للإقتراحات mjd_424@yahoo.com
الحمد لله الذي نشر على منابر الكائنات أعلام التوحيد , ونكس رايات أهل الشرك والتنديد , وقصم بشدة بطشه كل جبار عنيد , وأيد بنصره وتأييده من أفرده بالتوحيد, وسقى قلوبهم بوابل الكتاب وطل السنة فأثمرت المعتقد الخالص والقول السديد , يعطي ويمنع , ويخفض ويرفع , ويصل ويقطع , وله الحكمة البالغة , والحجة الدامغة , وما ربك بظلام للعبيد , أحمده سبحانه وأشكره , وأتوب إليه وأستغفره , وأسأله لذة النظر إلى وجهه في يوم المزيد , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , المحصي المبدئ المعيد, الفعال لما يريد , تعالى عن أن يكون له شريك في الملك أو ولي من الذل أو صاحبة أو ولد أو والد أو كفؤ أو نديد , وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله سيد الخلق وخاتم الرسل الكرام العبيد , صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه الذين جردوا سيوف الحق لإزهاق كل باطل وإرغام كل كفار عنيد .
أما بعد : فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله , فاتقوا الله عباد الله رحمكم الله , واعلموا أنكم لم تخلقوا عبثا ولا سدى , بل والله خلقكم لأمر عظيم , وخطب جسيم , بينه في محكم تنزيله , وهو الحكيم في خلقه وشرعه الصادق في قيله , ومن أصدق من الله قيلا , وأبين دليلا: )و ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون , ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) فأخبرنا تعالى أنه ما خلقنا إلا لعبادته , والعبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة و الباطنة , وأصل العبادة وقوامها الذي لا قوام لها بدونه هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل ونزلت به الكتب ومن أجله أمر بالجهاد , وفرض على كل فرد من الأفراد , ولأجله خلقت الدنيا والآخرة , والجامع له كلمة خفيفة اللفظ واسعة المعنى جليلة القدر, وهو لا إله إلا الله , كلمة الشهادة ومفتاح دار السعادة فهي أصل الدين وأساسه ورأس أمره وساق شجرته وعمود فسطاطه , وبقية الأركان والفرائض متفرعة عنها متشعبة منها مكملات لها مقيدة بالتزام معناها , والعمل بمقتضاها , فهي العروة الوثقى التي قال الله تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) الآية , وهي العهد الذي ذكر الله تعالى في قوله: (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) , وهي الحسنة التي ذكر الله عز وجل في قوله: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون), وهي كلمة الحق التي ذكر الله عز وجل في قوله : (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون), وهي كلمة التقوى التي ذكر الله تعالى في قوله: (وألزمهم كلمة التقوى و كانوا أحق بها وأهلها) , وهي المثل الأعلى الذي ذكر الله تعالى: (وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) , وهي الحسنى التي ذكر الله عز وجل في قوله :(فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى), وهي القول الثابت الذي قال الله عز وجل: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) الآيات , وعنها يسأل الله الرسل وأممهم حيث يقول تعالى :(فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين), فيقول للرسل :(ماذا أجبتم) ويقول للأمم :(ماذا أجبتم المرسلين) , وفي الحديث : «لو أن السماوات السبع و الأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله» , ولكنها قد قيدت بقيود ثقال , هي أثقل على من أضله الله من الجبال , وأشق عليه حملها من السلاسل و الأغلال , أما من وفقه الله وهداه , ويسر له سبل النجاة , وجعل هواه تبعا لما جاء به رسوله و مصطفاه , فهي أسهل عليه وألذ لديه من العذب الزلال .
الأول : العلم بمعناها الذي دلت عليه وأرشدت إليه , قال الله تعالى : (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) أي شهدوا بلا إله إلا الله وهم يعلمون بقلوبهم معنى ما نطقوا به بألسنتهم , وفي مسلم عن عثمان رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة» فقيدها بالعلم بمعناها وهو نفي العبادة عن كل ما سوى الله عز وجل , وإثباتها لله وحده لا شريك له , أما من هذى بها هذيانا ككلام النائم لا يعلم معناها , فكيف ينفي ما نفت ويثبت ما أثبتت وهو لا يعلم شيئا من ذلك أم كيف يعمل بمقتضى ما لا يعلمه .
الثاني : اليقين بما دلت عليه في الشهادة والغيب , المنافي لمناقضه من الشك و الريب , قال تعالى : (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) , فقصر الإيمان عليهم مع التقيد بكونهم لم يرتابوا أي لم يشكوا , فلا إيمان لمن قالها شاكا مرتابا , و لو قالها بعدد الأنفاس , ولو صرح بها حتى يسمع جميع الناس , وفي مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة» , وفيه من حديثه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه بنعليه فقال : «اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشره بالجنة» الحديث , فقيد استحقاق قائلها دخول الجنة وتبشيره بها بكونه غير شاك فيهما , وبكونه مستيقنا بها قلبه , والمعنى في ذلك واحد , فنفي الشك يفيد ثبوت اليقين , وثبوت اليقين يفيد نفي الشك .
الثالث : القبول لها المنافي لرد مدلولها , قال الله تعالى : (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون) والآيات هنا المراد بها القرآن ومعظمه في حق هذه الكلمة , وذكروا ووعظوا , وهم لا يستكبرون أي عن الإيمان بالله وطاعته وذلك هو حقيقة التأله المنفي عن سوى الله بـ˝لا إله˝ المثبت له سبحانه بـ˝إلا الله˝ , ولا رد أعظم من الاستكبار ولهذا قال تعالى في حق من ردها بعد أن ذكر ما وعدهم به من العذاب أنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون , ويقولون : (أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون), فلم يتركوا آلهتهم المنفية بلا إله ولم يقبلوا إثبات إلا الله , فقال تعالى تكذيبا لهم وتصديقا لنبيه صلى الله عليه وسلم :(بل جاء بالحق وصدق المرسلين) , وفي الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «مثل ما بعثني الله به من الدين والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله به الناس فشربوا وسقوا وزرعوا, وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بشر الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به» , فانظر هذا الحديث واعتبر به فهو عبرة لأولي الأبصار فإنك إذا أمعنت النظر فيه رأيته يحتوي على ما لم يتسع له المجلدات الكبار , والمقصود هنا أن المثلين الأولين لمن قبل هدي الله الذي هذه الكلمة أصله وإن كانوا على درجتين متفاوتتين , والمثل الثالث لمن لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبله فلم ينتفع هو ولم ينفع غيره , بل هو ضرر محض على نفسه وعلى غيره .
الرابع : الانقياد لمعناها المنافي لترك العمل بمقتضاها , قال الله تعالى :(ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) الآية , يسلم وجهه إلى الله فينقاد ويقبل على طاعته وهو محسن أي موحد , فقد استمسك بالعروة الوثقى أي بلا إله إلا الله , فخرج بذلك من لم يسلم وجهه إلى الله ولم يك محسنا فإنه لم يتمسك بها وهو المعني بقوله تعالى بعد ذلك (ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبؤهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور , نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) , وفي الأربعين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» فجعل الشرط في الإيمان أن ينقاد لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
الخامس : إخلاص الدين لله عز وجل المنافي للشرك الذي لا يقبل معه , قال الله تعالى (ألا لله الدين الخالص) , وقال تعالى (فاعبد الله مخلصا له الدين), وقال تعالى (قل الله أعبد مخلصا له ديني) , وقال تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) , وقال تعالى (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين) الآية , فجعل الله تعالى الشرط كونهم مع المؤمنين أن يخلصوا دينهم لله فمن قالها ظاهرا ولم يك مخلصا فليس هو مع المؤمنين بل هو مع المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار» رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود وجابر وغيرهما , ولما قال له أبو هريرة من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله قال : «من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه» , وهذا مما لا يحتمل التأويل ولا يحتاج إلى تفصيل .
السادس : الصدق المنافي للكذب , وهو أن يتواطأ على ذلك القلب واللسان , قال تعالى :(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين), وقال تعالى في كشف ما أضمره المنافقون وهتك أستارهم حيث أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر :(ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين , يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون , في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) فزاد الله قلوبهم مرضا وأنها لم تواطئ ألسنتهم فهم أشر من الكفار, ومأواهم الدرك الأسفل من النار, وقد بين الله عز وجل في سورة التوبة كثيرا من فضائحهم بقوله سبحانه وتعالى ومنهم و منهم وكذا في سورة النساء وإذا جاءك المنافقون وغيرها يشهد سبحانه أنهم لكاذبون , وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار»متفق عليه , وفي حديث الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن أركان الإسلام التي أعظمها هذه الكلمة لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال : هل علي غيرها؟ قال : لا , إلا أن تطوع , قال : والله لا أزيد عليها ولا أنقص , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أفلح إن صدق», فاشترط في فلاحه أن يكون صادقا فخرج بذلك الكاذب المنافق فإنه لا فلاح له أبدا بل له الخيبة والردى عياذا بالله من ذلك .
السابع : المحبة , وهو أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما و أن يحب في الله ويبغض في الله ويوالي في الله ويعادي في الله , قال تعالى :(والذين آمنوا أشد حبا لله) , وقال تعالى :(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) الآية , وقال تعالى :(لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) الآية , فوصف الله سبحانه عباده المؤمنين بأنهم أشد حبا وأنهم يحبهم ويحبونه وأنهم لا يوادون من حاد الله ورسوله ولا يتولوهم , قال تعالى :(ومن يتولهم منكم فإنه منهم , إن الله لا يهدي القوم الظالمين) , وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان , أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما , وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله , وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» وفيه أيضا عنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» .
* ثم اعلم أنه لا يكون من شهد أن لا إله إلا الله مؤمنا حتى يشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع التزامه فيها بجميع الشروط التي قدمناها مع أدلتها من الكتاب والسنة والتي فرقت بين هاتين الشهادتين وبين شروطها المذكورة منطوقا ومفهوما
ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله وسلم تصديقه في جميع ما أخبر به عن ربه عز وجل من أنباء ما قد سلف و أخبار ما سيأتي, و في ما أحل من حلال وحرم من حرام ,تصديقا جازما بيقين صادق لا شكوك تداخله ولا أوهام , والامتثال و الانقياد لما أمر به من شرائع الإسلام ,والكف والانتهاء عما نهى عنه من المحارم والأسقام , و اتباع شريعته والتزام سنته في السر والجهر مع الرضا بما قضاه والاستسلام , وذلك لأنا إذا علمنا وتيقنا أنه رسول من عند الله عز وجل علمنا وتيقنا أن أمره ونهيه وجميع شرعه إنما هو تبليغ منه لما أمر به الله ونهى عنه وشرعه ولهذا قال تعالى :(من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) , وقال تعالى :(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) , وقال تعالى :(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) , وقال تعالى :(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي من طاعة الله ومعصيته معصية لله واتباعه هو اتباع محاب الله ومرضاته وموجبات مغفرته ورحمته وتحكيمه هو تحكيم ما أنزل الله وكراهية حكمه كراهية حكم الله عز وجل , فهو صلى الله عليه وسلم لم يأمر إلا بما أمر الله به , ولم ينهى إلا عما نهى الله عنه , و لم يشرع إلا بأمر من الله , و لم يحكم إلا بما أراد الله عز وجل ولهذا قال تعالى : (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) , وقال تعالى : (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا و ما على الرسول إلا البلاغ المبين) , وقال تعالى : (قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا, إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا) , و قال تعالى : (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) , فهو صلى الله عليه وسلم عبد لا يعبد , ورسول لا يكذب , بل يطاع ويتبع فنشهد أنه عبد الله ورسوله , شرفه الله بالعبودية ونوه بوصفه بها في أشرف مقاماته , فقال تعالى : (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) , وقال تعالى : (فأوحى إلى عبده ما أوحى) وقال : (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) , وقال تعالى : (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) إلى غير ذلك , وقد شهد تعالى بالرسالة فقال : (والله يعلم إنك لرسوله) , وقال تعالى : (محمد رسول الله) , وقال تعالى : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) , وقال تعالى : (رسولا منهم يتلو عليهم آياته) , وقال تعالى : (عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون , الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) .
ونشهد بعموم رسالته إلى الناس جميعا جنهم وإنسهم , قال الله تعالى : (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) , وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» , و قد أخذ الله عز وجل ميثاق النبيين على الإيمان به فقال تعالى : (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) , ونشهد أن كل عامل بعد بعثته على خلاف ما بعث به صلى الله عليه وسلم لن يقبل منه مثقال ذرة ولو عمل لأن الله بعثه بدين الإسلام والله تعالى يقول : (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) , وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية لمسلم «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» , ونشهد أنه صلى الله عليه وسلم لم يتوفاه الله عز وجل حتى أكمل لنا به الدين وبلغ ما أرسله به البلاغ المبين , ولم يترك خيرا إلا دل الأمة عليه وأرشدهم إليه , ولا شرا إلا حذرهم منه ونهاهم عنه , وتركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك , وقد أنزل الله عز وجل في حجة الوداع التي هي آخر اجتماعه بالناس (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) , وفيها خطب ذلك الجمع العظيم وقال في خطبته تلك : «ألا هل بلغت , قالوا : نعم , قال : اللهم اشهد , ثلاثا يرفع إصبعه إلى السماء وينكثها إلى الناس اللهم اشهد» الحديث في الصحيحين .
ونشهد أنه خاتم النبيين ولا نبي بعده , ومن ادعى النبوة بعده فهو كاذب ومن صدقه فهو كافر , قال الله تعالى : (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) , وفي حديث الدجال في الصحيحين وغيرهما قال صلى الله عليه وسلم أنه يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين ولا نبي بعدي , وكذا في المسند من حديث ثوبان رضي الله عنه : «وأنه يكون بعدي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين ولا نبي بعدي» , فهو صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وسيد ولد آدم أجمعين حتى الأنبياء والمرسلين .
قال تعالى : (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات) قال أهل التفسير : ورفع بعضهم درجات هو محمد صلى الله عليه وسلم , وفي حديث الشفاعة الطويل «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» , ونؤمن بما أجراه الله على يديه من المعجزات الخوارق للعادة التي أعظمها القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد , وقال فيه صلى الله عليه وسلم : «إني تارك فيكم ما إذا تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله» الحديث في الصحيح , ونؤمن بما سيكرمه الله به في الآخرة من الكرامات التي أعظمها المقام المحمود الذي وعده , وأنه أول من يفتح له باب الجنة , إلى غير ذلك مما لا يدخل تحت حصر , والأدلة من الكتاب والسنة على مطالب الشهادتين وشروطها أكثر من أن تحصر , وقد اقتصرنا في كل مسألة على دليل من الكتاب والسنة لقصد الاختصار وإلا فهو بعض من كل , ودق من جل , وقطرة من بحر , وفيه إن شاء الله كفاية لمن أراد الله إخراجه من الظلمات إلى النور , وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
====================*===========
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الفرائض وشرح آيات الوصية
مُقَدّمَة الْمُؤلف
الْحَمد لله الَّذِي لَهُ مِيرَاث السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ على كل شَيْء قدير المبدئ المعيد الْغَنِيّ الحميد الَّذِي يحي وَيُمِيت وَإِلَيْهِ الْمصير وَصلى الله على مُحَمَّد نبيه البشير النذير المبتعث بِالْكتاب الْمُنِير لينذر يَوْم الْجمع لَا ريب فِيهِ فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير
وَبعد فَإِن علم الْفَرَائِض علم شرِيف قرآني لَا يشْتَغل بِهِ إِلَّا عَالم رباني قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ حِين مَاتَ زيد بن ثَابت رَحمَه الله الْيَوْم مَاتَ رباني هَذِه الْأمة لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي زيد بن ثَابت
(1/25)
وأفرضهم زيد بن ثَابت وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الْعلم ثَلَاثَة آيَة محكمَة وَسنة قَائِمَة وفريضة عادلة فَجعل علم الْفَرَائِض ثلث علم الدّين
وكال عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَيَّام كَانَ بِالشَّام يكْتب إِلَى زيد بن ثَابت وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهَا فَيبْدَأ باسمه على نَفسه لمكانه من الْعلم وَالْفِقْه فِي الدّين وَحين أشكلت عَلَيْهِ مَسْأَلَة الْجد مَشى بِنَفسِهِ إِلَى منزل زيد بن ثَابت يَسْتَفْهِمهُ عَن رَأْيه فِيهَا
(1/26)
فَانْتهى إِلَى قَوْله وَاسْتحْسن مَا سمع من قِيَاسه فِيهَا وَنَظره رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ فَإِنَّهُم اجتهدوا للْمُسلمين وتفقهوا فِي الْكتاب الْمُبين وتحروا الصدْق فِيمَا نقلوه من وَحي رب الْعَالمين حَتَّى استقامت قناة الْإِسْلَام فعلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى أَصْحَابه وَأَهله أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام
الْحِكْمَة فِي الْوَصِيَّة بالأولاد
ثمَّ إِنِّي نظرت فِيمَا بَينه الله سُبْحَانَهُ فِي كِتَابه من حَلَال وَحرَام وحدود وَأَحْكَام فَلم نجده افْتتح شَيْئا من ذَلِك بِمَا افْتتح بِهِ آيَة الْفَرَائِض وَلَا ختم شَيْئا من ذَلِك بِمَا خَتمهَا بِهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَولهَا {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} فآخبر تَعَالَى عَن نَفسه أَنه موص تَنْبِيها على حكمته فِيمَا أوصى بِهِ وعَلى عدله وَرَحمته أما حكمته فَإِنَّهُ علم سُبْحَانَهُ مَا تضمنه أمره من الْمصلحَة لِعِبَادِهِ وَمَا كَانَ فِي فعلهم قبل هَذَا الْأَمر من الْفساد حَيْثُ كَانُوا يورثون الْكِبَار وَلَا يورثون الصغار ويورثون الذُّكُور وَلَا يورثون الْإِنَاث وَيَقُولُونَ أنورث أَمْوَالنَا من لَا يركب الْفرس وَلَا يضْرب بِالسَّيْفِ ويسوق الْغنم فَلَو وَكلهمْ الله إِلَى آرائهم وتركهم مَعَ أهوائهم لمالت بهم الأهوء عِنْد الْمَوْت مَعَ بعض الْبَنِينَ دون بعض فَأدى ذَلِك إِلَى التشاجر والتباغض والجور وَقلة النصفة فَانْتزع الْوَصِيَّة مِنْهُم وردهَا على نَفسه دونهم ليرضي بِعِلْمِهِ وَحكمه وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى حِين ختم الْآيَة {وَصِيَّة من الله وَالله عليم حَلِيم}
(1/27)
وَقَالَ قبل ذَلِك {فَرِيضَة من الله إِن الله كَانَ عليما حكيما}
وَأما عدله فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ سوى بَين الذُّكُور لأَنهم سَوَاء فِي أَحْكَام الدِّيات والعقول ورجاء الْمَنْفَعَة وان صغر السن لايبطل حق الْولادَة وَلَا معنى النّسَب وان كلا مِنْهُم فلق الأكباد وشجا الحساد وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} وَلم يقل بأولادكم لِأَنَّهُ أَرَادَ الْعدْل فيهم والتحذير من الْجور عَلَيْهِم وَجَاء بِاللَّفْظِ عَاما غير مَقْصُور على الْمِيرَاث أَو غَيره وَلذَلِك قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي لَا أشهد على جور وَذَلِكَ أَيْضا قَالَه فِي هبة فضل بهَا بشير بن سعد بعض وَلَده على بعض لِأَنَّهُ رأى الله
(1/28)
تَعَالَى قد أَمر بِالْعَدْلِ فيهم أمرا غير مَقْصُور على بَاب دون بَاب وَلذَلِك رأى كثير من الْعلمَاء أَن لَا يفضل فِي الْهِبَة وَالصَّدَََقَة ابْن على بنت إِلَّا بِمَا فَضله الله بِهِ للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهُوَ قَول أَحْمد ابْن حَنْبَل
وَكَانُوا يستحبون الْعدْل فِي الْبَنِينَ حَتَّى فِي الْقبْلَة وَرَأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا قَاعِدا فجَاء طِفْل لَهُ فأقعده فِي حجره وَجَاءَت بنت لَهُ صَغِيرَة فأقعدها على الأَرْض فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أليست بولدك أَو كَمَا قَالَ قَالَ بلَى قَالَ فاعدل فيهمَا وَهَذَا كُله منتزع من قَوْله سُبْحَانَهُ {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم}
وَأما مَا تضمنته وَصيته من الرَّحْمَة إِلَى مَا ذكرنَا من الْعدْل وَالْحكمَة فَإِنَّهُ جعل للبنات حظا فِي أَمْوَال آبائهن رَحْمَة مِنْهُ لضعفهن وترغيبا فِي نِكَاحهنَّ لِأَن الْمَرْأَة تنْكح لمالها وجمالها ولدينها فَعَلَيْك بِذَات الدّين قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتَّقوا الله فِي الضعيفين يَعْنِي الْمَرْأَة واليتيم فَكَانَ من رأفته بِهن أَن قسم
(1/29)
لَهُنَّ مَعَ الذُّكُور وَكَانَ من عدله أَن جعل للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ لما يلْزم الذُّكُور من الْإِنْفَاق وَالصَّدَاق إِذا بلغُوا النِّكَاح وَلما أوجب عَلَيْهِم من الْجِهَاد للأعداء والذب عَن النِّسَاء وَجعل حظهم مثنى حَظّ الْإِنَاث كَمَا جعل حَظّ الرجل مثل حظي الْأُنْثَى فِي الشَّهَادَات والديات لِأَنَّهُنَّ ناقصات عقل وَدين للْحيض الْمَانِع لَهُنَّ فِي بعض الْأَوْقَات من الصّيام والصلوات فَجمع بَين الْعدْل وَالرَّحْمَة وَنبهَ على الْعلم وَالْحكمَة
وانتبه أَيهَا التَّالِي لكتاب الله الْمَأْمُور بتدبره كَيفَ قَالَ {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} بِلَفْظ الْأَوْلَاد دون لفظ الْأَبْنَاء لما سَنذكرُهُ من الْفرق بَينهمَا إِن شَاءَ الله
ثمَّ أضَاف الْأَوْلَاد إِلَيْهِم بقوله {أَوْلَادكُم} وَمَعْلُوم أَن الْوَلَد فلذة الكبد وَذَلِكَ مُوجب للرحمة الشَّدِيدَة فَمَعَ أَنه أضَاف الْأَوْلَاد إِلَيْهِم جعل الْوَصِيَّة لنَفسِهِ دونهم ليدل على أَنه أرأف وأرحم بالأولاد من آبَائِهِم أَلا ترى أَنه لَا يحسن أَن يَقُول العَبْد لِأَخِيهِ أوصيك فِي أولادك لِأَن أَبَا الْوَلَد أرْحم بهم فَكيف يوصيه غَيره بهم وَإِنَّمَا الْمَعْرُوف أَن يَقُول أوصيك بولدي خيرا فَلَمَّا قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} علم أَن رب الْأَوْلَاد أرْحم بالأولاد من الْوَالِدين لَهُم حَيْثُ أوصى بهم وَفِيهِمْ وَلذَلِك قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة
(1/30)
وَالسَّلَام فِي امْرَأَة رَآهَا قد أَلْقَت نَفسهَا على ابْنهَا فِي بعض الْمَغَانِم الله أرْحم بِعَبْدِهِ الْمُؤمن من هَذِه بِوَلَدِهَا وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْحمرَة الَّتِى أَخذ فراخها فَأَلْقَت نَفسهَا عَلَيْهِم حَتَّى أطبق عَلَيْهَا الكساء مَعَهم فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أتعجبون من رَحْمَة هَذِه بفراخها فَالله أرْحم بِعَبْدِهِ الْمُؤمن مِنْهَا وحسبك بقوله سُبْحَانَهُ {وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ} فالأبوان من الرَّاحِمِينَ فَالله تَعَالَى أرْحم مِنْهُمَا فَلذَلِك أوصى الاباء بأولادهم وَإِن كَانَ الْمَعْرُوف أَلا يوصى وَالِد بولده وَإِنَّمَا يُوصي الْإِنْسَان غَيره بِولد نَفسه إِذا غَابَ عَنهُ وَأما أَن يوصى وَالِد بِولد نَفسه فَغير مَعْرُوف فِي الْعَادة لِأَن للْوَلَد أَن يَقُول أَنا أرْحم بولدي مِنْك فَكيف توصيني بهم فسبحان من هُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ وَأَعْدل الْحَاكِمين
(1/31)
فصل
فِي أسرار قَوْله يُوصِيكُم الله
وَقَالَ سُبْحَانَهُ {يُوصِيكُم} بِلَفْظ الْفِعْل الدَّائِم لَا بِلَفْظ الْمَاضِي كَمَا قَالَ فِي غير آيَة نَحْو قَوْله تَعَالَى {أنزلناها وفرضناها} وَنَحْو قَوْله {فرض عَلَيْك الْقُرْآن} وَنَحْو قَوْله {ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ} وَنَحْو قَوْله {كتب عَلَيْكُم الصّيام} و {كتب عَلَيْكُم الْقِتَال} وَلم يقل هَهُنَا كَذَلِك وَإِنَّمَا قَالَ {يُوصِيكُم} وَالْحكمَة فِي ذَلِك وَالله أعلم أَن الْآيَة ناسخة للْوَصِيَّة الْمَكْتُوبَة عَلَيْهِم فِي قَوْله {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت} الْآيَة فَلَمَّا نسخ الْوَصِيَّة الْمَاضِيَة واستأنف حكما
(1/33)
آخر جَاءَ بِلَفْظ الْفِعْل المستأنف تَنْبِيها على نسخ مَا مضى والشروع فِي حكم آخر فَقَالَ {يُوصِيكُم الله}
وَجَاء بِالِاسْمِ الظَّاهِر وَلم يقل أوصيكم وَلَا نوصيكم كَمَا قَالَ {نتلوها عَلَيْك} و {نقص عَلَيْك} لِأَنَّهُ أَرَادَ تَعْظِيم هَذِه الْوَصِيَّة والترهيب من إضاعتها كَمَا قَالَ {يعظكم الله} و {ويحذركم الله نَفسه} فَمَتَى أَرَادَ تَعْظِيم الْأَمر جَاءَ بِهَذَا الِاسْم ظَاهرا لِأَنَّهُ أهيب أَسْمَائِهِ وأحقها بالتعظيم وَالله أعلم فصل
فِي سر اخْتِيَار لفظ الْوَلَد دون الابْن
وَقَالَ {فِي أَوْلَادكُم} وَلم يقل فِي أَبْنَائِكُم لِأَن لفظ الْولادَة هُوَ الَّذِي يَلِيق بِمَسْأَلَة الْمِيرَاث فَفِي تَخْصِيص هَذَا اللَّفْظ فقه وتنبيه أما الْفِقْه فَإِن الْأَبْنَاء من الرضَاعَة لَا يَرِثُونَ لأَنهم لَيْسُوا بأولاد وَكَذَلِكَ الابْن المتبنى فقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تبنى زيدا قبل النّسخ للتبني فَكَانَ يَقُول أَنا ابْن مُحَمَّد
(1/34)
وَلَا يَقُول أَنا ولد مُحَمَّد وَلذَلِك قَالَ سُبْحَانَهُ {وحلائل أَبْنَائِكُم الَّذين من أصلابكم} لِأَن الْوَلَد لَا يكون إِلَّا من صلب أَو بطن غير أَن لفظ الْأَوْلَاد يَقع على الذُّكُور وَالْإِنَاث حَقِيقَة فَلذَلِك عدل عَنهُ إِلَى لفظ الْأَبْنَاء فِي آيَة التَّحْرِيم وَأما فِي آيَة الْمَوَارِيث فجَاء بِلَفْظ الْأَوْلَاد تَنْبِيها على الْمَعْنى الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ حكم الْمِيرَاث وَهُوَ التولد فالماء حَيَاة الْبشر كَمَا أَن المَاء حَيَاة الشّجر وَلذَلِك عبر فِي الرُّؤْيَا بِالْمَاءِ عَن المَال وَهُوَ يسري من الأَصْل إِلَى الْفَرْع الْمُتَوَلد مِنْهُ أَشد من سريان المَاء من الْفَرْع إِلَى الأَصْل وَلذَلِك كَانَ سَبَب الْوَلَد فِي الْمِيرَاث أقوى من سَبَب الْوَالِد لِأَن الْوَلَد فرع متولد فاليه يسري المَال أقوى من سريانه إِلَى الْأَب وَهَذَا الْمَعْنى بِعَيْنِه مَرْوِيّ عَن زيد بن ثَابت حيت كَلمه عمر رَضِي اله عَنهُ فِي مِيرَاث الْجد مَعَ الْإِخْوَة فَضرب لَهُ الْمثل فِي الشَّجَرَة لَهَا فرعان وَفِي الْفَرْع الْوَاحِد غصنان فَإِن قطع أحد الغصنين سرت الْقُوَّة وَالْمَاء إِلَى الْغُصْن الْبَاقِي فصل
فِي الموازنة بَين الْجد وَالْأَخ وَفِي دلَالَة الْوَلَد
وَإِذا ثَبت هَذَا فالجد إِذا الأَصْل وَالْأَخ أقوى سَببا لِأَنَّهُ يُدْلِي
(1/35)
بِوِلَادَة الْأَب لَهُ وَقد تقدم أَن الْولادَة أقوى الْأَسْبَاب فَإِن قَالَ الْجد وَأَنا أَيْضا ولدت الْمَيِّت قيل لَهُ إِنَّمَا ولدت وَالِده وَولده قد ولد الْإِخْوَة فَصَارَ سببهم قَوِيا وَإِنَّمَا لم يحجبوا الْجد بِهَذِهِ الْقُوَّة لِأَن الْجد أصل وَولد الْوَلَد ولد غير أَن الْوَلَد أَحَق مِنْهُ مَا دَامَ حَيا
وَقد اخْتلف هَل يَقع على ولد الْوَلَد اسْم الْوَلَد حَقِيقَة أَو مجَازًا وَالَّذِي عِنْدِي أَنه حَقِيقَة وَلَكِن الْوَلَد أقرب من ولد الْوَلَد وَإِن شَاركهُ فِي الِاسْم لِأَن ولد الْوَلَد لم يكن ولدا للْجدّ إِلَّا بِوَاسِطَة الْوَالِد
فَإِن قيل فَإِن تصدق بِصَدقَة على وَلَده أَكَانَ يشاركهم فِيهَا ولد الْوَلَد
قُلْنَا أما الصَّدَقَة فالغرض بهَا التَّمْلِيك فَلَا يتَنَاوَل ولد الْوَلَد إِلَّا بتبيان من الْمُتَصَدّق مُخَصص عُمُوم اللَّفْظ بِقَرِينَة الْغَرَض والمقصد بِخِلَاف التحبيس فَإِن الْمَقْصد بِهِ التعقيب دون التَّمْلِيك فَتَنَاول الْوَلَد وَولد الْوَلَد مَا تعاقبوا
(1/36)
فصل
فِي الموازنة بَين الْبُنُوَّة والولادة
فَإِذا فهمت هَذَا علمت أَن لفظ الْبُنُوَّة أوسع من لفظ الْولادَة لِأَن الْمَقْصُود بهَا الدعْوَة وَالنّسب فَإِذا نسبت فقد تنْسب إِلَى وَالِد وَغير وَالِد أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَابْن السَّبِيل} فنسب إِلَى السَّبِيل وَلَيْسَ بوالده وَكَذَلِكَ قَوْلهم ابْن آوى وَابْن عرس وَبَنَات أوبر للكمأة وَبَنَات نعش فِي النُّجُوم وَلَا يحسن فِي شَيْء من هَذَا لفظ الْوَلَد فَمن هَذَا لم ير زيد رَحمَه الله حجَّة لمن قَالَ من الصَّحَابَة إِن الْجد كَالْأَبِ كَمَا أَن ابْن الابْن كالابن لقَوْله سُبْحَانَهُ {يَا بني آدم} و {يَا بني إِسْرَائِيل} وَلقَوْله {مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم} لِأَن هَذَا نسب وتعريف وَلَو ذكر الْولادَة لَكَانَ لَهُم فِيهَا حجَّة ومتعلق لما قدمْنَاهُ من الْمَقْصُود بِلَفْظ الْوَلَد وَلَفظ الابْن وَفرق مَا بَينهمَا وَالْولد يَقع على الذّكر
(1/37)
وَالْأُنْثَى وَالْوَاحد وَالْجمع بِخِلَاف الابْن لِأَنَّهُ على وزن فعل كَالْقَبْضِ والنفض وَالْخلف وَهُوَ قَابل لصورة الْفِعْل من المفعولات فَالْوَلَد مَوْلُود قَابل لصورة الْفِعْل الَّذِي هُوَ الْولادَة كَمَا أَن النفض من الْوَرق قد قبل صُورَة الْفِعْل الَّذِي هُوَ النفض فَوَقع على الْوَاحِد والجميع من أجل ذَلِك
غير أَنه قَالَ فِي الْآيَة {فِي أَوْلَادكُم} فَجمع الْوَلَد لِإِضَافَتِهِ إِلَى ضمير الْجمع وَلَو كَانَ مُضَافا إِلَى ضمير الْوَاحِد لجاء بِلَفْظ الْإِفْرَاد وَإِن عَنى الْجمع لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام أَنا سيد ولد آدم وَلَا فَخر وَلم يقل أَوْلَاد آدم فافهمه
وَمن الْفَوَائِد لفظ الْوَلَد دلَالَته على أَن الْجَنِين والسقط المستهل يَرث لِأَنَّهُ ولد قد تولد وقلما يُقَال فِي مثله ابْن فلَان حَتَّى يكبر فينسب إِلَى الْأَب لِأَن لفظ الْبُنُوَّة كَمَا قدمنَا مَوْضُوع للنسب بِخِلَاف لفظ الْوَلَد أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ فِي الْأَنْسَاب ابْن فلَان بن فلَان بن فلَان فصل
فِي استنباط حكم العَبْد وَالْكَافِر من الْآيَة
وَقَوله {فِي أَوْلَادكُم للذّكر} تضمن أَن لَا يَرث الْوَلَد العَبْد الْأَب الْحر
(1/38)
لقَوْله {فِي أَوْلَادكُم} بِإِضَافَة التَّعْرِيف وَلم يقل يُوصِيكُم الله فِيمَا ولدتم وَعرف الْأَوْلَاد بِالْإِضَافَة إِلَى والديهم وَالْعَبْد لَا يعرف بِالْإِضَافَة إِلَى وَالِده إِنَّمَا يُقَال فِيهِ عبد فلَان ومملوك فلَان فَيعرف بِالْإِضَافَة إِلَى سَيّده وَيُقَال فِي ولد الْحر ولد فلَان وَابْن فلَان فَدلَّ ذَلِك على انْقِطَاع الْمِيرَاث بَينهمَا
وتضمن هَذَا الْفِقْه أَيْضا قَوْله {للذّكر} بلام التَّمْلِيك لِأَن لَام الْإِضَافَة هَهُنَا إِنَّمَا هِيَ لإضافة الْملك وَالْعَبْد لَا يملك ملكا مُطلقًا لِأَن السَّيِّد لَهُ أَن ينتزع مَاله مِنْهُ وَأكْثر الْعلمَاء يَقُولُونَ لَا يملك بِحَال من الْأَحْوَال فعلى كلا الْوَجْهَيْنِ لَا يَصح أَن يدْخل العَبْد فِي عُمُوم هَذَا اللَّفْظ أَعنِي قَوْله {للذّكر} وَلَا فِي قَوْله {ولأبويه لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس}
وَإِذا منع الرّقّ من الْمِيرَاث فأحرى أَن يمْنَع الْكفْر لِأَن الرّقّ أثر الْكفْر والسباء الَّذِي أوجبه الْكفْر فَخرج من هَذَا أَن لَا يَرث الْكَافِر الْمُسلم فصل
فِي استنباط حكم الذّكر مُطلقًا
وَقَوله {للذّكر} بِالْألف وَاللَّام الَّتِي للْجِنْس مَعَ اللَّفْظ الْمُشْتَقّ من الذُّكُورَة
(1/39)
يدل على الْعُمُوم وعَلى تَعْلِيق الحكم بالصفحة الَّتِي من الذُّكُورَة فَلَو قَالَ للذّكر مِنْهُم مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ لَكَانَ هَذَا الحكم مَقْصُورا على الْأَوْلَاد دون غَيرهم فَلَمَّا لم يقلهُ دخل فِيهِ الْإِخْوَة فَكَانَ للذّكر مِنْهُم حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ إِذا ورثوا وَكَذَلِكَ الأبوان للْأُم الثُّلُث وَللْأَب الثُّلُثَانِ إِذا ورثا لعُمُوم قَوْله {للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ}
فَإِن قيل قد تقدم ذكر الْأَوْلَاد فَمن هُنَاكَ اسْتغنى عَن أَن يَقُول مِنْهُم
قُلْنَا لَو قَالَ مِنْهُم لَكَانَ لفظا يخصص الْعُمُوم تَخْصِيصًا أقوى من تَخْصِيص ذَلِك الْمَعْنى لِأَن دَلِيل اللَّفْظ أقوى من دَلِيل الْمَعْنى لِأَنَّهُ لَيْسَ من لفظ إِلَّا وَهُوَ مُتَضَمّن لِمَعْنى فَصَارَ أقوى من معنى دون لفظ كَمَا فِي صناعَة النَّحْو الْعَامِل اللَّفْظِيّ أقوى من الْمَعْنَوِيّ فَافْهَم هَذَا فِي صناعَة الْأُصُول
وَاعْلَم أَن خُصُوص أول الْكَلَام لَا يمْنَع من عُمُوم آخِره إِذا كَانَت صيغته صِيغَة الْعُمُوم مثل مَا فِي هَذَا الْموضع وَهُوَ قَوْله {للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} فصل
فِي نصيب البنتين
وَقَوله {مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} بلام التَّعْرِيف الَّتِي للْجِنْس دلّ على أَن الْأُنْثَيَيْنِ
(1/40)
قد استحقتا الثُّلثَيْنِ إِذْ الْأُنْثَى الْوَاحِدَة لَهَا مَعَ الذّكر الثُّلُث فَإِذا لم يكن ثمَّ ذكر وَكَانَت اثْنَتَانِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ بِهَذَا اللَّفْظ القرآني فَإِذا ثَبت هَذَا فَمن ثمَّ قَالَ {فَإِن كن نسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ} مُبينًا لحكم الثَّلَاث وَمَا هُوَ أَكثر مِنْهُنَّ مستغنيا عَن بَيَان حكم الاثنتين لِأَنَّهُ قد بَينه بِدلَالَة اللَّفْظ كَمَا تقدم
وَظن كثير من النَّاس أَن تَوْرِيث الثُّلثَيْنِ للبنتين إِنَّمَا هُوَ بِالْقِيَاسِ على الْأُخْتَيْنِ وَقَالَ بَعضهم إِنَّمَا عرف ذَلِك بِالنِّسْبَةِ الْوَارِدَة وَقَالَ بَعضهم إِنَّمَا عرف من الفحوى لَا من اللَّفْظ لِأَن الْوَاحِدَة إِذا كَانَ لَهَا الثُّلُث مَعَ الذّكر فأحرى أَن يكون لَهَا الثُّلُث مَعَ عدم الذّكر
وَالَّذِي عِنْدِي أَن اللَّفْظ مغن عَن هَذَا وكاف شاف لما قدمْنَاهُ وَالْحَمْد لله فصل
فِي مرجع الضَّمِير فِي كن
وَقَوله تَعَالَى {فَإِن كن نسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ}
(1/41)
قد يُقَال لم كنى بضمير الْجمع الْمُؤَنَّث وَلم يتَقَدَّم مَا يعود عَلَيْهِ فِي اللَّفْظ
قُلْنَا لَو تقدم ذكر جمع مؤنث فِي اللَّفْظ لاستغنى أَن يَقُول {نسَاء} ولقال فَإِن كن فَوق اثْنَتَيْنِ كَمَا قَالَ فِي الْأَخَوَات {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} لِأَنَّهُ قد تقدم ذكر أُخْت وَلم يتَقَدَّم هُنَا إِلَّا ذكر الْأَوْلَاد فَقَالَ الطَّبَرِيّ حاكيا عَن الْكُوفِيّين بِعُود الضَّمِير على المتروكات كَأَنَّهُ قَالَ المتروكات وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل وَضعف قَول من قَالَ يعود على الْوَلَد لِأَن الْوَلَد يجمع الْمُذكر والمؤنث والمذكر يغلب على الْمُؤَنَّث فِي الْجمع
وَالَّذِي اخْتَارَهُ عِنْدِي غير صَحِيح لِأَنَّهُ فِيهِ عود الضَّمِير على مَا لَيْسَ فِي اللَّفْظ وَترك اللَّفْظ الظَّاهِر وَإِنَّمَا كَانَ يلْزم تَغْلِيب الْمُؤَنَّث على الْمُذكر لَو عَاد الضَّمِير على جملَة الْأَوْلَاد وَإِنَّمَا يعود على الْبَعْض وَذَلِكَ الْبَعْض هم النِّسَاء وَالِاسْم الْمُضمر هُوَ الظَّاهِر والمتكلم لَا يُرِيد سوى ذَلِك الِاسْم وَعنهُ يخبر وَحكمه يُرِيد أَن يبين فَلذَلِك قَالَ {كن} كَمَا قَالَ {وَإِن كَانَت وَاحِدَة} فجَاء بضمير الْوَاحِدَة الَّتِي يُرِيد
(1/42)
أَن يبين حكمهَا وَهِي ولد كَمَا أَن النِّسَاء ولد وَهَذَا بَين
وَقد حكى سِيبَوَيْهٍ من كَانَت أمك بِالنّصب فأنث الِاسْم الأول لِأَنَّهُ هُوَ الْأَخير فِي الْمَعْنى وأعجب من هَذَا قَوْلهم إِنَّه قَامَ زيد وَإِذا أخبروا عَن الْمُؤَنَّث قَالُوا إِنَّهَا قَامَت هِنْد فأنثوا ليشاكل أول الْكَلَام آخِره وَإِن لم يكن الِاسْم الأول هُوَ اثاني
فَإِن قلت إِنَّمَا هُوَ ضمير الْقِصَّة
قُلْنَا وَإِن كَانَ ضمير الْقِصَّة فقد اختاروه على ضمير الْأَمر فِي هَذَا الْموضع للمشاكلة قَالَ الله سُبْحَانَهُ {فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار} وَلم يقل إِنَّه وَقَالَ {إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل} وَنَحْو من الأول قَوْلهم بحسبك زيد فأدخلوا الْبَاء على حسب وهم يُرِيدُونَ زيدا لِأَنَّهُ هُوَ ويعضد هَذَا قَول الشَّاعِر
(1/43)
أَلَيْسَ عجيبا بِأَن الْفَتى ... يصاب بِبَعْض الَّذِي فِي يَدَيْهِ
فَأدْخل الْبَاء على اسْم لَيْسَ وَإِنَّمَا موضعهَا الْخَبَر لِأَنَّهُ هُوَ وَقَول الراجز عَن الْكَرِيم وَأَبِيك يعتمل ... ان لم يجد يَوْمًا على من يتكل ... وَكَانَ حَقه أَن يَقُول من يتكل عَلَيْهِ فَأدْخل الْحَرْف على الأول لِأَنَّهُ هُوَ الثَّانِي وَكَذَلِكَ جَاءَ بضمير جمَاعَة الْمُؤَنَّث عَائِدًا على الْأَوْلَاد لِأَنَّهُ لم يرد مِنْهُم إِلَّا النِّسَاء وَالَّذِي أضمر هُوَ الَّذِي أظهر وَلَا معنى لإنكار من أنكر فصل
فِي مُتَعَلق الْجَار فِي قَوْله تَعَالَى من بعد وَصِيَّة
وَقَوله {فَلَهُنَّ ثلثا مَا ترك} يَعْنِي مَا ترك الْمَالِك وَلم يتَقَدَّم لَهُ ذكر وَلَكِن لما كَانَ الْكَلَام فِي معرض الْبَيَان لقسم الْمَوَارِيث علم أَن الضَّمِير عَائِد إِلَى الْمَوْرُوث
وَقَوله {ترك} أَي خلف وَلَيْسَ التّرْك هَهُنَا بِفعل وَقد يكون التّرْك فعلا يُثَاب
(1/44)
عَلَيْهِ صَاحبه أَو يُعَاقب كَتَرْكِ الطَّاعَة أَو ترك الْمعْصِيَة لِأَنَّهُ لَا جَزَاء إِلَّا على فعل وَأما هَهُنَا فالترك عبارَة عَمَّا خلف الْمَيِّت أَي يبْقى بعد ارتحاله فَعبر بِالتّرْكِ مجَازًا من مجَاز التَّشْبِيه لشبه حَاله بِحَال الْمُسَافِر فَإِنَّهُ يتْرك مَا يتْرك لأَهله ويسير
وَإِذا ثَبت هَذَا فَلَا يجوز أَن يتَعَلَّق حرف الْحر من قَوْله فِي آخر الْآيَة {من بعد وَصِيَّة} ب {ترك} وَإِن كَانَ يَلِيهِ فِي الْفظ ظَاهرا وَلذَا تعلقه بالاستقرار الْمُضمر فِي قَوْله {فَلَهُنَّ ثلثا} أَي اسْتَقر لَهُنَّ الثُّلُثَانِ من بعد وَصِيَّة أَي من بعد إِخْرَاج وَصِيَّة
وَيمْتَنع أَيْضا تعلق حرف الْجَرّ بترك لوجه آخر نذكرهُ فِي آخر الْمَسْأَلَة إِن شَاءَ الله
فَإِن قيل مَا فَائِدَة هَذَا النَّحْو فِي هَذَا الْموضع وَمَا فقهه تعلق بِالتّرْكِ أَو لم يتَعَلَّق
قُلْنَا فقه ذَلِك أَن الْكَفَن وجهازالميت لَيْسَ للْوَرَثَة فِيهِ حق لِأَن حَقهم لم يجب لَهُم إِلَّا بعد مَوته وَبعد إِخْرَاج الْوَصِيَّة وَالدّين وَلم جعلنَا حرف الْجَرّ مُتَعَلقا ب {ترك} لَكَانَ الْمَعْنى مُجملا غير مُبين ولكان مَا ترك بعد مَا أوصى يدْخل فِيهِ الْكَفَن وَغَيره لِأَن الْوَصِيَّة إِنَّمَا هِيَ قبل الْمَوْت وَلَو وَجب لَهُم ذَلِك بأثر الْوَصِيَّة وَمن بعد تَركه لما ترك أَن يوصى فِيهِ كَانَ الْكَفَن لَهُم وَلَو كَانَ لَهُم لم يجبروا على تكفينه ولكانوا بِمَا كفنوا مَأْجُورِينَ على إحسانهم بهَا وَلَيْسَ الْأَمر على ذَلِك بِإِجْمَاع وَيدل على ذَلِك أَيْضا قَوْله {يُوصي} وَلم يقل يوصيها وَذَلِكَ لِأَن الْوَصِيَّة
(1/45)
قَول يَقُوله وَالْوَصِيَّة أَيْضا الشَّيْء الَّذِي وصّى بِهِ وَأَن الْمَعْنى من بعد إِخْرَاج مَا يُوصي بِهِ لَا من بعد تَركه للإيصاء وَالْوَصِيَّة إِذا تكون بِمَعْنى الْمصدر وَهُوَ الْإِيصَاء وَتَكون المَال الْمُوصى فِيهِ تَقول قبضت وَصِيَّة وحمدت وَصِيَّة أَي حمد إيصاؤه وَفعله وَالدّين كَذَلِك يكون مصدرا من دنت أدين وَذَلِكَ قَوْله {تداينتم بدين} وَيكون المَال الْمَأْخُوذ بِالدّينِ تَقول قد قضى دينه واللهم اقْضِ عَنَّا الدّين وَهُوَ هُنَا الِاسْم لَا الْمصدر كَمَا أَن الْوَصِيَّة كَذَلِك فصل
ثَان فِي مُعَلّق من
وَمِمَّا يمْنَع أَن يتَعَلَّق الْجَار فِي قَوْله {من بعد وَصِيَّة} بِالتّرْكِ وَيُوجب أَن يتَعَلَّق بِالْفِعْلِ الْمُضمر فِي قَوْله {لَهُنَّ} أَي وَجب لَهُنَّ
(1/46)
وَاسْتقر لَهُنَّ أَن حرف من إِذا دخل على الظّرْف دلّ على ابْتِدَاء غَايَة وَلم يدل على انْتِهَاء تَقول نَحن فِي هَذَا الْبَلَد من يَوْم كَذَا وَمن عَام كَذَا فالمقام إِذا فِي الْبَلَد مُسْتَمر فَإِذا جِئْت بِفعل منقض غير مُسْتَمر قلت كَلمته عَام كَذَا وَقبل كَذَا وَبعد كَذَا بِغَيْر من فَيكون الظّرْف محيطا بِالْفِعْلِ من طَرفَيْهِ فَإِن جِئْت ب من لم تزل إِلَّا على الطّرف الْوَاحِد وَهُوَ الِابْتِدَاء وَالتّرْك لَيْسَ بِفعل مُسْتَمر وَلَا هُوَ أَيْضا فعل فيؤرخ ببعد أَو قبل فَثَبت أَن الْحَرْف مُتَعَلق بِمَا قُلْنَا
وَمن شَوَاهِد مَا قُلْنَا فِي من وتعلقها قَوْله سُبْحَانَهُ خَبرا عَن أهل الْجنَّة {إِنَّا كُنَّا قبل فِي أهلنا مشفقين} لما ذكر الْفِعْل المنقضي وَهُوَ الإشفاق فَلَمَّا ذكر الدُّعَاء قَالَ {إِنَّا كُنَّا من قبل نَدْعُوهُ} بِزِيَادَة من لِأَن دعاءهم مُسْتَمر يَقُول سُبْحَانَهُ {دَعوَاهُم فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} وَقَالَ {وَلَهُم مَا يدعونَ} فدعواهم وافتقارهم إِلَى الله مُسْتَمر فِي الْآخِرَة وبدؤه من قبل
ثمَّ إِن التّرْك لَا يتَصَوَّر إِلَّا بعد خُرُوج التارك عَن دَاره ووطنه وَمَا دَامَ بَين أَهله لَا يُقَال ترك لَهُم كَذَا فَكَذَا الْمَيِّت إِذا خرج بأكفانه وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من جهازه وَذَلِكَ كُله من مَاله وحرمته حَيا كحرمته مَيتا فِيمَا يجب من ستر عَوْرَته وَنَحْو ذَلِك فَعِنْدَ ذَلِك يَقُول النَّاس مَا ترك وَتقول الْمَلَائِكَة مَا قدم فصل
فِي فَائِدَة الصّفة فِي قَوْله وَصِيَّة يُوصي بهَا
وَقَوله {يُوصي بهَا} فِي مَوضِع الصّفة للْوَصِيَّة وَالصّفة تقيد الْمَوْصُوف وَفَائِدَة
(1/47)
هَذَا التَّقْيِيد أَن يعلم أَن للْمَيت أَن يُوصي وَلَو قَالَ {من بعد وَصِيَّة} لتوهم أَنَّهَا وَصِيَّة غَيره أَو وَصِيَّة الله الْمَذْكُورَة فِي أول الْآيَة
وَقَالَ {يُوصي بهَا} وَلم يقل من بعد وَصيته وَلَا من بعد الْوَصِيَّة الَّتِي يُوصي بهَا ليدل على أَن الْوَصِيَّة ندب وَلَيْسَت بِفَرْض قد وَجب عَلَيْهِ لِأَنَّك تَقول فِي الْأَعْمَال الْوَاجِبَة الَّتِي قد عرف وُجُوبهَا يكون كَذَا من بعد صَلَاتنَا أَو من بعد الصَّلَاة وَفِيمَا لم يعرف وُجُوبه افْعَل كَذَا أَو كَذَا من بعد صَلَاة نصليها أَو صَوْم تصومه أَو صَدَقَة تخرجها فَيدل لفظ التنكير على عدم الْوُجُوب وَيدل لفظ التَّعْرِيف على الْفَرْض الْمَعْرُوف لاسيما وَقد تقدم أَن الْوَصِيَّة كَانَت مَفْرُوضَة بقوله {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت} الْآيَة فصل
فِي سر تَقْدِيم الْوَصِيَّة على الدّين
وَقَوله {من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين} وَإِخْرَاج الدّين لَا شكّ قبل إِخْرَاج
(1/48)
الْوَصِيَّة وَبعد الْكَفَن لِأَن الْغُرَمَاء فِي حَيَاته لم يكن لَهُم سَبِيل على كَفنه وَمَا يُجهز بِهِ وبدئ بِهِ فِي الْعَمَل قبل الْوَصِيَّة لِأَن أداءه فرض وَالْفَرْض مقدم على النّدب
فَإِن قيل لم بَدَأَ الله بِالْوَصِيَّةِ قبل ذكر الدّين
قُلْنَا فِي حكم البلاغة أَن يقدم مَا يجب الاعتناء بشرحه وَبَيَانه وَأَدَاء الدّين مَعْلُوم وَأمره بَين لِأَنَّهُ حق للْغُرَمَاء ومنعهم مِنْهُ ظلم ظَاهر فَبَدَأَ بِمَا يحْتَاج إِلَى بَيَانه وَقد قَالَ سِيبَوَيْهٍ إِنَّه يقدم فِي كَلَامهم مَا هم بِهِ أهم وببيانه أَعنِي وَإِن كَانَا جَمِيعًا يهمانهم ويعنيانهم
وَوجه آخر وَهُوَ أَن الْوَصِيَّة طَاعَة وَخير وبر يَفْعَله الْمَيِّت وَالدّين إِنَّمَا هُوَ لمَنْفَعَة نَفسه وَهُوَ مَذْمُوم فِي غَالب أَحْوَاله وَقد تعوذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْكفْر وَالدّين فَبَدَأَ بالأفضل وَمَا يقدم فِي تَرْتِيب الْكَلَام فقد يكون لقبلية الْفضل نَحْو قَوْله {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} وَنَحْو قَوْله 6 {من النَّبِيين وَالصديقين} وَقد يكون لقبلية الزَّمَان نَحْو قَوْله {نوحًا وَإِبْرَاهِيم} وَقد يكون لقبلية التَّرْتِيب نَحْو تَقْدِيم الْيَهُود على النَّصَارَى
(1/49)
فِي الذّكر لأَنهم كَانُوا مجاورين للْمُسلمين فِي الدَّار وَقد يكون تقديمهم فِي اللَّفْظ لقبلية الزَّمَان لِأَن التَّوْرَاة قبل الْإِنْجِيل ومُوسَى قبل عِيسَى وَقد يكون تَقْدِيم الصَّلَاة قبل الزَّكَاة من قبلية الرُّتْبَة لِأَنَّهَا حق الْبدن وَالزَّكَاة حق المَال وَالْبدن فِي الرُّتْبَة قبل المَال
وَمن وُجُوه القبليات أَيْضا السَّبَب والمسبب كالمرض وَالْمَوْت فِي حكم البلاغة كَمَا رُوِيَ أَن أَعْرَابِيًا سمع قَارِئًا يقْرَأ وَالله حَكِيم عَزِيز والأعرابي لَا يحفظ الْقُرْآن فَقَالَ الْأَعرَابِي مَا أَرَاهَا أنزلت كَمَا تَقول فَقَالَ الْقَارئ {وَالله عَزِيز حَكِيم} فَقَالَ الْأَعرَابِي نعم عز فَلَمَّا عز حكم
فَاجْعَلْ هَذِه القبليات أصلا فِي معرفَة الْحِكْمَة والإعجاز فِي كتاب الله فَإِنَّهُ لَا تقدم فِيهِ صفة على أُخْرَى وَلَا شَيْء على شَيْء إِلَّا بقبلية من هَذِه القبليات فترتب الْأَلْفَاظ فِي اللِّسَان على حسب تَرْتِيب الْمعَانِي فِي الْجنان فتدبره وَالله الْمُسْتَعَان فصل
فِي نصيب الذّكر عذا انْفَرد
وَقَوله {وَإِن كَانَت وَاحِدَة فلهَا النّصْف} فِيهِ نَص وَدَلِيل أما النَّص فثبوت النّصْف للْبِنْت الْوَاحِدَة مَعَ عدم الْأَخ وَأما الدَّلِيل فَلِأَن الذّكر إِذا انْفَرد ورث المَال كُله لِأَنَّهُ قَالَ {للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} وللأنثى
(1/50)
النّصْف إِذا كَانَت وَحدهَا فللذكر النصفان وَهُوَ الْكل إِذا كَانَ وَحده فصل
فِي حِكْمَة نصيب الْأَبَوَيْنِ مَعَ الْوَلَد
وَقَوله {ولأبويه} ذكرهمَا بِلَفْظ الْأُبُوَّة دون لفظ الْولادَة كَمَا قَالَ {وبالوالدين إحسانا} لِأَن هَذِه الْآيَة معرضها ومقصودها غير ذَلِك وَلَفظ الْوَالِدين أوفى وأجلب للرحمة وأشكل بِالْوَضْعِ الَّذِي يُرَاد بِهِ الرِّفْق بهما لِأَن لفظ الْولادَة يشْعر بِحَال الْمَوْلُود وبرحمتهما لَهُ إِذا ذَاك أَلا ترَاهُ يَقُول فِي آيَة الْوَالِدين {وَقل رب ارحمهما كَمَا ربياني صَغِيرا} وَلَفظ الْأَبَوَيْنِ أوقر وَإِن كَانَ الآخر أرق أَلا تراهم لَا يَقُولُونَ فِي الكنية إِلَّا يَا أَبَا فلَان وَلَا يَقُولُونَ يَا وَالِد فلَان فَكَانَ لفظ الْأَبَوَيْنِ هَا هُنَا أشكل بِهَذَا الْمقَام الَّذِي هُوَ إِعْلَام بحظ هذَيْن اللَّذين ينْسب إِلَيْهِمَا الْمَيِّت والأبوة فِي مُقَابلَة الْبُنُوَّة وَالْوَالِد فِي مُقَابلَة الْوَلَد مَعَ أَن لفظ الْأُبُوَّة هُنَا فقها وَهُوَ سريان الْمِيرَاث من الْأَب إِلَى أَبِيه إِذا عدم الْأَب لِأَن لفظ الْأُبُوَّة يتَنَاوَلهُ وَقد قرنت مَعَه هَهُنَا الْأُم
(1/51)
بِلَفْظ الْأُبُوَّة وَلَا يُقَال لَهَا أَب وَلَا أَبَة إِذا انْفَرَدت وَلَا يُقَال لَهَا إِلَّا وَالِدَة فَلَو ذكر بِلَفْظ الْولادَة لسرى أَيْضا حق الْمِيرَاث مِنْهَا إِلَى والدها إِذا عدمت هِيَ كَمَا سرى ذَلِك فِي الْأَب إِلَى الْجد إِذا عدم الْأَب وَهَذَا دَقِيق فافهمه
وَقد تقدم اللَّفْظ بَين حالتي اللَّفْظَيْنِ وَمَا يشاكله من مقامات الْكَلَام كل وَاحِد من الاسمين وتنزيل الْأَلْفَاظ فِي مواطنها وَهُوَ معنى البلاغة وَهِي الفصاحة وَمن هُنَا يعلم الإعجاز فِي كَلَام الله الْعَزِيز وَالْحَمْد لله
وَقَوله {لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس مِمَّا ترك إِن كَانَ لَهُ ولد} سوى الله بَين الْأَبَوَيْنِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا كَانَ للْمَيت ولد وَلم يفضلهما على الْوَلَد لِأَنَّهُ يُقَال للْأَب كَمَا كنت تحب لابنك من الْغنى وَالْخَيْر أَكثر مِمَّا تحب لأَبِيك فَكَذَلِك حَال ابْنك مَعَ وَلَده كحالك مَعَ ولدك لِأَن الْوَالِد أحب النَّاس غنى لِابْنِهِ وأعزهم فقرا عَلَيْهِ كم قَالَ الصّديق لابنته عَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا عِنْد مَوته وَكَانَ أَبوهُ حَيا فَقَالَ لَهَا مَا من أحد أحب إِلَيّ غنى مِنْك وَلَا أعز فقرا عَليّ بعدِي مِنْك وَلم يسْتَثْن أَبَاهُ وَلَا غَيره
(1/52)
ثمَّ إِن الْوَلَد يؤملون من النِّكَاح والحياة وَغَيره بحداثة سنهم مَا لَا يؤمله الأبوان ثمَّ قَالَ الْأَب إِن فريضتك لَا تنقص بِكَثْرَة الْوَرَثَة وان كَانَ الْوَلَد عشْرين وفريضة ولد ابْنك الْهَالِك قد تنقص بِكَثْرَة الْأَوْلَاد حَتَّى تكون أقل من الْعشْر فيرضى الأبوان بقسم الله تَعَالَى لَهما ويريان الْعدْل من الله بَينا فِيمَا قسم فَإِنَّهُ لم يحجب بالبنين فيعطي الْأَب نصفا وَلَا ثلثا وَلَا حجب بِالْأَبِ فَأعْطَاهُ عشرا وَلَا تسعا بل جعل لَهُ أَوسط الْفَرَائِض وَهُوَ السُّدس وَلَا يُزَاد بقلة الْوَلَد وَلَا بِنَقص بكثرتهم وَالْحَمْد لله فصل
فِي حِكْمَة التَّسْوِيَة بَين الْأَبَوَيْنِ مَعَ وجود الْوَلَد
وَسوى الله بَين الْأَب وَالأُم فِي هَذَا الْموضع لِأَن الْأَب وَإِن كَانَ يسْتَوْجب التَّفْضِيل بِمَا كَانَ يُنْفِقهُ على الابْن وبنصرته لَهُ وانتهاضه بالذب عَنهُ صَغِيرا فالأم أَيْضا حَملته كرها وَوَضَعته كرها وَكَانَ بَطنهَا لَهُ وعَاء وثديها لَهُ سقاء وحجرها لَهُ قبَاء فتكافأت الحجتان من الْأَبَوَيْنِ فسوى الله بَينهمَا فَأَعْطَاهُمَا سدسا وَذَلِكَ الثُّلُث أبقى للبنتين الثُّلثَيْنِ لما تقدم من الْحِكْمَة الْمُوجبَة لتفضيل الْوَلَد فِي الْمِيرَاث على الْأَبَوَيْنِ
(1/53)
فصل
فِي بَيَان حالات الْأُم مَعَ الْأَب
وَللْأُمّ ثَلَاث حالات حَالَة تسوى فِيهَا مَعَ الْأَب وَهِي هَذِه وَحَالَة يفضل الْأَب عَلَيْهَا فَيكون لَهُ مثلا حظها وَذَلِكَ مَعَ عدم الْوَلَد لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَاحب فرض وعاصب وَالْمَرْأَة لَا تكون عاصبة فيزيد عَلَيْهَا حِينَئِذٍ بِالتَّعْصِيبِ فَيكون لَهَا الثُّلُث وَله الثُّلُثَانِ وَالْحَالة الثَّالِثَة تفضل فِيهَا الْأُم على الْأَب وَذَلِكَ مَا دَامَ حَيا فَإِنَّهُ يُؤمر بِالْبرِّ بهَا والصلة لَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا يلْزمه الْأَب قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمعاوية بن حيدة الْقشيرِي وَقد قَالَ لَهُ من أبر يَا رَسُول الله قَالَ أمك قَالَ ثمَّ من قَالَ أمك ثمَّ أَبَاك ثمَّ أدناك فأدناك ففضل الْأُم على الْأَب فِي الْبر
وَقيل لشهاب بن خرَاش مَا جعلت لأَبِيك من دعائك قَالَ الثُّلثَيْنِ ولأمي الثُّلُث قيل لَهُ أَلَيْسَ كَمَا يُقَال للْأُم ثلثا الْبر قَالَ بلَى وَلَكِن أبي كَانَ صابح شرطة لِأَنَّهُ كَانَ على شرطة ابْن هُبَيْرَة
(1/54)
وَإِنَّمَا اسْتَوْجَبت هَذَا مَا دَامَ الْوَلَد حَيا من وُجُوه أَحدهَا أَنَّهَا أَضْعَف والأضعف أَحَق بِأَن يرحم وَالثَّانِي أَنَّهَا أرق قلبا وَأَشد رَحْمَة للِابْن وَالثَّالِث أَنَّهَا تحمل من مُؤنَة الْحمل وَالنّفاس والتربية مَا لَا يحملهُ الْأَب وَالرَّابِع أَن الْأُم تمت بسببين وَالْأَب بِسَبَب وَاحِد وَهُوَ الْأُبُوَّة
وَشرح هَذَا أَن آدم يمت علينا بالأبوة وحواء تمت علينا بالأمومة والأخوة لِأَنَّهَا خلقت من ضلع آدم فَخرجت مِنْهُ فَصَارَت أم الْبشر وأختا لَهُم
وَالْخَامِس أَن الرَّحِم الَّتِي هِيَ شجنة من الرَّحْمَن اشتق لَهَا من اسْمه وَقَالَ من وَصلهَا وصلته وَمن قطعهَا قطعته هِيَ فِي الْأُم حَيْثُ يتَصَوَّر الْوَلَد قَالَ الله سُبْحَانَهُ {هُوَ الَّذِي يصوركم فِي الْأَرْحَام كَيفَ يَشَاء} ثمَّ قَالَ {وَاتَّقوا الله الَّذِي تساءلون بِهِ والأرحام}
(1/55)
فقرابة الْأَب تسمى رحما مجَازًا لِأَن الْأَب سَبَب وجود الابْن فِي الرَّحِم وَالشَّيْء سمي بالشَّيْء إِذا كَانَ سَببا لَهُ
وَالرحم الَّتِي عاذت بالرحمن حِين فرغ من الْخلق وَقَالَت هَذَا مقَام العائذ بك من القطيعة كَانَت لَهَا حِينَئِذٍ حجنه كحجنة المغزل كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث وَكَأَنَّهَا إِشَارَة إِلَى الحنو والعطف وَذَلِكَ فِي معنى الرَّحْمَة ثمَّ فِي تَخْصِيص الله إِيَّاهَا بِأَن وَضعهَا فِي الْأُم بعد أَن اشتق لَهَا اسْما من الرَّحْمَة سر لطيف وَحِكْمَة بَالِغَة وَذَلِكَ أَن الْوَلَد قبل أَن يَقع فِي الرَّحِم نُطْفَة جماد وَلَا يتَصَوَّر رَحْمَة للجمادات ونعني بالجماد مَا لَا روح لَهُ وَإِنَّمَا تقع الرَّحْمَة على من فِيهِ الرّوح وَأما النُّطْفَة وَالدَّم فَلَو وَقع فِي الأَرْض وطئ بِالرجلِ مَا وجد فِي قلب أحد رَحْمَة لَهُ فَإِذا صور وَنفخ فِيهِ الرّوح تَوَجَّهت إِلَيْهِ الرَّحْمَة من الْأَبَوَيْنِ وَغَيرهمَا وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا فِي بطن الْأُم فَوضعت الرَّحِم المشتقة من اسْم الرَّحْمَن فِي الْأُم لهَذِهِ الْحِكْمَة دون الْأَب وَقيل لِلْقَرَابَةِ من هَذَا الْوَجْه ذَوُو رحم وَلم يقل ذَلِك لقرابة الْأَب إِلَّا مجَازًا كَمَا تقدم وَإِن سمي الْأَعْمَام وَبَنُو الْأَعْمَام ذَوي رحم فَجَائِز على الْمجَاز وَتَسْمِيَة الشَّيْء بِمَا يؤل إِلَيْهِ وَيكون سَببا لَهُ وَالله الْمُسْتَعَان فصل
فِي مِيرَاث الْأُم الثُّلُث
قَوْله {فَإِن لم يكن لَهُ ولد وَورثه أَبَوَاهُ فلأمه الثُّلُث} لم يَجْعَل الله
(1/56)
لَهَا الثُّلُث إِلَّا بِشَرْطَيْنِ أَحدهمَا عدم الْوَلَد وَالْآخر إحاطة الْأَبَوَيْنِ بِالْمِيرَاثِ وَلذَلِك دخلت الْوَاو ليعطف الشَّرْط الثَّانِي على الأول وَلَو لم تدخل الْوَاو لأحاط الأبوان بِالْمِيرَاثِ عِنْد عدم الْوَلَد وَلم يَرث مَعَهُمَا أحد هَذَا مُقْتَضى قَوْله {وَورثه أَبَوَاهُ} وافهم هَذِه النُّكْتَة من أَلْفَاظ الْقُرْآن فَإنَّك ستجد فَائِدَة مَا إِذا ذكرنَا مِيرَاث الْكَلَالَة إِن شَاءَ الله
وَذَلِكَ أَن لفظ ورث إِذا وَقع مُطلقًا اقْتضى حوز الْمِيرَاث عُمُوما مثل أَن تَقول ورثت زيدا إِذا ورثت مَاله كُله فَإِن كَانَ مَعَك وَارِث آخر لم يحسن أَن تَقول ورثته إِنَّمَا تَقول ورثت مِنْهُ كَذَا تَعْنِي نصفا أَو ثلثا لِأَن معنى ورثته ورثت مَاله ثمَّ حذف الْمُضَاف وأقيم الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه وَلما قَامَ مقَامه فِي الْإِعْرَاب قَامَ مقَامه فِي الْعُمُوم من قَوْلك ورثت مَاله لسر من الْعَرَبيَّة لطيف لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكره قَالَ الله سُبْحَانَهُ {ونرثه مَا يَقُول}
(1/57)
وَقَالَ {يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب} أَلا ترَاهُ قَالَ من آل يَعْقُوب بِزِيَادَة حرف التَّبْعِيض وَقَالَ يَرِثنِي بِغَيْر حرف لإحاطة الْوَلَد بميراث الْأَب وَقَالَ {وَورث سُلَيْمَان دَاوُد} وَقَالَ {وَهُوَ يَرِثهَا إِن لم يكن لَهَا ولد} أَي يُحِيط بميراثها
وَإِذا ثَبت هَذَا فَمَعْنَى الْكَلَام إِذا إِن لم يكن لَهُ ولد وأحاط الأبوان بميراثه فلأمه الثُّلُث وَسكت عَن حَظّ الْأَب اسْتغْنَاء عَن ذكره لِأَنَّهُ لَا يبْقى بعد الثُّلُث إِلَّا الثُّلُثَانِ وَلَا وَارِث إِلَّا الأبوان وَهَذَا بَالغ فِي الْبَيَان
وتذكر هَهُنَا الفريضتان الغراوان وهما امْرَأَة تركت زَوجهَا
(1/58)
وأبويها وَرجل ترك امْرَأَته وأبويه فللأم هَهُنَا الثُّلُث مَا بَقِي وَذَلِكَ السُّدس من رَأس المَال مَعَ الزَّوْج وَالرّبع من رَأس المَال مَعَ الزَّوْجَة
وَقد أَبى من ذَلِك ابْن عَبَّاس وَقَالَ لَا أجعَل لَهَا إِلَّا الثُّلُث من رَأس المَال وَالزَّوْج النّصْف وَيبقى السُّدس للْأَب فَأبى عَلَيْهِ زيد ابْن ثَابت وَقَالَ ليقسم هُوَ كَمَا رأى وَأقسم أَنا كَمَا رَأَيْت وَهِي إِحْدَى الْمسَائِل الْخَمْسَة الَّتِي خَالف فِيهَا ابْن عَبَّاس الصَّحَابَة
وَالْعجب أَن الله جعل لَهَا الثُّلُث كَمَا جعل للزَّوْج النّصْف وَزيد ابْن ثَابت يَقُول بالعول خلافًا لِابْنِ عَبَّاس وَلم يَجْعَلهَا عائلة وَلَا حط الْأَب فَيكون خلافًا لقَوْله {للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} فَلَا هُوَ نقص الزَّوْج مِمَّا جعل لَهَا وَلَا هُوَ سوى الْأُم مَعَه فيعطيها من رَأس المَال كَمَا أعطَاهُ
وَلَكِن قَوْله منتزع من كتاب الله انتزاعا تعضده الْأُصُول وَذَلِكَ أَن الْأُم تَقول لم حططتموني عَن الثُّلُث الَّذِي جعل الله لي
فَيُقَال لَهَا مَا أخرجت عَن الثُّلُث لِأَن ميراثك مَعَ أحد الزَّوْجَيْنِ الثُّلُث مِمَّا يبْقى فَلم تخرجي عَن الثُّلُث
فَتَقول الْأُم هلا أعطيتموني الثُّلُث من رَأس المَال فَيكون للزَّوْج نصف مَا بَقِي أَو هلا جعلتموها عائلة فَيدْخل النَّقْص عَلَيْهِ وعَلى الْأَب كَمَا دخل عَليّ
فَيُقَال لَهَا إِنَّمَا قَالَ الله سُبْحَانَهُ {فلأمه الثُّلُث} وَلم يقل مِمَّا ترك
(1/59)
كَمَا قَالَ فِي الزَّوْجَيْنِ وَفِي الْأُخْت والأختين وَفِي الْأَبَوَيْنِ مَعَ وجود الْوَلَد وَلَفظ مَا صِيغَة من صِيغ الْعُمُوم فَأعْطى الزَّوْج فَرْضه من كل مَا ترك الْمَيِّت وَلم تَكُونِي أَنْت كَذَلِك إِلَّا مَعَ عدم الزَّوْجَيْنِ وَعند إحاطة الْأَبَوَيْنِ بِالْمِيرَاثِ
فَتَقول الْأُم أَلَيْسَ قَوْله سُبْحَانَهُ {فلأمه الثُّلُث} مَعْنَاهُ مِمَّا ترك الْوَلَد
فَيُقَال لَهَا صِيغَة الْعُمُوم لَا تُؤْخَذ من الْمَعْنى وَإِنَّمَا تُؤْخَذ من اللَّفْظ وَقد تقدم أَن الدَّلِيل اللَّفْظِيّ أقوى من الْمَعْنَوِيّ لِأَنَّهُ مَعْقُول ومسموع فَلهُ مزية على الْمَعْقُول غير المسموع وَهَذَا أصل مُتَّفق عَلَيْهِ عِنْد حذاق الْأُصُولِيِّينَ
وَقد وفْق الله زيد بن ثَابت وفهمه عَن الله وَصدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ وأفرضهم زيد بن ثَابت
فَتَأمل هَذَا الأَصْل فَقل من يفْطن لَهُ وَإِنَّمَا الْمَسْأَلَة عِنْد النَّاس تقليدية لَا برهانية وَقد أوضحناها برهانيا وَالْحَمْد لله
فَهَذَا مَا فِي الْمَسْأَلَة من لفظ الْقُرْآن وَأما مَا فِيهَا من الْحِكْمَة وَبَيَان السِّرّ فَإِن الْأَب بعل الْأُم وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَو أمرت أحدا بِالسُّجُود لأحد لأمرت الْمَرْأَة أَن تسْجد لبعلها وَهُوَ قوام عَلَيْهَا قَالَ الله عز وَجل {الرِّجَال قوامون على النِّسَاء} وَقَالَ {وللرجال عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} فَكيف
(1/60)
يكون فَوْقهَا عقلا وَشرعا ثمَّ يكون تحتهَا فِي الْمِيرَاث وَلم يكن أَيْضا ليعال لَهَا مَعَه فَيدْخل عَلَيْهِ النَّقْص فِي حَظه وَهُوَ قيمها والمنفق عَلَيْهَا وإليها يؤول نفع حَظه من الْمِيرَاث
فَإِن قيل قد عيل لَهَا مَعَه فِي مَسْأَلَة الْوَلَد إِذا اجْتمع أَبَوَانِ وبنتان وَزوج
قلت إِن الله تَعَالَى قَالَ هُنَاكَ {لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس مِمَّا ترك} وَلم يقل هُنَا مِمَّا ترك وَقد بَينا هُنَاكَ الْحِكْمَة الَّتِي أوجبت الْمُسَاوَاة لَهَا مَعَ الْأَب
فَإِن قيل فقد قَالَ {فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة فلأمه السُّدس} وَلم يقل مِمَّا ترك وَهِي يعال لَهَا مَعَ الْأُخْتَيْنِ وَالزَّوْج
قُلْنَا قد قَالَ {مِمَّا ترك} فِي سدسه مَعَ الابْن وَالْأَب وَالِابْن أَحَق بِالْمِيرَاثِ من الْأَخ فَكيف يكون لَهَا السُّدس من كل مَا ترك مَعَ الابْن الَّذِي هُوَ أَحَق وَلَا يكون ذَلِك لَهَا مَعَ الْأَخ فَلذَلِك اسْتغنى الْكَلَام عَن أَن يَقُول فِيهِ {مِمَّا ترك} أَعنِي عِنْد ذكر الْأُخوة اكْتِفَاء بِمَا
(1/61)
قَالَه عِنْد ذكر الْوَلَد
فَإِن قيل فَإِن الْأُخوة للْأُم لَهُم الثُّلُث وَلم يقل فِي مسألتهم {مِمَّا ترك}
قالجواب أَن قَوْله {يُورث كَلَالَة} يَقْتَضِي الْعُمُوم فِي جَمِيع المَال لما قدمنَا فِي معنى ورث وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يحْتَج إِلَى إعاده لفظ آخر للْعُمُوم فَإِن الْأَخ للْأُم من جملَة الْكَلَالَة وَقد قَالَ {يُورث كَلَالَة} أَي يحاط بِجَمِيعِ مَاله فلإخوته لأمه الثُّلُث وَلَا يحْتَاج إِلَى أَن يُقَال مِمَّا ترك لتقدم الْعُمُوم فِي قَوْله {يُورث} وَقد بَينا شرح هَذَا فِيمَا تقدم عِنْد قَوْله {وَورثه أَبَوَاهُ} فافهمه وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق فصل
فِي دلَالَة الْأُخوة فِي الْآيَة
قَوْله {فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة فلأمه السُّدس} فَلَا تنقص الْأُم من السُّدس إِلَّا أَن تعول الْفَرِيضَة وَلَا يَقُول ابْن عَبَّاس بالعول وَهِي من مسَائِله الْخمس وَيَقُول إِن الْأُخوة هَهُنَا الثَّلَاثَة فَمَا فَوْقهم وَلَيْسَ
(1/62)
يَقع لفظ الْأُخوة على الْأَخَوَيْنِ يَقِينا وَهَذِه أَيْضا من مسائه الْخمس وحجته بَيِّنَة فِي بادئ الرَّأْي وَذَلِكَ أَن الله سُبْحَانَهُ جعل الثُّلُث للْأُم مَعَ عدم الْوَلَد فَهَذَا نَص ويقينو الْيَقِين لَا يرفعهُ علا يَقِين مثله فَعَن كَانَ لَهُ أَخ وَاحِد فَهِيَ على ثلثهَا يَقِينا لِأَن الْأَخ لَيْسَ بإخوة فَإِن كَانَ لَهُ أَخَوان فَيحْتَمل دخولهما فِي معنى العخوة وَيحْتَمل أَن لَا يدخلا وَأما لفظ العخوة فواقع على الْجَمِيع يَقِينا وَلم يتَصَوَّر شكّ فِي نقلهَا إِلَى السُّدس بِالثَّلَاثَةِ فَمَا فَوْقهم وتصور الشَّك فِي لفظ الْأَخَوَيْنِ أَهما إخْوَة أم لَا وَالشَّكّ لَا يرفع الْيَقِين الْمُتَقَدّم فِي شَيْء من أَبْوَاب الْفِقْه فَهِيَ إِذا على ثلثهَا حَتَّى يكون لَهُ إخْوَة ثَلَاثَة أَو أَكثر
وَحجَّة الآخرين أَن الْيَقِين لَا يرفعهُ شكّ كَمَا ذكر وَأَن الْعُمُوم لَا يخصصه مُحْتَمل وَأما الظَّاهِر فيتخصص بِهِ الْعُمُوم وتبنى عَلَيْهِ الْأَحْكَام يَقِينا كَمَا تبنى على النُّصُوص والمحتمل لَيْسَ كَذَلِك وَلَفظ الْأُخوة ظَاهر فِي الِاثْنَيْنِ نَص فِي الثَّلَاثَة مُخَصص بِهِ عُمُوم قَوْله تَعَالَى {فلأمه الثُّلُث} لِأَنَّهُ لفظ عَام فِي كل أم لَا ولد لَهَا وان كَانَ ظَاهر القَوْل الْخُصُوص من أجل قَوْله تَعَالَى {فلأمه} وَلكنه ضمير عَائِد على عَام تقدم ذكره
فَإِن قيل كَيفَ جعلتم لفظ الْأُخوة ظَاهرا فِي الِاثْنَيْنِ وللاثنين صِيغَة كَمَا للْجمع صِيغَة
قُلْنَا وَمعنى الْجمع يشملهما لِأَن الِاثْنَيْنِ جمع شَيْء إِلَى
(1/63)
مثله كَمَا أَن الْجمع جمع شَيْء إِلَى أَكثر مِنْهُ فَمن هَهُنَا نَشأ الْخلاف وَهُوَ هَل الْأُخوة لفظ ظَاهر فِي الِاثْنَيْنِ أم مُحْتَمل
والألفاظ أَرْبَعَة نَص يقطع على مَعْنَاهُ وَظَاهر يحْتَمل أَمريْن وَهُوَ فِي أَحدهمَا ظَاهر وتتعلق بِهِ الْأَحْكَام ومحتمل لمعنيين لَيْسَ بِأَحَدِهِمَا بِأولى مِنْهُ بِالْآخرِ وَهَذَا لَا يتَعَلَّق بِهِ حكم لِأَنَّهُ كالمجمل والمجمل مَا افْتقر إِلَى الْبَيَان وَهُوَ أَشد استغلاقا من الْمُحْتَمل وَالله الْمُسْتَعَان إنصاف وَتَحْقِيق
ظَاهر لفظ الْأُخوة الِاخْتِصَاص بِالْجمعِ دون التَّثْنِيَة وَلَا يحمل معنى التَّثْنِيَة على الْجمع إِلَّا بِدَلِيل وَهُوَ الظَّاهِر هُوَ ظَاهر بعرف اللُّغَة وَالظَّاهِر بعرف اللُّغَة تتَعَلَّق بِهِ الْأَحْكَام
فللمفرد ظَاهر أقوى مِنْهُ وَهُوَ صِيغَة الْعُمُوم فَإِذا قلت عِنْدِي دَابَّة فَلفظ اللُّغَة تَقْتَضِي أَنَّهَا من المركوب فَإِذا قلت مَا فِيهَا دَابَّة اقْتَضَت صِيغَة الْعُمُوم نفي كل مَا يدب من مركوب وَغَيره وَفِي التَّنْزِيل {مَا من دَابَّة إِلَّا هُوَ آخذ بناصيتها} {وكأين من دَابَّة} فَهَذَا عُمُوم فِي كل مَا يدب وَقَالَ فِي الْوَاجِب غير الْمُتَعَيّن {وَمن النَّاس وَالدَّوَاب} لعدم صِيغَة الْعُمُوم
وَكَذَلِكَ مَسْأَلَة الْأُخوة فَهِيَ ظَاهِرَة فِي الْأُخوة كَمَا قَالَ ابْن عَبَّاس فَلَمَّا ورد الشَّرْط وَهُوَ من صِيغ الْعُمُوم اندرج تحتهَا كل اخوة والاثنان اخوة وَإِن لم يكن ظَاهر لفظ الْأُخوة يتناولهما كَمَا لم يكن لفظ الْوَاحِد يتَنَاوَل كل مَا يدب حَتَّى ادرجه الْعُمُوم تَحت اللَّفْظ الظَّاهِر كَذَلِك أدرج الْعُمُوم فِي الْآيَة تَحت لفظ الْإِخْوَة مَا قد يُمكن أَن يعبر عَنهُ بإخوة وهما الِاثْنَان فَصَارَ قَوْله تَعَالَى {فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة} ظَاهرا فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع وَإِن
(1/64)
كَانَ صِيغَة عُمُوم الْإِخْوَة فِي الْعرف للْجمع ظَاهرا فالعموم ظَاهر أَيْضا فِي تنَاول الْكل فَتَأَمّله فَعَنْهُ بديع
وَقَوله {من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين} قد تقدم فهمه وَبَيَانه وَبِأَيِّ شَيْء يتَعَلَّق الظّرْف وَالْحَمْد لله فصل
فِي سر اخْتِيَار لفظ الابْن وَجمعه جمعا مكسرا
وَقَوله {آباؤكم وأبناؤكم لَا تَدْرُونَ أَيهمْ أقرب لكم نفعا فَرِيضَة من الله} فِيهِ إِشَارَة إِلَى مَا تقدم من قَوْلهم لَا نورث إِلَّا من
(1/65)
يركب الْفرس وَيضْرب بِالسَّيْفِ فنبههم الله سُبْحَانَهُ على أَنه أعلم مِنْهُم بِالْمَصْلَحَةِ وبوجه الْحِكْمَة وبالمنفعة الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة
وَقَالَ {وأبناؤكم} وَلم يقل وَأَوْلَادكُمْ كَمَا قَالَ فِي أول الْآيَة لِأَنَّهُ لم يرد الْمَعْنى الَّذِي يخْتَص بِالْمِيرَاثِ ويوجبه وَهِي الْولادَة وَإِنَّمَا أَرَادَ معنى هُوَ أَعم من الْمَعْنى الْمُتَقَدّم فَلذَلِك جَاءَ بِلَفْظ الْأَبْنَاء الَّذِي هُوَ أَعم من لفظ الْأَوْلَاد
وَقَالَ {وأبناؤكم} وَلم يقل بنوكم وَقَالَ {بَنو إِسْرَائِيل} و {بني آدم} لِأَن لفظ الْجمع المكسر وَهُوَ الْأَبْنَاء أولى فِي الفصاحة إِذا أضيف إِلَى جمع كَمَا قُلْنَا فِي {أَوْلَادكُم} وَلَفظ الْجمع الْمُسلم لقُرْبه من لفظ الْوَاحِد وَمن مَعْنَاهُ فِي الْقلَّة أولى إِذا أضفت الْبَنِينَ إِلَى وَاحِد هَذَا حكم البلاغة فَتَأَمّله فِي الْقُرْآن حَيْثُ وَقع تَجدهُ كَذَلِك وَنَحْو مِنْهُ مَا ذَكرْنَاهُ فِي {أَوْلَادكُم} وَسيد ولد آدم
وَقَالَ {فَرِيضَة من الله إِن الله كَانَ عليما حكيما} أَي بِعِلْمِهِ وحكمته فرض هَذَا أَو وصّى بِهِ وَلم يكلكم إِلَى علمكُم ورأيكم لما علم فِي ذَلِك من الضَّرَر لكم
(1/66)
فصل
فِي حجب الْأَب للإخوة
ذكر عبد بن حميد الْكشِّي عَن بعض التَّابِعين أَن الْأَب حجب الْأُخوة وَأخذ سِهَامهمْ لِأَنَّهُ يتَوَلَّى نكاحهم والإنفاق عَلَيْهِم دون الْأُم وَذكره الطَّبَرِيّ أَيْضا وَقَالَ مُحْتَمل أَن تكون الْحِكْمَة فِيهِ هَذَا أَو يحْتَمل أَن يكون هَذَا تعبدا من الله تَعَالَى اسْتَأْثر بِعلم السِّرّ فِيهِ والمصلحة دون الْعِبَادَة فصل
سر تكْرَار من بعد وَصِيَّة عقب مِيرَاث الزَّوْج وَالزَّوْجَة
وَقَوله {وَلكم نصف مَا ترك أزواجكم} الْآيَة كَلَام بَين لَا إِشْكَال فِيهِ غير أَنه قَالَ بعد الْفَرَاغ من مِيرَاث الزَّوْج {من بعد وَصِيَّة} وَقَالَ مثل ذَلِك بعد الْفَرَاغ من مِيرَاث الزَّوْجَة مرّة أُخْرَى وَلم يقل مثل هَذَا فِيمَا تقدم إِلَّا مرّة وَاحِدَة وَقد ذكر مِيرَاث الْأَوْلَاد وميراث الْأَبَوَيْنِ وميراث الْأُم مَعَ الْأُخوة
وَالْحكمَة فِي ذَلِك أَن ذكره لما تقدم يَدُور على موروث وَاحِد وَإِن تغايرت الْوَرَثَة لِأَن الضمائر كلهَا تعود على وَاحِد من قَوْله ولأبويه ولأمه
(1/67)
و {لَهُ إخْوَة} و {يُوصي بهَا} فالموروث فِي هَذَا كُله وَاحِد فَلَمَّا فرغ من قصَّته قَالَ {من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين} فالموروث فِي قصَّة الْأزْوَاج غير الْمَوْرُوث فِي قصَّة الزَّوْجَات وَكَذَلِكَ موروث الْكَلَالَة بعد هَذَا فَتَأَمّله وَالله الْمُسْتَعَان فصل
فِي حِكْمَة التَّعْبِير بضمير الْجمع فِي ولهن
وَقَوله فِي الزَّوْجَات {ولهن الرّبع} {فَلَهُنَّ الثّمن} أَيْضا يَقْتَضِي أَن الثّمن مُشْتَرك بَين الزَّوْجَات وَعَن كن أَرْبعا كَمَا اقْتضى اشْتِرَاك إخْوَة الْكَلَالَة فِي الثُّلُث فِي قَوْله {فهم شُرَكَاء فِي الثُّلُث} لِأَنَّهُ لفظ جمع وَلَو ذكر الزَّوْجَة على انفرادها لَكَانَ الثّمن لَهَا ثمَّ يكون للضرة الْأُخْرَى ثمن آخر هَكَذَا إِلَى الْأَرْبَع وَلكنه جَاءَ بِلَفْظ الْجمع فلأربع زَوْجَات الثّمن بَينهُنَّ
(1/68)
مَسْأَلَة
يُقَال لَهَا ذَات الْفروج
وَهِي امْرَأَة وثت مَيتا لَهُ سَبْعَة عشر دِينَارا فَجَاءَت لتأْخذ فَرضهَا فَإِذا سِتَّة عشر امْرَأَة سواهَا قد أخذن دِينَارا دِينَارا فَلم يبْق لَهَا إِلَّا وَاحِد
شرح ذَلِك أَن الْمَيِّت لَهُ ثَمَان أَخَوَات شقائق لَهُنَّ الثُّلُثَانِ وَأَرْبع أَخَوَات لأم لَهُنَّ الثُّلُث وَله جدتان لَهما السُّدس بَينهمَا وَله ثَلَاث زَوْجَات لَهُنَّ الرّبع أصل الْفَرِيضَة من اثْنَي عشر عالت إِلَى سَبْعَة عشر أخذن دِينَارا دِينَارا وَالْحَمْد لله فصل
فِي معنى الْكَلَالَة
وَقَوله تَعَالَى {وَإِن كَانَ رجل يُورث كَلَالَة أَو امْرَأَة} الْآيَة لفظ الْكَلَالَة من الإكليل الْمُحِيط بِالرَّأْسِ لِأَن الْكَلَالَة وراثة من لَا أَب لَهُ وَلَا ولد فتكللت الْعصبَة أَي أحاطت بِالْمَيتِ من كلا الطَّرفَيْنِ وأصل هَذِه الْكَلِمَة مصدر مثل الْقَرَابَة وَالصَّحَابَة أَلا ترى أَنَّهَا لما كَانَت فِي معنى الْقَرَابَة جَاءَت على وَزنهَا ثمَّ سمى الْوَرَثَة
(1/69)
الَّذين هم أقرباء الْمَيِّت دون الْوَلَد وَالْأَب كَلَالَة بِالْمَصْدَرِ كَمَا تَقول هم قرَابَة أَي ذَوُو قرَابَة وهم صحابة أَي ذَوُو صحابة وَأما صُحْبَة بِغَيْر ألف فَجمع صَاحب مثل الكتبة جمع كَاتب فَإِذا عنيت الْمصدر قلت ورثوه عَن كَلَالَة كَمَا تَقول فعلت ذَلِك عَن كَرَاهَة قَالَ الشَّاعِر ورثتم قناة الْمجد لَا عَن كلال ... عَن ابْن منَاف عبد شمس وهَاشِم
وَإِذا جعلت الْكَلَالَة عبارَة عَن الْوَرَثَة فَهُوَ مجَاز مستحسن فِي الْقيَاس والاستعمال قَالَ الشَّاعِر والمرء بِجمع فِي الحيا ... ة وَفِي الْكَلَالَة مَا يسيم
أَي الْوَرَثَة الَّذين هم ذَوُو كَلَالَة مَا يسيم من المَال أَي يرعاه
(1/70)
وَقد رُوِيَ أَن جَابِرا قَالَ للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَيفَ أصنع فِي مَالِي وَلَيْسَ يَرِثنِي إِلَّا كَلَالَة
فَهَذِهِ حَقِيقَة الْكَلَالَة ومجازها وَلَا يَصح قَول من قَالَ الْكَلَالَة المَال وَلَا قَول من قَالَ إِنَّهَا الْمَيِّت وَإِن كَانَ قد قَالَ القدماء من الْمُفَسّرين الْكَلَالَة من لَا وَالِد لَهُ وَلَا ولد وَلَكِن لَا حجَّة فِي هَذَا لِأَن الْقَوْم أشاروا إِلَى الْمَعْنى دون تَفْسِير اللَّفْظ ففهم عَنْهُم أَن من مَاتَ وَلَا ولد لَهُ فَهُوَ الْمَوْرُوث بالكلالة لَا سِيمَا وهم إِنَّمَا فسروا قَوْله تَعَالَى {وَإِن كَانَ رجل يُورث كَلَالَة أَو امْرَأَة} فَقَالُوا هُوَ من لَا وَالِد لَهُ وَلَا ولد يعنون الرجل الَّذِي يُورث كَلَالَة وَالله أعلم فعلى هَذَا يكون إِعْرَاب الْكَلِمَة إِمَّا مَفْعُولا ثَانِيًا إِن عنيت بِهِ الْوَرَثَة وَالْمَفْعُول الأول مُضْمر فِي يُورث كَمَا تَقول هُوَ يلبس ثوبا وَيطْعم طَعَاما وَإِمَّا حَالا إِن عنيت بِهِ الْمصدر فَيكون التَّقْدِير يُورث وراثة كَلَالَة فَلَمَّا حذف ذكر الْوَرَثَة وَصَارَت مضمرة معرفَة عِنْد الْمُخَاطب بِمَا تقدم من اللَّفْظ الْمُشْتَقّ مِنْهَا صَارَت صفتهَا حَالا مِنْهَا كَمَا تَقول سَار بِهِ رويدا فرويدا حَال من السّير قَالَه سِيبَوَيْهٍ وضعفاء من النَّحْوِيين يعربون مثل هَذَا نعتا لمصدر
(1/71)
مَحْذُوف وَالَّذِي قدمْنَاهُ هُوَ الصَّوَاب وحسبك أَنه مَذْهَب صَاحب الْكتاب وَوجه الْحجَّة يطول فصل
فِي المُرَاد بالعخوة وتساويهم رجَالًا وَنسَاء
وَإِذا ثَبت هَذَا فالأخوة فِي هَذِه الْآيَة هم الْأُخوة لأم بِلَا خلاف وَقد رُوِيَ أَن بعض الصَّحَابَة كَانَ يقْرؤهَا وَهُوَ أبي وَله أَخ أَو أُخْت لأم إِمَّا أَنه قَالَهَا على التَّفْسِير وَإِمَّا أَنَّهَا كَانَت قِرَاءَة فنسخت على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَقِي حكمهَا كَمَا قيل فِي قِرَاءَة عَائِشَة وَحَفْصَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَصَلَاة الْعَصْر
وَأما الْكَلَالَة الْمَذْكُورَة فِي آخر السُّورَة وَهِي قَوْله {إِن امْرُؤ هلك لَيْسَ لَهُ ولد وَله أُخْت} فَهِيَ الشفيقة أَو الَّتِي للْأَب إِن عدمت الشَّقِيقَة بِلَا خلاف أَيْضا فَفرض الله سُبْحَانَهُ للإخوة للْأُم الثُّلُث وَإِن كَثُرُوا وللواحد مِنْهُم السُّدس
وَقَوله تَعَالَى {فهم شُرَكَاء فِي الثُّلُث} يدل على تَسَاوِي الذّكر وَالْأُنْثَى
(1/72)
فِي الْحَظ لِأَن لفظ الشّركَة إِذا أطلق فَإِنَّمَا يتَضَمَّن التَّسَاوِي حَتَّى يُقيد بِنَصِيب مَخْصُوص لَو أَن رجلا ابْتَاعَ سلْعَة فَسَأَلَهُ رجل آخر أَن يشركهُ فِيهَا فَقَالَ لَهُ قد أَشْرَكتك فِيهَا ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك لم أرد نصفا وَإِنَّمَا أردْت ثلثا أَو ربعا لم يَنْفَعهُ ذَلِك إِلَّا أَن يُقيد لَفظه فِي حِين الشّركَة وَإِنَّمَا أَخذ الْفُقَهَاء هَذَا من قَوْله تَعَالَى {فهم شُرَكَاء فِي الثُّلُث} أَي للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَى
ونكتة الْمَسْأَلَة وَالله أعلم أَن الْأُخوة للْأُم إِنَّمَا ورثوا الْمَيِّت بالرحم وَحُرْمَة الْأُم وَأَن الْأُم تحب لولدها مَا تحب لنَفسهَا ويشق عَلَيْهَا أَن يحرموا من أخيهم وَقد ارتكضوا مَعَه فِي رحم وَاحِدَة فأعطوا الثُّلُث وَلم يزادوا عَلَيْهِ لِأَن الْأُم الَّتِي بهَا ورثوا لَا تزاد عَن الثُّلُث وَكَأن هَذِه الْفَرِيضَة من بَاب الصِّلَة وَالْبر وَالصَّدَََقَة فَمن ثمَّ سوي الذّكر مَعَ الْأُنْثَى كَمَا لَو وصّى بِصَدقَة أَو صلَة لأهل بَيت لشركوا فِيهَا على السوَاء ذكورهم وإناثهم أَلا ترى أَن الثُّلُث مَشْرُوع فِي الْوَصِيَّة الَّتِي يَبْتَغِي فِيهَا ثَوَاب الله الْعَظِيم قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لسعد حِين أَرَادَ أَن يُوصي بِأَكْثَرَ من الثُّلُث الثُّلُث وَالثلث كثير الحَدِيث كَأَنَّهُ نظر عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى فرض الله
(1/73)
تَعَالَى للأخوة بِسَبَب الرَّحِم وَحُرْمَة الْأُم وَأَنه لم يزدهم على الثُّلُث وَإِن كَثُرُوا فَكيف يُزَاد من هُوَ أبعد مِنْهُم فِي حكم الْوَصِيَّة بل الثُّلُث فِي حَقهم كثير وَالْقُرْآن وَالسّنة نوران من مشكاة وَاحِدَة فَينْظر بعضه إِلَى بعض وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا فصل
فِي مِيرَاث الْأُخوة مَعَ الْكَلَالَة
وَمن الْعَجَائِب أَن الْكَلَالَة فِي هَذِه الْآيَة لَا يَرث فِيهَا الْأُخوة مَعَ الْبِنْت وَهُوَ لم يقل فِيهَا {لَيْسَ لَهُ ولد} كَمَا قَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى أَلا ترى إِلَى قَوْله فِيهَا {إِن امْرُؤ هلك لَيْسَ لَهُ ولد} ثمَّ ورثت فِيهَا الْأَخَوَات مَعَ الْبِنْت وَالْبِنْت ولد وَهَذِه الَّتِي لم يذكر فِيهَا الْوَلَد لَا يَرث الْأُخوة مَعَ ولد أصلا لَا ذكرا وَلَا أُنْثَى وَيتَعَيَّن الاعتناء بِهَذَا السُّؤَال والكشف عَنهُ
وَالْجَوَاب فِيهِ من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الْأُخْت الشَّقِيقَة وَالَّتِي للْأَب لَيْسَ لَهَا مَعَ الْبِنْت فرض مَعْلُوم وَإِنَّمَا يرثن بالتعصب فَيكون معنى قَوْله فلهَا نصف مَا ترك فلأخته النّصْف فَرِيضَة إِذا لم يكن ولد ذكر وَلَا أُنْثَى فَإِن كَانَت بِنْتا فَلَيْسَ للْأُخْت فَرِيضَة وَإِنَّمَا لَهَا مَا بَقِي وَالَّذِي يبْقى بعد الْبِنْت الْوَاحِدَة نصف وَبعد الْبَنَات ثلث وَإِن كَانَ مَعَ الْبَنَات من لَهُ فرض مُسَمّى يُحِيط بِالْمَالِ مَعَ سهم الْبَنَات لم يكن للأخوة سهم فَلَيْسَ فِي تَوْرِيث الْأَخَوَات مَعَ الْبِنْت مَا يُعَارض نَص الْآيَة على هَذَا
وَالْجَوَاب الثَّانِي وَهُوَ التَّحْقِيق أَن فرض الْأُخوة للْأُم إِنَّمَا شَرط فِيهِ عدم الْبِنْت وَالِابْن جَمِيعًا لقَوْله {وَإِن كَانَ رجل يُورث} وَلم يقل فِي الْكَلَالَة
(1/74)
الثَّانِيَة يُورث هَذَا اللَّفْظ وَقد قدمنَا عِنْد قَوْله {وَورثه أَبَوَاهُ} أَنه يَقْتَضِي الْإِحَاطَة بِجَمِيعِ المَال مَا لم يُقيد بِجُزْء مَخْصُوص فَتَأمل الشواهد عَلَيْهِ هُنَاكَ ثمَّ تدبر قَوْله {يُورث كَلَالَة} تَجِد لفظا مغنيا عَن أَن يَقُول {لَيْسَ لَهُ ولد} كَمَا قَالَ فِي الْكَلَالَة الْأُخْرَى فَمن هُنَا أَجمعُوا وَالله أعلم أَنه لَا مِيرَاث لَهُم مَعَ بنت وَلَا بنت ابْن لِأَنَّهُ لَا يُقَال من ترك بِنْتا يُورث كَلَالَة لِأَن الْكَلَالَة لم تَرث إِلَّا نصف المَال وَلَا يُقَال ورثته إِلَّا أَن تَرث المَال كُله فِي جيد الْكَلَام وفصيحه أَلا ترَاهُ يَقُول {وَهُوَ يَرِثهَا إِن لم يكن لَهَا ولد} أَي يُحِيط بميراثها فصل
فِي أَلْفَاظ ابْني الْكَلَالَة
قَوْله {أَو امْرَأَة} وَقَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى {إِن امْرُؤ} وَلم يقل امْرَأَة لِأَن لفظ الْمَرْء بتضمنها ويتضمن الْكَبِير وَالصَّغِير
(1/75)
كَمَا قَالَ أيريد الْمَرْء أَن يُؤْتى مناه
وكما قَالَ أوما الْمَرْء إِلَّا كالشهاب وضوئِهِ يحور رَمَادا بَعْدَمَا هُوَ سَاطِع وكما قَالَ وَمَا الْمَرْء مَا دَامَت حشاشة نفسهأ
فالمرء فِي هَذَا كُله لَا يُرَاد بِهِ ذكر دون أُنْثَى وَلَا كَبِير دون صَغِير لِأَنَّهُ اسْم للْجِنْس أَلا ترى أَن قَوْله سُبْحَانَهُ {وَلحم الْخِنْزِير} قد تضمن الذّكر وَالْأُنْثَى وَالصَّغِير وَالْكَبِير لُغَة وَشرعا فَكَذَلِك هَذَا
وَأما آيَة الكلال فَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى ذكر الْمَرْأَة لِأَن لفظ الرجل لَا يتضمنها
فَإِن قيل إِن لفظ الرجل لَا يتَضَمَّن الصَّغِير وَقد كَانَ لفظ الْمَرْء أَعم من لفظ الرجل فَمَا الْحِكْمَة وَمَا الْفرق بَين هَذِه الْآيَة وَالْآيَة الْأُخْرَى الَّتِي ورد فِيهَا لفظ الْمَرْء
قُلْنَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن الرجل لَا يَقع علا على الْعَاقِل والمكلف وَلم يقْتَصر فِي هَذِه الْآيَة على بَيَان حكم الْمِيرَاث فَقَط بل ذكر فِيهَا حكم الْوَصِيَّة وَالدّين وَالنَّهْي عَن المضارة بقوله {غير مضار} وَهَذِه أَحْكَام تخْتَص بالكبير
(1/76)
فوردت الْآيَة بِلَفْظ الرجل وَدخل الصَّغِير فِي حكمه الَّذِي هُوَ الْفَرِيضَة من جِهَة الْمَعْنى لَا من جِهَة اللَّفْظ وَلَيْسَ كل حكم يُؤْخَذ من اللَّفْظ بل أَكْثَرهَا تُؤْخَذ من جِهَة الْمعَانِي والاستنباط من النُّصُوص بِالْعِلَّةِ الجامعة بَين الْحكمَيْنِ وَالله الْمُسْتَعَان مَسْأَلَة
من بَاب التَّنْبِيه على إعجاز الْآيَة وأسرار بلاغتها وَالْحكم المتضمنة فِيهَا وَهِي إِضَافَة النّصْف إِلَى مَا بعده فِي قَوْله {نصف مَا ترك أزواجكم} وَفِي قَوْله {فلهَا نصف مَا ترك} وَلم يقل فِي السِّهَام كَذَلِك وَإِنَّمَا قَالَ {الرّبع مِمَّا تركْتُم} و {السُّدس مِمَّا ترك} و {الثّمن مِمَّا تركْتُم} بِحرف الْجَرّ لَا بِالْإِضَافَة ونريد أَن نختم الْبَاب بشرح هَذِه الْمَسْأَلَة ليَكُون الْكتاب كُله كَأَنَّهُ تَفْسِير الْآيَة وَشرح لمضمنها وتنبيه على إعجازها وَالله الْمُسْتَعَان فصل
فِي مصَادر افرائض من السّنة
قد أَتَيْنَا على مَا تتضمنه الْآيَة من أصُول الْفَرَائِض وَقَالَ السّلف من الْعلمَاء قد أبقى الْقُرْآن موضعا للسّنة وأبقت السّنة موضعا للِاجْتِهَاد والرأي ثمَّ إِن الْقُرْآن قد أحَال على السّنة بقوله {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} الْآيَة
(1/77)
وأحال الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام بعد مَا بَين من أصُول الْفَرَائِض مَا بَين على زيد بن ثَابت بقوله فِي الحَدِيث وأفرضهم زيد بن ثَابت فَصَارَ قَول زيد أصلا عول عَلَيْهِ الْفُقَهَاء وَاسْتقر الْعَمَل بِهِ وَلذَلِك أضربنا عَن كثير من أَقْوَال الصَّحَابَة رضوَان اله عَلَيْهِم إِذا لم يجر بهَا حكم عِنْد فُقَهَاء الْأَمْصَار
فمما بَينه الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام من أصُول الْفَرَائِض إِلَى مَا فِي كتاب الله قَوْله ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِي فَهُوَ لأولى رجل ذكر رَوَاهُ ابْن عَبَّاس
(1/78)
فَوَجَبَ بِهَذَا الحَدِيث أَن يحجب أهل الْفَرَائِض لمن سواهُم من الْعصبَة والأقارب وَأَن يحجب الْأَقْرَب من الْعصبَة لمن دونه لقَوْله لأولى رجل وَأَن يحجب الشَّقِيق من الْإِخْوَة للْأَخ من الْأَب وَكَذَلِكَ الْعم شَقِيق الْأَب لِأَخِيهِ من الْأَب وَكَذَلِكَ ابْن الْعم وَابْن الْأَخ على هَذِه الرُّتْبَة لحَدِيث عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ إِنَّكُم لتقرءون من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين وَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِالدّينِ قبل الْوَصِيَّة وَأَن أَعْيَان بني الْأُم يتوارثون دون بني العلات الْأَخ للْأَب وَالأُم يَرث دون الْأَخ للْأَب
إِلَّا أَن هَذَا الحَدِيث يرويهِ الْحَارِث الْأَعْوَر وَهُوَ الْحَارِث بن يزِيد يكنى أَبَا زُهَيْر وَقد رَمَاه الشّعبِيّ بِالْكَذِبِ والْحَدِيث ضَعِيف من أَصله وَلَكِن هَذَا متلقى من الْعَمَل وَالنَّقْل الْمُتَوَاتر عَن
(1/79)
زيد بن ثَابت وَالصَّحَابَة لَا من هَذَا الحَدِيث لَكِن فِي الحَدِيث قُوَّة وَزِيَادَة بَيَان لما انْعَقَد عَلَيْهِ إِجْمَاع الْعلمَاء الَّذين هم حجَّة على من سنّ عَنْهُم وَبِاللَّهِ التَّوْقِيف
وَمن السّنَن الْوَارِدَة فِي الْفَرَائِض أَيْضا حَدِيث ابْن مَسْعُود أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى فِي بنت وَابْنَة ابْن أَن للْبِنْت النّصْف ولابنة الابْن السُّدس تَكْمِلَة الثُّلثَيْنِ وَهُوَ صَحِيح
وَمِمَّا جَاءَ فِي الحَدِيث أَيْضا من هَذَا الْبَاب حَدِيث طَاوس عَن عَائِشَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورث الْخَال
وَقد اخْتلف فِي رفع هَذَا الحذيث وروى أَيْضا عَن طَرِيق الْمِقْدَام بن معد يكرب ومعاد وَغَيره
(1/80)
وَمن السّنَن حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورث للْجدّ السُّدس الآخر طعمة خرجه التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد
وَقد قيل إِن أول جد ورث فِي الْإِسْلَام عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ مَاتَ لَهُ ابْن اسْمه عَاصِم فِي خِلَافَته وَخلف ابْنَيْنِ ثمَّ مَاتَ أَحدهمَا بعده بِيَسِير وَهَذَا أَيْضا مِمَّا لَا يُصَحِّحهُ أهل الْعلم بالأثر وَلَا يعرفهُ أهل الْأَنْسَاب وَالسير وعنما الْمَعْرُوف عِنْدهم أَن عَاصِم بن عمر عَاشَ بعد أَبِيه كثيرا وَمَات سنة سبعين فرثاه أَخُوهُ عبد الله بن عمر فَقَالَ فليت المنايا كن خلفن عَاصِمًا فعشنا جَمِيعًا أَو ذهبن بِنَا مَعًا
وَعَاصِم هَذَا هُوَ الَّذِي خَاصَمت فِيهِ جدته لعمر بن الْخطاب وَاسْمهَا الشموس بنت أبي عَامر خاصمته فِيهِ إِلَى أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فَقضى لَهَا بالحضانة وَذَلِكَ فِي خلَافَة أبي
(1/81)
بكر وَعَاصِم يَوْمئِذٍ ابْن أَربع سِنِين وَقيل ابْن ثَمَان وَلَا يعرف لَهُ ابْن اسْمه عَاصِم غَيره
وَأما أول موروث فِي الْإِسْلَام فعدي بن نَضْلَة بن عبد الْعُزَّى بن حرثان بن عَوْف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كَعْب بن لؤَي وَرثهُ النُّعْمَان وَهُوَ الْقَائِل لَعَلَّ أَمِير الْمُؤمنِينَ يوءه تَنَادمنَا بالجوسق المتقادم فَعَزله عمر من أجل هَذَا الْبَيْت
وَأما الْجدّة أم الْأُم فقد صَحَّ تَوْرِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهَا السُّدس فَثَبت لَهَا ذَلِك بِالنَّصِّ وَورث أَبُو بكر وَعمر الْجدّة الْأَقْوَى وَقَالا أيكما خلت بِهِ فَهُوَ لَهَا وَإِن اجتمعتما فَهُوَ بَيْنكُمَا فَكَانَ تَوْرِيث الْجدّة أم الْأَب بِاجْتِهَاد من الصّديق رَضِي الله عَنهُ مَعَ مُوَافقَة الصَّحَابَة وَلذَلِك يسْقط حَظّ هَذِه الْجدّة إِذا كَانَت أبعد من أم الْأُم فَإِن كَانَت أم الْأُم هِيَ أبعد أَو كَانَت أم الْأَب هِيَ أقرب مِنْهَا لم تحجبها لِأَن الْجدّة أم الْأُم ورثت بِنَصّ السّنة الورادة
(1/82)
عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَت أصلا فَلم تحجبها الْأُخْرَى بِحَال وَالله أعلم والبعدى هِيَ أم أم الْأَب وَأم أم الْأُم وَأما أم أبي الْأَب فَلَا تَرث فِي قَول أَكْثَرهم
وَهَذِه رِوَايَة خَارِجَة بن زيد عَن أَبِيه وروى أهل الْعرَاق عَن زيد خلاف هَذَا وَسَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله
وَرُوِيَ أَيْضا أَن أول جدة ورثهَا النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام جدة وَابْنهَا حَيّ وَقَالَ بِهِ طَائِفَة من الصَّحَابَة هَذَا وَالتَّابِعِينَ وَقد اخْتلف فِي صِحَة هَذَا الحَدِيث وتأويله وَالله أعلم
(1/83)
فصل
فِي بَيَان معنى فَلأولى رجل ذكر
وَأما الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي قدمْنَاهُ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِي فَهُوَ لأولى رجل ذكر فَهُوَ أصل فِي الْفَرَائِض وَقسم الْمَوَارِيث وتوريث الْعصبَة الْأَدْنَى فالأدنى إِلَّا أَنه حَدِيث فِيهِ إِشْكَال وتلقاه النَّاس أَو أَكْثَرهم على وَجه لَا تصح إِضَافَته إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قد أُوتِيَ جَوَامِع الْكَلم وَاخْتصرَ لَهُ الْكَلَام اختصارا وَهُوَ أخبر بِهَذَا عَن نَفسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعنِي قَوْله أُوتيت جَوَامِع الْكَلم وَاخْتصرَ لي الْكَلَام اختصارا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ
وَالَّذِي تَأَوَّلَه عَلَيْهِ النَّاس أَن قَوْله لأولى رجل ذكر أَي أقرب الرِّجَال من الْمَيِّت وأقعدهم وَأَن قَوْله {ذكر} نعت لرجل
وَهَذَا التَّأْوِيل لَا يَصح من ثَلَاثَة أوجه
أَحدهمَا عدم الْفَائِدَة فِي وصف رجل بِذكر إِذْ لَا يتَصَوَّر أَن يكون رجل إِلَّا وَهُوَ ذكر ويجل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(1/84)
عَن أَن يتَكَلَّم بِمَا هُوَ حَشْو من الْكَلَام لَيْسَ فِيهِ فَائِدَة وَلَا تَحْتَهُ فقه وَلَا يتَعَلَّق بِهِ حكم
الْوَجْه الثَّانِي أَنه لَو كَانَ كَمَا تأولوه لنَقص فقه الحَدِيث وَلم يكن فِيهِ بَيَان لحكم الطِّفْل الرَّضِيع الَّذِي هُوَ لَيْسَ بِرَجُل وَقد علم أَن الْمِيرَاث يجب للأقعد وَإِن كَانَ ابْن سَاعَة وَلَا يُقَال فِي عرف اللُّغَة رجل إِلَّا للبالغ فَمَا فَائِدَة تَخْصِيصه بِالْبَيَانِ دون الصَّغِير
وَالْوَجْه الثَّالِث أَن الحَدِيث إِنَّمَا ورد لبَيَان من يجب لَهُ الْمِيرَاث من الْقَرَابَة بعد أَصْحَاب السِّهَام فَلَو كَانَ كَمَا تأولوه لم يكن فِيهِ بَيَان لقرابة الْأُم والتفرقة بَينهم وَبَين قرَابَة الْأَب فَبَقيَ الحَدِيث مُجملا لَا بفيد بَيَانا وَإِنَّمَا بعث عَلَيْهِ السَّلَام ليبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم
وَإِذا ثَبت هَذَا فلنذكر معنى الحَدِيث ثمَّ نعطف على مَوضِع الْإِشْكَال مِنْهُ وَبَيَان الْغَلَط فنبينه بعون الله فَنَقُول
قَوْله أولى رجل ذكر يُرِيد الْقَرِيب الْأَقْرَب فِي النّسَب الَّذِي قرَابَته من قبل رجل وصلب لَا من قبل بطن ورحم فَالْأولى أولى الْمَيِّت فَهُوَ مُضَاف إِلَيْهِ فِي الْمَعْنى دون اللَّفْظ إِضَافَة نسب وَهُوَ فِي اللَّفْظ مُضَاف إِلَى السَّبَب وَهُوَ الصلب وَعبر عَن الصلب بقوله أولى رجل لِأَن الصلب لَا يكون ولدا وَلَا سِيمَا حَتَّى يكون رجلا
وَأفَاد قَوْله أولى رجل يُرِيد الْقَرِيب الْأَقْرَب نفي الْمِيرَاث عَن الأولى الَّذِي هُوَ من قبيل الْأُم كالخال لِأَن الْخَال أولى الْمَيِّت ولَايَة بطن لَا ولَايَة صلب
(1/85)
وَأفَاد بقوله {ذكر} نفي الْمِيرَاث عَن النِّسَاء وَإِن يكن من الْأَوَّلين بِالْمَيتِ من قبل صلب لِأَنَّهُنَّ إناث فَذكر نعت لأولى وَلما كَانَ مخفوضا فِي اللَّفْظ حسب أَنه نعت لرجل
وَلَو قلت من يَرث هَذَا الْمَيِّت بعد ذَوي السِّهَام لوَجَبَ أَن يُقَال لَك يَرِثهُ أولى رجل ذكر بِالرَّفْع لِأَنَّهُ نعت للْفَاعِل
وَلَو قلت من يعْطى المَال لقيل لَك أعْطه أولى رجل ذكرا بِالنّصب لِأَنَّهُ نعت لأولى
فَمن هُنَا دخل الْإِشْكَال
وَمن وَجه آخر هُوَ أَن أولى على وزن أفعل وَهَذَا إِذا أُرِيد بِهِ التَّفْضِيل كَانَ بعض مَا يُضَاف إِلَيْهِ فَإِذا قلت هُوَ أحسن رجل فَمَعْنَاه أحسن الرِّجَال وَكَذَلِكَ إِذا قلت أعلم إِنْسَان فَمَعْنَاه أعلم النَّاس فَتوهم أَن قَوْله أولى رجل أَي أولى الرِّجَال وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك وَإِنَّمَا هُوَ أولى الْمَيِّت بِإِضَافَة النّسَب وَأولى صلب بِإِضَافَة السَّبَب كَمَا تَقول أَخُوك أَخُو الرخَاء لَا أَخُو الشدَّة وهم أقربوك أقَارِب الطمع وإخوان الضَّرُورَة وَالنَّاس يَقُولُونَ هم إخْوَانِي وَلَكِن إخْوَان الضحك وَكَذَلِكَ يُقَال هُوَ مولَايَ مولى عتق فَالْأولى فِي الحَدِيث كالمولى
فَإِن قيل كَيفَ يُضَاف إِلَى الْوَاحِد وَلَيْسَ بِجُزْء مِنْهُ
قلت إِذا كَانَ مَعْنَاهُ الْأَقْرَب فِي النّسَب جَازَت إِضَافَته وَإِن لم
(1/86)
يكن جُزْءا مِنْهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أمك ثمَّ أمك ثمَّ أَبَاك ثمَّ أدناك فأدناك وَلَو أَرَادَ دنوا لَهُ لم يجز أَن يَقُول أدناك كَمَا لَا تَقول هُوَ أفهمك وَلَا أعلمك وَكَذَلِكَ قَول عَمْرو بن الْأَهْتَم عَن الزبْرِقَان هُوَ مُطَاع أدنيه أَي فِي قرَابَته وَقَول الشَّاعِر وَلَيْسَ المَال فاعلمه بِمَال وَإِن أنفقته إِلَّا الَّذِي أتنال بِهِ الْعَلَاء وتصطفيه لأَقْرَب أقربيك وللقصي
فَهَذَا جَائِز فِي الْأَدْنَى وَالْأولَى وَالْأَقْرَب إِذا أردْت بِهِ معنى النّسَب والقرابة قَالَ الله تَعَالَى {من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان} وَلَوْلَا الْأَب وَالأُم لأضاف فَقَالَ أولياؤه وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا لمراعاة الْمَعْنى إِذْ معنى أولاك وأدناك كمعنى قريبك وأخيك ونسيبك ثمَّ إِذا
(1/87)
أردْت أَن تبين كَيفَ هُوَ نسيبك أَو قريبك قلت قرَابَة صلب لَا قرباة بطن وَكَذَلِكَ تَقول هُوَ أولاك وَهُوَ أولى الْمَرْأَة المتوفاة أولى رجل وَهَذِه الْمَرْأَة هِيَ الوليا وَجَمعهَا الولييات والولى فَإِن بيّنت النّسَب قلت هِيَ وليا الْمَيِّت وليا رجل أَي ولَايَة صلب وَإِن شِئْت قلت هِيَ أولاه كَمَا تَقول فِي الذّكر هُوَ أولاه ثمَّ تبين السَّبَب فَتَقول هِيَ أولى رجل أَي قرابتها من قبل رجل
فلولا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لورثت الْمَرْأَة بِهَذِهِ الْولَايَة وَلَوْلَا قَوْله أولى رجل لورث الْخَال لِأَنَّهُ ذكر فَتَأمل هَذَا التَّفْسِير والشواهد عَلَيْهِ وَمَا يَقْتَضِيهِ لفظ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام إِذا تؤول بِهَذَا الْمَعْنى من السمانة والبلاغة والإيجاز مَعَ كَثْرَة الْمعَانِي تَجِد غَيره من التأويلات سَاقِطا لِأَنَّهُ يخرج لفظ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام عَن البلاغة إِلَى الْكَلَام الغث وَاللَّفْظ المسترث وحاشى لَهُ من ذَلِك وَلَو لم يكن فِي هَذَا الْمُخْتَصر إِلَّا هَذِه الْفَائِدَة لكَانَتْ تنماوى وحله فَالْحَمْد لله الَّذِي وفْق إِلَيْهَا وأعان عَلَيْهَا بعد قرع طَوِيل لبابها ومجاذبة للمغدف من حجابها وَمن أدمن قرع الْبَاب يُوشك أَن يفتح لَهُ وَالْحَمْد لله على مَا فتح وَالْحَمْد لله على مَا شرح وَالْحَمْد لله على مَا منح حمدا كثيرا مُبَارَكًا فِيهِ
(1/88)
فصل
فِيمَا إِذا عدم الْعصبَة
فَهَذَا الحَدِيث وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ أصل فِي تَوْرِيث الْعصبَة من قبل الْأَب دون ذَوي الْأَرْحَام وَإِنَّمَا استحقوا ذَلِك لأَنهم وُلَاة دمة وَالَّذين يعْقلُونَ عَنهُ ويغضبون لَهُ وبهم يكاثر الْأَعْدَاء دون قرَابَة أمه لِأَن قرَابَة الْأُم دعوتهم إِلَى قوم آخَرين وَقَول الله عز وَجل {وأولو الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} مَخْصُوص بذوي السِّهَام من الْقَرَابَة خصصه الحَدِيث الْمُتَقَدّم وَقَول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله قد أعْطى كل ذِي حق حَقه فَلَا وَصِيَّة لوَارث فَإِذا عدم الْعصبَة فَمَا بَقِي بعد ذَوي السِّهَام فللمسلمين لأَنهم يعْقلُونَ إِذا عدم بَنو الْعم
وَقَالَت طَائِفَة من أهل الْعلم ذَوُو الْأَرْحَام أولى من بَيت مَال الْمُسلمين لأَنهم يدلون إِلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وبالرحم وَغَيرهم من الْمُسلمين إِنَّمَا يُدْلِي بِسَبَب وَاحِد وَهُوَ الدّين ويحتجون أَيْضا بِحَدِيث معَاذ وَحَدِيث الْمِقْدَام الْمُتَقَدّم وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ وَقد قَالَ بِهَذَا القَوْل جمَاعَة من الْعلمَاء وَالله حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل
(1/89)
بَاب معرفَة أصُول الْفَرَائِض وَأَصْحَاب السِّهَام
(1/91)
بَاب
معرفَة أصُول الْفَرَائِض وَأَصْحَاب السِّهَام
أَصْحَاب الْفَرَائِض
السِّهَام سِتَّة نصف وَثلث وَثُلُثَانِ وَسدس وَربع وَثمن
وَأَصْحَاب السِّهَام عشرَة أَب وَأم وجد وَجدّة وَأُخْت شَقِيقَة وَأُخْت لأَب وَأُخْت لأم وَبنت وَبنت ابْن وَزوج وَزَوْجَة
وَمن أَصْحَاب السِّهَام من لَا يَرث أبدا إِلَّا بِالْفَرْضِ وَمِنْهُم من يَرث بِالْفَرْضِ تَارَة وبالتعصيب أُخْرَى
فَالَّذِي يَرث بِالْفَرْضِ وبالتعصيب الْأَخَوَات إِذا انفردن فهن من أهل السِّهَام فَإِذا كَانَ مَعَهُنَّ إخْوَة ذُكُور فهن من الْعصبَة وَكَذَلِكَ الْبَنَات وَأما بَنَات الابْن فهن مَعَ الْبِنْت الْوَاحِدَة أهل سهم وَهُوَ السُّدس تَكْمِلَة الثُّلثَيْنِ وَهن مَعَ البنتين لَا شَيْء لَهُنَّ إِلَّا أَن يكون مَعَهُنَّ ذكر مِثْلهنَّ فِي الْقعُود أَو أبعد مِنْهُنَّ فهن مَعَه عصبَة للْمَيت للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِن كَانَ أقرب للْمَيت مِنْهُم حجبهن فَلم يرثن شَيْئا
(1/93)
وَمِمَّنْ يَرث بِالْفَرْضِ والتعصيب أَيْضا الْجد فَإِنَّهُ مَعَ الْأُخوة عاصب مَا لم يكثروا حَتَّى ينقصوه من الثُّلُث فَإِن كَانَ ذَلِك فرض الثُّلُث فَرِيضَة ويفرض لَهُ السُّدس مَعَ الْبَنِينَ وَإِن كثر أَصْحَاب السِّهَام لم ينقصهُ من السُّدس وَإِن قلوا حَتَّى يعدموا فَالْمَال لَهُ بِالْفَرْضِ والتعصيب مَعًا وَكَذَلِكَ الْأَب لَهُ السُّدس مَعَ الْوَلَد وَله مَا بَقِي مَعَ عدم الْوَلَد بِالْفَرْضِ والتعصيب مَعًا
وَهَذِه مَسْأَلَة اخْتلف فِي لَفظهَا وَفِي التَّعْبِير عَنْهَا فَلفظ ابْن مَسْعُود فِي امْرَأَة تركت زَوجهَا وأباها للزَّوْج النّصْف وَللْأَب السُّدس فَرِيضَة فَمَا بَقِي فَهُوَ لَهُ يَعْنِي بِالتَّعْصِيبِ وَلَفظ زيد بن ثَابت للزَّوْج النّصْف وَمَا بَقِي للْأَب
فَظَاهر الِاخْتِلَاف أَنه يؤول إِلَى معنى وَاحِد وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَاف عبارَة وَمن الْعجب أَن هَذَا الِاخْتِلَاف اخْتلف فِيهِ أهوَ اخْتِلَاف فِي معنى أَو هُوَ اخْتِلَاف فِي عبارَة فَهُوَ اخْتِلَاف فِي اخْتِلَاف
وَمثل قَول ابْن مَسْعُود قَول فقهائنا فَإِنَّهُم يَقُولُونَ للْأَب السُّدس فَرِيضَة وَمَا بَقِي فَلهُ بِالتَّعْصِيبِ وَمثل قَول زيد قَول أبي إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ وَبَعض الشَّافِعِيَّة فَإِنَّهُم يَقُولُونَ للْأَب مَا بَقِي
(1/94)
ويجعلونه عاصبا فِي الْكل إِذا لم يكن وَارِث غَيره وَغَيرهم من الْفُقَهَاء يجعلونه إِذا انْفَرد وَارِثا السُّدس بِالْفَرْضِ ولسائر المَال بِالتَّعْصِيبِ فَكَأَن هَذَا اخْتِلَاف لفظ وَالْمعْنَى وَاحِد وَكَذَلِكَ قَالَ بعض أَئِمَّتنَا مِنْهُم أَبُو عمر رَحمَه الله
وَلَيْسَ هُوَ عِنْدِي إِلَّا اخْتِلَاف بعيد معنى ويثير حكما وسنبين هَذَا الِاخْتِلَاف وَفَائِدَته بعد الِاحْتِجَاج للقولين جَمِيعًا وتبيين أصل كل قَول من الْكتاب وَالسّنة بعون الله تَعَالَى
أما قَول من قَالَ إِن الْأَب برث الْكل بِالتَّعْصِيبِ وَأَنه لَا فرض لَهُ إِلَّا مَعَ الْوَلَد فحجتهم دَلِيل الْخطاب وَمَفْهُومه وَهُوَ أصل عِنْد الشَّافِعِيَّة وَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ الْحَنَفِيّ وَلَا الظَّاهِرِيّ وَمَالك رَحمَه الله يَقُول بِهِ على تَفْصِيل يطول ذكره وَقد صرح بالْقَوْل بِهِ فِي موطئِهِ فِي غير مَوضِع
وَدَلِيل الْخطاب الَّذِي تعلقوا بِهِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى {ولأبويه لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس مِمَّا ترك إِن كَانَ لَهُ ولد} فعلق حكم الْفَرْض بِوُجُود الْوَلَد وَإِذا تعلق الحكم بأخد الوصفين فَهُوَ مُنْتَفٍ عِنْد عدم الْوَصْف فَلَا فرض لَهُ إِذا عِنْد عدم الْوَلَد وَإِنَّمَا هُوَ عاصب
الْجَواب عَن هَذَا أَنا إِذا سلمنَا لَهُم دَلِيل الْخطاب فلقائل أَن يَقُول عنما يتَعَلَّق الحكم فِي القَوْل بِدَلِيل الْخطاب إِذا كَانَ أحد الوصفين منطوقا بِهِ وَالْآخر مسكوتا عَنهُ كَقَوْلِك أعْط زيدا إِن كَانَ ذَا عِيَال فههنا نَص وَدَلِيل أما النَّص فووب الْعَطاء وَأما الدَّلِيل فَيَقْتَضِي النَّهْي عَن الْعَطاء مَعَ عدم الْعِيَال وَعدم الْعِيَال مسكوت عَنهُ وَلكنه مَفْهُوم الْخطاب فَأَما مَا كَانَ منطوقا بِهِ فَلَا يكون مَفْهُوم الْخطاب كَقَوْلِك أعْط زيدا إِن كَانَ ذَا عِيَال دِينَارا وَإِن لم يكن ذَا عِيَال فأعطه نصف دِينَار فَغير جَائِز دَلِيل الْخطاب هَهُنَا وَقد علق بِكُل وصف حكما وَكَذَلِكَ الْآيَة لِأَنَّهُ قَالَ {لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس مِمَّا ترك إِن كَانَ لَهُ ولد} فَهَذَا نَص ثمَّ عطف
(1/95)
على الْمَسْكُوت عَنهُ بِالْبَيَانِ فَقَالَ {فَإِن لم يكن لَهُ ولد وَورثه أَبَوَاهُ} فَحكمه كَذَا وَكَذَا فَصَارَ معنى الْكَلَام إِن كَانَ لَهُ ولد فَلهُ السُّدس وَإِن لم يكن لَهُ ولد فليزد على السُّدس كَمَا تزاد الْأُم سدسا آخر فَيكون لَهَا الثُّلُث وَإِذا بَطل التَّعْلِيق بِدَلِيل الْخطاب فِي الْآيَة رَجعْنَا على حَدِيث ابْن عَبَّاس الصَّحِيح وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا الحَدِيث وَالْأَب من أَصْحَاب الْفَرَائِض فتناوله عُمُوم اللَّفْظ والعموم أقوى من دَلِيل الْخطاب لِأَنَّهُ لَفْظِي وَلِأَنَّهُ مجمع عَلَيْهِ عِنْد الْفُقَهَاء وآنما توقف فِيهِ أهل الْكَلَام لسَبَب لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكره
فَإِن قَالُوا لَيْسَ الْأَب من أهل الْفَرَائِض إِلَّا مَعَ وجود الْوَلَد فَكيف يدْخل فِي عُمُوم قَوْله ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا وَنحن إِنَّمَا كَانَ كلامنا فِي الْأَب الَّذِي لَيْسَ لَهُ ولد
فَالْجَوَاب أَن الْأَب قد جعل من أهل الْفَرَائِض لقَوْله سُبْحَانَهُ {ولأبويه لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس}
(1/96)
فَلَمَّا جعل مَعَ وجود الْوَلَد من أهل الْفَرَائِض لم يخرج عَن عُمُوم اللَّفْظ فِي قَوْله ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا فصل فِي فَائِدَة هَذَا الْخلاف
وَأما فَائِدَة هَذَا الْخلاف وفقهه فَإِنَّمَا يظْهر فِي مسَائِل من الْوَصَايَا مثل أَن توصي امْرَأَة لَهَا زوج وَأب بِثلث مَا يبْقى من مَالهَا بعد أَخذ ذَوي الْفُرُوض سِهَامهمْ فَإِن قُلْنَا إِنَّه يَرث بِالتَّعْصِيبِ فَلَيْسَ ثمَّ ذُو فرض إِلَّا الزَّوْج فَتكون الْوَصِيَّة وَاقعَة على ثلث النّصْف وَهُوَ السُّدس من الْكل فَيصير معنى كَلَامهَا قد تَصَدَّقت بِثلث نصف مَالِي وَهُوَ السُّدس لِأَن النّصْف هُوَ الْبَاقِي بعد فرض الزَّوْج فَأصل الْفَرِيضَة من اثْنَيْنِ على هَذَا فتنقسم من اثْنَي عشر فَيكون السُّدس للْمُوصى إِلَيْهِ وَهُوَ اثْنَان وَيبقى عشرَة للزَّوْج النّصْف وَللْأَب مَا بَقِي وَذَلِكَ خَمْسَة لِأَنَّهُ لَا مِيرَاث إِلَّا بعد إِخْرَاج الْوَصِيَّة
وعَلى القَوْل الثَّانِي أَنه يَرث بِالْفَرْضِ والتعصيب مَعًا أصل الْفَرِيضَة من سِتَّة وتنقسم من سَبْعَة وَعشْرين لِأَن الْبَاقِي بعد السِّهَام هُوَ الثُّلُث وَالَّذِي أوصت بِهِ ثلث الثُّلُث وَهُوَ التسع من الْكل
(1/97)
فَتضْرب ثَلَاثَة فِي تِسْعَة من أجل التسع فَذَلِك سَبْعَة وَعِشْرُونَ للْمُوصى إِلَيْهِ ثَلَاثَة وَيبقى للْوَرَثَة أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ للزَّوْج النّصْف وَللْأَب السُّدس وَهُوَ أَرْبَعَة وَمَا بَقِي فَهُوَ لَهُ بِالتَّعْصِيبِ لِأَن الْفِعْل فِي فَرِيضَة السِّتَّة إِذا أوصى الْمَيِّت بِالتسْعِ أَن يُضَاف إِلَى عدد الْفَرِيضَة الثّمن وَثمن السِّتَّة كسر وللستة نصف كَمَا للثمانية نصف وَهُوَ الْأَرْبَعَة فَتضْرب أَرْبَعَة فِي سِتَّة بأَرْبعَة وَعشْرين ثمنهَا ثَلَاثَة فتزيد ثَلَاثَة على أَرْبَعَة وَعشْرين فَيكون الْعدَد تِسْعَة أَجزَاء بِغَيْر كسر فَيَأْخُذ الْمُوصى إِلَيْهِ التسع وَيكون للْوَرَثَة مَا بَقِي
فَإِن كَانَ الْهَالِك رجلا ترك امْرَأَة وَأَبا فَأصل الْفَرِيضَة من أَرْبَعَة إِذا قُلْنَا إِن الْأَب يَرث بِالتَّعْصِيبِ وَأَنه لَا سدس لَهُ فَرِيضَة فللزوجة ربع وَللْأَب مَا بَقِي فَإِن أوصى الزَّوْج بِثلث مَا بَقِي فَهُوَ الرّبع من الْكل فتضيف إِلَى الْفَرِيضَة ثلثهَا وَلَا ثلث للأربعة فَتضْرب ثَلَاثَة فِي أَرْبَعَة بإثني عشر ثمَّ تضيف إِلَى الاثْنَي عشر ثلثهَا وَذَلِكَ أَرْبَعَة فينقسم المَال من سِتَّة عشر للْمُوصى إِلَيْهِ الرّبع وللزوجة ربع مَا بَقِي وَهُوَ ثَلَاثَة وَللْأَب بِالتَّعْصِيبِ تِسْعَة
وَإِن قُلْنَا إِن للْأَب السُّدس فَرِيضَة فَأصل الْفَرِيضَة من اثْنَي عشر للزَّوْجَة الرّبع وَهِي ثَلَاثَة وَللْأَب السُّدس وَهُوَ اثْنَان وَمَا بَقِي سَبْعَة يَأْخُذهَا بِالتَّعْصِيبِ والهالك قد أوصى بِثلث مَا يبْقى بعد الْفَرَائِض وَذَلِكَ ثلث السَّبْعَة ونسبته إِلَى المَال ثلث نصف وَثلث سدس النّصْف
وتلخيصه سدس وَسدس سدس بِالْإِضَافَة إِلَى الْكل فَتضْرب
(1/98)
ثَلَاثَة فِي أصل الْفَرِيضَة من أجل الثُّلُث فَذَلِك سِتَّة وَثَلَاثُونَ سدسها سِتَّة وَسدس سدسها وَاحِد فَذَلِك سَبْعَة للْمُوصى إِلَيْهِ وَالْبَاقِي تِسْعَة وَعِشْرُونَ وَهِي لَا تَنْقَسِم إِلَيّ سدس وَربع فَتضْرب سِتَّة وَثَلَاثُونَ فِي سِتَّة وَذَلِكَ مِائَتَان وَسِتَّة عشر للْمُوصى إِلَيْهِ مِنْهَا اثْنَان وَأَرْبَعُونَ وَيبقى عدد لَا ربع لَهُ وَله نصف فَتضْرب اثْنَيْنِ فِي مِائَتَيْنِ وَسِتَّة عشر فَذَلِك أَرْبَعمِائَة وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ وَصَارَ معنى الضَّرْب إِلَى اثْنَي عشر فِي سِتَّة وَثَلَاثِينَ والاثنا عشر هِيَ أصل الْفَرِيضَة فحظ الْمُوصى إِلَيْهِ سدس وَسدس سدس وَذَلِكَ أَرْبَعَة وَثَمَانُونَ من أَرْبَعمِائَة واثنين وَثَلَاثِينَ وَالْبَاقِي ثَلَاثمِائَة وَثَمَانِية وَأَرْبَعُونَ للزَّوْجَة مِنْهَا الرّبع وَذَلِكَ سَبْعَة وَثَمَانُونَ للْأَب السُّدس وَذَلِكَ ثَمَانِيَة وَخَمْسُونَ فصل
فِيمَن يَرث بِالْفَرْضِ والتعصيب
وَمِمَّنْ يَرث بِالْفَرْضِ والتعصيب مَعًا ابْن الْعم إِذا كَانَ أَخا لأم فَإِن لَهُ السُّدس بِالْفَرْضِ وَالْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ فَإِن كَانَ مَعَه ابْن عَم لَيْسَ بِأَخ لأم فقد اخْتلف الصَّحَابَة فِي ذَلِك فَمنهمْ من حجب ابْن الْعم بالأخ
(1/99)
للْأُم وحجتهم أَنه يُدْلِي بسببين فحجب من يُدْلِي بِسَبَب وَاحِد كَمَا يحجب الْأَخ الشَّقِيق الْأَخ الَّذِي للْأَب وَكَذَلِكَ سَائِر الْعَصَبَات وَمِنْهُم من جعل السُّدس للْأَخ للْأُم وَقسم الْبَاقِي بَينهمَا وَعَلِيهِ الْعَمَل عِنْد مَالك وَهُوَ مَذْهَب زيد بن ثَابت
وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِي الْأُخوة للْأُم مَعَ الْإِخْوَة للْأَب وَالأُم إِذا كَانَ مَعَهم زوج وَأم وَهِي الَّتِي تسمى الْمُشْتَركَة وَاخْتلف فِيهَا قَول عمر وَقَول زيد بن ثَابت وَقد قيل إِن كَانَ صَاحب تكلم فِيهَا فقد اخْتلف عَنهُ فِيهَا إِلَّا عليا فَإِنَّهُ لم يخْتَلف عَنهُ أَنه لم يشركهم مَعَ الْإِخْوَة للْأُم فَللزَّوْج النّصْف وَللْأُمّ السُّدس وللإخوة للْأُم الثُّلُث فَرِيضَة فَلَا يبْقى للأشقاء شَيْء فَمن الْعلمَاء من حجبهم لأَنهم عصبَة الْمَيِّت وَقد أحاطت الْفَرَائِض بِالْمَالِ وَلَا شَيْء للْعصبَةِ إِلَّا مَا بَقِي بعد الْفَرَائِض وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْل عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ وَعلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ بِهِ من فُقَهَاء الْأَمْصَار جمَاعَة وَالَّذِي عَلَيْهِ مَذْهَبنَا أَن الْإِخْوَة الأشقاء يشتركون مَعَ الْإِخْوَة للْأُم فِي الثُّلُث لأَنهم كلهم يدلون بِالْأُمِّ وَيَقُول الأشقاء هَب أَبَانَا كَانَ حمارا أليست أمنا وَاحِدَة وَلذَلِك سميت الحمارية لِأَنَّهَا لما نزلت فِي زمن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ الْإِخْوَة
(1/100)
هَذَا القَوْل فسميت الْفَرِيضَة بذلك
وَلَيْسَ فِي النِّسَاء من يَرث بِالتَّعْصِيبِ على كل حَال إِلَّا مولاة النِّعْمَة وَهِي الْمُعتقَة
وَلَا يَرث من النِّسَاء إِلَّا سبع خمس بِالنّسَبِ وَوَاحِدَة بالصهر وَهِي الزَّوْجَة وَوَاحِدَة بِالْوَلَاءِ وَهِي الْمُعتقَة
وَيَرِث من الرِّجَال عشرَة ثَمَانِيَة بِالنّسَبِ وَوَاحِد بالصهر وَهُوَ الزَّوْج وَوَاحِد بِالْوَلَاءِ وَهُوَ الْمُعْتق ن فصل
فِي أصُول الْفَرَائِض وَفِي الْفَرَائِض العائلة
وَأما أصُول الْفَرَائِض فسبع فَرِيضَة من اثْنَيْنِ وفريضة من ثَلَاثَة وفريضة من أَرْبَعَة وفريضة من سِتَّة وفريضة من ثَمَانِيَة وفريضة من اثْنَي عشر وفريضة من أَرْبَعَة وَعشْرين
فَهَذِهِ أصُول الْفَرَائِض لَا عول فِيهَا ثمَّ يدْخل الْعَوْل فِي فَرِيضَة السِّتَّة فتعول إِلَى سَبْعَة وَإِلَى ثَمَانِيَة وَإِلَى تِسْعَة وَإِلَى عشرَة
وَيدخل الْعَوْل فِي فَرِيضَة الاثْنَي عشر فتعول إِلَى ثَلَاثَة عشر وَإِلَى
(1/101)
خَمْسَة عشر وَإِلَى سَبْعَة عشر
وَيدخل الْعَوْل أَيْضا فِي فَرِيضَة الْأَرْبَعَة وَالْعِشْرين فتعول إِلَى سَبْعَة وَعشْرين
فَجَمِيع الْفَرَائِض العائة ثَمَانِي فَرَائض والفرائض الَّتِي لَا عول فِيهَا أَربع فأصول الْفَرَائِض على هَذَا خَمْسَة عشر مَا بَين عائلة وَغير عائلة لِأَن فَرِيضَة الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة وَالْأَرْبَعَة وَالثَّمَانِيَة لَا يدخلهَا عول الْبَتَّةَ
وَمعنى الْعَوْل الْميل وَأكْثر الْمُفَسّرين قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {ذَلِك أدنى أَلا تعولُوا} مَعْنَاهُ أَلا تميلوا فَكل فَرِيضَة عائلة قد مَال فِيهَا بعض السِّهَام على بعض وَنقص من كل سهم قدر مَا يَقْتَضِيهِ التَّعْدِيل والتقسيط
وَلم يكن مَذْهَب ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فِي الْفَرَائِض إِذا عجز المَال عَنْهَا أَن يَأْخُذ بالعول فِيهَا وَاحْتج بِأَن الله تَعَالَى قد سمى لَهُم مَا سمى فَلَا سَبِيل إِلَى التنقص مِنْهُ وَلكنه كَانَ يسْقط مِنْهُم من يَرث فِي حَال دون حَال كالأخت وَالْجد وَالْجدّة وَلَا يسْقط من يَرث على كل حَال كالزوج وَالْبِنْت وَانْفَرَدَ بِهَذَا القَوْل وَهِي من إِحْدَى الْمسَائِل الْخمس الَّتِي انْفَرد بهَا رَضِي الله عَنهُ
(1/102)
فصل
فِي الْفَرِيضَة الأولى
إعذا ثَبت هَذَا فلنبدأ بالفريضة الَّتِي أَصْلهَا من اثْنَيْنِ وَهِي تَنْقَسِم ثَلَاثَة أضلع
أَحدهَا أَن يتْرك الْمُتَوفَّى أُخْتا
الثَّانِي أَن يتْرك بِنْتا
الثَّالِث أَن تتْرك المتوفاة زوجا فَفِي لَك هَذَا للْوَارِث النّصْف وَمَا بَقِي للْعصبَةِ فَإِن لم تكن الْعصبَة فلبيت مَال الْمُسلمين فهم يعصبونه كَمَا يعْقلُونَ عَنهُ الْفَرِيضَة الثَّانِيَة
الْفَرِيضَة الثَّانِيَة الَّتِي تقوم على ثَلَاثَة وَهِي تَنْقَسِم أَيْضا أَرْبَعَة أَقسَام
أَحدهَا أَن يدع المتوفي أما فلهَا الثُّلُث
الثَّانِي أَن يدع بنتين أَو أُخْتَيْنِ
الثَّالِث أَن يدع إخْوَة لأم أَزِيد من اثْنَيْنِ فَإِن كَانُوا اثْنَيْنِ أَو وَاحِدًا
(1/103)
فَأصل الْفَرِيضَة من سِتَّة لِأَن للْوَاحِد السُّدس وللإثنين السدسين فَإِن كَثُرُوا كَانُوا شُرَكَاء فِي الثُّلُث وَيكون للْعصبَةِ مَا بَقِي
الرَّابِع أَن يدع جدا مَعَ ثَلَاثَة إخْوَة فَصَاعِدا فَلهُ الثُّلُث فَرِيضَة وَمَعَ الْأَخَوَيْنِ الثُّلُث بالمقاسمة وَمَعَ الْأَرْبَع الْأَخَوَات فَصَاعِدا لَهُ الثُّلُث فَرِيضَة وَمَا دون ذَلِك يقاسمهن للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ الْفَرِيضَة الثَّالِثَة
وَهِي الَّتِي أَصْلهَا من أَرْبَعَة وَهِي تَنْقَسِم قسمَيْنِ زوج مَعَ ولد ذكر أَو أُنْثَى وَزَوْجَة مَعَ عدم الْوَلَد للْوَارِث فِي هَاتين الفريضتين الرّبع وَالْبَاقِي للْعصبَةِ الْفَرِيضَة الرَّابِعَة
وَهِي الَّتِي أَصْلهَا من سِتَّة وَهِي تَنْقَسِم ثَمَانِيَة أَقسَام
أَحدهَا أَن يدع الْهَالِك أَبَا وابنا فللأب السُّدس
وَالثَّانِي أَن يدع أما مَعَ ولد
وَالثَّالِث أَن يدع جدة لأم أَو لأَب أَو يدعهن جَمِيعًا فَيكون
(1/104)
السُّدس بَينهمَا وَإِن كَانَت الَّتِي للْأُم أدنى حجبت الْأُخْرَى وَإِن كَانَت الَّتِي للْأَب أبنى لم تحجب الْأُخْرَى هَذِه رِوَايَة خَارِجَة بن زيد عَن أَبِيه وَأهل الْمَدِينَة وَأما رِوَايَة الشّعبِيّ عَن زيد وَأيهمَا كَانَت أقرب حجبت الْأُخْرَى
الْقسم الرَّابِع من هَذِه الْفَرِيضَة وَهُوَ أَن يدع أَخا لأم أَو أَخَوَيْنِ
الْقسم الْخَامِس أَن يدع جدا مَعَ ولد أَو جدا مَعَ أم وَزوج فَلهُ السُّدس فَرِيضَة وَمَا كَانَ نَحْو هَذَا مما سَيَأْتِي تَفْصِيله إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ السُّدس مَعَ ذَوي السِّهَام فَإِن فضل شَيْء مِنْهُ فَهُوَ لَهُ بِالتَّعْصِيبِ
الْقسم السَّادِس أَن يدع أما مَعَ أَخَوَيْنِ اثْنَيْنِ فَصَاعِدا
الْقسم السَّابِع أَن يدع بِنْتا وَبنت ابْن لَيْسَ مَعَهُمَا ذكر فَإِن لَهَا السُّدس مَعَ الْبِنْت للصلب تَكْمِلَة الثُّلثَيْنِ
الْقسم الثَّامِن أَن يدع أُخْتا لأَب مَعَ أُخْت شَقِيقَة فلهَا السُّدس تَكْمِلَة الثُّلثَيْنِ
(1/105)
الْفَرِيضَة الْخَامِسَة
وَهِي الَّتِي أَصْلهَا من ثَمَانِيَة وَهِي قسم وَاحِد زَوْجَة مَعَ ابْن فلهَا الثّمن وَمَا بَقِي للْوَرَثَة عصبَة كَانُوا أَو غَيرهم الْفَرِيضَة السَّادِسَة
وَهِي الَّتِي أَصْلهَا من اثْنَي عشر وَذَلِكَ أَن يجْتَمع فِي المَال الْمَوْرُوث ربع وَثلث أَو ربع وَسدس أَو ربع وَثُلُثَانِ مثل أَن يدع الْهَالِك زَوْجَة وَأما أَو تدع الهالكة زوجا وبنتين وَمَا كَانَ نَحْو هَذَا مِمَّا اجْتمع فِيهِ ثلث أَو ثلثان أَو سدس مَعَ الرّبع فَإِن الْفَرِيضَة لَا تقوم من عدد بسيط لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعدَد الْبَسِيط مَا لَهُ ثلث وَربع أَو ربع وَسدس وَإِنَّمَا ذَلِك فِي الْعدَد الْمركب أَي الْمركب الِاسْم من اسْمَيْنِ أَو الْمَعْطُوف وَالْعدَد الْمركب مَا فَوق الْعشْرَة والبسيط مَا دون ذَلِك وَقد ذكرنَا فِي نتائج الْفِكر سر هَذَا التَّرْكِيب فِي اخْتِصَاصه بِالْعشرَةِ وَلم يكن فِيمَا دونهَا وَلَا فِيمَا هُوَ أَكثر
(1/106)
الْفَرِيضَة السَّابِعَة
فَرِيضَة أَرْبَعَة وَعشْرين وَهِي قسم وَاحِد وَهُوَ أَن يدع الْهَالِك زَوْجَة مَعَ بنتين فلهَا الثّمن وَمَا بَقِي فِي هَذَا الْبَاب على ثَلَاثَة أَقسَام
قسم يكون أصلا لفريضة وتنقسم مِنْهُ
وَقسم تَنْقَسِم الْفَرِيضَة مِنْهُ وَلَا يكون أصلا لَهَا كالخمسة
وَقسم لَا يكون أصلا لفريضة وَلَا تَنْقَسِم مِنْهُ كالأحد عشر والتسعة عشر وَنَحْو ذَلِك من الْعدَد الْأَصَم والأصم هُوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ جُزْء نسب إِلَيْهِ مُشْتَقّ من لَفظه وَغير الْأَصَم مَا لَهُ جُزْء كالخمس وَالسُّدُس وَغير ذَلِك وَلَيْسَ فِي الْعدَد الْأَصَم مَا يكون أصلا لفريضة تَنْقَسِم مِنْهُ إِلَّا الثَّلَاثَة عشر والسبعة عشر فَإِنَّهَا أصل فِي فَرَائض الْعَوْل وَقد يكون فِي الْعدَد مَا فِيهِ جَمِيع الْأَجْزَاء وَكلهَا من النّصْف على الْعشْر وَذَلِكَ لَا يُوجد فِيمَا دون الْأَلفَيْنِ وَخَمْسمِائة وَعشْرين وَهُوَ أول الْأَعْدَاد الَّتِي يجْتَمع فِيهَا نصف وَثلث وَربع وَخمْس وَسدس وَسبع وَثمن وتسع وَعشر بِغَيْر كسر فافهمه وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
(1/107)
بَاب كَيْفيَّة الْعَمَل فِي هَذِه الْفَرَائِض الَّتِي لَا عول فِيهَا
أما فَرِيضَة الِاثْنَيْنِ فَهِيَ تَنْقَسِم من الِاثْنَيْنِ أَولا النّصْف للزَّوْج أَو للْبِنْت إِن كَانَت بِنْتا أَو للْأُخْت إِن كَانَت أُخْتا وَالنّصف الثَّانِي للْعصبَةِ فَإِن كَانَ الْعصبَة اثْنَيْنِ ضربت عددهما ف أصل الْفَرِيضَة فَتَقول اثْنَان فِي اثْنَيْنِ بأَرْبعَة النّصْف مِنْهَا لصَاحب الْفَرِيضَة والاثنان للعاصبين وَاحِدًا وَاحِدًا
فَإِن كَانَ الْعصبَة ثَلَاثَة ضربت عَددهمْ فِي أصل الْفَرِيضَة ثَلَاثَة فِي اثْنَيْنِ سِتَّة لصَاحب النّصْف ثَلَاثَة وللعصبة ثَلَاثَة
فَإِن كَانَ الْعصبَة أَرْبَعَة ضربت عَددهمْ فِي أصل الْفَرِيضَة أَيْضا فتنقسم الْفَرِيضَة من ثَمَانِيَة لصَاحب النّصْف أَرْبَعَة وَيبقى للْعصبَةِ أَرْبَعَة وَهَكَذَا مَا زَاد عَددهمْ إِذا رَأَيْت الْكسر نصفا ضربت فِي أصل الْفَرِيضَة كَهَذا حَتَّى ينضاف إِلَيّ ذَلِك الْكسر مَا يجْبرهُ وَكَذَلِكَ لَو
(1/109)
كَانُوا عشرَة فَاضْرب الْعشْرَة فِي أصل الْفَرِيضَة وأصل الْفَرِيضَة اثْنَان فَذَلِك عشرُون لِأَنَّك لَو لم تفعل لَكَانَ لكل وَاحِد مِنْهُم عشر النّصْف وعنما الْفَرْض أَن تكون الْقِسْمَة بِلَا كسر فتجبر تِلْكَ الكسور وسبيل جبرها مَا ذكرنَا الْعَمَل فِي الْفَرِيضَة الثَّانِيَة الَّتِي أَصْلهَا من ثَلَاثَة
فتعطي الْأُم مثلا ثَلَاث وَيبقى الثُّلُثَانِ للعاصب فَعَن كَانَ الْعصبَة اثْنَيْنِ فَأصل الْفَرِيضَة من ثَلَاثَة وتنقسم من ثَلَاثَة ثلثا ثلثا
وَعَن كَانَ الْعصبَة ثَلَاثَة فاثنان بَين ثَلَاثَة لَا تَنْقَسِم إِلَّا بِكَسْر وَذَلِكَ الْكسر ثلث فَتضْرب ثَلَاثَة فِي أصل الْفَرِيضَة وَذَلِكَ تِسْعَة فَلصَاحِب الثُّلُث ثَلَاثَة وَتبقى سِتَّة بَين ثَلَاثَة اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ
فَإِن كَانَ الْعصبَة أَرْبَعَة فَلَيْسَ للأربعة ثلث إِلَّا بِالْكَسْرِ وَذَلِكَ الْكسر ثلث وللأربعة نصف إِذا ضربت فِي أصل الْمَسْأَلَة استقامت أجزاؤها فَتضْرب نصف الْأَرْبَعَة فِي الثَّلَاثَة فَيكون لصَاحب الثُّلُث اثْنَان وَتبقى أَرْبَعَة بَين أَرْبَعَة لِأَن الْكسر الدَّاخِل على الْعصبَة الَّذِي من أَجله لم يَنْقَسِم بَينهم الثُّلُثَانِ لَا يبغيان سدس فَمن ثمَّ لم تحتج أَن
(1/110)
تضرب عدد الْعصبَة فِي أصل الْفَرِيضَة كَمَا فعلنَا قبل للموافقة الَّتِي بَين نصف عَددهمْ وَبَين الْكسر الَّذِي هُوَ النّصْف وَإِذا انجبر لَهَا الْكسر بِنصْف الْعدَد أَو بِثُلثِهِ لم تحتج إِلَى أَن تضرب الْعدَد كُله فِي أصل الْفَرِيضَة
فَإِن كَانُوا خَمْسَة ضربنا خَمْسَة فِي ثَلَاثَة بِخَمْسَة عشر ثلثهَا خَمْسَة وَالْبَاقِي لَهُم بِغَيْر كسر
فَإِن كَانُوا سِتَّة لم تحتج على أَن تضرب كلهَا فِي أضلّ الْمَسْأَلَة لِأَن نصفهَا ثَلَاثَة وَالثَّلَاثَة مُوَافقَة للكسور الْمَانِعَة من الانقسام فتصرب الثَّلَاثَة فِي أصل الْفَرِيضَة فَذَلِك تِسْعَة ثلثهَا ثَلَاثَة وَتبقى سِتَّة لسِتَّة
فَإِن كن الْعصبَة سَبْعَة فاصرب فِي أصل الْفَرِيضَة فَذَلِك أحد وَعِشْرُونَ ثلثهَا سَبْعَة وَتبقى أَرْبَعَة عشر يأخذونها اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ
فَعَن كَانُوا ثَمَانِيَة فَلَا تحْتَاج على أَن تضرب ثَمَانِيَة فِي أصل الْفَرِيضَة لِأَن الْكسر ربع فَتضْرب أَرْبَعَة وَهُوَ نصف الثَّمَانِية فِي أصل الْفَرِيضَة وَذَلِكَ اثْنَا عشر ثلثهَا أَرْبَعَة وَتبقى ثَمَانِيَة لَهُم بأخذونها وَاحِدًا وَاحِدًا
فَإِن كَانُوا تِسْعَة فَتضْرب تِسْعَة فِي أصل الْفَرِيضَة بسبعة وَعشْرين ثلثهَا تِسْعَة وَتبقى لَهُم ثَمَانِيَة عشر اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ هَكَذَا الْقيَاس
(1/111)
فَإِن كَانُوا اثْنَي عشر فَلَا تحْتَاج إِلَى ضربهَا فِي أصل الْفَرِيضَة لِأَن نصفهَا مُوَافق للكسور الْمَانِعَة من الانقسام على التَّمام فَتضْرب نصف اثْنَي عشر فِي أصل الْفَرِيضَة فَذَلِك ثَمَانِيَة عشر ثلثهَا سِتَّة وَتبقى اثْنَا عشر لأثني عشر هَكَذَا مَا زَاد الْعدَد الْفَرِيضَة الثَّالِثَة
تَنْقَسِم من أَرْبَعَة وَأَصلهَا من أَرْبَعَة
فَإِن كَانَ الْعصبَة ثَلَاثَة أَخذ صَاحب الْفَرْض وَاحِدًا وَهِي الزَّوْجَة أَو الزَّوْج مَعَ الْوَلَد وَبقيت ثَلَاثَة لثَلَاثَة
فَإِن كَانَ الْعصبَة أَرْبَعَة فَاضْرب أَرْبَعَة فِي أصل الْفَرِيضَة وَذَلِكَ سِتَّة عشر ربعهَا أَرْبَعَة وبتقى اثْنَا عشر بَين أَرْبَعَة ثَلَاثَة ثَلَاثَة
وَإِن كَانُوا خَمْسَة فَاضْرب خَمْسَة فِي أصل الْفَرِيضَة خَمْسَة فِي أَرْبَعَة بِعشْرين ربعهَا خَمْسَة وَيبقى الْبَاقِي بَينهم بِلَا كسر
وَإِن كَانُوا سَبْعَة فَكَذَلِك فَتضْرب عَددهمْ فِي أصل الْفَرِيضَة
وَإِن كَانُوا ثَمَانِيَة فَتضْرب ثَمَانِيَة فِي أصل الْفَرِيضَة بِاثْنَيْنِ
(1/112)
وَثَلَاثِينَ ربعهَا ثَمَانِيَة وَالْبَاقِي لَهُم ثَلَاثَة ثَلَاثَة
وَإِن كَانُوا تِسْعَة فَلَا تحْتَاج على أَن تضرب التِّسْعَة كلهَا فِي الْفَرِيضَة لِأَن ثلثهَا مُوَافق للأجزاء فَتضْرب ثلث التِّسْعَة فِي أصل الْفَرِيضَة ثَلَاثَة فِي أَرْبَعَة بِاثْنَيْ عشر ربعهَا ثَلَاثَة فَتبقى التِّسْعَة للتسعة
وَإِن كَانُوا عشرَة فَاضْرب الْعشْرَة كلهَا فِي أصل الْفَرِيضَة وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ ربعهَا عشرَة وَيبقى ثَلَاثُونَ بَين عشرَة ثَلَاثَة ثَلَاثَة
هَكَذَا الْعَمَل فِيهَا أبدا على هَذَا الأَصْل الْفَرِيضَة الرَّابِعَة
الَّتِي أَصْلهَا من سِتَّة من أجل السُّدس فتنقسم من سِتَّة يَأْخُذ صَاحب السُّدس جُزْءا وَيبقى خَمْسَة للعاصب
فَإِن كَانَ الْعصبَة اثْنَيْنِ فَاضْرب عَددهمْ فِي أصل الْفَرِيضَة وَذَلِكَ اثْنَا عشر سدسها اثْنَان وَيبقى عشرَة بَين الْعصبَة وهم اثْنَان خَمْسَة خَمْسَة
فَإِن كَانُوا ثَلَاثَة فَاضْرب ثَلَاثَة فِي أصل الْفَرِيضَة ثَلَاثَة فِي سِتَّة بِثمَانِيَة عشر سدسها ثَلَاثَة وَتبقى لَهُم خسمة عشر خَمْسَة خَمْسَة
فَإِن كَانُوا أَرْبَعَة فَاضْرب أَرْبَعَة فِي سِتَّة بأَرْبعَة وَعشْرين سدسها
(1/113)
أَرْبَعَة وَالْبَاقِي لَهُم خَمْسَة خَمْسَة
فَإِن كَانُوا خَمْسَة فَاضْرب خَمْسَة فِي سِتَّة وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ سدسها خَمْسَة وَتبقى لَهُم خَمْسَة خَمْسَة
وَإِن كَانُوا سِتَّة فَاضْرب السِّتَّة فِي أصل الْفَرِيضَة سِتَّة فِي سِتَّة بِسِتَّة وَثَلَاثِينَ وَكَذَلِكَ إِن كَانُوا سَبْعَة فَاضْرب سَبْعَة فِي سِتَّة بِاثْنَيْنِ وَأَرْبَعين وَإِن كَانُوا ثَمَانِيَة فَاضْرب ثَمَانِيَة فِي سِتَّة هَكَذَا فَاصْنَعْ مَا زَاد الْعدَد إِلَّا أَن يكون لعددهم نصف أَو ثلث أَو ربع مُوَافق للأجزاء الَّتِي هِيَ الكسور الْمَانِعَة من الانقسام فَتضْرب ذَلِك الْجُزْء فِي أصل فَرِيضَة كَمَا تقدم وَهُوَ أصل لَا ينخرم الْفَرِيضَة الْخَامِسَة
وَهِي الَّتِي أَصْلهَا من ثَمَانِيَة وتنقسم من ثَمَانِيَة للزَّوْجَة الثّمن وللولد مَا بَقِي وَهُوَ سَبْعَة أَجزَاء من ثَمَانِيَة
فَإِن كَانُوا اثْنَيْنِ فَاضْرب اثْنَيْنِ فِي ثَمَانِيَة بِسِتَّة عشر ثمنهَا اثْنَان وَيبقى لَهما سَبْعَة سَبْعَة
فَإِن كَانُوا ثَلَاثَة فَاضْرب أَرْبَعَة فِي ثَمَانِيَة بِاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ثمنهَا أَرْبَعَة وَتبقى لَهُم سَبْعَة سَبْعَة
(1/114)
فَإِن كَانُوا أَرْبَعَة فَاضْرب أَرْبَعَة فِي ثَمَانِيَة بِاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ثمنهَا أَرْبَعَة وَتبقى لَهُم سَبْعَة سَبْعَة
فَإِن كَانُوا خَمْسَة فَاضْرب خَمْسَة فِي ثَمَانِيَة على ذَلِك الْحساب
وَإِن كَانُوا سِتَّة فَكَذَلِك وَعَن كَانُوا سَبْعَة فَكَذَلِك
وَإِن كَانُوا ثَمَانِيَة فَاضْرب الثَّمَانِية فِي أصل الْفَرِيضَة ثَمَانِيَة فِي ثَمَانِيَة بأَرْبعَة وَسِتِّينَ ثمنهَا ثَمَانِيَة وَيَأْخُذُونَ الْبَاقِي سَبْعَة سَبْعَة هَكَذَا الْقيَاس كَمَا تقدم الْفَرِيضَة السَّادِسَة
وَهِي الَّتِي أَصْلهَا من اثْنَي عشر وَلَا بُد فِيهَا من ربع مَعَ سدس أَو ربع مَعَ ثلث وَمن أجل ذَلِك كَانَت من اثْنَي عشر فَيَأْخُذ صَاحب الرّبع ربعهَا وَصَاحب السُّدس أَو الثُّلُث سدسها أَو ثلثهَا وَيبقى الْبَاقِي للْعصبَةِ وَالْبَاقِي بعد الرّبع وَالثلث خَمْسَة وَبعد الرّبع وَالسُّدُس سَبْعَة
فَإِن كَانَ العاصب وَاحِدًا أَخذ مَا بَقِي
فَإِن كَانَا اثْنَيْنِ فَاضْرب عَددهَا فِي أصل الْفَرِيضَة وَإِن كَانُوا ثَلَاثَة فَكَذَلِك وَإِن كَانُوا أَرْبَعَة فَكَذَلِك على الأَصْل الْمُتَقَدّم مَتى وجدت الْعدَد لَا يَنْقَسِم بَين الْوَرَثَة فَانْظُر من أَيْن جَاءَت الْعلَّة فَإِن كَانَ
(1/115)
من أجل كسر هُوَ ثلث فَاضْرب ثَلَاثَة فِي أصل الْعدَد فَيجْبر حَتَّى يتم وَإِن كَانَ من أجل كسر هُوَ ربع فَاضْرب أَرْبَعَة فِي أصل الْعدَد يجْبرهُ وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْخمس وَالسُّدُس والسبع وَالثمن وَالتسع وَالْعشر تنظر الْعدَد الَّذِي اشتق مِنْهُ ذَلِك الْجُزْء فتضربه فِي أصل الْفَرِيضَة أبدا
وَإِن كَانَ الْكسر نصف سدس فَهُوَ جُزْء من اثْنَي عشر وَكَذَلِكَ إِن كَانَ ربع سدس فَهُوَ جُزْء من أَرْبَعَة وَعشْرين وَكَذَلِكَ إِن كَانَ نصف ثمن فَهُوَ جُزْء من سِتَّة عشر فَتضْرب إِذا سِتَّة عشر فِي أصل الْفَرِيضَة فتنظر مَا يصير عَلَيْهِ عَددهَا فتعطيه على حِسَاب ذَلِك بِلَا كسر
فقس على هَذَا الأَصْل فِي نِسْبَة الْأَعْدَاد كلهَا الْفَرِيضَة السَّابِعَة
وَهِي الَّتِي أَصْلهَا من أَرْبَعَة وَعشْرين وَهِي الَّتِي لَا بُد فِيهَا من ثمن مَعَ ثلثين وَسدس أَو سدسين مثل أَن يدع الْهَالِك بنتين وَأما وَزَوْجَة أَو أَبَا مَكَان الْأُم أَو جدا أَو جدة فيجتمع فِيهَا سدس وَثُلُثَانِ وَثمن السُّدس أَرْبَعَة وَالثُّلُثَانِ سِتَّة عشر وَالثمن ثَلَاثَة فَهَذِهِ ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ وَيبقى وَاحِد للعاصب
(1/116)
فَإِن كَانَ للهالك أَبَوَانِ وبنتان وَزَوْجَة لم يبْق للزَّوْجَة شَيْء فيعال لَهَا حيئذ وَسَيَأْتِي ذكر الْعَمَل فِي الْبَاب بعد هَذَا إِن شَاءَ الله دُخُول الْعصبَة مَعَ أَصْحَاب السِّهَام
فِي هَذِه الْفَرَائِض مَا يُحِيط فِيهَا أهل السِّهَام بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَلَا يبْقى للعاصب شَيْء وفيهَا مَا لَا بُد من دُخُول العاصب مَعَ أَهلهَا وَهِي فَرِيضَة أَرْبَعَة لِأَنَّهُ لَا بُد أَن يبْقى مِنْهَا الرّبع إِذْ لَيْسَ فِي أهل الْفَرِيضَة من يَرث الرّبع إِلَّا الزَّوْجَة أَو الزَّوْج فَإِن ورث أَحدهمَا الآخر لم يبْق إِلَّا من لَهُ نصف فيفضل ربع للْعصبَةِ أَو تبقى الثَّلَاثَة الأرباع للْعصبَةِ فَإِن بَقِي من لَهُ ثلث أَو سدس أَو ثلثان فَلَيْسَتْ الْفَرِيضَة ربَاعِية فَلَا بُد إِذا من بَقَاء ربع فِي هَذِه الْفَرِيضَة بعد ذَوي السِّهَام أَو ثَلَاثَة أَربَاع
وَكَذَلِكَ فَرِيضَة الاثْنَي عشر من أجل أَنَّهَا لَا بُد فِيهَا من ربع فَلَا بُد أَن يبْقى بعد ذَوي السِّهَام نصف سدس للعاصب إِلَّا أَن تكون عائلة
وَكَذَلِكَ فَرِيضَة الْأَرْبَعَة وَالْعِشْرين لَا بُد أَن يبْقى فِيهَا بعد السِّهَام ربع سدس للعاصب حَتَّى يَقُول الْأَخ مَاتَ أخي وَترك أَرْبَعَة وَعشْرين دِينَارا فَمَا صَار لي مِنْهَا إِلَّا دِينَار وَاحِد فَيُقَال لَهُ وَلَو كُنْتُم عشرَة إخْوَة مَا صَار لَك إِلَّا عشر دِينَار وَوجه الْعَمَل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَن تُعْطى البنتان الثُّلثَيْنِ وَالْأَب أَو الْأُم السُّدس وَالزَّوْجَة الثّمن وَهُوَ ثَلَاثَة من أَرْبَعَة وَعشْرين فَإِن كَانَت زوجتان قسم الثّمن بَينهمَا وَثَلَاثَة
(1/117)
بَين الِاثْنَيْنِ لَا تَنْقَسِم إِلَّا بِكَسْر وَهُوَ النّصْف فَتضْرب عَددهَا فِي أصل الْفَرِيضَة اثْنَان فِي أَرْبَعَة وَعشْرين بِثمَانِيَة وَأَرْبَعين للبنتين اثْنَان وَثَلَاثُونَ وَللْأُمّ السُّدس ثَمَانِيَة وللزوجتين الثّمن وَهُوَ سِتَّة يقسم بَينهمَا بِلَا كسر وَيبقى اثْنَان للعاصب
فَإِن كَانَت الزَّوْجَات ثَلَاثَة لم يحْتَج إِلَّا هَذَا الْعَمَل لِأَن الثّمن ثَلَاثَة فَلَا كسر فِيهِ عِنْد الْقِسْمَة بَينهُنَّ
وَإِن كَانَت الزَّوْجَات أَرْبعا ضرب عددهن فِي أصل الْفَرِيضَة من أجل الْكسر الَّذِي هُوَ الرّبع أَرْبَعَة فِي أَرْبَعَة وَعشْرين بِسِتَّة وَتِسْعين الثُّلُثَانِ مِنْهَا أَرْبَعَة وَسِتُّونَ وَالسُّدُس مِنْهَا سِتَّة عشر وَالثمن مِنْهَا اثْنَا عشر تَنْقَسِم بَين الزَّوْجَات ثَلَاثَة ثَلَاثَة وَتبقى أَرْبَعَة للعاصب
وَكَذَلِكَ إِن كَانَ الْبَنَات ثَلَاثَة فَيقسم بَينهُنَّ الثُّلُثَانِ فَتضْرب عددهن فِي أصل الْفَرِيضَة ثَلَاثَة فِي أَرْبَعَة وَعشْرين بِاثْنَيْنِ وَسبعين فالثلثان مِنْهَا ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ لكل وَاحِدَة سِتَّة عشر
فَإِن كَانَ الْبَنَات أَرْبعا لم تحتج على ضرب فِي أصل الْمَسْأَلَة لِأَن الثُّلثَيْنِ من الْفَرِيضَة سِتَّة عشر وَهِي تَنْقَسِم بَين أَربع وَكَذَلِكَ إِن كَانَ الْبَنَات ثمانيا وَكَذَلِكَ إِن كن سِتَّة عشر لم يحْتَج إِلَّا ضرب عددهن فِي أصل الْفَرِيضَة
وَمَتى كَانَ عددهن وترا فَإِنَّهُ يضْرب فِي أصل الْفَرِيضَة إِلَّا أَن يبلغن من الْعدَد ثِنْتَيْنِ وثلاثنين فَتضْرب حِينَئِذٍ نصف ثمن عددهن فِي أصل الْفَرِيضَة وَهُوَ اثْنَان فِي أَرْبَعَة وَعشْرين بِثمَانِيَة وَأَرْبَعين فَيكون لكل وَاحِد مِنْهَا وَاحِدًا فِي هَذَا الْعدَد
(1/118)
فصل فِي اجْتِمَاع خمس جدات وتصور ذَلِك
فَإِن كَانَ فِي مَوضِع الْأَب أَو الْأُم من هَذِه الْفَرِيضَة جدتان فالسدس بَينهمَا وَإِن كن أَربع جدات فَكَذَلِك وَلَا يحْتَاج إِلَى ضرب فِي أصل الْفَرِيضَة فَإِن السُّدس أَرْبَعَة فَإِن كن ثَلَاث جدات أَو خمس جدات أَو سبعا ضرب عددهن فِي أصل الْفَرِيضَة وَإِن كن سِتا لم يضْرب فِي أضصل الْفَرِيضَة إِلَّا نصف السِّتَّة وَهِي ثَلَاثَة فِي أَرْبَعَة وَعشْرين بِاثْنَيْنِ وَسبعين فتنقسم بَينهُنَّ بِلَا كسر
فَإِن قيل وَكَيف يجْتَمع خمس جدات أَو سِتّ وَالَّتِي هِيَ أدنى تحجب الَّتِي هِيَ أقْصَى فَلَيْسَ ثمَّ إِلَّا أم أم أَو أم أَب
قُلْنَا قد يتَصَوَّر هَذَا فِي مَسْأَلَة الشُّرَكَاء وَقَعُوا على أمة بَينهم وَلم يكن يحل لَهُم وَطْؤُهَا وَلَكِن الْحَد مَوْضُوع عَنْهُم وَالْولد لَاحق بهم فَإِذا مَاتَ الْوَلَد ورثوه ويرثه أَيْضا أمهاتهم وَأُمَّهَات آبَائِهِم إِذا عدم الْآبَاء فَيكون للْوَلَد حِينَئِذٍ من الْجدَّات على حسب الْآبَاء وَجدّة هِيَ أم أمه زَائِدَة فَإِن كَانَ الْآبَاء سِتَّة فَلهُ سبع جدات يرثن وَقس على هَذَا
(1/119)
بَاب الْعدْل فِي الْفَرَائِض
وَقد تقدم أَنه فِي ثَلَاثَة مِنْهَا
فَرِيضَة السِّتَّة تعول إِلَى دَرَجَة وَإِلَّا دَرَجَتَيْنِ وَإِلَّا ثَلَاثَة وَإِلَّا أَربع كلما زَاد سهم زَادَت دَرَجَة وَذَلِكَ أَن يجْتَمع ينتان وَأم وَأب أَو أختَان وَأَخ لأم فللبنتين الثُّلُثَانِ وَهِي أَرْبَعَة أَسْدَاس وَللْأُمّ سدس وَاحِد وَللْأَب سدس آخر لم يبْق للعاصب شَيْء فَإِن جَاءَ من لَهُ سدس وَالْفَرِيضَة قد استوفيت أجزاؤها مثل أَن يكون للْمَيت زوج وَأُخْت وَجدّة فَللزَّوْج ثَلَاثَة أَسْدَاس وَهُوَ النّصْف وَللْأُخْت مثل ذَلِك وللجدة السُّدس فَيَعُود كل سدس سبعا أَي سبعا للستة لِأَنَّهُ ينتقص من كل سدس سبعه وَإِذا نقص من سدس الْعدَد سبعه عَاد سبعا لذَلِك الْعدَد الْفَرِيضَة المنبرية
فقف على هَذِه الْعبارَة فَإِن الْفَرِيضَة المنبرية الَّتِي قَالَ فِيهَا
(1/121)
عَليّ رَضِي الله عَنهُ على الْمِنْبَر عَاد ثمنهَا تسعا يَعْنِي ثمن الزَّوْجَة عَاد تسعا لم يرد تسع سَبْعَة وَعشْرين لِأَن ثمنهَا إِنَّمَا هُوَ ثمن أَرْبَعَة وَعشْرين فَلَمَّا نقص بالعول مِنْهُ تسعه عَاد تسعا لما كَانَ ثمنا لَهَا وَهِي الْأَرْبَعَة وَالْعشْرُونَ وَلَا يَصح إِلَّا هَذَا لِأَن الثّمن وَالتسع وَنَحْوهَا من الْأَجْزَاء لَا يعقل إِلَّا بِالْإِضَافَة فَإِذا لم يذكر الْمُضَاف إِلَيْهِ لم يعقل مَعْنَاهُ فَلَمَّا ذكر ثمن الْأَرْبَعَة وَالْعِشْرين وَهُوَ الثَّلَاثَة ثمَّ قَالَ عَاد ثمنهَا تسعا وَلم يضفه إِلَى عدد آخر عرف أَنه يُرِيد تسع أَرْبَعَة وَعشْرين وَلكنه كَانَ ثَلَاثَة أَجزَاء من أَرْبَعَة وَعشْرين فنقص من كل جُزْء تسعه فَهَذِهِ ثَلَاثَة أتساع ثمَّ نقصت من جَمِيع الْأَجْزَاء مثل ذَلِك تسع تسع من كل جُزْء من الْأَرْبَعَة وَالْعِشْرين وانضاف إِلَيْهَا هَذِه الثَّلَاثَة الأتساع الَّتِي نقصت من سهم الْمَرْأَة الزَّائِد على أصل الْفَرِيضَة فَحصل من ذَلِك سَبْعَة وَعِشْرُونَ تسعا بِتِسْعَة أَثلَاث بِثَلَاثَة أحاد تَامَّة فَصَارَت الْقِسْمَة من سَبْعَة وَعشْرين بِلَا كسر
وَلَوْلَا صعوبة الْقِسْمَة بِالْكَسْرِ مَا انقسمت هَذِه الْفَرِيضَة إِلَّا من أَرْبَعَة وَعشْرين كَمَا كَانَ أَصْلهَا ينقص لكل وَاحِد مِنْهُم تسع سَهْمه وَهَذَا يفعل فِي فَرِيضَة السِّتَّة وَغَيرهَا لما أَرَادوا الْقِسْمَة بِلَا كسر حصروا الْأَجْزَاء النَّاقِصَة فاجتمعت سَبْعَة أَسْبَاع من كل سدس سبعه فجَاء مِنْهَا وَاحِد تَامّ وَذَلِكَ سَبْعَة فقسم المَال من سَبْعَة وعالت الْفَرِيضَة دَرَجَة وَاحِدَة من أجل أَن النَّاقِص من كل حزء مها جُزْء وَاحِد فَإِن كَانَ من لَهُ سدس وَاحِد صَارَت الأسداس ثَمَانِيَة وَنقص من كل سدس من الثَّمَانِية ثمنان وَذَلِكَ سِتَّة عشر ثمنا
(1/122)
بجزءين تامين فعالت الْفَرِيضَة دَرَجَتَيْنِ من أجل أَن النَّاقِص من كل جُزْء مِنْهَا جزءان وَذَلِكَ مثل أَن تدع الهالكة زوجا وأختا وأخوين لأم لَهما سدسان وَللزَّوْج ثَلَاثَة أَسْدَاس وَللْأُخْت مثل ذَلِك فَلَمَّا زَاد فِي الْفَرِيضَة اثْنَان عالت إِلَى دَرَجَتَيْنِ
وَإِذا زَاد فِيهَا ثَلَاثَة أَجزَاء عالت إِلَى تِسْعَة مثل أَن يكون للهالكة اخوان لَام وام وَزوج واخت شَقِيقَة فَهَذِهِ تِسْعَة اسداس فينتقص من كل جُزْء ثَلَاثَة اتساعه فيجتمع سَبْعَة وَعِشْرُونَ تسعا بِتِسْعَة اثلاث بِثَلَاثَة توأم فتضيف الثَّلَاثَة الى السِّتَّة فَيقسم المَال من تِسْعَة
وَلَو نقص من كل جُزْء من السِّتَّة اربعة اجزاء لعالت الْفَرِيضَة الى ارْبَعْ دَرَجَات فينقسم المَال من عشرَة مثل ان يجْتَمع زوج واختان وام واخوة لَام للزَّوْج ثَلَاثَة اسداس وَهُوَ نصف السِّتَّة وللاختين اربعة وَهُوَ الثُّلُثَانِ فَهَذِهِ سَبْعَة اسداس وللام سدس وللاخوين للام سدسان فَهَذِهِ عشرَة اسداس فينتقص من كل سدس اعشاره ثمَّ اربعة اعشار على عدد الاجزاء الزَّائِدَة فَذَلِك اربعون عشرا بِعشْرين خمْسا بأَرْبعَة آحَاد تَامَّة اضفناها الى السِّتَّة الَّتِي هِيَ أصل الْفَرِيضَة فعالت الى عشرَة فانقسم المَال مِنْهَا فَمن كَانَ لَهُ سدس فَلهُ عشر وَمن كَانَ لَهُ ثَلَاثَة اسداس فَلهُ ثَلَاثَة اعشار لَان كل سدس قد عَاد عشرا كَمَا تقدم شَرحه
(1/123)
فصل فِي الْفَرِيضَة الاثْنَي عشر وعولها
وَأما الْفَرِيضَة الإثنا عشر فتعول كَمَا تقدم إِلَى ثَلَاثَة عشر وَإِلَى خَمْسَة عشر وَإِلَى سَبْعَة عشر
أما عولها إِلَى ثَلَاثَة عشر فَأن يجْتَمع بنتان وَزوج وَأم أَو جدة أَو جد فللابنتين ثَمَانِيَة وَهُوَ الثُّلُثَانِ وَللزَّوْج ثَلَاثَة وَهُوَ الرّبع وَللْأُمّ اثْنَان وَهُوَ السُّدس عالت الْفَرِيضَة دَرَجَة وَاحِدَة وَإِن كَانَ الزَّائِد فِيهَا جزءين من أَجْزَائِهَا وَقد تقدم فِي أصل الْعَوْل أَنه مَتى زَاد فِي الْفَرِيضَة جزءان عالت دَرَجَتَيْنِ أَو ثَلَاثَة أَجزَاء عالت ثَلَاث دَرَجَات أَلا ترى أَن فَرِيضَة الْأَرْبَعَة وَالْعِشْرين لما جَاءَت الزَّوْجَة تطلب الثّمن وَهِي ثَلَاثَة من أَرْبَعَة وَعشْرين عمل لَهَا إِلَى سَبْعَة وَعشْرين فَزَاد فِي الْعدَد ثَلَاثَة لِأَن ثمنهَا ثَلَاثَة وَهَهُنَا قد زَاد فِي الْعدَد اثْنَان لِأَن سدس الْفَرِيضَة اثْنَان وَلم تعل الْفَرِيضَة إِلَّا دَرَجَة وَاحِدَة وَسبب ذَلِك أَن السِّهَام لم تحط بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَإِنَّمَا بَقِي مِنْهَا جُزْء من اثْنَي عشر فَلم تحتج أَن يعال لَهَا إِلَّا بِجُزْء وَاحِد فعالت الْفَرِيضَة دَرَجَة وَاحِدَة فانقسم المَال من ثَلَاثَة عشر نقص من كل جُزْء جُزْء من ثَلَاثَة عشر على قِيَاس مَا تقدم فِي الْفَرِيضَة العائلة إِلَى سَبْعَة فَإِنَّهُ نقص من كل جُزْء جُزْء من سبعه وَهُوَ السَّبع
برهَان ذَلِك بِالضَّرْبِ فَإنَّك إِذا ضربت سَبْعَة فِي سِتَّة بِاثْنَيْنِ وَأَرْبَعين وجدت سدسها سَبْعَة وسبعها سِتَّة وَكَذَلِكَ إِن ضربت ثَمَانِيَة فِي سِتَّة بِثمَانِيَة وَأَرْبَعين وجدت ثمنهَا سِتَّة وسدسها ثَمَانِيَة
(1/124)
وَكَذَلِكَ إِن ضربت تِسْعَة فِي سِتَّة وبأربعة وَخمسين وجدت تسعها سِتَّة وسدسها تِسْعَة وَكَذَلِكَ إِن ضربت عشرَة فِي سِتَّة بستين فتجد عشرهَا سِتَّة وسدسها عشرَة على حسب مَا ينقص من الْأَجْزَاء الْكِبَار يزِيد فِي عدَّة الْأَجْزَاء الصغار
ثمَّ نرْجِع إِلَى فَرِيضَة الاثْنَي عشر وعولها خَمْسَة عشر وَذَلِكَ بِأَن يجْتَمع أختَان وَزَوْجَة وَأم وَأَخ لأم فللأختين ثَمَانِيَة وَهُوَ الثُّلُثَانِ وللزوجة ثَلَاثَة وهوالربع وَللْأُمّ اثْنَان وللأخ للْأُم اثْنَان وَالْفَرِيضَة من اثْنَي عشر وَقد زَاد فِيهَا أَرْبَعَة أَجزَاء وَلم تعل إِلَّا ثَلَاث دَرَجَات وَذَلِكَ من أجل مَا تقدم ذكره وَهُوَ أَن الْجُزْء الَّذِي كَانَ بَقِي للعاصب قد دخل فِي سهم الْأُم أَو الْأَخ للْأُم فَيبقى ثَلَاثَة أَجزَاء إِلَى اثْنَي عشر عالت إِلَى خَمْسَة عشر نقص من كل جُزْء من الْأَجْزَاء خمس وَذَلِكَ خَمْسَة عشر جُزْءا بِثَلَاثَة خسمات خمس كل وَاحِدَة وَاحِد فَاجْتمع الْجَبْر لتِلْك الْأَجْزَاء ثَلَاثَة توام إِلَى اثْنَي عشر فانقسم المَال من خَمْسَة عشر
وَأما عولها إِلَى سَبْعَة عشر فاجتماع أُخْتَيْنِ وَزَوْجَة وَأم وإخوة لأم للأختين ثَمَانِيَة أَجزَاء من اثْنَي عشر وَلها الْآن ثَمَانِيَة من سَبْعَة عشر وللأخوة للْأُم أَرْبَعَة من اثْنَي عشر وَلَهُم الْآن أَرْبَعَة من سَبْعَة عشر وَكَذَلِكَ الزَّوْجَة لَهُ الْآن ثَلَاثَة من سَبْعَة عشر وَكَذَلِكَ الْأُم لَهَا الْآن اثْنَان من سَبْعَة عشر عالت الْفَرِيضَة خمس
(1/125)
دَرَجَات والأجزاء الزَّائِدَة سِتَّة من أجل مَا ذَكرْنَاهُ وَهُوَ أَن الْجُزْء الَّذِي كَانَ للعاصب قد أَخذه هَؤُلَاءِ الَّذين عالت الْفَرِيضَة من أَجلهم فَلم يطالبوا أهل السِّهَام إِلَّا بالخمسة وَخَمْسَة إِلَى اثْنَي عشر سَبْعَة عشر والناقص من كل جُزْء من أجزائهم خَمْسَة من سَبْعَة عشر جُزْءا
وَلَو كَانَ لِلزَّوْجَاتِ أَرْبعا لاحتجت أَن تضرب أَرْبَعَة فِي سَبْعَة عشر وَذَلِكَ ثَمَانِيَة وَسِتُّونَ فَيكون الزَّوْجَات من هَذَا اثْنَا عشر فَتَصِح قسمته عَلَيْهِنَّ
وَلَو كَانَت الْأَخَوَات ثَلَاثَة لضربتها فِي أصل الْفَرِيضَة وَذَلِكَ وَاحِد وَخَمْسُونَ فَيكون للأخوات أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ فتقسم عَلَيْهِنَّ ثَمَانِيَة ثَمَانِيَة
وَلَو كَانَ الْأَخَوَات أَرْبعا لم تحتج أَن تضرب عددهن فِي أصل الْفَرِيضَة لِأَن ثَمَانِيَة منقسمة عَلَيْهِنَّ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَكَذَلِكَ وَكن ثمانيا لم تحتج إِلَى الضَّرْب كَمَا تقدم فِي الْأُصُول
وَأما الْفَرِيضَة المنبرية الَّتِي أفتى فِيهَا عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ على الْمِنْبَر وَهِي زَوْجَة مَعَ أبوين وبنتين فقد تقدم ذكرهَا وَسبب عولها إِلَى ثَلَاث دَرَجَات وَالْحَمْد لله
(1/126)
فصل
فِي مِيرَاث الْجد
وَله إِحْدَى عشرَة صُورَة تخْتَلف أَحْوَاله فِي الْمِيرَاث على حسب ذَلِك الصُّور مَعَ عدم الْإِخْوَة أَربع وَمَعَ الْإِخْوَة سبع
أما أَحْوَاله مَعَ عدم الْإِخْوَة فحاله لَا يَرث فِيهَا شَيْئا وَحَالَة يَرث فِيهَا الْكل وَحَالَة يفْرض لَهُ فِيهَا السُّدس فَقَط وَحَالَة يفْرض لَهُ اليدي وَيُزَاد عَلَيْهِ بِالتَّعْصِيبِ
أما الْحَالة الأولى فَمَعَ أبي الْمَيِّت لَا يَرث شَيْئا وَمَعَ انْفِرَاده يَرث الْكل وَمَعَ الابْن يَرث السُّدس فَرِيضَة وَمَعَ زوج وَأم كَذَلِك وَمَعَ زَوْجَة وَأم يَرث السُّدس ويزداد عَلَيْهِ لِأَن للْأُم الثُّلُث فَهَذِهِ سَبْعَة من اثْنَي عشر وَله السُّدس فَهَذِهِ تِسْعَة من اثْنَي عشر وَيَأْخُذ الْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ
وَأما اخْتِلَاف أَحْوَاله مَعَ الْإِخْوَة فعلى سبع صور كَمَا تقدم
الصُّورَة الأولى أُخْت لايرث الْمَيِّت أَخ غَيرهَا وجد فلهَا الثُّلُث وللجد الثُّلُثَانِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْأَخ الذّكر
الصُّورَة الثَّانِيَة أَن يكون لَهَا هِيَ النّصْف وَله الخمسان وَذَلِكَ
(1/127)
بِأَن تكون شَقِيقَة الْمَيِّت وللميت أَخ لأَب والأخوة الأشقاء يعادون الْجد بالإخوة للْأَب فيمنعونه بهم كَثْرَة الْمِيرَاث فَإِن عَادَتْ الْأُخْت الْجد بالأخ للْأَب فللجد خمسان أَرْبَعَة من عشر وللأخ للْأَب خمسان وَللْأُخْت خمس ثمَّ تُعْطى الْأُخْت ثَلَاثَة أَجزَاء تَتِمَّة النّصْف فَيكون لَهَا خَمْسَة من عشرَة وَيكون للْجدّ أَرْبَعَة من عشرَة وَيكون للْأَخ للْأَب جُزْء وَاحِد من عشرَة فَعِنْدَ ذَلِك يَقُول الْأَخ للْأَب أخذت أُخْتِي خَمْسَة وَأخذت أَنا وَاحِدًا لَا أَنا حجبت وَلَا أَنا ورثت فَيُقَال لَهُ لَو كَانَت مَعهَا أُخْت أُخْرَى مَا ورثت شَيْئا لِأَنَّهُمَا يعادان الْجد بك فتمنعانه كَثْرَة الْمِيرَاث إِلَّا أَنه لاينقص من الثُّلُث فالقسمة إِذا من سِتَّة للْجدّ الثُّلُث اثْنَان وللأخ للْأَب اثْنَان وللأختين اثْنَان بَينهمَا ثمَّ يكمل لَهما الثُّلُثَانِ من نصيب الْأَخ للْأَب فَلَا يبْقى لَهُ شَيْء
وَلَو عدم الْأَخ للْأَب فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَكَانَ للْجدّ النّصْف وللأختين بَينهمَا النّصْف
وَلَو كَانَ مَعَ الْأَخ للْأَب أُخْت لَكَانَ وَجه الْقِسْمَة فِيهَا أَن للْجدّ الثُّلُث وللأخ مَعَ أُخْته الثُّلُث وَالسُّدُس وَذَلِكَ ثَلَاثَة وللشقيقة سدس وَذَلِكَ وَاحِد من سِتَّة ثمَّ يكمل لَهَا نصفهَا مِمَّا يبد الْأَخ وَالْأُخْت فَيكون لَهَا ثَلَاثَة وَيبقى السُّدس للْأَخ مَعَ الْأُخْت للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَنْقَسِم إِلَّا بِأَن تضرب ثَلَاثَة فِي سِتَّة بِثمَانِيَة
(1/128)
عشر للْجدّ سِتَّة وَللْأُخْت الشَّقِيقَة تِسْعَة وَتبقى ثَلَاثَة للْأَخ مَعَ أُخْته للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ
فَلَو كَانَ الْإِخْوَة للْأَب اثْنَيْنِ ذكرين لعادت الشَّقِيقَة الْجد بهما أَيْضا فَيكون للْجدّ الثُّلُث وَللْأُخْت النّصْف وَيبقى اثْنَان وَهُوَ السُّدس بَين الْأَخَوَيْنِ
وَلَو كَانُوا ثَلَاثَة لضربنا ثَلَاثَة فِي سِتَّة بِثمَانِيَة عشر للْأُخْت النّصْف وَهُوَ تِسْعَة وللجد الثُّلُث وَهُوَ سِتَّة وَتبقى ثَلَاثَة بَينهم وَاحِدًا وَاحِدًا
وَلَو كَانُوا أَرْبَعَة لضربنا أَرْبَعَة فِي سِتَّة بأَرْبعَة وَعشْرين للْجدّ الثُّلُث وَهُوَ ثَمَانِيَة وَللْأُخْت النّصْف اثْنَا عشر وَتبقى أَرْبَعَة بَينهم وَاحِدًا وَاحِدًا
وَلَو كَانُوا خَمْسَة لضربنا خَمْسَة فِي سِتَّة بِثَلَاثِينَ للْجدّ الثُّلُث وَللْأُخْت النّصْف وَتبقى خَمْسَة بَينهم هَكَذَا على الْقيَاس الْمَذْكُور إِلَّا أَن يكون فِي عَددهمْ جُزْء مُوَافق للأجزاء الَّتِي هِيَ الكسور فنضربها فِي أصل الْعدَد على مَا تقدم
الصُّورَة الثَّالِثَة من مسَائِل الْأُخْت وَذَلِكَ أُخْت وجد وَزوج وَأم وإخوة لأم يحجبهم الْجد فَلَا يَرِثُونَ مَعَه شَيْئا وَلَكنَّا يَأْخُذ ثلثهم يَقُول لم آخذ شَيْئا لِأَنِّي لَو لم أكن لأخذ الثُّلُث هَؤُلَاءِ فَإِنَّمَا أخذت مَا كَانَ لَهُم فَلهُ من المَال على هَذَا الأَصْل الثُّلُث
(1/129)
وَلَيْسَ للْأُخْت شَيْء وَلَا للذّكر عَن كَانَ مَعهَا
الصُّورَة الرَّابِعَة للْجدّ مَعَ الْأُخْت إِذا كَانَ مَعهَا وَرَثَة وَهِي الْفَرِيضَة الأكدرية ييكون لَهُ فِيهَا ثلث إِلَّا تسع ثلث وَهِي ثَمَانِيَة من سَبْعَة وَعشْرين وَيكون لَهَا هِيَ سدس إِلَّا تسع سدس وَذَلِكَ أَرْبَعَة من سَبْعَة وَعشْرين
وَالْمَسْأَلَة زوج وَأم وَأُخْت وجد
أصل الْفَرِيضَة من سِتَّة للزَّوْج النّصْف وَللْأُمّ الثُّلُث فَهَذِهِ خَمْسَة من سِتَّة وللجد السُّدس وَللْأُخْت ثَلَاثَة تعول الْفَرِيضَة إِلَى تِسْعَة ثمَّ تجمع سدس الْجد إِلَى نصف الْأُخْت فَيكون أَرْبَعَة فتقسم بَينهمَا للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَنْقَسِم إِلَّا بِكَسْر وَذَلِكَ الْكسر ثلث فَتضْرب ثَلَاثَة فِي تِسْعَة بسبعة وَعشْرين وَيكون للزَّوْج تِسْعَة وَيكون للْأُم سِتَّة فَذَلِك خَمْسَة عشر فَيبقى اثْنَا عشر للْجدّ مِنْهَا الثُّلُثَانِ وَللْأُخْت الثُّلُث
وَسميت هَذِه الأكدرية لِأَن عبد الْملك بن مَرْوَان سَأَلَ عَنْهَا رجلا فرضيا اسْمه أكدر فَأَخْطَأَ فِيهَا وَقيل أَيْضا سميت بذلك لِأَن مَذْهَب زيد بن ثَابت تكدر فِيهَا فَلَيْسَتْ على قِيَاس أصلهم
(1/130)
وَقد كَانَ بعض السّلف يحلف أَن زيدا مَا قَالَهَا قطّ مِنْهُم عَامر الشّعبِيّ رَحمَه الله روى ذَلِك عَن قبيصَة بن ذُؤَيْب وَلَكِن أَصْحَاب زيد قاسوها على بعض أَقْوَاله وَمَالك يَقُول بهَا وَأكْثر الْفُقَهَاء
وَأما قِيَاس زيد ومؤدى أَصله أَن الْأُخْت تسْقط لِأَنَّهَا عاصبة مَعَ الْجد كَمَا هِيَ عاصبة مَعَ ذُكُور الْإِخْوَة وَقد جعل زيد الْجد بممنزلة أَخ من الْإِخْوَة يقاسمهم للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ إِلَّا أَن يكثروا فَلَا ينتقص من الثُّلُث وَإِذا كَانَ كَذَلِك وَأخذ السُّدس فِي هَذِه الْفَرِيضَة بِالْفَرْضِ لم يبْق للْأُخْت شَيْء وَالله أعلم
فَهَذِهِ أَربع صور للْجدّ مَعَ الْأُخْت الْوَاحِدَة وَله مَعَ الْأَخ الذّكر ثَلَاث صور
الصُّورَة الأولى أَن يكون لَهُ النّصْف وللأخ النّصْف لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَة أَخَوَيْنِ فِي قَول زيد بن ثَابت
الصُّورَة الثَّانِيَة أَن يكون للْمَيت أم وَزَوْجَة وأخوة لأم
(1/131)
فيحوز الْجد مِيرَاث الْأُخوة للْأُم وَيبقى للْجدّ الرّبع أَو لإخوة إِن كَانُوا مَعَه وَقد تقدم هَذَا الْمَعْنى فِي مَسْأَلَة الْأُخْت
الصُّورَة الثَّالِثَة جد مَعَ أَخ يَأْخُذ الْأَخ الثُّلثَيْنِ وَالْجد الثُّلُث وَذَلِكَ أَن يكون مَعَ الْأَخ الشَّقِيق أَخ لأَب فيعاد الْجد بِهِ وَتَكون الْقِسْمَة من ثَلَاثَة للْجدّ الثُّلُث بالمقاسمة وللأخ للْأَب الثُّلُث بالمعادة ثمَّ يَأْخُذ الْأَخ الشَّقِيق نصيب الْأَخ للْأَب لِأَنَّهُ يَحْجُبهُ وَهَذَا قَول زيد بن ثَابت فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ فقد صَار للْأَخ الثُّلُثَانِ وللجد الثُّلُث على هَذَا الْقيَاس وَقد قدمنَا ذكره
وَأما إِذا اجْتمع إخْوَة ذُكُور وإناث فحالة مَعَهم الْمُقَاسَمَة للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِن كَانَ مَعَهم أهل فَرِيضَة فَإِنَّهُ يبْدَأ بِمَنْزِلَة فرض مُسَمّى فِي كتاب الله ثمَّ يكون للْجدّ الْخِيَار فِي أحد ثَلَاثَة أوجه
إِمَّا أَن يقاسم الْإِخْوَة للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِمَّا أَن يُعْطي ثلث مَا بَقِي وَإِمَّا أَن يفْرض لَهُ السُّدس من رَأس المَال أَي ذَلِك كَانَ أرجح لَهُ أعْطى لَهُ
(1/132)
مِثَال الأول أَن يتْرك الْمَيِّت زَوْجَة وأختا وَاحِدَة والمقاسمة هُنَا أرجح لِأَنَّهُ يصير لَهُ الثُّلُثَانِ مِمَّا بَقِي وَكَذَلِكَ مَعَ الْأَخ الذّكر يكون لَهُ نصف مَا يبْقى وَذَلِكَ تِسْعَة من أَرْبَعَة وَعشْرين وَلَو أَخذ ثلث مَا يبْقى لَكَانَ لَهُ سِتَّة من أَرْبَعَة وَعشْرين
مِثَال الْوَجْه الثَّانِي أَن يكون الْوَارِث زوجا وأخا وَأما وجدا فالسدس من رَأس المَال أرجح لَهُ هُنَا من الْمُقَاسَمَة وَمن ثلث مَا يبْقى لِأَن أصل الْفَرِيضَة من اثْنَي عشر وتنقسم من سِتَّة وَثَلَاثِينَ للزَّوْج النّصْف وَللْأُمّ الثُّلُث ذَلِك ثَلَاثُونَ بَينهمَا فَلَو قَاسم الْأَخ لَكَانَ لَهُ نصف سدس وَلَو أَخذ مَا يبْقى لَكَانَ لَهُ السُّدس فَكَانَ السُّدس من رَأس المَال خيرا لَهُ وَلم يبْق للإخوة شَيْء
فَإِن كَانَ زوج وَأَخَوَانِ كَانَ للزَّوْج النّصْف وَكَانَت مقاسمته للإخوة فِي معنى فرض السُّدس لَهُ وَفِي معنى ثلث مَا يبْقى لِأَنَّهُ إِنَّمَا لَهُ سِتَّة من سِتَّة وَثَلَاثِينَ فاستوت الْوُجُوه كلهَا فِي الْمَعْنى
وَلَو كَانَت أم وَأَخَوَانِ وجد للْأُم السُّدس وَهُوَ اثْنَان من اثْنَي عشر وَسِتَّة من سِتَّة وَثَلَاثِينَ فالمقاسمة هُنَا فِي معنى ثلث مَا يبْقى لِأَن الْبَاقِي ثَلَاثُونَ فَإِن قاسمهم فَلهُ عشرَة وَإِن أَخذ الثُّلُث من الْبَاقِي فَلهُ عشرَة
وَإِن كَانُوا أَرْبَعَة إخْوَة وَأما فللأم السُّدس وللجد ثلث مَا
(1/133)
يبْقى وَهُوَ أرجح لَهُ من الْمُقَاسَمَة وَمن السُّدس فَرِيضَة لِأَن الْبَاقِي من السُّدس ثَلَاثُونَ فَيكون للْجدّ عشرَة وَلَو قاسمهم لَكَانَ لَهُ سِتَّة وَكَذَلِكَ لَو فرض لَهُ السُّدس فَرِيضَة فعلى هَذَا فقس مَا يطْرَأ عَلَيْك من مسَائِل الْجد مَسْأَلَة فِي الزَّوْجَة الَّتِي تَرث جَمِيع مَال زَوجهَا وَلها مِنْهُ ابْن
امْرَأَة مَاتَ زَوجهَا وَلها مِنْهُ ابْن فورثت بِهِ جَمِيع مَال الزَّوْج وَلم يَرث ابْنهَا من مَال أَبِيه شَيْئا فَيَقُول الْوَلَد مَا بالي لم أرث أبي وَأخذت أُمِّي جَمِيع مَاله دوني فَالْجَوَاب أَن يُقَال عَن الْوَلَد كَانَ عبدا وَعَن الْأَب كَانَ معتقا للْأُم أَعتَقته ثمَّ تزوجته فورثته بِالْفَرْضِ وبالولاء فأحاطت بميراثه دون الْوَلَد مَسْأَلَة غَرِيبَة من مسَائِل الْأَخ الشَّقِيق مَعَ الْأَخ للْأُم
أَخَوان شقيقان أَبوهُمَا وَاحِد وأمهما وَاحِدَة كَانَ لَهما أَخ لأم
(1/134)
فَمَاتَ أحد الشقيقين فورث مِنْهُ أخوة لأمه وَأَبِيهِ السُّدس وَورث الْأَخ للْأُم سَائِر المَال وَهَذَا بعكس الْأُصُول عَلَيْهَا
الْجَواب أَن أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأمه كَانَ غير مُلْحق بِالْأَبِ من أجل أَن الْأَب قد كَانَ وَقع على الْأُم قبل النِّكَاح واعترف بذلك فحد ثمَّ تزَوجهَا فَجَاءَت مِنْهُ بِولد خَمْسَة أشهر فَلم يلْحق بِهِ وَلَو جَاءَت بِهِ بعد ذَلِك لألحق بِهِ فَالْأول لَا يَرث الثَّانِي إِلَّا بِالْأُمِّ فَلهُ السُّدس وَالْأَخ الثَّالِث كَانَ أَبوهُ عَم الْهَالِك فورثه بِالْأُمِّ وبالتعصيب فَكَانَ لَهُ جَمِيع المَال إِلَّا السُّدس الَّذِي أَخذه الآخر مَسْأَلَة فِي امْرَأَة ورثت أَزْوَاجًا ثَلَاثَة إخْوَة فِي نَهَار وَاحِد
امْرَأَة ورثت زَوجهَا أول النَّهَار وورثت زوجا آخر وسط النَّهَار فورثت الرّبع وورثت زوجا آخر آخر النَّهَار وَجَمِيع الْأزْوَاج إخْوَة والأخوان ختنان لَهَا فَتَقول ورثت زَوجي أَنا وختناي وختناي هم أزواجي فَكل زوج لي فَهُوَ ختني وكل ختن لي فَهُوَ زوج لي إِلَّا أَن الْوَاحِد مِنْهُم تَرثه ويرثني والاثنان ترثهما وَلَا يرثاني
وَالْجَوَاب أَن الزَّوْج الأول كَانَ طَلقهَا وَهُوَ مَرِيض وَكَانَت
(1/135)
حَامِلا مِنْهُ فَوضعت جَنِينا لحينها فَمَاتَ الْجَنِين فَانْقَطَعت عَنهُ بأثر الطَّلَاق فَتَزَوجهَا أَخُو الزَّوْج الْمَرِيض ثمَّ مرض فَطلقهَا قبل الدُّخُول فَلم يكن عَلَيْهَا عدَّة وَطَلَاق الْمَرِيض لَا يمْنَع الْمِيرَاث فَتَزَوجهَا الْأَخ الثَّالِث ثمَّ مَاتَ الأول من مَرضه ذَلِك فورثته هِيَ وأخواه ثمَّ مَاتَ الثَّانِي من مَرضه أَيْضا فورثته هِيَ وَأَخُوهُ ثمَّ مَاتَ الزَّوْج الثَّالِث فورثته
وعَلى هَذَا مَذْهَب مَالك رَحمَه الله فَإِنَّهُ يرى أَن الْمُطلقَة فِي الْمَرَض تَرث وَلَو بعد أَزوَاج وَمن الْعلمَاء من يَقُول تَرثه مالم تتَزَوَّج وَمِنْهُم من يَقُول مَا لم تنقض عدتهَا وَأهل الظَّاهِر يَقُولُونَ لَا تَرثه بِحَال كَمَا لَا يَرِثهَا
(1/136)
بَاب الْأَسْبَاب الْمَانِعَة من الْمِيرَاث
وَهِي سِتَّة الْخَمْسَة مِنْهَا فِي زَمَاننَا هَذَا وَالسَّادِس قد انْقَطع بِمَوْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي النبوءة قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقتسم ورثتي دِينَارا مَا تركت بعد نَفَقَة نسَائِي وَمؤنَة عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَة وَقَالَ إِنَّا معاشر الْأَنْبِيَاء لَا نورث مَا تركنَا صَدَقَة وَقَالَ فِي حَدِيث أبي الدَّرْدَاء عَنهُ إِن الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء لم يورثوا دِينَارا وَلَا درهما وَإِنَّمَا ورثوا الْعلم فَمن أَخذه فقد أَخذه بحظه وَأما قَوْله عز وَجل {وَورث سُلَيْمَان دَاوُد} وَقَول زَكَرِيَّا يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب فَمَحْمُول عِنْد أهل التَّأْوِيل
(1/137)
على وراثة النبوءة والمحمود إِلَّا من شَذَّ مِنْهُم وَقَالَ يَعْنِي المَال
فَهَذَا سَبَب وَاحِد من الْأَسْبَاب الْمَانِعَة من الْمِيرَاث وَقد انْقَطع وارتفع فَلَا يعود أبدا
وَأما الْأَسْبَاب الْخَمْسَة فالجهالة بِوَقْت موت المتوارثين إِذا مَاتَا فِي ملحمة أَو تَحت هدم أَو نَحْو ذَلِك فَلَا يَرث أَحدهمَا الآخر فِي قَول مَالك وَأكْثر الْعلمَاء وَمِنْهُم من ورث على اجْتِهَاد وَصُورَة لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكرهَا لأَنا لم نتعرض لِاسْتِيفَاء الْأَقْوَال وتفصيل الْمذَاهب وَقد جرت فِي هَذِه الْمَسْأَلَة سنة فِي عهد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُول عَنْهَا وَهِي أَن أم كُلْثُوم بنت فَاطِمَة الزهراءرضي الله عَنْهَا كَانَت تَحت عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ تزَوجهَا وَهِي صَغِيرَة فَولدت لَهُ زيد بن عمر وَهُوَ زيد الْأَكْبَر ورقية بنت عمر وَكَانَت وفاتها ووفاة ابْنهَا فِي سَاعَة وَاحِدَة وَكَانَ سَبَب مَوته سَهْما أَصَابَهُ لَيْلًا فِي ثائرة وَقعت بَين عدي وَبني حُذَيْفَة وَكَانَ خرج ليصلح بَينهم وَفِي ذَلِك يَقُول الشَّاعِر
(1/138)
وشؤم بني حُذَيْفَة أَن فيهم مَعًا نكدا وشؤم بني مُطِيع
يَعْنِي أَبَا جهم بن حُذَيْفَة فَكَانَت فِي زيد هَذَا وَفِي أمه أم كُلْثُوم بنت عَليّ سنتَانِ إِحْدَاهمَا أَنه لم يُورث أَحدهمَا من الآخر إِذْ لم يعرف من مَاتَ مِنْهُمَا قبل وَالثَّانيَِة أَنه صلي عَلَيْهِمَا فَقدم زيد مِمَّا يَلِي الإِمَام وَهِي السّنة عِنْد أَكثر الْعلمَاء
السَّبَب الثَّانِي من الْخَمْسَة الْكفْر مَانع من الْمِيرَاث لِأَنَّهُ لَا ولَايَة بَين كَافِر وَمُؤمن لِأَن الْكَافِر قد قطع مَا بَينه وَبَين الله فَانْقَطع مَا بَينه وَبَين أَوْلِيَاء الله وهم الْمُؤْمِنُونَ قَالَ الله تَعَالَى {ذَلِك بِأَن الله مولى الَّذين آمنُوا وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {قد كَانَت لكم أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا بُرَآء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله} الْآيَة وَقَالَ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة} وَلَا أخوة وَلَا مُوالَاة بَين كَافِر وَمُسلم وَأَيْضًا فَإِن الْكفْر أَبَاحَ دَمه للْمُسلمين وَالْمَال تبع للنَّفس فَكَمَا أُبِيح دَمه لجَمِيع الْمُسلمين فَكَذَلِك مَاله لبيت مَالهم وَلَيْسَ بَعضهم أولى بِهِ من بعض لأَنهم يَد على من سواهُم أَلا ترى إِلَى قَوْله سُبْحَانَهُ لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {إِن شانئك هُوَ الأبتر} يَعْنِي
(1/139)
العَاصِي بن وَائِل السَّهْمِي وَكَانَ قد وصف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالبتر وَهُوَ عدم الْوَلَد وَانْقِطَاع النَّسْل وَالتَّابِع لِأَن البتر هُوَ انْقِطَاع التَّابِع فَإِذا لم يكن للْإنْسَان ولد يتبعهُ فَكَأَنَّهُ أَبتر فَلَمَّا عير العَاصِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا رد الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ مقَالَته فَقَالَ {إِن شانئك هُوَ الأبتر} أَي مبغضك فتضمن هَذَا الْكَلَام نفيا وإثباتا نفى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه الصّفة بقوله {إِن شانئك هُوَ الأبتر} وَهُوَ فِي هَذَا الْموضع يُعْطي اخْتِصَاص الصّفة بِالْوَاحِدِ ونفيها عَن الآخر وَكَذَلِكَ قَالَ الْجِرْجَانِيّ وَغَيره فِي هَذِه الْكَلِمَة هُوَ إِذا وَقعت فِي الْكَلَام بَين المتبدأ وَالْخَبَر إِنَّمَا تُعْطِي الِاخْتِصَاص وَإِذا ثَبت هَذَا فالعاصي بن وَائِل قد كَانَ لَهُ ولدان هِشَام وَعَمْرو فَكيف أثبت لَهُ البتر وَهُوَ ذُو ولد مَا ذَلِك إِلَّا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ أَبُو الْمُؤمنِينَ وأزواجه أمهاتهم وَكَانَ أبي يقْرؤهَا وَهُوَ أَب لَهُم وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام ابْنا العَاصِي مُؤْمِنَانِ وَقَالَ أسلم النَّاس وآمن عَمْرو يَعْنِي عَمْرو بن العَاصِي وَالنَّبِيّ أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم فَصَارَ عَمْرو وَهِشَام تبعا للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَانْقطع ذَنْب العَاصِي مِنْهُمَا فَصَارَ هُوَ الأبتر على الْحَقِيقَة كَمَا وَصفه الله تَعَالَى وَصَارَ بنوه الَّذين يكاثر بهم أعداءه مِمَّن يكاثر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهم الْأَنْبِيَاء يَوْم الْقِيَامَة وهم أمته أَلا ترى أَنه قَالَ إِنِّي مُكَاثِر بكم الْأُمَم أَلا ترَاهُ كَيفَ بَدَأَ الله السُّورَة بقوله {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر}
(1/140)
أَي لَا قلَّة وَلَا ذلة عَلَيْك وَإِنَّمَا القل وَابْن القل شانئك الأبتر والكوثر الَّذِي أعطَاهُ الله كَثْرَة من أتبعه فِي الدُّنْيَا من أمته فروى فروى غليلهم وعطشهم الْعلم وَالْحكمَة فهم أَتْبَاعه فِي الدُّنْيَا وهم أَتْبَاعه فِي الْآخِرَة حَتَّى يروي غليلهم وعطشهم كوثر الَّذِي آنيته عدد نُجُوم السَّمَاء فَذَلِك الْكَوْثَر فِي مُقَابلَة هَذَا الْكَوْثَر هُوَ كَثْرَة الأتباع لَهُ وَلذَلِك أمره الله أَن يُقَابل هَذِه النِّعْمَة الَّتِي هِيَ فِي الدُّنْيَا سَبَب من أَسبَاب الْعجب وداعية إِلَى الْفَخر وَالْكبر أمره أَن يقابلها بالتواضع لرَبه والقربان لبيته وَأَن ينْحَر أنفس أَمْوَاله وينسك لمَوْلَاهُ فَقَالَ {فصل لِرَبِّك وانحر} لِأَن الصَّلَاة قصد على الْبَيْت بِالْقَلْبِ وَالْوَجْه والنحر قرْبَان ونسك للبيت بَيت الله وَيَوْم النَّحْر يظْهر فِيهِ كَثْرَة مَا فتح الله عَلَيْهِ وَتظهر كَثْرَة الأتباع لَهُ والمقتدين بسنته فِي كل بلد فقوبل معنى الْكَوْثَر بالنحر فِي يَوْم النَّحْر بعد الصَّلَاة لله فَلَا ذبح وَلَا نحر إِلَّا بعد الصَّلَاة لله والتوجه إِلَيْهِ وَلذَلِك قيل لَهُ {إِن صَلَاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب الْعَالمين لَا شريك لَهُ}
(1/141)
والنسك هُوَ النَّحْر فَإِذا كَانَ بِموضع النَّحْر والنسك نحر وَقصد الْبَيْت وَحج بِالْفِعْلِ وَإِذا كَانَ فِي بَلَده ومسجده أَشَارَ إِلَى بَيت الله بالتوجه وَإِلَى النّسك بِرَفْع الْيَدَيْنِ إِلَى جِهَة النَّحْر لقَوْله تَعَالَى {إِن صَلَاتي ونسكي} فقرن بَينهمَا كَمَا قرن بَينهمَا فِي سُورَة الْكَوْثَر
وَمن امتثاله عَلَيْهِ السَّلَام لأمر ربه فِي هَذِه السُّورَة مَا فعل يَوْم الْفَتْح حِين نظر إِلَى كَثْرَة أَتْبَاعه وَهُوَ على الرَّاحِلَة فطأطأ نَفسه خاضعا لرَبه حَتَّى لصق عثنونه بِعُود الرحل ممتثلا لقَوْل الله سُبْحَانَهُ {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر فصل لِرَبِّك وانحر} وَمعنى الصَّلَاة فِي اللُّغَة الانحناء والانعطاف تواضعا لِأَنَّهُمَا من الصلوين يُقَال صلى فلَان إِذا حنا صلاه أَي صلبه
فَهَذَا الْكَلَام الَّذِي أوردناه هُنَا هُوَ فِي معنى مَا كُنَّا بصدده من انْقِطَاع الْعصبَة وَانْتِفَاء الْحُرْمَة بَين الْكَافِر وَالْمُسلم حَتَّى لَا يكون وَارِثا لَهُ كَمَا أَنه لَيْسَ بِابْن لَهُ وَلَا تَابعا من أَتْبَاعه بل هُوَ متبرئ مِنْهُ ومفارق لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَهُوَ الْفِرَاق الْأَعْظَم قَالَ الله سُبْحَانَهُ {يَوْمئِذٍ يتفرقون}
(1/142)
وَقَالَ {فَلَا أَنْسَاب بَينهم يَوْمئِذٍ وَلَا يتساءلون}
الْمَانِع الثَّالِث من الْمِيرَاث الرّقّ وَهُوَ من أثر الْكفْر وَالْكفْر هُوَ سَببه وَذَلِكَ أَن الله سُبْحَانَهُ لما أباحج الدَّم وَالْمَال والسباء بالْكفْر جعل بَقَاء الرّقّ إِن أسلم العَبْد تذكرة وعبرة بِمَا تزل إِلَيْهِ الْمعْصِيَة فَإِن العبيد إِخْوَاننَا وأبونا وَاحِد وَهُوَ آدم وَلم يكن لنا أَن نسترقهم وَلَكِن أَبَاحَ الْكفْر استرقاقهم ثمَّ تقبل اله تَوْبَتهمْ وَإِيمَانهمْ فِي الْآخِرَة وَأبقى الرّقّ فيهم موعظة وذكرى كَمَا فعل حِين أهبط آدم إِلَى الأَرْض بِسَبَب الْمعْصِيَة وَقد قبل تَوْبَته وَرفع مَنْزِلَته واصطفاه وفضله وَلَكِن جعل مكثه فِي الأَرْض وَمَا يَنَالهُ وَذريته فِيهَا عظة للعباد وَتَذْكِرَة بِمَا تزل إِلَيْهِ الْمعاصِي من البعاد وَقد رُوِيَ أَنه لما وجد من نَفسه ريح الْغَائِط قَالَ أَي رب مَا هَذَا فَقيل لَهُ هَذَا ريح خطيئتك وَكَانَ نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام إِذا خرج من الْخَلَاء يَقُول غفرانك التفاتا لهَذَا وتذكرا مِنْهُ لهَذِهِ العظة فَكَذَلِك الرّقّ يمْنَع من الْمِيرَاث كَمَا منع الأَصْل الَّذِي أوجبه وَهُوَ الشّرك والتبرؤ من الله تَعَالَى والانقطاع عَنهُ الْمَانِع الرَّابِع الْقَتْل فَإِذا قتل أَخَاهُ فقد قطع ولَايَته وَالْمَال تبع للنَّفس فَلَا يَرث وَهَذِه سنة للأنبياء وَقد نزلت على عهد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وقصها الله علينا فِي الْقُرْآن بقوله {وَإِذ قتلتم نفسا فادارأتم فِيهَا} وَكَانَ
(1/143)
الْقَاتِل قد قتل عَمه ليرثه فَلَمَّا أَحْيَاهُ الله وَأخْبر بذلك صَارَت سنة بَاقِيَة أَلا يَرث قَاتل من قتيله
الْمَانِع الْخَامِس الزِّنَا وَهُوَ أشبه شَيْء بقتل الْوَلَد لِأَنَّهُ يَضَعهُ فِي رحم زَانِيَة فَيقطع مَا بَينه وَبَينه فَيُقَال فِيهِ ابْن زنا وَابْن زَانِيَة وينسب إِلَى الشَّيْطَان لَا لِأَبِيهِ قَالَ الله سُبْحَانَهُ {وشاركهم فِي الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد} يَعْنِي الزَّانِي فِي قَول ابْن عَبَّاس فَلَا نسب بَينهمَا
(1/144)
وَلَا توارث وعَلى هَذَا أَشَارَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام حِين قيل لَهُ أَي الذَّنب أعظم قَالَ أَن تجْعَل لله ندا وَهُوَ خلقك ثمَّ قيل أَي قَالَ أَن تقتل ولدك ثمَّ قيل أَي قَالَ أَن تُزَانِي حَلِيلَة جَارك فقرن إِفْسَاد النُّطْفَة بِالزِّنَا مَعَ قتل الْوَلَد وَقرن الْقَتْل مَعَ الشّرك كَمَا قرنه الله عز وَجل حَيْثُ يَقُول {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون}
جعلنَا الله مِمَّن وصل مَا أمره الله بِهِ أَن يُوصل وَعمل بِمَا وعاه من الْحِكْمَة وَحصل لَا رب غَيره مَسْأَلَة تقدّمت الإشاره إِلَيْهَا فِي ذكر فَوَائِد اية الْوَصِيَّة
وَهُوَ أَن يُقَال مَا الْحِكْمَة فِي إِضَافَة النّصْف إِلَى مَا بعده من قَوْله {نصف مَا ترك أزواجكم} و {فلهَا نصف مَا ترك} وَقَالَ فِي جَمِيع الْأَجْزَاء
(1/145)
بِالْألف وَاللَّام مَعَ حرف من الَّتِي للتَّبْعِيض نَحْو قَوْله {السُّدس مِمَّا ترك} و {الرّبع مِمَّا تركن} و {الرّبع مِمَّا تركْتُم} و {الثّمن مِمَّا تركْتُم} و {الثُّلُثَانِ مِمَّا ترك} وَلم يضف شَيْئا من هَذِه الْأَجْزَاء كَمَا أضَاف النّصْف
وَالْجَوَاب أَن هَذِه كلهَا أسماؤها مُشْتَقَّة من الْعدَد فَهِيَ أَجزَاء من الْأَعْدَاد لفظا وَمعنى فَإِذا قلت لَهُ الثُّلُث من المَال فَمَعْنَى الْكَلَام وَاحِد من ثَلَاثَة وَكَذَلِكَ الرّبع وَاحِد من أَرْبَعَة وَالسُّدُس وَاحِد من سِتَّة وَكَذَلِكَ الثّمن وَاحِد من ثَمَانِيَة وَلَيْسَ النّصْف كَذَلِك لم يشتق من الِاثْنَيْنِ وَلَو اشتق من الِاثْنَيْنِ لقيل ثني بِضَم أَوله كَمَا قيل فِي سَائِر الْأَجْزَاء نَحْو الثُّلُث وَالرّبع وَإِنَّمَا اشتق النّصْف من النّصْف والتناصف أَي أَن المقتسمين قد تناصفا وأنصفا حِين سوي بَينهمَا فاشتق النّصْف من التناصف لَا من الْعدَد الَّذِي هُوَ الِاثْنَان وَبني على وزن فعل بِكَسْر أَوله لِأَنَّهُ مثل لِلنِّصْفِ الآخر فَكل وَاحِد مِنْهُمَا مثل صَاحبه وَعدل لَهُ وَشبه لَهُ فجَاء النّصْف على وزن عدل وَشبه وخدن وترب وَهَذَا الْبَاب كُله لابد من إِضَافَته إِلَى مَا يُقَابله تَقول هَذَا مثل هَذَا وَهَذَا عدل هَذَا فتضيف فَكَذَلِك أضيف النّصْف لتَضَمّنه معنى الْإِضَافَة إِلَّا أَنه لم يضف إِلَى مَا يُقَابله لِأَن لَفظه لم يُؤْخَذ إِلَّا من التناصف والإنصاف
(1/146)
وَلَيْسَ هُوَ من صفة الجزءين أَعنِي الْإِنْصَاف وَإِنَّمَا هُوَ من صفة الآخذين لَهما والمقتسمين المَال وَإِنَّمَا صفة هذَيْن الجزءين أَعنِي النصفين التَّمَاثُل والتشابه فَهُوَ يسْتَحق الْإِضَافَة من جِهَة بنيته على مَا يُقَابله وَيسْتَحق الْإِضَافَة من جِهَة لَفظه واشتقاقه إِلَى المَال الْمَقْسُوم على النّصْف بَين الِاثْنَيْنِ شَرِيكَيْنِ وَلَو أضيف إِلَى مَا يُقَابله لتوهم أَنه ربع لِأَنَّك كنت تَقول هَذَا الشّطْر هُوَ نصف هَذَا الشّطْر الآخر وَلَكِن تَقول هَذَا مثله عدله وَهُوَ نصف المَال أَي الَّذِي حصل بِهِ التناصف بَين أَصْحَاب المَال وَلذَلِك لَا نجد فِي الْفَرَائِض كلهَا فَرِيضَة يُحِيط أَصْحَابهَا بِالْمَالِ إِلَى السوَاء علا فَرِيضَة الِاثْنَيْنِ فَإِنَّهُ يصير إِلَى كل وَاحِد النّصْف وَلَا تَجِد ذَلِك فِي فَرِيضَة الثَّلَاثَة وَلَا الْأَرْبَعَة وَلَا غَيرهَا إِلَّا أَن يكون فِيهَا عاصب وَأما أَصْحَاب الْفَرِيضَة فَلَا يكون لكل وَاحِد مِنْهُم مثل مَا للآخرين أبدا إِلَّا الزَّوْج مَعَ الْأُخْت فَإِن نصفه حِين ذكر فِي الْآيَة أضيف إِلَى مَا بعده إشعارا بِأَن فِي مُقَابلَته من لَهُ مثله وَهِي الْأُخْت إِذا ورثت مَعَ الزَّوْج وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْأُخْت {فلهَا نصف مَا ترك} بِالْإِضَافَة إِذْ النّصْف الثَّانِي قد يكون للزَّوْج مَعهَا فهما متقابلان فَاسْتحقَّ النّصْف لهَذِهِ الْمُقَابلَة وَبني على وزن فعل بِكَسْر أَوله على مَا تقدم
وَانْظُر كَيفَ جَاءَ النّصْف فِي ذكر الْبِنْت مُعَرفا بِالْألف وَاللَّام غير مُضَاف إِذْ لَيْسَ فِي مقابلتها من لَهُ نصف آخر بِالْفَرْضِ وَإِنَّمَا للْأُخْت مَعهَا مَا بَقِي وَلَيْسَ لَهَا مَعهَا النّصْف فَرِيضَة وَقَالَ {النّصْف}
(1/147)
وَلم يقل مِمَّا ترك لما قدمْنَاهُ من أَنه لم يشتق من الْعدَد لَفظه كَمَا اشتق الثُّلُث وَالسُّدُس وَالرّبع حَتَّى حسن فِيهَا أَن يَقُول الثُّلُث من كَذَا وَالرّبع من كَذَا أَي الْوَاحِد من هَذَا الْعدَد إِذْ لَفظه من لفظ الْعدَد وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْأُخْتَيْنِ {فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا ترك} لِأَنَّهُ ذكر بنتين فَصَارَ معنى الْكَلَام أَن كل وَاحِدَة مِنْهُمَا لَهَا الثُّلُث مِمَّا ترك أَي الْوَاحِد من ثَلَاثَة فَكَانَ اللَّفْظ بِحرف الْجَرّ أحسن مِنْهُ بِالْإِضَافَة وَقَالَ فِي الْبَنَات {فَإِن كن نسَاء} فَذكر جمَاعَة لَهُنَّ لثلثان فَقَالَ {ثلثا مَا ترك} فَكَانَت الْإِضَافَة أحسن من أجل أَن الثُّلثَيْنِ لفظ مقسوم بَينهُنَّ جمع فَلَيْسَ لكل وَاحِدَة مِنْهُنَّ وَاحِد من ثَلَاثَة كَمَا كَانَ للأختين فِي حَال التَّثْنِيَة وَلَو ذكر الْأَخَوَات بِلَفْظ الْجمع لقَالَ فِيهِنَّ كَمَا قَالَ فِي الْبَنَات {ثلثا مَا ترك} بِالْإِضَافَة
فَافْهَم تَنْزِيل الْأَلْفَاظ فِي منازلها وَإِعْطَاء الْمعَانِي حُقُوقهَا يلح لَك سر البلاغة وَبَين لَك حَقِيقَة الإعجاز فِي هَذَا الْكَلَام المحفوف بالإعظام والإعزاز المنزه عَن شَيْئَيْنِ الإطالة وإخلال الإيجاز فَهَذَا تَكْمِلَة لما بدأنا من شرح آيَة الْوَصِيَّة وَبَيَان إعجازها والتبيين لمعانيها والتنبيه على فوائدها فَمَا كَانَ من تَفْسِير معنى فمأخوذ من مَعَاني تَفْسِير السّلف دون سِيَاقَة أَلْفَاظه وَمَا كَانَ من تَنْبِيه على إِعْرَاب يُفِيد فهما فَمن أصُول النَّحْو وَمَا كَانَ من تَنْبِيه على إِشَارَة لَطِيفَة أَو تذكرة بحكمة أَو تَبْيِين لقانون البلاغة والتعريف بجوهر الْكَلَام وتحرير اللَّفْظ فَمن الْعُلُوم الْعَرَبيَّة الَّتِي نحمد الله على مَا منح مِنْهَا ونشكره شكرا يَقْتَضِي الْمَزِيد عَنهُ منعم حميد
(1/148)
خَاتِمَة الْمُؤلف
قَالَ الْفَقِيه الْأَجَل الْمُحدث الْأَكْمَل الْأُسْتَاذ الْأَفْضَل أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن الحثمي ثمَّ السُّهيْلي رَضِي الله عَنهُ
قد أَتَيْنَا على جَمِيع مَا شرطناه فِي شرح الْآيَة وَشرح متضمنها والتنبيه على إعجازها والتدبر لصدورها وأعجازها وقصدنا بذلك أَن نوري فِي ميدان النّظر قدحا وَأَن نجيل مَعَ الخائضين فِي مراسم الشَّرِيعَة قدحا مَعَ الِاعْتِرَاف بقصر الخطو عَن ذَلِك الشأو ونكول الْحَد عَن ذَلِك الْحَد وَلَكِن رجونا من الْكَرِيم سُبْحَانَهُ أَن يَأْخُذ بضبعنا فيلحقنا بأئمة الْمُتَّقِينَ ويدخلنا فِي زمرة أهل الْيَقِين كَمَا جعلنَا مُتَعَلقين بأهدابهم ومحرضين على التَّمَسُّك بهديهم وآدابهم
(1/149)
وفاحصين عَن سيرتهم وأنبائهم ومتعرفين بأنسابهم وَأَسْمَاء آبَائِهِم ومتعلمين بلغتهم الَّتِي بهَا يَتَكَلَّمُونَ وَبهَا أنزل الْكتاب قُرْآنًا عَرَبيا لقوم يعْقلُونَ اللَّهُمَّ انفعنا بِمَا علمتنا من لُغَة نبيك الَّتِي بهَا رغبت فِي ثوابك وَبهَا حذرت من عقابك وَبهَا يبين الْمُجْمل من كتابك وبصرنا من الْجَهَالَة وأيقظنا من سنة الْغَفْلَة والبطالة إِنَّه لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بك وصل اللَّهُمَّ على نبيك ومجتباك من خلقك سيدنَا ومولانا مُحَمَّد نَبِي الرَّحْمَة وشفيع الْأمة عدد مَا ذكرك الذاكرون وغفل عَن ذكرك الغافلون وَسلم كثيرا دَائِما إِلَى يَوْم الدّين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
(1/150)
فِي هَل يعْتد بِنِكَاح لمجوس بعد الْإِسْلَام فِي الْمِيرَاث
أم لَهَا ابْنة وَابْن مَاتَ ابْنهَا فورثت مِنْهُ السُّدس فَقَالَت إِنَّمَا فَرضِي الثُّلُث لِأَن وَلَدي لم يتْرك إخْوَة إِلَّا أُخْتا وَاحِدَة فَقيل لَهَا أشقيقة هِيَ أم أُخْت لأَب فَقَالَت بل هِيَ شَقِيقَة فَقيل لَهَا فلك إِذا سدس آخر وَإِن كَانَت لَهُ خَالَة فلك نصف السُّدس وَنصف السُّدس للخالة وَلَو لم يكن لَهُ أُخْت شَقِيقَة لَكَانَ للخالة الثُّلُث وَلَك النّصْف
فَقَالَت الْأُخْت سُبْحَانَ الله كَيفَ هَذَا
فَيُقَال لَهَا نعم لِأَن أَبَاك من قد علمت
شرح هَذَا أَن الْأَب كَانَ مجوسيا فنكح ابْنَته فَولدت لَهُ جَارِيَة وَغُلَامًا ثمَّ أَسْلمُوا فَأم الْغُلَام أُخْت لَهُ لِأَن أباهما وَاحِد فحجبت نَفسهَا عَن الثُّلُث بِنَفسِهَا وبأخته إِلَى السُّدس فَكَانَ للْأُخْت النّصْف وزيدت الْأُم السُّدس على سدسها لِأَنَّهَا لَهُ أُخْت لأَب فَهَذَا السُّدس تَتِمَّة الثُّلثَيْنِ
وَلَو لم يكن لَهُ أُخْت شَقِيقَة لكَانَتْ الْخَالَة مَعَ الْأُم لَهما الثُّلُثَانِ لِأَنَّهُمَا أختَان فَيصير للْأُم النّصْف بسدسها الأول وَيبقى لِلْأُخْرَى الثُّلُث لِأَنَّهَا أُخْت لَهُ لأَب وَخَالَة
وَفِي هَذَا الأَصْل اخْتِلَاف بَين أَصْحَاب مَالك فَإِن مِنْهُم من لَا يرى نِكَاح الْمَجُوس لَهُ حكم وَلَا تَأْثِير وَبِه أَقُول (1/151)
===========
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الفرائض وشرح آيات الوصية
مُقَدّمَة الْمُؤلف
الْحَمد لله الَّذِي لَهُ مِيرَاث السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ على كل شَيْء قدير المبدئ المعيد الْغَنِيّ الحميد الَّذِي يحي وَيُمِيت وَإِلَيْهِ الْمصير وَصلى الله على مُحَمَّد نبيه البشير النذير المبتعث بِالْكتاب الْمُنِير لينذر يَوْم الْجمع لَا ريب فِيهِ فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير
وَبعد فَإِن علم الْفَرَائِض علم شرِيف قرآني لَا يشْتَغل بِهِ إِلَّا عَالم رباني قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ حِين مَاتَ زيد بن ثَابت رَحمَه الله الْيَوْم مَاتَ رباني هَذِه الْأمة لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي زيد بن ثَابت
(1/25)
وأفرضهم زيد بن ثَابت وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الْعلم ثَلَاثَة آيَة محكمَة وَسنة قَائِمَة وفريضة عادلة فَجعل علم الْفَرَائِض ثلث علم الدّين
وكال عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَيَّام كَانَ بِالشَّام يكْتب إِلَى زيد بن ثَابت وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهَا فَيبْدَأ باسمه على نَفسه لمكانه من الْعلم وَالْفِقْه فِي الدّين وَحين أشكلت عَلَيْهِ مَسْأَلَة الْجد مَشى بِنَفسِهِ إِلَى منزل زيد بن ثَابت يَسْتَفْهِمهُ عَن رَأْيه فِيهَا
(1/26)
فَانْتهى إِلَى قَوْله وَاسْتحْسن مَا سمع من قِيَاسه فِيهَا وَنَظره رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ فَإِنَّهُم اجتهدوا للْمُسلمين وتفقهوا فِي الْكتاب الْمُبين وتحروا الصدْق فِيمَا نقلوه من وَحي رب الْعَالمين حَتَّى استقامت قناة الْإِسْلَام فعلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى أَصْحَابه وَأَهله أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام
الْحِكْمَة فِي الْوَصِيَّة بالأولاد
ثمَّ إِنِّي نظرت فِيمَا بَينه الله سُبْحَانَهُ فِي كِتَابه من حَلَال وَحرَام وحدود وَأَحْكَام فَلم نجده افْتتح شَيْئا من ذَلِك بِمَا افْتتح بِهِ آيَة الْفَرَائِض وَلَا ختم شَيْئا من ذَلِك بِمَا خَتمهَا بِهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَولهَا {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} فآخبر تَعَالَى عَن نَفسه أَنه موص تَنْبِيها على حكمته فِيمَا أوصى بِهِ وعَلى عدله وَرَحمته أما حكمته فَإِنَّهُ علم سُبْحَانَهُ مَا تضمنه أمره من الْمصلحَة لِعِبَادِهِ وَمَا كَانَ فِي فعلهم قبل هَذَا الْأَمر من الْفساد حَيْثُ كَانُوا يورثون الْكِبَار وَلَا يورثون الصغار ويورثون الذُّكُور وَلَا يورثون الْإِنَاث وَيَقُولُونَ أنورث أَمْوَالنَا من لَا يركب الْفرس وَلَا يضْرب بِالسَّيْفِ ويسوق الْغنم فَلَو وَكلهمْ الله إِلَى آرائهم وتركهم مَعَ أهوائهم لمالت بهم الأهوء عِنْد الْمَوْت مَعَ بعض الْبَنِينَ دون بعض فَأدى ذَلِك إِلَى التشاجر والتباغض والجور وَقلة النصفة فَانْتزع الْوَصِيَّة مِنْهُم وردهَا على نَفسه دونهم ليرضي بِعِلْمِهِ وَحكمه وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى حِين ختم الْآيَة {وَصِيَّة من الله وَالله عليم حَلِيم}
(1/27)
وَقَالَ قبل ذَلِك {فَرِيضَة من الله إِن الله كَانَ عليما حكيما}
وَأما عدله فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ سوى بَين الذُّكُور لأَنهم سَوَاء فِي أَحْكَام الدِّيات والعقول ورجاء الْمَنْفَعَة وان صغر السن لايبطل حق الْولادَة وَلَا معنى النّسَب وان كلا مِنْهُم فلق الأكباد وشجا الحساد وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} وَلم يقل بأولادكم لِأَنَّهُ أَرَادَ الْعدْل فيهم والتحذير من الْجور عَلَيْهِم وَجَاء بِاللَّفْظِ عَاما غير مَقْصُور على الْمِيرَاث أَو غَيره وَلذَلِك قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي لَا أشهد على جور وَذَلِكَ أَيْضا قَالَه فِي هبة فضل بهَا بشير بن سعد بعض وَلَده على بعض لِأَنَّهُ رأى الله
(1/28)
تَعَالَى قد أَمر بِالْعَدْلِ فيهم أمرا غير مَقْصُور على بَاب دون بَاب وَلذَلِك رأى كثير من الْعلمَاء أَن لَا يفضل فِي الْهِبَة وَالصَّدَََقَة ابْن على بنت إِلَّا بِمَا فَضله الله بِهِ للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهُوَ قَول أَحْمد ابْن حَنْبَل
وَكَانُوا يستحبون الْعدْل فِي الْبَنِينَ حَتَّى فِي الْقبْلَة وَرَأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا قَاعِدا فجَاء طِفْل لَهُ فأقعده فِي حجره وَجَاءَت بنت لَهُ صَغِيرَة فأقعدها على الأَرْض فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أليست بولدك أَو كَمَا قَالَ قَالَ بلَى قَالَ فاعدل فيهمَا وَهَذَا كُله منتزع من قَوْله سُبْحَانَهُ {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم}
وَأما مَا تضمنته وَصيته من الرَّحْمَة إِلَى مَا ذكرنَا من الْعدْل وَالْحكمَة فَإِنَّهُ جعل للبنات حظا فِي أَمْوَال آبائهن رَحْمَة مِنْهُ لضعفهن وترغيبا فِي نِكَاحهنَّ لِأَن الْمَرْأَة تنْكح لمالها وجمالها ولدينها فَعَلَيْك بِذَات الدّين قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتَّقوا الله فِي الضعيفين يَعْنِي الْمَرْأَة واليتيم فَكَانَ من رأفته بِهن أَن قسم
(1/29)
لَهُنَّ مَعَ الذُّكُور وَكَانَ من عدله أَن جعل للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ لما يلْزم الذُّكُور من الْإِنْفَاق وَالصَّدَاق إِذا بلغُوا النِّكَاح وَلما أوجب عَلَيْهِم من الْجِهَاد للأعداء والذب عَن النِّسَاء وَجعل حظهم مثنى حَظّ الْإِنَاث كَمَا جعل حَظّ الرجل مثل حظي الْأُنْثَى فِي الشَّهَادَات والديات لِأَنَّهُنَّ ناقصات عقل وَدين للْحيض الْمَانِع لَهُنَّ فِي بعض الْأَوْقَات من الصّيام والصلوات فَجمع بَين الْعدْل وَالرَّحْمَة وَنبهَ على الْعلم وَالْحكمَة
وانتبه أَيهَا التَّالِي لكتاب الله الْمَأْمُور بتدبره كَيفَ قَالَ {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} بِلَفْظ الْأَوْلَاد دون لفظ الْأَبْنَاء لما سَنذكرُهُ من الْفرق بَينهمَا إِن شَاءَ الله
ثمَّ أضَاف الْأَوْلَاد إِلَيْهِم بقوله {أَوْلَادكُم} وَمَعْلُوم أَن الْوَلَد فلذة الكبد وَذَلِكَ مُوجب للرحمة الشَّدِيدَة فَمَعَ أَنه أضَاف الْأَوْلَاد إِلَيْهِم جعل الْوَصِيَّة لنَفسِهِ دونهم ليدل على أَنه أرأف وأرحم بالأولاد من آبَائِهِم أَلا ترى أَنه لَا يحسن أَن يَقُول العَبْد لِأَخِيهِ أوصيك فِي أولادك لِأَن أَبَا الْوَلَد أرْحم بهم فَكيف يوصيه غَيره بهم وَإِنَّمَا الْمَعْرُوف أَن يَقُول أوصيك بولدي خيرا فَلَمَّا قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} علم أَن رب الْأَوْلَاد أرْحم بالأولاد من الْوَالِدين لَهُم حَيْثُ أوصى بهم وَفِيهِمْ وَلذَلِك قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة
(1/30)
وَالسَّلَام فِي امْرَأَة رَآهَا قد أَلْقَت نَفسهَا على ابْنهَا فِي بعض الْمَغَانِم الله أرْحم بِعَبْدِهِ الْمُؤمن من هَذِه بِوَلَدِهَا وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْحمرَة الَّتِى أَخذ فراخها فَأَلْقَت نَفسهَا عَلَيْهِم حَتَّى أطبق عَلَيْهَا الكساء مَعَهم فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أتعجبون من رَحْمَة هَذِه بفراخها فَالله أرْحم بِعَبْدِهِ الْمُؤمن مِنْهَا وحسبك بقوله سُبْحَانَهُ {وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ} فالأبوان من الرَّاحِمِينَ فَالله تَعَالَى أرْحم مِنْهُمَا فَلذَلِك أوصى الاباء بأولادهم وَإِن كَانَ الْمَعْرُوف أَلا يوصى وَالِد بولده وَإِنَّمَا يُوصي الْإِنْسَان غَيره بِولد نَفسه إِذا غَابَ عَنهُ وَأما أَن يوصى وَالِد بِولد نَفسه فَغير مَعْرُوف فِي الْعَادة لِأَن للْوَلَد أَن يَقُول أَنا أرْحم بولدي مِنْك فَكيف توصيني بهم فسبحان من هُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ وَأَعْدل الْحَاكِمين
(1/31)
فصل
فِي أسرار قَوْله يُوصِيكُم الله
وَقَالَ سُبْحَانَهُ {يُوصِيكُم} بِلَفْظ الْفِعْل الدَّائِم لَا بِلَفْظ الْمَاضِي كَمَا قَالَ فِي غير آيَة نَحْو قَوْله تَعَالَى {أنزلناها وفرضناها} وَنَحْو قَوْله {فرض عَلَيْك الْقُرْآن} وَنَحْو قَوْله {ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ} وَنَحْو قَوْله {كتب عَلَيْكُم الصّيام} و {كتب عَلَيْكُم الْقِتَال} وَلم يقل هَهُنَا كَذَلِك وَإِنَّمَا قَالَ {يُوصِيكُم} وَالْحكمَة فِي ذَلِك وَالله أعلم أَن الْآيَة ناسخة للْوَصِيَّة الْمَكْتُوبَة عَلَيْهِم فِي قَوْله {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت} الْآيَة فَلَمَّا نسخ الْوَصِيَّة الْمَاضِيَة واستأنف حكما
(1/33)
آخر جَاءَ بِلَفْظ الْفِعْل المستأنف تَنْبِيها على نسخ مَا مضى والشروع فِي حكم آخر فَقَالَ {يُوصِيكُم الله}
وَجَاء بِالِاسْمِ الظَّاهِر وَلم يقل أوصيكم وَلَا نوصيكم كَمَا قَالَ {نتلوها عَلَيْك} و {نقص عَلَيْك} لِأَنَّهُ أَرَادَ تَعْظِيم هَذِه الْوَصِيَّة والترهيب من إضاعتها كَمَا قَالَ {يعظكم الله} و {ويحذركم الله نَفسه} فَمَتَى أَرَادَ تَعْظِيم الْأَمر جَاءَ بِهَذَا الِاسْم ظَاهرا لِأَنَّهُ أهيب أَسْمَائِهِ وأحقها بالتعظيم وَالله أعلم فصل
فِي سر اخْتِيَار لفظ الْوَلَد دون الابْن
وَقَالَ {فِي أَوْلَادكُم} وَلم يقل فِي أَبْنَائِكُم لِأَن لفظ الْولادَة هُوَ الَّذِي يَلِيق بِمَسْأَلَة الْمِيرَاث فَفِي تَخْصِيص هَذَا اللَّفْظ فقه وتنبيه أما الْفِقْه فَإِن الْأَبْنَاء من الرضَاعَة لَا يَرِثُونَ لأَنهم لَيْسُوا بأولاد وَكَذَلِكَ الابْن المتبنى فقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تبنى زيدا قبل النّسخ للتبني فَكَانَ يَقُول أَنا ابْن مُحَمَّد
(1/34)
وَلَا يَقُول أَنا ولد مُحَمَّد وَلذَلِك قَالَ سُبْحَانَهُ {وحلائل أَبْنَائِكُم الَّذين من أصلابكم} لِأَن الْوَلَد لَا يكون إِلَّا من صلب أَو بطن غير أَن لفظ الْأَوْلَاد يَقع على الذُّكُور وَالْإِنَاث حَقِيقَة فَلذَلِك عدل عَنهُ إِلَى لفظ الْأَبْنَاء فِي آيَة التَّحْرِيم وَأما فِي آيَة الْمَوَارِيث فجَاء بِلَفْظ الْأَوْلَاد تَنْبِيها على الْمَعْنى الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ حكم الْمِيرَاث وَهُوَ التولد فالماء حَيَاة الْبشر كَمَا أَن المَاء حَيَاة الشّجر وَلذَلِك عبر فِي الرُّؤْيَا بِالْمَاءِ عَن المَال وَهُوَ يسري من الأَصْل إِلَى الْفَرْع الْمُتَوَلد مِنْهُ أَشد من سريان المَاء من الْفَرْع إِلَى الأَصْل وَلذَلِك كَانَ سَبَب الْوَلَد فِي الْمِيرَاث أقوى من سَبَب الْوَالِد لِأَن الْوَلَد فرع متولد فاليه يسري المَال أقوى من سريانه إِلَى الْأَب وَهَذَا الْمَعْنى بِعَيْنِه مَرْوِيّ عَن زيد بن ثَابت حيت كَلمه عمر رَضِي اله عَنهُ فِي مِيرَاث الْجد مَعَ الْإِخْوَة فَضرب لَهُ الْمثل فِي الشَّجَرَة لَهَا فرعان وَفِي الْفَرْع الْوَاحِد غصنان فَإِن قطع أحد الغصنين سرت الْقُوَّة وَالْمَاء إِلَى الْغُصْن الْبَاقِي فصل
فِي الموازنة بَين الْجد وَالْأَخ وَفِي دلَالَة الْوَلَد
وَإِذا ثَبت هَذَا فالجد إِذا الأَصْل وَالْأَخ أقوى سَببا لِأَنَّهُ يُدْلِي
(1/35)
بِوِلَادَة الْأَب لَهُ وَقد تقدم أَن الْولادَة أقوى الْأَسْبَاب فَإِن قَالَ الْجد وَأَنا أَيْضا ولدت الْمَيِّت قيل لَهُ إِنَّمَا ولدت وَالِده وَولده قد ولد الْإِخْوَة فَصَارَ سببهم قَوِيا وَإِنَّمَا لم يحجبوا الْجد بِهَذِهِ الْقُوَّة لِأَن الْجد أصل وَولد الْوَلَد ولد غير أَن الْوَلَد أَحَق مِنْهُ مَا دَامَ حَيا
وَقد اخْتلف هَل يَقع على ولد الْوَلَد اسْم الْوَلَد حَقِيقَة أَو مجَازًا وَالَّذِي عِنْدِي أَنه حَقِيقَة وَلَكِن الْوَلَد أقرب من ولد الْوَلَد وَإِن شَاركهُ فِي الِاسْم لِأَن ولد الْوَلَد لم يكن ولدا للْجدّ إِلَّا بِوَاسِطَة الْوَالِد
فَإِن قيل فَإِن تصدق بِصَدقَة على وَلَده أَكَانَ يشاركهم فِيهَا ولد الْوَلَد
قُلْنَا أما الصَّدَقَة فالغرض بهَا التَّمْلِيك فَلَا يتَنَاوَل ولد الْوَلَد إِلَّا بتبيان من الْمُتَصَدّق مُخَصص عُمُوم اللَّفْظ بِقَرِينَة الْغَرَض والمقصد بِخِلَاف التحبيس فَإِن الْمَقْصد بِهِ التعقيب دون التَّمْلِيك فَتَنَاول الْوَلَد وَولد الْوَلَد مَا تعاقبوا
(1/36)
فصل
فِي الموازنة بَين الْبُنُوَّة والولادة
فَإِذا فهمت هَذَا علمت أَن لفظ الْبُنُوَّة أوسع من لفظ الْولادَة لِأَن الْمَقْصُود بهَا الدعْوَة وَالنّسب فَإِذا نسبت فقد تنْسب إِلَى وَالِد وَغير وَالِد أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَابْن السَّبِيل} فنسب إِلَى السَّبِيل وَلَيْسَ بوالده وَكَذَلِكَ قَوْلهم ابْن آوى وَابْن عرس وَبَنَات أوبر للكمأة وَبَنَات نعش فِي النُّجُوم وَلَا يحسن فِي شَيْء من هَذَا لفظ الْوَلَد فَمن هَذَا لم ير زيد رَحمَه الله حجَّة لمن قَالَ من الصَّحَابَة إِن الْجد كَالْأَبِ كَمَا أَن ابْن الابْن كالابن لقَوْله سُبْحَانَهُ {يَا بني آدم} و {يَا بني إِسْرَائِيل} وَلقَوْله {مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم} لِأَن هَذَا نسب وتعريف وَلَو ذكر الْولادَة لَكَانَ لَهُم فِيهَا حجَّة ومتعلق لما قدمْنَاهُ من الْمَقْصُود بِلَفْظ الْوَلَد وَلَفظ الابْن وَفرق مَا بَينهمَا وَالْولد يَقع على الذّكر
(1/37)
وَالْأُنْثَى وَالْوَاحد وَالْجمع بِخِلَاف الابْن لِأَنَّهُ على وزن فعل كَالْقَبْضِ والنفض وَالْخلف وَهُوَ قَابل لصورة الْفِعْل من المفعولات فَالْوَلَد مَوْلُود قَابل لصورة الْفِعْل الَّذِي هُوَ الْولادَة كَمَا أَن النفض من الْوَرق قد قبل صُورَة الْفِعْل الَّذِي هُوَ النفض فَوَقع على الْوَاحِد والجميع من أجل ذَلِك
غير أَنه قَالَ فِي الْآيَة {فِي أَوْلَادكُم} فَجمع الْوَلَد لِإِضَافَتِهِ إِلَى ضمير الْجمع وَلَو كَانَ مُضَافا إِلَى ضمير الْوَاحِد لجاء بِلَفْظ الْإِفْرَاد وَإِن عَنى الْجمع لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام أَنا سيد ولد آدم وَلَا فَخر وَلم يقل أَوْلَاد آدم فافهمه
وَمن الْفَوَائِد لفظ الْوَلَد دلَالَته على أَن الْجَنِين والسقط المستهل يَرث لِأَنَّهُ ولد قد تولد وقلما يُقَال فِي مثله ابْن فلَان حَتَّى يكبر فينسب إِلَى الْأَب لِأَن لفظ الْبُنُوَّة كَمَا قدمنَا مَوْضُوع للنسب بِخِلَاف لفظ الْوَلَد أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ فِي الْأَنْسَاب ابْن فلَان بن فلَان بن فلَان فصل
فِي استنباط حكم العَبْد وَالْكَافِر من الْآيَة
وَقَوله {فِي أَوْلَادكُم للذّكر} تضمن أَن لَا يَرث الْوَلَد العَبْد الْأَب الْحر
(1/38)
لقَوْله {فِي أَوْلَادكُم} بِإِضَافَة التَّعْرِيف وَلم يقل يُوصِيكُم الله فِيمَا ولدتم وَعرف الْأَوْلَاد بِالْإِضَافَة إِلَى والديهم وَالْعَبْد لَا يعرف بِالْإِضَافَة إِلَى وَالِده إِنَّمَا يُقَال فِيهِ عبد فلَان ومملوك فلَان فَيعرف بِالْإِضَافَة إِلَى سَيّده وَيُقَال فِي ولد الْحر ولد فلَان وَابْن فلَان فَدلَّ ذَلِك على انْقِطَاع الْمِيرَاث بَينهمَا
وتضمن هَذَا الْفِقْه أَيْضا قَوْله {للذّكر} بلام التَّمْلِيك لِأَن لَام الْإِضَافَة هَهُنَا إِنَّمَا هِيَ لإضافة الْملك وَالْعَبْد لَا يملك ملكا مُطلقًا لِأَن السَّيِّد لَهُ أَن ينتزع مَاله مِنْهُ وَأكْثر الْعلمَاء يَقُولُونَ لَا يملك بِحَال من الْأَحْوَال فعلى كلا الْوَجْهَيْنِ لَا يَصح أَن يدْخل العَبْد فِي عُمُوم هَذَا اللَّفْظ أَعنِي قَوْله {للذّكر} وَلَا فِي قَوْله {ولأبويه لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس}
وَإِذا منع الرّقّ من الْمِيرَاث فأحرى أَن يمْنَع الْكفْر لِأَن الرّقّ أثر الْكفْر والسباء الَّذِي أوجبه الْكفْر فَخرج من هَذَا أَن لَا يَرث الْكَافِر الْمُسلم فصل
فِي استنباط حكم الذّكر مُطلقًا
وَقَوله {للذّكر} بِالْألف وَاللَّام الَّتِي للْجِنْس مَعَ اللَّفْظ الْمُشْتَقّ من الذُّكُورَة
(1/39)
يدل على الْعُمُوم وعَلى تَعْلِيق الحكم بالصفحة الَّتِي من الذُّكُورَة فَلَو قَالَ للذّكر مِنْهُم مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ لَكَانَ هَذَا الحكم مَقْصُورا على الْأَوْلَاد دون غَيرهم فَلَمَّا لم يقلهُ دخل فِيهِ الْإِخْوَة فَكَانَ للذّكر مِنْهُم حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ إِذا ورثوا وَكَذَلِكَ الأبوان للْأُم الثُّلُث وَللْأَب الثُّلُثَانِ إِذا ورثا لعُمُوم قَوْله {للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ}
فَإِن قيل قد تقدم ذكر الْأَوْلَاد فَمن هُنَاكَ اسْتغنى عَن أَن يَقُول مِنْهُم
قُلْنَا لَو قَالَ مِنْهُم لَكَانَ لفظا يخصص الْعُمُوم تَخْصِيصًا أقوى من تَخْصِيص ذَلِك الْمَعْنى لِأَن دَلِيل اللَّفْظ أقوى من دَلِيل الْمَعْنى لِأَنَّهُ لَيْسَ من لفظ إِلَّا وَهُوَ مُتَضَمّن لِمَعْنى فَصَارَ أقوى من معنى دون لفظ كَمَا فِي صناعَة النَّحْو الْعَامِل اللَّفْظِيّ أقوى من الْمَعْنَوِيّ فَافْهَم هَذَا فِي صناعَة الْأُصُول
وَاعْلَم أَن خُصُوص أول الْكَلَام لَا يمْنَع من عُمُوم آخِره إِذا كَانَت صيغته صِيغَة الْعُمُوم مثل مَا فِي هَذَا الْموضع وَهُوَ قَوْله {للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} فصل
فِي نصيب البنتين
وَقَوله {مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} بلام التَّعْرِيف الَّتِي للْجِنْس دلّ على أَن الْأُنْثَيَيْنِ
(1/40)
قد استحقتا الثُّلثَيْنِ إِذْ الْأُنْثَى الْوَاحِدَة لَهَا مَعَ الذّكر الثُّلُث فَإِذا لم يكن ثمَّ ذكر وَكَانَت اثْنَتَانِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ بِهَذَا اللَّفْظ القرآني فَإِذا ثَبت هَذَا فَمن ثمَّ قَالَ {فَإِن كن نسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ} مُبينًا لحكم الثَّلَاث وَمَا هُوَ أَكثر مِنْهُنَّ مستغنيا عَن بَيَان حكم الاثنتين لِأَنَّهُ قد بَينه بِدلَالَة اللَّفْظ كَمَا تقدم
وَظن كثير من النَّاس أَن تَوْرِيث الثُّلثَيْنِ للبنتين إِنَّمَا هُوَ بِالْقِيَاسِ على الْأُخْتَيْنِ وَقَالَ بَعضهم إِنَّمَا عرف ذَلِك بِالنِّسْبَةِ الْوَارِدَة وَقَالَ بَعضهم إِنَّمَا عرف من الفحوى لَا من اللَّفْظ لِأَن الْوَاحِدَة إِذا كَانَ لَهَا الثُّلُث مَعَ الذّكر فأحرى أَن يكون لَهَا الثُّلُث مَعَ عدم الذّكر
وَالَّذِي عِنْدِي أَن اللَّفْظ مغن عَن هَذَا وكاف شاف لما قدمْنَاهُ وَالْحَمْد لله فصل
فِي مرجع الضَّمِير فِي كن
وَقَوله تَعَالَى {فَإِن كن نسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ}
(1/41)
قد يُقَال لم كنى بضمير الْجمع الْمُؤَنَّث وَلم يتَقَدَّم مَا يعود عَلَيْهِ فِي اللَّفْظ
قُلْنَا لَو تقدم ذكر جمع مؤنث فِي اللَّفْظ لاستغنى أَن يَقُول {نسَاء} ولقال فَإِن كن فَوق اثْنَتَيْنِ كَمَا قَالَ فِي الْأَخَوَات {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} لِأَنَّهُ قد تقدم ذكر أُخْت وَلم يتَقَدَّم هُنَا إِلَّا ذكر الْأَوْلَاد فَقَالَ الطَّبَرِيّ حاكيا عَن الْكُوفِيّين بِعُود الضَّمِير على المتروكات كَأَنَّهُ قَالَ المتروكات وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل وَضعف قَول من قَالَ يعود على الْوَلَد لِأَن الْوَلَد يجمع الْمُذكر والمؤنث والمذكر يغلب على الْمُؤَنَّث فِي الْجمع
وَالَّذِي اخْتَارَهُ عِنْدِي غير صَحِيح لِأَنَّهُ فِيهِ عود الضَّمِير على مَا لَيْسَ فِي اللَّفْظ وَترك اللَّفْظ الظَّاهِر وَإِنَّمَا كَانَ يلْزم تَغْلِيب الْمُؤَنَّث على الْمُذكر لَو عَاد الضَّمِير على جملَة الْأَوْلَاد وَإِنَّمَا يعود على الْبَعْض وَذَلِكَ الْبَعْض هم النِّسَاء وَالِاسْم الْمُضمر هُوَ الظَّاهِر والمتكلم لَا يُرِيد سوى ذَلِك الِاسْم وَعنهُ يخبر وَحكمه يُرِيد أَن يبين فَلذَلِك قَالَ {كن} كَمَا قَالَ {وَإِن كَانَت وَاحِدَة} فجَاء بضمير الْوَاحِدَة الَّتِي يُرِيد
(1/42)
أَن يبين حكمهَا وَهِي ولد كَمَا أَن النِّسَاء ولد وَهَذَا بَين
وَقد حكى سِيبَوَيْهٍ من كَانَت أمك بِالنّصب فأنث الِاسْم الأول لِأَنَّهُ هُوَ الْأَخير فِي الْمَعْنى وأعجب من هَذَا قَوْلهم إِنَّه قَامَ زيد وَإِذا أخبروا عَن الْمُؤَنَّث قَالُوا إِنَّهَا قَامَت هِنْد فأنثوا ليشاكل أول الْكَلَام آخِره وَإِن لم يكن الِاسْم الأول هُوَ اثاني
فَإِن قلت إِنَّمَا هُوَ ضمير الْقِصَّة
قُلْنَا وَإِن كَانَ ضمير الْقِصَّة فقد اختاروه على ضمير الْأَمر فِي هَذَا الْموضع للمشاكلة قَالَ الله سُبْحَانَهُ {فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار} وَلم يقل إِنَّه وَقَالَ {إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل} وَنَحْو من الأول قَوْلهم بحسبك زيد فأدخلوا الْبَاء على حسب وهم يُرِيدُونَ زيدا لِأَنَّهُ هُوَ ويعضد هَذَا قَول الشَّاعِر
(1/43)
أَلَيْسَ عجيبا بِأَن الْفَتى ... يصاب بِبَعْض الَّذِي فِي يَدَيْهِ
فَأدْخل الْبَاء على اسْم لَيْسَ وَإِنَّمَا موضعهَا الْخَبَر لِأَنَّهُ هُوَ وَقَول الراجز عَن الْكَرِيم وَأَبِيك يعتمل ... ان لم يجد يَوْمًا على من يتكل ... وَكَانَ حَقه أَن يَقُول من يتكل عَلَيْهِ فَأدْخل الْحَرْف على الأول لِأَنَّهُ هُوَ الثَّانِي وَكَذَلِكَ جَاءَ بضمير جمَاعَة الْمُؤَنَّث عَائِدًا على الْأَوْلَاد لِأَنَّهُ لم يرد مِنْهُم إِلَّا النِّسَاء وَالَّذِي أضمر هُوَ الَّذِي أظهر وَلَا معنى لإنكار من أنكر فصل
فِي مُتَعَلق الْجَار فِي قَوْله تَعَالَى من بعد وَصِيَّة
وَقَوله {فَلَهُنَّ ثلثا مَا ترك} يَعْنِي مَا ترك الْمَالِك وَلم يتَقَدَّم لَهُ ذكر وَلَكِن لما كَانَ الْكَلَام فِي معرض الْبَيَان لقسم الْمَوَارِيث علم أَن الضَّمِير عَائِد إِلَى الْمَوْرُوث
وَقَوله {ترك} أَي خلف وَلَيْسَ التّرْك هَهُنَا بِفعل وَقد يكون التّرْك فعلا يُثَاب
(1/44)
عَلَيْهِ صَاحبه أَو يُعَاقب كَتَرْكِ الطَّاعَة أَو ترك الْمعْصِيَة لِأَنَّهُ لَا جَزَاء إِلَّا على فعل وَأما هَهُنَا فالترك عبارَة عَمَّا خلف الْمَيِّت أَي يبْقى بعد ارتحاله فَعبر بِالتّرْكِ مجَازًا من مجَاز التَّشْبِيه لشبه حَاله بِحَال الْمُسَافِر فَإِنَّهُ يتْرك مَا يتْرك لأَهله ويسير
وَإِذا ثَبت هَذَا فَلَا يجوز أَن يتَعَلَّق حرف الْحر من قَوْله فِي آخر الْآيَة {من بعد وَصِيَّة} ب {ترك} وَإِن كَانَ يَلِيهِ فِي الْفظ ظَاهرا وَلذَا تعلقه بالاستقرار الْمُضمر فِي قَوْله {فَلَهُنَّ ثلثا} أَي اسْتَقر لَهُنَّ الثُّلُثَانِ من بعد وَصِيَّة أَي من بعد إِخْرَاج وَصِيَّة
وَيمْتَنع أَيْضا تعلق حرف الْجَرّ بترك لوجه آخر نذكرهُ فِي آخر الْمَسْأَلَة إِن شَاءَ الله
فَإِن قيل مَا فَائِدَة هَذَا النَّحْو فِي هَذَا الْموضع وَمَا فقهه تعلق بِالتّرْكِ أَو لم يتَعَلَّق
قُلْنَا فقه ذَلِك أَن الْكَفَن وجهازالميت لَيْسَ للْوَرَثَة فِيهِ حق لِأَن حَقهم لم يجب لَهُم إِلَّا بعد مَوته وَبعد إِخْرَاج الْوَصِيَّة وَالدّين وَلم جعلنَا حرف الْجَرّ مُتَعَلقا ب {ترك} لَكَانَ الْمَعْنى مُجملا غير مُبين ولكان مَا ترك بعد مَا أوصى يدْخل فِيهِ الْكَفَن وَغَيره لِأَن الْوَصِيَّة إِنَّمَا هِيَ قبل الْمَوْت وَلَو وَجب لَهُم ذَلِك بأثر الْوَصِيَّة وَمن بعد تَركه لما ترك أَن يوصى فِيهِ كَانَ الْكَفَن لَهُم وَلَو كَانَ لَهُم لم يجبروا على تكفينه ولكانوا بِمَا كفنوا مَأْجُورِينَ على إحسانهم بهَا وَلَيْسَ الْأَمر على ذَلِك بِإِجْمَاع وَيدل على ذَلِك أَيْضا قَوْله {يُوصي} وَلم يقل يوصيها وَذَلِكَ لِأَن الْوَصِيَّة
(1/45)
قَول يَقُوله وَالْوَصِيَّة أَيْضا الشَّيْء الَّذِي وصّى بِهِ وَأَن الْمَعْنى من بعد إِخْرَاج مَا يُوصي بِهِ لَا من بعد تَركه للإيصاء وَالْوَصِيَّة إِذا تكون بِمَعْنى الْمصدر وَهُوَ الْإِيصَاء وَتَكون المَال الْمُوصى فِيهِ تَقول قبضت وَصِيَّة وحمدت وَصِيَّة أَي حمد إيصاؤه وَفعله وَالدّين كَذَلِك يكون مصدرا من دنت أدين وَذَلِكَ قَوْله {تداينتم بدين} وَيكون المَال الْمَأْخُوذ بِالدّينِ تَقول قد قضى دينه واللهم اقْضِ عَنَّا الدّين وَهُوَ هُنَا الِاسْم لَا الْمصدر كَمَا أَن الْوَصِيَّة كَذَلِك فصل
ثَان فِي مُعَلّق من
وَمِمَّا يمْنَع أَن يتَعَلَّق الْجَار فِي قَوْله {من بعد وَصِيَّة} بِالتّرْكِ وَيُوجب أَن يتَعَلَّق بِالْفِعْلِ الْمُضمر فِي قَوْله {لَهُنَّ} أَي وَجب لَهُنَّ
(1/46)
وَاسْتقر لَهُنَّ أَن حرف من إِذا دخل على الظّرْف دلّ على ابْتِدَاء غَايَة وَلم يدل على انْتِهَاء تَقول نَحن فِي هَذَا الْبَلَد من يَوْم كَذَا وَمن عَام كَذَا فالمقام إِذا فِي الْبَلَد مُسْتَمر فَإِذا جِئْت بِفعل منقض غير مُسْتَمر قلت كَلمته عَام كَذَا وَقبل كَذَا وَبعد كَذَا بِغَيْر من فَيكون الظّرْف محيطا بِالْفِعْلِ من طَرفَيْهِ فَإِن جِئْت ب من لم تزل إِلَّا على الطّرف الْوَاحِد وَهُوَ الِابْتِدَاء وَالتّرْك لَيْسَ بِفعل مُسْتَمر وَلَا هُوَ أَيْضا فعل فيؤرخ ببعد أَو قبل فَثَبت أَن الْحَرْف مُتَعَلق بِمَا قُلْنَا
وَمن شَوَاهِد مَا قُلْنَا فِي من وتعلقها قَوْله سُبْحَانَهُ خَبرا عَن أهل الْجنَّة {إِنَّا كُنَّا قبل فِي أهلنا مشفقين} لما ذكر الْفِعْل المنقضي وَهُوَ الإشفاق فَلَمَّا ذكر الدُّعَاء قَالَ {إِنَّا كُنَّا من قبل نَدْعُوهُ} بِزِيَادَة من لِأَن دعاءهم مُسْتَمر يَقُول سُبْحَانَهُ {دَعوَاهُم فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} وَقَالَ {وَلَهُم مَا يدعونَ} فدعواهم وافتقارهم إِلَى الله مُسْتَمر فِي الْآخِرَة وبدؤه من قبل
ثمَّ إِن التّرْك لَا يتَصَوَّر إِلَّا بعد خُرُوج التارك عَن دَاره ووطنه وَمَا دَامَ بَين أَهله لَا يُقَال ترك لَهُم كَذَا فَكَذَا الْمَيِّت إِذا خرج بأكفانه وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من جهازه وَذَلِكَ كُله من مَاله وحرمته حَيا كحرمته مَيتا فِيمَا يجب من ستر عَوْرَته وَنَحْو ذَلِك فَعِنْدَ ذَلِك يَقُول النَّاس مَا ترك وَتقول الْمَلَائِكَة مَا قدم فصل
فِي فَائِدَة الصّفة فِي قَوْله وَصِيَّة يُوصي بهَا
وَقَوله {يُوصي بهَا} فِي مَوضِع الصّفة للْوَصِيَّة وَالصّفة تقيد الْمَوْصُوف وَفَائِدَة
(1/47)
هَذَا التَّقْيِيد أَن يعلم أَن للْمَيت أَن يُوصي وَلَو قَالَ {من بعد وَصِيَّة} لتوهم أَنَّهَا وَصِيَّة غَيره أَو وَصِيَّة الله الْمَذْكُورَة فِي أول الْآيَة
وَقَالَ {يُوصي بهَا} وَلم يقل من بعد وَصيته وَلَا من بعد الْوَصِيَّة الَّتِي يُوصي بهَا ليدل على أَن الْوَصِيَّة ندب وَلَيْسَت بِفَرْض قد وَجب عَلَيْهِ لِأَنَّك تَقول فِي الْأَعْمَال الْوَاجِبَة الَّتِي قد عرف وُجُوبهَا يكون كَذَا من بعد صَلَاتنَا أَو من بعد الصَّلَاة وَفِيمَا لم يعرف وُجُوبه افْعَل كَذَا أَو كَذَا من بعد صَلَاة نصليها أَو صَوْم تصومه أَو صَدَقَة تخرجها فَيدل لفظ التنكير على عدم الْوُجُوب وَيدل لفظ التَّعْرِيف على الْفَرْض الْمَعْرُوف لاسيما وَقد تقدم أَن الْوَصِيَّة كَانَت مَفْرُوضَة بقوله {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت} الْآيَة فصل
فِي سر تَقْدِيم الْوَصِيَّة على الدّين
وَقَوله {من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين} وَإِخْرَاج الدّين لَا شكّ قبل إِخْرَاج
(1/48)
الْوَصِيَّة وَبعد الْكَفَن لِأَن الْغُرَمَاء فِي حَيَاته لم يكن لَهُم سَبِيل على كَفنه وَمَا يُجهز بِهِ وبدئ بِهِ فِي الْعَمَل قبل الْوَصِيَّة لِأَن أداءه فرض وَالْفَرْض مقدم على النّدب
فَإِن قيل لم بَدَأَ الله بِالْوَصِيَّةِ قبل ذكر الدّين
قُلْنَا فِي حكم البلاغة أَن يقدم مَا يجب الاعتناء بشرحه وَبَيَانه وَأَدَاء الدّين مَعْلُوم وَأمره بَين لِأَنَّهُ حق للْغُرَمَاء ومنعهم مِنْهُ ظلم ظَاهر فَبَدَأَ بِمَا يحْتَاج إِلَى بَيَانه وَقد قَالَ سِيبَوَيْهٍ إِنَّه يقدم فِي كَلَامهم مَا هم بِهِ أهم وببيانه أَعنِي وَإِن كَانَا جَمِيعًا يهمانهم ويعنيانهم
وَوجه آخر وَهُوَ أَن الْوَصِيَّة طَاعَة وَخير وبر يَفْعَله الْمَيِّت وَالدّين إِنَّمَا هُوَ لمَنْفَعَة نَفسه وَهُوَ مَذْمُوم فِي غَالب أَحْوَاله وَقد تعوذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْكفْر وَالدّين فَبَدَأَ بالأفضل وَمَا يقدم فِي تَرْتِيب الْكَلَام فقد يكون لقبلية الْفضل نَحْو قَوْله {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} وَنَحْو قَوْله 6 {من النَّبِيين وَالصديقين} وَقد يكون لقبلية الزَّمَان نَحْو قَوْله {نوحًا وَإِبْرَاهِيم} وَقد يكون لقبلية التَّرْتِيب نَحْو تَقْدِيم الْيَهُود على النَّصَارَى
(1/49)
فِي الذّكر لأَنهم كَانُوا مجاورين للْمُسلمين فِي الدَّار وَقد يكون تقديمهم فِي اللَّفْظ لقبلية الزَّمَان لِأَن التَّوْرَاة قبل الْإِنْجِيل ومُوسَى قبل عِيسَى وَقد يكون تَقْدِيم الصَّلَاة قبل الزَّكَاة من قبلية الرُّتْبَة لِأَنَّهَا حق الْبدن وَالزَّكَاة حق المَال وَالْبدن فِي الرُّتْبَة قبل المَال
وَمن وُجُوه القبليات أَيْضا السَّبَب والمسبب كالمرض وَالْمَوْت فِي حكم البلاغة كَمَا رُوِيَ أَن أَعْرَابِيًا سمع قَارِئًا يقْرَأ وَالله حَكِيم عَزِيز والأعرابي لَا يحفظ الْقُرْآن فَقَالَ الْأَعرَابِي مَا أَرَاهَا أنزلت كَمَا تَقول فَقَالَ الْقَارئ {وَالله عَزِيز حَكِيم} فَقَالَ الْأَعرَابِي نعم عز فَلَمَّا عز حكم
فَاجْعَلْ هَذِه القبليات أصلا فِي معرفَة الْحِكْمَة والإعجاز فِي كتاب الله فَإِنَّهُ لَا تقدم فِيهِ صفة على أُخْرَى وَلَا شَيْء على شَيْء إِلَّا بقبلية من هَذِه القبليات فترتب الْأَلْفَاظ فِي اللِّسَان على حسب تَرْتِيب الْمعَانِي فِي الْجنان فتدبره وَالله الْمُسْتَعَان فصل
فِي نصيب الذّكر عذا انْفَرد
وَقَوله {وَإِن كَانَت وَاحِدَة فلهَا النّصْف} فِيهِ نَص وَدَلِيل أما النَّص فثبوت النّصْف للْبِنْت الْوَاحِدَة مَعَ عدم الْأَخ وَأما الدَّلِيل فَلِأَن الذّكر إِذا انْفَرد ورث المَال كُله لِأَنَّهُ قَالَ {للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} وللأنثى
(1/50)
النّصْف إِذا كَانَت وَحدهَا فللذكر النصفان وَهُوَ الْكل إِذا كَانَ وَحده فصل
فِي حِكْمَة نصيب الْأَبَوَيْنِ مَعَ الْوَلَد
وَقَوله {ولأبويه} ذكرهمَا بِلَفْظ الْأُبُوَّة دون لفظ الْولادَة كَمَا قَالَ {وبالوالدين إحسانا} لِأَن هَذِه الْآيَة معرضها ومقصودها غير ذَلِك وَلَفظ الْوَالِدين أوفى وأجلب للرحمة وأشكل بِالْوَضْعِ الَّذِي يُرَاد بِهِ الرِّفْق بهما لِأَن لفظ الْولادَة يشْعر بِحَال الْمَوْلُود وبرحمتهما لَهُ إِذا ذَاك أَلا ترَاهُ يَقُول فِي آيَة الْوَالِدين {وَقل رب ارحمهما كَمَا ربياني صَغِيرا} وَلَفظ الْأَبَوَيْنِ أوقر وَإِن كَانَ الآخر أرق أَلا تراهم لَا يَقُولُونَ فِي الكنية إِلَّا يَا أَبَا فلَان وَلَا يَقُولُونَ يَا وَالِد فلَان فَكَانَ لفظ الْأَبَوَيْنِ هَا هُنَا أشكل بِهَذَا الْمقَام الَّذِي هُوَ إِعْلَام بحظ هذَيْن اللَّذين ينْسب إِلَيْهِمَا الْمَيِّت والأبوة فِي مُقَابلَة الْبُنُوَّة وَالْوَالِد فِي مُقَابلَة الْوَلَد مَعَ أَن لفظ الْأُبُوَّة هُنَا فقها وَهُوَ سريان الْمِيرَاث من الْأَب إِلَى أَبِيه إِذا عدم الْأَب لِأَن لفظ الْأُبُوَّة يتَنَاوَلهُ وَقد قرنت مَعَه هَهُنَا الْأُم
(1/51)
بِلَفْظ الْأُبُوَّة وَلَا يُقَال لَهَا أَب وَلَا أَبَة إِذا انْفَرَدت وَلَا يُقَال لَهَا إِلَّا وَالِدَة فَلَو ذكر بِلَفْظ الْولادَة لسرى أَيْضا حق الْمِيرَاث مِنْهَا إِلَى والدها إِذا عدمت هِيَ كَمَا سرى ذَلِك فِي الْأَب إِلَى الْجد إِذا عدم الْأَب وَهَذَا دَقِيق فافهمه
وَقد تقدم اللَّفْظ بَين حالتي اللَّفْظَيْنِ وَمَا يشاكله من مقامات الْكَلَام كل وَاحِد من الاسمين وتنزيل الْأَلْفَاظ فِي مواطنها وَهُوَ معنى البلاغة وَهِي الفصاحة وَمن هُنَا يعلم الإعجاز فِي كَلَام الله الْعَزِيز وَالْحَمْد لله
وَقَوله {لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس مِمَّا ترك إِن كَانَ لَهُ ولد} سوى الله بَين الْأَبَوَيْنِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا كَانَ للْمَيت ولد وَلم يفضلهما على الْوَلَد لِأَنَّهُ يُقَال للْأَب كَمَا كنت تحب لابنك من الْغنى وَالْخَيْر أَكثر مِمَّا تحب لأَبِيك فَكَذَلِك حَال ابْنك مَعَ وَلَده كحالك مَعَ ولدك لِأَن الْوَالِد أحب النَّاس غنى لِابْنِهِ وأعزهم فقرا عَلَيْهِ كم قَالَ الصّديق لابنته عَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا عِنْد مَوته وَكَانَ أَبوهُ حَيا فَقَالَ لَهَا مَا من أحد أحب إِلَيّ غنى مِنْك وَلَا أعز فقرا عَليّ بعدِي مِنْك وَلم يسْتَثْن أَبَاهُ وَلَا غَيره
(1/52)
ثمَّ إِن الْوَلَد يؤملون من النِّكَاح والحياة وَغَيره بحداثة سنهم مَا لَا يؤمله الأبوان ثمَّ قَالَ الْأَب إِن فريضتك لَا تنقص بِكَثْرَة الْوَرَثَة وان كَانَ الْوَلَد عشْرين وفريضة ولد ابْنك الْهَالِك قد تنقص بِكَثْرَة الْأَوْلَاد حَتَّى تكون أقل من الْعشْر فيرضى الأبوان بقسم الله تَعَالَى لَهما ويريان الْعدْل من الله بَينا فِيمَا قسم فَإِنَّهُ لم يحجب بالبنين فيعطي الْأَب نصفا وَلَا ثلثا وَلَا حجب بِالْأَبِ فَأعْطَاهُ عشرا وَلَا تسعا بل جعل لَهُ أَوسط الْفَرَائِض وَهُوَ السُّدس وَلَا يُزَاد بقلة الْوَلَد وَلَا بِنَقص بكثرتهم وَالْحَمْد لله فصل
فِي حِكْمَة التَّسْوِيَة بَين الْأَبَوَيْنِ مَعَ وجود الْوَلَد
وَسوى الله بَين الْأَب وَالأُم فِي هَذَا الْموضع لِأَن الْأَب وَإِن كَانَ يسْتَوْجب التَّفْضِيل بِمَا كَانَ يُنْفِقهُ على الابْن وبنصرته لَهُ وانتهاضه بالذب عَنهُ صَغِيرا فالأم أَيْضا حَملته كرها وَوَضَعته كرها وَكَانَ بَطنهَا لَهُ وعَاء وثديها لَهُ سقاء وحجرها لَهُ قبَاء فتكافأت الحجتان من الْأَبَوَيْنِ فسوى الله بَينهمَا فَأَعْطَاهُمَا سدسا وَذَلِكَ الثُّلُث أبقى للبنتين الثُّلثَيْنِ لما تقدم من الْحِكْمَة الْمُوجبَة لتفضيل الْوَلَد فِي الْمِيرَاث على الْأَبَوَيْنِ
(1/53)
فصل
فِي بَيَان حالات الْأُم مَعَ الْأَب
وَللْأُمّ ثَلَاث حالات حَالَة تسوى فِيهَا مَعَ الْأَب وَهِي هَذِه وَحَالَة يفضل الْأَب عَلَيْهَا فَيكون لَهُ مثلا حظها وَذَلِكَ مَعَ عدم الْوَلَد لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَاحب فرض وعاصب وَالْمَرْأَة لَا تكون عاصبة فيزيد عَلَيْهَا حِينَئِذٍ بِالتَّعْصِيبِ فَيكون لَهَا الثُّلُث وَله الثُّلُثَانِ وَالْحَالة الثَّالِثَة تفضل فِيهَا الْأُم على الْأَب وَذَلِكَ مَا دَامَ حَيا فَإِنَّهُ يُؤمر بِالْبرِّ بهَا والصلة لَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا يلْزمه الْأَب قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمعاوية بن حيدة الْقشيرِي وَقد قَالَ لَهُ من أبر يَا رَسُول الله قَالَ أمك قَالَ ثمَّ من قَالَ أمك ثمَّ أَبَاك ثمَّ أدناك فأدناك ففضل الْأُم على الْأَب فِي الْبر
وَقيل لشهاب بن خرَاش مَا جعلت لأَبِيك من دعائك قَالَ الثُّلثَيْنِ ولأمي الثُّلُث قيل لَهُ أَلَيْسَ كَمَا يُقَال للْأُم ثلثا الْبر قَالَ بلَى وَلَكِن أبي كَانَ صابح شرطة لِأَنَّهُ كَانَ على شرطة ابْن هُبَيْرَة
(1/54)
وَإِنَّمَا اسْتَوْجَبت هَذَا مَا دَامَ الْوَلَد حَيا من وُجُوه أَحدهَا أَنَّهَا أَضْعَف والأضعف أَحَق بِأَن يرحم وَالثَّانِي أَنَّهَا أرق قلبا وَأَشد رَحْمَة للِابْن وَالثَّالِث أَنَّهَا تحمل من مُؤنَة الْحمل وَالنّفاس والتربية مَا لَا يحملهُ الْأَب وَالرَّابِع أَن الْأُم تمت بسببين وَالْأَب بِسَبَب وَاحِد وَهُوَ الْأُبُوَّة
وَشرح هَذَا أَن آدم يمت علينا بالأبوة وحواء تمت علينا بالأمومة والأخوة لِأَنَّهَا خلقت من ضلع آدم فَخرجت مِنْهُ فَصَارَت أم الْبشر وأختا لَهُم
وَالْخَامِس أَن الرَّحِم الَّتِي هِيَ شجنة من الرَّحْمَن اشتق لَهَا من اسْمه وَقَالَ من وَصلهَا وصلته وَمن قطعهَا قطعته هِيَ فِي الْأُم حَيْثُ يتَصَوَّر الْوَلَد قَالَ الله سُبْحَانَهُ {هُوَ الَّذِي يصوركم فِي الْأَرْحَام كَيفَ يَشَاء} ثمَّ قَالَ {وَاتَّقوا الله الَّذِي تساءلون بِهِ والأرحام}
(1/55)
فقرابة الْأَب تسمى رحما مجَازًا لِأَن الْأَب سَبَب وجود الابْن فِي الرَّحِم وَالشَّيْء سمي بالشَّيْء إِذا كَانَ سَببا لَهُ
وَالرحم الَّتِي عاذت بالرحمن حِين فرغ من الْخلق وَقَالَت هَذَا مقَام العائذ بك من القطيعة كَانَت لَهَا حِينَئِذٍ حجنه كحجنة المغزل كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث وَكَأَنَّهَا إِشَارَة إِلَى الحنو والعطف وَذَلِكَ فِي معنى الرَّحْمَة ثمَّ فِي تَخْصِيص الله إِيَّاهَا بِأَن وَضعهَا فِي الْأُم بعد أَن اشتق لَهَا اسْما من الرَّحْمَة سر لطيف وَحِكْمَة بَالِغَة وَذَلِكَ أَن الْوَلَد قبل أَن يَقع فِي الرَّحِم نُطْفَة جماد وَلَا يتَصَوَّر رَحْمَة للجمادات ونعني بالجماد مَا لَا روح لَهُ وَإِنَّمَا تقع الرَّحْمَة على من فِيهِ الرّوح وَأما النُّطْفَة وَالدَّم فَلَو وَقع فِي الأَرْض وطئ بِالرجلِ مَا وجد فِي قلب أحد رَحْمَة لَهُ فَإِذا صور وَنفخ فِيهِ الرّوح تَوَجَّهت إِلَيْهِ الرَّحْمَة من الْأَبَوَيْنِ وَغَيرهمَا وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا فِي بطن الْأُم فَوضعت الرَّحِم المشتقة من اسْم الرَّحْمَن فِي الْأُم لهَذِهِ الْحِكْمَة دون الْأَب وَقيل لِلْقَرَابَةِ من هَذَا الْوَجْه ذَوُو رحم وَلم يقل ذَلِك لقرابة الْأَب إِلَّا مجَازًا كَمَا تقدم وَإِن سمي الْأَعْمَام وَبَنُو الْأَعْمَام ذَوي رحم فَجَائِز على الْمجَاز وَتَسْمِيَة الشَّيْء بِمَا يؤل إِلَيْهِ وَيكون سَببا لَهُ وَالله الْمُسْتَعَان فصل
فِي مِيرَاث الْأُم الثُّلُث
قَوْله {فَإِن لم يكن لَهُ ولد وَورثه أَبَوَاهُ فلأمه الثُّلُث} لم يَجْعَل الله
(1/56)
لَهَا الثُّلُث إِلَّا بِشَرْطَيْنِ أَحدهمَا عدم الْوَلَد وَالْآخر إحاطة الْأَبَوَيْنِ بِالْمِيرَاثِ وَلذَلِك دخلت الْوَاو ليعطف الشَّرْط الثَّانِي على الأول وَلَو لم تدخل الْوَاو لأحاط الأبوان بِالْمِيرَاثِ عِنْد عدم الْوَلَد وَلم يَرث مَعَهُمَا أحد هَذَا مُقْتَضى قَوْله {وَورثه أَبَوَاهُ} وافهم هَذِه النُّكْتَة من أَلْفَاظ الْقُرْآن فَإنَّك ستجد فَائِدَة مَا إِذا ذكرنَا مِيرَاث الْكَلَالَة إِن شَاءَ الله
وَذَلِكَ أَن لفظ ورث إِذا وَقع مُطلقًا اقْتضى حوز الْمِيرَاث عُمُوما مثل أَن تَقول ورثت زيدا إِذا ورثت مَاله كُله فَإِن كَانَ مَعَك وَارِث آخر لم يحسن أَن تَقول ورثته إِنَّمَا تَقول ورثت مِنْهُ كَذَا تَعْنِي نصفا أَو ثلثا لِأَن معنى ورثته ورثت مَاله ثمَّ حذف الْمُضَاف وأقيم الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه وَلما قَامَ مقَامه فِي الْإِعْرَاب قَامَ مقَامه فِي الْعُمُوم من قَوْلك ورثت مَاله لسر من الْعَرَبيَّة لطيف لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكره قَالَ الله سُبْحَانَهُ {ونرثه مَا يَقُول}
(1/57)
وَقَالَ {يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب} أَلا ترَاهُ قَالَ من آل يَعْقُوب بِزِيَادَة حرف التَّبْعِيض وَقَالَ يَرِثنِي بِغَيْر حرف لإحاطة الْوَلَد بميراث الْأَب وَقَالَ {وَورث سُلَيْمَان دَاوُد} وَقَالَ {وَهُوَ يَرِثهَا إِن لم يكن لَهَا ولد} أَي يُحِيط بميراثها
وَإِذا ثَبت هَذَا فَمَعْنَى الْكَلَام إِذا إِن لم يكن لَهُ ولد وأحاط الأبوان بميراثه فلأمه الثُّلُث وَسكت عَن حَظّ الْأَب اسْتغْنَاء عَن ذكره لِأَنَّهُ لَا يبْقى بعد الثُّلُث إِلَّا الثُّلُثَانِ وَلَا وَارِث إِلَّا الأبوان وَهَذَا بَالغ فِي الْبَيَان
وتذكر هَهُنَا الفريضتان الغراوان وهما امْرَأَة تركت زَوجهَا
(1/58)
وأبويها وَرجل ترك امْرَأَته وأبويه فللأم هَهُنَا الثُّلُث مَا بَقِي وَذَلِكَ السُّدس من رَأس المَال مَعَ الزَّوْج وَالرّبع من رَأس المَال مَعَ الزَّوْجَة
وَقد أَبى من ذَلِك ابْن عَبَّاس وَقَالَ لَا أجعَل لَهَا إِلَّا الثُّلُث من رَأس المَال وَالزَّوْج النّصْف وَيبقى السُّدس للْأَب فَأبى عَلَيْهِ زيد ابْن ثَابت وَقَالَ ليقسم هُوَ كَمَا رأى وَأقسم أَنا كَمَا رَأَيْت وَهِي إِحْدَى الْمسَائِل الْخَمْسَة الَّتِي خَالف فِيهَا ابْن عَبَّاس الصَّحَابَة
وَالْعجب أَن الله جعل لَهَا الثُّلُث كَمَا جعل للزَّوْج النّصْف وَزيد ابْن ثَابت يَقُول بالعول خلافًا لِابْنِ عَبَّاس وَلم يَجْعَلهَا عائلة وَلَا حط الْأَب فَيكون خلافًا لقَوْله {للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} فَلَا هُوَ نقص الزَّوْج مِمَّا جعل لَهَا وَلَا هُوَ سوى الْأُم مَعَه فيعطيها من رَأس المَال كَمَا أعطَاهُ
وَلَكِن قَوْله منتزع من كتاب الله انتزاعا تعضده الْأُصُول وَذَلِكَ أَن الْأُم تَقول لم حططتموني عَن الثُّلُث الَّذِي جعل الله لي
فَيُقَال لَهَا مَا أخرجت عَن الثُّلُث لِأَن ميراثك مَعَ أحد الزَّوْجَيْنِ الثُّلُث مِمَّا يبْقى فَلم تخرجي عَن الثُّلُث
فَتَقول الْأُم هلا أعطيتموني الثُّلُث من رَأس المَال فَيكون للزَّوْج نصف مَا بَقِي أَو هلا جعلتموها عائلة فَيدْخل النَّقْص عَلَيْهِ وعَلى الْأَب كَمَا دخل عَليّ
فَيُقَال لَهَا إِنَّمَا قَالَ الله سُبْحَانَهُ {فلأمه الثُّلُث} وَلم يقل مِمَّا ترك
(1/59)
كَمَا قَالَ فِي الزَّوْجَيْنِ وَفِي الْأُخْت والأختين وَفِي الْأَبَوَيْنِ مَعَ وجود الْوَلَد وَلَفظ مَا صِيغَة من صِيغ الْعُمُوم فَأعْطى الزَّوْج فَرْضه من كل مَا ترك الْمَيِّت وَلم تَكُونِي أَنْت كَذَلِك إِلَّا مَعَ عدم الزَّوْجَيْنِ وَعند إحاطة الْأَبَوَيْنِ بِالْمِيرَاثِ
فَتَقول الْأُم أَلَيْسَ قَوْله سُبْحَانَهُ {فلأمه الثُّلُث} مَعْنَاهُ مِمَّا ترك الْوَلَد
فَيُقَال لَهَا صِيغَة الْعُمُوم لَا تُؤْخَذ من الْمَعْنى وَإِنَّمَا تُؤْخَذ من اللَّفْظ وَقد تقدم أَن الدَّلِيل اللَّفْظِيّ أقوى من الْمَعْنَوِيّ لِأَنَّهُ مَعْقُول ومسموع فَلهُ مزية على الْمَعْقُول غير المسموع وَهَذَا أصل مُتَّفق عَلَيْهِ عِنْد حذاق الْأُصُولِيِّينَ
وَقد وفْق الله زيد بن ثَابت وفهمه عَن الله وَصدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ وأفرضهم زيد بن ثَابت
فَتَأمل هَذَا الأَصْل فَقل من يفْطن لَهُ وَإِنَّمَا الْمَسْأَلَة عِنْد النَّاس تقليدية لَا برهانية وَقد أوضحناها برهانيا وَالْحَمْد لله
فَهَذَا مَا فِي الْمَسْأَلَة من لفظ الْقُرْآن وَأما مَا فِيهَا من الْحِكْمَة وَبَيَان السِّرّ فَإِن الْأَب بعل الْأُم وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَو أمرت أحدا بِالسُّجُود لأحد لأمرت الْمَرْأَة أَن تسْجد لبعلها وَهُوَ قوام عَلَيْهَا قَالَ الله عز وَجل {الرِّجَال قوامون على النِّسَاء} وَقَالَ {وللرجال عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} فَكيف
(1/60)
يكون فَوْقهَا عقلا وَشرعا ثمَّ يكون تحتهَا فِي الْمِيرَاث وَلم يكن أَيْضا ليعال لَهَا مَعَه فَيدْخل عَلَيْهِ النَّقْص فِي حَظه وَهُوَ قيمها والمنفق عَلَيْهَا وإليها يؤول نفع حَظه من الْمِيرَاث
فَإِن قيل قد عيل لَهَا مَعَه فِي مَسْأَلَة الْوَلَد إِذا اجْتمع أَبَوَانِ وبنتان وَزوج
قلت إِن الله تَعَالَى قَالَ هُنَاكَ {لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس مِمَّا ترك} وَلم يقل هُنَا مِمَّا ترك وَقد بَينا هُنَاكَ الْحِكْمَة الَّتِي أوجبت الْمُسَاوَاة لَهَا مَعَ الْأَب
فَإِن قيل فقد قَالَ {فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة فلأمه السُّدس} وَلم يقل مِمَّا ترك وَهِي يعال لَهَا مَعَ الْأُخْتَيْنِ وَالزَّوْج
قُلْنَا قد قَالَ {مِمَّا ترك} فِي سدسه مَعَ الابْن وَالْأَب وَالِابْن أَحَق بِالْمِيرَاثِ من الْأَخ فَكيف يكون لَهَا السُّدس من كل مَا ترك مَعَ الابْن الَّذِي هُوَ أَحَق وَلَا يكون ذَلِك لَهَا مَعَ الْأَخ فَلذَلِك اسْتغنى الْكَلَام عَن أَن يَقُول فِيهِ {مِمَّا ترك} أَعنِي عِنْد ذكر الْأُخوة اكْتِفَاء بِمَا
(1/61)
قَالَه عِنْد ذكر الْوَلَد
فَإِن قيل فَإِن الْأُخوة للْأُم لَهُم الثُّلُث وَلم يقل فِي مسألتهم {مِمَّا ترك}
قالجواب أَن قَوْله {يُورث كَلَالَة} يَقْتَضِي الْعُمُوم فِي جَمِيع المَال لما قدمنَا فِي معنى ورث وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يحْتَج إِلَى إعاده لفظ آخر للْعُمُوم فَإِن الْأَخ للْأُم من جملَة الْكَلَالَة وَقد قَالَ {يُورث كَلَالَة} أَي يحاط بِجَمِيعِ مَاله فلإخوته لأمه الثُّلُث وَلَا يحْتَاج إِلَى أَن يُقَال مِمَّا ترك لتقدم الْعُمُوم فِي قَوْله {يُورث} وَقد بَينا شرح هَذَا فِيمَا تقدم عِنْد قَوْله {وَورثه أَبَوَاهُ} فافهمه وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق فصل
فِي دلَالَة الْأُخوة فِي الْآيَة
قَوْله {فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة فلأمه السُّدس} فَلَا تنقص الْأُم من السُّدس إِلَّا أَن تعول الْفَرِيضَة وَلَا يَقُول ابْن عَبَّاس بالعول وَهِي من مسَائِله الْخمس وَيَقُول إِن الْأُخوة هَهُنَا الثَّلَاثَة فَمَا فَوْقهم وَلَيْسَ
(1/62)
يَقع لفظ الْأُخوة على الْأَخَوَيْنِ يَقِينا وَهَذِه أَيْضا من مسائه الْخمس وحجته بَيِّنَة فِي بادئ الرَّأْي وَذَلِكَ أَن الله سُبْحَانَهُ جعل الثُّلُث للْأُم مَعَ عدم الْوَلَد فَهَذَا نَص ويقينو الْيَقِين لَا يرفعهُ علا يَقِين مثله فَعَن كَانَ لَهُ أَخ وَاحِد فَهِيَ على ثلثهَا يَقِينا لِأَن الْأَخ لَيْسَ بإخوة فَإِن كَانَ لَهُ أَخَوان فَيحْتَمل دخولهما فِي معنى العخوة وَيحْتَمل أَن لَا يدخلا وَأما لفظ العخوة فواقع على الْجَمِيع يَقِينا وَلم يتَصَوَّر شكّ فِي نقلهَا إِلَى السُّدس بِالثَّلَاثَةِ فَمَا فَوْقهم وتصور الشَّك فِي لفظ الْأَخَوَيْنِ أَهما إخْوَة أم لَا وَالشَّكّ لَا يرفع الْيَقِين الْمُتَقَدّم فِي شَيْء من أَبْوَاب الْفِقْه فَهِيَ إِذا على ثلثهَا حَتَّى يكون لَهُ إخْوَة ثَلَاثَة أَو أَكثر
وَحجَّة الآخرين أَن الْيَقِين لَا يرفعهُ شكّ كَمَا ذكر وَأَن الْعُمُوم لَا يخصصه مُحْتَمل وَأما الظَّاهِر فيتخصص بِهِ الْعُمُوم وتبنى عَلَيْهِ الْأَحْكَام يَقِينا كَمَا تبنى على النُّصُوص والمحتمل لَيْسَ كَذَلِك وَلَفظ الْأُخوة ظَاهر فِي الِاثْنَيْنِ نَص فِي الثَّلَاثَة مُخَصص بِهِ عُمُوم قَوْله تَعَالَى {فلأمه الثُّلُث} لِأَنَّهُ لفظ عَام فِي كل أم لَا ولد لَهَا وان كَانَ ظَاهر القَوْل الْخُصُوص من أجل قَوْله تَعَالَى {فلأمه} وَلكنه ضمير عَائِد على عَام تقدم ذكره
فَإِن قيل كَيفَ جعلتم لفظ الْأُخوة ظَاهرا فِي الِاثْنَيْنِ وللاثنين صِيغَة كَمَا للْجمع صِيغَة
قُلْنَا وَمعنى الْجمع يشملهما لِأَن الِاثْنَيْنِ جمع شَيْء إِلَى
(1/63)
مثله كَمَا أَن الْجمع جمع شَيْء إِلَى أَكثر مِنْهُ فَمن هَهُنَا نَشأ الْخلاف وَهُوَ هَل الْأُخوة لفظ ظَاهر فِي الِاثْنَيْنِ أم مُحْتَمل
والألفاظ أَرْبَعَة نَص يقطع على مَعْنَاهُ وَظَاهر يحْتَمل أَمريْن وَهُوَ فِي أَحدهمَا ظَاهر وتتعلق بِهِ الْأَحْكَام ومحتمل لمعنيين لَيْسَ بِأَحَدِهِمَا بِأولى مِنْهُ بِالْآخرِ وَهَذَا لَا يتَعَلَّق بِهِ حكم لِأَنَّهُ كالمجمل والمجمل مَا افْتقر إِلَى الْبَيَان وَهُوَ أَشد استغلاقا من الْمُحْتَمل وَالله الْمُسْتَعَان إنصاف وَتَحْقِيق
ظَاهر لفظ الْأُخوة الِاخْتِصَاص بِالْجمعِ دون التَّثْنِيَة وَلَا يحمل معنى التَّثْنِيَة على الْجمع إِلَّا بِدَلِيل وَهُوَ الظَّاهِر هُوَ ظَاهر بعرف اللُّغَة وَالظَّاهِر بعرف اللُّغَة تتَعَلَّق بِهِ الْأَحْكَام
فللمفرد ظَاهر أقوى مِنْهُ وَهُوَ صِيغَة الْعُمُوم فَإِذا قلت عِنْدِي دَابَّة فَلفظ اللُّغَة تَقْتَضِي أَنَّهَا من المركوب فَإِذا قلت مَا فِيهَا دَابَّة اقْتَضَت صِيغَة الْعُمُوم نفي كل مَا يدب من مركوب وَغَيره وَفِي التَّنْزِيل {مَا من دَابَّة إِلَّا هُوَ آخذ بناصيتها} {وكأين من دَابَّة} فَهَذَا عُمُوم فِي كل مَا يدب وَقَالَ فِي الْوَاجِب غير الْمُتَعَيّن {وَمن النَّاس وَالدَّوَاب} لعدم صِيغَة الْعُمُوم
وَكَذَلِكَ مَسْأَلَة الْأُخوة فَهِيَ ظَاهِرَة فِي الْأُخوة كَمَا قَالَ ابْن عَبَّاس فَلَمَّا ورد الشَّرْط وَهُوَ من صِيغ الْعُمُوم اندرج تحتهَا كل اخوة والاثنان اخوة وَإِن لم يكن ظَاهر لفظ الْأُخوة يتناولهما كَمَا لم يكن لفظ الْوَاحِد يتَنَاوَل كل مَا يدب حَتَّى ادرجه الْعُمُوم تَحت اللَّفْظ الظَّاهِر كَذَلِك أدرج الْعُمُوم فِي الْآيَة تَحت لفظ الْإِخْوَة مَا قد يُمكن أَن يعبر عَنهُ بإخوة وهما الِاثْنَان فَصَارَ قَوْله تَعَالَى {فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة} ظَاهرا فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع وَإِن
(1/64)
كَانَ صِيغَة عُمُوم الْإِخْوَة فِي الْعرف للْجمع ظَاهرا فالعموم ظَاهر أَيْضا فِي تنَاول الْكل فَتَأَمّله فَعَنْهُ بديع
وَقَوله {من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين} قد تقدم فهمه وَبَيَانه وَبِأَيِّ شَيْء يتَعَلَّق الظّرْف وَالْحَمْد لله فصل
فِي سر اخْتِيَار لفظ الابْن وَجمعه جمعا مكسرا
وَقَوله {آباؤكم وأبناؤكم لَا تَدْرُونَ أَيهمْ أقرب لكم نفعا فَرِيضَة من الله} فِيهِ إِشَارَة إِلَى مَا تقدم من قَوْلهم لَا نورث إِلَّا من
(1/65)
يركب الْفرس وَيضْرب بِالسَّيْفِ فنبههم الله سُبْحَانَهُ على أَنه أعلم مِنْهُم بِالْمَصْلَحَةِ وبوجه الْحِكْمَة وبالمنفعة الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة
وَقَالَ {وأبناؤكم} وَلم يقل وَأَوْلَادكُمْ كَمَا قَالَ فِي أول الْآيَة لِأَنَّهُ لم يرد الْمَعْنى الَّذِي يخْتَص بِالْمِيرَاثِ ويوجبه وَهِي الْولادَة وَإِنَّمَا أَرَادَ معنى هُوَ أَعم من الْمَعْنى الْمُتَقَدّم فَلذَلِك جَاءَ بِلَفْظ الْأَبْنَاء الَّذِي هُوَ أَعم من لفظ الْأَوْلَاد
وَقَالَ {وأبناؤكم} وَلم يقل بنوكم وَقَالَ {بَنو إِسْرَائِيل} و {بني آدم} لِأَن لفظ الْجمع المكسر وَهُوَ الْأَبْنَاء أولى فِي الفصاحة إِذا أضيف إِلَى جمع كَمَا قُلْنَا فِي {أَوْلَادكُم} وَلَفظ الْجمع الْمُسلم لقُرْبه من لفظ الْوَاحِد وَمن مَعْنَاهُ فِي الْقلَّة أولى إِذا أضفت الْبَنِينَ إِلَى وَاحِد هَذَا حكم البلاغة فَتَأَمّله فِي الْقُرْآن حَيْثُ وَقع تَجدهُ كَذَلِك وَنَحْو مِنْهُ مَا ذَكرْنَاهُ فِي {أَوْلَادكُم} وَسيد ولد آدم
وَقَالَ {فَرِيضَة من الله إِن الله كَانَ عليما حكيما} أَي بِعِلْمِهِ وحكمته فرض هَذَا أَو وصّى بِهِ وَلم يكلكم إِلَى علمكُم ورأيكم لما علم فِي ذَلِك من الضَّرَر لكم
(1/66)
فصل
فِي حجب الْأَب للإخوة
ذكر عبد بن حميد الْكشِّي عَن بعض التَّابِعين أَن الْأَب حجب الْأُخوة وَأخذ سِهَامهمْ لِأَنَّهُ يتَوَلَّى نكاحهم والإنفاق عَلَيْهِم دون الْأُم وَذكره الطَّبَرِيّ أَيْضا وَقَالَ مُحْتَمل أَن تكون الْحِكْمَة فِيهِ هَذَا أَو يحْتَمل أَن يكون هَذَا تعبدا من الله تَعَالَى اسْتَأْثر بِعلم السِّرّ فِيهِ والمصلحة دون الْعِبَادَة فصل
سر تكْرَار من بعد وَصِيَّة عقب مِيرَاث الزَّوْج وَالزَّوْجَة
وَقَوله {وَلكم نصف مَا ترك أزواجكم} الْآيَة كَلَام بَين لَا إِشْكَال فِيهِ غير أَنه قَالَ بعد الْفَرَاغ من مِيرَاث الزَّوْج {من بعد وَصِيَّة} وَقَالَ مثل ذَلِك بعد الْفَرَاغ من مِيرَاث الزَّوْجَة مرّة أُخْرَى وَلم يقل مثل هَذَا فِيمَا تقدم إِلَّا مرّة وَاحِدَة وَقد ذكر مِيرَاث الْأَوْلَاد وميراث الْأَبَوَيْنِ وميراث الْأُم مَعَ الْأُخوة
وَالْحكمَة فِي ذَلِك أَن ذكره لما تقدم يَدُور على موروث وَاحِد وَإِن تغايرت الْوَرَثَة لِأَن الضمائر كلهَا تعود على وَاحِد من قَوْله ولأبويه ولأمه
(1/67)
و {لَهُ إخْوَة} و {يُوصي بهَا} فالموروث فِي هَذَا كُله وَاحِد فَلَمَّا فرغ من قصَّته قَالَ {من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين} فالموروث فِي قصَّة الْأزْوَاج غير الْمَوْرُوث فِي قصَّة الزَّوْجَات وَكَذَلِكَ موروث الْكَلَالَة بعد هَذَا فَتَأَمّله وَالله الْمُسْتَعَان فصل
فِي حِكْمَة التَّعْبِير بضمير الْجمع فِي ولهن
وَقَوله فِي الزَّوْجَات {ولهن الرّبع} {فَلَهُنَّ الثّمن} أَيْضا يَقْتَضِي أَن الثّمن مُشْتَرك بَين الزَّوْجَات وَعَن كن أَرْبعا كَمَا اقْتضى اشْتِرَاك إخْوَة الْكَلَالَة فِي الثُّلُث فِي قَوْله {فهم شُرَكَاء فِي الثُّلُث} لِأَنَّهُ لفظ جمع وَلَو ذكر الزَّوْجَة على انفرادها لَكَانَ الثّمن لَهَا ثمَّ يكون للضرة الْأُخْرَى ثمن آخر هَكَذَا إِلَى الْأَرْبَع وَلكنه جَاءَ بِلَفْظ الْجمع فلأربع زَوْجَات الثّمن بَينهُنَّ
(1/68)
مَسْأَلَة
يُقَال لَهَا ذَات الْفروج
وَهِي امْرَأَة وثت مَيتا لَهُ سَبْعَة عشر دِينَارا فَجَاءَت لتأْخذ فَرضهَا فَإِذا سِتَّة عشر امْرَأَة سواهَا قد أخذن دِينَارا دِينَارا فَلم يبْق لَهَا إِلَّا وَاحِد
شرح ذَلِك أَن الْمَيِّت لَهُ ثَمَان أَخَوَات شقائق لَهُنَّ الثُّلُثَانِ وَأَرْبع أَخَوَات لأم لَهُنَّ الثُّلُث وَله جدتان لَهما السُّدس بَينهمَا وَله ثَلَاث زَوْجَات لَهُنَّ الرّبع أصل الْفَرِيضَة من اثْنَي عشر عالت إِلَى سَبْعَة عشر أخذن دِينَارا دِينَارا وَالْحَمْد لله فصل
فِي معنى الْكَلَالَة
وَقَوله تَعَالَى {وَإِن كَانَ رجل يُورث كَلَالَة أَو امْرَأَة} الْآيَة لفظ الْكَلَالَة من الإكليل الْمُحِيط بِالرَّأْسِ لِأَن الْكَلَالَة وراثة من لَا أَب لَهُ وَلَا ولد فتكللت الْعصبَة أَي أحاطت بِالْمَيتِ من كلا الطَّرفَيْنِ وأصل هَذِه الْكَلِمَة مصدر مثل الْقَرَابَة وَالصَّحَابَة أَلا ترى أَنَّهَا لما كَانَت فِي معنى الْقَرَابَة جَاءَت على وَزنهَا ثمَّ سمى الْوَرَثَة
(1/69)
الَّذين هم أقرباء الْمَيِّت دون الْوَلَد وَالْأَب كَلَالَة بِالْمَصْدَرِ كَمَا تَقول هم قرَابَة أَي ذَوُو قرَابَة وهم صحابة أَي ذَوُو صحابة وَأما صُحْبَة بِغَيْر ألف فَجمع صَاحب مثل الكتبة جمع كَاتب فَإِذا عنيت الْمصدر قلت ورثوه عَن كَلَالَة كَمَا تَقول فعلت ذَلِك عَن كَرَاهَة قَالَ الشَّاعِر ورثتم قناة الْمجد لَا عَن كلال ... عَن ابْن منَاف عبد شمس وهَاشِم
وَإِذا جعلت الْكَلَالَة عبارَة عَن الْوَرَثَة فَهُوَ مجَاز مستحسن فِي الْقيَاس والاستعمال قَالَ الشَّاعِر والمرء بِجمع فِي الحيا ... ة وَفِي الْكَلَالَة مَا يسيم
أَي الْوَرَثَة الَّذين هم ذَوُو كَلَالَة مَا يسيم من المَال أَي يرعاه
(1/70)
وَقد رُوِيَ أَن جَابِرا قَالَ للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَيفَ أصنع فِي مَالِي وَلَيْسَ يَرِثنِي إِلَّا كَلَالَة
فَهَذِهِ حَقِيقَة الْكَلَالَة ومجازها وَلَا يَصح قَول من قَالَ الْكَلَالَة المَال وَلَا قَول من قَالَ إِنَّهَا الْمَيِّت وَإِن كَانَ قد قَالَ القدماء من الْمُفَسّرين الْكَلَالَة من لَا وَالِد لَهُ وَلَا ولد وَلَكِن لَا حجَّة فِي هَذَا لِأَن الْقَوْم أشاروا إِلَى الْمَعْنى دون تَفْسِير اللَّفْظ ففهم عَنْهُم أَن من مَاتَ وَلَا ولد لَهُ فَهُوَ الْمَوْرُوث بالكلالة لَا سِيمَا وهم إِنَّمَا فسروا قَوْله تَعَالَى {وَإِن كَانَ رجل يُورث كَلَالَة أَو امْرَأَة} فَقَالُوا هُوَ من لَا وَالِد لَهُ وَلَا ولد يعنون الرجل الَّذِي يُورث كَلَالَة وَالله أعلم فعلى هَذَا يكون إِعْرَاب الْكَلِمَة إِمَّا مَفْعُولا ثَانِيًا إِن عنيت بِهِ الْوَرَثَة وَالْمَفْعُول الأول مُضْمر فِي يُورث كَمَا تَقول هُوَ يلبس ثوبا وَيطْعم طَعَاما وَإِمَّا حَالا إِن عنيت بِهِ الْمصدر فَيكون التَّقْدِير يُورث وراثة كَلَالَة فَلَمَّا حذف ذكر الْوَرَثَة وَصَارَت مضمرة معرفَة عِنْد الْمُخَاطب بِمَا تقدم من اللَّفْظ الْمُشْتَقّ مِنْهَا صَارَت صفتهَا حَالا مِنْهَا كَمَا تَقول سَار بِهِ رويدا فرويدا حَال من السّير قَالَه سِيبَوَيْهٍ وضعفاء من النَّحْوِيين يعربون مثل هَذَا نعتا لمصدر
(1/71)
مَحْذُوف وَالَّذِي قدمْنَاهُ هُوَ الصَّوَاب وحسبك أَنه مَذْهَب صَاحب الْكتاب وَوجه الْحجَّة يطول فصل
فِي المُرَاد بالعخوة وتساويهم رجَالًا وَنسَاء
وَإِذا ثَبت هَذَا فالأخوة فِي هَذِه الْآيَة هم الْأُخوة لأم بِلَا خلاف وَقد رُوِيَ أَن بعض الصَّحَابَة كَانَ يقْرؤهَا وَهُوَ أبي وَله أَخ أَو أُخْت لأم إِمَّا أَنه قَالَهَا على التَّفْسِير وَإِمَّا أَنَّهَا كَانَت قِرَاءَة فنسخت على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَقِي حكمهَا كَمَا قيل فِي قِرَاءَة عَائِشَة وَحَفْصَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَصَلَاة الْعَصْر
وَأما الْكَلَالَة الْمَذْكُورَة فِي آخر السُّورَة وَهِي قَوْله {إِن امْرُؤ هلك لَيْسَ لَهُ ولد وَله أُخْت} فَهِيَ الشفيقة أَو الَّتِي للْأَب إِن عدمت الشَّقِيقَة بِلَا خلاف أَيْضا فَفرض الله سُبْحَانَهُ للإخوة للْأُم الثُّلُث وَإِن كَثُرُوا وللواحد مِنْهُم السُّدس
وَقَوله تَعَالَى {فهم شُرَكَاء فِي الثُّلُث} يدل على تَسَاوِي الذّكر وَالْأُنْثَى
(1/72)
فِي الْحَظ لِأَن لفظ الشّركَة إِذا أطلق فَإِنَّمَا يتَضَمَّن التَّسَاوِي حَتَّى يُقيد بِنَصِيب مَخْصُوص لَو أَن رجلا ابْتَاعَ سلْعَة فَسَأَلَهُ رجل آخر أَن يشركهُ فِيهَا فَقَالَ لَهُ قد أَشْرَكتك فِيهَا ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك لم أرد نصفا وَإِنَّمَا أردْت ثلثا أَو ربعا لم يَنْفَعهُ ذَلِك إِلَّا أَن يُقيد لَفظه فِي حِين الشّركَة وَإِنَّمَا أَخذ الْفُقَهَاء هَذَا من قَوْله تَعَالَى {فهم شُرَكَاء فِي الثُّلُث} أَي للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَى
ونكتة الْمَسْأَلَة وَالله أعلم أَن الْأُخوة للْأُم إِنَّمَا ورثوا الْمَيِّت بالرحم وَحُرْمَة الْأُم وَأَن الْأُم تحب لولدها مَا تحب لنَفسهَا ويشق عَلَيْهَا أَن يحرموا من أخيهم وَقد ارتكضوا مَعَه فِي رحم وَاحِدَة فأعطوا الثُّلُث وَلم يزادوا عَلَيْهِ لِأَن الْأُم الَّتِي بهَا ورثوا لَا تزاد عَن الثُّلُث وَكَأن هَذِه الْفَرِيضَة من بَاب الصِّلَة وَالْبر وَالصَّدَََقَة فَمن ثمَّ سوي الذّكر مَعَ الْأُنْثَى كَمَا لَو وصّى بِصَدقَة أَو صلَة لأهل بَيت لشركوا فِيهَا على السوَاء ذكورهم وإناثهم أَلا ترى أَن الثُّلُث مَشْرُوع فِي الْوَصِيَّة الَّتِي يَبْتَغِي فِيهَا ثَوَاب الله الْعَظِيم قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لسعد حِين أَرَادَ أَن يُوصي بِأَكْثَرَ من الثُّلُث الثُّلُث وَالثلث كثير الحَدِيث كَأَنَّهُ نظر عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى فرض الله
(1/73)
تَعَالَى للأخوة بِسَبَب الرَّحِم وَحُرْمَة الْأُم وَأَنه لم يزدهم على الثُّلُث وَإِن كَثُرُوا فَكيف يُزَاد من هُوَ أبعد مِنْهُم فِي حكم الْوَصِيَّة بل الثُّلُث فِي حَقهم كثير وَالْقُرْآن وَالسّنة نوران من مشكاة وَاحِدَة فَينْظر بعضه إِلَى بعض وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا فصل
فِي مِيرَاث الْأُخوة مَعَ الْكَلَالَة
وَمن الْعَجَائِب أَن الْكَلَالَة فِي هَذِه الْآيَة لَا يَرث فِيهَا الْأُخوة مَعَ الْبِنْت وَهُوَ لم يقل فِيهَا {لَيْسَ لَهُ ولد} كَمَا قَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى أَلا ترى إِلَى قَوْله فِيهَا {إِن امْرُؤ هلك لَيْسَ لَهُ ولد} ثمَّ ورثت فِيهَا الْأَخَوَات مَعَ الْبِنْت وَالْبِنْت ولد وَهَذِه الَّتِي لم يذكر فِيهَا الْوَلَد لَا يَرث الْأُخوة مَعَ ولد أصلا لَا ذكرا وَلَا أُنْثَى وَيتَعَيَّن الاعتناء بِهَذَا السُّؤَال والكشف عَنهُ
وَالْجَوَاب فِيهِ من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الْأُخْت الشَّقِيقَة وَالَّتِي للْأَب لَيْسَ لَهَا مَعَ الْبِنْت فرض مَعْلُوم وَإِنَّمَا يرثن بالتعصب فَيكون معنى قَوْله فلهَا نصف مَا ترك فلأخته النّصْف فَرِيضَة إِذا لم يكن ولد ذكر وَلَا أُنْثَى فَإِن كَانَت بِنْتا فَلَيْسَ للْأُخْت فَرِيضَة وَإِنَّمَا لَهَا مَا بَقِي وَالَّذِي يبْقى بعد الْبِنْت الْوَاحِدَة نصف وَبعد الْبَنَات ثلث وَإِن كَانَ مَعَ الْبَنَات من لَهُ فرض مُسَمّى يُحِيط بِالْمَالِ مَعَ سهم الْبَنَات لم يكن للأخوة سهم فَلَيْسَ فِي تَوْرِيث الْأَخَوَات مَعَ الْبِنْت مَا يُعَارض نَص الْآيَة على هَذَا
وَالْجَوَاب الثَّانِي وَهُوَ التَّحْقِيق أَن فرض الْأُخوة للْأُم إِنَّمَا شَرط فِيهِ عدم الْبِنْت وَالِابْن جَمِيعًا لقَوْله {وَإِن كَانَ رجل يُورث} وَلم يقل فِي الْكَلَالَة
(1/74)
الثَّانِيَة يُورث هَذَا اللَّفْظ وَقد قدمنَا عِنْد قَوْله {وَورثه أَبَوَاهُ} أَنه يَقْتَضِي الْإِحَاطَة بِجَمِيعِ المَال مَا لم يُقيد بِجُزْء مَخْصُوص فَتَأمل الشواهد عَلَيْهِ هُنَاكَ ثمَّ تدبر قَوْله {يُورث كَلَالَة} تَجِد لفظا مغنيا عَن أَن يَقُول {لَيْسَ لَهُ ولد} كَمَا قَالَ فِي الْكَلَالَة الْأُخْرَى فَمن هُنَا أَجمعُوا وَالله أعلم أَنه لَا مِيرَاث لَهُم مَعَ بنت وَلَا بنت ابْن لِأَنَّهُ لَا يُقَال من ترك بِنْتا يُورث كَلَالَة لِأَن الْكَلَالَة لم تَرث إِلَّا نصف المَال وَلَا يُقَال ورثته إِلَّا أَن تَرث المَال كُله فِي جيد الْكَلَام وفصيحه أَلا ترَاهُ يَقُول {وَهُوَ يَرِثهَا إِن لم يكن لَهَا ولد} أَي يُحِيط بميراثها فصل
فِي أَلْفَاظ ابْني الْكَلَالَة
قَوْله {أَو امْرَأَة} وَقَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى {إِن امْرُؤ} وَلم يقل امْرَأَة لِأَن لفظ الْمَرْء بتضمنها ويتضمن الْكَبِير وَالصَّغِير
(1/75)
كَمَا قَالَ أيريد الْمَرْء أَن يُؤْتى مناه
وكما قَالَ أوما الْمَرْء إِلَّا كالشهاب وضوئِهِ يحور رَمَادا بَعْدَمَا هُوَ سَاطِع وكما قَالَ وَمَا الْمَرْء مَا دَامَت حشاشة نفسهأ
فالمرء فِي هَذَا كُله لَا يُرَاد بِهِ ذكر دون أُنْثَى وَلَا كَبِير دون صَغِير لِأَنَّهُ اسْم للْجِنْس أَلا ترى أَن قَوْله سُبْحَانَهُ {وَلحم الْخِنْزِير} قد تضمن الذّكر وَالْأُنْثَى وَالصَّغِير وَالْكَبِير لُغَة وَشرعا فَكَذَلِك هَذَا
وَأما آيَة الكلال فَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى ذكر الْمَرْأَة لِأَن لفظ الرجل لَا يتضمنها
فَإِن قيل إِن لفظ الرجل لَا يتَضَمَّن الصَّغِير وَقد كَانَ لفظ الْمَرْء أَعم من لفظ الرجل فَمَا الْحِكْمَة وَمَا الْفرق بَين هَذِه الْآيَة وَالْآيَة الْأُخْرَى الَّتِي ورد فِيهَا لفظ الْمَرْء
قُلْنَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن الرجل لَا يَقع علا على الْعَاقِل والمكلف وَلم يقْتَصر فِي هَذِه الْآيَة على بَيَان حكم الْمِيرَاث فَقَط بل ذكر فِيهَا حكم الْوَصِيَّة وَالدّين وَالنَّهْي عَن المضارة بقوله {غير مضار} وَهَذِه أَحْكَام تخْتَص بالكبير
(1/76)
فوردت الْآيَة بِلَفْظ الرجل وَدخل الصَّغِير فِي حكمه الَّذِي هُوَ الْفَرِيضَة من جِهَة الْمَعْنى لَا من جِهَة اللَّفْظ وَلَيْسَ كل حكم يُؤْخَذ من اللَّفْظ بل أَكْثَرهَا تُؤْخَذ من جِهَة الْمعَانِي والاستنباط من النُّصُوص بِالْعِلَّةِ الجامعة بَين الْحكمَيْنِ وَالله الْمُسْتَعَان مَسْأَلَة
من بَاب التَّنْبِيه على إعجاز الْآيَة وأسرار بلاغتها وَالْحكم المتضمنة فِيهَا وَهِي إِضَافَة النّصْف إِلَى مَا بعده فِي قَوْله {نصف مَا ترك أزواجكم} وَفِي قَوْله {فلهَا نصف مَا ترك} وَلم يقل فِي السِّهَام كَذَلِك وَإِنَّمَا قَالَ {الرّبع مِمَّا تركْتُم} و {السُّدس مِمَّا ترك} و {الثّمن مِمَّا تركْتُم} بِحرف الْجَرّ لَا بِالْإِضَافَة ونريد أَن نختم الْبَاب بشرح هَذِه الْمَسْأَلَة ليَكُون الْكتاب كُله كَأَنَّهُ تَفْسِير الْآيَة وَشرح لمضمنها وتنبيه على إعجازها وَالله الْمُسْتَعَان فصل
فِي مصَادر افرائض من السّنة
قد أَتَيْنَا على مَا تتضمنه الْآيَة من أصُول الْفَرَائِض وَقَالَ السّلف من الْعلمَاء قد أبقى الْقُرْآن موضعا للسّنة وأبقت السّنة موضعا للِاجْتِهَاد والرأي ثمَّ إِن الْقُرْآن قد أحَال على السّنة بقوله {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} الْآيَة
(1/77)
وأحال الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام بعد مَا بَين من أصُول الْفَرَائِض مَا بَين على زيد بن ثَابت بقوله فِي الحَدِيث وأفرضهم زيد بن ثَابت فَصَارَ قَول زيد أصلا عول عَلَيْهِ الْفُقَهَاء وَاسْتقر الْعَمَل بِهِ وَلذَلِك أضربنا عَن كثير من أَقْوَال الصَّحَابَة رضوَان اله عَلَيْهِم إِذا لم يجر بهَا حكم عِنْد فُقَهَاء الْأَمْصَار
فمما بَينه الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام من أصُول الْفَرَائِض إِلَى مَا فِي كتاب الله قَوْله ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِي فَهُوَ لأولى رجل ذكر رَوَاهُ ابْن عَبَّاس
(1/78)
فَوَجَبَ بِهَذَا الحَدِيث أَن يحجب أهل الْفَرَائِض لمن سواهُم من الْعصبَة والأقارب وَأَن يحجب الْأَقْرَب من الْعصبَة لمن دونه لقَوْله لأولى رجل وَأَن يحجب الشَّقِيق من الْإِخْوَة للْأَخ من الْأَب وَكَذَلِكَ الْعم شَقِيق الْأَب لِأَخِيهِ من الْأَب وَكَذَلِكَ ابْن الْعم وَابْن الْأَخ على هَذِه الرُّتْبَة لحَدِيث عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ إِنَّكُم لتقرءون من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين وَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِالدّينِ قبل الْوَصِيَّة وَأَن أَعْيَان بني الْأُم يتوارثون دون بني العلات الْأَخ للْأَب وَالأُم يَرث دون الْأَخ للْأَب
إِلَّا أَن هَذَا الحَدِيث يرويهِ الْحَارِث الْأَعْوَر وَهُوَ الْحَارِث بن يزِيد يكنى أَبَا زُهَيْر وَقد رَمَاه الشّعبِيّ بِالْكَذِبِ والْحَدِيث ضَعِيف من أَصله وَلَكِن هَذَا متلقى من الْعَمَل وَالنَّقْل الْمُتَوَاتر عَن
(1/79)
زيد بن ثَابت وَالصَّحَابَة لَا من هَذَا الحَدِيث لَكِن فِي الحَدِيث قُوَّة وَزِيَادَة بَيَان لما انْعَقَد عَلَيْهِ إِجْمَاع الْعلمَاء الَّذين هم حجَّة على من سنّ عَنْهُم وَبِاللَّهِ التَّوْقِيف
وَمن السّنَن الْوَارِدَة فِي الْفَرَائِض أَيْضا حَدِيث ابْن مَسْعُود أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى فِي بنت وَابْنَة ابْن أَن للْبِنْت النّصْف ولابنة الابْن السُّدس تَكْمِلَة الثُّلثَيْنِ وَهُوَ صَحِيح
وَمِمَّا جَاءَ فِي الحَدِيث أَيْضا من هَذَا الْبَاب حَدِيث طَاوس عَن عَائِشَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورث الْخَال
وَقد اخْتلف فِي رفع هَذَا الحذيث وروى أَيْضا عَن طَرِيق الْمِقْدَام بن معد يكرب ومعاد وَغَيره
(1/80)
وَمن السّنَن حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورث للْجدّ السُّدس الآخر طعمة خرجه التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد
وَقد قيل إِن أول جد ورث فِي الْإِسْلَام عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ مَاتَ لَهُ ابْن اسْمه عَاصِم فِي خِلَافَته وَخلف ابْنَيْنِ ثمَّ مَاتَ أَحدهمَا بعده بِيَسِير وَهَذَا أَيْضا مِمَّا لَا يُصَحِّحهُ أهل الْعلم بالأثر وَلَا يعرفهُ أهل الْأَنْسَاب وَالسير وعنما الْمَعْرُوف عِنْدهم أَن عَاصِم بن عمر عَاشَ بعد أَبِيه كثيرا وَمَات سنة سبعين فرثاه أَخُوهُ عبد الله بن عمر فَقَالَ فليت المنايا كن خلفن عَاصِمًا فعشنا جَمِيعًا أَو ذهبن بِنَا مَعًا
وَعَاصِم هَذَا هُوَ الَّذِي خَاصَمت فِيهِ جدته لعمر بن الْخطاب وَاسْمهَا الشموس بنت أبي عَامر خاصمته فِيهِ إِلَى أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فَقضى لَهَا بالحضانة وَذَلِكَ فِي خلَافَة أبي
(1/81)
بكر وَعَاصِم يَوْمئِذٍ ابْن أَربع سِنِين وَقيل ابْن ثَمَان وَلَا يعرف لَهُ ابْن اسْمه عَاصِم غَيره
وَأما أول موروث فِي الْإِسْلَام فعدي بن نَضْلَة بن عبد الْعُزَّى بن حرثان بن عَوْف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كَعْب بن لؤَي وَرثهُ النُّعْمَان وَهُوَ الْقَائِل لَعَلَّ أَمِير الْمُؤمنِينَ يوءه تَنَادمنَا بالجوسق المتقادم فَعَزله عمر من أجل هَذَا الْبَيْت
وَأما الْجدّة أم الْأُم فقد صَحَّ تَوْرِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهَا السُّدس فَثَبت لَهَا ذَلِك بِالنَّصِّ وَورث أَبُو بكر وَعمر الْجدّة الْأَقْوَى وَقَالا أيكما خلت بِهِ فَهُوَ لَهَا وَإِن اجتمعتما فَهُوَ بَيْنكُمَا فَكَانَ تَوْرِيث الْجدّة أم الْأَب بِاجْتِهَاد من الصّديق رَضِي الله عَنهُ مَعَ مُوَافقَة الصَّحَابَة وَلذَلِك يسْقط حَظّ هَذِه الْجدّة إِذا كَانَت أبعد من أم الْأُم فَإِن كَانَت أم الْأُم هِيَ أبعد أَو كَانَت أم الْأَب هِيَ أقرب مِنْهَا لم تحجبها لِأَن الْجدّة أم الْأُم ورثت بِنَصّ السّنة الورادة
(1/82)
عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَت أصلا فَلم تحجبها الْأُخْرَى بِحَال وَالله أعلم والبعدى هِيَ أم أم الْأَب وَأم أم الْأُم وَأما أم أبي الْأَب فَلَا تَرث فِي قَول أَكْثَرهم
وَهَذِه رِوَايَة خَارِجَة بن زيد عَن أَبِيه وروى أهل الْعرَاق عَن زيد خلاف هَذَا وَسَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله
وَرُوِيَ أَيْضا أَن أول جدة ورثهَا النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام جدة وَابْنهَا حَيّ وَقَالَ بِهِ طَائِفَة من الصَّحَابَة هَذَا وَالتَّابِعِينَ وَقد اخْتلف فِي صِحَة هَذَا الحَدِيث وتأويله وَالله أعلم
(1/83)
فصل
فِي بَيَان معنى فَلأولى رجل ذكر
وَأما الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي قدمْنَاهُ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِي فَهُوَ لأولى رجل ذكر فَهُوَ أصل فِي الْفَرَائِض وَقسم الْمَوَارِيث وتوريث الْعصبَة الْأَدْنَى فالأدنى إِلَّا أَنه حَدِيث فِيهِ إِشْكَال وتلقاه النَّاس أَو أَكْثَرهم على وَجه لَا تصح إِضَافَته إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قد أُوتِيَ جَوَامِع الْكَلم وَاخْتصرَ لَهُ الْكَلَام اختصارا وَهُوَ أخبر بِهَذَا عَن نَفسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعنِي قَوْله أُوتيت جَوَامِع الْكَلم وَاخْتصرَ لي الْكَلَام اختصارا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ
وَالَّذِي تَأَوَّلَه عَلَيْهِ النَّاس أَن قَوْله لأولى رجل ذكر أَي أقرب الرِّجَال من الْمَيِّت وأقعدهم وَأَن قَوْله {ذكر} نعت لرجل
وَهَذَا التَّأْوِيل لَا يَصح من ثَلَاثَة أوجه
أَحدهمَا عدم الْفَائِدَة فِي وصف رجل بِذكر إِذْ لَا يتَصَوَّر أَن يكون رجل إِلَّا وَهُوَ ذكر ويجل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(1/84)
عَن أَن يتَكَلَّم بِمَا هُوَ حَشْو من الْكَلَام لَيْسَ فِيهِ فَائِدَة وَلَا تَحْتَهُ فقه وَلَا يتَعَلَّق بِهِ حكم
الْوَجْه الثَّانِي أَنه لَو كَانَ كَمَا تأولوه لنَقص فقه الحَدِيث وَلم يكن فِيهِ بَيَان لحكم الطِّفْل الرَّضِيع الَّذِي هُوَ لَيْسَ بِرَجُل وَقد علم أَن الْمِيرَاث يجب للأقعد وَإِن كَانَ ابْن سَاعَة وَلَا يُقَال فِي عرف اللُّغَة رجل إِلَّا للبالغ فَمَا فَائِدَة تَخْصِيصه بِالْبَيَانِ دون الصَّغِير
وَالْوَجْه الثَّالِث أَن الحَدِيث إِنَّمَا ورد لبَيَان من يجب لَهُ الْمِيرَاث من الْقَرَابَة بعد أَصْحَاب السِّهَام فَلَو كَانَ كَمَا تأولوه لم يكن فِيهِ بَيَان لقرابة الْأُم والتفرقة بَينهم وَبَين قرَابَة الْأَب فَبَقيَ الحَدِيث مُجملا لَا بفيد بَيَانا وَإِنَّمَا بعث عَلَيْهِ السَّلَام ليبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم
وَإِذا ثَبت هَذَا فلنذكر معنى الحَدِيث ثمَّ نعطف على مَوضِع الْإِشْكَال مِنْهُ وَبَيَان الْغَلَط فنبينه بعون الله فَنَقُول
قَوْله أولى رجل ذكر يُرِيد الْقَرِيب الْأَقْرَب فِي النّسَب الَّذِي قرَابَته من قبل رجل وصلب لَا من قبل بطن ورحم فَالْأولى أولى الْمَيِّت فَهُوَ مُضَاف إِلَيْهِ فِي الْمَعْنى دون اللَّفْظ إِضَافَة نسب وَهُوَ فِي اللَّفْظ مُضَاف إِلَى السَّبَب وَهُوَ الصلب وَعبر عَن الصلب بقوله أولى رجل لِأَن الصلب لَا يكون ولدا وَلَا سِيمَا حَتَّى يكون رجلا
وَأفَاد قَوْله أولى رجل يُرِيد الْقَرِيب الْأَقْرَب نفي الْمِيرَاث عَن الأولى الَّذِي هُوَ من قبيل الْأُم كالخال لِأَن الْخَال أولى الْمَيِّت ولَايَة بطن لَا ولَايَة صلب
(1/85)
وَأفَاد بقوله {ذكر} نفي الْمِيرَاث عَن النِّسَاء وَإِن يكن من الْأَوَّلين بِالْمَيتِ من قبل صلب لِأَنَّهُنَّ إناث فَذكر نعت لأولى وَلما كَانَ مخفوضا فِي اللَّفْظ حسب أَنه نعت لرجل
وَلَو قلت من يَرث هَذَا الْمَيِّت بعد ذَوي السِّهَام لوَجَبَ أَن يُقَال لَك يَرِثهُ أولى رجل ذكر بِالرَّفْع لِأَنَّهُ نعت للْفَاعِل
وَلَو قلت من يعْطى المَال لقيل لَك أعْطه أولى رجل ذكرا بِالنّصب لِأَنَّهُ نعت لأولى
فَمن هُنَا دخل الْإِشْكَال
وَمن وَجه آخر هُوَ أَن أولى على وزن أفعل وَهَذَا إِذا أُرِيد بِهِ التَّفْضِيل كَانَ بعض مَا يُضَاف إِلَيْهِ فَإِذا قلت هُوَ أحسن رجل فَمَعْنَاه أحسن الرِّجَال وَكَذَلِكَ إِذا قلت أعلم إِنْسَان فَمَعْنَاه أعلم النَّاس فَتوهم أَن قَوْله أولى رجل أَي أولى الرِّجَال وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك وَإِنَّمَا هُوَ أولى الْمَيِّت بِإِضَافَة النّسَب وَأولى صلب بِإِضَافَة السَّبَب كَمَا تَقول أَخُوك أَخُو الرخَاء لَا أَخُو الشدَّة وهم أقربوك أقَارِب الطمع وإخوان الضَّرُورَة وَالنَّاس يَقُولُونَ هم إخْوَانِي وَلَكِن إخْوَان الضحك وَكَذَلِكَ يُقَال هُوَ مولَايَ مولى عتق فَالْأولى فِي الحَدِيث كالمولى
فَإِن قيل كَيفَ يُضَاف إِلَى الْوَاحِد وَلَيْسَ بِجُزْء مِنْهُ
قلت إِذا كَانَ مَعْنَاهُ الْأَقْرَب فِي النّسَب جَازَت إِضَافَته وَإِن لم
(1/86)
يكن جُزْءا مِنْهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أمك ثمَّ أمك ثمَّ أَبَاك ثمَّ أدناك فأدناك وَلَو أَرَادَ دنوا لَهُ لم يجز أَن يَقُول أدناك كَمَا لَا تَقول هُوَ أفهمك وَلَا أعلمك وَكَذَلِكَ قَول عَمْرو بن الْأَهْتَم عَن الزبْرِقَان هُوَ مُطَاع أدنيه أَي فِي قرَابَته وَقَول الشَّاعِر وَلَيْسَ المَال فاعلمه بِمَال وَإِن أنفقته إِلَّا الَّذِي أتنال بِهِ الْعَلَاء وتصطفيه لأَقْرَب أقربيك وللقصي
فَهَذَا جَائِز فِي الْأَدْنَى وَالْأولَى وَالْأَقْرَب إِذا أردْت بِهِ معنى النّسَب والقرابة قَالَ الله تَعَالَى {من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان} وَلَوْلَا الْأَب وَالأُم لأضاف فَقَالَ أولياؤه وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا لمراعاة الْمَعْنى إِذْ معنى أولاك وأدناك كمعنى قريبك وأخيك ونسيبك ثمَّ إِذا
(1/87)
أردْت أَن تبين كَيفَ هُوَ نسيبك أَو قريبك قلت قرَابَة صلب لَا قرباة بطن وَكَذَلِكَ تَقول هُوَ أولاك وَهُوَ أولى الْمَرْأَة المتوفاة أولى رجل وَهَذِه الْمَرْأَة هِيَ الوليا وَجَمعهَا الولييات والولى فَإِن بيّنت النّسَب قلت هِيَ وليا الْمَيِّت وليا رجل أَي ولَايَة صلب وَإِن شِئْت قلت هِيَ أولاه كَمَا تَقول فِي الذّكر هُوَ أولاه ثمَّ تبين السَّبَب فَتَقول هِيَ أولى رجل أَي قرابتها من قبل رجل
فلولا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لورثت الْمَرْأَة بِهَذِهِ الْولَايَة وَلَوْلَا قَوْله أولى رجل لورث الْخَال لِأَنَّهُ ذكر فَتَأمل هَذَا التَّفْسِير والشواهد عَلَيْهِ وَمَا يَقْتَضِيهِ لفظ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام إِذا تؤول بِهَذَا الْمَعْنى من السمانة والبلاغة والإيجاز مَعَ كَثْرَة الْمعَانِي تَجِد غَيره من التأويلات سَاقِطا لِأَنَّهُ يخرج لفظ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام عَن البلاغة إِلَى الْكَلَام الغث وَاللَّفْظ المسترث وحاشى لَهُ من ذَلِك وَلَو لم يكن فِي هَذَا الْمُخْتَصر إِلَّا هَذِه الْفَائِدَة لكَانَتْ تنماوى وحله فَالْحَمْد لله الَّذِي وفْق إِلَيْهَا وأعان عَلَيْهَا بعد قرع طَوِيل لبابها ومجاذبة للمغدف من حجابها وَمن أدمن قرع الْبَاب يُوشك أَن يفتح لَهُ وَالْحَمْد لله على مَا فتح وَالْحَمْد لله على مَا شرح وَالْحَمْد لله على مَا منح حمدا كثيرا مُبَارَكًا فِيهِ
(1/88)
فصل
فِيمَا إِذا عدم الْعصبَة
فَهَذَا الحَدِيث وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ أصل فِي تَوْرِيث الْعصبَة من قبل الْأَب دون ذَوي الْأَرْحَام وَإِنَّمَا استحقوا ذَلِك لأَنهم وُلَاة دمة وَالَّذين يعْقلُونَ عَنهُ ويغضبون لَهُ وبهم يكاثر الْأَعْدَاء دون قرَابَة أمه لِأَن قرَابَة الْأُم دعوتهم إِلَى قوم آخَرين وَقَول الله عز وَجل {وأولو الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} مَخْصُوص بذوي السِّهَام من الْقَرَابَة خصصه الحَدِيث الْمُتَقَدّم وَقَول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله قد أعْطى كل ذِي حق حَقه فَلَا وَصِيَّة لوَارث فَإِذا عدم الْعصبَة فَمَا بَقِي بعد ذَوي السِّهَام فللمسلمين لأَنهم يعْقلُونَ إِذا عدم بَنو الْعم
وَقَالَت طَائِفَة من أهل الْعلم ذَوُو الْأَرْحَام أولى من بَيت مَال الْمُسلمين لأَنهم يدلون إِلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وبالرحم وَغَيرهم من الْمُسلمين إِنَّمَا يُدْلِي بِسَبَب وَاحِد وَهُوَ الدّين ويحتجون أَيْضا بِحَدِيث معَاذ وَحَدِيث الْمِقْدَام الْمُتَقَدّم وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ وَقد قَالَ بِهَذَا القَوْل جمَاعَة من الْعلمَاء وَالله حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل
(1/89)
بَاب معرفَة أصُول الْفَرَائِض وَأَصْحَاب السِّهَام
(1/91)
بَاب
معرفَة أصُول الْفَرَائِض وَأَصْحَاب السِّهَام
أَصْحَاب الْفَرَائِض
السِّهَام سِتَّة نصف وَثلث وَثُلُثَانِ وَسدس وَربع وَثمن
وَأَصْحَاب السِّهَام عشرَة أَب وَأم وجد وَجدّة وَأُخْت شَقِيقَة وَأُخْت لأَب وَأُخْت لأم وَبنت وَبنت ابْن وَزوج وَزَوْجَة
وَمن أَصْحَاب السِّهَام من لَا يَرث أبدا إِلَّا بِالْفَرْضِ وَمِنْهُم من يَرث بِالْفَرْضِ تَارَة وبالتعصيب أُخْرَى
فَالَّذِي يَرث بِالْفَرْضِ وبالتعصيب الْأَخَوَات إِذا انفردن فهن من أهل السِّهَام فَإِذا كَانَ مَعَهُنَّ إخْوَة ذُكُور فهن من الْعصبَة وَكَذَلِكَ الْبَنَات وَأما بَنَات الابْن فهن مَعَ الْبِنْت الْوَاحِدَة أهل سهم وَهُوَ السُّدس تَكْمِلَة الثُّلثَيْنِ وَهن مَعَ البنتين لَا شَيْء لَهُنَّ إِلَّا أَن يكون مَعَهُنَّ ذكر مِثْلهنَّ فِي الْقعُود أَو أبعد مِنْهُنَّ فهن مَعَه عصبَة للْمَيت للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِن كَانَ أقرب للْمَيت مِنْهُم حجبهن فَلم يرثن شَيْئا
(1/93)
وَمِمَّنْ يَرث بِالْفَرْضِ والتعصيب أَيْضا الْجد فَإِنَّهُ مَعَ الْأُخوة عاصب مَا لم يكثروا حَتَّى ينقصوه من الثُّلُث فَإِن كَانَ ذَلِك فرض الثُّلُث فَرِيضَة ويفرض لَهُ السُّدس مَعَ الْبَنِينَ وَإِن كثر أَصْحَاب السِّهَام لم ينقصهُ من السُّدس وَإِن قلوا حَتَّى يعدموا فَالْمَال لَهُ بِالْفَرْضِ والتعصيب مَعًا وَكَذَلِكَ الْأَب لَهُ السُّدس مَعَ الْوَلَد وَله مَا بَقِي مَعَ عدم الْوَلَد بِالْفَرْضِ والتعصيب مَعًا
وَهَذِه مَسْأَلَة اخْتلف فِي لَفظهَا وَفِي التَّعْبِير عَنْهَا فَلفظ ابْن مَسْعُود فِي امْرَأَة تركت زَوجهَا وأباها للزَّوْج النّصْف وَللْأَب السُّدس فَرِيضَة فَمَا بَقِي فَهُوَ لَهُ يَعْنِي بِالتَّعْصِيبِ وَلَفظ زيد بن ثَابت للزَّوْج النّصْف وَمَا بَقِي للْأَب
فَظَاهر الِاخْتِلَاف أَنه يؤول إِلَى معنى وَاحِد وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَاف عبارَة وَمن الْعجب أَن هَذَا الِاخْتِلَاف اخْتلف فِيهِ أهوَ اخْتِلَاف فِي معنى أَو هُوَ اخْتِلَاف فِي عبارَة فَهُوَ اخْتِلَاف فِي اخْتِلَاف
وَمثل قَول ابْن مَسْعُود قَول فقهائنا فَإِنَّهُم يَقُولُونَ للْأَب السُّدس فَرِيضَة وَمَا بَقِي فَلهُ بِالتَّعْصِيبِ وَمثل قَول زيد قَول أبي إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ وَبَعض الشَّافِعِيَّة فَإِنَّهُم يَقُولُونَ للْأَب مَا بَقِي
(1/94)
ويجعلونه عاصبا فِي الْكل إِذا لم يكن وَارِث غَيره وَغَيرهم من الْفُقَهَاء يجعلونه إِذا انْفَرد وَارِثا السُّدس بِالْفَرْضِ ولسائر المَال بِالتَّعْصِيبِ فَكَأَن هَذَا اخْتِلَاف لفظ وَالْمعْنَى وَاحِد وَكَذَلِكَ قَالَ بعض أَئِمَّتنَا مِنْهُم أَبُو عمر رَحمَه الله
وَلَيْسَ هُوَ عِنْدِي إِلَّا اخْتِلَاف بعيد معنى ويثير حكما وسنبين هَذَا الِاخْتِلَاف وَفَائِدَته بعد الِاحْتِجَاج للقولين جَمِيعًا وتبيين أصل كل قَول من الْكتاب وَالسّنة بعون الله تَعَالَى
أما قَول من قَالَ إِن الْأَب برث الْكل بِالتَّعْصِيبِ وَأَنه لَا فرض لَهُ إِلَّا مَعَ الْوَلَد فحجتهم دَلِيل الْخطاب وَمَفْهُومه وَهُوَ أصل عِنْد الشَّافِعِيَّة وَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ الْحَنَفِيّ وَلَا الظَّاهِرِيّ وَمَالك رَحمَه الله يَقُول بِهِ على تَفْصِيل يطول ذكره وَقد صرح بالْقَوْل بِهِ فِي موطئِهِ فِي غير مَوضِع
وَدَلِيل الْخطاب الَّذِي تعلقوا بِهِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى {ولأبويه لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس مِمَّا ترك إِن كَانَ لَهُ ولد} فعلق حكم الْفَرْض بِوُجُود الْوَلَد وَإِذا تعلق الحكم بأخد الوصفين فَهُوَ مُنْتَفٍ عِنْد عدم الْوَصْف فَلَا فرض لَهُ إِذا عِنْد عدم الْوَلَد وَإِنَّمَا هُوَ عاصب
الْجَواب عَن هَذَا أَنا إِذا سلمنَا لَهُم دَلِيل الْخطاب فلقائل أَن يَقُول عنما يتَعَلَّق الحكم فِي القَوْل بِدَلِيل الْخطاب إِذا كَانَ أحد الوصفين منطوقا بِهِ وَالْآخر مسكوتا عَنهُ كَقَوْلِك أعْط زيدا إِن كَانَ ذَا عِيَال فههنا نَص وَدَلِيل أما النَّص فووب الْعَطاء وَأما الدَّلِيل فَيَقْتَضِي النَّهْي عَن الْعَطاء مَعَ عدم الْعِيَال وَعدم الْعِيَال مسكوت عَنهُ وَلكنه مَفْهُوم الْخطاب فَأَما مَا كَانَ منطوقا بِهِ فَلَا يكون مَفْهُوم الْخطاب كَقَوْلِك أعْط زيدا إِن كَانَ ذَا عِيَال دِينَارا وَإِن لم يكن ذَا عِيَال فأعطه نصف دِينَار فَغير جَائِز دَلِيل الْخطاب هَهُنَا وَقد علق بِكُل وصف حكما وَكَذَلِكَ الْآيَة لِأَنَّهُ قَالَ {لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس مِمَّا ترك إِن كَانَ لَهُ ولد} فَهَذَا نَص ثمَّ عطف
(1/95)
على الْمَسْكُوت عَنهُ بِالْبَيَانِ فَقَالَ {فَإِن لم يكن لَهُ ولد وَورثه أَبَوَاهُ} فَحكمه كَذَا وَكَذَا فَصَارَ معنى الْكَلَام إِن كَانَ لَهُ ولد فَلهُ السُّدس وَإِن لم يكن لَهُ ولد فليزد على السُّدس كَمَا تزاد الْأُم سدسا آخر فَيكون لَهَا الثُّلُث وَإِذا بَطل التَّعْلِيق بِدَلِيل الْخطاب فِي الْآيَة رَجعْنَا على حَدِيث ابْن عَبَّاس الصَّحِيح وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا الحَدِيث وَالْأَب من أَصْحَاب الْفَرَائِض فتناوله عُمُوم اللَّفْظ والعموم أقوى من دَلِيل الْخطاب لِأَنَّهُ لَفْظِي وَلِأَنَّهُ مجمع عَلَيْهِ عِنْد الْفُقَهَاء وآنما توقف فِيهِ أهل الْكَلَام لسَبَب لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكره
فَإِن قَالُوا لَيْسَ الْأَب من أهل الْفَرَائِض إِلَّا مَعَ وجود الْوَلَد فَكيف يدْخل فِي عُمُوم قَوْله ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا وَنحن إِنَّمَا كَانَ كلامنا فِي الْأَب الَّذِي لَيْسَ لَهُ ولد
فَالْجَوَاب أَن الْأَب قد جعل من أهل الْفَرَائِض لقَوْله سُبْحَانَهُ {ولأبويه لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس}
(1/96)
فَلَمَّا جعل مَعَ وجود الْوَلَد من أهل الْفَرَائِض لم يخرج عَن عُمُوم اللَّفْظ فِي قَوْله ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا فصل فِي فَائِدَة هَذَا الْخلاف
وَأما فَائِدَة هَذَا الْخلاف وفقهه فَإِنَّمَا يظْهر فِي مسَائِل من الْوَصَايَا مثل أَن توصي امْرَأَة لَهَا زوج وَأب بِثلث مَا يبْقى من مَالهَا بعد أَخذ ذَوي الْفُرُوض سِهَامهمْ فَإِن قُلْنَا إِنَّه يَرث بِالتَّعْصِيبِ فَلَيْسَ ثمَّ ذُو فرض إِلَّا الزَّوْج فَتكون الْوَصِيَّة وَاقعَة على ثلث النّصْف وَهُوَ السُّدس من الْكل فَيصير معنى كَلَامهَا قد تَصَدَّقت بِثلث نصف مَالِي وَهُوَ السُّدس لِأَن النّصْف هُوَ الْبَاقِي بعد فرض الزَّوْج فَأصل الْفَرِيضَة من اثْنَيْنِ على هَذَا فتنقسم من اثْنَي عشر فَيكون السُّدس للْمُوصى إِلَيْهِ وَهُوَ اثْنَان وَيبقى عشرَة للزَّوْج النّصْف وَللْأَب مَا بَقِي وَذَلِكَ خَمْسَة لِأَنَّهُ لَا مِيرَاث إِلَّا بعد إِخْرَاج الْوَصِيَّة
وعَلى القَوْل الثَّانِي أَنه يَرث بِالْفَرْضِ والتعصيب مَعًا أصل الْفَرِيضَة من سِتَّة وتنقسم من سَبْعَة وَعشْرين لِأَن الْبَاقِي بعد السِّهَام هُوَ الثُّلُث وَالَّذِي أوصت بِهِ ثلث الثُّلُث وَهُوَ التسع من الْكل
(1/97)
فَتضْرب ثَلَاثَة فِي تِسْعَة من أجل التسع فَذَلِك سَبْعَة وَعِشْرُونَ للْمُوصى إِلَيْهِ ثَلَاثَة وَيبقى للْوَرَثَة أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ للزَّوْج النّصْف وَللْأَب السُّدس وَهُوَ أَرْبَعَة وَمَا بَقِي فَهُوَ لَهُ بِالتَّعْصِيبِ لِأَن الْفِعْل فِي فَرِيضَة السِّتَّة إِذا أوصى الْمَيِّت بِالتسْعِ أَن يُضَاف إِلَى عدد الْفَرِيضَة الثّمن وَثمن السِّتَّة كسر وللستة نصف كَمَا للثمانية نصف وَهُوَ الْأَرْبَعَة فَتضْرب أَرْبَعَة فِي سِتَّة بأَرْبعَة وَعشْرين ثمنهَا ثَلَاثَة فتزيد ثَلَاثَة على أَرْبَعَة وَعشْرين فَيكون الْعدَد تِسْعَة أَجزَاء بِغَيْر كسر فَيَأْخُذ الْمُوصى إِلَيْهِ التسع وَيكون للْوَرَثَة مَا بَقِي
فَإِن كَانَ الْهَالِك رجلا ترك امْرَأَة وَأَبا فَأصل الْفَرِيضَة من أَرْبَعَة إِذا قُلْنَا إِن الْأَب يَرث بِالتَّعْصِيبِ وَأَنه لَا سدس لَهُ فَرِيضَة فللزوجة ربع وَللْأَب مَا بَقِي فَإِن أوصى الزَّوْج بِثلث مَا بَقِي فَهُوَ الرّبع من الْكل فتضيف إِلَى الْفَرِيضَة ثلثهَا وَلَا ثلث للأربعة فَتضْرب ثَلَاثَة فِي أَرْبَعَة بإثني عشر ثمَّ تضيف إِلَى الاثْنَي عشر ثلثهَا وَذَلِكَ أَرْبَعَة فينقسم المَال من سِتَّة عشر للْمُوصى إِلَيْهِ الرّبع وللزوجة ربع مَا بَقِي وَهُوَ ثَلَاثَة وَللْأَب بِالتَّعْصِيبِ تِسْعَة
وَإِن قُلْنَا إِن للْأَب السُّدس فَرِيضَة فَأصل الْفَرِيضَة من اثْنَي عشر للزَّوْجَة الرّبع وَهِي ثَلَاثَة وَللْأَب السُّدس وَهُوَ اثْنَان وَمَا بَقِي سَبْعَة يَأْخُذهَا بِالتَّعْصِيبِ والهالك قد أوصى بِثلث مَا يبْقى بعد الْفَرَائِض وَذَلِكَ ثلث السَّبْعَة ونسبته إِلَى المَال ثلث نصف وَثلث سدس النّصْف
وتلخيصه سدس وَسدس سدس بِالْإِضَافَة إِلَى الْكل فَتضْرب
(1/98)
ثَلَاثَة فِي أصل الْفَرِيضَة من أجل الثُّلُث فَذَلِك سِتَّة وَثَلَاثُونَ سدسها سِتَّة وَسدس سدسها وَاحِد فَذَلِك سَبْعَة للْمُوصى إِلَيْهِ وَالْبَاقِي تِسْعَة وَعِشْرُونَ وَهِي لَا تَنْقَسِم إِلَيّ سدس وَربع فَتضْرب سِتَّة وَثَلَاثُونَ فِي سِتَّة وَذَلِكَ مِائَتَان وَسِتَّة عشر للْمُوصى إِلَيْهِ مِنْهَا اثْنَان وَأَرْبَعُونَ وَيبقى عدد لَا ربع لَهُ وَله نصف فَتضْرب اثْنَيْنِ فِي مِائَتَيْنِ وَسِتَّة عشر فَذَلِك أَرْبَعمِائَة وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ وَصَارَ معنى الضَّرْب إِلَى اثْنَي عشر فِي سِتَّة وَثَلَاثِينَ والاثنا عشر هِيَ أصل الْفَرِيضَة فحظ الْمُوصى إِلَيْهِ سدس وَسدس سدس وَذَلِكَ أَرْبَعَة وَثَمَانُونَ من أَرْبَعمِائَة واثنين وَثَلَاثِينَ وَالْبَاقِي ثَلَاثمِائَة وَثَمَانِية وَأَرْبَعُونَ للزَّوْجَة مِنْهَا الرّبع وَذَلِكَ سَبْعَة وَثَمَانُونَ للْأَب السُّدس وَذَلِكَ ثَمَانِيَة وَخَمْسُونَ فصل
فِيمَن يَرث بِالْفَرْضِ والتعصيب
وَمِمَّنْ يَرث بِالْفَرْضِ والتعصيب مَعًا ابْن الْعم إِذا كَانَ أَخا لأم فَإِن لَهُ السُّدس بِالْفَرْضِ وَالْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ فَإِن كَانَ مَعَه ابْن عَم لَيْسَ بِأَخ لأم فقد اخْتلف الصَّحَابَة فِي ذَلِك فَمنهمْ من حجب ابْن الْعم بالأخ
(1/99)
للْأُم وحجتهم أَنه يُدْلِي بسببين فحجب من يُدْلِي بِسَبَب وَاحِد كَمَا يحجب الْأَخ الشَّقِيق الْأَخ الَّذِي للْأَب وَكَذَلِكَ سَائِر الْعَصَبَات وَمِنْهُم من جعل السُّدس للْأَخ للْأُم وَقسم الْبَاقِي بَينهمَا وَعَلِيهِ الْعَمَل عِنْد مَالك وَهُوَ مَذْهَب زيد بن ثَابت
وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِي الْأُخوة للْأُم مَعَ الْإِخْوَة للْأَب وَالأُم إِذا كَانَ مَعَهم زوج وَأم وَهِي الَّتِي تسمى الْمُشْتَركَة وَاخْتلف فِيهَا قَول عمر وَقَول زيد بن ثَابت وَقد قيل إِن كَانَ صَاحب تكلم فِيهَا فقد اخْتلف عَنهُ فِيهَا إِلَّا عليا فَإِنَّهُ لم يخْتَلف عَنهُ أَنه لم يشركهم مَعَ الْإِخْوَة للْأُم فَللزَّوْج النّصْف وَللْأُمّ السُّدس وللإخوة للْأُم الثُّلُث فَرِيضَة فَلَا يبْقى للأشقاء شَيْء فَمن الْعلمَاء من حجبهم لأَنهم عصبَة الْمَيِّت وَقد أحاطت الْفَرَائِض بِالْمَالِ وَلَا شَيْء للْعصبَةِ إِلَّا مَا بَقِي بعد الْفَرَائِض وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْل عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ وَعلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ بِهِ من فُقَهَاء الْأَمْصَار جمَاعَة وَالَّذِي عَلَيْهِ مَذْهَبنَا أَن الْإِخْوَة الأشقاء يشتركون مَعَ الْإِخْوَة للْأُم فِي الثُّلُث لأَنهم كلهم يدلون بِالْأُمِّ وَيَقُول الأشقاء هَب أَبَانَا كَانَ حمارا أليست أمنا وَاحِدَة وَلذَلِك سميت الحمارية لِأَنَّهَا لما نزلت فِي زمن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ الْإِخْوَة
(1/100)
هَذَا القَوْل فسميت الْفَرِيضَة بذلك
وَلَيْسَ فِي النِّسَاء من يَرث بِالتَّعْصِيبِ على كل حَال إِلَّا مولاة النِّعْمَة وَهِي الْمُعتقَة
وَلَا يَرث من النِّسَاء إِلَّا سبع خمس بِالنّسَبِ وَوَاحِدَة بالصهر وَهِي الزَّوْجَة وَوَاحِدَة بِالْوَلَاءِ وَهِي الْمُعتقَة
وَيَرِث من الرِّجَال عشرَة ثَمَانِيَة بِالنّسَبِ وَوَاحِد بالصهر وَهُوَ الزَّوْج وَوَاحِد بِالْوَلَاءِ وَهُوَ الْمُعْتق ن فصل
فِي أصُول الْفَرَائِض وَفِي الْفَرَائِض العائلة
وَأما أصُول الْفَرَائِض فسبع فَرِيضَة من اثْنَيْنِ وفريضة من ثَلَاثَة وفريضة من أَرْبَعَة وفريضة من سِتَّة وفريضة من ثَمَانِيَة وفريضة من اثْنَي عشر وفريضة من أَرْبَعَة وَعشْرين
فَهَذِهِ أصُول الْفَرَائِض لَا عول فِيهَا ثمَّ يدْخل الْعَوْل فِي فَرِيضَة السِّتَّة فتعول إِلَى سَبْعَة وَإِلَى ثَمَانِيَة وَإِلَى تِسْعَة وَإِلَى عشرَة
وَيدخل الْعَوْل فِي فَرِيضَة الاثْنَي عشر فتعول إِلَى ثَلَاثَة عشر وَإِلَى
(1/101)
خَمْسَة عشر وَإِلَى سَبْعَة عشر
وَيدخل الْعَوْل أَيْضا فِي فَرِيضَة الْأَرْبَعَة وَالْعِشْرين فتعول إِلَى سَبْعَة وَعشْرين
فَجَمِيع الْفَرَائِض العائة ثَمَانِي فَرَائض والفرائض الَّتِي لَا عول فِيهَا أَربع فأصول الْفَرَائِض على هَذَا خَمْسَة عشر مَا بَين عائلة وَغير عائلة لِأَن فَرِيضَة الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة وَالْأَرْبَعَة وَالثَّمَانِيَة لَا يدخلهَا عول الْبَتَّةَ
وَمعنى الْعَوْل الْميل وَأكْثر الْمُفَسّرين قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {ذَلِك أدنى أَلا تعولُوا} مَعْنَاهُ أَلا تميلوا فَكل فَرِيضَة عائلة قد مَال فِيهَا بعض السِّهَام على بعض وَنقص من كل سهم قدر مَا يَقْتَضِيهِ التَّعْدِيل والتقسيط
وَلم يكن مَذْهَب ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فِي الْفَرَائِض إِذا عجز المَال عَنْهَا أَن يَأْخُذ بالعول فِيهَا وَاحْتج بِأَن الله تَعَالَى قد سمى لَهُم مَا سمى فَلَا سَبِيل إِلَى التنقص مِنْهُ وَلكنه كَانَ يسْقط مِنْهُم من يَرث فِي حَال دون حَال كالأخت وَالْجد وَالْجدّة وَلَا يسْقط من يَرث على كل حَال كالزوج وَالْبِنْت وَانْفَرَدَ بِهَذَا القَوْل وَهِي من إِحْدَى الْمسَائِل الْخمس الَّتِي انْفَرد بهَا رَضِي الله عَنهُ
(1/102)
فصل
فِي الْفَرِيضَة الأولى
إعذا ثَبت هَذَا فلنبدأ بالفريضة الَّتِي أَصْلهَا من اثْنَيْنِ وَهِي تَنْقَسِم ثَلَاثَة أضلع
أَحدهَا أَن يتْرك الْمُتَوفَّى أُخْتا
الثَّانِي أَن يتْرك بِنْتا
الثَّالِث أَن تتْرك المتوفاة زوجا فَفِي لَك هَذَا للْوَارِث النّصْف وَمَا بَقِي للْعصبَةِ فَإِن لم تكن الْعصبَة فلبيت مَال الْمُسلمين فهم يعصبونه كَمَا يعْقلُونَ عَنهُ الْفَرِيضَة الثَّانِيَة
الْفَرِيضَة الثَّانِيَة الَّتِي تقوم على ثَلَاثَة وَهِي تَنْقَسِم أَيْضا أَرْبَعَة أَقسَام
أَحدهَا أَن يدع المتوفي أما فلهَا الثُّلُث
الثَّانِي أَن يدع بنتين أَو أُخْتَيْنِ
الثَّالِث أَن يدع إخْوَة لأم أَزِيد من اثْنَيْنِ فَإِن كَانُوا اثْنَيْنِ أَو وَاحِدًا
(1/103)
فَأصل الْفَرِيضَة من سِتَّة لِأَن للْوَاحِد السُّدس وللإثنين السدسين فَإِن كَثُرُوا كَانُوا شُرَكَاء فِي الثُّلُث وَيكون للْعصبَةِ مَا بَقِي
الرَّابِع أَن يدع جدا مَعَ ثَلَاثَة إخْوَة فَصَاعِدا فَلهُ الثُّلُث فَرِيضَة وَمَعَ الْأَخَوَيْنِ الثُّلُث بالمقاسمة وَمَعَ الْأَرْبَع الْأَخَوَات فَصَاعِدا لَهُ الثُّلُث فَرِيضَة وَمَا دون ذَلِك يقاسمهن للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ الْفَرِيضَة الثَّالِثَة
وَهِي الَّتِي أَصْلهَا من أَرْبَعَة وَهِي تَنْقَسِم قسمَيْنِ زوج مَعَ ولد ذكر أَو أُنْثَى وَزَوْجَة مَعَ عدم الْوَلَد للْوَارِث فِي هَاتين الفريضتين الرّبع وَالْبَاقِي للْعصبَةِ الْفَرِيضَة الرَّابِعَة
وَهِي الَّتِي أَصْلهَا من سِتَّة وَهِي تَنْقَسِم ثَمَانِيَة أَقسَام
أَحدهَا أَن يدع الْهَالِك أَبَا وابنا فللأب السُّدس
وَالثَّانِي أَن يدع أما مَعَ ولد
وَالثَّالِث أَن يدع جدة لأم أَو لأَب أَو يدعهن جَمِيعًا فَيكون
(1/104)
السُّدس بَينهمَا وَإِن كَانَت الَّتِي للْأُم أدنى حجبت الْأُخْرَى وَإِن كَانَت الَّتِي للْأَب أبنى لم تحجب الْأُخْرَى هَذِه رِوَايَة خَارِجَة بن زيد عَن أَبِيه وَأهل الْمَدِينَة وَأما رِوَايَة الشّعبِيّ عَن زيد وَأيهمَا كَانَت أقرب حجبت الْأُخْرَى
الْقسم الرَّابِع من هَذِه الْفَرِيضَة وَهُوَ أَن يدع أَخا لأم أَو أَخَوَيْنِ
الْقسم الْخَامِس أَن يدع جدا مَعَ ولد أَو جدا مَعَ أم وَزوج فَلهُ السُّدس فَرِيضَة وَمَا كَانَ نَحْو هَذَا مما سَيَأْتِي تَفْصِيله إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ السُّدس مَعَ ذَوي السِّهَام فَإِن فضل شَيْء مِنْهُ فَهُوَ لَهُ بِالتَّعْصِيبِ
الْقسم السَّادِس أَن يدع أما مَعَ أَخَوَيْنِ اثْنَيْنِ فَصَاعِدا
الْقسم السَّابِع أَن يدع بِنْتا وَبنت ابْن لَيْسَ مَعَهُمَا ذكر فَإِن لَهَا السُّدس مَعَ الْبِنْت للصلب تَكْمِلَة الثُّلثَيْنِ
الْقسم الثَّامِن أَن يدع أُخْتا لأَب مَعَ أُخْت شَقِيقَة فلهَا السُّدس تَكْمِلَة الثُّلثَيْنِ
(1/105)
الْفَرِيضَة الْخَامِسَة
وَهِي الَّتِي أَصْلهَا من ثَمَانِيَة وَهِي قسم وَاحِد زَوْجَة مَعَ ابْن فلهَا الثّمن وَمَا بَقِي للْوَرَثَة عصبَة كَانُوا أَو غَيرهم الْفَرِيضَة السَّادِسَة
وَهِي الَّتِي أَصْلهَا من اثْنَي عشر وَذَلِكَ أَن يجْتَمع فِي المَال الْمَوْرُوث ربع وَثلث أَو ربع وَسدس أَو ربع وَثُلُثَانِ مثل أَن يدع الْهَالِك زَوْجَة وَأما أَو تدع الهالكة زوجا وبنتين وَمَا كَانَ نَحْو هَذَا مِمَّا اجْتمع فِيهِ ثلث أَو ثلثان أَو سدس مَعَ الرّبع فَإِن الْفَرِيضَة لَا تقوم من عدد بسيط لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعدَد الْبَسِيط مَا لَهُ ثلث وَربع أَو ربع وَسدس وَإِنَّمَا ذَلِك فِي الْعدَد الْمركب أَي الْمركب الِاسْم من اسْمَيْنِ أَو الْمَعْطُوف وَالْعدَد الْمركب مَا فَوق الْعشْرَة والبسيط مَا دون ذَلِك وَقد ذكرنَا فِي نتائج الْفِكر سر هَذَا التَّرْكِيب فِي اخْتِصَاصه بِالْعشرَةِ وَلم يكن فِيمَا دونهَا وَلَا فِيمَا هُوَ أَكثر
(1/106)
الْفَرِيضَة السَّابِعَة
فَرِيضَة أَرْبَعَة وَعشْرين وَهِي قسم وَاحِد وَهُوَ أَن يدع الْهَالِك زَوْجَة مَعَ بنتين فلهَا الثّمن وَمَا بَقِي فِي هَذَا الْبَاب على ثَلَاثَة أَقسَام
قسم يكون أصلا لفريضة وتنقسم مِنْهُ
وَقسم تَنْقَسِم الْفَرِيضَة مِنْهُ وَلَا يكون أصلا لَهَا كالخمسة
وَقسم لَا يكون أصلا لفريضة وَلَا تَنْقَسِم مِنْهُ كالأحد عشر والتسعة عشر وَنَحْو ذَلِك من الْعدَد الْأَصَم والأصم هُوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ جُزْء نسب إِلَيْهِ مُشْتَقّ من لَفظه وَغير الْأَصَم مَا لَهُ جُزْء كالخمس وَالسُّدُس وَغير ذَلِك وَلَيْسَ فِي الْعدَد الْأَصَم مَا يكون أصلا لفريضة تَنْقَسِم مِنْهُ إِلَّا الثَّلَاثَة عشر والسبعة عشر فَإِنَّهَا أصل فِي فَرَائض الْعَوْل وَقد يكون فِي الْعدَد مَا فِيهِ جَمِيع الْأَجْزَاء وَكلهَا من النّصْف على الْعشْر وَذَلِكَ لَا يُوجد فِيمَا دون الْأَلفَيْنِ وَخَمْسمِائة وَعشْرين وَهُوَ أول الْأَعْدَاد الَّتِي يجْتَمع فِيهَا نصف وَثلث وَربع وَخمْس وَسدس وَسبع وَثمن وتسع وَعشر بِغَيْر كسر فافهمه وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
(1/107)
بَاب كَيْفيَّة الْعَمَل فِي هَذِه الْفَرَائِض الَّتِي لَا عول فِيهَا
أما فَرِيضَة الِاثْنَيْنِ فَهِيَ تَنْقَسِم من الِاثْنَيْنِ أَولا النّصْف للزَّوْج أَو للْبِنْت إِن كَانَت بِنْتا أَو للْأُخْت إِن كَانَت أُخْتا وَالنّصف الثَّانِي للْعصبَةِ فَإِن كَانَ الْعصبَة اثْنَيْنِ ضربت عددهما ف أصل الْفَرِيضَة فَتَقول اثْنَان فِي اثْنَيْنِ بأَرْبعَة النّصْف مِنْهَا لصَاحب الْفَرِيضَة والاثنان للعاصبين وَاحِدًا وَاحِدًا
فَإِن كَانَ الْعصبَة ثَلَاثَة ضربت عَددهمْ فِي أصل الْفَرِيضَة ثَلَاثَة فِي اثْنَيْنِ سِتَّة لصَاحب النّصْف ثَلَاثَة وللعصبة ثَلَاثَة
فَإِن كَانَ الْعصبَة أَرْبَعَة ضربت عَددهمْ فِي أصل الْفَرِيضَة أَيْضا فتنقسم الْفَرِيضَة من ثَمَانِيَة لصَاحب النّصْف أَرْبَعَة وَيبقى للْعصبَةِ أَرْبَعَة وَهَكَذَا مَا زَاد عَددهمْ إِذا رَأَيْت الْكسر نصفا ضربت فِي أصل الْفَرِيضَة كَهَذا حَتَّى ينضاف إِلَيّ ذَلِك الْكسر مَا يجْبرهُ وَكَذَلِكَ لَو
(1/109)
كَانُوا عشرَة فَاضْرب الْعشْرَة فِي أصل الْفَرِيضَة وأصل الْفَرِيضَة اثْنَان فَذَلِك عشرُون لِأَنَّك لَو لم تفعل لَكَانَ لكل وَاحِد مِنْهُم عشر النّصْف وعنما الْفَرْض أَن تكون الْقِسْمَة بِلَا كسر فتجبر تِلْكَ الكسور وسبيل جبرها مَا ذكرنَا الْعَمَل فِي الْفَرِيضَة الثَّانِيَة الَّتِي أَصْلهَا من ثَلَاثَة
فتعطي الْأُم مثلا ثَلَاث وَيبقى الثُّلُثَانِ للعاصب فَعَن كَانَ الْعصبَة اثْنَيْنِ فَأصل الْفَرِيضَة من ثَلَاثَة وتنقسم من ثَلَاثَة ثلثا ثلثا
وَعَن كَانَ الْعصبَة ثَلَاثَة فاثنان بَين ثَلَاثَة لَا تَنْقَسِم إِلَّا بِكَسْر وَذَلِكَ الْكسر ثلث فَتضْرب ثَلَاثَة فِي أصل الْفَرِيضَة وَذَلِكَ تِسْعَة فَلصَاحِب الثُّلُث ثَلَاثَة وَتبقى سِتَّة بَين ثَلَاثَة اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ
فَإِن كَانَ الْعصبَة أَرْبَعَة فَلَيْسَ للأربعة ثلث إِلَّا بِالْكَسْرِ وَذَلِكَ الْكسر ثلث وللأربعة نصف إِذا ضربت فِي أصل الْمَسْأَلَة استقامت أجزاؤها فَتضْرب نصف الْأَرْبَعَة فِي الثَّلَاثَة فَيكون لصَاحب الثُّلُث اثْنَان وَتبقى أَرْبَعَة بَين أَرْبَعَة لِأَن الْكسر الدَّاخِل على الْعصبَة الَّذِي من أَجله لم يَنْقَسِم بَينهم الثُّلُثَانِ لَا يبغيان سدس فَمن ثمَّ لم تحتج أَن
(1/110)
تضرب عدد الْعصبَة فِي أصل الْفَرِيضَة كَمَا فعلنَا قبل للموافقة الَّتِي بَين نصف عَددهمْ وَبَين الْكسر الَّذِي هُوَ النّصْف وَإِذا انجبر لَهَا الْكسر بِنصْف الْعدَد أَو بِثُلثِهِ لم تحتج إِلَى أَن تضرب الْعدَد كُله فِي أصل الْفَرِيضَة
فَإِن كَانُوا خَمْسَة ضربنا خَمْسَة فِي ثَلَاثَة بِخَمْسَة عشر ثلثهَا خَمْسَة وَالْبَاقِي لَهُم بِغَيْر كسر
فَإِن كَانُوا سِتَّة لم تحتج على أَن تضرب كلهَا فِي أضلّ الْمَسْأَلَة لِأَن نصفهَا ثَلَاثَة وَالثَّلَاثَة مُوَافقَة للكسور الْمَانِعَة من الانقسام فتصرب الثَّلَاثَة فِي أصل الْفَرِيضَة فَذَلِك تِسْعَة ثلثهَا ثَلَاثَة وَتبقى سِتَّة لسِتَّة
فَإِن كن الْعصبَة سَبْعَة فاصرب فِي أصل الْفَرِيضَة فَذَلِك أحد وَعِشْرُونَ ثلثهَا سَبْعَة وَتبقى أَرْبَعَة عشر يأخذونها اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ
فَعَن كَانُوا ثَمَانِيَة فَلَا تحْتَاج على أَن تضرب ثَمَانِيَة فِي أصل الْفَرِيضَة لِأَن الْكسر ربع فَتضْرب أَرْبَعَة وَهُوَ نصف الثَّمَانِية فِي أصل الْفَرِيضَة وَذَلِكَ اثْنَا عشر ثلثهَا أَرْبَعَة وَتبقى ثَمَانِيَة لَهُم بأخذونها وَاحِدًا وَاحِدًا
فَإِن كَانُوا تِسْعَة فَتضْرب تِسْعَة فِي أصل الْفَرِيضَة بسبعة وَعشْرين ثلثهَا تِسْعَة وَتبقى لَهُم ثَمَانِيَة عشر اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ هَكَذَا الْقيَاس
(1/111)
فَإِن كَانُوا اثْنَي عشر فَلَا تحْتَاج إِلَى ضربهَا فِي أصل الْفَرِيضَة لِأَن نصفهَا مُوَافق للكسور الْمَانِعَة من الانقسام على التَّمام فَتضْرب نصف اثْنَي عشر فِي أصل الْفَرِيضَة فَذَلِك ثَمَانِيَة عشر ثلثهَا سِتَّة وَتبقى اثْنَا عشر لأثني عشر هَكَذَا مَا زَاد الْعدَد الْفَرِيضَة الثَّالِثَة
تَنْقَسِم من أَرْبَعَة وَأَصلهَا من أَرْبَعَة
فَإِن كَانَ الْعصبَة ثَلَاثَة أَخذ صَاحب الْفَرْض وَاحِدًا وَهِي الزَّوْجَة أَو الزَّوْج مَعَ الْوَلَد وَبقيت ثَلَاثَة لثَلَاثَة
فَإِن كَانَ الْعصبَة أَرْبَعَة فَاضْرب أَرْبَعَة فِي أصل الْفَرِيضَة وَذَلِكَ سِتَّة عشر ربعهَا أَرْبَعَة وبتقى اثْنَا عشر بَين أَرْبَعَة ثَلَاثَة ثَلَاثَة
وَإِن كَانُوا خَمْسَة فَاضْرب خَمْسَة فِي أصل الْفَرِيضَة خَمْسَة فِي أَرْبَعَة بِعشْرين ربعهَا خَمْسَة وَيبقى الْبَاقِي بَينهم بِلَا كسر
وَإِن كَانُوا سَبْعَة فَكَذَلِك فَتضْرب عَددهمْ فِي أصل الْفَرِيضَة
وَإِن كَانُوا ثَمَانِيَة فَتضْرب ثَمَانِيَة فِي أصل الْفَرِيضَة بِاثْنَيْنِ
(1/112)
وَثَلَاثِينَ ربعهَا ثَمَانِيَة وَالْبَاقِي لَهُم ثَلَاثَة ثَلَاثَة
وَإِن كَانُوا تِسْعَة فَلَا تحْتَاج على أَن تضرب التِّسْعَة كلهَا فِي الْفَرِيضَة لِأَن ثلثهَا مُوَافق للأجزاء فَتضْرب ثلث التِّسْعَة فِي أصل الْفَرِيضَة ثَلَاثَة فِي أَرْبَعَة بِاثْنَيْ عشر ربعهَا ثَلَاثَة فَتبقى التِّسْعَة للتسعة
وَإِن كَانُوا عشرَة فَاضْرب الْعشْرَة كلهَا فِي أصل الْفَرِيضَة وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ ربعهَا عشرَة وَيبقى ثَلَاثُونَ بَين عشرَة ثَلَاثَة ثَلَاثَة
هَكَذَا الْعَمَل فِيهَا أبدا على هَذَا الأَصْل الْفَرِيضَة الرَّابِعَة
الَّتِي أَصْلهَا من سِتَّة من أجل السُّدس فتنقسم من سِتَّة يَأْخُذ صَاحب السُّدس جُزْءا وَيبقى خَمْسَة للعاصب
فَإِن كَانَ الْعصبَة اثْنَيْنِ فَاضْرب عَددهمْ فِي أصل الْفَرِيضَة وَذَلِكَ اثْنَا عشر سدسها اثْنَان وَيبقى عشرَة بَين الْعصبَة وهم اثْنَان خَمْسَة خَمْسَة
فَإِن كَانُوا ثَلَاثَة فَاضْرب ثَلَاثَة فِي أصل الْفَرِيضَة ثَلَاثَة فِي سِتَّة بِثمَانِيَة عشر سدسها ثَلَاثَة وَتبقى لَهُم خسمة عشر خَمْسَة خَمْسَة
فَإِن كَانُوا أَرْبَعَة فَاضْرب أَرْبَعَة فِي سِتَّة بأَرْبعَة وَعشْرين سدسها
(1/113)
أَرْبَعَة وَالْبَاقِي لَهُم خَمْسَة خَمْسَة
فَإِن كَانُوا خَمْسَة فَاضْرب خَمْسَة فِي سِتَّة وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ سدسها خَمْسَة وَتبقى لَهُم خَمْسَة خَمْسَة
وَإِن كَانُوا سِتَّة فَاضْرب السِّتَّة فِي أصل الْفَرِيضَة سِتَّة فِي سِتَّة بِسِتَّة وَثَلَاثِينَ وَكَذَلِكَ إِن كَانُوا سَبْعَة فَاضْرب سَبْعَة فِي سِتَّة بِاثْنَيْنِ وَأَرْبَعين وَإِن كَانُوا ثَمَانِيَة فَاضْرب ثَمَانِيَة فِي سِتَّة هَكَذَا فَاصْنَعْ مَا زَاد الْعدَد إِلَّا أَن يكون لعددهم نصف أَو ثلث أَو ربع مُوَافق للأجزاء الَّتِي هِيَ الكسور الْمَانِعَة من الانقسام فَتضْرب ذَلِك الْجُزْء فِي أصل فَرِيضَة كَمَا تقدم وَهُوَ أصل لَا ينخرم الْفَرِيضَة الْخَامِسَة
وَهِي الَّتِي أَصْلهَا من ثَمَانِيَة وتنقسم من ثَمَانِيَة للزَّوْجَة الثّمن وللولد مَا بَقِي وَهُوَ سَبْعَة أَجزَاء من ثَمَانِيَة
فَإِن كَانُوا اثْنَيْنِ فَاضْرب اثْنَيْنِ فِي ثَمَانِيَة بِسِتَّة عشر ثمنهَا اثْنَان وَيبقى لَهما سَبْعَة سَبْعَة
فَإِن كَانُوا ثَلَاثَة فَاضْرب أَرْبَعَة فِي ثَمَانِيَة بِاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ثمنهَا أَرْبَعَة وَتبقى لَهُم سَبْعَة سَبْعَة
(1/114)
فَإِن كَانُوا أَرْبَعَة فَاضْرب أَرْبَعَة فِي ثَمَانِيَة بِاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ثمنهَا أَرْبَعَة وَتبقى لَهُم سَبْعَة سَبْعَة
فَإِن كَانُوا خَمْسَة فَاضْرب خَمْسَة فِي ثَمَانِيَة على ذَلِك الْحساب
وَإِن كَانُوا سِتَّة فَكَذَلِك وَعَن كَانُوا سَبْعَة فَكَذَلِك
وَإِن كَانُوا ثَمَانِيَة فَاضْرب الثَّمَانِية فِي أصل الْفَرِيضَة ثَمَانِيَة فِي ثَمَانِيَة بأَرْبعَة وَسِتِّينَ ثمنهَا ثَمَانِيَة وَيَأْخُذُونَ الْبَاقِي سَبْعَة سَبْعَة هَكَذَا الْقيَاس كَمَا تقدم الْفَرِيضَة السَّادِسَة
وَهِي الَّتِي أَصْلهَا من اثْنَي عشر وَلَا بُد فِيهَا من ربع مَعَ سدس أَو ربع مَعَ ثلث وَمن أجل ذَلِك كَانَت من اثْنَي عشر فَيَأْخُذ صَاحب الرّبع ربعهَا وَصَاحب السُّدس أَو الثُّلُث سدسها أَو ثلثهَا وَيبقى الْبَاقِي للْعصبَةِ وَالْبَاقِي بعد الرّبع وَالثلث خَمْسَة وَبعد الرّبع وَالسُّدُس سَبْعَة
فَإِن كَانَ العاصب وَاحِدًا أَخذ مَا بَقِي
فَإِن كَانَا اثْنَيْنِ فَاضْرب عَددهَا فِي أصل الْفَرِيضَة وَإِن كَانُوا ثَلَاثَة فَكَذَلِك وَإِن كَانُوا أَرْبَعَة فَكَذَلِك على الأَصْل الْمُتَقَدّم مَتى وجدت الْعدَد لَا يَنْقَسِم بَين الْوَرَثَة فَانْظُر من أَيْن جَاءَت الْعلَّة فَإِن كَانَ
(1/115)
من أجل كسر هُوَ ثلث فَاضْرب ثَلَاثَة فِي أصل الْعدَد فَيجْبر حَتَّى يتم وَإِن كَانَ من أجل كسر هُوَ ربع فَاضْرب أَرْبَعَة فِي أصل الْعدَد يجْبرهُ وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْخمس وَالسُّدُس والسبع وَالثمن وَالتسع وَالْعشر تنظر الْعدَد الَّذِي اشتق مِنْهُ ذَلِك الْجُزْء فتضربه فِي أصل الْفَرِيضَة أبدا
وَإِن كَانَ الْكسر نصف سدس فَهُوَ جُزْء من اثْنَي عشر وَكَذَلِكَ إِن كَانَ ربع سدس فَهُوَ جُزْء من أَرْبَعَة وَعشْرين وَكَذَلِكَ إِن كَانَ نصف ثمن فَهُوَ جُزْء من سِتَّة عشر فَتضْرب إِذا سِتَّة عشر فِي أصل الْفَرِيضَة فتنظر مَا يصير عَلَيْهِ عَددهَا فتعطيه على حِسَاب ذَلِك بِلَا كسر
فقس على هَذَا الأَصْل فِي نِسْبَة الْأَعْدَاد كلهَا الْفَرِيضَة السَّابِعَة
وَهِي الَّتِي أَصْلهَا من أَرْبَعَة وَعشْرين وَهِي الَّتِي لَا بُد فِيهَا من ثمن مَعَ ثلثين وَسدس أَو سدسين مثل أَن يدع الْهَالِك بنتين وَأما وَزَوْجَة أَو أَبَا مَكَان الْأُم أَو جدا أَو جدة فيجتمع فِيهَا سدس وَثُلُثَانِ وَثمن السُّدس أَرْبَعَة وَالثُّلُثَانِ سِتَّة عشر وَالثمن ثَلَاثَة فَهَذِهِ ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ وَيبقى وَاحِد للعاصب
(1/116)
فَإِن كَانَ للهالك أَبَوَانِ وبنتان وَزَوْجَة لم يبْق للزَّوْجَة شَيْء فيعال لَهَا حيئذ وَسَيَأْتِي ذكر الْعَمَل فِي الْبَاب بعد هَذَا إِن شَاءَ الله دُخُول الْعصبَة مَعَ أَصْحَاب السِّهَام
فِي هَذِه الْفَرَائِض مَا يُحِيط فِيهَا أهل السِّهَام بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَلَا يبْقى للعاصب شَيْء وفيهَا مَا لَا بُد من دُخُول العاصب مَعَ أَهلهَا وَهِي فَرِيضَة أَرْبَعَة لِأَنَّهُ لَا بُد أَن يبْقى مِنْهَا الرّبع إِذْ لَيْسَ فِي أهل الْفَرِيضَة من يَرث الرّبع إِلَّا الزَّوْجَة أَو الزَّوْج فَإِن ورث أَحدهمَا الآخر لم يبْق إِلَّا من لَهُ نصف فيفضل ربع للْعصبَةِ أَو تبقى الثَّلَاثَة الأرباع للْعصبَةِ فَإِن بَقِي من لَهُ ثلث أَو سدس أَو ثلثان فَلَيْسَتْ الْفَرِيضَة ربَاعِية فَلَا بُد إِذا من بَقَاء ربع فِي هَذِه الْفَرِيضَة بعد ذَوي السِّهَام أَو ثَلَاثَة أَربَاع
وَكَذَلِكَ فَرِيضَة الاثْنَي عشر من أجل أَنَّهَا لَا بُد فِيهَا من ربع فَلَا بُد أَن يبْقى بعد ذَوي السِّهَام نصف سدس للعاصب إِلَّا أَن تكون عائلة
وَكَذَلِكَ فَرِيضَة الْأَرْبَعَة وَالْعِشْرين لَا بُد أَن يبْقى فِيهَا بعد السِّهَام ربع سدس للعاصب حَتَّى يَقُول الْأَخ مَاتَ أخي وَترك أَرْبَعَة وَعشْرين دِينَارا فَمَا صَار لي مِنْهَا إِلَّا دِينَار وَاحِد فَيُقَال لَهُ وَلَو كُنْتُم عشرَة إخْوَة مَا صَار لَك إِلَّا عشر دِينَار وَوجه الْعَمَل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَن تُعْطى البنتان الثُّلثَيْنِ وَالْأَب أَو الْأُم السُّدس وَالزَّوْجَة الثّمن وَهُوَ ثَلَاثَة من أَرْبَعَة وَعشْرين فَإِن كَانَت زوجتان قسم الثّمن بَينهمَا وَثَلَاثَة
(1/117)
بَين الِاثْنَيْنِ لَا تَنْقَسِم إِلَّا بِكَسْر وَهُوَ النّصْف فَتضْرب عَددهَا فِي أصل الْفَرِيضَة اثْنَان فِي أَرْبَعَة وَعشْرين بِثمَانِيَة وَأَرْبَعين للبنتين اثْنَان وَثَلَاثُونَ وَللْأُمّ السُّدس ثَمَانِيَة وللزوجتين الثّمن وَهُوَ سِتَّة يقسم بَينهمَا بِلَا كسر وَيبقى اثْنَان للعاصب
فَإِن كَانَت الزَّوْجَات ثَلَاثَة لم يحْتَج إِلَّا هَذَا الْعَمَل لِأَن الثّمن ثَلَاثَة فَلَا كسر فِيهِ عِنْد الْقِسْمَة بَينهُنَّ
وَإِن كَانَت الزَّوْجَات أَرْبعا ضرب عددهن فِي أصل الْفَرِيضَة من أجل الْكسر الَّذِي هُوَ الرّبع أَرْبَعَة فِي أَرْبَعَة وَعشْرين بِسِتَّة وَتِسْعين الثُّلُثَانِ مِنْهَا أَرْبَعَة وَسِتُّونَ وَالسُّدُس مِنْهَا سِتَّة عشر وَالثمن مِنْهَا اثْنَا عشر تَنْقَسِم بَين الزَّوْجَات ثَلَاثَة ثَلَاثَة وَتبقى أَرْبَعَة للعاصب
وَكَذَلِكَ إِن كَانَ الْبَنَات ثَلَاثَة فَيقسم بَينهُنَّ الثُّلُثَانِ فَتضْرب عددهن فِي أصل الْفَرِيضَة ثَلَاثَة فِي أَرْبَعَة وَعشْرين بِاثْنَيْنِ وَسبعين فالثلثان مِنْهَا ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ لكل وَاحِدَة سِتَّة عشر
فَإِن كَانَ الْبَنَات أَرْبعا لم تحتج على ضرب فِي أصل الْمَسْأَلَة لِأَن الثُّلثَيْنِ من الْفَرِيضَة سِتَّة عشر وَهِي تَنْقَسِم بَين أَربع وَكَذَلِكَ إِن كَانَ الْبَنَات ثمانيا وَكَذَلِكَ إِن كن سِتَّة عشر لم يحْتَج إِلَّا ضرب عددهن فِي أصل الْفَرِيضَة
وَمَتى كَانَ عددهن وترا فَإِنَّهُ يضْرب فِي أصل الْفَرِيضَة إِلَّا أَن يبلغن من الْعدَد ثِنْتَيْنِ وثلاثنين فَتضْرب حِينَئِذٍ نصف ثمن عددهن فِي أصل الْفَرِيضَة وَهُوَ اثْنَان فِي أَرْبَعَة وَعشْرين بِثمَانِيَة وَأَرْبَعين فَيكون لكل وَاحِد مِنْهَا وَاحِدًا فِي هَذَا الْعدَد
(1/118)
فصل فِي اجْتِمَاع خمس جدات وتصور ذَلِك
فَإِن كَانَ فِي مَوضِع الْأَب أَو الْأُم من هَذِه الْفَرِيضَة جدتان فالسدس بَينهمَا وَإِن كن أَربع جدات فَكَذَلِك وَلَا يحْتَاج إِلَى ضرب فِي أصل الْفَرِيضَة فَإِن السُّدس أَرْبَعَة فَإِن كن ثَلَاث جدات أَو خمس جدات أَو سبعا ضرب عددهن فِي أصل الْفَرِيضَة وَإِن كن سِتا لم يضْرب فِي أضصل الْفَرِيضَة إِلَّا نصف السِّتَّة وَهِي ثَلَاثَة فِي أَرْبَعَة وَعشْرين بِاثْنَيْنِ وَسبعين فتنقسم بَينهُنَّ بِلَا كسر
فَإِن قيل وَكَيف يجْتَمع خمس جدات أَو سِتّ وَالَّتِي هِيَ أدنى تحجب الَّتِي هِيَ أقْصَى فَلَيْسَ ثمَّ إِلَّا أم أم أَو أم أَب
قُلْنَا قد يتَصَوَّر هَذَا فِي مَسْأَلَة الشُّرَكَاء وَقَعُوا على أمة بَينهم وَلم يكن يحل لَهُم وَطْؤُهَا وَلَكِن الْحَد مَوْضُوع عَنْهُم وَالْولد لَاحق بهم فَإِذا مَاتَ الْوَلَد ورثوه ويرثه أَيْضا أمهاتهم وَأُمَّهَات آبَائِهِم إِذا عدم الْآبَاء فَيكون للْوَلَد حِينَئِذٍ من الْجدَّات على حسب الْآبَاء وَجدّة هِيَ أم أمه زَائِدَة فَإِن كَانَ الْآبَاء سِتَّة فَلهُ سبع جدات يرثن وَقس على هَذَا
(1/119)
بَاب الْعدْل فِي الْفَرَائِض
وَقد تقدم أَنه فِي ثَلَاثَة مِنْهَا
فَرِيضَة السِّتَّة تعول إِلَى دَرَجَة وَإِلَّا دَرَجَتَيْنِ وَإِلَّا ثَلَاثَة وَإِلَّا أَربع كلما زَاد سهم زَادَت دَرَجَة وَذَلِكَ أَن يجْتَمع ينتان وَأم وَأب أَو أختَان وَأَخ لأم فللبنتين الثُّلُثَانِ وَهِي أَرْبَعَة أَسْدَاس وَللْأُمّ سدس وَاحِد وَللْأَب سدس آخر لم يبْق للعاصب شَيْء فَإِن جَاءَ من لَهُ سدس وَالْفَرِيضَة قد استوفيت أجزاؤها مثل أَن يكون للْمَيت زوج وَأُخْت وَجدّة فَللزَّوْج ثَلَاثَة أَسْدَاس وَهُوَ النّصْف وَللْأُخْت مثل ذَلِك وللجدة السُّدس فَيَعُود كل سدس سبعا أَي سبعا للستة لِأَنَّهُ ينتقص من كل سدس سبعه وَإِذا نقص من سدس الْعدَد سبعه عَاد سبعا لذَلِك الْعدَد الْفَرِيضَة المنبرية
فقف على هَذِه الْعبارَة فَإِن الْفَرِيضَة المنبرية الَّتِي قَالَ فِيهَا
(1/121)
عَليّ رَضِي الله عَنهُ على الْمِنْبَر عَاد ثمنهَا تسعا يَعْنِي ثمن الزَّوْجَة عَاد تسعا لم يرد تسع سَبْعَة وَعشْرين لِأَن ثمنهَا إِنَّمَا هُوَ ثمن أَرْبَعَة وَعشْرين فَلَمَّا نقص بالعول مِنْهُ تسعه عَاد تسعا لما كَانَ ثمنا لَهَا وَهِي الْأَرْبَعَة وَالْعشْرُونَ وَلَا يَصح إِلَّا هَذَا لِأَن الثّمن وَالتسع وَنَحْوهَا من الْأَجْزَاء لَا يعقل إِلَّا بِالْإِضَافَة فَإِذا لم يذكر الْمُضَاف إِلَيْهِ لم يعقل مَعْنَاهُ فَلَمَّا ذكر ثمن الْأَرْبَعَة وَالْعِشْرين وَهُوَ الثَّلَاثَة ثمَّ قَالَ عَاد ثمنهَا تسعا وَلم يضفه إِلَى عدد آخر عرف أَنه يُرِيد تسع أَرْبَعَة وَعشْرين وَلكنه كَانَ ثَلَاثَة أَجزَاء من أَرْبَعَة وَعشْرين فنقص من كل جُزْء تسعه فَهَذِهِ ثَلَاثَة أتساع ثمَّ نقصت من جَمِيع الْأَجْزَاء مثل ذَلِك تسع تسع من كل جُزْء من الْأَرْبَعَة وَالْعِشْرين وانضاف إِلَيْهَا هَذِه الثَّلَاثَة الأتساع الَّتِي نقصت من سهم الْمَرْأَة الزَّائِد على أصل الْفَرِيضَة فَحصل من ذَلِك سَبْعَة وَعِشْرُونَ تسعا بِتِسْعَة أَثلَاث بِثَلَاثَة أحاد تَامَّة فَصَارَت الْقِسْمَة من سَبْعَة وَعشْرين بِلَا كسر
وَلَوْلَا صعوبة الْقِسْمَة بِالْكَسْرِ مَا انقسمت هَذِه الْفَرِيضَة إِلَّا من أَرْبَعَة وَعشْرين كَمَا كَانَ أَصْلهَا ينقص لكل وَاحِد مِنْهُم تسع سَهْمه وَهَذَا يفعل فِي فَرِيضَة السِّتَّة وَغَيرهَا لما أَرَادوا الْقِسْمَة بِلَا كسر حصروا الْأَجْزَاء النَّاقِصَة فاجتمعت سَبْعَة أَسْبَاع من كل سدس سبعه فجَاء مِنْهَا وَاحِد تَامّ وَذَلِكَ سَبْعَة فقسم المَال من سَبْعَة وعالت الْفَرِيضَة دَرَجَة وَاحِدَة من أجل أَن النَّاقِص من كل حزء مها جُزْء وَاحِد فَإِن كَانَ من لَهُ سدس وَاحِد صَارَت الأسداس ثَمَانِيَة وَنقص من كل سدس من الثَّمَانِية ثمنان وَذَلِكَ سِتَّة عشر ثمنا
(1/122)
بجزءين تامين فعالت الْفَرِيضَة دَرَجَتَيْنِ من أجل أَن النَّاقِص من كل جُزْء مِنْهَا جزءان وَذَلِكَ مثل أَن تدع الهالكة زوجا وأختا وأخوين لأم لَهما سدسان وَللزَّوْج ثَلَاثَة أَسْدَاس وَللْأُخْت مثل ذَلِك فَلَمَّا زَاد فِي الْفَرِيضَة اثْنَان عالت إِلَى دَرَجَتَيْنِ
وَإِذا زَاد فِيهَا ثَلَاثَة أَجزَاء عالت إِلَى تِسْعَة مثل أَن يكون للهالكة اخوان لَام وام وَزوج واخت شَقِيقَة فَهَذِهِ تِسْعَة اسداس فينتقص من كل جُزْء ثَلَاثَة اتساعه فيجتمع سَبْعَة وَعِشْرُونَ تسعا بِتِسْعَة اثلاث بِثَلَاثَة توأم فتضيف الثَّلَاثَة الى السِّتَّة فَيقسم المَال من تِسْعَة
وَلَو نقص من كل جُزْء من السِّتَّة اربعة اجزاء لعالت الْفَرِيضَة الى ارْبَعْ دَرَجَات فينقسم المَال من عشرَة مثل ان يجْتَمع زوج واختان وام واخوة لَام للزَّوْج ثَلَاثَة اسداس وَهُوَ نصف السِّتَّة وللاختين اربعة وَهُوَ الثُّلُثَانِ فَهَذِهِ سَبْعَة اسداس وللام سدس وللاخوين للام سدسان فَهَذِهِ عشرَة اسداس فينتقص من كل سدس اعشاره ثمَّ اربعة اعشار على عدد الاجزاء الزَّائِدَة فَذَلِك اربعون عشرا بِعشْرين خمْسا بأَرْبعَة آحَاد تَامَّة اضفناها الى السِّتَّة الَّتِي هِيَ أصل الْفَرِيضَة فعالت الى عشرَة فانقسم المَال مِنْهَا فَمن كَانَ لَهُ سدس فَلهُ عشر وَمن كَانَ لَهُ ثَلَاثَة اسداس فَلهُ ثَلَاثَة اعشار لَان كل سدس قد عَاد عشرا كَمَا تقدم شَرحه
(1/123)
فصل فِي الْفَرِيضَة الاثْنَي عشر وعولها
وَأما الْفَرِيضَة الإثنا عشر فتعول كَمَا تقدم إِلَى ثَلَاثَة عشر وَإِلَى خَمْسَة عشر وَإِلَى سَبْعَة عشر
أما عولها إِلَى ثَلَاثَة عشر فَأن يجْتَمع بنتان وَزوج وَأم أَو جدة أَو جد فللابنتين ثَمَانِيَة وَهُوَ الثُّلُثَانِ وَللزَّوْج ثَلَاثَة وَهُوَ الرّبع وَللْأُمّ اثْنَان وَهُوَ السُّدس عالت الْفَرِيضَة دَرَجَة وَاحِدَة وَإِن كَانَ الزَّائِد فِيهَا جزءين من أَجْزَائِهَا وَقد تقدم فِي أصل الْعَوْل أَنه مَتى زَاد فِي الْفَرِيضَة جزءان عالت دَرَجَتَيْنِ أَو ثَلَاثَة أَجزَاء عالت ثَلَاث دَرَجَات أَلا ترى أَن فَرِيضَة الْأَرْبَعَة وَالْعِشْرين لما جَاءَت الزَّوْجَة تطلب الثّمن وَهِي ثَلَاثَة من أَرْبَعَة وَعشْرين عمل لَهَا إِلَى سَبْعَة وَعشْرين فَزَاد فِي الْعدَد ثَلَاثَة لِأَن ثمنهَا ثَلَاثَة وَهَهُنَا قد زَاد فِي الْعدَد اثْنَان لِأَن سدس الْفَرِيضَة اثْنَان وَلم تعل الْفَرِيضَة إِلَّا دَرَجَة وَاحِدَة وَسبب ذَلِك أَن السِّهَام لم تحط بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَإِنَّمَا بَقِي مِنْهَا جُزْء من اثْنَي عشر فَلم تحتج أَن يعال لَهَا إِلَّا بِجُزْء وَاحِد فعالت الْفَرِيضَة دَرَجَة وَاحِدَة فانقسم المَال من ثَلَاثَة عشر نقص من كل جُزْء جُزْء من ثَلَاثَة عشر على قِيَاس مَا تقدم فِي الْفَرِيضَة العائلة إِلَى سَبْعَة فَإِنَّهُ نقص من كل جُزْء جُزْء من سبعه وَهُوَ السَّبع
برهَان ذَلِك بِالضَّرْبِ فَإنَّك إِذا ضربت سَبْعَة فِي سِتَّة بِاثْنَيْنِ وَأَرْبَعين وجدت سدسها سَبْعَة وسبعها سِتَّة وَكَذَلِكَ إِن ضربت ثَمَانِيَة فِي سِتَّة بِثمَانِيَة وَأَرْبَعين وجدت ثمنهَا سِتَّة وسدسها ثَمَانِيَة
(1/124)
وَكَذَلِكَ إِن ضربت تِسْعَة فِي سِتَّة وبأربعة وَخمسين وجدت تسعها سِتَّة وسدسها تِسْعَة وَكَذَلِكَ إِن ضربت عشرَة فِي سِتَّة بستين فتجد عشرهَا سِتَّة وسدسها عشرَة على حسب مَا ينقص من الْأَجْزَاء الْكِبَار يزِيد فِي عدَّة الْأَجْزَاء الصغار
ثمَّ نرْجِع إِلَى فَرِيضَة الاثْنَي عشر وعولها خَمْسَة عشر وَذَلِكَ بِأَن يجْتَمع أختَان وَزَوْجَة وَأم وَأَخ لأم فللأختين ثَمَانِيَة وَهُوَ الثُّلُثَانِ وللزوجة ثَلَاثَة وهوالربع وَللْأُمّ اثْنَان وللأخ للْأُم اثْنَان وَالْفَرِيضَة من اثْنَي عشر وَقد زَاد فِيهَا أَرْبَعَة أَجزَاء وَلم تعل إِلَّا ثَلَاث دَرَجَات وَذَلِكَ من أجل مَا تقدم ذكره وَهُوَ أَن الْجُزْء الَّذِي كَانَ بَقِي للعاصب قد دخل فِي سهم الْأُم أَو الْأَخ للْأُم فَيبقى ثَلَاثَة أَجزَاء إِلَى اثْنَي عشر عالت إِلَى خَمْسَة عشر نقص من كل جُزْء من الْأَجْزَاء خمس وَذَلِكَ خَمْسَة عشر جُزْءا بِثَلَاثَة خسمات خمس كل وَاحِدَة وَاحِد فَاجْتمع الْجَبْر لتِلْك الْأَجْزَاء ثَلَاثَة توام إِلَى اثْنَي عشر فانقسم المَال من خَمْسَة عشر
وَأما عولها إِلَى سَبْعَة عشر فاجتماع أُخْتَيْنِ وَزَوْجَة وَأم وإخوة لأم للأختين ثَمَانِيَة أَجزَاء من اثْنَي عشر وَلها الْآن ثَمَانِيَة من سَبْعَة عشر وللأخوة للْأُم أَرْبَعَة من اثْنَي عشر وَلَهُم الْآن أَرْبَعَة من سَبْعَة عشر وَكَذَلِكَ الزَّوْجَة لَهُ الْآن ثَلَاثَة من سَبْعَة عشر وَكَذَلِكَ الْأُم لَهَا الْآن اثْنَان من سَبْعَة عشر عالت الْفَرِيضَة خمس
(1/125)
دَرَجَات والأجزاء الزَّائِدَة سِتَّة من أجل مَا ذَكرْنَاهُ وَهُوَ أَن الْجُزْء الَّذِي كَانَ للعاصب قد أَخذه هَؤُلَاءِ الَّذين عالت الْفَرِيضَة من أَجلهم فَلم يطالبوا أهل السِّهَام إِلَّا بالخمسة وَخَمْسَة إِلَى اثْنَي عشر سَبْعَة عشر والناقص من كل جُزْء من أجزائهم خَمْسَة من سَبْعَة عشر جُزْءا
وَلَو كَانَ لِلزَّوْجَاتِ أَرْبعا لاحتجت أَن تضرب أَرْبَعَة فِي سَبْعَة عشر وَذَلِكَ ثَمَانِيَة وَسِتُّونَ فَيكون الزَّوْجَات من هَذَا اثْنَا عشر فَتَصِح قسمته عَلَيْهِنَّ
وَلَو كَانَت الْأَخَوَات ثَلَاثَة لضربتها فِي أصل الْفَرِيضَة وَذَلِكَ وَاحِد وَخَمْسُونَ فَيكون للأخوات أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ فتقسم عَلَيْهِنَّ ثَمَانِيَة ثَمَانِيَة
وَلَو كَانَ الْأَخَوَات أَرْبعا لم تحتج أَن تضرب عددهن فِي أصل الْفَرِيضَة لِأَن ثَمَانِيَة منقسمة عَلَيْهِنَّ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَكَذَلِكَ وَكن ثمانيا لم تحتج إِلَى الضَّرْب كَمَا تقدم فِي الْأُصُول
وَأما الْفَرِيضَة المنبرية الَّتِي أفتى فِيهَا عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ على الْمِنْبَر وَهِي زَوْجَة مَعَ أبوين وبنتين فقد تقدم ذكرهَا وَسبب عولها إِلَى ثَلَاث دَرَجَات وَالْحَمْد لله
(1/126)
فصل
فِي مِيرَاث الْجد
وَله إِحْدَى عشرَة صُورَة تخْتَلف أَحْوَاله فِي الْمِيرَاث على حسب ذَلِك الصُّور مَعَ عدم الْإِخْوَة أَربع وَمَعَ الْإِخْوَة سبع
أما أَحْوَاله مَعَ عدم الْإِخْوَة فحاله لَا يَرث فِيهَا شَيْئا وَحَالَة يَرث فِيهَا الْكل وَحَالَة يفْرض لَهُ فِيهَا السُّدس فَقَط وَحَالَة يفْرض لَهُ اليدي وَيُزَاد عَلَيْهِ بِالتَّعْصِيبِ
أما الْحَالة الأولى فَمَعَ أبي الْمَيِّت لَا يَرث شَيْئا وَمَعَ انْفِرَاده يَرث الْكل وَمَعَ الابْن يَرث السُّدس فَرِيضَة وَمَعَ زوج وَأم كَذَلِك وَمَعَ زَوْجَة وَأم يَرث السُّدس ويزداد عَلَيْهِ لِأَن للْأُم الثُّلُث فَهَذِهِ سَبْعَة من اثْنَي عشر وَله السُّدس فَهَذِهِ تِسْعَة من اثْنَي عشر وَيَأْخُذ الْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ
وَأما اخْتِلَاف أَحْوَاله مَعَ الْإِخْوَة فعلى سبع صور كَمَا تقدم
الصُّورَة الأولى أُخْت لايرث الْمَيِّت أَخ غَيرهَا وجد فلهَا الثُّلُث وللجد الثُّلُثَانِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْأَخ الذّكر
الصُّورَة الثَّانِيَة أَن يكون لَهَا هِيَ النّصْف وَله الخمسان وَذَلِكَ
(1/127)
بِأَن تكون شَقِيقَة الْمَيِّت وللميت أَخ لأَب والأخوة الأشقاء يعادون الْجد بالإخوة للْأَب فيمنعونه بهم كَثْرَة الْمِيرَاث فَإِن عَادَتْ الْأُخْت الْجد بالأخ للْأَب فللجد خمسان أَرْبَعَة من عشر وللأخ للْأَب خمسان وَللْأُخْت خمس ثمَّ تُعْطى الْأُخْت ثَلَاثَة أَجزَاء تَتِمَّة النّصْف فَيكون لَهَا خَمْسَة من عشرَة وَيكون للْجدّ أَرْبَعَة من عشرَة وَيكون للْأَخ للْأَب جُزْء وَاحِد من عشرَة فَعِنْدَ ذَلِك يَقُول الْأَخ للْأَب أخذت أُخْتِي خَمْسَة وَأخذت أَنا وَاحِدًا لَا أَنا حجبت وَلَا أَنا ورثت فَيُقَال لَهُ لَو كَانَت مَعهَا أُخْت أُخْرَى مَا ورثت شَيْئا لِأَنَّهُمَا يعادان الْجد بك فتمنعانه كَثْرَة الْمِيرَاث إِلَّا أَنه لاينقص من الثُّلُث فالقسمة إِذا من سِتَّة للْجدّ الثُّلُث اثْنَان وللأخ للْأَب اثْنَان وللأختين اثْنَان بَينهمَا ثمَّ يكمل لَهما الثُّلُثَانِ من نصيب الْأَخ للْأَب فَلَا يبْقى لَهُ شَيْء
وَلَو عدم الْأَخ للْأَب فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَكَانَ للْجدّ النّصْف وللأختين بَينهمَا النّصْف
وَلَو كَانَ مَعَ الْأَخ للْأَب أُخْت لَكَانَ وَجه الْقِسْمَة فِيهَا أَن للْجدّ الثُّلُث وللأخ مَعَ أُخْته الثُّلُث وَالسُّدُس وَذَلِكَ ثَلَاثَة وللشقيقة سدس وَذَلِكَ وَاحِد من سِتَّة ثمَّ يكمل لَهَا نصفهَا مِمَّا يبد الْأَخ وَالْأُخْت فَيكون لَهَا ثَلَاثَة وَيبقى السُّدس للْأَخ مَعَ الْأُخْت للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَنْقَسِم إِلَّا بِأَن تضرب ثَلَاثَة فِي سِتَّة بِثمَانِيَة
(1/128)
عشر للْجدّ سِتَّة وَللْأُخْت الشَّقِيقَة تِسْعَة وَتبقى ثَلَاثَة للْأَخ مَعَ أُخْته للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ
فَلَو كَانَ الْإِخْوَة للْأَب اثْنَيْنِ ذكرين لعادت الشَّقِيقَة الْجد بهما أَيْضا فَيكون للْجدّ الثُّلُث وَللْأُخْت النّصْف وَيبقى اثْنَان وَهُوَ السُّدس بَين الْأَخَوَيْنِ
وَلَو كَانُوا ثَلَاثَة لضربنا ثَلَاثَة فِي سِتَّة بِثمَانِيَة عشر للْأُخْت النّصْف وَهُوَ تِسْعَة وللجد الثُّلُث وَهُوَ سِتَّة وَتبقى ثَلَاثَة بَينهم وَاحِدًا وَاحِدًا
وَلَو كَانُوا أَرْبَعَة لضربنا أَرْبَعَة فِي سِتَّة بأَرْبعَة وَعشْرين للْجدّ الثُّلُث وَهُوَ ثَمَانِيَة وَللْأُخْت النّصْف اثْنَا عشر وَتبقى أَرْبَعَة بَينهم وَاحِدًا وَاحِدًا
وَلَو كَانُوا خَمْسَة لضربنا خَمْسَة فِي سِتَّة بِثَلَاثِينَ للْجدّ الثُّلُث وَللْأُخْت النّصْف وَتبقى خَمْسَة بَينهم هَكَذَا على الْقيَاس الْمَذْكُور إِلَّا أَن يكون فِي عَددهمْ جُزْء مُوَافق للأجزاء الَّتِي هِيَ الكسور فنضربها فِي أصل الْعدَد على مَا تقدم
الصُّورَة الثَّالِثَة من مسَائِل الْأُخْت وَذَلِكَ أُخْت وجد وَزوج وَأم وإخوة لأم يحجبهم الْجد فَلَا يَرِثُونَ مَعَه شَيْئا وَلَكنَّا يَأْخُذ ثلثهم يَقُول لم آخذ شَيْئا لِأَنِّي لَو لم أكن لأخذ الثُّلُث هَؤُلَاءِ فَإِنَّمَا أخذت مَا كَانَ لَهُم فَلهُ من المَال على هَذَا الأَصْل الثُّلُث
(1/129)
وَلَيْسَ للْأُخْت شَيْء وَلَا للذّكر عَن كَانَ مَعهَا
الصُّورَة الرَّابِعَة للْجدّ مَعَ الْأُخْت إِذا كَانَ مَعهَا وَرَثَة وَهِي الْفَرِيضَة الأكدرية ييكون لَهُ فِيهَا ثلث إِلَّا تسع ثلث وَهِي ثَمَانِيَة من سَبْعَة وَعشْرين وَيكون لَهَا هِيَ سدس إِلَّا تسع سدس وَذَلِكَ أَرْبَعَة من سَبْعَة وَعشْرين
وَالْمَسْأَلَة زوج وَأم وَأُخْت وجد
أصل الْفَرِيضَة من سِتَّة للزَّوْج النّصْف وَللْأُمّ الثُّلُث فَهَذِهِ خَمْسَة من سِتَّة وللجد السُّدس وَللْأُخْت ثَلَاثَة تعول الْفَرِيضَة إِلَى تِسْعَة ثمَّ تجمع سدس الْجد إِلَى نصف الْأُخْت فَيكون أَرْبَعَة فتقسم بَينهمَا للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَنْقَسِم إِلَّا بِكَسْر وَذَلِكَ الْكسر ثلث فَتضْرب ثَلَاثَة فِي تِسْعَة بسبعة وَعشْرين وَيكون للزَّوْج تِسْعَة وَيكون للْأُم سِتَّة فَذَلِك خَمْسَة عشر فَيبقى اثْنَا عشر للْجدّ مِنْهَا الثُّلُثَانِ وَللْأُخْت الثُّلُث
وَسميت هَذِه الأكدرية لِأَن عبد الْملك بن مَرْوَان سَأَلَ عَنْهَا رجلا فرضيا اسْمه أكدر فَأَخْطَأَ فِيهَا وَقيل أَيْضا سميت بذلك لِأَن مَذْهَب زيد بن ثَابت تكدر فِيهَا فَلَيْسَتْ على قِيَاس أصلهم
(1/130)
وَقد كَانَ بعض السّلف يحلف أَن زيدا مَا قَالَهَا قطّ مِنْهُم عَامر الشّعبِيّ رَحمَه الله روى ذَلِك عَن قبيصَة بن ذُؤَيْب وَلَكِن أَصْحَاب زيد قاسوها على بعض أَقْوَاله وَمَالك يَقُول بهَا وَأكْثر الْفُقَهَاء
وَأما قِيَاس زيد ومؤدى أَصله أَن الْأُخْت تسْقط لِأَنَّهَا عاصبة مَعَ الْجد كَمَا هِيَ عاصبة مَعَ ذُكُور الْإِخْوَة وَقد جعل زيد الْجد بممنزلة أَخ من الْإِخْوَة يقاسمهم للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ إِلَّا أَن يكثروا فَلَا ينتقص من الثُّلُث وَإِذا كَانَ كَذَلِك وَأخذ السُّدس فِي هَذِه الْفَرِيضَة بِالْفَرْضِ لم يبْق للْأُخْت شَيْء وَالله أعلم
فَهَذِهِ أَربع صور للْجدّ مَعَ الْأُخْت الْوَاحِدَة وَله مَعَ الْأَخ الذّكر ثَلَاث صور
الصُّورَة الأولى أَن يكون لَهُ النّصْف وللأخ النّصْف لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَة أَخَوَيْنِ فِي قَول زيد بن ثَابت
الصُّورَة الثَّانِيَة أَن يكون للْمَيت أم وَزَوْجَة وأخوة لأم
(1/131)
فيحوز الْجد مِيرَاث الْأُخوة للْأُم وَيبقى للْجدّ الرّبع أَو لإخوة إِن كَانُوا مَعَه وَقد تقدم هَذَا الْمَعْنى فِي مَسْأَلَة الْأُخْت
الصُّورَة الثَّالِثَة جد مَعَ أَخ يَأْخُذ الْأَخ الثُّلثَيْنِ وَالْجد الثُّلُث وَذَلِكَ أَن يكون مَعَ الْأَخ الشَّقِيق أَخ لأَب فيعاد الْجد بِهِ وَتَكون الْقِسْمَة من ثَلَاثَة للْجدّ الثُّلُث بالمقاسمة وللأخ للْأَب الثُّلُث بالمعادة ثمَّ يَأْخُذ الْأَخ الشَّقِيق نصيب الْأَخ للْأَب لِأَنَّهُ يَحْجُبهُ وَهَذَا قَول زيد بن ثَابت فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ فقد صَار للْأَخ الثُّلُثَانِ وللجد الثُّلُث على هَذَا الْقيَاس وَقد قدمنَا ذكره
وَأما إِذا اجْتمع إخْوَة ذُكُور وإناث فحالة مَعَهم الْمُقَاسَمَة للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِن كَانَ مَعَهم أهل فَرِيضَة فَإِنَّهُ يبْدَأ بِمَنْزِلَة فرض مُسَمّى فِي كتاب الله ثمَّ يكون للْجدّ الْخِيَار فِي أحد ثَلَاثَة أوجه
إِمَّا أَن يقاسم الْإِخْوَة للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِمَّا أَن يُعْطي ثلث مَا بَقِي وَإِمَّا أَن يفْرض لَهُ السُّدس من رَأس المَال أَي ذَلِك كَانَ أرجح لَهُ أعْطى لَهُ
(1/132)
مِثَال الأول أَن يتْرك الْمَيِّت زَوْجَة وأختا وَاحِدَة والمقاسمة هُنَا أرجح لِأَنَّهُ يصير لَهُ الثُّلُثَانِ مِمَّا بَقِي وَكَذَلِكَ مَعَ الْأَخ الذّكر يكون لَهُ نصف مَا يبْقى وَذَلِكَ تِسْعَة من أَرْبَعَة وَعشْرين وَلَو أَخذ ثلث مَا يبْقى لَكَانَ لَهُ سِتَّة من أَرْبَعَة وَعشْرين
مِثَال الْوَجْه الثَّانِي أَن يكون الْوَارِث زوجا وأخا وَأما وجدا فالسدس من رَأس المَال أرجح لَهُ هُنَا من الْمُقَاسَمَة وَمن ثلث مَا يبْقى لِأَن أصل الْفَرِيضَة من اثْنَي عشر وتنقسم من سِتَّة وَثَلَاثِينَ للزَّوْج النّصْف وَللْأُمّ الثُّلُث ذَلِك ثَلَاثُونَ بَينهمَا فَلَو قَاسم الْأَخ لَكَانَ لَهُ نصف سدس وَلَو أَخذ مَا يبْقى لَكَانَ لَهُ السُّدس فَكَانَ السُّدس من رَأس المَال خيرا لَهُ وَلم يبْق للإخوة شَيْء
فَإِن كَانَ زوج وَأَخَوَانِ كَانَ للزَّوْج النّصْف وَكَانَت مقاسمته للإخوة فِي معنى فرض السُّدس لَهُ وَفِي معنى ثلث مَا يبْقى لِأَنَّهُ إِنَّمَا لَهُ سِتَّة من سِتَّة وَثَلَاثِينَ فاستوت الْوُجُوه كلهَا فِي الْمَعْنى
وَلَو كَانَت أم وَأَخَوَانِ وجد للْأُم السُّدس وَهُوَ اثْنَان من اثْنَي عشر وَسِتَّة من سِتَّة وَثَلَاثِينَ فالمقاسمة هُنَا فِي معنى ثلث مَا يبْقى لِأَن الْبَاقِي ثَلَاثُونَ فَإِن قاسمهم فَلهُ عشرَة وَإِن أَخذ الثُّلُث من الْبَاقِي فَلهُ عشرَة
وَإِن كَانُوا أَرْبَعَة إخْوَة وَأما فللأم السُّدس وللجد ثلث مَا
(1/133)
يبْقى وَهُوَ أرجح لَهُ من الْمُقَاسَمَة وَمن السُّدس فَرِيضَة لِأَن الْبَاقِي من السُّدس ثَلَاثُونَ فَيكون للْجدّ عشرَة وَلَو قاسمهم لَكَانَ لَهُ سِتَّة وَكَذَلِكَ لَو فرض لَهُ السُّدس فَرِيضَة فعلى هَذَا فقس مَا يطْرَأ عَلَيْك من مسَائِل الْجد مَسْأَلَة فِي الزَّوْجَة الَّتِي تَرث جَمِيع مَال زَوجهَا وَلها مِنْهُ ابْن
امْرَأَة مَاتَ زَوجهَا وَلها مِنْهُ ابْن فورثت بِهِ جَمِيع مَال الزَّوْج وَلم يَرث ابْنهَا من مَال أَبِيه شَيْئا فَيَقُول الْوَلَد مَا بالي لم أرث أبي وَأخذت أُمِّي جَمِيع مَاله دوني فَالْجَوَاب أَن يُقَال عَن الْوَلَد كَانَ عبدا وَعَن الْأَب كَانَ معتقا للْأُم أَعتَقته ثمَّ تزوجته فورثته بِالْفَرْضِ وبالولاء فأحاطت بميراثه دون الْوَلَد مَسْأَلَة غَرِيبَة من مسَائِل الْأَخ الشَّقِيق مَعَ الْأَخ للْأُم
أَخَوان شقيقان أَبوهُمَا وَاحِد وأمهما وَاحِدَة كَانَ لَهما أَخ لأم
(1/134)
فَمَاتَ أحد الشقيقين فورث مِنْهُ أخوة لأمه وَأَبِيهِ السُّدس وَورث الْأَخ للْأُم سَائِر المَال وَهَذَا بعكس الْأُصُول عَلَيْهَا
الْجَواب أَن أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأمه كَانَ غير مُلْحق بِالْأَبِ من أجل أَن الْأَب قد كَانَ وَقع على الْأُم قبل النِّكَاح واعترف بذلك فحد ثمَّ تزَوجهَا فَجَاءَت مِنْهُ بِولد خَمْسَة أشهر فَلم يلْحق بِهِ وَلَو جَاءَت بِهِ بعد ذَلِك لألحق بِهِ فَالْأول لَا يَرث الثَّانِي إِلَّا بِالْأُمِّ فَلهُ السُّدس وَالْأَخ الثَّالِث كَانَ أَبوهُ عَم الْهَالِك فورثه بِالْأُمِّ وبالتعصيب فَكَانَ لَهُ جَمِيع المَال إِلَّا السُّدس الَّذِي أَخذه الآخر مَسْأَلَة فِي امْرَأَة ورثت أَزْوَاجًا ثَلَاثَة إخْوَة فِي نَهَار وَاحِد
امْرَأَة ورثت زَوجهَا أول النَّهَار وورثت زوجا آخر وسط النَّهَار فورثت الرّبع وورثت زوجا آخر آخر النَّهَار وَجَمِيع الْأزْوَاج إخْوَة والأخوان ختنان لَهَا فَتَقول ورثت زَوجي أَنا وختناي وختناي هم أزواجي فَكل زوج لي فَهُوَ ختني وكل ختن لي فَهُوَ زوج لي إِلَّا أَن الْوَاحِد مِنْهُم تَرثه ويرثني والاثنان ترثهما وَلَا يرثاني
وَالْجَوَاب أَن الزَّوْج الأول كَانَ طَلقهَا وَهُوَ مَرِيض وَكَانَت
(1/135)
حَامِلا مِنْهُ فَوضعت جَنِينا لحينها فَمَاتَ الْجَنِين فَانْقَطَعت عَنهُ بأثر الطَّلَاق فَتَزَوجهَا أَخُو الزَّوْج الْمَرِيض ثمَّ مرض فَطلقهَا قبل الدُّخُول فَلم يكن عَلَيْهَا عدَّة وَطَلَاق الْمَرِيض لَا يمْنَع الْمِيرَاث فَتَزَوجهَا الْأَخ الثَّالِث ثمَّ مَاتَ الأول من مَرضه ذَلِك فورثته هِيَ وأخواه ثمَّ مَاتَ الثَّانِي من مَرضه أَيْضا فورثته هِيَ وَأَخُوهُ ثمَّ مَاتَ الزَّوْج الثَّالِث فورثته
وعَلى هَذَا مَذْهَب مَالك رَحمَه الله فَإِنَّهُ يرى أَن الْمُطلقَة فِي الْمَرَض تَرث وَلَو بعد أَزوَاج وَمن الْعلمَاء من يَقُول تَرثه مالم تتَزَوَّج وَمِنْهُم من يَقُول مَا لم تنقض عدتهَا وَأهل الظَّاهِر يَقُولُونَ لَا تَرثه بِحَال كَمَا لَا يَرِثهَا
(1/136)
بَاب الْأَسْبَاب الْمَانِعَة من الْمِيرَاث
وَهِي سِتَّة الْخَمْسَة مِنْهَا فِي زَمَاننَا هَذَا وَالسَّادِس قد انْقَطع بِمَوْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي النبوءة قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقتسم ورثتي دِينَارا مَا تركت بعد نَفَقَة نسَائِي وَمؤنَة عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَة وَقَالَ إِنَّا معاشر الْأَنْبِيَاء لَا نورث مَا تركنَا صَدَقَة وَقَالَ فِي حَدِيث أبي الدَّرْدَاء عَنهُ إِن الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء لم يورثوا دِينَارا وَلَا درهما وَإِنَّمَا ورثوا الْعلم فَمن أَخذه فقد أَخذه بحظه وَأما قَوْله عز وَجل {وَورث سُلَيْمَان دَاوُد} وَقَول زَكَرِيَّا يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب فَمَحْمُول عِنْد أهل التَّأْوِيل
(1/137)
على وراثة النبوءة والمحمود إِلَّا من شَذَّ مِنْهُم وَقَالَ يَعْنِي المَال
فَهَذَا سَبَب وَاحِد من الْأَسْبَاب الْمَانِعَة من الْمِيرَاث وَقد انْقَطع وارتفع فَلَا يعود أبدا
وَأما الْأَسْبَاب الْخَمْسَة فالجهالة بِوَقْت موت المتوارثين إِذا مَاتَا فِي ملحمة أَو تَحت هدم أَو نَحْو ذَلِك فَلَا يَرث أَحدهمَا الآخر فِي قَول مَالك وَأكْثر الْعلمَاء وَمِنْهُم من ورث على اجْتِهَاد وَصُورَة لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكرهَا لأَنا لم نتعرض لِاسْتِيفَاء الْأَقْوَال وتفصيل الْمذَاهب وَقد جرت فِي هَذِه الْمَسْأَلَة سنة فِي عهد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُول عَنْهَا وَهِي أَن أم كُلْثُوم بنت فَاطِمَة الزهراءرضي الله عَنْهَا كَانَت تَحت عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ تزَوجهَا وَهِي صَغِيرَة فَولدت لَهُ زيد بن عمر وَهُوَ زيد الْأَكْبَر ورقية بنت عمر وَكَانَت وفاتها ووفاة ابْنهَا فِي سَاعَة وَاحِدَة وَكَانَ سَبَب مَوته سَهْما أَصَابَهُ لَيْلًا فِي ثائرة وَقعت بَين عدي وَبني حُذَيْفَة وَكَانَ خرج ليصلح بَينهم وَفِي ذَلِك يَقُول الشَّاعِر
(1/138)
وشؤم بني حُذَيْفَة أَن فيهم مَعًا نكدا وشؤم بني مُطِيع
يَعْنِي أَبَا جهم بن حُذَيْفَة فَكَانَت فِي زيد هَذَا وَفِي أمه أم كُلْثُوم بنت عَليّ سنتَانِ إِحْدَاهمَا أَنه لم يُورث أَحدهمَا من الآخر إِذْ لم يعرف من مَاتَ مِنْهُمَا قبل وَالثَّانيَِة أَنه صلي عَلَيْهِمَا فَقدم زيد مِمَّا يَلِي الإِمَام وَهِي السّنة عِنْد أَكثر الْعلمَاء
السَّبَب الثَّانِي من الْخَمْسَة الْكفْر مَانع من الْمِيرَاث لِأَنَّهُ لَا ولَايَة بَين كَافِر وَمُؤمن لِأَن الْكَافِر قد قطع مَا بَينه وَبَين الله فَانْقَطع مَا بَينه وَبَين أَوْلِيَاء الله وهم الْمُؤْمِنُونَ قَالَ الله تَعَالَى {ذَلِك بِأَن الله مولى الَّذين آمنُوا وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {قد كَانَت لكم أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا بُرَآء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله} الْآيَة وَقَالَ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة} وَلَا أخوة وَلَا مُوالَاة بَين كَافِر وَمُسلم وَأَيْضًا فَإِن الْكفْر أَبَاحَ دَمه للْمُسلمين وَالْمَال تبع للنَّفس فَكَمَا أُبِيح دَمه لجَمِيع الْمُسلمين فَكَذَلِك مَاله لبيت مَالهم وَلَيْسَ بَعضهم أولى بِهِ من بعض لأَنهم يَد على من سواهُم أَلا ترى إِلَى قَوْله سُبْحَانَهُ لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {إِن شانئك هُوَ الأبتر} يَعْنِي
(1/139)
العَاصِي بن وَائِل السَّهْمِي وَكَانَ قد وصف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالبتر وَهُوَ عدم الْوَلَد وَانْقِطَاع النَّسْل وَالتَّابِع لِأَن البتر هُوَ انْقِطَاع التَّابِع فَإِذا لم يكن للْإنْسَان ولد يتبعهُ فَكَأَنَّهُ أَبتر فَلَمَّا عير العَاصِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا رد الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ مقَالَته فَقَالَ {إِن شانئك هُوَ الأبتر} أَي مبغضك فتضمن هَذَا الْكَلَام نفيا وإثباتا نفى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه الصّفة بقوله {إِن شانئك هُوَ الأبتر} وَهُوَ فِي هَذَا الْموضع يُعْطي اخْتِصَاص الصّفة بِالْوَاحِدِ ونفيها عَن الآخر وَكَذَلِكَ قَالَ الْجِرْجَانِيّ وَغَيره فِي هَذِه الْكَلِمَة هُوَ إِذا وَقعت فِي الْكَلَام بَين المتبدأ وَالْخَبَر إِنَّمَا تُعْطِي الِاخْتِصَاص وَإِذا ثَبت هَذَا فالعاصي بن وَائِل قد كَانَ لَهُ ولدان هِشَام وَعَمْرو فَكيف أثبت لَهُ البتر وَهُوَ ذُو ولد مَا ذَلِك إِلَّا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ أَبُو الْمُؤمنِينَ وأزواجه أمهاتهم وَكَانَ أبي يقْرؤهَا وَهُوَ أَب لَهُم وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام ابْنا العَاصِي مُؤْمِنَانِ وَقَالَ أسلم النَّاس وآمن عَمْرو يَعْنِي عَمْرو بن العَاصِي وَالنَّبِيّ أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم فَصَارَ عَمْرو وَهِشَام تبعا للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَانْقطع ذَنْب العَاصِي مِنْهُمَا فَصَارَ هُوَ الأبتر على الْحَقِيقَة كَمَا وَصفه الله تَعَالَى وَصَارَ بنوه الَّذين يكاثر بهم أعداءه مِمَّن يكاثر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهم الْأَنْبِيَاء يَوْم الْقِيَامَة وهم أمته أَلا ترى أَنه قَالَ إِنِّي مُكَاثِر بكم الْأُمَم أَلا ترَاهُ كَيفَ بَدَأَ الله السُّورَة بقوله {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر}
(1/140)
أَي لَا قلَّة وَلَا ذلة عَلَيْك وَإِنَّمَا القل وَابْن القل شانئك الأبتر والكوثر الَّذِي أعطَاهُ الله كَثْرَة من أتبعه فِي الدُّنْيَا من أمته فروى فروى غليلهم وعطشهم الْعلم وَالْحكمَة فهم أَتْبَاعه فِي الدُّنْيَا وهم أَتْبَاعه فِي الْآخِرَة حَتَّى يروي غليلهم وعطشهم كوثر الَّذِي آنيته عدد نُجُوم السَّمَاء فَذَلِك الْكَوْثَر فِي مُقَابلَة هَذَا الْكَوْثَر هُوَ كَثْرَة الأتباع لَهُ وَلذَلِك أمره الله أَن يُقَابل هَذِه النِّعْمَة الَّتِي هِيَ فِي الدُّنْيَا سَبَب من أَسبَاب الْعجب وداعية إِلَى الْفَخر وَالْكبر أمره أَن يقابلها بالتواضع لرَبه والقربان لبيته وَأَن ينْحَر أنفس أَمْوَاله وينسك لمَوْلَاهُ فَقَالَ {فصل لِرَبِّك وانحر} لِأَن الصَّلَاة قصد على الْبَيْت بِالْقَلْبِ وَالْوَجْه والنحر قرْبَان ونسك للبيت بَيت الله وَيَوْم النَّحْر يظْهر فِيهِ كَثْرَة مَا فتح الله عَلَيْهِ وَتظهر كَثْرَة الأتباع لَهُ والمقتدين بسنته فِي كل بلد فقوبل معنى الْكَوْثَر بالنحر فِي يَوْم النَّحْر بعد الصَّلَاة لله فَلَا ذبح وَلَا نحر إِلَّا بعد الصَّلَاة لله والتوجه إِلَيْهِ وَلذَلِك قيل لَهُ {إِن صَلَاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب الْعَالمين لَا شريك لَهُ}
(1/141)
والنسك هُوَ النَّحْر فَإِذا كَانَ بِموضع النَّحْر والنسك نحر وَقصد الْبَيْت وَحج بِالْفِعْلِ وَإِذا كَانَ فِي بَلَده ومسجده أَشَارَ إِلَى بَيت الله بالتوجه وَإِلَى النّسك بِرَفْع الْيَدَيْنِ إِلَى جِهَة النَّحْر لقَوْله تَعَالَى {إِن صَلَاتي ونسكي} فقرن بَينهمَا كَمَا قرن بَينهمَا فِي سُورَة الْكَوْثَر
وَمن امتثاله عَلَيْهِ السَّلَام لأمر ربه فِي هَذِه السُّورَة مَا فعل يَوْم الْفَتْح حِين نظر إِلَى كَثْرَة أَتْبَاعه وَهُوَ على الرَّاحِلَة فطأطأ نَفسه خاضعا لرَبه حَتَّى لصق عثنونه بِعُود الرحل ممتثلا لقَوْل الله سُبْحَانَهُ {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر فصل لِرَبِّك وانحر} وَمعنى الصَّلَاة فِي اللُّغَة الانحناء والانعطاف تواضعا لِأَنَّهُمَا من الصلوين يُقَال صلى فلَان إِذا حنا صلاه أَي صلبه
فَهَذَا الْكَلَام الَّذِي أوردناه هُنَا هُوَ فِي معنى مَا كُنَّا بصدده من انْقِطَاع الْعصبَة وَانْتِفَاء الْحُرْمَة بَين الْكَافِر وَالْمُسلم حَتَّى لَا يكون وَارِثا لَهُ كَمَا أَنه لَيْسَ بِابْن لَهُ وَلَا تَابعا من أَتْبَاعه بل هُوَ متبرئ مِنْهُ ومفارق لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَهُوَ الْفِرَاق الْأَعْظَم قَالَ الله سُبْحَانَهُ {يَوْمئِذٍ يتفرقون}
(1/142)
وَقَالَ {فَلَا أَنْسَاب بَينهم يَوْمئِذٍ وَلَا يتساءلون}
الْمَانِع الثَّالِث من الْمِيرَاث الرّقّ وَهُوَ من أثر الْكفْر وَالْكفْر هُوَ سَببه وَذَلِكَ أَن الله سُبْحَانَهُ لما أباحج الدَّم وَالْمَال والسباء بالْكفْر جعل بَقَاء الرّقّ إِن أسلم العَبْد تذكرة وعبرة بِمَا تزل إِلَيْهِ الْمعْصِيَة فَإِن العبيد إِخْوَاننَا وأبونا وَاحِد وَهُوَ آدم وَلم يكن لنا أَن نسترقهم وَلَكِن أَبَاحَ الْكفْر استرقاقهم ثمَّ تقبل اله تَوْبَتهمْ وَإِيمَانهمْ فِي الْآخِرَة وَأبقى الرّقّ فيهم موعظة وذكرى كَمَا فعل حِين أهبط آدم إِلَى الأَرْض بِسَبَب الْمعْصِيَة وَقد قبل تَوْبَته وَرفع مَنْزِلَته واصطفاه وفضله وَلَكِن جعل مكثه فِي الأَرْض وَمَا يَنَالهُ وَذريته فِيهَا عظة للعباد وَتَذْكِرَة بِمَا تزل إِلَيْهِ الْمعاصِي من البعاد وَقد رُوِيَ أَنه لما وجد من نَفسه ريح الْغَائِط قَالَ أَي رب مَا هَذَا فَقيل لَهُ هَذَا ريح خطيئتك وَكَانَ نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام إِذا خرج من الْخَلَاء يَقُول غفرانك التفاتا لهَذَا وتذكرا مِنْهُ لهَذِهِ العظة فَكَذَلِك الرّقّ يمْنَع من الْمِيرَاث كَمَا منع الأَصْل الَّذِي أوجبه وَهُوَ الشّرك والتبرؤ من الله تَعَالَى والانقطاع عَنهُ الْمَانِع الرَّابِع الْقَتْل فَإِذا قتل أَخَاهُ فقد قطع ولَايَته وَالْمَال تبع للنَّفس فَلَا يَرث وَهَذِه سنة للأنبياء وَقد نزلت على عهد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وقصها الله علينا فِي الْقُرْآن بقوله {وَإِذ قتلتم نفسا فادارأتم فِيهَا} وَكَانَ
(1/143)
الْقَاتِل قد قتل عَمه ليرثه فَلَمَّا أَحْيَاهُ الله وَأخْبر بذلك صَارَت سنة بَاقِيَة أَلا يَرث قَاتل من قتيله
الْمَانِع الْخَامِس الزِّنَا وَهُوَ أشبه شَيْء بقتل الْوَلَد لِأَنَّهُ يَضَعهُ فِي رحم زَانِيَة فَيقطع مَا بَينه وَبَينه فَيُقَال فِيهِ ابْن زنا وَابْن زَانِيَة وينسب إِلَى الشَّيْطَان لَا لِأَبِيهِ قَالَ الله سُبْحَانَهُ {وشاركهم فِي الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد} يَعْنِي الزَّانِي فِي قَول ابْن عَبَّاس فَلَا نسب بَينهمَا
(1/144)
وَلَا توارث وعَلى هَذَا أَشَارَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام حِين قيل لَهُ أَي الذَّنب أعظم قَالَ أَن تجْعَل لله ندا وَهُوَ خلقك ثمَّ قيل أَي قَالَ أَن تقتل ولدك ثمَّ قيل أَي قَالَ أَن تُزَانِي حَلِيلَة جَارك فقرن إِفْسَاد النُّطْفَة بِالزِّنَا مَعَ قتل الْوَلَد وَقرن الْقَتْل مَعَ الشّرك كَمَا قرنه الله عز وَجل حَيْثُ يَقُول {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون}
جعلنَا الله مِمَّن وصل مَا أمره الله بِهِ أَن يُوصل وَعمل بِمَا وعاه من الْحِكْمَة وَحصل لَا رب غَيره مَسْأَلَة تقدّمت الإشاره إِلَيْهَا فِي ذكر فَوَائِد اية الْوَصِيَّة
وَهُوَ أَن يُقَال مَا الْحِكْمَة فِي إِضَافَة النّصْف إِلَى مَا بعده من قَوْله {نصف مَا ترك أزواجكم} و {فلهَا نصف مَا ترك} وَقَالَ فِي جَمِيع الْأَجْزَاء
(1/145)
بِالْألف وَاللَّام مَعَ حرف من الَّتِي للتَّبْعِيض نَحْو قَوْله {السُّدس مِمَّا ترك} و {الرّبع مِمَّا تركن} و {الرّبع مِمَّا تركْتُم} و {الثّمن مِمَّا تركْتُم} و {الثُّلُثَانِ مِمَّا ترك} وَلم يضف شَيْئا من هَذِه الْأَجْزَاء كَمَا أضَاف النّصْف
وَالْجَوَاب أَن هَذِه كلهَا أسماؤها مُشْتَقَّة من الْعدَد فَهِيَ أَجزَاء من الْأَعْدَاد لفظا وَمعنى فَإِذا قلت لَهُ الثُّلُث من المَال فَمَعْنَى الْكَلَام وَاحِد من ثَلَاثَة وَكَذَلِكَ الرّبع وَاحِد من أَرْبَعَة وَالسُّدُس وَاحِد من سِتَّة وَكَذَلِكَ الثّمن وَاحِد من ثَمَانِيَة وَلَيْسَ النّصْف كَذَلِك لم يشتق من الِاثْنَيْنِ وَلَو اشتق من الِاثْنَيْنِ لقيل ثني بِضَم أَوله كَمَا قيل فِي سَائِر الْأَجْزَاء نَحْو الثُّلُث وَالرّبع وَإِنَّمَا اشتق النّصْف من النّصْف والتناصف أَي أَن المقتسمين قد تناصفا وأنصفا حِين سوي بَينهمَا فاشتق النّصْف من التناصف لَا من الْعدَد الَّذِي هُوَ الِاثْنَان وَبني على وزن فعل بِكَسْر أَوله لِأَنَّهُ مثل لِلنِّصْفِ الآخر فَكل وَاحِد مِنْهُمَا مثل صَاحبه وَعدل لَهُ وَشبه لَهُ فجَاء النّصْف على وزن عدل وَشبه وخدن وترب وَهَذَا الْبَاب كُله لابد من إِضَافَته إِلَى مَا يُقَابله تَقول هَذَا مثل هَذَا وَهَذَا عدل هَذَا فتضيف فَكَذَلِك أضيف النّصْف لتَضَمّنه معنى الْإِضَافَة إِلَّا أَنه لم يضف إِلَى مَا يُقَابله لِأَن لَفظه لم يُؤْخَذ إِلَّا من التناصف والإنصاف
(1/146)
وَلَيْسَ هُوَ من صفة الجزءين أَعنِي الْإِنْصَاف وَإِنَّمَا هُوَ من صفة الآخذين لَهما والمقتسمين المَال وَإِنَّمَا صفة هذَيْن الجزءين أَعنِي النصفين التَّمَاثُل والتشابه فَهُوَ يسْتَحق الْإِضَافَة من جِهَة بنيته على مَا يُقَابله وَيسْتَحق الْإِضَافَة من جِهَة لَفظه واشتقاقه إِلَى المَال الْمَقْسُوم على النّصْف بَين الِاثْنَيْنِ شَرِيكَيْنِ وَلَو أضيف إِلَى مَا يُقَابله لتوهم أَنه ربع لِأَنَّك كنت تَقول هَذَا الشّطْر هُوَ نصف هَذَا الشّطْر الآخر وَلَكِن تَقول هَذَا مثله عدله وَهُوَ نصف المَال أَي الَّذِي حصل بِهِ التناصف بَين أَصْحَاب المَال وَلذَلِك لَا نجد فِي الْفَرَائِض كلهَا فَرِيضَة يُحِيط أَصْحَابهَا بِالْمَالِ إِلَى السوَاء علا فَرِيضَة الِاثْنَيْنِ فَإِنَّهُ يصير إِلَى كل وَاحِد النّصْف وَلَا تَجِد ذَلِك فِي فَرِيضَة الثَّلَاثَة وَلَا الْأَرْبَعَة وَلَا غَيرهَا إِلَّا أَن يكون فِيهَا عاصب وَأما أَصْحَاب الْفَرِيضَة فَلَا يكون لكل وَاحِد مِنْهُم مثل مَا للآخرين أبدا إِلَّا الزَّوْج مَعَ الْأُخْت فَإِن نصفه حِين ذكر فِي الْآيَة أضيف إِلَى مَا بعده إشعارا بِأَن فِي مُقَابلَته من لَهُ مثله وَهِي الْأُخْت إِذا ورثت مَعَ الزَّوْج وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْأُخْت {فلهَا نصف مَا ترك} بِالْإِضَافَة إِذْ النّصْف الثَّانِي قد يكون للزَّوْج مَعهَا فهما متقابلان فَاسْتحقَّ النّصْف لهَذِهِ الْمُقَابلَة وَبني على وزن فعل بِكَسْر أَوله على مَا تقدم
وَانْظُر كَيفَ جَاءَ النّصْف فِي ذكر الْبِنْت مُعَرفا بِالْألف وَاللَّام غير مُضَاف إِذْ لَيْسَ فِي مقابلتها من لَهُ نصف آخر بِالْفَرْضِ وَإِنَّمَا للْأُخْت مَعهَا مَا بَقِي وَلَيْسَ لَهَا مَعهَا النّصْف فَرِيضَة وَقَالَ {النّصْف}
(1/147)
وَلم يقل مِمَّا ترك لما قدمْنَاهُ من أَنه لم يشتق من الْعدَد لَفظه كَمَا اشتق الثُّلُث وَالسُّدُس وَالرّبع حَتَّى حسن فِيهَا أَن يَقُول الثُّلُث من كَذَا وَالرّبع من كَذَا أَي الْوَاحِد من هَذَا الْعدَد إِذْ لَفظه من لفظ الْعدَد وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْأُخْتَيْنِ {فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا ترك} لِأَنَّهُ ذكر بنتين فَصَارَ معنى الْكَلَام أَن كل وَاحِدَة مِنْهُمَا لَهَا الثُّلُث مِمَّا ترك أَي الْوَاحِد من ثَلَاثَة فَكَانَ اللَّفْظ بِحرف الْجَرّ أحسن مِنْهُ بِالْإِضَافَة وَقَالَ فِي الْبَنَات {فَإِن كن نسَاء} فَذكر جمَاعَة لَهُنَّ لثلثان فَقَالَ {ثلثا مَا ترك} فَكَانَت الْإِضَافَة أحسن من أجل أَن الثُّلثَيْنِ لفظ مقسوم بَينهُنَّ جمع فَلَيْسَ لكل وَاحِدَة مِنْهُنَّ وَاحِد من ثَلَاثَة كَمَا كَانَ للأختين فِي حَال التَّثْنِيَة وَلَو ذكر الْأَخَوَات بِلَفْظ الْجمع لقَالَ فِيهِنَّ كَمَا قَالَ فِي الْبَنَات {ثلثا مَا ترك} بِالْإِضَافَة
فَافْهَم تَنْزِيل الْأَلْفَاظ فِي منازلها وَإِعْطَاء الْمعَانِي حُقُوقهَا يلح لَك سر البلاغة وَبَين لَك حَقِيقَة الإعجاز فِي هَذَا الْكَلَام المحفوف بالإعظام والإعزاز المنزه عَن شَيْئَيْنِ الإطالة وإخلال الإيجاز فَهَذَا تَكْمِلَة لما بدأنا من شرح آيَة الْوَصِيَّة وَبَيَان إعجازها والتبيين لمعانيها والتنبيه على فوائدها فَمَا كَانَ من تَفْسِير معنى فمأخوذ من مَعَاني تَفْسِير السّلف دون سِيَاقَة أَلْفَاظه وَمَا كَانَ من تَنْبِيه على إِعْرَاب يُفِيد فهما فَمن أصُول النَّحْو وَمَا كَانَ من تَنْبِيه على إِشَارَة لَطِيفَة أَو تذكرة بحكمة أَو تَبْيِين لقانون البلاغة والتعريف بجوهر الْكَلَام وتحرير اللَّفْظ فَمن الْعُلُوم الْعَرَبيَّة الَّتِي نحمد الله على مَا منح مِنْهَا ونشكره شكرا يَقْتَضِي الْمَزِيد عَنهُ منعم حميد
(1/148)
خَاتِمَة الْمُؤلف
قَالَ الْفَقِيه الْأَجَل الْمُحدث الْأَكْمَل الْأُسْتَاذ الْأَفْضَل أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن الحثمي ثمَّ السُّهيْلي رَضِي الله عَنهُ
قد أَتَيْنَا على جَمِيع مَا شرطناه فِي شرح الْآيَة وَشرح متضمنها والتنبيه على إعجازها والتدبر لصدورها وأعجازها وقصدنا بذلك أَن نوري فِي ميدان النّظر قدحا وَأَن نجيل مَعَ الخائضين فِي مراسم الشَّرِيعَة قدحا مَعَ الِاعْتِرَاف بقصر الخطو عَن ذَلِك الشأو ونكول الْحَد عَن ذَلِك الْحَد وَلَكِن رجونا من الْكَرِيم سُبْحَانَهُ أَن يَأْخُذ بضبعنا فيلحقنا بأئمة الْمُتَّقِينَ ويدخلنا فِي زمرة أهل الْيَقِين كَمَا جعلنَا مُتَعَلقين بأهدابهم ومحرضين على التَّمَسُّك بهديهم وآدابهم
(1/149)
وفاحصين عَن سيرتهم وأنبائهم ومتعرفين بأنسابهم وَأَسْمَاء آبَائِهِم ومتعلمين بلغتهم الَّتِي بهَا يَتَكَلَّمُونَ وَبهَا أنزل الْكتاب قُرْآنًا عَرَبيا لقوم يعْقلُونَ اللَّهُمَّ انفعنا بِمَا علمتنا من لُغَة نبيك الَّتِي بهَا رغبت فِي ثوابك وَبهَا حذرت من عقابك وَبهَا يبين الْمُجْمل من كتابك وبصرنا من الْجَهَالَة وأيقظنا من سنة الْغَفْلَة والبطالة إِنَّه لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بك وصل اللَّهُمَّ على نبيك ومجتباك من خلقك سيدنَا ومولانا مُحَمَّد نَبِي الرَّحْمَة وشفيع الْأمة عدد مَا ذكرك الذاكرون وغفل عَن ذكرك الغافلون وَسلم كثيرا دَائِما إِلَى يَوْم الدّين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
(1/150)
فِي هَل يعْتد بِنِكَاح لمجوس بعد الْإِسْلَام فِي الْمِيرَاث
أم لَهَا ابْنة وَابْن مَاتَ ابْنهَا فورثت مِنْهُ السُّدس فَقَالَت إِنَّمَا فَرضِي الثُّلُث لِأَن وَلَدي لم يتْرك إخْوَة إِلَّا أُخْتا وَاحِدَة فَقيل لَهَا أشقيقة هِيَ أم أُخْت لأَب فَقَالَت بل هِيَ شَقِيقَة فَقيل لَهَا فلك إِذا سدس آخر وَإِن كَانَت لَهُ خَالَة فلك نصف السُّدس وَنصف السُّدس للخالة وَلَو لم يكن لَهُ أُخْت شَقِيقَة لَكَانَ للخالة الثُّلُث وَلَك النّصْف
فَقَالَت الْأُخْت سُبْحَانَ الله كَيفَ هَذَا
فَيُقَال لَهَا نعم لِأَن أَبَاك من قد علمت
شرح هَذَا أَن الْأَب كَانَ مجوسيا فنكح ابْنَته فَولدت لَهُ جَارِيَة وَغُلَامًا ثمَّ أَسْلمُوا فَأم الْغُلَام أُخْت لَهُ لِأَن أباهما وَاحِد فحجبت نَفسهَا عَن الثُّلُث بِنَفسِهَا وبأخته إِلَى السُّدس فَكَانَ للْأُخْت النّصْف وزيدت الْأُم السُّدس على سدسها لِأَنَّهَا لَهُ أُخْت لأَب فَهَذَا السُّدس تَتِمَّة الثُّلثَيْنِ
وَلَو لم يكن لَهُ أُخْت شَقِيقَة لكَانَتْ الْخَالَة مَعَ الْأُم لَهما الثُّلُثَانِ لِأَنَّهُمَا أختَان فَيصير للْأُم النّصْف بسدسها الأول وَيبقى لِلْأُخْرَى الثُّلُث لِأَنَّهَا أُخْت لَهُ لأَب وَخَالَة
وَفِي هَذَا الأَصْل اخْتِلَاف بَين أَصْحَاب مَالك فَإِن مِنْهُم من لَا يرى نِكَاح الْمَجُوس لَهُ حكم وَلَا تَأْثِير وَبِه أَقُول
(1/151)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق