقول : إنه لا يصح وصف الأعمال البشرية الإبداعية بالإعجاز إذا قُصد به تشبيهها بالإعجاز القرآني ، لأن القرآن الكريم كلام الله المعجز الذي يمثل المعجزة الحقيقية الخالدة . و أما تلك الأعمال الإبداعية فهي ليست معجزة من الناحية النظرية و العملية . فمن الناحية النظرية إنه لا يصح عقلا أن يُقال : إن هذه الأعمال الإبداعية معجزة ،و لا يمكن الإتيان بمثلها . إنه لا يصح ذلك لأن أي عمل بشري مهما كان إبداعه يمكن أن يُقلّد ، أو يُنتج من جديد بتكرار التجربة عند نفس الشخص ، أو عند شخص آخر . فيُؤدي ذلك إلى إنتاج نفس العمل ، أو قريب منه ، أو أحسن منه ، بغض النظر عن القرب أو البعد الزمنيين . لذا لا يصح أبدا إصدار حكم نظري بأن هذا العمل الإبداعي لا يمكن الإتيان بمثله ، أو بأحسن منه ، أو بقريب منه . و من يقول ذلك فهو قد خالف العقل ، لأنه لا يُوجد أي مانع عقلي بعدم إمكانية تكرار إبداعات البشر و تشابهها فيما بينها .
و أما بالنسبة للقرآن الكريم ، فلا يصدق عليها ما قلناه ، لأن الله تعالى هو الذي وصف كتابه بأنه معجز ،و تحدي به الإنس و الجن على أن يأتوا بمثله ، ثم أكد على أنهما لن يأتوا بمثله ، في قوله سبحانه : ((قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ))-الإسراء : 88-. فهذا حكم إلهي مطلق بأن المعجزة القرآنية لا يمكن الإتيان بمثلها أبدا , و هذا خلاف إبداعات البشر .
و أما من الناحية العملية فإن الواقع يشهد على أن الأعمال الإبداعية لكبار المبدعين في العالم تتكرر أعمالهم في الواقع المشهود . لأن تجارب البشر تتكرر بطريقة أو أخرى ، فقد تتشابه كثيرا ،و قد تختلف كثيرا ، و قد تجمع بين التشابه و الاختلاف معا . فيأتي إنتاجهم انعكاسا لتجاربهم على المستويين العقلي و الوجداني . علما بأن أعمالهم لا تخلو من النقائص و السلبيات مهما بلغت من القوة و الإيجابية و حازت على صفات الكمال .
و أما الأمثلة التي ذكرها الجابري ، فهو قد بالغ في تضخيمها، و توجيهها الوجهة التي يريد الوصول إليها . فالمتنبي لم يكن شعره معجزة ،و لا إبداعا لا يُضاهى ، فشعره الذي ركّز فيه على المدح ، فيه نقائص تتعلق بأغراض الشعر الأخرى ، كالوصف و الهجاء ، و عندما هجا كافور الإخشيدي تجاوز الحدود الشرعية و الأخلاقية في ذمه له ، عندما عيّره بما لا يصح أن يُعيّر به ، كتعييره ببعض صفاته الخَلْقية التي خلقه الله تعالى عليها[250] . كما أن أعماله الشعرية لم تكن فريدة من نوعها ، فقد شهد العصر الإسلام شعراء كثيرين برعوا في مختلف أغراض الشعر ،و أشعارهم هي في درجة شعر المتنبي ، و قد تكون أحسن من شعره ، و منهم : البحتري ، و الأخطل ، و جرير ، و أبو تمام ، و الفرزدق ، و بشار بن برد ، و أبو نواس . و هذه النماذج من كبار الشعراء المبدعين ،و إن لم تتكرر في زماننا فهي ليست نماذج معجزة ، لأنها تكررت في زمانها ، و لا مانع من أن تتكرر بعض هذه النماذج في زماننا هذا أو مُستقبلا .
و أُشير هنا إلى أن شعر المتنبي على قوته و بلاغته فإن النقاد لم ينفقوا في موقفهم من شعره ، فإذا كان بعضهم قد بالغ في مدحه و تضخيمه كالجابري ، فإن نقادا كبارا آخرين قد انتقدوه انتقادا لاذعا ، و أظهروا كثيرا من نقائص شعره ، كالإيهام ، و التكلف ، و الشذوذ اللغوي . و منهم : أبو هلال العسكري ، رد على المتنبي في كتاب الصناعتين ، و قال : إنه ضمّن شعره جميع عيوب الكلام . و منهم : الصاحب بن عباد رد على المتنبي ،في كتاب عنوانه : الكشف عن مساوئ المتنبي[251] . و منهم معاصره : أبو علي الحاتمي البغدادي ، صنف كتابا سماه : الموضحة في ذكر سرقات المتنبي و ساقط شعره ، أظهر فيه عيوب شعر المتنبي ، و انتقادات غيره له ،و قد أظهر الحاتمي دقة في النقد ، و غزارة في المادة و سعة في الإطلاع[252] .
و أما الخطبة المنسوبة إلى قس بن ساعدة ، فهي خطبة قصيرة مسجوعة ن ألفاظها مُنتقاة ، و جملها صغيرة ، و هي خطبة عادية ، ظاهر عليها التكلف و الاصطناع ، لا روحانية فيها و لا إعجاز . منها قوله : (( أيها الناس اسمعوا و عوا ، من عاش مات ، و من مات فات ، و كل ما هو آت أت ، و ليل داج و نهار ساج ... إن في السماء لخبرا ، و أن في الأرض لعبرا ، ما بال الناس يذهبون و لا يرجعون ))[253] .
و هذه الخطبة المسجوعة ، يمكن أن يقول مثلها أو أحسن منها المتخصصون في الوعظ و اللغة و الأدب ، يقول مثلها إما بالتقليد و الاصطناع ، و إما بالإبداع / و من يُراجع خُطب الواعظ عبد الرحمن بن الجوزي (ت597هجرية) ، يجد فيها من الخطب و الوعظ ما هو أحسن من تلك الخطبة المنسوبة لقس بن ساعدة . و من يبحث في كتاب نهج البلاغة ،و جمهرة خطب العرب ، و كتب الزهد و التصوف، ككتاب الحِكَم العطائية ، يجد فيها خطبا و حكما ما يفوق بكثير ما قاله قس بن ساعدة .
علما بأن قس بن ساعدة لم يكن ظاهرة فريدة في المجتمع العربي الجاهلي ، فقد كان له نظراء في الخطابة ، كسهل بن عمرو ، و لبيد بن ربيعة ، و هرم بن قطبة الفزاري ، و غيرهم كثير ،و قد غلب على خطبهم السجع الشبيه بسجع الكهان[254] .
و أما بالنسبة لمقامات الهمذاني و الحريري ، فهي بلا شك مقامات بليغة ممتعة ، و جميلة هادفة ، لكنها ليست معجزة لسببين : أولهما أنها لو كانت معجزة ما استطاع الحريري أن يُحاكي الهمذاني مُبدع المقامات في مقاماته ،و بما انه حاكاه فيها فهي ليست مُعجزة ، و لأن المعجزة لا تتكرر .
و الثاني أنه ظهرت مقامات كثيرة بعد الحريري ، أقربها إلينا زمانا مقامات مجمع البحرين ، للأديب النحوي ناصف اليازجي(ت1871م/1288هجرية))، حاكى فيها مقاماته الحريري شكلا و مضمونا ، -على الرغم مما بينهما من زمن طويل-[255] . و قد حازت مقاماته الخصائص الحريرية[256] و تفوقت عليها في جوانب عديدة ، منها : إنها أكثر منها عددا [257] ، وأغزر من حيث وفرة الآيات القرآنية ، و أوفر نصيبا من الألغاز النثرية و الألعاب البلاغية ، قلّد فيها الحريري ، و زاد عليه و أبدع فيها[258] ؛ منها : القلب-مالا يستحيل بالانعكاس[259]- و هو عزيز الوجود في أشد الآثار الأدبية محافظة ، و في أوغلها تكلفا و صناعة . استعمله اليازجي و تفوق فيه على الحريري ، و شق على نفسه حتى جادت قريحته بأربعة عشر بيتا ، كلها لا تستحيل بالانعكاس ، في حين لم يستطع الحريري أن يأتي بأكثر من خمسة أبيات ، و ليست في جودة أبيات اليازجي الذي أبدى كذلك مهارة عالية في النحو-مجال تخصصه- وبزّ فيه الحريري[260] .
و أما ما قاله عن قصائد نزار قباني ، فلا يصح ، لأن شعره ليس معجزة ، ولا هو إبداعا كبيرا ، فهو شعر حر لغته عادية يستطيع الشعراء المبدعون المختصون في اللغة و الأدب الإتيان بمثله ، و بأحسن منه تقليدا أو إبداعا عن طريق تكرار التجربة الإيداعية . لأن تجربة قباني ليست فريدة لا يمكن أن تتكرر ، فقد تتكرر بشكل أو بآخر عند شعراء آخرين ،و قد تكون أقوى و أعمق و أبدع من تجربة قباني . ومعروف أن شعره يغلب عليه الشعر الماجن الذي ضرره أكثر من نفعه .
و ربما يستشهد بعض الناس بأهرامات الفراعنة بمصر ، و يزعم أنها معجزة . و هذا قول لا يصح ، لأن هذه الأهرامات إذا كانت شعوب كثيرة لم تكن قادرة على بناء مثلها ، فإن بناءها لم يكن سرا و لا معجزة بالنسبة للمصريين ، فقد كانوا يعرفون طريقة بنائها معرفة جيدة ، و بنوا منها أهرامات كثيرة خلال العصر الفرعوني ، أشهرها أهرامات الجيزة الثلاثة المعروفة . فلو كان بناؤها معجزا لما تمكن المصريون من تكرار بنائها مرات عديدة . و بما أنهم فعلوا ذلك ، فهي ليست معجزة حتى و إن جعلت شعوب أخرى طريقة بنائها ، و لم تقدر على تقليد بنائها . و ما قلناه عن بناء الأهرامات هو نفسه يمكن قوله عن عملية التحنيط التي مارسها الفراعنة في تحنيط ملوكهم و أعيان دولتهم . و الإنسان في عصرنا الحالي يستطيع أن يبني بنايات أكبر بكثير من تلك الإهرامات من حيث الحجم و المرافق و الجمال ، و ناطحات السحاب أحسن شاهد على ذلك .
و أما المعجزة القرآنية من الناحية العملية ، فهي تختلف تماما عن تلك الإبداعات التي سبق أن ذكرناها ، لأنه لا يُوجد كتاب يُماثله في العلم بأسره . فهي معجزة فريدة لم تتكرر ، و لن تتكرر ، فلو تكررت –على يد البشر- ما أصبحت معجزة .
و ختاما لما ذكرناه يتبين أن الجابري قزّم المعجزة القرآنية تقزيما كبيرا ، حتى لم يُبق لها ميزة تنفرد بها . فسوّاها بالتوراة و الأناجيل ظلما وزورا و افتراء ، و أغفل مجالات إعجازها التاريخية ، و التشريعية ، و العلمية ، و العددية ، ما عدا إعجازها اللغوي ، فقد أثبته و نوّه به من جهة ، و قلل من أهميته و انفراده و قوته ، من جهة أخرى ، عندما جعل إبداعات كبار الكُتاب و الشعراء تتصف هي أيضا بالإعجاز في بابها . فالإعجاز ليس خاصا بالقرآن فقط ، و إنما له ما يُماثله في إبداعات بشرية كثيرة . و من ثم فلم يبق للمعجزة القرآنية شيء له أهمية تنفرد به ، لأن الجابري جرّدها من كل خصائصها الإعجازية بطريقة تحريفية تغليطية بيّنا بطلانها و تهافتها .
و تبيّن أيضا أنه –أي الجابري- قام بدور تحريفي خطير و وضيع في موقفه من القرآن الكريم ، ليس فيه من الموضوعية العلمية شيء . و قد كان فيه متأثرا-من حيث يدري أو لا يدري- بشكل كبير بالمستشرقين و تلامذتهم في موقفهم الباطل من القرآن الكريم ، فقال بقولهم في تسويتهم للقرآن بالتوراة و الأناجيل ، و إنكارهم للمعجزة القرآنية و أمية النبي –عليه الصلاة و السلام- . قالوا ذلك زورا و افتراء و بهتانا ، فصدق عليهم قوله تعالى : ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ))-آل عمران : 71- .
علما بأن إصرار الجابري على أن النبي- عليه الصلاة و السلام-كان يعرف القراءة و الكتابة هو زعم باطل ، ، روّج له المستشرقون و تلامذتهم ليجدوا طريقا للطعن في القرآن ،و إيجاد تفسير بشري له ، يُفسرون به قسما كبيرا من مضمون المعجزة القرآنية ، من دون الإقرار بها ، و لا بنبوة محمد –عليه الصلاة و السلام- ، بدعوى أنه بما أن النبي كان يعرف القراءة و الكتابة ، فمن الممكن أنه نقل قسما كبيرا مما في القرآن من الكتب الدينية القديمة بطريقة أو أخر. و هذا الزعم و إن كان باطلا[261] فإن الجابري قد ساهم في تدعيمه و ترويجه و مساندة من يقول به من المستشرقين و تلامذتهم ، مقابل لا شيء يمكن أن يقدمه لآخرته و ينتفع به يوم يقوم الناس لرب العالمين .
خامسا : نقد منهجية الجابري العلمية :
قبل أن نختم هذا الفصل نخصص هذا المبحث لانتقاد المنهجية العلمية التي اتبعها الجابري في كتابه مدخل على القرآن الكريم ، و سنذكر منها خمسة انتقادات مركزة نستنتجها مما سبق ذكره في هذا الفصل .
أولها إنه- أي الجابري- لم يلتزم بالمنهج العلمي الصحيح في فهمه للقرآن و تفسيره له في مواضع عديدة ، في مقدمتها مسألة الأمي و الأميين ، فلم يفسرها بالقرآن الكريم ، و لا بالحديث النبوي الشريف ،و لا بفهم الصحابة و السلف الأول لها . مع انه كان قد ذكر أنه يأخذ بمبدأ أن القرآن يُفسر بعضها بعضا[262] فتركه و لم يلتزم به ، و فسّره بالتأويل التحريفي حسب أفكاره المُسبقة التي يُريد الوصول إليها . و طريقته هذا ليست من الموضوعية ،و لا من البحث العلمي الصحيح في شيء .
و الانتقاد الثاني يتمثل في أن الجابري لم يحتكم إلى القرآن الكريم في كثير من القضايا التي تناولها ، فقرر – من خلالها – أفكارا تُخالف القرآن صراحة ، و قد بناها على روايات معظمها غير صحيح ، كزعمه بضياع آيات من القرآن ،و أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان يعرق القراءة و الكتابة ، و ،و أن القرآن لا يختلف عن التوراة و الأناجيل في المصدر و لا في المضمون . و هذه طريقة غير علمية ، لأنه كان عليه أن يحتكم – في تلك القضايا- إلى القرآن أولا ، و لا يُقرر ما يُخالفه ثانيا .
و أما الانتقاد الثالث فمفاده أن قسما كبيرا من أفكار الجابري الباطلة بناها على الروايات التاريخية المتعلقة بتاريخ القرآن من دون أن يُمحّصها و ينتقدها في أسانيدها و متونها ، لُيميز صحيحها من سقيمها . إنه لم يهتم بذلك أصلا ، ومع أن معظم تلك الروايات غير صحيحة ، لكنه –مع ذلك- استعملها و بنى عليها أفكاره ، التي أثار – من خلالها- الشكوك و الشبهات التي أوصلته إلى نتائج باطلة مُخالفة للشرع و التاريخ الصحيح معا .
و الانتقاد الرابع يتمثل في أن الجابري كان – في مواضع من كتابه- يُقرر ما يُخالف الشرع صراحة ، ثم يُهوّن من ذلك بدعوى أنه لا يُخالفه –أي الشرع- ، و لا يُمثل أي خطر عليه ، لكي يُضعف في القارئ روع النقد و المقاومة ،و لا يُثيره و يُصدمه بما يكتب . فعل ذلك في زعمه بأن النبي- عليه الصلاة و السلام- كان يقرأ و يكتب ، و أن القرآن قد ضاعت منه بعض الآيات ، و أن هذا أمر عادي و طبيعي لا غرابة فيه . حتى بلغ به الأمر أنه زعم ان القرآن نفسه يُقر بأنه تعرّض للتغيير. فعل كل ذلك بطريقته التحريفية التغليطية التدليسية ، ليصل إلى تقرير أفكاره المعدة سلفا .
و أما الانتقاد الأخير – و هو الخامس- فمفاده أن المنهج العلمي الذي طبّقه الجابري في كتابه : مدخل إلى القرآن الكريم ، لا يختلف –في كثير من أساسياته- عن منهج المستشرقين و تلامذتهم في دراساتهم لدين الإسلام . فكان عمدتهم في ذلك هو التأويل التحريفي للقرآن ،و الاعتماد على الروايات الضعيفة و الموضوعة ، مع الحرص على إثارة الشكوك و الشبهات ، و ممارسة التغليط و التدليس . و هذا قد مارسه الجابري بكثرة ، و قد ذكرنا منه نماذج كثيرة .
تلك هي أساسيات المنهج العلمي الذي اعتمده الجابري في كتابه مدخل إلى القرآن الكريم ، إنها ليست من الموضوعية ، و لا من الحياد العلمي ،و لا من البحث العلمي النزيه في شيء، و تنقض قوله عندما قال : إن دافعه من تأليف كتابه هذا ، هو رغبة (( عميقة في التعريف به-أي القرآن- للقراء العرب و المسلمين ،و أيضا للقراء الأجانب تعريفا ينأى به عن التوظيف الإيديولوجي ،و الاستغلال الدعوى الظرفي من جهة ، و يفتح أعين الكثيرين ممن قد يصدق عليهم القول المأثور: " الإنسان عدو ما جهل " ، على الفضاء القرآني كنص محوري مُؤسس لعالم جديد ))[263] .
و أقول : إن حقيقة عمل هذا الرجل ليس كما زعم ، و إنما حقيقته أنه لم يُعرّف القراء بالتاريخ الصحيح للقرآن الكريم ، و إنما عرّفهم بشبهاته ، و مغالطاته ، و مفترياته ، و مذهبيته-إيديولوجيته- التي زعم أنه ينأى بنفسه عنها . و قدم أيضا مادة جاهزة لأعداء الإسلام ليطعنوا فيه ،و يُحققوا أهدافهم المذهبية من خلالها . و هو لم يفتح أعين الناس و عقولهم على الفضاء القرآني النقي الصافي كما زعم ، و إنما لوّث تفكيرهم بشبهاته و تحريفاته ،و أباطيله التي افتراها على القرآن الكريم .
و ختاما لهذا الفصل يتبن منه أن الجابري ضمّن كتابه : مدخل إلى القرآن الكريم ، أباطيل كثيرة ، كزعمه بأن رسول الله-صلى الله عليه و سلم-كان يعرف القراءة و الكتابة ، و أن القرآن ضاعت منه بعض الآيات ، و تقزيمه لقصص القرآن و إعجازه . فتتبعنا تلك الأباطيل و بينا تهافتها و بطلانها من جهة . و بينا انحراف منهجيته العلمية في تعامله مع القرآن الكريم ، و الروايات التاريخية و الحديثية المتعلقة به من جهة أخرى .
الفصل الثاني
خرافات هشام جعيط حول القرآن الكريم و النبي
–عليه الصلاة و السلام-
أولا : خرافة تأثر النبي(ص) بكتب اليهود و النصارى .
ثانيا : خرافة تغيير النبي(ص) لاسمه من قثم إلى محمد .
ثالثا : خرافة تعرّض القرآن للتحريف بالزيادة و النقصان .
رابعا: خرافات تتعلق بالسيرة النبوية العطرة .
خامسا: خرافات أخرى حول القرآن الكريم و النبي( ص ) .
سادسا: خرافة التاريخية عند هشام جعيط و عابد الجابري .
سابعا: خرافة الموضوعية و المنهجية عند هشام جعيط .
خرافات هشام جعيط حول القرآن الكريم و النبي
–عليه الصلاة و السلام-
لا تستحق الخرافات أن تُناقش و يُرد عليها ، لأن اسمها هو دليل على بطلانها ، فلم تحمل هذا الاسم إلا لأنها ليست من الحقيقة في شيء . لكن بما أن الباحث التونسي هشام جعيط ملأ كتابه : تاريخية الدعوة المحمدية في مكة ، بالخرافات و بنى عليها أفكاره و استنتاجاته الخرافية ، كان لزاما علينا أن نرد عليه ،و نُقيم الأدلة الصحيحة القاطعة و الدامعة على خرافية أساطيره و خرافاته التي تتعلق بالقرآن الكريم ، و النبي محمد- عليه الصلاة و السلام- .
أولا : خرافة تأثر النبي ( ص ) بكتب اليهود و النصارى :
ادعى هشام جعيط أن النبي- عليه الصلاة و السلام- تأثر بكتب اليهود و النصارى ، و كان مطلعا عليها ، فظهر ذلك جليا في القرآن الذي جاء به . و قد بنى خرافته هذه على أربعة مزاعم خرافية : أولها إنه زعم أن التأثيرات المسيحية على الخطاب القرآني أهم بكثير من التأثيرات اليهودية في الفترة المكية . كتأثره بالمسيحية السورية بيوم القيامة، فقد أخذ من موروثها أفكارا و تعابير وافرة ، لكنه تأثر يقف (( عند حد الإعلان عن اليوم الآخر ،و لا يتجاوزه بوصف الجنة في بعض النواحي. أما بخصوص العذاب فالخيال القرآني كبير و اللهجة قوية ))[264] .
و الزعم الخرافي الثاني فمفاده أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان متشوفا دوما للحوار مع النصارى حتى بعد البعثة ، بشهادة القرآن ذاته ، فقد نَعَت الكفار الرسول بأنه (( مُعلمأً ))[265] . و من أنه يأخذ معرفته من أعجمي يعيش في مكة ،و هذا ((لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ))-النحل : 103- . إن (( القرآن لا ينفي هنا لا الاتصال بهذا الشخص ،و لا بنهل المعرفة منه ،و يكتفي بالإجابة على أن القرآن لا يمكن أن يكون أملاه هذا الرجل في شكله الموجود . كما من الواضح أن النبي كان يعرف هذه اللغة العجمية السريانية ))[266] .
ثم زعم جعيط أن معجم اللغة السريانية الديني اُدخل إلى لغة القرآن أكثر من المعجم العبري ،و حتى الأثيوبي . من ذلك :
سُبحانك = شُبحَا لك بالسريانية .
تباركت = بريك أت بالسريانية .
سبحانك يا الله = شُبحا لك أَلَهَا[267] .
و زعم أن من تلك التأثيرات اللغوية في القرآن أن لفظ إله محمد : الله ، هو الإله الواحد عند نصارى الشام من السريان و العرب . كما أن عبارة : رَحْمنان ، أو رحمان هو تسمية الإله الأب عند نصارى اليمن[268] .
و أما زعمه الخرافي الثالث فمفاده أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كانت له معرفة واسعة ، و ثقافة مُمتدة ، لأن ممارسته للتجارة مع الشام مكّنته من هضم القسم الأكبر من الثقافة الدينية لذلك العصر ، و هذا أمر ضروري ،و إلا (( قبلنا ما يقوله وانسبرو الذي يرى أن معرفة الأديان التوحيدية و الجدل أمر غير مُمكن في وسط شبه الجزيرة ،و بالتالي فالقرآن كما أشرنا إلى ذلك أُلف في القرن الثالث الهجري )) [269] .
و الزعم الخرافي الأخير- وهو الرابع- يتعلق بمصدر تلك التأثيرات الخُرافية المزعومة ، فزعم جعيط أن مصدرها كتب اليهود و النصارى ، و أن محمدا قد اطلع (( على هذه الأدبيات و على غيرها ، فهذا أمر يصعب نفيه تاريخيا. و حقيقة الأمر أن التأثيرات الكتابية متكاثرة في القرآن المسيحية بالأخص ،و لكن التلمود أيضا . و هذا منذ الفترة المكية ))[270] .
و نقضا لمزاعمه الخرافية و إبطالا لها أقول : أولا إن مزاعمه باطلة جملة و تفصيلا ، لأنه لم يقدم دليلا تاريخيا و لا عقليا صحيحا و لا ضعيفا لتأييدها ،و إنما تعلق بظنون و دعاوى و تخمينات ،و أوهام و أهواء ، ثم بنى عليها مزاعمه الخرافية . و هذا عمل لا يعجز عنه احد ، و هو ليس من العلم في شيء ، لذا فنحن نطالبه بالدليل الصحيح ، إن كان حقا من أهل الحق و العلم و البرهان ، و نتحداه أيضا بأن يأتي بذلك إن كان صادقا في دعاويه ، و هو لم يذكر عليها دليلا ،و لن يأتي به أيضا ، لأنه تعلق بالأوهام و الخرافات ، و لم يتعلق بالحقائق و البراهين ، و هذا أمر اعترف به هو شخصيا عندما أشار إلى تلك التأثيرات المزعومة ، ثم أكد على انه لا يُوجد شاهد مباشر على إثباتها ، و إنما هي تدخل في مجال التخمينات و الافتراضات[271] . و هذا اعتراف خطير منه ينسف مزاعمه السابقة من أساسها ،و التي ذكر على أنها صحيحة ، فكيف تكون صحيحة ، و هي مبنية على التخمينات و الافتراضات من جهة ، و مخالفة لحقائق التاريخ و الشرع من جهة أخرى ؟ ! .
و ثانيا إن الحقيقة التي لم يرد جعيط الاعتراف بها هي أنه لا تُوجد أية تأثيرات كتابية في القرآن الكريم ، و إنما يُوجد تشابه بين القرآن و التوراة و الإنجيل في أمور كثيرة ، مع هيمنة القرآن عليهما هيمنة كاملة شاملة مقرونة بالإعجاز و التحدي . و هذا التشابه سببه وحدة المصدر الإلهي ،و ليس كما زعم هشام جعيط الذي افترى على التاريخ و القرآن الكريم ، و النبي-عليه الصلاة و السلام- بمزاعمه الخرافية . فبما أن الله تعالى هو منزل كل الكتب السماوية ، و الدين عنده واحد هو الإسلام ، لقوله تعالى : ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ))-آل عمران : 19- فمن البديهي و الطبيعي ، و من الضروري أيضا أن يُوجد تشابه بين كل الكتب السماوية . لكن جعيطا لا يُريد و لا يُحب أن يعترف بهذه الحقيقة ، لأنه لا يريد إتباع الحق ،و إنما يريد أن يبقى على ضلاله و كفره بدين الإسلام . فهو حر في ذلك ، لكنه لم يكن موضوعيا و لا علميا في ضلاله و كفره من جهة ، و ليس له الحق في أن يفتري على التاريخ و دين الإسلام ، لن العلم يأبى عليه ذلك ،و الموضوعية تفرض عليه أن لا يُحرّف التاريخ و لا يختلقه ،و لا يطمس الحقائق بالخرافات و الأوهام ، و الأهواء و الظنون .
و ثالثا إن ما ادعاه في زعمه الثاني باطل كله ، و مملوء بالأكاذيب و المغالطات و المبالغات . فمن ذلك إنه زعم أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان متشوّفا دوما للحوار مع النصارى حتى بعد البعثة ، و هذا كلام باطل في معظمه ، و فيه افتراء على رسول الله ، الذي لم يكن يُحاور النصارى قبل النبوة أصلا . و لا يُوجد في السيرة النبوية دليل صحيح و لا ضعيف ،و لا في القرآن أيضا بأن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان يُحاور هؤلاء ، لأنه-عليه الصلاة و السلام- كان أميا لا يقرأ و لا يكتب ، و لم يكن له اهتمام و لا معرفة بكتب اليهود و لا النصارى ، لقوله تعالى : (( ما كنت تدري ما الكتاب )) ، و (( أن يلقى إليك وحيه )) ، و (( علمك ما لم تكن )) . و في مقابل ذلك ليس عند جعيط دليل يُقدمه لتأييد زعمه إلا المزاعم و الظنون ، و الأهواء و الخرافات .
و أما بعد البعثة فالرجل مُبالغ في زعمه جدا ، فلا توجد في السيرة النبوية ما يدل على ذلك الحرص المزعوم على محاورة النصارى ، فالنبي –عليه الصلاة و السلام- كان حريصا على تبليغ الدعوة إلى كل الناس ، بما فيهم اليهود و النصارى ، و كان يتألم كثيرا لعدم إيمان معظم الناس به في العهد المكي ، لقوله تعالى : ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ))-الكهف : 6- ، و ((فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ))- فاطر : 8- . و حتى إذا افترضنا أنه كان حريصا على محاورة النصارى ، فهذا لا يقدح فيه أبدا ،و لا يخدم مزاعم جعيط مطلقا ، لأن عمله هذا هو جزء من مهمته لتبليغ الدعوة إلى أهل الكتاب من جهة ، ولعلمه أنه مذكور في كتبهم كان ينتظر منهم أن يكونوا أول الناس إيمانا به من جهة أخرى .