ج3. الروض الأنف
أَبُو طَالِبٍ يَفْخَرُ
بِنَسَبِهِ وَابْنِ أَخِيهِ
فَلَمّا خَشِيَ أَبُو طَالِبٍ دَهْمَاءَ الْعَرَبِ أَنْ يَرْكَبُوهُ مَعَ قَوْمِهِ
قَالَ قَصِيدَتَهُ الّتِي تَعَوّذَ فِيهَا بِحَرَمِ مَكّةَ وَبِمَكَانِهِ مِنْهَا
، وَتَوَدّدَ فِيهَا أَشْرَافُ قَوْمِهِ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ يُخْبِرُهُمْ
وَغَيْرَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ شِعْرِهِ أَنّهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلَا تَارِكِهِ لِشَيْءِ أَبَدًا حَتّى
يَهْلَكَ دُونَهُ فَقَالَ [ ص 17 ] [ ص 18 ] [ ص 19 ]
وَلَمّا رَأَيْت الْقَوْمَ لَا وُدّ فِيهِمْ ... وَقَدْ قَطَعُوا كُلّ الْعُرَى
وَالْوَسَائِلِ
وَقَدْ صَارَحُونَا بِالْعَدَاوَةِ وَالْأَذَى ... وَقَدْ طَاعُوا أَمْرَ
الْعَدُوّ الْمُزَايِلِ
وَقَدْ حَالَفُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنّةً ... يَعَضّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا
بِالْأَنَامِلِ
صَبَرْت لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ ... وَأَبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ
الْمَقَاوِلِ
وَأَحْضَرْت عِنْدَ الْبَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي ... وَأَمْسَكْت مِنْ
أَثْوَابِهِ بِالْوَصَائِلِ
قِيَامًا مَعًا مُسْتَقْبِلِينَ رِتَاجَهُ ... لَدَيّ حَيْثُ يُقْضَى حَلْفَهُ
كُلّ نَافِلِ
وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ ... بِمُفْضَى السّيُولِ مِنْ إسَافَ
وَنَائِلِ
مُوَسّمَةُ الْأَعْضَادِ أَوْ قَصِرَاتِهَا ... مُخَيّسَةٌ بَيْنَ السّدِيسِ
وَبَازِلِ
تَرَى الْوَدْعَ فِيهَا ، وَالرّخَامَ وَزَبْنَةً ... بِأَعْنَاقِهَا مَعْقُودَةً
كَالْعَثَاكِلِSشَرْحُ لَامِيّةِ أَبِي طَالِبٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ قَصِيدَةَ أَبِي طَالِبٍ إلَى آخِرِهَا ، وَفِيهَا : وَأَبْيَضَ
عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ الْمَقَاوِلِ . [ ص 17 ] الْأَقْيَالَ وَالْمَقَاوِلَ فِيمَا
تَقَدّمَ وَتُرَاثٌ أَصْلُهُ وُرَاثٌ مِنْ وَرِثْت ، وَلَكِنْ لَا تُبْدَلُ هَذِهِ
الْوَاوُ تَاءً إلّا فِي مَوَاضِعَ مَحْفُوظَةٍ وَعِلّتُهَا كَثْرَةُ وُجُودِ
التّاءِ فِي تَصَارِيفِ الْكَلِمَةِ فَالتّرَاثُ مَالٌ قَدْ تُوُورِثَ
وَتَوَارَثَهُ قَوْمٌ عَنْ قَوْمٍ فَالتّاءُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التّوْرِيثِ
وَالتّوَارُثِ وَكَذَلِكَ تُجَاهُ الْبَيْتِ التّاءُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي
التّوَجّهِ وَالتّوْجِيهِ وَنَحْوِهِ فَلَمّا أَلْفَوْهَا فِي تَصَارِيفِ
الْكَلِمَةِ لَمْ يُنْكِرُوا قَلْبَ الْوَاوِ إلَيْهَا ، كَمَا فَعَلُوا فِي
رَيْحَانٍ وَهُوَ مِنْ الرّوْحِ لِكَثْرَةِ الْيَاءِ فِي تَصَارِيفِ الْكَلِمَةِ
كَمَا قَدّمْنَا قَبْلُ وَهِيَ فِي تُرَاثٍ وَبَابِهِ أَبْعَدُ لِأَنّ الْيَاءَ
الْمَأْلُوفَةَ فِي مَادّةِ الْكَلِمَةِ زَائِدَةٌ وَيَاءُ رَيْحَانٍ لَيْسَتْ
كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ التّكَأَةُ مِنْ تَوَكّأْت وَتَتْرَى مِنْ التّوَاتُرِ
وَالتّوَلّجُ مِنْ التّوَلّجِ وَالْمُتّلِجِ لِأَنّهُمْ يَقُولُونَ اتّلَجَ
بِالتّشْدِيدِ فَتَصِيرُ الْوَاوُ تَاءً لِلْإِدْغَامِ حَتّى يَقُولُوا : مُتّلِجٌ
فَيَجْعَلُونَهَا تَاءً دُونَ الْإِدْغَامِ . هَذَا أَشْبَهُ بِقِيَاسِ رَيْحَانٍ
وَبَابِهِ فَإِنّ التّاءَ الْأُولَى مِنْ مُتّلِجٍ أَصْلِيّةٌ وَهِيَ فِي مُتّلِجٍ
إذَا ضُعّفَتْ أَصْلِيّةٌ أَيْضًا ، فَهِيَ هِيَ فَقِفْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ
فَإِنّهُ سِرّ الْبَابِ . وَأَرَادَ بِالْمَقَاوِلِ آبَاءَهُ شَبّهَهُمْ
بِالْمُلُوكِ وَلَمّا يَكُونُوا مُلُوكًا ، وَلَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ مَلِكٍ
بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ قَالَ لَهُ هِرَقْلُ : هَلْ كَانَ فِي
آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ؟ فَقَالَ لَا . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا السّيْفُ
الّذِي ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ مِنْ هِبَاتِ الْمُلُوكِ لِأَبِيهِ فَقَدْ وَهَبَ
ابْنُ ذِي يَزَنَ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ هِبَاتٍ جَزْلَةً حِينَ وَفَدَ عَلَيْهِ
مَعَ قُرَيْشٍ ، يُهَنّئُونَهُ بِظَفْرِهِ بِالْحَبَشَةِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْلِدِ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِعَامَيْنِ . وَقَوْلُهُ
مُوَسّمَةُ الْأَعْضَادِ أَوْ قَصِرَاتُهَا يَعْنِي [ مُعَلّمَةٌ ] بِسِمَةِ فِي
أَعْضَادِهَا ، وَيُقَالُ لِذَلِكَ الْوَسْمِ السّطَاعُ وَالْخِبَاطُ فِي
الْفَخِذِ وَالرّقْمَةُ أَيْضًا فِي الْعَضُدِ وَيُقَالُ لِلْوَسْمِ فِي الْكَشْحِ
الْكِشَاحُ وَلِمَا فِي قَصَرَةِ الْعُنُقِ الْعِلَاطُ وَالْعَلْطَتَانِ
وَالشّعْبُ أَيْضًا فِي الْعُنُقِ وَهُوَ كَالْمِحْجَنِ وَفِي الْعُنُقِ وَسْمٌ
آخَرُ أَيْضًا يُقَالُ لَهُ قَيْدُ الْفَرَسِ . قَالَ الرّاجِزُ
كُومٌ عَلَى أَعْنَاقِهَا قَيْدُ الْفَرَسْ ... تَنْجُو إذَا اللّيْلُ تَدَانَى ،
وَالْتَبَسْ
[ ص 18 ] ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَكْثَرَهُ فِي كِتَابِ الْإِبِلِ فَمِنْهَا الْمُشَيْطَنَةُ
وَالْمُفَعّاةُ وَالْقُرْمَةُ وَهِيَ فِي الْأَنْفِ وَكَذَلِكَ الْجُرْفُ
وَالْخُطّافُ وَهِيَ فِي الْعُنُقِ وَالدّلْوُ وَالْمُشْطُ وَالْفِرْتَاجُ
وَالثّؤْثُورُ وَالدّمَاعُ فِي مَوْضِعِ الدّمْعِ وَالصّدَاغُ فِي مَوْضِعِ
الصّدْغِ وَاللّجَامُ مِنْ الْخَدّ إلَى الْعَيْنِ يُقَالُ مِنْهُ بَعِيرٌ
مَلْجُومٌ وَالْهِلَالُ وَالْخِرَاشُ وَهُوَ مِنْ الصّدْغِ إلَى الذّقَنِ .
وَقَوْلُهُ أَوْ قَصَرَاتُهَا جَمْعُ قَصَرَةٍ وَهِيَ أَصْلُ الْعُنُقِ
وَخَفْضُهَا بِالْعَطْفِ عَلَى الْأَعْضَادِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ كَمَا تَقُولُ هُوَ ضَارِبُ الرّجُلِ وَزَيْدًا فِي بَابِ اسْمِ
الْفَاعِلِ لِأَنّ قَوْلَهُ مُوَسّمَةُ الْأَعْضَادِ مِنْ بَابِ الصّفَةِ
الْمُشَبّهَةِ وَهِيَ لَا تَعْمَلُ إلّا مُضْمَرَةً وَاسْمُ الْفَاعِلِ يُضْمَرُ
إذَا عُطِفَ عَلَى الْمَخْفُوضِ وَذَلِكَ أَنّ الصّفَةَ لَا تَعْمَلُ بِالْمَعْنَى
، وَإِنّمَا تَعْمَلُ بِشَبَهِ لَفْظِيّ بَيْنَهَا ، وَبَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ
فَإِذَا زَالَ اللّفْظُ وَرَجَعَ إلَى الْإِضْمَارِ لَمْ تَعْمَلْ وَتُخَالِفُ
اسْمَ الْفَاعِلِ أَيْضًا ؛ لِأَنّ مَعْمُولَهَا لَا يَتَقَدّمُ عَلَيْهَا ، كَمَا
يَتَقَدّمُ الْمَفْعُولُ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ وَذَلِكَ أَنّ مَنْصُوبَهَا
فَاعِلٌ فِي الْمَعْنَى ، وَالْفَاعِلُ لَا يَتَقَدّمُ وَالصّفَةُ لَا يُفْصَلُ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْصُوبِهَا بِالظّرْفِ وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي اسْمِ
الْفَاعِلِ وَالصّفَةُ لَا تَعْمَلُ إلّا بِمَعْنَى الْحَالِ وَاسْمُ الْفَاعِلِ
يَعْمَلُ بِمَعْنَى الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ نَعَمْ وَيَعْمَلُ بِمَعْنَى
الْمَاضِي إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللّامُ وَلَوْ رُوِيَ مُوَسّمَةُ
الْأَعْضَادَ بِنَصْبِ الدّالِ عَلَى مَعْنَى : مُوَسّمَةٌ الْأَعْضَادَ
بِالتّنْوِينِ وَحَذْفُهُ لِالْتِقَاءِ السّاكِنَيْنِ لَجَازَ كَمَا رُوِيَ فِي
شِعْرِ حُنْدُجٍ كَبِكْرِ مُقَانَاةٍ الْبَيَاضَ بِالنّصْبِ وَبِالرّفْعِ أَيْضًا
، أَيْ الْبَيَاضُ مِنْهُمْ عَلَى نِيّةِ التّنْوِينِ فِي مُقَانَاةٍ وَحَذْفه
لِالْتِقَاءِ السّاكِنَيْنِ وَأَمّا الْخَفْضُ فَلَا خَفَاءَ بِهِ . وَإِذَا
كَانَتْ الْقَصَرَاتُ مَخْفُوضَةً بِالْعَطْفِ عَلَى الْأَعْضَادِ فَفِيهِ شَاهِدٌ
لِمَنْ قَالَ هُوَ حَسَنٌ وَجْهِهِ كَمَا رَوَى سِيبَوَيْهِ حِينَ أَنْشَدَ كُمَيْتَا
الْأَعَالِي جَوْنَتَا مُصْطَلَاهُمَا وَفِي حَدِيثِ أُمّ زَرْعٍ صُفْرُ
رِدَائِهَا ، وَمِلْءُ كِسَائِهَا مِثْلَ حَسَنَةُ وَجْهِهَا ، وَفِي الْأَمَالِي
[ ص 19 ]
[ السّنّ مِنْ جَلْنَزِيزٍ عَوْزَمٍ خَلَقٍ ] ... وَالْحِلْمُ حِلْمُ صَبِيّ
يَمْرُسُ الْوَدَعَهْ
وَقَالَ الشّاعِرُ
إنّ الرّوَاةَ بِلَا فَهْمٍ لِمَا حَفِظُوا ... مِثْلَ الْجِمَالِ عَلَيْهَا
يُحْمَلُ الْوَدَعُ
لَا الْوَدْعُ يَنْفَعُهُ حَمْلُ الْجِمَالِ لَهُ ... وَلَا الْجِمَالُ بِحَمْلِ
الْوَدْعِ تَنْتَفِعُ
وَيُقَالُ إنّ هَذِهِ الْخَرَزَاتِ يَقْذِفُهَا الْبَحْرُ وَأَنّهَا حَيَوَانٌ فِي
جَوْفِ الْبَحْرِ فَإِذَا قَذَفَهَا مَاتَتْ وَلَهَا بَرِيقٌ وَلَوْنٌ حَسَنٌ
وَتَصَلّبُ صَلَابَةَ الْحَجَرِ ، فَتُثْقَبُ وَيُتّخَذُ مِنْهَا الْقَلَائِدُ
وَاسْمُهَا مُشْتَقّ مِنْ وَدَعْته أَيْ تَرَكْته ، لِأَنّ الْبَحْرَ يَنْضُبُ
عَنْهَا وَيَدَعُهَا ، فَهِيَ وَدَعٌ مِثْلَ قَبَضٍ وَنَفَضٍ وَإِذَا قُلْت
الْوَدْعَ بِالسّكُونِ فَهِيَ مِنْ بَابِ مَا سُمّيَ بِالْمَصْدَرِ . وَقَوْلُهُ
وَالرّخَامَ أَيْ مَا قُطِعَ مِنْ الرّخَامِ فَنُظِمَ وَهُوَ حَجَرٌ أَبْيَضُ
نَاصِعٌ وَالْعَثَاكِلُ أَرَادَ الْعَثَاكِيلَ فَحَذَفَ الْيَاءَ ضَرُورَةً كَمَا
قَالَ ابْنُ مُضَاضٍ وَفِيهَا الْعَصَافِرُ أَرَادَ الْعَصَافِيرَ وَفِي أَوّلِ
الْقَصِيدَةِ وَقَدْ حَالَفُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنّةً [ جَمْعُ ظَنِينٍ ]
أَيْ مُتّهَمٌ وَلَوْ كَانَ بِالضّادِ مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْنَا ، لَعَادَ
مَعْنَاهُ مَدْحًا لَهُمْ كَأَنّهُ قَالَ أَشِحّةً عَلَيْنَا ، كَمَا أَنْشَدَ
عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ [ الْجَاحِظُ ] : [ ص 20 ]
لَوْ كُنْت فِي قَوْمٍ عَلَيْك أَشِحّةً ... عَلَيْك أَلَا إنّ مَنْ طَاحَ طَائِحُ
يَوَدّونَ لَوْ خَاطُوا عَلَيْك جُلُودَهُمْ ... وَهَلْ يَدْفَعُ الْمَوْتَ
النّفُوسُ الشّحَائِحُ
أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ مِنْ
كُلّ طَاعِنٍ ... عَلَيْنَا بِسُوءِ أَوْ مُلِحّ بِبَاطِلِ
وَمِنْ كَاشِحٍ يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةِ ... وَمِنْ مُلْحِقٍ فِي الدّينِ مَا
لَمْ نُحَاوِلْ
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ ... وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءَ
وَنَازِلِ
وَبِالْبَيْتِ حَقّ الْبَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكّةَ ... وَبِاَللّهِ إنّ اللّهَ
لَيْسَ بِغَافِلِ
وَبِالْحَجَرِ الْمُسْوَدّ إذْ يَمْسَحُونَهُ ... إذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضّحَى
وَالْأَصَائِلِ
وَمَوْطِئِ إبْرَاهِيمَ فِي الصّخْرِ رَطْبَةً ... عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا
غَيْرَ نَاعِلِ
وَأَشْوَاطٍ بَيْنَ الْمَرْوَتَيْنِ إلَى الصّفَا ... وَمَا فِيهِمَا مِنْ صُورَةٍ
وَتَمَاثِلِ
وَمَنْ حَجّ بَيْتَ اللّهِ مِنْ كُلّ رَاكِبٍ ... وَمِنْ كُلّ ذِي نَذْرٍ وَمِنْ
كُلّ رَاجِلِ
وَبِالْمَشْعَرِ الْأَقْصَى إذَا عَمَدُوا لَهُ ... إلْآلٍ إلَى مُفْضَى الشّرَاجِ
الْقَوَابِلِ
وَتَوْقَافِهِمْ فَوْقَ الْجِبَالِ عَشِيّةً ... يُقِيمُونَ بِالْأَيْدِي صُدُورَ
الرّوَاحِلِ
وَلَيْلَةِ جَمْعٍ وَالْمَنَازِلِ مِنْ مِنًى ... وَهَلْ فَوْقَهَا مِنْ حُرْمَةٍ
وَمَنَازِلِ
وَجَمْعِ إذَا مَا الْمُقْرَبَاتُ أَجَزْفه ... سِرَاعًا كَمَا يَخْرُجْنَ مِنْ
وَقْعٍ وَابِلِ
وَبِالْجَمْرَةِ الْكُبْرَى إذَا صَمَدُوا لَهَا ... يَؤُمّونَ قَذْفًا رَأْسَهَا
بِالْجَنَادِلِ
وَكِنْدَةَ إذْ هُمْ بِالْحِصَابِ عَشِيّةً ... تُجِيزُ بِهِمْ حُجّاجُ بَكْرِ
بْنِ وَائِلِ
حَلِيفَانِ شَدّا عَقْدَ مَا اخْتَلَفَا لَهُ ... وَرَدّا عَلَيْهِ عَاطِفَاتِ
الْوَسَائِلِ
وَحَطْمِهِمْ سَمْرَ الرّمَاحِ وَشَرْحَهُ ... وَشِبْرِقَهُ وَخْدَ النّعَامِ
الْحَوَامِلِ
فَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ مَعَاذٍ لِعَائِذِ ... وَهَلْ مِنْ مُعِيذٍ يَتّقِي
اللّهَ عَاذِلِSوَفِيهَا :
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ ... وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءَ
وَنَازِلِ
ثَوْرٌ جَبَلٌ بِمَكّةَ وَثَبِيرٌ : جَبَلٌ مِنْ جِبَالِهَا ذَكَرُوا أَنّ
ثَبِيرًا كَانَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْجَبَلِ فَعُرِفَ
الْجَبَلُ بِهِ كَمَا عُرِفَ أَبُو قُبَيْس ٍ بِقُبَيْسِ بْنِ شَالَحٍ رَجُلٍ مِنْ
جُرْهُمٍ ، كَانَ قَدْ وَشَى بَيْنَ عَمْرِو بْنِ مُضَاضٍ وَبَيْنَ ابْنَةِ عَمّهِ
مَيّةَ فَنَذَرَتْ أَلّا تُكَلّمَهُ وَكَانَ شَدِيدَ الْكَلَفِ بِهَا ، فَحَلَفَ
لَيَقْتُلَن قُبَيْسًا ، فَهَرَبَ مِنْهُ فِي الْجَبَلِ الْمَعْرُوفِ بِهِ
وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ فَإِمّا مَاتَ وَإِمّا تَرَدّى مِنْهُ فَسُمّيَ الْجَبَلُ
أَبَا قُبَيْسٍ وَهُوَ خَبَرٌ طَوِيلٌ ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي غَيْرِ هَذَا
الْكِتَابِ . وَقَوْلُهُ وَرَاقٍ لِيَرْقَى قَدْ تَقَدّمَ الْقَوْلُ فِيهِ
وَأَصَحّ الرّوَايَتَيْنِ فِيهِ وَرَاقٍ لِبَرْقِيّ حِرَاءَ وَنَازِلِ . قَالَ
الْبَرْقِيّ : هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الصّوَابُ .
قَالَ الْمُؤَلّفُ فَالْوَهْمُ فِيهِ إذًا مِنْ ابْنِ هِشَامٍ ، أَوْ مِنْ
الْبَكّائِيّ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ وَبِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِيهِ
زِحَافٌ يُسَمّى : الْكَفّ ، وَهُوَ حَذْفُ النّونِ مِنْ مَفَاعِيلُنْ وَهُوَ
بَعْدَ الْوَاوِ مِنْ الْأَسْوَدِ وَنَحْوِهِ قَوْلُ حُنْدُجٍ أَلَا رُبّ يَوْمٍ
لَك مِنْهُنّ صَالِحُ وَمَوْضِعُ الزّحَافِ بَعْدَ اللّامِ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ إذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضّحَى وَالْأَصَائِلِ الْأَصَائِلُ جَمْعُ
أَصِيلَةٍ وَالْأُصُلُ جَمْعُ أَصِيلٍ وَذَلِكَ أَنّ فَعَائِلَ جَمْعُ فَعِيلَةٍ
وَالْأَصِيلَةُ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْأَصِيلِ وَظَنّ بَعْضُهُمْ أَنّ
أَصَائِلَ جَمْعُ آصَالٍ عَلَى وَزْنِ أَفْعَالٍ وَآصَالٌ جَمْعُ أَصْلٍ نَحْوَ
أَطْنَابٍ وَطُنُبٍ وَأُصُلٌ جَمْعُ أَصِيلٍ مِثْلَ رُغُفٍ جَمْعُ رَغِيفٍ
فَأَصَائِلُ عَلَى قَوْلِهِمْ جَمْعُ جَمْعِ الْجَمْعِ وَهَذَا خَطَأٌ بَيّنٌ مِنْ
وُجُوهٍ مِنْهَا : أَنّ جَمْعَ جَمْعِ الْجَمْعِ لَمْ يُوجَدْ [ ص 21 ] قَطّ فِي
الْكَلَامِ فَيَكُونُ هَذَا نَظِيرَهُ وَعَنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ إذْ كَانُوا لَا
يَجْمَعُونَ الْجَمْعَ الّذِي لَيْسَ لِأَدْنَى الْعَدَدِ فَأَحْرَى أَلّا يَجْمَعُوا
جَمْعَ الْجَمْعِ وَأَبْيَنُ خَطَأٍ فِي هَذَا الْقَوْلِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ
الْهَمْزَةِ الّتِي هِيَ فَاءُ الْفِعْلِ الّتِي فِي أَصِيلٍ وَأُصُلٍ وَكَذَلِكَ
هِيَ فَاءُ الْفِعْلِ فِي أَصَائِلَ لِأَنّهَا فَعَائِلُ وَتَوَهّمُوهَا زَائِدَةً
كَاَلّتِي فِي أَقَاوِيلَ وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ كَانَتْ الصّادُ فَاءَ
الْفِعْلِ وَإِنّمَا هِيَ عَيْنُهُ كَمَا هِيَ فِي أَصِيلٍ وَأُصُلٍ فَلَوْ
كَانَتْ أَصَائِلُ جَمْعَ آصَالٍ مِثْلَ أَقْوَالٍ وَأَقَاوِيلَ لَاجْتَمَعَتْ
هَمْزَةُ الْجَمْعِ مَعَ هَمْزَةِ الْأَصْلِ وَلَقَالُوا فِيهِ أَوَاصِيلُ
بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الثّانِيَةِ وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ الْخَطَأِ بَيّنٌ
أَيْضًا ، وَهُوَ أَنّ أَفَاعِيلَ جَمْعُ أَفْعَالٍ لَا بُدّ مِنْ يَاءٍ قَبْلَ
آخِرِهِ كَمَا قَالُوا فِي أَقَاوِيلَ فَكَانَ يَكُونُ أَوَاصِيلَ وَلَيْسَ فِي
أَصَائِلَ حَرْفُ مَدّ وَلِينٍ قَبْلَ آخِرِهِ إنّمَا هِيَ هَمْزَةُ فَعَائِلَ
وَمِنْ الْخَطَأِ فِي قَوْلِهِمْ أَيْضًا : أَنْ جَعَلُوا أُصُلًا جَمْعًا
كَثِيرًا مِثْلَ رُغُفٍ ثُمّ زَعَمُوا أَنّ آصَالًا جَمْعٌ لَهُ فَهُمْ
بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ فِي رُغُفٍ جَمْعُ أَرْغَافٍ فَإِنْ قِيلَ فَجَمْعُ أَيّ
شَيْءٍ هِيَ آصَالٌ ؟ قُلْنَا : جَمْعَ أُصُلٍ الّذِي هُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ فِي
مَعْنَى الْأَصَائِلِ لَا جَمْعَ أُصُلٍ الّذِي هُوَ جَمْعٌ ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ
يُقَالُ أُصُلٌ وَاحِدٌ كَمَا يُقَالُ أَصِيلٌ وَاحِدٌ ؟ قُلْنَا : قَدْ قَالَ
بَعْضُ أَرْبَابِ اللّغَةِ ذَلِكَ وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ الْأَعْشَى :
يَوْمًا بِأَطْيَبَ مِنْهَا نَشْرَ رَائِحَةٍ ... وَلَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا إذْ
دَنَا الْأُصُلُ
أَيْ دَنَا الْأَصِيلُ فَإِنْ صَحّ أَنّ الْأُصُلَ بِمَعْنَى الْأَصِيلِ وَإِلّا
فَآصَالُ جَمْعُ أَصِيلٍ عَلَى حَذْفِ الْيَاءِ الزّائِدَةِ مِثْلَ طَوِيّ
وَأَطْوَاءٍ وَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَعْنِي : جَمْعَ
جَمْعِ الْجَمْعِ غَيْرِ الزّجّاجِيّ وَابْنِ عَزِيزٍ . وَقَوْلُهُ وَمَوْطِئِ
إبْرَاهِيمَ فِي الصّخْرِ رَطْبَةً يَعْنِي مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ حِينَ غُسِلَتْ
كَنّتْهُ رَأْسَهُ وَهُوَ رَاكِبٌ فَاعْتَمَدَ بِقَدَمِهِ عَلَى الصّخْرَةِ حِينَ
أَمَالَ رَأْسَهُ لِيَغْسِلَ وَكَانَتْ سَارّةُ قَدْ أَخَذَتْ عَلَيْهِ عَهْدًا
حِينَ اسْتَأْذَنَهَا فِي أَنْ يُطَالِعَ تَرِكَتَهُ بِمَكّةَ فَحَلَفَ لَهَا
أَنّهُ لَا يَنْزِلُ عَنْ دَابّتِهِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى السّلَامِ وَاسْتِطْلَاعُ
الْحَالِ غَيْرَةٌ مِنْ سَارّةَ عَلَيْهِ مِنْ هَاجَرَ ، فَحِينَ اعْتَمَدَ عَلَى
الصّخْرَةِ أَبْقَى اللّهُ فِيهَا أَثَرَ قَدَمِهِ آيَةً . قَالَ اللّهُ
سُبْحَانَهُ { فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آلِ عِمْرَانَ :
97 ] أَيْ مِنْهَا مَقَامُ إبْرَاهِيمَ ، وَمَنْ [ ص 22 ] جَعَلَ مَقَامًا بَدَلًا
مِنْ آيَاتٍ قَالَ الْمَقَامُ جَمْعُ مَقَامَةٍ وَقِيلَ بَلْ هُوَ أَثَرُ قَدَمِهِ
حِينَ رَفَعَ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ
بَيْنَ الْمَرْوَتَيْنِ هُوَ كَنَحْوِ مَا تَقَدّمَ فِي بَطْنِ الْمَكّتَيْنِ
وَالْحَمّتَيْنِ وَعُنَيْزَتَيْنِ مِمّا وَرَدَ مُثَنّى مِنْ أَسْمَاءِ
الْمَوَاضِعِ وَهُوَ وَاحِدٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَذَكَرْنَا الْعِلّةَ فِي
مَجِيئِهِ مُثَنّى وَمَجْمُوعًا فِي الشّعْرِ . وَفِيهَا قَوْلُهُ وَبِالْمَشْعَرِ
الْأَقْصَى إذَا قَصَدُوا لَهُ أَلَالًا الْبَيْتَ . فَالْمَشْعَرُ الْأَقْصَى :
عَرَفَةُ وَأَلَالًا : جَبَلُ عَرَفَةَ . قَالَ النّابِغَةُ يَزُرْنَ أَلَالًا
سَيْرُهُنّ التّدَافُعُ وَسُمّيَ أَلَالًا لِأَنّ الْحَجِيجَ إذَا رَأَوْهُ أَلّوا
فِي السّيْرِ أَيْ اجْتَهَدُوا فِيهِ لِيُدْرِكُوا الْمَوْقِفَ قَالَ الرّاجِزُ
مُهْرَ أَبِي الْحَبْحَابِ لَا تَشَلّي ... بَارّك فِيك اللّهُ مِنْ ذِي أَلّ
وَالشّرَاجُ : جَمْعُ شَرْجٍ ، وَهُوَ مَسِيلُ الْمَاءِ وَالْقَوَابِلُ
الْمُتَقَابِلَةُ . وَفِيهَا قَوْلُهُ وَحَطْمُهُمْ سُمْرَ الصّفَاحِ جَمْعُ
صَفْحٍ وَهُوَ سَطْحُ الْجَبَلِ وَالسّمْرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ
السّمُرَ يُقَالُ فِيهِ سَمُرَ وَسَمْرَ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَيَجُوزُ نَقْلُ ضَمّةِ
الْمِيمِ إلَى مَا قَبْلَهَا إلَى السّينِ كَمَا قَالُوا فِي حَسُنَ حُسْنَ
وَكَذَا وَقَعَ فِي الْأَصْلِ بِضَمّ السّينِ غَيْرَ أَنّ هَذَا النّقْلَ إنّمَا
يَقَعُ غَالِبًا فِيمَا يُرَادُ بِهِ الْمَدْحُ أَوْ الذّمّ نَحْوَ حَسُنَ
وَقَبُحَ كَمَا قَالَ وَحُسْنَ ذَا أَدَبًا . أَيْ حَسُنَ ذَا أَدَبًا ، وَجَائِزٌ
أَنْ يُرَادَ بِالسّمْرِ هَهُنَا جَمْعُ : أَسْمَرَ وَسَمْرَاءَ وَيَكُونُ وَصْفًا
لِلنّبَاتِ وَالشّجَرِ كَمَا يُوصَفُ بِالدّهْمَةِ إذَا كَانَ مُخَضّرًا ، وَفِي
التّنْزِيلِ مُدْهَامّتَانِ [ الرّحْمَنِ 64 ] أَيْ خَضْرَاوَانِ إلَى السّوَادِ .
[ ص 23 ] وَشِبْرِقَهُ . وَهُوَ نَبَاتٌ يُقَالُ لِيَابِسِهِ الْحَلِيّ ،
وَالرّطْبَةِ : الشّبْرِقُ .
[ ص 24 ] [ ص 25 ]
يُطَاعُ بِنَا أَمْرُ الْعِدَا وَدّ أَنّنَا ... تُسَدّ بِنَا أَبْوَابُ تُرْكٍ
وَكَابُلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللّهِ نَتْرُكُ مَكّةَ ... وَنَظْعَنُ إلّا أَمْرُكُمْ فِي
بَلَابِلِ
كَذَبْتُمْ - وَبَيْتِ اللّهِ - نُبْزَى مُحَمّدًا ... وَلَمّا نُطَاعِنْ دُونَهُ
وَنُنَاضِلْ
وَنُسْلِمُهُ حَتّى نُصْرَعَ حَوْلَهُ ... وَنَذْهَلُ عَنْ أَبْنَائِنَا
وَالْحَلَائِلِ
وَيَنْهَضُ قَوْمٌ فِي الْحَدِيدِ إلَيْكُمْ ... نُهُوضَ الرّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ
الصّلَاصِلِ
وَحَتّى تَرَى ذَا الضّغْنِ يَرْكَبُ رَدْعَهُ ... مِنْ الطّعْنِ فِعْلَ
الْأَنْكَبِ الْمُتَحَامِلِ
وَإِنّا - لَعَمْرُ اللّهِ - إنْ جَدّ مَا أَرَى ... لَتَلْتَبِسَن أَسْيَافُنَا بِالْأَمَاثِلِ
بِكَفّيْ فَتًى مِثْلَ الشّهَابِ سَمَيْدَعٍ ... أَخِي ثِقَةٍ حَامِي الْحَقِيقَةِ
بَاسِلِ
شُهُورًا وَأَيّامًا وَحَوْلًا مُجَرّمًا ... عَلَيْنَا وَتَأْتِي حِجّةٌ بَعْدَ
قَابِلِ
وَمَا تَرْكُ قَوْمٍ - لَا أَبَا لَك - سَيّدًا ... يَحُوطُ الذّمَارَ غَيْرَ
ذَرْبٍ مُوَاكِلِ
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالَ الْيَتَامَى عِصْمَةً
لِلْأَرَامِلِ
يَلُوذُ بِهِ الْهُلّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ
وَفَوَاضِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أَسِيدٌ وَبِكْرُهُ ... إلَى بُغْضِنَا وَجَزّآنَا
لِآكِلِ
وَعُثْمَانُ لَمْ يَرْبَعْ عَلَيْنَا وَقُنْفُذٌ ... وَلَكِنْ أَطَاعَا أَمْرَ
تِلْكَ الْقَبَائِلِ
أَطَاعَا أُبَيّا ، وَابْنَ عَبْدِ يَغُثْهُمْ ... وَلَمْ يَرْقُبَا فِينَا
مَقَالَةَ قَائِلِ
كَمَا قَدْ لَقِينَا مِنْ سُبَيْعٍ وَنَوْفَلٍ ... وَكُلّ تَوَلّى مُعْرِضًا لَمْ
يُجَامِلْ
فَإِنْ يُلْفَيَا ، أَوْ يُمْكِنُ اللّهُ مِنْهُمَا ... نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا
بِصَاعِ الْمُكَايِلِ
وَذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أَبَى غَيْرَ بُغْضِنَا ... لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ
وَجَامِلِ
يُنَاجِي بِنَا فِي كُلّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ ... فَنَاجَ أَبَا عَمْرٍ بِنَا ثُمّ
خَاتِلِ
وَيُؤْلِي لَنَا بِاَللّهِ مَا إنْ يَغُشّنَا ... بَلَى قَدْ تَرَاهُ جَهْرَةً
غَيْرَ حَائِلِ
أَضَاقَ عَلَيْهِ بُغْضُنَا كُلّ تَلْعَةٍ ... مِنْ الْأَرْضِ بَيْنَ أَخْشُبٍ
فَمَجَادِلِSوَقَوْلُهُ نُبْدِي مُحَمّدًا أَيْ نُسْلَبُهُ وَنُغْلَبُ
عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ نُهُوضَ الرّوَايَا . هِيَ الْإِبِلُ تَحْمِلُ الْمَاءَ
وَاحِدَتُهَا : رَاوِيَةٌ وَالْأَسْقِيَةُ أَيْضًا يُقَالُ لَهَا : رَوَايَا ،
وَأَصْلُ هَذَا الْجَمْعِ رَوَاوِيّ ثُمّ يَصِيرُ فِي الْقِيَاسِ رِوَائِيّ مِثْلَ
حَوَائِلَ جَمْعُ : حَوْلٍ وَلَكِنّهُمْ قَلَبُوا الْكَسْرَةَ فَتْحَةً بَعْدَمَا
قَدّمُوا الْيَاءَ قَبْلَهَا ، وَصَارَ وَزْنُهُ فَوَالِعَ وَإِنّمَا قَلَبُوهُ
كَرَاهِيَةَ اجْتِمَاعِ وَاوَيْنِ وَاوُ فَوَاعِلَ الْوَاوُ الّتِي هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّ الْوَاوَ الثّانِيَةَ قِيَاسُهَا أَنْ تَنْقَلِبَ
هَمْزَةً فِي الْجَمْعِ لِوُقُوعِ الْأَلِفِ بَيْنَ وَاوَيْنِ فَلَمّا انْقَلَبَتْ
هَمْزَةً قَلَبُوهَا يَاءً كَمَا فَعَلُوا فِي خَطَايَا وَبَابِهِ مِمّا
الْهَمْزَةُ فِيهِ مُعْتَرِضَةٌ فِي الْجَمْعِ وَالصّلَاصِلُ . الْمَزَادَاتُ
لَهَا صَلْصَلَةٌ بِالْمَاءِ . [ ص 24 ] ذَرِبَ وَالذّرِبُ اللّسَانُ الْفَاحِشُ
الْمَنْطِقُ وَالْمُوَاكِلُ الّذِي لَا جَدّ عِنْدَهُ فَهُوَ يَكِلُ أُمُورَهُ
إلَى غَيْرِهِ . وَفِيهَا قَوْلُهُ ثِمَالَ الْيَتَامَى ، أَيْ يَثْمُلُهُمْ
وَيَقُومُ بِهِمْ يُقَالُ هُوَ ثِمَالُ مَالٍ أَيْ يَقُومُ بِهِ . وَفِيهَا
قَوْلُهُ لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ الشّاءُ وَالشّوِيّ : اسْمٌ
لِلْجَمْعِ مِثْلُ الْبَاقِرِ وَالْبَقِيرِ وَلَا وَاحِدَ لِشَاءِ وَالشّوِيّ مِنْ
لَفْظِهِ وَإِذَا قَالُوا فِي الْوَاحِدِ شَاةٌ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا ؛ لِأَنّ
لَامَ الْفِعْلِ فِي شَاةٍ هَاءٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ فِي التّصْغِيرِ شُوَيْهَةٌ
وَفِي الْجَمْعِ شِيَاهٌ وَالْجَامِلُ اسْمُ جَمْعٍ بِمَنْزِلَةِ الْبَاقِرِ .
وَقَوْلُهُ وَكُنْتُمْ زَمَانًا حَطْبَ قِدْرٍ حَطْبٌ اسْمٌ لِلْجَمْعِ مِثْلُ
رَكْبٍ وَلَيْسَ بِجَمْعِ لِأَنّك تَقُولُ فِي تَصْغِيرِهِ حُطَيْبٌ وَرُكَيْبٌ .
وَقَوْلُهُ حِطَابُ أَقْدُرٍ هُوَ جَمْعُ حَاطِبٍ فَلَا يُصَغّرُ إلّا أَنْ
تَرُدّهُ إلَى الْوَاحِدِ فَتَقُولُ حُوَيْطِبُونَ وَمَعْنَى الْبَيْتِ أَيْ
كُنْتُمْ مُتّفِقِينَ لَا تَحْطِبُونَ إلّا لِقِدْرِ وَاحِدَةٍ فَأَنْتُمْ الْآنَ
بِخِلَافِ ذَلِكَ . [ ص 25 ] مِنْ الْأَرْضِ بَيْنَ أَخْشُبٍ فَمَجَادِل ِ أَرَادَ
الْأَخَاشِبَ ، وَهِيَ جِبَالُ مَكّةَ ، وَجَاءَ بِهِ عَلَى أَخْشُبٍ لِأَنّهُ فِي
مَعْنَى أَجْبُلٍ مَعَ أَنّ الِاسْمَ قَدْ يُجْمَعُ عَلَى حَذْفِ الزّوَائِدِ
كَمَا يُصَغّرُونَهُ كَذَلِكَ وَالْمَجَادِلُ جَمْعُ مِجْدَلٍ وَهُوَ الْقَصْرُ
كَأَنّهُ يُرِيدُ مَا بَيْنَ جِبَالِ مَكّةَ ، فَقُصُورُ الشّامِ أَوْ الْعِرَاقِ
، وَالْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ فَمَجَادِلِ تُعْطِي الِاتّصَالَ بِخِلَافِ الْوَاوِ
كَقَوْلِهِ بَيْنَ الدّخُولِ فَحَوْمَلِ وَتَقُولُ مُطِرْنَا بَيْنَ مَكّةَ
فَالْمَدِينَةِ إذَا اتّصَلَ الْمَطَرُ مِنْ هَذَا إلَى هَذِهِ وَلَوْ كَانَتْ
الْوَاوُ لَمْ تُعْطِ هَذَا الْمَعْنَى .
وَسَائِلْ أَبَا الْوَلِيدِ
مَاذَا حَبَوْتنَا ... بِسَعْيِك فِينَا مُعْرِضًا كَالْمُخَاتِلِ
وَكُنْت امْرِئِ مِمّنْ يُعَاشُ بِرَأْيِهِ ... وَرَحْمَتِهِ فِينَا وَلَسْت
بِجَاهِلِ
فَعُتْبَةُ لَا تَسْمَعْ بِنَا قَوْلَ كَاشِحٍ ... حَسُودٍ كَذُوبٍ مُبْغِضٍ ذِي
دَغَاوِلِ
وَمَرّ أَبُو سُفْيَانَ عَنّي مُعْرِضًا ... كَمَا مَرّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ
الْمَقَاوِلِ
يَفِرّ إلَى نَجْدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ ... وَيَزْعُمُ أَنّي لَسْت عَنْكُمْ
بِغَافِلِ
وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ الْمُنَاصِحِ أَنّهُ ... شَفِيقٌ وَيُخْفِي عَارِمَاتِ
الدّوَاخِلِ
أَمُطْعِمُ لَمْ أَخْذُلْك فِي يَوْمِ بَحْدَةٍ ... وَلَا مُعْظِمٌ عِنْدَ
الْأُمُورِ الْجَلَائِلِ
وَلَا يَوْمَ خَصْمٍ إذْ أَتَوْك أَلِدّةً ... أُولِي جَدَلٍ مِنْ الْخُصُومِ
الْمَسَاجِلِ
أَمُطْعِمُ إنّ الْقَوْمَ سَامُوك خُطّةً ... وَإِنّي مَتَى أُوكَلْ فَلَسْت بِوَائِلِSوَقَوْلُهُ أُولِي
جَدَلٍ مِنْ الْخُصُومِ الْمَسَاجِلِ
يُرْوَى بِالْجِيمِ وَبِالْحَاءِ فَمَنْ رَوَاهُ بِالْجِيمِ فَهُوَ مِنْ
الْمُسَاجَلَةِ فِي الْقَوْلِ وَأَصْلُهُ فِي اسْتِقَاءِ الْمَاءِ بِالسّجِلّ
وَصَبّهِ فَكَأَنّهُ جَمْعُ مَسَاجِلَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْأَلِفِ
الزّائِدَةِ مِنْ مَفَاعِلَ أَوْ جَمْعُ مِسْجَلٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ مِنْ
نَعْتِ الْخُصُومِ وَمَنْ رَوَاهُ الْمَسَاحِلَ بِالْحَاءِ فَهُوَ جَمْعُ مِسْحَلٍ
وَهُوَ اللّسَانُ وَلَيْسَ بِصِفَةِ لِلْخُصُومِ إنّمَا هُوَ مَخْفُوضٌ بِالْإِضَافَةِ
أَيْ خُصَمَاءُ الْأَلْسِنَةِ وَقَالَ ابْنُ أَحْمَرَ مَنْ خَطِيبٌ إذَا مَا
انْحَلّ مِسْحَلُهُ
أَيْ لِسَانُهُ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ السّحْلِ وَهُوَ الصّبّ ، وَمِنْهُ حَدِيثُ
أَيّوبَ حِينَ فُرّجَ عَنْهُ فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَسَحَلَتْ فِي بَيْدَرِهِ ذَهَبًا
، وَجَاءَتْ أُخْرَى فَسَحَلَتْ فِي الْبَيْدَرِ الْآخَرِ فِضّةً .
[ ص 26 ] [ ص 27 ]
جَزَى اللّهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلًا غَيْرَ
آجِلِ
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يُخِسّ شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ
عَائِلِ
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا ... بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا
وَالْغَيَاطِلِ
وَنَحْنُ الصّمِيمُ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ ... وَآلِ قُصَيّ فِي الْخُطُوبِ
الْأَوَائِلِ
وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلّبُوا ... عَلَيْنَا الْعِدَا مِنْ كُلّ طِمْلٍ
وَخَامِلِ
فَعَبْدَ مَنَافٍ أَنْتُمْ خَيْرُ قَوْمِكُمْ ... فَلَا تُشْرِكُوا فِي أَمْرِكُمْ
كُلّ وَاغِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ وَهَنْتُمْ وَعَجَزْتُمْ ... وَجِئْتُمْ بِأَمْرِ مُخْطِئٍ
لِلْمَفَاصِلِ
وَكُنْتُمْ حَدِيثَا حَطْبَ قِدْرٍ وَأَنْتُمْ ... أَلَانَ حِطَابُ أَقْدُرٍ
وَمَرَاجِلِ
لِيَهْنِئْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عُقُوقُنَا ... وَخِذْلَانُنَا ، وَتَرْكُنَا فِي
الْمَعَاقِلِ
فَإِنْ نَكُ قَوْمًا نَتّئِرْ مَا صَنَعْتُمْ ... وَتَحْتَلِبُوهَا لِقْحَةً
غَيْرَ بَاهِلِ
وَسَائِطُ كَانَتْ فِي لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ... نَفَاهُمْ إلَيْنَا كُلّ صَقْرٍ
حُلَاحِلِ
وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرّ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى ... وَأَلَامَ حَافٍ مِنْ مَعَدْ
وَنَاعِلِ
فَأَبْلِغْ قُصَيّا أَنْ سَيُنْشَرُ أَمْرُنَا ... وَبَشّرْ قُصَيّا بَعْدَنَا
بِالتّخَاذُلِ
وَلَوْ طَرَقَتْ لَيْلًا قُصَيّا عَظِيمَةٌ ... إذَا مَا لَجَأْنَا دُونَهُمْ فِي
الْمَدَاخِلِ
وَلَوْ صَدَقُوا ضَرْبًا خِلَالَ بُيُوتِهِمْ ... لَكُنّا أُسًى عِنْدَ النّسَاءِ
الْمَطَافِلِS[ ص 26 ]
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا ... بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا
وَالْغَيَاطِلِ
قَيْضًا أَيْ مُعَاوَضَةً وَمِنْهُ قَوْلُ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لِذِي
الْجَوْشَنِ إنْ شِئْت قَايَضْتُك بِهِ الْمُخْتَارَ مِنْ دُرُوعِ بَدْرٍ فَقَالَ
مَا كُنْت لِأَقِيضَهُ الْيَوْمَ الْيَوْمَ بِشَيْءِ يَعْنِي : فَرَسًا لَهُ
يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْقَرْحَاءِ . وَقَالَ أَبُو الشّيصِ
لَا تُنْكِرِي صَدّي وَلَا إعْرَاضِي ... لَيْسَ الْمُقِلّ عَنْ الزّمَانِ بِرَاضِ
بُدّلَتْ مِنْ بُرْدِ الشّبَابِ مُلَاءَةً ... خَلَقًا ، وَبِئْسَ مَثُوبَةُ
الْمُقْتَاضِ
وَالْغَيَاطِلُ : بَنُو سَهْمٍ ، لِأَنّ أُمّهُمْ الْغَيْطَلَةُ وَقَدْ تَقَدّمَ
نَسَبُهَا ، وَقِيلَ إنّ بَنِي سَهْمٍ سُمّوا بِالْغَيَاطِلِ لِأَنّ رَجُلًا
مِنْهُمْ قَتَلَ جَانّا طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ، ثُمّ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ
فَقَتَلَهُ فَأَظْلَمَتْ مَكّةُ ، حَتّى فَزِعُوا مِنْ شِدّةِ الظّلْمَةِ الّتِي
أَصَابَتْهُمْ وَالْغَيْطَلَةُ الظّلْمَةُ الشّدِيدَةُ وَالْغَيْطَلَةُ أَيْضًا :
الشّجَرُ الْمُلْتَفّ ، وَالْغَيْطَلَةُ اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ وَالْغَيْطَلَةُ
الْبَقَرَةُ الْوَحْشِيّةُ وَالْغَيْطَلَةُ غَلَبَةُ النّعَاسِ وَقَوْلُهُ يُخِسّ
شَعِيرَةً أَيْ يُنْقِصُ وَالْخَسِيسُ النّاقِصُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ وَيُرْوَى فِي
غَيْرِ السّيرَةِ يَحُصّ بِالصّادِ وَالْحَاءِ مُهْمَلَةً مِنْ حَصّ الشّعْرَ إذَا
أَذْهَبَهُ . وَقَوْلُهُ مِنْ كُلّ طِمْلٍ وَخَامِلِ الطّمْلُ اللّصّ ، كَذَا
وَجَدْته فِي كِتَابِ أَبِي بَحْرٍ وَفِي الْعَيْنِ الطّمْلُ الرّجُلُ الْفَاحِشُ
وَالطّمْلُ وَالطّمْلَالُ الْفَقِيرُ وَالطّمْلُ الذّئْبُ . وَقَوْلُهُ لِقْحَةٌ
غَيْرَ بَاهِلِ الْبَاهِلُ النّاقَةُ الّتِي لَا صِرَارَ عَلَى أَخْلَافِهَا ،
فَهِيَ مُبَاحَةُ الْحَلْبِ يُقَالُ نَاقَةٌ مَصْرُورَةٌ إذَا كَانَ عَلَى
خَلْفِهَا صِرَارٌ يَمْنَعُ الْفَصِيلَ مِنْ أَنْ يَرْضَعَ وَلَيْسَتْ
الْمُصَرّاةُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ، إنّمَا هِيَ الّتِي جُمِعَ لَبَنُهَا فِي
ضَرْعِهَا ، فَهُوَ مِنْ الْمَاءِ الصّرَى ، وَقَدْ غَلِطَ أَبُو عَلِيّ [ ص 27 ]
فَجَعَلَ الْمُصَرّاةَ بِمَعْنَى الْمَصْرُورَةِ وَلَهُ وَجْهٌ بَعِيدٌ وَذَلِكَ
أَنْ يَخْتَبِئَ لَهُ بِقَلْبِ إحْدَى الرّاءَيْنِ يَاءً مِثْلَ قَصَيْتُ
أَظْفَارِي ، غَيْرَ أَنّهُ بَعِيدٌ فِي الْمَعْنَى ، وَقَالَتْ امْرَأَةُ
الْمُغِيرَةِ تُعَاتِبُ زَوْجَهَا ، وَتَذْكُرُ أَنّهَا جَاءَتْهُ كَالنّاقَةِ الْبَاهِلَةِ
الّتِي لَا صِرَارَ عَلَى أَخْلَافِهَا : أَطْعَمْتُك مَأْدُومِي وَأَبْثَثْتُكَ
مَكْتُومِي ، وَجِئْتُك بَاهِلًا غَيْرَ ذَاتِ صِرَارٍ ، وَفِي الْحَدِيثِ لَا
تُورَدُ الْإِبِلُ بُهْلًا [ أَوْ بُهّلًا ] ، فَإِنّ الشّيَاطِينَ تَرْضَعُهَا ،
أَيْ لَا أَصِرّةَ عَلَيْهَا .
فَكُلّ صَدِيقٍ وَابْنِ أُخْتٍ
نَعُدّهُ ... لَعَمْرِي - وَجَدْنَا غِبّهُ غَيْرَ طَائِلِ
سِوَى أَنّ رَهْطًا مِنْ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ ... بَرَاءٌ إلَيْنَا مِنْ مَعَقّةِ
خَاذِلِ
وَهَنّا لَهُمْ حَتّى تَبَدّدَ جَمْعُهُمْ ... وَيَحْسُرَ عَنّا كُلّ بَاغٍ
وَجَاهِلِ
وَكَانَ لَنَا حَوْضُ السّقَايَةِ فِيهُمُ ... وَنَحْنُ الْكُدَى مِنْ غَالِبٍ
وَالْكَوَاهِلِ
شَبَابٌ مِنْ الْمُطَيّبِينَ وَهَاشِمِ ... كَبِيضِ السّيُوفِ بَيْنَ أَيْدِي
الصّيَاقِلِ
فَمَا أَدْرَكُوا ذَحْلًا وَلَا سَفَكُوا دَمًا ... وَلَا حَالَفُوا إلّا شَرّ
الْقَبَائِلِ
بِضَرْبِ تَرَى الْفِتْيَانَ فِيهِ ... كَأَنّهُمْ ضَوَارِي أُسُودٍ فَوْقَ لَحْمٍ
خَرَادِلِ
بَنِي أُمّةٍ مَحْبُوبَةٍ هِنْدِكيّة ... بَنِي جُمَحَ عُبَيْدِ قَيْسِ بْنِ
عَاقِلِ
وَلَكِنّنَا نَسْلٌ كِرَامٌ لِسَادَةِ ... بِهِمْ نُعِيَ الْأَقْوَامُ عِنْدَ
الْبَوَاطِلِ
وَنِعْمَ ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ غَيْرَ مُكَذّبٍ ... زُهَيْرٌ حُسَامًا مُفْرَدًا
مِنْ حَمَائِلِ
أَشَمّ مِنْ الشّمّ الْبَهَالِيلِ يَنْتَمِي ... إلَى حَسَبٍ فِي حَوْمَةِ
الْمَجْدِ فَاضِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ كَلِفْت وَجْدًا بِأَحْمَدَ ... وَإِخْوَتِهِ دَأْبَ الْمُحِبّ
الْمُوَاصِلِ
فَلَا زَالَ فِي الدّنْيَا جَمَالًا لِأَهْلِهَا ... وَزَيْنًا لِمَنْ وَالَاهُ
رَبّ الْمَشَاكِلِ
فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النّاسِ أَيّ مُؤَمّلٍ ... إذَا قَاسَهُ الْحُكّامُ عِنْدَ
التّفَاضُلِ
حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشِ ... يُوَالِي إلَهًا لَيْسَ عَنْهُ
بِغَافِلِ
فَوَاَللّهِ لَوْلَا أَنْ أَجِيءَ بِسُبّةِ ... تُجَرّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي
الْمَحَافِلِ
لَكُنّا اتّبَعْنَاهُ عَلَى كُلّ حَالَةٍ ... مِنْ الدّهْرِ جِدّا غَيْرَ قَوْلِ
التّهَازُلِ
لَقَدْ عَلِمُوا أَنّ ابْنَنَا لَا مُكَذّبٌ ... لَدَيْنَا ، وَلَا يُعْنَى
بِقَوْلِ الْأَبَاطِلِ
فَأَصْبَحَ فِينَا أَحْمَدُ فِي أَرُومَةٍ ... تُقَصّرُ عَنْهُ سَوْرَةُ
الْمُتَطَاوِلِ
حَدِبْت بِنَفْسِي دُونَهُ وَحَمَيْته ... وَدَافَعْت عَنْهُ بِالذّرَا
وَالْكَلَاكِلِ
فَأَيّدَهُ رَبّ الْعِبَادِ بِنَصْرِهِ ... وَأَظْهَرَ دِينًا حَقّهُ غَيْرُ
بَاطِلِ
رِجَالٌ كِرَامٌ غَيْرُ مِيلٍ نَمَاهُمْ ... إلَى الْخَيْرِ آبَاءٌ كِرَامُ
الْمَحَاصِلِ
فَإِنْ تَكُ كَعْبٌ مِنْ لُؤَيّ صُقَيْبةً ... فَلَا بُدّ يَوْمًا مَرّةً مِنْ
تَزَايُلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا مَا صَحّ لِي مِنْ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ وَبَعْضُ
أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُ أَكْثَرَهَا .Sوَفِيهَا قَوْلُهُ
بِرَاءٍ إلَيْنَا مِنْ مَعْقَةِ خَاذِلِ
يُقَالُ قَوْمٌ بُرَاءٌ [ بِالضّمّ ] وَبَرَاءٌ بِالْفَتْحِ وَبِرَاءٌ بِالْكَسْرِ
فَأَمّا بِرَاءٌ بِالْكَسْرِ فَجَمْعُ بَرِيءٍ مِثْلَ كَرِيمٍ وَكِرَامٍ وَأَمّا
بَرَاءٌ فَمَصْدَرٌ مِثْلَ سَلَامٍ وَالْهَمْزَةُ فِيهِ وَفِي الّذِي قَبْلَهُ
لَامُ الْفِعْلِ وَيُقَالُ رَجُلٌ بَرَاءٌ وَرَجُلَانِ بَرَاءٌ وَإِذَا كَسَرْتهَا
أَوْ ضَمَمْتهَا لَمْ يَجُزْ إلّا فِي الْجَمْعِ وَأَمّا بُرَاءٌ بِضَمّ الْبَاءِ
فَالْأَصْلُ فِيهِ بُرَآءُ مِثْلَ كُرَمَاءُ فَاسْتَثْقَلُوا اجْتِمَاعَ
الْهَمْزَتَيْنِ فَحَذَفُوا الْأُولَى ، وَكَانَ وَزْنُهُ فُعَلَاءَ فَلَمّا
حَذَفُوا الّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ صَارَ وَزْنُهُ فُعَاءَ وَانْصَرَفَ
لِأَنّهُ أَشْبَهَ فُعَالًا ، [ ص 28 ] بُرَاوِيّ ، وَالنّسَبُ إلَى الْآخَرَيْنِ
بَرَائِيّ وَبِرَائِيّ ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنّ بُرَاءَ بِضَمّ أَوّلِهِ
مِنْ الْجَمْعِ الّذِي جَاءَ عَلَى فُعَالٍ وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَلْفَاظٍ فَرِيرٌ
وَفُرَارٌ وَعَرْنُ وَعُرّانُ وَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا ، وَقَالَ النّحّاسُ
بُرَاءُ بِضَمّ الْبَاءِ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ قَالَ أُقْحِطَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، فَأَتَوْا
رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَيْهِ
فَصَعِدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمِنْبَرَ فَاسْتَسْقَى
، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ مِنْ الْمَطَرِ مَا أَتَاهُ أَهْلُ الضّوَاحِي
يَشْكُونَ مِنْهُ الْغَرَقَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ اللّهُمّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا ، فَانْجَابَ السّحَابُ عَنْ
الْمَدِينَةِ ، فَصَارَ حَوَالَيْهَا كَالْإِكْلِيلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ . لَوْ أَدْرَكَ أَبُو طَالِبٍ هَذَا الْيَوْمَ
لَسَرّهُ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ كَأَنّك يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَدْت
قَوْلَهُ
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالَ الْيَتَامَى عِصْمَةً
لِلْأَرَامِلِ
قَالَ أَجَلْ [ ص 30 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَوْلُهُ " وَشِبْرِقَهُ
" عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَالْغَيَاطِلُ :
مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصٍ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ
بْنِ أُمَيّةَ . وَمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ .
وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ
بْنِ مَخْزُومٍ ، وَأُمّهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَأَسِيدٌ وَبِكْرُهُ عَتّابُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ
أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ . وَعُثْمَانُ بْنُ
عُبَيْدِ اللّهِ : أَخُو طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ التّيْمِيّ . وَقُنْفُذُ
بْنُ عُمَيْرِ بْنِ جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ
بْنِ مُرّةَ . وَأَبُو الْوَلِيدِ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ . وَأُبَيّ :
الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ الثّقَفِيّ ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَإِنّمَا سُمّيَ الْأَخْنَسُ لِأَنّهُ خَنَسَ بِالْقَوْمِ
يَوْمَ بَدْرٍ وَإِنّمَا اسْمُهُ أُبَيّ ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عِلَاجٍ وَهُوَ
عِلَاجُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْبَةَ . وَالْأَسْوَدُ بْنُ
عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ .
وَسُبَيْعُ بْنُ خَالِدٍ ، أَبُو بَلْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ . وَنَوْفَلُ بْنِ
خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ ، وَهُوَ ابْنُ
الْعَدَوِيّةِ . وَكَانَ مِنْ [ ص 31 ] شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ ، وَهُوَ الّذِي
قَرَنَ بَيْنَ أَبِي بَكْرِ الصّدّيقِ وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُمَا فِي حَبْلٍ حِينَ أَسْلَمَا ، فَبِذَلِكَ كَانَا يُسَمّيَانِ
الْقَرِينَيْنِ فَقَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ يَوْمَ
بَدْرٍ . وَأَبُو عَمْرٍو : قُرَظَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلِ بْنِ
عَبْدِ مَنَافٍ " وَقَوْمٍ عَلَيْنَا أَظِنّةً " : بَنُو بَكْرِ بْنُ
عَبْدِ مَنَاةَ بِنْتِ كِنَانَةَ فَهَؤُلَاءِ الّذِينَ عَدّدَ أَبُو طَالِبٍ فِي
شِعْرِهِ مِنْ الْعَرَبِ .
ذِكْرُ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْتَشِرُ
فَلَمّا انْتَشَرَ أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي
الْعَرَبِ ، وَبَلَغَ الْبُلْدَانَ ذُكِرَ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ حَيّ مِنْ
الْعَرَبِ أَعْلَمُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
حِينَ ذُكِرَ وَقَبْلَ أَنْ يُذْكَرَ مِنْ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَوْسِ
وَالْخَزْرَجِ ، وَذَلِكَ لَمّا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ ،
وَكَانُوا لَهُمْ حُلَفَاءَ وَمَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ . فَلَمّا وَقَعَ ذِكْرُهُ
بِالْمَدِينَةِ وَتَحَدّثُوا بِمَا بَيْنَ قُرَيْشٍ فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ .
قَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ أَخُو بَنِي وَاقِفٍ .Sالِاسْتِسْقَاءُ
[ ص 29 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ اسْتِسْقَاءِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - بِالْمَدِينَةِ ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَرْوِيّ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ
وَبِأَلْفَاظِ مُخْتَلِفَةٍ . وَقَوْلُهُ حَتّى أَتَاهُ أَهْلُ الضّوَاحِي
يَشْكُونَ الْغَرَقَ . الضّوَاحِي : جَمْعُ ضَاحِيَةٍ وَهِيَ الْأَرْضُ الْبَرَازُ
الّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا يُكِنّ مِنْ الْمَطَرِ وَلَا مَنْجَاةٌ مِنْ السّيُولِ
وَقِيلَ ضَاحِيَةُ كُلّ بَلَدٍ خَارِجُهُ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ
اللّهُمّ حَوَالَيْنَا ، وَلَا عَلَيْنَا كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ اللّهُمّ
مَنَابِتَ الشّجَرِ وَبُطُونَ الْأَوْدِيَةِ وَظُهُورَ الْآكَامِ فَلَمْ يَقُلْ اللّهُمّ
ارْفَعْهُ عَنّا - هُوَ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي الدّعَاءِ لِأَنّهَا رَحْمَةُ
اللّهِ وَنِعْمَتُهُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهُ فَكَيْفَ يُطْلَبُ مِنْهُ رَفْعُ
نِعْمَتِهِ وَكَشْفُ رَحْمَتِهِ وَإِنّمَا يُسْأَلُ سُبْحَانَهُ كَشْفَ الْبَلَاءِ
وَالْمَزِيدَ مِنْ النّعْمَاءِ فَفِيهِ تَعْلِيمُ كَيْفِيّةِ الِاسْتِسْقَاءِ .
وَقَالَ اللّهُمّ مَنَابِتَ الشّجَرِ وَلَمْ يَقُلْ اصْرِفْهَا إلَى مَنَابِتِ
الشّجَرِ لِأَنّ الرّبّ تَعَالَى أَعْلَمُ بِوَجْهِ اللّطْفِ وَطَرِيقُ
الْمَصْلَحَةِ كَانَ ذَلِكَ بِمَطَرِ أَوْ بِنَدَى أَوْ طَلّ أَوْ كَيْفَ شَاءَ
وَكَذَلِكَ بُطُونُ الْأَوْدِيَةِ وَالْقَدْرُ الّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ
مَائِهَا . فَصْلٌ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ أَبُو طَالِبٍ وَأَبْيَضَ
يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
[ ص 30 ] قَطّ اسْتَسْقَى ، وَإِنّمَا كَانَتْ اسْتِسْقَاءَاتُهُ عَلَيْهِ
السّلَامُ بِالْمَدِينَةِ فِي سَفَرٍ وَحَضَرٍ وَفِيهَا شُوهِدَ مَا كَانَ مِنْ
سُرْعَةِ إجَابَةِ اللّهِ لَهُ . فَالْجَوَابُ أَنّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ شَاهَدَ
مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا فِي حَيَاةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ مَا دَلّهُ عَلَى مَا قَالَ
رَوَى أَبُو سَلْمَانَ حَمَدُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ [ بْنِ الْخَطّابِ
الْخَطّابِيّ ] الْبُسْتِيّ النّيْسَابُورِيّ ، أَنّ رَقِيقَةَ بِنْتَ أَبِي
صَيْفِيّ بْنِ هَاشِمٍ قَالَتْ تَتَابَعَتْ عَلَى قُرَيْشٍ سُنُو جَدْبٍ قَدْ
أَقْحَلَتْ الظّلْفَ وَأَرّقَتْ الْعَظْمَ فَبَيْنَا أَنَا رَاقِدَةٌ اللّهُمّ
أَوْ مُهَدّمَةٌ وَمَعِي صِنْوَى إذْ أَنَا بِهَاتِفِ صَيّتٍ يَصْرُخُ بِصَوْتِ
صَحِلٍ يَقُولُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّ هَذَا النّبِيّ الْمَبْعُوثَ مَعَكُمْ
هَذَا إبّانُ نُجُومِهِ فَحَيّ هَلًا بِالْحَيَا وَالْخِصْبِ أَلَا فَانْظُرُوا
مِنْكُمْ رَجُلًا طُوّالًا عُظّامًا أَبْيَضَ فَظّا ، أَشَمّ الْعِرْنِينَ لَهُ
فَخْرٌ يَكْظِمُ عَلَيْهِ . أَلَا فَلْيَخْلُصْ هُوَ وَوَلَدُهُ وَلْيَدْلِفْ
إلَيْهِ مِنْ كُلّ بَطْنٍ رَجُلٌ أَلَا فَلْيَشُنّوا مِنْ الْمَاءِ وَلِيَمَسّوا
مِنْ الطّيبِ وَلْيَطُوفُوا بِالْبَيْتِ سَبْعًا ، أَلَا وَفِيهِمْ الطّيبُ
الطّاهِرُ لِذَاتِهِ أَلَا فَلْيَدْعُ الرّجُلُ وَلْيُؤَمّنْ الْقَوْمُ أَلَا
فَغِثْتُمْ أَبَدًا مَا عِشْتُمْ . قَالَتْ فَأَصْبَحْت مَذْعُورَةً قَدْ قَفّ
جِلْدِي ، وَوَلِهَ عَقْلِي ، فَاقْتَصَصْت رُؤْيَايَ فَوَالْحُرْمَةِ وَالْحَرَمِ
إنْ بَقِيَ أَبْطَحِيّ إلّا قَالَ هَذَا شَيْبَةُ الْحَمْدِ وَتَتَامّتْ عِنْدَهُ
قُرَيْشٌ ، وَانْفَضّ إلَيْهِ النّاسُ مِنْ كُلّ بَطْنٍ رَجُلٌ فَشَنّوا وَمَسّوا
وَاسْتَلَمُوا وَاطّوَفّوا ، ثُمّ ارْتَقَوْا أَبَا قُبَيْسٍ وَطَفِقَ الْقَوْمُ
يَدِفّونَ [ ص 31 ] قَرّوا بِذَرْوَةِ الْجَبَلِ وَاسْتَكَفّوْا جَنَابَيْهِ
فَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ ، فَاعْتَضَدَ ابْنَ ابْنِهِ مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَرَفَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ قَدْ
أَيْفَعَ أَوْ قَدْ كَرَبَ ثُمّ قَالَ اللّهُمّ سَادّ الْخَلّةِ وَكَاشِفَ
الْكُرْبَةِ أَنْتَ عَالِمٌ غَيْرُ مُعَلّمٍ وَمَسْئُولٌ غَيْرُ مُبَخّلٍ وَهَذِهِ
عِبِدّاؤُكَ وَإِمَاؤُك بِعَذِرَاتِ حَرَمِك يَشْكُونَ إلَيْك سَنَتَهُمْ
فَاسْمَعْنَ اللّهُمّ وَأَمْطِرْنَ عَلَيْنَا غَيْثًا مَرِيعًا مُغْدِقًا ، فَمَا
رَامُوا وَالْبَيْتِ حَتّى انْفَجَرَتْ السّمَاءُ بِمَائِهَا ، وَكَظّ الْوَادِي
بِثَجِيجِهِ . رَوَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيّ . قَالَ
حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ الْبَخْتَرِيّ ، نا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ
بْنِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ عَنْ ابْنِ حُوَيّصَةَ قَالَ
يُحَدّثُ مَخْرَمَةُ بْنُ نُفَيْلٍ عَنْ أُمّهِ رَقِيقَةَ بِنْتِ أَبِي صَيْفِيّ .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ بِإِسْنَادِ آخَرَ إلَى رَقِيقَةَ وَفِيهِ أَلَا
فَانْظُرُوا مِنْكُمْ رَجُلًا وَسِيطًا عُظَامًا جُسَامًا أَوْطَفُ الْأَهْدَابِ
وَأَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ قَامَ وَمَعَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - قَدْ أَيْفَعَ أَوْ كَرَبَ وَذَكَرَ الْقِصّةَ .
أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ
وَنَسَبُهُ وَشِعْرُهُ فِي الرّسُولِ " صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
"
[ ص 32 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : نَسَبَ ابْنُ إسْحَاقَ أَبَا قَيْسٍ هَذَا هَهُنَا
إلَى بَنِي وَاقِفٍ وَنَسَبَهُ فِي حَدِيثِ الْفِيلِ إلَى خَطْمَةَ لِأَنّ
الْعَرَبَ قَدْ تَنْسُبُ الرّجُلَ إلَى أَخِي جَدّهِ الّذِي هُوَ أَشْهُرُ مَعَهُ
. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ الْحَكَمَ بْنَ عَمْرٍو
الْغِفَارِيّ مِنْ وَلَدِ نُعَيْلَةَ أَخِي غِفَارٍ ، وَهُوَ غِفَارُ بْنُ مُلَيْلٍ
وَنُعَيْلَةُ بْنُ مُلَيْلِ بْنِ ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ وَقَدْ
قَالُوا : عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ السّلَمِيّ وَهُوَ مِنْ وَلَدِ مَازِنِ بْنِ
مَنْصُورٍ وَسُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَأَبُو قَيْسِ بْنُ
الْأَسْلَتِ مِنْ بَنِي وَائِلٍ وَوَائِلٌ وَوَاقِفٌ وخَطْمَةُ إخْوَةٌ مِنْ
الْأَوْسِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ -
وَكَانَ يُحِبّ قُرَيْشًا ، وَكَانَ لَهُمْ صِهْرًا ، كَانَتْ عِنْدَهُ أَرْنَبُ
بِنْتُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ ، وَكَانَ يُقِيمُ عِنْدَهُمْ
السّنِينَ بِامْرَأَتِهِ - قَصِيدَةً يُعَظّمُ فِيهَا الْحُرْمَةَ وَيَنْهَى
قُرَيْشًا فِيهَا عَنْ الْحَرْبِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَفّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ
وَيَذْكُرُ فَضْلَهُمْ وَأَحْلَامَهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَفّ عَنْ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيُذَكّرُهُمْ بَلَاءَ اللّهِ عِنْدَهُمْ
وَدَفْعَهُ عَنْهُمْ الْفِيلَ وَكَيْدَهُ عَنْهُمْ فَقَالَ [ ص 33 ] [ ص 34 ] [ ص
35 ] [ ص 36 ]
يَا رَاكِبًا إمّا عَرَضْت فَبَلّغَنْ ... مُغَلْغَلَةً عَنّي لُؤَيّ بْنَ غَالِبِ
رَسُولُ امْرِئِ قَدْ رَاعَهُ ذَاتُ بَيْنِكُمْ ... عَلَى النّأْيِ مَحْزُونٌ
بِذَلِكَ نَاصِبِ
وَقَدْ كَانَ عِنْدِي لِلْهُمُومِ مُعَرّسٌ ... فَلَمْ أَقْضِ مِنْهَا حَاجَتِي
وَمَآرِبِي
نُبَيّتُكُمْ شَرْجَيْنِ كُلّ قَبِيلَةٍ ... لَهَا أَزْمَلٌ مِنْ بَيْنِ مُذْكٍ
وَحَاطِبِ
أُعِيذُكُمْ بِاَللّهِ مِنْ شَرّ صُنْعِكُمْ ... وَشَرّ تَبَاغِيكُمْ وَدَسّ
الْعَقَارِبِ
وَإِظْهَارِ أَخْلَاقٍ وَنَجْوَى سَقِيمَةٍ ... كَوَخْزِ الْأَشَافِي وَقْعُهَا
حَقّ صَائِبِ
فَذَكّرْهُمْ بِاَللّهِ أَوّلَ وَهْلَةٍ ... وَإِحْلَالِ أَحْرَامِ الظّبَاءِ
الشّوَازِبِ
وَقُلْ لَهُمْ وَاَللّهُ يَحْكُمُ حُكْمَهُ ... ذَرُوا الْحَرْبَ تَذْهَبُ
عَنْكُمْ فِي الْمَرَاحِبِ
مَتَى تَبْعَثُوهَا ، تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً ... هِيَ الْغُولُ لِلْأَقْصَيْنَ
أَوْ لِلْأَقَارِبِ
تُقَطّعُ أَرْحَامًا ، وَتُهْلِكُ أُمّةً ... وَتَبْرِي السّدِيفَ مِنْ سَنَامٍ
وَغَارِبِ
وَتَسْتَبْدِلُوا بِالْأَتْحَمِيّةِ بَعْدَهَا ... شَلِيلًا وَأَصْدَاءً ثِيَابَ
الْمُحَارِبِ
وَبِالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ غُبْرًا سَوَابِغًا ... كَأَنّ قَتِيرَيْهَا عُيُونُ
الْجَنَادِبِ
فَإِيّاكُمْ وَالْحَرْبَ لَا تَعْلَقَنكُمْ ... وَحَوْضًا وَخِيمَ الْمَاءِ مُرّ
الْمَشَارِبِ
تَزَيّنُ لِلْأَقْوَامِ ثُمّ يَرَوْنَهَا ... بِعَاقِبَةِ إذْ بَيّنَتْ أُمّ
صَاحِبِ
تُحَرّقُ لَا تُشْوِي ضَعِيفًا ، وَتَنْتَحِي ... ذَوِي الْعِزّ مِنْكُمْ
بِالْحُتُوفِ الصّوَائِبِ
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ ... فَتَعْتَبِرُوا أَوْ كَانَ
فِي حَرْبِ حَاطِبِ
وَكَمْ قَدْ أَصَابَتْ مِنْ شَرِيفٍ مُسَوّدٍ ... طَوِيلِ الْعِمَادِ ضَيْفُهُ
غَيْرُ خَائِبِ
عَظِيمِ رَمَادِ النّارِ يُحْمَدُ أَمْرُهُ ... وَذِي شِيمَةٍ مَحْضٍ كَرِيمِ
الْمَضَارِبِ
وَمَاءٍ هُرِيقَ فِي الضّلَالِ كَأَنّمَا ... أَذَاعَتْ بِهِ رِيحُ الصّبّا
وَالْجَنَائِبِ
يُخْبِرُكُمْ عَنْهَا امْرُؤُ حَقّ عَالِمٍ ... بِأَيّامِهَا وَالْعِلْمُ عِلْمُ
التّجَارِبِ
فَبِيعُوا الْحِرَابَ مِلْمُحَارِبٍ وَاذْكُرُوا ... حِسَابَكُمْ وَاَللّهُ خَيْرُ
مُحَاسِبِ
وَلِيّ امْرِئِ فَاخْتَارَ دِينًا ، فَلَا يَكُنْ ... عَلَيْكُمْ رَقِيبًا غَيْرَ
رَبّ الثّوَاقِبِ
أَقِيمُوا لَنَا دِينًا حَنِيفًا فَأَنْتُمْ ... لَنَا غَايَةٌ قَدْ يُهْتَدَى
بِالذّوَائِبِ
وَأَنْتُمْ لِهَذَا النّاسِ نُورٌ وَعِصْمَةٌ ... تُؤَمّونَ وَالْأَحْلَامُ غَيْرُ
عَوَازِبِ
وَأَنْتُمْ - إذَا مَا حُصّلَ النّاسُ - جَوْهَرٌ ... لَكُمْ سُرّةُ الْبَطْحَاءِ
شُمّ الْأَرَانِبِ
تَصُونُونَ أَجْسَادًا كِرَامًا عَتِيقَةً ... مُهَذّبَةَ الْأَنْسَابِ غَيْرَ
أَشَائِبِ
يَرَى طَالِبُ الْحَاجَاتِ نَحْوَ بُيُوتِكُمْ ... عَصَائِبَ هَلْكَى تَهْتَدِي
بِعَصَائِبِ
لَقَدْ عَلِمَ الْأَقْوَامُ أَنّ سَرَاتَكُمْ ... عَلَى كُلّ حَالٍ خَيْرُ أَهْلِ
الْجَبَاجِبِ
وَأَفْضَلُهُ رَأْيًا ، وَأَعْلَاهُ سُنّةً ... وَأَقْوَلُهُ لِلْحَقّ وَسَطَ
الْمَوَاكِبِ
فَقُومُوا ، فَصَلّوا رَبّكُمْ وَتَمَسّحُوا ... بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ
بَيْنَ الْأَخَاشِبِ
فَعِنْدَكُمْ مِنْهُ بَلَاءٌ وَمَصْدَقٌ ... غَدَاةَ أَبَى يَكْسُومُ هَادِي
الْكَتَائِبِ
كَتِيبَتُهُ بِالسّهْلِ تُمْسِي ، وَرِجْلُهُ ... عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ
الْمَنَاقِبِ
فَلَمّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدّهُمْ ... جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ
سَافٍ وَحَاصِبِ
فَوَلّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ يَؤُبْ ... إلَى أَهْلِهِ م الْحُبْشِ
غَيْرُ عَصَائِبِ
فَإِنْ تَهْلِكُوا ، نَهْلِكْ وَتَهْلِكْ مَوَاسِمُ ... يُعَاشُ بِهَا ، قَوْلُ
امْرِئِ غَيْرِ كَاذِبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي بَيْتَهُ " وَمَاءٍ هُرِيقَ " ،
وَبَيْتَهُ " فَبِيعُوا الْحِرَابَ " ، وَقَوْلَهُ " وَلِيّ
امْرِئِ فَاخْتَارَ " ، وَقَوْلَهُ عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ
الْمَنَاقِبِ
أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ وَغَيْرُهُ .Sابْنُ الْأَسْلَتِ
وَقَصِيدَتُهُ
[ ص 32 ] وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ كُلّ مَنْ سَمّاهُ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ
أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ وَعَرّفَ بِهِمْ تَعْرِيفًا مُسْتَغْنِيًا عَنْ الزّيْدِ .
وَذَكَرَ قَصِيدَةَ أَبِي قَيْسٍ صَيْفِيّ بْنِ الْأَسْلَتِ وَاسْمُ الْأَسْلَتِ
عَامِرٌ وَالْأَسْلَتُ هُوَ الشّدِيدُ الْفَطَسُ يُقَالُ سَلَتَ اللّهُ أَنْفَهُ
وَمِنْ السّلْتِ حَدِيثُ بِشْرِ بْنِ عَاصِمٍ حِينَ أَرَادَ عُمَرُ أَنْ
يَسْتَعْمِلَهُ فَلَمّا كَتَبَ لَهُ عَهْدَهُ أَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ وَقَالَ لَا حَاجَةَ
لِي بِهِ . إنّي سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
يَقُولُ إنّ الْوُلَاةَ يُجَاءُ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقِفُونَ عَلَى
جِسْرِ جَهَنّمَ فَمَنْ كَانَ مُطَاوِعًا لِلّهِ تَنَاوَلَهُ بِيَمِينِهِ حَتّى
يُنْجِيَهُ وَمَنْ كَانَ عَاصِيًا لِلّهِ انْخَرَقَ بِهِ الْجِسْرُ إلَى وَادٍ
مِنْ نَارٍ تَلْتَهِبُ الْتِهَابًا ، قَالَ فَأَرْسَلَ عُمَرُ إلَى أَبِي ذَرّ
وَإِلَى سَلْمَانَ فَقَالَ لِأَبِي ذَرّ أَنْتَ سَمِعْت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ نَعَمْ وَاَللّهِ وَبَعْدَ الْوَادِي
وَادٍ آخَرُ مِنْ نَارٍ . قَالَ وَسَأَلَ سَلْمَانَ فَكَرِهَ أَنْ يُخْبِرَهُ
بِشَيْءِ فَقَالَ عُمَرُ مَنْ يَأْخُذُهَا بِمَا فِيهَا ؟ فَقَالَ أَبُو ذَرّ مَنْ
سَلَتَ اللّهُ أَنْفَهُ وَعَيْنَيْهِ وَأَضْرَعَ خَدّهُ إلَى الْأَرْضِ ذَكَرَهُ
ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ . [ ص 33 ] الْقَصِيدَةِ يَا رَاكِبًا إمّا عَرَضْت
فَبَلّغَنْ
الْبَيْتَ . الْمُغَلْغَلَةُ الدّاخِلَةُ إلَى أَقْصَى مَا يُرَادُ بُلُوغُهُ
مِنْهَا ، وَمِنْهُ تَغَلْغَلَ فِي الْبِلَادِ إذَا بَالَغَ فِي الدّخُولِ فِيهَا
، وَأَصْلُهُ تَغَلّلَ وَمُغَلّلَةٌ وَلَكِنْ قَلَبُوا إحْدَى اللّامَيْنِ غَيْنًا
، كَمَا فَعَلُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُضَاعَفِ وَأَصْلُهُ مِنْ الْغَلَلِ
وَالْغِلَالَةِ فَأَمّا الْغَلَلُ فَمَاءٌ يَسْتُرُهُ النّبَاتُ وَالشّجَرُ
وَأَمّا الْغِلَالَةُ فَسَاتِرَةٌ لِمَا تَحْتَهَا . وَفِيهَا . نُبَيّتُكُمْ
شَرْجَيْنِ . أَيْ فَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَنُبّئْتُكُمْ لَفْظٌ مُشْكِلٌ
وَفِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ نُبَيّتُكُمْ شَرْجَيْنِ وَهُوَ بَيّنٌ فِي الْمَعْنَى ،
وَفِيهِ زِحَافُ خَرْمٍ وَلَكِنْ لَا يُعَابُ الْمَعْنَى بِذَلِكَ وَأَمّا لَفْظُ
التّبَيّتِ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَبَعِيدٌ مِنْ مَعْنَاهُ وَالْأَزْمَلُ الصّوْتُ
وَالْمُذَكّي : الّذِي يُوقِدُ النّارَ وَالْحَاطِبُ الّذِي يَحْطِبُ لَهَا ،
ضُرِبَ هَذَا مَثَلًا لِنَارِ الْحَرْبِ كَمَا قَالَ الْآخَرُ
أَرَى خَلَلَ الرّمَادِ وَمِيضَ جَمْرٍ ... وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ضِرَامُ
فَإِنّ النّارَ بِالْعُودَيْنِ تُذْكَى ... وَإِنّ الْحَرْبَ أَوّلُهَا الْكَلَامُ
وَقَوْلُهُ وَهِيَ الْغُولُ لِلْأَدْنَى ، أَيْ هِيَ الْهَلَاكُ يُقَالُ الْغَضَبُ
غُولُ الْحِلْمِ أَيْ يُهْلِكُهُ وَالْغَوْلُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَجَعُ الْبَطْنِ
قَالَهُ الْبُخَارِيّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ { لَا فِيهَا غَوْلٌ } وَقَوْلُهُ
وَإِحْلَالِ أَحْرَامِ الظّبَاءِ الشّوَازِبِ . أَيْ إنّ بَلَدَكُمْ بَلَدٌ
حَرَامٌ تَأْمَنُ فِيهِ الظّبَاءُ الشّوَازِبُ [ ص 34 ] تَأْتِيهِ مِنْ بُعْدٍ
لِتَأْمَنَ فِيهِ فَهِيَ شَارِبَةٌ أَيْ ضَامِرَةٌ مِنْ بُعْدِ الْمَسَافَةِ
وَإِذَا لَمْ تَحِلّوا بِالظّبَاءِ فِيهِ فَأَحْرَى أَلَا تَحِلّوا بِدِمَائِكُمْ
وَإِحْرَامُ الظّبَاءِ كَوْنُهَا فِي الْحَرَمِ ، يُقَالُ لِمَنْ دَخَلَ فِي
الشّهْرِ الْحَرَامِ أَوْ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ : مُحْرِمٌ .
وَالْأَتْحَمِيّةُ ثِيَابٌ رِقَاقٌ تُصْنَعُ بِالْيَمَنِ وَالشّلِيلُ دِرْعٌ
قَصِيرَةٌ وَالْأَصْدَاءُ جَمْعُ صَدَأِ الْحَدِيدِ وَالْقَتِيرُ حَلَقُ الدّرْعِ
شَبّهَهَا بِعُيُونِ الْجَرَادِ وَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى التّنّوخِيّ فَقَالَ
كَأَثْوَابِ الْأَرَاقِمِ مَزّقَتْهَا ... فَخَاطَتْهَا بِأَعْيُنِهَا الْجَرَادُ
وَقَوْلُهُ فِي وَصْفِ الْحَرْبِ
تَزَيّنُ لِلْأَقْوَامِ ثُمّ يَرَوْنَهَا ... بِعَاقِبَةِ إذْ بَيّتَتْ أُمّ
صَاحِبِ
هُوَ كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ :
الْحَرْبُ أَوّلُ مَا تَكُونُ فَتِيّةٌ ... تَسْعَى بِبَزّتِهَا لِكُلّ جَهُولِ
حَتّى إذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبّ ضِرَامُهَا ... وَلّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ
خَلِيلِ
شَمْطَاءَ جَزّتْ رَأْسَهَا ، فَتَنَكّرَتْ ... مَكْرُوهَةً لِلشّمّ وَالتّقْبِيلِ
فَقَوْلُهُ أُمّ صَاحِبِ أَيْ عَجُوزًا كَأُمّ صَاحِبٍ لَك ، إذْ لَا يَصْحَبُ
الرّجُلَ إلّا رَجُلٌ فِي سِنّهِ وَفِي جَامِعِ الْبُخَارِيّ : كَانُوا إذَا
وَقَعَتْ الْحَرْبُ يَأْمُرُونَ بِحِفْظِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ يَعْنِي : أَبْيَاتِ
عَمْرٍو الْمُتَقَدّمَةَ . وَقَوْلُهُ
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ
[ ص 35 ] ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ بَعْدَ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ إنْ شَاءَ اللّهُ
تَعَالَى . وَقَوْلُهُ فِيهَا : وَلِيّ امْرِئِ فَاخْتَارَ دِينًا فَإِنّمَا .
أَيْ هُوَ وَلِيّ امْرِئِ اخْتَارَ دِينًا ، وَالْفَاءُ زَائِدَةٌ عَلَى أَصْلِ
أَبِي الْحَسَنِ قَالَ فِي قَوْلِهِمْ زَيْدًا فَاضْرِبْ الْفَاءُ مُعَلّقَةٌ أَيْ
زَائِدَةٌ وَمَنْ لَا يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ يَجْعَلُ الْفَاءَ عَاطِفَةً
عَلَى فِعْلٍ مُضْمَرٍ كَأَنّهُ قَالَ وَلِيّ امْرِئِ تَدِينُ فَاخْتَارَ دِينًا ،
أَوْ نَحْوَ هَذَا ، وَقَدْ تَقَدّمَ شَرْحُ بَاقِي الْقَصِيدَةِ فِي آخِرِ قِصّةِ
الْحَبَشَةِ . وَقَالَ فِيهَا : كَرِيمِ الْمَضَارِبِ وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ
الشّيْخِ لَعَلّهُ الضّرَائِبِ يُرِيدُ جَمْعَ ضَرِيبَةٍ وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا
أَنْ يَكُونَ قَالَ الْمَضَارِبِ . يُرِيدُ أَنّ مَضَارِبَ سُيُوفِهِ غَيْرُ
مَذْمُومَةٍ وَلَا رَاجِعَةٍ عَلَيْهِ إلّا بِالثّنَاءِ وَالْحَمْدِ وَالْوَصْفِ
بِالْمَكَارِمِ . وَفِيهَا قَوْلُهُ وَمَاءٍ هُرِيقَ فِي الضّلَالِ . وَيُرْوَى :
فِي الصّلَالِ جَمْعُ صِلَةٍ وَهِيَ الْأَرْضُ الّتِي لَا تُمْسِكُ الْمَاءَ أَيْ
رُبّ مَاءٍ هُرِيقَ فِي الضّلَالِ مِنْ أَجْلِ السّرَابِ لِأَنّهُ لَا يُهْرِيقُ
مَاءً مِنْ أَجْلِ السّرَابِ إلّا ضَالّ غَيْرُ مُمَيّزٍ بِمَوَاضِعِ الْمَاءِ
وَأَذَاعَتْ بِهِ أَيْ بَدّدَتْهُ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ
لِلنّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَيُرْوَى : وَمَا أُهْرِيقَ فِي أَمْرٍ
وَمَعْنَاهُ وَاَلّذِي أُهْرِيقَ فِي أَمْرِ الضّلَالِ فَوَصَلَ أَلِفَ الْقَطْعِ
ضَرُورَةً وَيُقَالُ أُرِيقَ الْمَاءُ وَأُهْرِيقَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْهَمْزَةِ
وَالْهَاءِ وَهِيَ أَقَلّهَا ، وَلِتَعْلِيلِهَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا . [ ص 36 ]
سَافٍ وَحَاصِبِ السّافِي : الّذِي يَرْمِي بِالتّرَابِ وَالْحَاصِبُ الّذِي
يَقْذِفُ بِالْحَصْبَاءِ . وَفِيهَا ذِكْرُ الْجَبَاجِبِ ، وَهِيَ مَنَازِلُ مِنًى
. كَذَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَقَالَ الْبَرْقِيّ : هِيَ حُفَرٌ بِمِنَى ،
يُجْمَعُ فِيهَا دَمُ الْبُدْنِ وَالْهَدَايَا ، وَالْعَرَبُ تُعَظّمُهَا
وَتَفْخَرُ بِهَا ، وَقِيلَ الْجَبَاجِبُ : الْكُرُوشُ . يُقَالُ لِلْكَرِشِ
جَبْجَبَةٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَاَلّذِي تَقَدّمَ وَاحِدُهُ جُبْجُبَةٌ بِالضّمّ .
حَرْبُ دَاحِسٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَمّا قَوْلُهُ أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ
دَاحِسِ [ ص 37 ] أَبُو عُبَيْدَةَ النّحْوِيّ : أَنّ دَاحِسًا فَرَسٌ كَانَ
لِقَيْسِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ مَازِنِ بْنِ قَطِيعَةَ بْنِ عَبْسِ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ
بْنِ غَطَفَانَ ، أَجْرَاهُ مَعَ فَرَسٍ لِحُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ زَيْدِ بْنِ جُؤْيَةَ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ
فَزَارَةَ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ ، يُقَالُ
لَهَا : الْغَبْرَاءُ . فَدَسّ حُذَيْفَةُ قَوْمًا وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوا
وَجْهَ دَاحِسٍ إنْ رَأَوْهُ قَدْ جَاءَ سَابِقًا ، فَجَاءَ دَاحِسٌ سَابِقًا ،
فَضَرَبُوا وَجْهَهُ وَجَاءَتْ الْغَبْرَاءُ . فَلَمّا جَاءَ فَارِسُ دَاحِسٍ أَخْبَرَ
قَيْسًا الْخَبَرَ ، فَوَثَبَ أَخُوهُ مَالِكُ بْنُ زُهَيْرٍ فَلَطَمَ وَجْهَ
الْغَبْرَاءِ فَقَامَ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ ، فَلَطَمَ مَالِكًا . ثُمّ إنّ أَبَا
الْجُنَيْدِبِ الْعَبْسِيّ لَقِيَ عَوْفَ بْنَ حُذَيْفَةَ فَقَتَلَهُ ثُمّ لَقِيَ
رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ مَالِكًا فَقَتَلَهُ فَقَالَ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ
أَخُو حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ
قَتَلْنَا بِعَوْفِ مَالِكًا وَهُوَ ثَأْرُنَا ... فَإِنْ تَطْلُبُوا مِنّا سِوَى
الْحَقّ تَنْدَمُوا
[ ص 38 ] وَقَالَ الرّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْعَبْسِيّ :
أَفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ ... تَرْجُو النّسَاءُ عَوَاقِبَ
الْأَطْهَارِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . فَوَقَعَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ عَبْسٍ
وَفَزَارَةَ فَقُتِلَ حُذَيْفَةُ بْنُ بَدْرٍ وَأَخُوهُ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ ،
فَقَالَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ يَرْثِي حُذَيْفَةَ وَجَزِعَ
عَلَيْهِ
كَمْ فَارِسٍ يُدْعَى وَلَيْسَ بِفَارِسِ ... وَعَلَى الْهَبَاءَةِ فَارِسٌ ذُو
مَصْدَقِ
فَابْكُوا حُذَيْفَةَ لَنْ تَرِثُوا مِثْلَهُ ... حَتّى تَبِيدَ قَبَائِلٌ لَمْ
تُخْلَقْ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَقَالَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ :
عَلَى أَنّ الْفَتَى حَمَلَ بْنَ بَدْرٍ ... بَغَى ، وَالظّلْمُ مَرْتَعُهُ
وَخِيمُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ زُهَيْرٍ أَخُو
قَيْسِ بْنِ زُهَيْرٍ :
تَرَكْت عَلَى الْهَبَاءَةِ غَيْرَ فَخْرٍ ... حُذَيْفَةَ عِنْدَهُ قِصَدُ
الْعَوَالِي
[ ص 39 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَرْسَلَ قَيْسٌ دَاحِسًا
وَالْغَبْرَاءَ وَأَرْسَلَ حُذَيْفَةُ الْخَطّارَ وَالْحَنْفَاءَ وَالْأَوّلُ
أَصَحّ الْحَدِيثَيْنِ . وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ
قَطْعُهُ حَدِيثَ سِيرَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .Sحَرْبُ دَاحِسٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ حَرْبِ دَاحِسٍ مُخْتَصَرًا ، وَدَاحِسٌ اسْمُ فَرَسٍ
كَانَ لِقَيْسِ بْنِ أَبِي [ ص 37 ] قِيلَ مَاءٌ دَافِقٌ أَيْ مَدْفُوقٌ
وَالدّحْسُ إدْخَالُ الْيَدِ بِقُوّةِ فِي ضَيّقٍ كَمَا رُوِيَ أَنّ رَسُولَ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَرّ بِغُلَامِ يَسْلُخُ شَاةً
فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْتَحِيَ لِيُرِيَهُ ثُمّ دَحَسَ عَلَيْهِ السّلَامُ بِيَدِهِ
بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللّحْمِ حَتّى بَلَغَ الْإِبِطَ ثُمّ صَلّى ، وَلَمْ
يَتَوَضّأْ . فَدَاحِسٌ سُمّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنّ أُمّهُ كَانَتْ لِرَجُلِ
مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ثُمّ مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ اسْمُهُ قِرْوَاشُ بْنُ عَوْفٍ
وَكَانَ اسْمُ الْفَرَسِ : جَلْوَى ، وَكَانَ ذُو الْعُقّالِ فَرَسًا عَتِيقًا
لِحَوْطِ بْنِ جَابِرٍ فَخَرَجَتْ بِهِ فَتَاتَانِ لَهُ لِتَسْقِيَاهُ فَبَصُرَ
بِجَلْوَى ، فَأَدْلَى حِينَ رَآهَا ، فَضَحِكَ غِلْمَةٌ كَانُوا هُنَالِكَ
فَاسْتَحْيَتْ الْفَتَاتَانِ وَنَكّسَتَا رَأْسَيْهِمَا ، فَأَفْلَتَ ذُو
الْعُقّالِ حَتّى نَزَا عَلَى جَلْوَى ، وَقِيلَ ذَلِكَ لِحَوْطِ فَأَقْبَلَ
مُغْضَبًا ، وَهُوَ يَسْعَى حَتّى ضَرَبَ بِيَدِهِ فِي التّرَابِ ثُمّ دَحَسَهَا
فِي رَحِمِ الْفَرَسِ ، فَسَطَا عَلَيْهَا ، فَأَخْرَجَ مَاءَ الْفَحْلِ مَعَهَا ،
وَاشْتَمَلَتْ الرّحِمُ عَلَى بَقِيّةِ الْمَاءِ وَحَمَلَتْ بِمُهْرِ فَسَمّوْهُ
دَاحِسًا ، وَأَظْهَرُ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ لَابِنٍ وَتَامِرٍ وَأَنْ
لَا يَكُونَ فَاعِلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ فَهُوَ دَاحِسُ بْنُ ذِي الْعُقّالِ
بْنِ أَعْوَجَ الّذِي تُنْسَبُ إلَيْهِ الْخَيْلُ الْأَعْوَجِيّةُ فِي قَوْلِ
بَعْضِهِمْ وَقَدْ تَقَدّمَ غَيْرُ هَذَا الْقَوْلِ - ابْنُ سَبَلٍ وَكَانَ
لِغَنِيّ بْنِ يَعْصُرَ وَفِيهِ يُقَالُ
إنّ الْجَوَادَ بْنَ الْجَوَادِ بْنِ سَبَلٍ ... إنْ دَايَمُوا جَادَ وَإِنْ جَادَ
وَبَلْ
وَفِي ذِي الْعُقّالِ يَقُولُ جَرِيرٌ
تُمْسِي جِيَادُ الْخَيْلِ حَوْلَ بُيُوتِنَا ... مِنْ آلِ أَعْوَجَ أَوْ لِذِي
الْعُقّالِ
[ ص 38 ]
أَفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ ... تَرْجُو النّسَاءُ عَوَاقِبَ
الْأَطْهَارِ
وَفِيهِ إقْوَاءٌ وَهُوَ حَذْفُ نِصْفِ سَبَبٍ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوّلِ وَقَدْ
تَكَلّمْنَا عَلَى مَعْنَى الْإِقْوَاءِ قَبْلُ وَأَمّا اخْتِلَافُ الْقَوَافِي
فَيُسَمّى : اكْتِفَاءً وَإِقْوَاءً أَيْضًا لِأَنّهُ مِنْ الْكُفْءِ فَكَأَنّهُ
جَعَلَ الرّفْعَ كُفْئًا لِلْخَفْضِ فَسَوّى بَيْنَهُمَا ، وَفِيهَا قَوْلُهُ
تَرْجُو النّسَاءُ عَوَاقِبَ الْأَطْهَارِ . كَقَوْلِ الْأَخْطَلِ
قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا شَدّوا مَآزِرَهُمْ ... دُونَ النّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ
بِأَطْهَارِ
فَيُقَالُ إنّ حَرْبَ دَاحِسٍ دَامَتْ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ تَحْمِلْ فِيهَا
أُنْثَى ، لِأَنّهُمْ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النّسَاءَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ
وَذَكَرَ الْأَصْبَهَانِيّ أَنّ حَرْبَ دَاحِسٍ كَانَتْ بَعْدَ يَوْمِ جَبَلَةَ
بِأَرْبَعِينَ سَنَةً وَقَدْ تَقَدّمَ يَوْمُ جَبَلَةَ ، وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وُلِدَ فِي تِلْكَ الْأَيّامِ وَقَالَ لَبِيدٌ
وَغَنِيت حَرَسًا قَبْلَ مَجْرَى دَاحِسٍ ... لَوْ كَانَ لِلنّفْسِ اللّجُوجِ
خُلُودُ
وَكَانَ لَبِيدٌ فِي حَرْبِ جَبَلَةَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ وَقَوْلُهُ حَرَسًا
أَيْ وَقْتًا مِنْ الدّهْرِ وَيُرْوَى سَبْتًا وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَكَانَ
إجْرَاءُ دَاحِسٍ وَالْغَبْرَاءِ عَلَى ذَاتِ الْإِصَادِ مَوْضِعٍ فِي بِلَادِ
فَزَارَةَ [ ص 39 ] وَكَانَ آخِرُ أَيّامِ حَرْبِ دَاحِسٍ بِقَلَهَى مِنْ أَرْضِ
قَيْسٍ ، وَهُنَاكَ اصْطَلَحَتْ عَبْسٌ وَمَنُولَةُ وَهِيَ أُمّ بَنِي فَزَارَةَ
شَمْخٍ وَعَدِيّ وَمَازِنٍ فَيُقَالُ لِهَذَا الْمَوْضِعِ قَلَهَى ، وَأَمّا قَلَهّي
فَمَوْضِعٌ بِالْحِجَازِ وَفِيهِ اعْتَزَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ حِينَ
قُتِلَ عُثْمَانُ وَأَمَرَ أَلّا يُحَدّثَ بِشَيْءِ مِنْ أَخْبَارِ النّاسِ
وَأَلّا يَسْمَعَ مِنْهَا شَيْئًا ، حَتّى يَصْطَلِحُوا ، وَيُقَالُ إنّ
الْحَنْفَاءَ كَانَتْ فَرَسَ حُذَيْفَةَ وَأَنّهَا أُجْرِيَتْ مَعَ الْغَبْرَاءِ
ذَلِكَ الْيَوْمِ . قَالَ الشّاعِرُ
إذَا كَانَ غَيْرُ اللّهِ لِلْمَرْءِ عُدّةً ... أَتَتْهُ الرّزَايَا مِنْ وُجُوهِ
الْفَوَائِدِ
فَقَدْ جَرَتْ الْحَنْفَاءُ حَتْفَ حُذَيْفَةَ ... وَكَانَ يَرَاهَا عُدّةً
لِلشّدَائِدِ
حَرْبُ حَاطِبٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَمّا قَوْلُهُ " حَرْبُ حَاطِبٍ " . فَيَعْنِي
حَاطِبَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ هَيْشَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أُمَيّةَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ
بْنِ الْأَوْسِ ، كَانَ قَتَلَ يَهُودِيّا جَارًا لِلْخَزْرَجِ فَخَرَجَ إلَيْهِ
يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَحْمَرَ بْنِ حَارِثَةَ
بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ -
وَهُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ فُسْحُمٍ وَفُسْحُمٌ أُمّهُ وَهِيَ امْرَأَةٌ
مِنْ الْقَيْنِ بْنِ جِسْرٍ - لَيْلًا فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ
الْخَزْرَجِ فَقَتَلُوهُ فَوَقَعَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا ، فَكَانَ الظّفْرُ لِلْخَزْرَجِ عَلَى الْأَوْسِ
، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ سُوَيْدُ بْنُ صَامِتِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَطِيّةَ بْنِ
حَوْطِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ ،
قَتَلَهُ الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ الْبَلَوِيّ ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ حَلِيفُ
بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ . فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ خَرَجَ الْمُجَذّرُ
بْنُ ذِيَادٍ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَخَرَجَ
مَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ صَامِتٍ ، فَوَجَدَ الْحَارِثَ بْنَ
سُوَيْدٍ غِرّةً مِنْ الْمُجَذّرِ فَقَتَلَهُ بِأَبِيهِ . وَسَأَذْكُرُ حَدِيثَهُ
فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى - ثُمّ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ
مَنَعَنِي مِنْ ذِكْرِهَا وَاسْتِقْصَاءِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا ذَكَرْت فِي
حَدِيثِ حَرْبِ دَاحِسٍ .Sوَأَمّا حَرْبُ حَاطِبٍ الّذِي ذَكَرَهَا ، فَهِيَ
حَرْبٌ كَانَتْ عَلَى يَدِ حَاطِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ هَيْشَةَ
بْنِ الْأَوْسِ ، فَنُسِبَتْ إلَيْهِ وَكَانَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ .
حَكِيمُ بْنُ أُمَيّةَ يُنْهِي
قَوْمَهُ عَنْ عَدَاوَةِ الرّسُولِ
[ ص 40 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حَكِيمُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ حَارِثَةَ
بْنِ الْأَوْقَصِ السّلَمِيّ ، حَلِيفُ بَنِي أُمَيّةَ وَقَدْ أَسْلَمَ ، يُوَرّعُ
قَوْمَهُ عَمّا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ عَدَاوَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ فِيهِمْ شَرِيفًا مُطَاعًا :
هَلْ قَائِلٌ قَوْلًا مِنْ الْحَقّ قَاعِدٌ ... عَلَيْهِ وَهَلْ غَضْبَانُ
لِلرّشْدِ سَامِعُ
وَهَلْ سَيّدٌ تَرْجُو الْعَشِيرَةُ نَفْعَهُ ... لِأَقْصَى الْمَوَالِي
وَالْأَقَارِبِ جَامِعُ
تَبَرّأْت إلّا وَجْهَ مَنْ يَمْلِكُ الصّبّا ... وَأَهْجُرُكُمْ مَا دَامَ مُدْلٍ
وَنَازِعُ
وَأُسْلِمُ وَجْهِي لِلْإِلَهِ وَمَنْطِقِي ... وَلَوْ رَاعَنِي مِنْ الصّدِيقِ
رَوَائِعُ
ذِكْر مَا لَقِيَهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قَوْمِهِ
مُفْتَرَيَاتُ قُرَيْشٍ وَإِيذَاؤُهُمْ لِلرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ قُرَيْشًا اشْتَدّ أَمْرُهُمْ لِلشّقَاءِ الّذِي
أَصَابَهُمْ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَنْ
أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْهُمْ فَأَغْرَوْا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
سُفَهَاءَهُمْ فَكَذّبُوهُ وَآذَوْهُ وَرَمَوْهُ بِالشّعْرِ وَالسّحْرِ
وَالْكَهَانَةِ وَالْجُنُونِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مُظْهِرٌ لِأَمْرِ اللّهِ لَا يُسْتَخْفَى بِهِ مُبَادٍ لَهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَ
مِنْ عَيْبِ دِينِهِمْ وَاعْتِزَالِ أَوْثَانِهِمْ وَفِرَاقِهِ إيّاهُمْ عَلَى
كُفْرِهِمْ . [ ص 41 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ
بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، قَالَ قُلْت لَهُ مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْت
قُرَيْشًا أَصَابُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فِيمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ مِنْ عَدَاوَتِهِ ؟ قَالَ حَضَرْتهمْ وَقَدْ اجْتَمَعَ
أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ ، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَقَالُوا : مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ
هَذَا الرّجُلِ قَطّ : سَفّهَ أَحْلَامَنَا ، وَشَتَمَ آبَاءَنَا ، وَعَابَ
دِينَنَا ، وَفَرّقَ جَمَاعَتَنَا ، وَسَبّ آلِهَتَنَا ، لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ
عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ أَوْ كَمَا قَالُوا ، فَبَيْنَا هُمْ فِي ذَلِكَ إذْ طَلَعَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتّى
اسْتَلَمَ الرّكْنَ ثُمّ مَرّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ فَلَمّا مَرّ بِهِمْ
غَمَزُوهُ بِبَعْضِ الْقَوْلِ قَالَ فَعَرَفْت ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ثُمّ مَضَى ، فَلَمّا مَرّ بِهِمْ
الثّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا ، فَعَرَفْت ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ مَرّ بِهِمْ الثّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ
بِمِثْلِهَا ، فَوَقَفَ ثُمّ قَالَ أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ؟ أَمَا
وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذّبْحِ . قَالَ فَأَخَذَتْ
الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إلّا كَأَنّمَا عَلَى رَأْسِهِ
طَائِرٌ وَاقِعٌ حَتّى إنّ أَشَدّهُمْ فِيهِ وَصَاةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيرْفَؤُه
بِأَحْسَنَ مَا يَجِدُ مِنْ الْقَوْلِ حَتّى إنّهُ لَيَقُولُ انْصَرِفْ يَا أَبَا
الْقَاسِمِ فَوَاَللّهِ مَا كُنْت جَهُولًا . قَالَ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعُوا فِي
الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ
مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ حَتّى إذَا بَادَاكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ
تَرَكْتُمُوهُ . فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَوَثَبُوا إلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ
وَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ أَنْتَ الّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا ، لِمَا كَانَ
يَقُولُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ ؟ فَيَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ أَنَا الّذِي أَقُولُ ذَلِكَ قَالَ فَلَقَدْ
رَأَيْت رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ . قَالَ فَقَامَ أَبُو
بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ دُونَهُ وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ أَتَقْتُلُونَ
رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبّي اللّهَ ؟ ثُمّ انْصَرَفُوا عَنْهُ فَإِنّ ذَلِكَ
لَأَشَدّ مَا رَأَيْت قُرَيْشًا نَالُوا مِنْهُ قَطّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَحَدّثَنِي بَعْضُ آلِ أُمّ كُلْثُومٍ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ أَنّهَا قَالَتْ
رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ وَقَدْ صَدَعُوا فَرَقَ رَأْسِهِ مِمّا جَبَذُوهُ
بِلِحْيَتِهِ وَكَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الشّعْرِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي
بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إنّ أَشَدّ مَا لَقِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قُرَيْشٍ أَنّهُ خَرَجَ يَوْمًا فَلَمْ يَلْقَهُ أَحَدٌ
مِنْ النّاسِ إلّا عَذّبَهُ وَآذَاهُ لَا حُرّ وَلَا عَبْدٌ فَرَجَعَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مَنْزِلِهِ فَتَدَثّرَ مِنْ شِدّةِ
مَا أَصَابَهُ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ
قُمْ فَأَنْذِرْ } [ الْمُدّثّرِ 1 - 2 ] . [ ص 42 ] [ ص 43 ] [ ص 40 ]Sمَا لَقِيَ رَسُولُ
اللّهِ ( صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ) مِنْ قَوْمِهِ
فَصْلٌ فِيمَا لَقِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ
قَوْمِهِ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيّ وَالتّيْمِيّ ، وَابْنُ عُقْبَةَ
وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ أُمُورًا كَثِيرَةً تَتَقَارَبُ أَلْفَاظُهَا
وَمَعَانِيهَا ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ فَمِنْهَا حَثْوُ
سُفَهَائِهِمْ التّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ وَمِنْهَا أَنّهُمْ كَانُوا يَنْضِدُونَ
الْفَرْثَ وَالْأَفْحَاثَ وَالدّمَاءَ عَلَى بَابِهِ وَيَطْرَحُونَ رَحِمَ الشّاةِ
فِي بُرْمَتِهِ وَمِنْهَا : بَصْقُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي وَجْهِهِ وَمِنْهَا :
وَطْءُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ عَلَى رَقَبَتِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ عِنْدَ
الْكَعْبَةِ حَتّى كَادَتْ عَيْنَاهُ تَبْرُزَانِ وَمِنْهَا أَخْذُهُمْ بِمُخَثّقِهِ
حِينَ اجْتَمَعُوا لَهُ عِنْدَ الْحِجْرِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ ،
وَزَادَ غَيْرُهُ الْخَبَرَ أَنّهُمْ خَنَقُوهُ خَنْقًا شَدِيدًا وَقَامَ أَبُو
بَكْرٍ دُونَهُ فَجَبَذُوا رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ حَتّى سَقَطَ أَكْثَرُ شَعْرِهِ
وَأَمّا السّبّ وَالْهَجْوُ وَالتّلْقِيبُ وَتَعْذِيبُ أَصْحَابِهِ وَأَحِبّائِهِ
وَهُوَ يَنْظُرُ فَقَدْ ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ إسْحَاقَ مَا فِي الْكِتَابِ
وَقَدْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِسُمَيّةَ أُمّ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ : مَا آمَنْت
بِمُحَمّدِ إلّا لِأَنّك عَشِقْته لِجَمَالِهِ ثُمّ طَعَنَهَا بِالْحَرْبَةِ فِي
قُبُلِهَا حَتّى قَتَلَهَا ، وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ .
السّبَبُ فِي تَلْقِيبِهِ بِالْمُدّثّرِ وَالنّذِيرِ الْعُرْيَانِ [ ص 41 ]
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- " دَثّرُونِي دَثّرُونِي فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا
الْمُدّثّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَسْمِيَتِهِ
إيّاهُ بِالْمُدّثّرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ [ ص 42 ] مُلَاطَفَةٌ وَتَأْنِيسٌ
وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إذَا قَصَدَتْ الْمُلَاطَفَةَ أَنْ تُسَمّيَ
الْمُخَاطَبَ بِاسْمِ مُشْتَقّ مِنْ الْحَالَةِ الّتِي هُوَ فِيهَا ، كَقَوْلِهِ
عَلَيْهِ السّلَامُ لِحُذَيْفَةَ قُمْ يَا نَوْمَانُ وَقَوْلِهِ لِعَلِيّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ - وَقَدْ تَرِبَ جَنْبُهُ قُمْ أَبَا تُرَابٍ فَلَوْ نَادَاهُ
سُبْحَانَهُ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِنْ الْكَرْبِ بِاسْمِهِ أَوْ
بِالْأَمْرِ الْمُجَرّدِ مِنْ هَذِهِ الْمُلَاطَفَةِ لَهَالَهُ ذَلِكَ وَلَكِنْ
لَمّا بُدِئَ
بـ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ } أَنِسَ وَعَلِمَ أَنّ رَبّهُ رَاضٍ عَنْهُ أَلَا
تَرَاهُ كَيْفَ قَالَ عِنْدَمَا لَقِيَ مِنْ أَهْلِ الطّائِفِ مِنْ شِدّةِ
الْبَلَاءِ وَالْكَرْبِ مَا لَقِيَ رَبّ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيّ فَلَا
أُبَالِي إلَى آخِرِ الدّعَاءِ فَكَانَ مَطْلُوبُهُ رِضَا رَبّهِ وَبِهِ كَانَتْ
تَهُونُ عَلَيْهِ الشّدَائِدُ . فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَنْتَظِمُ يَا أَيّهَا
الْمُدّثّرُ مَعَ قَوْلِهِ { قُمْ فَأَنْذِرْ } وَمَا الرّابِطُ بَيْنَ
الْمَعْنَيَيْنِ حَتّى يَلْتَئِمَا فِي قَانُونِ الْبَلَاغَةِ وَيَتَشَاكَلَا فِي
حُكْمِ الْفَصَاحَةِ ؟ قُلْنَا : مِنْ صِفَتِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ مَا وَصَفَ
بِهِ نَفْسَهُ حِينَ قَالَ أَنَا النّذِيرُ الْعُرْيَانُ وَهُوَ مَثَلٌ مَعْرُوفٌ
عِنْدَ الْعَرَبِ ، يُقَالُ لِمَنْ أَنْذَرَ بِقُرْبِ الْعَدُوّ وَبَالَغَ فِي
الْإِنْذَارِ وَهُوَ النّذِيرُ الْعُرْيَانُ وَذَلِكَ أَنّ النّذِيرَ الْجَادّ
يُجَرّدُ ثَوْبَهُ وَيُشِيرُ بِهِ إذَا خَافَ أَنْ يَسْبِقَ الْعَدُوّ صَوْتَهُ
وَقَدْ قِيلَ إنّ أَصْلَ الْمَثَلِ لِرَجُلِ مِنْ خَثْعَمَ سَلَبَهُ الْعَدُوّ
ثَوْبَهُ وَقَطَعُوا يَدَهُ فَانْطَلَقَ إلَى قَوْمِهِ نَذِيرًا عَلَى تِلْكَ
الْحَالِ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنَا النّذِيرُ الْعُرْيَان أَيْ مَثَلِي
مِثْلُ ذَلِكَ وَالتّدَثّرُ بِالثّيَابِ مُضَادّ لِلتّعَرّي ، فَكَانَ فِي
قَوْلِهِ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ } مَعَ قَوْلِهِ { قُمْ فَأَنْذِرْ }
وَالنّذِيرُ الْجَادّ يُسَمّى : الْعُرْيَانُ تَشَاكُلٌ بَيّنٌ وَالْتِئَامٌ
بَدِيعٌ وَسَمَاقَةٌ فِي الْمَعْنَى ، وَجَزَالَةٌ فِي اللّفْظِ . تَقْدِيمُ
الْمَفْعُولِ عَلَى الْفِعْلِ وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا : { وَرَبّكَ فَكَبّرْ }
أَيْ رَبّك كَبّرْ لَا غَيْرَهُ لَا يَكْبُرُ عَلَيْك شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ
الْخَلْقِ وَفِي تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى فِعْلِ الْأَمْرِ إخْلَاصٌ
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ { إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ } أَيْ لَا
نَعْبُدُ غَيْرَك [ وَلَا نَسْتَعِينُ إلّا بِك ] ، وَلَمْ يَقُلْ نَعْبُدُك
وَنَسْتَعِينُك ، وَفِي الْحَدِيثِ إذَا قَالَ الْعَبْدُ { إِيّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ } يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى : أَخْلَصَ لِي عَبْدِي
الْعِبَادَةَ وَاسْتَعَانَنِي عَلَيْهَا ، فَهَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي
عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالرّئِيّ : [ ص 43 ] وَذَكَرَ قَوْلَ عُتْبَةَ إنْ
كَانَ هَذَا رَئِيّ تَرَاهُ . وَلُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ رِئِيّ بِكَسْرِ الرّاءِ
وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي كُلّ فَعِيلٍ عَيْنُ الْفِعْلِ مَعَهُ هَمْزَةٌ أَوْ
غَيْرُهَا مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ يَكْسِرُونَ أَوّلَهُ مِثْلَ رَحِيمٍ وَشَهِيدٍ
وَالرّئِيّ : فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَلَا يَكُونُ إلّا مِنْ الْجِنّ ،
وَلَا يَكُونُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ فِي غَيْرِ الْجِنّ . إلّا أَنْ
يُؤَثّرَ فِيهِ الْفِعْلُ نَحْوَ جَرِيحٍ وَقَتِيلٍ وَذَبِيحٍ وَطَحِينٍ وَلَا
يُقَالُ مِنْ الشّكْرِ شَكِيرٌ وَلَا ذَكَرْته فَهُوَ ذَكِيرٌ وَلَا فِيمَنْ
لَطَمَ لَطِيمٌ إلّا أَنْ تُغَيّرَ مِنْهُ اللّطْمَةُ كَمَا قَالُوا : لَطِيمُ
الشّيْطَانِ . قَالَ ابْنُ الزّبَيْرِ حِينَ قُتِلَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ
الْأَشْدَقُ [ بْنِ الْعَاصِ ] : أَلَا إنّ أَبَا ذِبّانَ قَتَلَ لَطِيمَ
الشّيْطَانِ { وَكَذَلِكَ نُوَلّي بَعْضَ الظّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ } [ الْأَنْعَامِ 29 ] . وَقَالُوا مِنْ الْحَمْدِ حَمِيدٌ ذَهَبُوا
بِهِ مَذْهَبٌ كَرِيمٌ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْجِنّ : رَئِيّ ، وَإِنْ كَانَتْ
الرّؤْيَا لَا تُؤَثّرُ فِي الْمَرْئِيّ لِأَنّهُمْ ذَهَبُوا بِهِ مَذْهَبَ
قَرِينٍ وَنَجِيّ .
إسْلَامُ حَمْزَةَ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ
[ ص 44 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ ، كَانَ
وَاعِيَةً أَنّ أَبَا جَهْلٍ مَرّ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عِنْدَ الصّفَا فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ وَنَالَ مِنْهُ بَعْضَ مَا يَكْرَهُ
مِنْ الْعَيْبِ لِدِينِهِ وَالتّضْعِيفِ لِأَمْرِهِ فَلَمْ يُكَلّمْهُ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَوْلَاةٌ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ
جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ فِي
مَسْكَنٍ لَهَا تَسْمَعُ ذَلِكَ ثُمّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَعَمَدَ إلَى نَادٍ مِنْ
قُرَيْشٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ فَلَمْ يَلْبَثْ حَمْزَةُ بْنُ
عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنْ أَقْبَلَ مُتَوَشّحًا قَوْسَهُ
رَاجِعًا مِنْ قَنْصٍ لَهُ وَكَانَ صَاحِبَ قَنْصٍ يَرْمِيهِ وَيَخْرُجُ لَهُ
وَكَانَ إذَا رَجَعَ مِنْ قَنْصِهِ لَمْ يَصِلْ إلَى أَهْلِهِ حَتّى يَطُوفَ
بِالْكَعْبَةِ وَكَانَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَمُرّ عَلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ
إلّا وَقَفَ وَسَلّمَ وَتَحَدّثَ مَعَهُمْ وَكَانَ أَعَزّ فَتًى فِي قُرَيْشٍ ،
وَأَشَدّ شَكِيمَةً فَلَمّا مَرّ بِالْمَوْلَاةِ وَقَدْ رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى بَيْتِهِ قَالَتْ لَهُ يَا أَبَا عُمَارَةَ
لَوْ رَأَيْت مَا لَقِيَ ابْنَ أَخِيك مُحَمّدٍ آنِفًا مِنْ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ
هِشَامٍ وَجَدَهُ هَهُنَا جَالِسًا ، فَآذَاهُ وَسَبّهُ وَبَلَغَ مِنْهُ مَا
يَكْرَهُ ثُمّ انْصَرَفَ عَنْهُ وَلَمْ يُكَلّمْهُ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ . فَاحْتَمَلَ حَمْزَةَ الْغَضَبُ لِمَا أَرَادَ اللّهُ بِهِ مِنْ
كَرَامَتِهِ فَخَرَجَ يَسْعَى ، وَلَمْ يَقِفْ عَلَى [ ص 45 ] أَحَدٍ ، مُعِدّا
لِأَبِي جَهْلٍ إذَا لَقِيَهُ أَنْ يُوقِعَ بِهِ فَلَمّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ
نَظَرَ إلَيْهِ جَالِسًا فِي الْقَوْمِ فَأَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتّى إذَا قَامَ
عَلَى رَأْسِهِ رَفَعَ الْقَوْسَ فَضَرَبَهُ بِهَا ، فَشَجّهُ شَجّةً مُنْكَرَةً ثُمّ
قَالَ أَتَشْتُمُهُ فَأَنَا عَلَى دِينِهِ أَقُولُ مَا يَقُولُ ؟ فَرُدّ ذَلِكَ
عَلَيّ إنْ اسْتَطَعْت . فَقَامَتْ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إلَى حَمْزَةَ
لِيَنْصُرُوا أَبَا جَهْلٍ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ دَعُوا أَبَا عُمَارَةَ فَإِنّي
وَاَللّهِ قَدْ سَبَبْت ابْنَ أَخِيهِ سَبّا قَبِيحًا ، وَتَمّ حَمْزَةُ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ عَلَى إسْلَامِهِ وَعَلَى مَا تَابَعَ عَلَيْهِ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قَوْمِهِ . فَلَمّا أَسْلَمَ حَمْزَةُ
عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ عَزّ
وَامْتَنَعَ وَأَنّ حَمْزَةَ سَيَمْنَعُهُ فَكَفّوا عَنْ بَعْضِ مَا كَانُوا
يَنَالُونَ مِنْهُ .Sإسْلَامُ حَمْزَةَ
[ ص 44 ] وَذَكَرَ إسْلَامَ حَمْزَةَ وَأُمّهُ هَالَةُ بِنْتُ أُهَيْبِ بْنِ
عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ وَأُهَيْبُ عَمّ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ تَزَوّجَهَا
عَبْدُ الْمُطّلِبِ ، وَتَزَوّجَ ابْنُهُ عَبْدِ اللّهِ آمِنَةَ فِي سَاعَةٍ
وَاحِدَةٍ فَوَلَدَتْ هَالَةُ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ حَمْزَةَ . وَوَلَدَتْ آمِنَةُ
لِعَبْدِ اللّهِ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ
أَرْضَعَتْهُمَا ثُوَيْبَةُ كَمَا تَقَدّمَ وَزَادَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ فِي
إسْلَامِ حَمْزَةَ أَنّهُ قَالَ لَمّا احْتَمَلَنِي الْغَضَبُ وَقُلْت : أَنَا
عَلَى [ ص 45 ] آبَائِي وَقَوْمِي ، وَبِتّ مِنْ الشّكّ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ لَا
أَكْتَحِلُ بِنَوْمِ ثُمّ أَتَيْت الْكَعْبَةَ ، وَتَضَرّعْت إلَى اللّهِ
سُبْحَانَهُ أَنْ يَشْرَحَ صَدْرِي لِلْحَقّ وَيُذْهِبَ عَنّي الرّيْبَ فَمَا
اسْتَتْمَمْتُ دُعَائِي حَتّى زَاحَ عَنّي الْبَاطِلُ وَامْتَلَأَ قَلْبِي
يَقِينًا - أَوْ كَمَا قَالَ - فَغَدَوْت إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَخْبَرْته بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِي ، فَدَعَا لِي بِأَنْ
يُثَبّتَنِي اللّهُ وَقَالَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ حِينَ أَسْلَمَ :
حَمِدْت اللّهَ حِينَ هَدَى فُؤَادِي ... إلَى الْإِسْلَامِ وَالدّينِ الْحَنِيفِ
الدّينُ جَاءَ مِنْ رَبّ عَزِيزٍ ... خَبِيرٍ بِالْعِبَادِ بِهِمْ لَطِيفِ
إذَا تُلِيَتْ رَسَائِلُهُ عَلَيْنَا ... تَحَدّرَ دَمْعُ ذِي اللّبّ الْحَصِيفِ
رَسَائِلُ جَاءَ أَحْمَدُ مِنْ هُدَاهَا ... بِآيَاتِ مُبَيّنَةِ الْحُرُوفِ
وَأَحْمَدُ مُصْطَفًى فِينَا مُطَاعٌ ... فَلَا تَغْشَوْهُ بِالْقَوْلِ الْعَنِيفِ
فَلَا وَاَللّهِ نُسْلِمُهُ لِقَوْمِ ... وَلَمّا نَقْضِ فِيهِمْ بِالسّيُوفِ
وَنَتْرُكْ مِنْهُمْ قَتْلَى بِقَاعٍ ... عَلَيْهَا الطّيْرُ كَالْوِرْدِ
الْعَكُوفِ
وَقَدْ خُبّرْت مَا صَنَعَتْ ثَقِيفٌ ... بِهِ فَجَزَى الْقَبَائِلَ مِنْ ثَقِيفِ
إلَهُ النّاسِ شَرّ جَزَاءِ قَوْمٍ ... وَلَا أَسْقَاهُمْ صَوْبَ الْخَرِيفِ
[ ص 46 ]
عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ
يَذْهَبُ إلَى الرّسُولِ ( صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ )
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ
كَعْبٍ الْقُرَظِيّ ، قَالَ حُدّثْت أَنّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ - وَكَانَ
سَيّدًا - قَالَ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ وَرَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ يَا مَعْشَرَ
قُرَيْشٍ ، أَلَا أَقُومُ إلَى مُحَمّدٍ فَأُكَلّمَهُ [ ص 46 ] شَاءَ وَيَكُفّ
عَنّا ؟ وَذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ ، وَرَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَزِيدُونَ وَيَكْثُرُونَ فَقَالُوا : بَلَى يَا
أَبَا الْوَلِيدِ قُمْ إلَيْهِ فَكَلّمْهُ فَقَامَ إلَيْهِ عُتْبَةُ حَتّى جَلَسَ
إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي
، إنّك مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْت مِنْ السّطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ وَالْمَكَانِ
فِي النّسَبِ وَإِنّك قَدْ أَتَيْت قَوْمَك بِأَمْرِ عَظِيمٍ فَرّقْت بِهِ
جَمَاعَتَهُمْ وَسَفّهْت بِهِ أَحْلَامَهُمْ وَعِبْت بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ
وَكَفّرْت بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ فَاسْمَعْ مِنّي أَعْرِضُ عَلَيْك
أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلّك تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا . قَالَ فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قُلْ يَا أَبَا
الْوَلِيدِ أَسْمَعُ قَالَ يَا ابْنَ أَخِي إنْ كُنْت إنّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْت
بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا ، جَمَعْنَا لَك مِنْ أَمْوَالِنَا ، حَتّى
تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا ، وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوّدْنَاك
عَلَيْنَا ، حَتّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَك ، وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ بِهِ
مُلْكًا مَلّكْنَاك عَلَيْنَا ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الّذِي يَأْتِيك رَئِيّا
تَرَاهُ لَا تَسْتَطِيعُ رَدّهُ عَنْ نَفْسِك ، طَلَبْنَا لَك الطّبّ ، وَبَذَلْنَا
فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتّى نُبْرِئَك مِنْهُ فَإِنّهُ رُبّمَا غَلَبَ التّابِعُ
عَلَى الرّجُلِ حَتّى يُدَاوَى مِنْهُ أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ حَتّى إذَا فَرَغَ
عُتْبَةُ وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَسْتَمِعُ مِنْهُ
قَالَ أَقَدْ فَرَغْت يَا أَبَا الْوَلِيدِ " ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ "
فَاسْمَعْ مِنّي " ، قَالَ أَفْعَلُ فَقَالَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ
الرّحِيمِ { حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ
قُرْآنًا عَرَبِيّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ
أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنّةٍ مِمّا
تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [ فُصّلَتْ 1 - 5 ] . ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيهَا يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ فَلَمّا سَمِعَهَا مِنْهُ
عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا ، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا
عَلَيْهِمَا ، يَسْمَعُ مِنْهُ ثُمّ انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى السّجْدَةِ مِنْهَا ، فَسَجَدَ ثُمّ قَالَ قَدْ سَمِعْت
يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْت ، فَأَنْتَ وَذَاكَ فَقَامَ عُتْبَةُ إلَى
أَصْحَابِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ نَحْلِفُ بِاَللّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ
أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الّذِي ذَهَبَ بِهِ . فَلَمّا جَلَسَ
إلَيْهِمْ قَالُوا : مَا وَرَاءَك يَا أَبَا الْوَلِيدِ ؟ قَالَ وَرَائِي أَنّي قَدْ
سَمِعْت قَوْلًا وَاَللّهِ مَا سَمِعْت مِثْلَهُ قَطّ ، وَاَللّهِ مَا هُوَ
بِالشّعْرِ وَلَا بِالسّحْرِ وَلَا بِالْكَهَانَةِ . يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ
أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي ، وَخَلّوا بَيْنَ هَذَا الرّجُلِ وَبَيْنَ مَا
هُوَ فِيهِ فَاعْتَزِلُوهُ فَوَاَللّهِ لَيَكُونَن لِقَوْلِهِ الّذِي سَمِعْت
مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كَفَيْتُمُوهُ
بِغَيْرِكُمْ وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ ، فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ وَعِزّهُ
عِزّكُمْ وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النّاسِ بِهِ قَالُوا : سَحَرَك وَاَللّهِ يَا أَبَا
الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ قَالَ هَذَا رَأْيِي فِيهِ فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ .
بَيْنَ النّبِيّ ( صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ) وَبَيْنَ قُرَيْشٍ
[ ص 47 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ الْإِسْلَامَ جَعَلَ يَفْشُو بِمَكّةَ
فِي قَبَائِلِ قُرَيْشٍ فِي الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَقُرَيْشٌ تَحْبِسُ مَنْ
قَدَرَتْ عَلَى حَبْسِهِ وَتَفْتِنُ مَنْ اسْتَطَاعَتْ فِتْنَتَهُ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ ثُمّ إنّ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ - كَمَا
حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَعَنْ
عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ اجْتَمَعَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَشَيْبَةُ بْنُ
رَبِيعَةَ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ ، وَالنّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ ، أَخُو
بَنِي عَبْدِ الدّارِ ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هِشَامٍ وَالْأَسْوَدُ بْنُ
الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ ، وَزَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَالْوَلِيدُ بْنُ
الْمُغِيرَةِ ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ - لَعَنَهُ اللّهُ - وَعَبْدُ اللّهِ
بْنُ أَبِي أُمَيّةَ ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ ، وَنَبِيهٌ وَمُنَبّهٌ ابْنَا
الْحَجّاجِ السّهْمِيّانِ ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ ، أَوْ مَنْ اجْتَمَعَ
مِنْهُمْ . قَالَ اجْتَمَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ
، ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ ابْعَثُوا إلَى مُحَمّدٍ فَكَلّمُوهُ
وَخَاصِمُوهُ حَتّى تُعْذَرُوا فِيهِ فَبَعَثُوا إلَيْهِ إنّ أَشْرَافَ قَوْمِك
قَدْ اجْتَمَعُوا لَك لِيُكَلّمُوك ، فَأْتِهِمْ فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَرِيعًا ، وَهُوَ يَظُنّ أَنْ قَدْ بَدَا
لَهُمْ فِيمَا كَلّمَهُمْ فِيهِ بَدَاءٌ وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَرِيصًا يُحِبّ
رُشْدَهُمْ وَيَعِزّ عَلَيْهِ عَنَتُهُمْ حَتّى جَلَسَ إلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ
يَا مُحَمّدُ إنّا قَدْ بَعَثْنَا إلَيْك ؛ لِنُكَلّمَك ، وَإِنّا وَاَللّهِ مَا
نَعْلَمُ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ أَدْخَلَ عَلَى قَوْمِهِ مِثْلَ مَا أَدْخَلْت
عَلَى قَوْمِك ، لَقَدْ شَتَمْت الْآبَاءَ وَعِبْت الدّينَ وَشَتَمْت الْآلِهَةَ
وَسَفّهْت الْأَحْلَامَ وَفَرّقْت الْجَمَاعَةَ فَمَا بَقِيَ أَمْرٌ قَبِيحٌ إلّا
قَدْ جِئْته فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَك - أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُ - فَإِنْ كُنْت
إنّمَا جِئْت بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ بِهِ مَالًا جَمَعْنَا لَك مِنْ
أَمْوَالِنَا حَتّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا ، وَإِنْ كُنْت إنّمَا تَطْلُبُ
بِهِ الشّرَفَ فِينَا ، فَنَحْنُ نُسَوّدُك عَلَيْنَا ، وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ بِهِ
مُلْكًا مَلّكْنَاك عَلَيْنَا ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الّذِي يَأْتِيَك رَئِيّا
تَرَاهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْك - وَكَانُوا يُسَمّونَ التّابِعَ مِنْ الْجِنّ
رَئِيّا - فَرُبّمَا كَانَ ذَلِكَ بَذَلْنَا لَك أَمْوَالَنَا فِي طَلَبِ الطّبّ
لَك حَتّى نُبْرِئَك مِنْهُ أَوْ نُعْذَرَ فِيك ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا بِي مَا تَقُولُونَ ، مَا جِئْت بِمَا
جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ وَلَا الشّرَفَ فِيكُمْ وَلَا الْمُلْكَ
عَلَيْكُمْ . وَلَكِنّ اللّهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ رَسُولًا ، وَأَنْزَلَ عَلَيّ
كِتَابًا ، [ ص 48 ] أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، فَبَلّغْتُكُمْ
رِسَالَاتِ رَبّي ، وَنَصَحْت لَكُمْ فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ
فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ تَرُدّوهُ عَلَيّ أَصْبِرُ
لِأَمْرِ اللّهِ حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَوْ كَمَا قَالَ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالُوا : يَا مُحَمّدُ فَإِنْ كُنْت غَيْرَ
قَابِلٍ مِنّا شَيْئًا مِمّا عَرَضْنَاهُ عَلَيْك ، فَإِنّك قَدْ عَلِمْت أَنّهُ
لَيْسَ مِنْ النّاسِ أَحَدٌ أَضْيَقُ بَلَدًا ، وَلَا أَقَلّ مَاءً وَلَا أَشَدّ
عَيْشًا مِنّا ، فَسَلْ لَنَا رَبّك الّذِي بَعَثَك بِمَا بَعَثَك بِهِ
فَلْيُسَيّرْ عَنّا هَذِهِ الْجِبَالَ الّتِي قَدْ ضَيّقَتْ عَلَيْنَا ،
وَلْيَبْسُطْ لَنَا بِلَادَنَا ، وَلْيُفَجّرْ لَنَا فِيهَا أَنَهَارًا
كَأَنْهَارِ الشّامِ وَالْعِرَاقِ ، وَلْيَبْعَثْ لَنَا مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِنَا
، وَلْيَكُنْ فِيمَنْ يَبْعَثُ لَنَا مِنْهُمْ قُصَيّ بْنُ كِلَابٍ ، فَإِنْ كَانَ
شَيْخَ صِدْقٍ فَنَسْأَلُهُمْ عَمّا تَقُولُ أَحَقّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ فَإِنْ
صَدّقُوك ، وَصَنَعْت مَا سَأَلْنَاك ، صَدّقْنَاك ، وَعَرَفْنَا بِهِ مَنْزِلَتَك
مِنْ اللّهِ وَأَنّهُ بَعَثَك رَسُولًا - كَمَا تَقُولُ - فَقَالَ لَهُمْ
صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مَا بِهَذَا بُعِثْت إلَيْكُمْ إنّمَا
جِئْتُكُمْ مِنْ اللّهِ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ وَقَدْ بَلّغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْت
بِهِ إلَيْكُمْ فَإِنْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَإِنْ تَرُدّوهُ عَلَيّ أَصْبِرُ لِأَمْرِ اللّهِ تَعَالَى ، حَتّى يَحْكُمَ
اللّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قَالُوا : فَإِذَا لَمْ تَفْعَلْ هَذَا لَنَا ،
فَخُذْ لِنَفْسِك ، سَلْ رَبّك أَنْ يَبْعَثَ مَعَك مَلَكًا يُصَدّقُك بِمَا
تَقُولُ وَيُرَاجِعُنَا عَنْك وَسَلْهُ فَلْيَجْعَلْ لَك جِنَانًا وَقُصُورًا
وَكُنُوزًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضّةٍ يُغْنِيَك بِهَا عَمّا نَرَاك تَبْتَغِي ،
فَإِنّك تَقُومُ بِالْأَسْوَاقِ كَمَا نَقُومُ وَتَلْتَمِسُ الْمَعَاشَ كَمَا
نَلْتَمِسُهُ حَتّى نَعْرِفَ فَضْلَك وَمَنْزِلَتَك مِنْ رَبّك إنْ كُنْت رَسُولًا
كَمَا تَزْعُمُ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا
أَنَا [ ص 49 ] رَبّهُ هَذَا ، وَمَا بُعِثْت إلَيْكُمْ بِهَذَا ، وَلَكِنّ اللّهَ
بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا - أَوْ كَمَا قَالَ - فَإِنْ تَقْبَلُوا مَا
جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ تَرُدّوهُ
عَلَيّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللّهِ حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
قَالُوا : فَأَسْقِطْ السّمَاءَ عَلَيْنَا كِسَفًا كَمَا زَعَمْت أَنّ رَبّك لَوْ
شَاءَ فَعَلَ فَإِنّا لَا نُؤْمِنُ لَك إلّا أَنْ تَفْعَلَ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ذَلِكَ إلَى اللّهِ إنْ شَاءَ أَنْ
يَفْعَلَهُ بِكُمْ فَعَلَ قَالُوا : يَا مُحَمّدُ أَفَمَا عَلِمَ رَبّك أَنّا
سَنَجْلِسُ مَعَك ، وَنَسْأَلُك عَمّا سَأَلْنَاك عَنْهُ وَنَطْلُبُ مِنْك مَا
نَطْلُبُ فَيَتَقَدّمُ إلَيْك فَيُعْلِمُك مَا تُرَاجِعُنَا بِهِ وَيُخْبِرُك مَا
هُوَ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ بِنَا ، إذَا لَمْ نَقْبَلْ مِنْك مَا جِئْتنَا بِهِ إنّهُ
قَدْ بَلَغَنَا أَنّك إنّمَا يُعَلّمُك هَذَا رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهُ
الرّحْمَنُ وَإِنّا وَاَللّهِ لَا نُؤْمِنُ بِالرّحْمَنِ أَبَدًا ، فَقَدْ
أَعْذَرْنَا إلَيْك يَا مُحَمّدُ وَإِنّا وَاَللّهِ لَا نَتْرُكُك وَهِيَ بَنَاتُ
اللّهِ . وَقَالَ قَائِلُهُمْ لَنْ نُؤْمِنَ لَك حَتّى تَأْتِيَنَا بِاَللّهِ
وَبِالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا . فَلَمّا قَالُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَامَ عَنْهُمْ وَقَامَ مَعَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ
[ ص 50 ] لِعَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ - فَقَالَ لَهُ يَا مُحَمّدُ
عَرَضَ عَلَيْك قَوْمُك مَا عَرَضُوا فَلَمْ تَقْبَلْهُ مِنْهُمْ ثُمّ سَأَلُوك
لِأَنْفُسِهِمْ أُمُورًا ، لِيَعْرِفُوا بِهَا مَنْزِلَتَك مِنْ اللّهِ كَمَا تَقُولُ
وَيُصَدّقُوك وَيَتْبَعُوك فَلَمْ تَفْعَلْ ثُمّ سَأَلُوك أَنْ تَأْخُذَ لِنَفْسِك
مَا يَعْرِفُونَ بِهِ فَضْلَك عَلَيْهِمْ وَمَنْزِلَتَك مِنْ اللّهِ فَلَمْ
تَفْعَلْ ثُمّ سَأَلُوك أَنْ تُعَجّلَ لَهُمْ بَعْضَ مَا تُخَوّفَهُمْ بِهِ مِنْ
الْعَذَابِ فَلَمْ تَفْعَلْ - أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ - فَوَاَللّهِ لَا أُؤْمِنُ
بِك أَبَدًا حَتّى تَتّخِذَ إلَى السّمَاءِ سُلّمًا ، ثُمّ تَرْقَى فِيهِ وَأَنَا
أَنْظُرُ إلَيْك حَتّى تَأْتِيَهَا ، ثُمّ تَأْتِي مَعَك أَرْبَعَةٌ مِنْ
الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَك أَنّك كَمَا تَقُولُ . وَأَيْمُ اللّهِ أَنْ لَوْ
فَعَلْت ذَلِكَ مَا ظَنَنْت أَنّي أُصَدّقُك ، ثُمّ انْصَرَفَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى أَهْلِهِ حَزِينًا آسِفًا لِمَا فَاتَهُ مِمّا كَانَ
يَطْمَعُ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ دَعَوْهُ وَلِمَا رَأَى مِنْ مُبَاعَدَتِهِمْ
إيّاهُ .Sطَلَبُ الْآيَاتِ
فَصْلٌ
[ ص 47 ] وَذَكَرَ مَا سَأَلَهُ قَوْمُهُ مِنْ الْآيَاتِ وَإِزَالَةِ الْجِبَالِ
عَنْهُمْ وَإِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ [ ص 48 ] يَكُونَ إيمَانُهُمْ عَنْ
نَظَرٍ وَفِكْرٍ فِي الْأَدِلّةِ فَيَقَعُ الثّوَابُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ وَلَوْ
كُشِفَ الْغِطَاءُ وَحَصَلَ لَهُمْ الْعِلْمُ الضّرُورِيّ ، بَطَلَتْ الْحِكْمَةُ
الّتِي مِنْ أَجْلِهَا يَكُونُ الثّوَابُ وَالْعِقَابُ إذْ لَا يُؤْجَرُ الْإِنْسَانُ
عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ كَمَا لَا يُؤْجَرُ عَلَى مَا خُلِقَ فِيهِ مِنْ
لَوْنٍ وَشَعْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنّمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ الدّلِيلِ مَا
يَقْتَضِي النّظَرُ فِيهِ الْعِلْمَ الْكَسْبِيّ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلّا
بِفِعْلِ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ وَهُوَ النّظَرُ فِي الدّلِيلِ وَفِي وَجْهِ
دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ الرّسُولِ وَإِلّا فَقَدْ كَانَ قَادِرًا
سُبْحَانَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِكَلَامِ يَسْمَعُونَهُ وَيُغْنِيَهُمْ عَنْ
إرْسَالِ الرّسُلِ إلَيْهِمْ وَلَكِنّهُ سُبْحَانَهُ قَسّمَ الْأَمْرَ بَيْنَ
الدّارَيْنِ فَجَعَلَ الْأَمْرَ يَعْلَمُ فِي الدّنْيَا بِنَظَرِ وَاسْتِدْلَالٍ
وَتَفَكّرٍ وَاعْتِبَارٍ لِأَنّهَا دَارُ تَعَبّدٍ وَاخْتِبَارٍ وَجَعَلَ
الْأَمْرَ يُعْلَمُ فِي الْآخِرَةِ بِمُعَايَنَةِ وَاضْطِرَارٍ لَا يُسْتَحَقّ
بِهِ ثَوَابٌ وَلَا جَزَاءٌ وَإِنّمَا يَكُونُ الْجَزَاءُ فِيهَا عَلَى مَا سَبَقَ
فِي الدّارِ الْأُولَى ، حِكْمَةً دَبّرَهَا ، وَقَضِيّةً أَحْكَمَهَا ، وَقَدْ
قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلّا أَنْ
كَذّبَ بِهَا الْأَوّلُونَ } [ الْإِسْرَاءِ 59 ] . يُرِيدُ - فِيمَا قَالَ أَهْلُ
التّأْوِيلِ - إنّ التّكْذِيبَ بِالْآيَاتِ نَحْوَ مَا سَأَلُوهُ مِنْ إزَالَةِ
الْجِبَالِ عَنْهُمْ وَإِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ يُوجِبُ فِي حُكْمِ اللّهِ أَلّا
[ ص 49 ] وَبِآلِ فِرْعَوْنَ ، فَلَوْ أُعْطِيَتْ قُرَيْشٌ مَا سَأَلُوهُ مِنْ
الْآيَاتِ وَجَاءَهُمْ بِمَا اقْتَرَحُوا ثُمّ كَذّبُوا لَمْ يَلْبَثُوا ،
وَلَكِنّ اللّهَ أَكْرَمَ مُحَمّدًا فِي الْأُمّةِ الّتِي أَرْسَلَهُ إلَيْهِمْ
إذْ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنْ يُكَذّبَ بِهِ مَنْ يُكَذّبُ وَيُصَدّقَ بِهِ مَنْ
يُصَدّقُ وَابْتَعَثَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ بَرّ وَفَاجِرٍ أَمّا الْبَرّ
فَرَحْمَتُهُ إيّاهُمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَمّا الْفَاجِرُ فَإِنّهُمْ
أَمِنُوا مِنْ الْخَسْفِ وَالْغَرَقِ وَإِرْسَالِ حَاصِبٍ عَلَيْهِمْ مِنْ
السّمَاءِ . كَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ { وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الْأَنْبِيَاءِ 107 ] مَعَ
أَنّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا مَا سَأَلُوا مِنْ الْآيَاتِ إلّا تَعَنّتًا
وَاسْتِهْزَاءً لَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِرْشَادِ وَدَفْعِ الشّكّ فَقَدْ كَانُوا
رَأَوْا مِنْ دَلَائِلِ النّبُوّةِ مَا فِيهِ شِفَاءٌ لِمَنْ أَنْصَفَ قَالَ
اللّهُ سُبْحَانَهُ { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
} [ الْعَنْكَبُوتِ 51 ] الْآيَةَ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيّنَةٌ ... كَانَتْ بَدَاهَتُهُ تُنْبِيكَ
بِالْخَبَرِ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرّوَايَةِ أَنّهُمْ سَأَلُوا
أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ الصّفَا ذَهَبًا ، فَهَمّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ يَدْعُوَ اللّهَ لَهُمْ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ
لَهُمْ مَا شِئْتُمْ إنْ شِئْتُمْ فَعَلْت مَا سَأَلْتُمْ ثُمّ لَا نُلْبِثُكُمْ
إنْ كَذّبْتُمْ بَعْدَ مُعَايَنَةِ الْآيَةِ فَقَالُوا : لَا حَاجَةَ لَنَا بِهَا
.
عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ لَهُ وَاسْمُ أَبِي أُمَيّةَ
حُذَيْفَةُ وَاَللّهِ لَا أُومِنُ بِك [ ص 50 ] تَتّخِذَ سُلّمًا إلَى آخِرِ
الْكَلَامِ وَقَدْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ قَبْلَ فَتْحِ
مَكّةَ ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ إسْلَامِهِ .
فَلَمّا قَامَ عَنْهُمْ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ أَبُو جَهْلٍ : يَا
مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّ مُحَمّدًا قَدْ أَبَى إلّا مَا تَرَوْنَ مِنْ عَيْبِ
دِينِنَا ، وَشَتْمِ آبَائِنَا ، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا ، وَشَتْمِ آلِهَتِنَا
، وَإِنّي أُعَاهِدُ اللّهَ لَأَجْلِسَن لَهُ غَدًا بِحَجَرِ مَا أُطِيقُ حَمْلَهُ
- أَوْ كَمَا قَالَ - فَإِذَا سَجَدَ فِي صَلَاتِهِ فَضَخْت بِهِ رَأْسَهُ
فَأَسْلِمُونِي عِنْدَ ذَلِكَ أَوْ امْنَعُونِي ، فَلْيَصْنَعْ بَعْدَ ذَلِكَ
بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ ، مَا بَدَا لَهُمْ قَالُوا : وَاَللّهِ لَا نُسْلِمْك
لِشَيْءِ أَبَدًا ، فَامْضِ لِمَا تُرِيدُ . فَلَمّا أَصْبَحَ أَبُو جَهْلٍ ،
أَخَذَ حَجَرًا كَمَا وَصَفَ ثُمّ جَلَسَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَنْتَظِرُهُ وَغَدَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - كَمَا كَانَ يَغْدُو ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - بِمَكّةَ وَقِبْلَتُهُ إلَى الشّامِ ، فَكَانَ إذَا صَلّى صَلّى بَيْنَ
الرّكْنِ الْيَمَانِيّ وَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، وَجَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ [ ص 51 ] الشّامِ . فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - يُصَلّي وَقَدْ غَدَتْ قُرَيْشٌ ، فَجَلَسُوا فِي أَنْدِيَتِهِمْ
يَنْتَظِرُونَ مَا أَبُو جَهْلٍ فَاعِلٌ . فَلَمّا سَجَدَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - احْتَمَلَ أَبُو جَهْلٍ الْحَجَرَ ، ثُمّ أَقْبَلَ
نَحْوَهُ حَتّى إذَا دَنَا مِنْهُ رَجَعَ مُنْهَزِمًا . مُنْتَقَعًا لَوْنُهُ
مَرْعُوبًا . قَدْ يَبِسَتْ يَدَاهُ عَلَى حَجَرِهِ . حَتّى قَذَفَ الْحَجَرَ مِنْ
يَدِهِ . وَقَامَتْ إلَيْهِ رِجَالُ قُرَيْشٍ . فَقَالُوا لَهُ مَا لَك يَا أَبَا
الْحَكَمِ ؟ قَالَ قُمْت إلَيْهِ لِأَفْعَلَ بِهِ مَا قُلْت لَكُمْ الْبَارِحَةَ
فَلَمّا دَنَوْت مِنْهُ عَرَضَ لِي دُونَهُ فَحْلٌ مِنْ الْإِبِلِ لَا وَاَللّهِ
مَا رَأَيْت مِثْلَ هَامَتِهِ وَلَا مِثْلَ قَصْرَتِهِ وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلِ
قَطّ . فَهَمّ بِي أَنْ يَأْكُلَنِي . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَذُكِرَ لِي أَنّ
رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السّلَامُ ، لَوْ دَنَا لَأَخَذَهُ . فَلَمّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ أَبُو
جَهْلٍ . قَامَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ
عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَيُقَالُ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَبْدِ
مَنَافِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ . إنّهُ وَاَللّهِ
قَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ مَا أَتَيْتُمْ لَهُ بِحِيلَةِ بَعْدُ قَدْ كَانَ
مُحَمّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا حَدَثًا ، أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ . وَأَصْدَقَكُمْ
حَدِيثًا . وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً . حَتّى إذَا رَأَيْتُمْ فِي صُدْغَيْهِ
الشّيْبَ وَجَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ . قُلْتُمْ سَاحِرٌ لَا وَاَللّهِ مَا
هُوَ بِسَاحِرِ . لَقَدْ رَأَيْنَا السّحَرَةَ وَنَفْثَهُمْ وَعَقْدَهُمْ
وَقُلْتُمْ كَاهِنٌ . لَا وَاَللّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنِ [ ص 52 ] وَسْوَسَتِهِ
وَلَا تَخْلِيطِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، فَانْظُرُوا فِي شَأْنِكُمْ فَإِنّهُ
وَاَللّهِ لَقَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ .Sهَمّ أَبِي جَهْلٍ بِإِلْقَاءِ
الْحَجَرِ
وَذَكَرَ خَبَرَ أَبِي جَهْلٍ ، وَمَا هَمّ بِهِ مِنْ إلْقَاءِ الْحَجَرِ عَلَى
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ سَاجِدٌ وَقَدْ رَوَاهُ
النّسَوِيّ بِإِسْنَادِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ فَنَكَصَ أَبُو جَهْلٍ عَلَى عَقِبَيْهِ فَقَالُوا : مَا
لَك ؟ فَقَالَ إنّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلًا
وَأَجْنِحَةً فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَوْ
دَنَا لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا وَخَرّجَهُ أَيْضًا
مُسْلِمٌ [ ص 51 ] وَذَكَرَ النّسَوِيّ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ إلَى ابْنِ عَبّاسٍ
أَنّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لَهُ أَلَمْ أَنْهَك ؟ فَوَاَللّهِ مَا بِمَكّةَ نَادٍ
أَعَزّ مِنْ نَادِيّ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { أَرَأَيْتَ الّذِي يَنْهَى
عَبْدًا } إلَى قَوْلِهِ { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزّبَانِيَةَ } [
الْعَلَقِ 17 - 18 ] .
تَفْسِيرُ أَرَأَيْت
قَالَ مُحَمّدُ بْنُ يَزِيدَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ { أَرَأَيْتَ
الّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلّى } أَمُصِيبٌ هُوَ أَوْ مُخْطِئٌ ؟ وَكَذَلِكَ
فِي قَوْلِهِ { أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى } [ الْعَلَقِ 11 ] كَأَنّهُ
قَالَ أَلَيْسَ مَنْ يَنْهَاهُ بِضَالّ وَقَوْلِهِ { لَنَسْفَعَنْ بِالنّاصِيَةِ }
[ الْعَلَقِ 15 ] أَيْ لَنَأْخُذَنّ بِهَا إلَى النّارِ وَقِيلَ مَعْنَى السّفْعِ
هَهُنَا : إذْلَالُهُ وَقَهْرُهُ وَالنّادِي وَالنّدِيّ وَالْمُنْتَدَى بِمَعْنَى
وَاحِدٍ وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَوْمِ الّذِينَ يَتَنَادَوْنَ إلَيْهِ وَقَالَ أَهْلُ
التّفْسِيرِ فِيهِ أَقْوَالًا مُتَقَارِبَةً قَالَ بَعْضُهُمْ فَلْيَدْعُ حَيّهُ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَشِيرَتَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَجْلِسَهُ وَفِي أَرَأَيْت
مَعْنَى : أَخْبِرْنِي ، وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ : لَمْ يَجُزْ إلْغَاؤُهَا
، كَمَا تُلْغَى : عَلِمْت إذَا قُلْت : عَلِمْت أَزَيْدٌ عِنْدَك أَمْ عَمْرٌو ،
وَلَا يَجُوزُ هَذَا فِي : أَرَأَيْت ، وَلَا بُدّ مِنْ النّصْبِ إذَا قُلْت :
أَرَأَيْت زَيْدًا ، أَبُو مَنْ هُوَ ؟ قَالَ سِيبَوَيْهِ : لِأَنّ دُخُولَ
مَعْنَى أَخْبِرْنِي فِيهَا لَا يَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ أَخْبِرْنِي فِي جَمِيعِ
أَحْوَالِهَا ، قَالَ [ ص 52 ] قَالَ سِيبَوَيْهِ إلّا بَعْدَ الْبَيَانِ وَذَلِكَ
أَنّهَا فِي الْقُرْآنِ مُلْغَاةٌ لِأَنّ الِاسْتِفْهَامَ هُوَ مَطْلُوبُهَا ،
وَعَلَيْهِ وَقَعَتْ فِي قَوْلِهِ { أَرَأَيْتَ إِنْ كَذّبَ وَتَوَلّى أَلَمْ
يَعْلَمْ } [ الْعَلَقِ 13 ] . فَقَوْلُهُ أَلَمْ يَعْلَمْ اسْتِفْهَامٌ
وَعَلَيْهِ وَقَعَتْ أَرَأَيْت ، وَكَذَلِكَ أَرَأَيْت ، وَأَرَأَيْتُكُمْ فِي
الْأَنْعَامِ فَإِنّ الِاسْتِفْهَامَ وَاقِعٌ بَعْدَهَا نَحْوَ { هَلْ يُهْلَكُ
إِلّا الْقَوْمُ الظّالِمُونَ } [ الْأَنْعَامِ 47 ] . وَهَذَا هُوَ الّذِي مَنَعَ
سِيبَوَيْهِ فِي : أَرَأَيْت وَأَرَأَيْتُكَ أَبُو مَنْ أَنْتَ ؟ وَأَمّا
الْبَيَانُ فَاَلّذِي قَالَهُ سِيبَوَيْهِ صَحِيحٌ وَلَكِنْ إذَا وَلّى
الِاسْتِفْهَامَ أَرَأَيْت ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَفْعُولٌ سِوَى الْجُمْلَةِ
وَأَمّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الّتِي فِي التّنْزِيلِ فَلَيْسَتْ الْجُمْلَةُ
الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهَا هِيَ مَفْعُولُ أَرَأَيْت ، إنّمَا مَفْعُولُهَا
مَحْذُوفٌ يَدُلّ عَلَيْهِ الشّرْطُ وَلَا بُدّ مِنْ الشّرْطِ بَعْدَهَا فِي
هَذِهِ الصّوَرِ لِأَنّ الْمَعْنَى : أَرَأَيْتُمْ صَنِيعَكُمْ إنْ كَانَ كَذَا ،
وَكَذَا ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ أَرَأَيْت إنْ لَقِيت الْعَدُوّ أَتُقَاتِلُهُ
أَمْ لَا ؟ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَرَأَيْت رَأْيَك أَوْ صَنِيعَك إنْ لَقِيت
الْعَدُوّ فَحَرْفُ الشّرْطِ وَهُوَ إنْ دَالّ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ
وَمُرْتَبِطٌ بِهِ وَالْجُمْلَةُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ
مُنْقَطِعٌ إلّا أَنّ فِيهِ زِيَادَةَ بَيَانٍ لِمَا يُسْتَفْهَمُ عَنْهُ وَلَوْ
زَالَ الشّرْطُ وَوَلِيَهَا الِاسْتِفْهَامُ لَقَبُحَ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ ،
وَيَحْسُنُ فِي : عَلِمْت ، وَهَلْ عَلِمْت وَهَلْ رَأَيْت ، وَإِنّمَا قُبْحُهُ
مَعَ أَرَأَيْت خَاصّةً وَهِيَ الّتِي دَخَلَهَا مَعْنَى : أَخْبِرْنِي
فَتَدَبّرْهُ .
وَكَانَ النّضْرُ بْنُ
الْحَارِثِ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ ، وَمِمّنْ كَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَيَنْصِبُ لَهُ الْعَدَاوَةَ وَكَانَ قَدْ
قَدِمَ الْحِيرَةَ ، وَتَعَلّمَ بِهَا أَحَادِيثَ مُلُوكِ الْفُرْسِ ،
وَأَحَادِيثَ رُسْتُمَ وإسفندياذ ، فَكَانَ إذَا جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَجْلِسًا فَذَكّرَ فِيهِ بِاَللّهِ وَحَذّرَ قَوْمَهُ
مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ مِنْ نِقْمَةِ اللّهِ خَلَفَهُ فِي
مَجْلِسِهِ إذَا قَامَ ثُمّ قَالَ أَنَا وَاَللّهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ،
أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْهُ فَهَلُمّ إلَيّ فَأَنَا أُحَدّثُكُمْ أَحْسَنَ مِنْ
حَدِيثِهِ ثُمّ يُحَدّثُهُمْ عَنْ مُلُوكِ فَارِسَ وَرُسْتُمَ وإسفندياذ . ثُمّ
يَقُولُ بِمَاذَا مُحَمّدٌ أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنّي ؟ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَهُوَ الّذِي قَالَ فِيمَا بَلَغَنِي : { سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ
} قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ
- فِيمَا بَلَغَنِي : نَزَلَ فِيهِ [ ص 53 ] عَزّ وَجَلّ { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ
آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوّلِينَ } [ الْقَلَمِ 15 ] وَكُلّ مَا ذُكِرَ
فِيهِ مِنْ الْأَسَاطِيرِ مِنْ الْقُرْآنِ . فَلَمّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ النّضْرُ
بْنُ الْحَارِثِ بَعَثُوهُ وَبَعَثُوا مَعَهُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إلَى
أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ ، وَقَالُوا لَهُمَا : سَلَاهُمْ عَنْ مُحَمّدٍ
وَصِفَا لَهُمْ صِفَتَهُ وَأَخْبِرَاهُمْ بِقَوْلِهِ فَإِنّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ
الْأَوّلِ وَعِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ
فَخَرَجَا حَتّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ ، فَسَأَلَا أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَوَصَفَا لَهُمْ أَمْرَهُ .
وَأَخْبَرَاهُمْ بِبَعْضِ قَوْلِهِ . وَقَالَا لَهُمْ إنّكُمْ أَهْلُ التّوْرَاةِ
. وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبِنَا هَذَا . فَقَالَتْ لَهُمَا
أَحْبَارُ يَهُودَ سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنّ . فَإِنْ
أَخْبَرَكُمْ بِهِنّ فَهُوَ نَبِيّ مُرْسَلٌ . وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرّجُلُ
مُتَقَوّلٌ . فَرَوْا فِيهِ رَأْيَكُمْ . سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي
الدّهْرِ [ ص 54 ] كَانَ أَمْرُهُمْ فَإِنّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجَبٌ
وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوّافٍ قَدْ بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا
مَا كَانَ نَبَؤُهُ وَسَلُوهُ عَنْ الرّوحِ مَا هِيَ ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ
بِذَلِكَ فَاتّبِعُوهُ فَإِنّهُ نَبِيّ . وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ رَجُلٌ
مُتَقَوّلٌ . فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ . فَأَقْبَلَ النّضْرُ
بْنُ الْحَارِثِ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ
بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ حَتّى قَدِمَا مَكّةَ عَلَى
قُرَيْشٍ . فَقَالَا : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا
بَيْنِكُمْ وَبَيْنَ مُحَمّدٍ . قَدْ أَخْبَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ
نَسْأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ أَمَرُونَا بِهَا ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ عَنْهَا فَهُوَ
نَبِيّ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرّجُلُ مُتَقَوّلٌ . فَرَوْا فِيهِ رَأْيَكُمْ
. فَجَاءُوا رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالُوا : يَا
مُحَمّدُ أَخْبِرْنَا عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدّهْرِ الْأَوّلِ قَدْ كَانَتْ
لَهُمْ قِصّةٌ عَجَبٌ وَعَنْ رَجُلٍ كَانَ طَوّافًا قَدْ بَلَغَ مَشَارِقَ
الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ، وَأَخْبِرْنَا عَنْ الرّوحِ مَا هِيَ ؟ فَقَالَ لَهُمْ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أُخْبِرُكُمْ بِمَا سَأَلْتُمْ
عَنْهُ غَدًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَانْصَرَفُوا عَنْهُ فَمَكَثَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا يَذْكُرُونَ - خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً
لَا يُحْدِثُ اللّهُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَحْيًا ، وَلَا يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ
حَتّى أَرْجَفَ أَهْلُ مَكّةَ وَقَالُوا : وَعَدَنَا مُحَمّدٌ غَدًا ، وَالْيَوْمُ
خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً . قَدْ أَصْبَحْنَا مِنْهَا لَا يُخْبِرُنَا بِشَيْءِ
مِمّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ وَحَتّى أَحْزَنَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مُكْثُ الْوَحْيِ عَنْهُ وَشَقّ عَلَيْهِ مَا يَتَكَلّمُ بِهِ
أَهْلُ مَكّةَ ، ثُمّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ بِسُورَةِ
أَصْحَابِ الْكَهْفِ ، فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إيّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ
وَخَبَرُ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْفِتْيَةِ وَالرّجُلِ الطّوّافِ
وَالرّوحِ . [ ص 55 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَذُكِرَ لِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِجِبْرِيلَ حِينَ جَاءَهُ لَقَدْ
احْتَبَسْت عَنّي يَا جِبْرِيلُ حَتّى سُؤْت طَنّا ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ {
وَمَا نَتَنَزّلُ إِلّا بِأَمْرِ رَبّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا
خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبّكَ نَسِيّا } [ مَرْيَمَ : 64 ] .
فَافْتَتَحَ السّورَةَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بِحَمْدِهِ وَذِكْرِ نُبُوّةِ
رَسُولِهِ لِمَا أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ { الْحَمْدُ لِلّهِ
الّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } [ الْكَهْفِ : 1 - 26 ] يَعْنِي :
مُحَمّدًا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّك رَسُولٌ مِنّي : أَيْ تَحْقِيقٌ
لِمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ نُبُوّتِك . { وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيّمًا
} أَيْ مُعْتَدِلًا ، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ . { لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ
لَدُنْهُ } أَيْ عَاجِلَ عُقُوبَتِهِ فِي الدّنْيَا ، وَعَذَابًا أَلِيمًا فِي
الْآخِرَةِ مِنْ عِنْدِ رَبّك الّذِي بَعَثَك رَسُولًا . { وَيُبَشّرَ
الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا } أَيْ دَارُ الْخُلْدِ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا الّذِينَ
صَدّقُوك بِمَا جِئْت بِهِ مِمّا كَذّبَك بِهِ غَيْرُهُمْ وَعَمِلُوا بِمَا
أَمَرْتهمْ بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ . { وَيُنْذِرَ الّذِينَ قَالُوا اتّخَذَ
اللّهُ وَلَدًا } يَعْنِي : قُرَيْشًا فِي قَوْلِهِمْ إنّا نَعْبُدُ
الْمَلَائِكَةَ وَهِيَ بَنَاتُ اللّهِ . { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا
لِآبَائِهِمْ } الّذِينَ أَعْظَمُوا فِرَاقَهُمْ وَعَيْبِ دِينِهِمْ . { كَبُرَتْ
كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أَيْ لِقَوْلِهِمْ إنّ الْمَلَائِكَةَ
بَنَاتُ اللّهِ . { إِنْ يَقُولُونَ إِلّا كَذِبًا فَلَعَلّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ }
يَا مُحَمّدٌ { عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا
} أَيْ لِحُزْنِهِ عَلَيْهِمْ حِينَ فَاتَهُ مَا كَانَ يَرْجُو مِنْهُمْ أَيْ لَا
نَفْعَلْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : { بَاخِعٌ نَفْسَكَ } أَيْ مُهْلِكٌ نَفْسَك ،
فِيمَا حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ ذُو الرّمّةِ
أَلَا أَيّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ
لِشَيْءِ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ
[ ص 56 ] وَبَخَعَةٌ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَتَقُولُ
الْعَرَبُ : قَدْ بَخَعْت لَهُ نُصْحِي وَنَفْسِي ، أَيْ جَهَدْت لَهُ . { إِنّا
جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيّهُمْ أَحْسَنُ
عَمَلًا } قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : أَيْ أَيّهُمْ أَتْبَعُ لِأَمْرِي ، وَأَعْمَلُ
بِطَاعَتِي . { وَإِنّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } أَيْ
الْأَرْضَ وَإِنّ مَا عَلَيْهَا لَفَانٍ وَزَائِلٌ وَإِنّ الْمَرْجِعَ إلَيّ
فَأَجْزِي كُلّا بِعَمَلِهِ فَلَا تَأْسَ وَلَا يَحْزُنْك مَا تَسْمَعُ وَتَرَى
فِيهَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الصّعِيدُ : الْأَرْضُ وَجَمْعُهُ صُعُدٌ . قَالَ
ذُو الرّمّةِ يَصِفُ ظَبْيًا صَغِيرًا :
كَأَنّهُ بِالضّحَى تَرْمِي الصّعِيدَ بِهِ
دَبّابَةٌ فِي عِظَامِ الرّأْسِ خُرْطُومٌ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالصّعِيدُ أَيْضًا : الطّرِيقُ . وَقَدْ
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إيّاكُمْ وَالْقُعُودُ عَلَى الصّعَدَاتِ يُرِيدُ الطّرُقَ .
وَالْجُرُزُ الْأَرْضُ الّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا ، وَجَمْعُهَا : أَجْرَازٌ .
وَيُقَالُ سَنَةٌ جُرُزٌ وَسُنُونَ أَجْرَازٌ وَهِيَ الّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا
مَطَرٌ وَتَكُونُ فِيهَا جُدُوبَةٌ وَيُبْسٌ وَشِدّةٌ . قَالَ ذُو الرّمّةِ يَصِفُ
إبِلًا :
طَوَى النّحْزُ وَالْأَجْرَازُ مَا فِي بُطُونِهَا
فَمَا بَقِيَتْ إلّا الضّلُوعُ الْجَرَاشِعُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .Sالْأَسَاطِيرُ وَشَيْءٌ عَنْ
الْفُرْسِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ حَدِيثَ النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَمَا نَزَلَ فِيهِ مِنْ قَوْلِ اللّهِ
تَعَالَى : { قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوّلِينَ } [ ص 53 ] وَقِيلَ أَسَاطِيرُ
جَمْعُ أَسْطَارٍ وَأَسْطَارُ جَمْعٍ : سَطَرٍ بِفَتْحِ الطّاءِ وَأَمّا سَطْرٌ
بِسُكُونِ الطّاءِ فَجَمْعُهُ أَسْطُرٌ وَجَمْعُ الْجَمْعِ أَسَاطِرُ بِغَيْرِ
يَاءٍ وَذَكَرَ أَنّ النّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ كَانَ يُحَدّثُ قُرَيْشًا
بِأَحَادِيثَ رُسْتُمَ وإسفندياذ ، وَمَا تَعَلّمَ فِي بِلَادِ الْفُرْسِ مِنْ
أَخْبَارِهِمْ وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَقَدْ
قِيلَ فِيهِ نَزَلَتْ { وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ } [
الْأَنْعَامِ 93 ] . وَأَمّا أَحَادِيثُ رُسْتُمَ فَفِي تَارِيخِ الطّبَرِيّ أَنّ
رُسْتُمَ بْنَ رِيسَانِ كَانَ يُحَارِبُ كَيْ يستاسب بْنِ كَيْ لهراسب ، بَعْدَمَا
قَتَلَ أَبَاهُ لطراسب ابْنِ كَيْ أَجَوّ . وَكَيْ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ
الْأَسْمَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَهَاءِ وَيُقَالُ عِبَارَةٌ عَنْ إدْرَاكِ الثّأْرِ
وَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ الْكِينِيّةُ مِنْ أَجْلِ هَذَا ، وَكَانَ
رُسْتُمُ الّذِي يُقَالُ لَهُ رُسْتُمُ سَيّدُ بَنِي رِيسَانِ مِنْ مُلُوكِ
التّرْكِ ، وَكَانَ كَيْ يستاسب قَدْ غَضِبَ عَلَى ابْنِهِ فَسَجَنَهُ حَسَدًا
لَهُ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ وَقَائِعِهِ فِي التّرْكِ ، حَتّى صَارَ الذّكْرُ لَهُ
فَعِنْدَهَا ظَهَرَتْ التّرْكُ عَلَى بِلَادِ فَارِسَ ، وَسَبَوْا بِنْتَيْنِ
ليستاسب ، اسْمُ إحْدَاهُمَا : خَمّانَة ، أَوْ نَحْوَ هَذَا ، فَلَمّا رَأَى
يستاسب أَلّا يَدِينَ لَهُ بِقِتَالِهِمْ أَطْلَقَ ابْنَهُ مِنْ السّجْنِ وَهُوَ
إسفندياذ ، وَرَضِيَ عَنْهُ وَوَلّاهُ أَمْرَ الْجُيُوشِ فَنَهَدَ إلَى رُسْتُمَ
وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا مَلَاحِمُ يَطُولُ ذِكْرُهَا ، لَكِنّهُ قَتَلَ رُسْتُمَ
وَاسْتَبَاحَ عَسَاكِرَهُ وَدَوّخَ فِي بِلَادِ التّرْكِ ، وَاسْتَخْرَجَ أُخْتَيْهِ
مِنْ أَيْدِيهِمْ ثُمّ مَاتَ إسفندياذ قَبْلَ أَبِيهِ وَكَانَ مُلْكُ أَبِيهِ
نَحْوًا مِنْ مِائَةِ عَامٍ ثُمّ عَهِدَ إلَى بهمن بْنِ إسفندياذ ، فَوَلّاهُ
الْأَمْرَ بَعْدَ مَوْتِهِ وبهمن بِلُغَتِهِمْ الْحَسَنُ النّيّةُ وَدَامَ
مُلْكُهُ نَيّفًا عَلَى مِائَةِ عَامٍ وَكَانَ لَهُ ابْنَانِ سَاسَانِ وَدَارَا ،
وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي أَوّلِ الْكِتَابِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ سَاسَانِ
وَبَنِيهِ وَهُمْ السّاسَانِيّةُ الّذِينَ قَامَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامُ
وَرُسْتُمُ آخِرُ مَذْكُورٍ أَيْضًا قَبْلَ هَذَا [ ص 54 ] وَكَانَ قَبْلَ عَهْدِ
سُلَيْمَانَ ، ثُمّ كَانَ رُسْتُمُ وَزِيرًا بَعْدَ كَيْ قباذ لِابْنِهِ كَيْ
قاووس ، وَكَانَتْ الْجِنّ قَدْ سُخّرَتْ لَهُ . يُقَالُ إنّ سُلَيْمَانَ
أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ فَبَلَغَ مُلْكُهُ مِنْ الْعَجَائِبِ مَا لَا يَكَادُ أَنْ
يُصَدّقَهُ ذَوُو الْعُقُولِ لِخُرُوجِهَا عَنْ الْمُعْتَادِ لَكِنّ مُحَمّدَ بْنَ
جَرِيرٍ الطّبَرِيّ ذَكَرَ مِنْهَا أَخْبَارًا عَجِيبَةً . وَذَكَرَ أَنّهُ هَمّ
بِمَا هَمّ بِهِ نمروذ مِنْ الصّعُودِ إلَى السّمَاءِ فَطَرَحَتْهُ الرّيحُ
وَضَعْضَعَتْ أَرْكَانَهُ وَهَدَمَتْ بُنْيَانَهُ ثُمّ ثَابَ إلَيْهِ بَعْضُ
جُنُودِهِ فَصَارَ كَسَائِرِ الْمُلُوكِ يَغْلِبُ تَارَةً وَيُغْلَبُ بِخِلَافِ
مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَسَارَ بِجُنُودِهِ إلَى الْيَمَنِ فَنَهَدَ إلَيْهِ
عَمْرُو ذُو الْأَذْعَارِ فَهَزَمَهُ عَمْرٌو ، وَأَخَذَهُ أَسِيرًا ، وَحَبَسَهُ
فِي مَحْبِسٍ حَتّى جَاءَ رُسْتُمُ وَكَانَ صَاحِبَ أَمْرِهِ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ
عَمْرٍو ، إمّا بِطَوْعِ وَإِمّا بِإِكْرَاهِ وَرَدّهُ إلَى بِلَادِ فَارِسَ .
وَلِابْنِهِ شاوخش مَعَ قراسيات مَلِكِ التّرْكِ خَبَرٌ عَجِيبٌ وَكَانَ رُسْتُمُ
هُوَ الْقَيّمُ عَلَى شاوخش وَالْكَافِلُ لَهُ فِي [ ص 55 ] وَكَانَ آخِرُ أَمْرِ
شاوخش بَعْدُ عَجَائِبَ أَنْ قَتَلَهُ قراسيات ، وَقَامَ ابْنُهُ كَيْ خُسْرُو
يَطْلُبُ بِثَأْرِهِ فَدَارَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التّرْكِ وَقَائِعُ لَمْ
يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا ، وَكَانَ الظّفَرُ لَهُ فَلَمّا ظَفِرُوا رَأَى أَمَلَهُ
فِي أَعْدَائِهِ مَا مَلَأَ عَيْنَهُ قُرّةً وَقَلْبَهُ سُرُورًا زَهِدَ فِي
الدّنْيَا ، وَأَرَادَ السّيَاحَةَ فِي الْأَرْضِ فَتَعَاتّ بِهِ أَبْنَاءُ
فَارِسَ ، وَحَذّرَتْهُ مِنْ شَتَاتِ الشّمْلِ بَعْدَهُ وَشَمَاتَةِ الْعَدُوّ
فَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ كَيْ لهراسب ، بْنِ كَيْ اجو ، بْنِ كَيْ كِينَةَ بْنِ
كَيْ قاووس الْمُتَقَدّمُ ذِكْرُهُ وَلَا أَدْرِي : هَلْ رُسْتُمُ الّذِي قَتَلَهُ
إسفندياذ هُوَ رُسْتُمُ صَاحِبُ كَيْ قاووس ، أَمْ غَيْرُهُ وَالظّاهِرُ أَنّهُ
لَيْسَ بِهِ لِأَنّ مُدّةَ مَا بَيْنَ كَيْ قاووس وَكَيْ يستاسب بَعِيدَةٌ جِدّا ،
وَأَحْسَبُهُ كَمَا قَدّمْنَا أَنّهُ كَانَ مِنْ التّرْكِ ، وَهَذَا كُلّهُ كَانَ
فِي مُدّةِ الْكِينِيّةِ وَعِنْدَ اشْتِغَالِهِمْ بِقِتَالِ التّرْكِ
اسْتَعْمَلُوا بُخْتَنَصّرَ الْبَابِلِيّ عَلَى الْعِرَاقِ ، فَكَانَ مِنْ
أُمُورِهِ مَعَ بَنِي إسْرَائِيلَ و َإِثْخَانِهِ فِيهِمْ وَهَدْمِهِ لِبَيْتِ
الْمَقْدِسِ وَإِحْرَاقِهِ لِلتّوْرَاةِ وَقَتْلِهِ لِأَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ
وَاسْتِرْقَاقِهِ لِنِسَاءِ [ ص 56 ] بِلَادِ الْعَرَبِ حِينَ جَاسَ خِلَالَ دِيَارِهِمْ
مَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ التّفَاسِيرِ وَمَعْلُومٌ عِنْدَ أَصْحَابِ
التّوَارِيخِ . فَهَذِهِ جُمْلَةُ مُخْتَصَرَةٍ تَشْرَحُ لَك مَا وَقَعَ فِي
كِتَابِ ابْنِ إسْحَاقَ مِنْ ذِكْرِ رُسْتُمَ وإسفندياذ ، وَكَانَتْ الْكِينِيّةُ
قَبْلَ مُدّةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، أَوّلُهُمْ فِي عَهْدِ أفريدون قَبْلَ
مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ بِمِئِينَ مِنْ السّنِينَ وَآخِرُهُمْ فِي مُدّةِ
الْإِسْكَنْدَرِ بْنِ قَلِيسٍ وَالْإِسْكَنْدَرُ هُوَ الّذِي سَلَبَ مُلْكَهُمْ
وَقَتَلَ دَارَا بْنَ دَارَا ، وَهُوَ آخِرُهُمْ ثُمّ كَانَتْ الْأَشْغَانِيّةُ
مَعَ مُلُوكِ الطّوَائِفِ أَرْبَعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ عَامًا ، وَقِيلَ أَقَلّ
مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الطّبَرِيّ ، وَقَوْلُ الْمَسْعُودِيّ : خَمْسِمِائَةٍ
وَعَشْرِ سِنِينَ فِي خِلَالِ أَمْرِهِمْ بَعَثَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، ثُمّ كَانَتْ
السّاسَانِيّةُ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ مُلْكًا حَتّى قَامَ الْإِسْلَامُ فَفَضّ
خِدْمَتَهُمْ . وَخَضّدَ شَوْكَتَهُمْ وَهَدَمَ هَيَاكِلَهُمْ وَأَطْفَأَ
نِيرَانَهُمْ الّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ وَذَلِكَ كُلّهُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ .
عَنْ سُورَتَيْ الْكَهْفِ وَالْفُرْقَانِ - سَبَبُ نُزُولِ الْكَهْفِ
فَصْلٌ
[ ص 57 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ إرْسَالَ قُرَيْشٍ النّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ
وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إلَى يَهُودَ وَمَا رَجَعَا بِهِ مِنْ عِنْدِهِمْ
مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَسَأَلُوهُ عَنْ الْأُمُورِ الثّلَاثَةِ الّتِي قَالَتْ الْيَهُودُ : إنْ
أَخْبَرَكُمْ بِهَا فَهُوَ نَبِيّ وَإِلّا فَهُوَ مُتَقَوّلٌ فَقَالَ لَهُمْ
سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا ، وَلَمْ يَقُلْ إنْ شَاءَ اللّهُ فَأَبْطَأَ عَنْهُ
الْوَحْيُ فِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَفِي سِيَرِ
التّيْمِيّ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنّ الْوَحْيَ إنّمَا أَبْطَأَ عَنْهُ
ثَلَاثَةَ أَيّامٍ ثُمّ جَاءَ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ الْكَهْفِ .
لِمَ قَدّمَ الْحَمْدَ عَلَى الْكِتَابِ ؟
وَذَكَرَ افْتِتَاحَ الرّبّ سُبْحَانَهُ بِحَمْدِ نَفْسِهِ وَذَكَرَ نُبُوّةَ
نَبِيّهِ حَمْدُهُ لِنَفْسِهِ تَعَالَى خَبَرٌ بَاطِنُهُ الْأَمْرُ وَالتّعْلِيمُ
لِعَبْدِهِ كَيْفَ يَحْمَدُهُ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَاقْتَضَتْ الْحَالُ الْوُقُوفَ
عَنْ تَسْمِيَتِهِ وَالْعِبَارَاتُ عَنْ جَلَالِهِ لِقُصُورِ كُلّ عِبَارَةٍ عَمّا
هُنَالِكَ مِنْ الْجَلَالِ وَأَوْصَافِ الْكَمَالِ وَلَمَا كَانَ الْحَمْدُ
وَاجِبًا عَلَى الْعَبْدِ قُدّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِيَقْتَرِنَ فِي اللّفْظِ
بِالْحَمْدِ الّذِي هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَلِيَسْتَشْعِرَ الْعَبْدُ وُجُوبَ
الْحَمْدِ عَلَيْهِ وَفِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ قَالَ { تَبَارَكَ الّذِي نَزّلَ
الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } وَبَدَأَ بِذِكْرِ الْفُرْقَانِ الّذِي هُوَ
الْكِتَابُ الْمُبَارَكُ . قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَهَذَا كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } فَلَمّا افْتَتَحَ السّورَةَ ب " تَبَارَكَ الّذِي
" ، بَدَأَ بِذِكْرِ الْفُرْقَانِ وَهُوَ الْكِتَابُ الْمُبَارَكُ ثُمّ قَالَ
{ عَلَى عَبْدِهِ } فَانْظُرْ إلَى تَقْدِيمِ ذِكْرِ عَبْدِهِ عَلَى الْكِتَابِ
وَتَقْدِيمِ ذِكْرِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ ، وَمَا فِي
ذَلِكَ مِنْ تَشَاكُلِ اللّفْظِ وَالْتِئَامِ الْكَلَامِ نَرَى الْإِعْجَازَ
ظَاهِرًا ، وَالْحِكْمَةَ بَاهِرَةً وَالْبُرْهَانَ وَاضِحًا ، وَأَنْشَدَ لِذِي
الرّمّةِ . [ ص 58 ]
شَرْحُ شَوَاهِدَ شِعْرِيّةٍ
كَأَنّهُ بِالضّحَى تَرْمِي الصّعِيدَ بِهِ
دَبّابَةٌ فِي عِظَامِ الرّأْسِ خُرْطُومُ
يَصِفُ وَلَدَ الظّبْيَةِ : وَالْخُرْطُومُ : مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ أَيْ
كَأَنّهُ مِنْ نَشَاطِهِ دَبّتْ الْخَمْرُ فِي رَأْسِهِ . وَأَنْشَدَ لَهُ أَيْضًا
: طَوَى النّحْزُ وَالْأَجْرَازُ . الْبَيْتَ . وَالنّحْزُ النّخْسُ وَالنّحَازُ
دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ وَالنّحِيزَةُ الْغَرِيزَةُ وَالنّحِيزَةُ نَسِيجَةٌ
كَالْحِزَامِ وَالضّلُوعُ الْجَرَاشِعُ . هُوَ جَمْعُ جُرْشُعٍ . قَالَ صَاحِبُ
الْعَيْنِ . الْجُرْشُعُ الْعَظِيمُ الصّدْرُ فَمَعْنَاهُ إذًا فِي الْبَيْتِ عَلَى
هَذَا : الضّلُوعُ مِنْ الْهُزَالِ قَدْ نَتَأَتْ وَبَرَزَتْ كَالصّدْرِ
الْبَارِزِ .
حَوْلُ سُورَةِ الْكَهْفِ
[ ص 57 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ اسْتَقْبَلَ قِصّةَ الْخَبَرِ فِيمَا
سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ شَأْنِ الْفِتْيَةِ فَقَالَ { أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحَابَ
الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } [ ص 58 ] كَانَ مِنْ
آيَاتِي فِيمَا وَضَعْت عَلَى الْعِبَادِ مِنْ حُجَجِي مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ
ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَالرّقِيمُ : الْكِتَابُ الّذِي رُقِمَ فِيهِ
بِخَبَرِهِمْ وَجَمْعُهُ رُقُمٌ . قَالَ الْعَجّاجُ وَمُسْتَقَرّ الْمُصْحَفِ
الْمُرَقّمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . [ ص 59 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ
قَالَ تَعَالَى : { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبّنَا
آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا
عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ
أَيّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا } ثُمّ قَالَ تَعَالَى : {
نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقّ } أَيْ بِصِدْقِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ
. { إِنّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبّنَا رَبّ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ
نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } أَيْ لَمْ يُشْرِكُوا
بِي كَمَا أَشْرَكْتُمْ بِي مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: وَالشّطَطُ الْغُلُوّ وَمُجَاوَزَةُ الْحَقّ . قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ :
لَا يَنْتَهُونَ وَلَا يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ ... كَالطّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ
الزّيْتُ وَالْفُتُلُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . { هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيّنٍ } . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : أَيْ بِحُجّةِ بَالِغَةٍ . [ ص 60 ] { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى
عَلَى اللّهِ كَذِبًا وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلّا اللّهَ
فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيّئْ
لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا وَتَرَى الشّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ
كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ
وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ } [ ص 61 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَزَاوَرُ تَمِيلُ
وَهُوَ مِنْ الزّوَرِ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حَجَرٍ
وَإِنّي زَعِيمٌ إنْ رَجَعْت مُمَلّكًا ... بِسَيْرِ تَرَى مِنْهُ الْفُرَانِقَ
أَزْوَرَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ أَبُو الزّحْفِ الْكُلَيْبِيّ
يَصِفُ بَلَدًا :
جَأْبُ الْمُنَدّى عَنْ هَوَانَا أَزْوَرُ ... يُنْضِي الْمَطَايَا خِمْسُهُ
الْعَشَنْزَرُ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . و تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ
تُجَاوِزُهُمْ وَتَتْرُكُهُمْ عَنْ شِمَالِهَا . قَالَ ذُو الرّمّةِ
إلَى ظُعُنٍ يُقْرِضْنَ أَفْوَازَ مُشْرِفٍ ... شِمَالًا وَعَنْ أَيْمَانِهِنّ
الْفَوَارِسُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْفَجْوَةُ السّعَةُ وَجَمْعُهَا :
الْفِجَاءُ قَالَ الشّاعِرُ
أَلْبَسْت قَوْمَك مَخْزَاةً وَمَنْقَصَةً ... حَتّى أُبِيحُوا ، وَخَلّوْا
فَجْوَةَ الدّارِ
{ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ } أَيْ فِي الْحُجّةِ عَلَى مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ
أُمُورِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمّنْ أَمَرَ هَؤُلَاءِ بِمَسْأَلَتِك
عَنْهُمْ فِي صِدْقِ نُبُوّتِك بِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ . { مَنْ يَهْدِ
اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُرْشِدًا
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ
وَذَاتَ الشّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : الْوَصِيدُ الْبَابُ . قَالَ الْعَبْسِيّ ، وَاسْمُهُ عُبَيْدُ بْنُ
وَهْبٍ
بِأَرْضِ فَلَاةٍ لَا يُسَدّ وَصِيدُهَا ... عَلَيّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ
مُنْكَرِ
[ ص 62 ] وَصَائِدُ وَوُصُدٌ وَوُصْدَانٌ وَأُصُدٌ وَأُصْدَانٌ .Sالرّقِيمُ وَأَهْلُ
الْكَهْفِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ الرّقِيمَ وَفِيهِ سِوَى مَا قَالَهُ أَقْوَالٌ . رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ
أَنّهُ قَالَ الرّقِيمُ : الْكَلْبُ وَعَنْ كَعْبٍ أَنّهُ قَالَ هُوَ اسْمُ
الْقَرْيَةِ الّتِي خَرَجُوا مِنْهَا ، وَقِيلَ هُوَ اسْمُ الْوَادِي وَقِيلَ هُوَ
صَخْرَةٌ وَيُقَالُ لَوْحٌ كُتِبَ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَدِينُهُمْ وَقِصّتُهُمْ
وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : كُلّ الْقُرْآنِ أَعْلَمُ إلّا الرّقِيمَ وَالْغِسْلِينَ
وَحَنَانًا وَالْأَوّاهَ وَقَدْ ذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهُمْ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي
بَعْضِ أَلْفَاظِهَا وَهِيَ مَلِيخًا ، كسليما ، مرطوش بْنِ أَنَسٍ أريطانس ،
أَيُونُسُ شاطيطوش . وَقِيلَ فِي اسْمِ مَدِينَتِهِمْ أفوس ، وَاخْتُلِفَ فِي
بَقَائِهِمْ إلَى الْآنِ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ أَنْكَرَ أَنْ
يَكُونَ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُمْ بَلْ صَارُوا تُرَابًا قَبْلَ مَبْعَثِ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْأَخْبَارِ غَيْرَ
هَذَا ، وَأَنّ الْأَرْضَ لَمْ تَأْكُلْهُمْ وَلَمْ تُغَيّرْهُمْ وَأَنّهُمْ عَلَى
مَقْرُبَةٍ مِنْ القسطنطينية ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ . رُوِيَ [ ص 59 ] الْبَيْتَ
إذَا نَزَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ . أَلْفَيْت هَذَا الْخَبَرَ فِي كِتَابِ
الْبَدْءِ لِابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ .
إعْرَابُ أَحْصَى
وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى : { لِنَعْلَمَ أَيّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا
لَبِثُوا أَمَدًا } [ الْكَهْفِ : 12 ] قَدْ أَمْلَيْنَا فِي إعْرَابِ هَذِهِ
الْآيَةِ نَحْوًا مِنْ كُرّاسَةٍ وَذَكَرْنَا مَا وَهَمَ فِيهِ الزّجّاجُ مِنْ
إعْرَابِهَا ؛ حَيْثُ جَعَلَ أَحْصَى اسْمًا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى خَبَرِ
الْمُبْتَدَأِ وَأَمَدًا : تَمْيِيزٌ وَهَذَا لَا يَصِحّ ؛ لِأَنّ التّمْيِيزَ
هُوَ الْفَاعِلُ فِي الْمَعْنَى ، فَإِذَا قُلْت : أَيّهُمْ أَعْلَمُ أَبًا ،
فَالْأَبُ هُوَ الْعَالِمُ وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت أَيّهُمْ أَفْرَهُ عَبْدًا ،
فَالْعَبْدُ هُوَ الْفَارِهُ فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ إذًا أَنْ يَكُونَ
الْأَمَدُ فَاعِلًا بِالْإِحْصَاءِ وَهَذَا مُحَالٌ بَلْ هُوَ مَفْعُولٌ وَأَحْصَى
: فِعْلٌ مَاضٍ وَهُوَ النّاصِبُ لَهُ وَذَكَرْنَا فِي ذَلِكَ الْإِمْلَاءِ أَنّ
أَيّهمْ قَدْ يَجُوزُ فِيهِ النّصْبُ بِمَا قَبْلَهُ إذَا جَعَلْته خَبَرًا ،
وَذَلِكَ عَلَى شُرُوطٍ بَيّنّاهَا هُنَالِكَ لِمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى
حَقِيقَتِهَا ، أَيْ وَمَوَاضِعَهَا ، وَكَشَفْنَا أَسْرَارَهَا .
عَنْ الضّرْبِ وَتَزَاوُرِ الشّمْسِ وَفَائِدَةِ الْقِصّةِ
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ } أَيْ أَنِمْنَاهُمْ وَإِنّمَا
قِيلَ فِي النّائِمِ ضُرِبَ عَلَى [ ص 60 ] النّائِمَ يَنْتَبِهُ مِنْ جِهَةِ
السّمْعِ وَالضّرْبُ هُنَا مُسْتَعَارٌ مِنْ ضَرَبْت الْقُفْلَ عَلَى الْبَابِ
وَذَكَرَ قَوْلَهُ تَعَالَى : { تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ }
الْآيَةَ . وَقِيلَ فِي تَقْرِضُهُمْ تُحَاذِيهِمْ وَقِيلَ تَتَجَاوَزُهُمْ
شَيْئًا فَشَيْئًا مِنْ الْقَرْضِ وَهُوَ الْقَطْعُ أَيْ تَقْطَعُ مَا هُنَالِكَ
مِنْ الْأَرْضِ وَهَذَا كُلّهُ شَرْحُ اللّفْظِ وَأَمّا فَائِدَةُ الْمَعْنَى ،
فَإِنّهُ بَيّنٌ أَنّهُمْ فِي مَقْنُوَةٍ مِنْ الْأَرْضِ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ
الشّمْسُ فَتُحْرِقُهُمْ وَتُبْلِي ثِيَابَهُمْ وَيُقَلّبُونَ ذَاتَ الْيَمِينِ
وَذَاتَ الشّمَالِ . لِئَلّا تَأْكُلَهُمْ الْأَرْضُ وَالْفَائِدَةُ الْعُظْمَى
فِي هَذِهِ الصّفَةِ بَيَانُ كَيْفِيّةِ حَالِهِمْ فِي الْكَهْفِ ، وَحَالِ
كَلْبِهِمْ وَأَيْنَ هُوَ مِنْ الْكَهْفِ ، وَأَنّهُ بِالْوَصِيدِ مِنْهُ وَأَنّ
بَابَ الْكَهْفِ إلَى جِهَةِ الشّمَالِ لِلْحِكْمَةِ الّتِي تَقَدّمَتْ وَأَنّ
هَذَا الْبَيَانَ لَا يَكَادُ يَعْرِفُهُ مَنْ رَآهُمْ فَإِنّ الْمُطَلّعَ
عَلَيْهِمْ يُمْلَأُ مِنْهُمْ رُعْبًا ، فَلَا يُمْكِنُهُ تَأَمّلُ هَذِهِ
الدّقَائِقِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَالنّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمْ يَرَهُمْ قَطّ
، وَلَا سَمِعَ بِهِمْ وَلَا قَرَأَ كِتَابًا فِيهِ صِفَتُهُمْ لِأَنّهُ أُمّيّ
فِي أُمّةٍ أُمَيّةٍ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِبَيَانِ لَا يَأْتِي بِهِ مَنْ وَصَلَ
إلَيْهِمْ حَتّى إنّ كَلْبَهُمْ قَدْ ذُكِرَ وَذُكِرَ مَوْضِعُهُ وَبَسْطُهُ
ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ وَهُمْ فِي الْفَجْوَةِ وَفِي هَذَا كُلّهِ بُرْهَانٌ
عَظِيمٌ عَلَى نُبُوّتِهِ وَدَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى صِدْقِهِ وَأَنّهُ غَيْرُ
مُتَقَوّلٍ كَمَا زَعَمُوا ، فَقِفْ بِقَلْبِك عَلَى مَضْمُونِ هَذِهِ
الْأَوْصَافِ وَالْمُرَادُ بِهَا تُعْصَمْ إنْ شَاءَ اللّهُ مِمّا وَقَعَتْ فِيهِ
الْمُلْحِدَةُ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللّهِ
وَقَوْلِهِمْ أَيّ فَائِدَةٍ فِي أَنْ تَكُونَ الشّمْسُ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ
وَهَكَذَا هُوَ كُلّ بَيْتٍ يَكُونُ فِي مَقْنُوَةٍ أَيْ بَابُهُ لِجِهَةِ
الشّمَالِ فَنَبّهَ أَهْلُ الْمَعَانِي عَلَى الْفَائِدَةِ الْأُولَى
الْمُنْبِئَةِ عَنْ لُطْفِ اللّهِ بِهِمْ حَيْثُ جَعَلَهُمْ فِي مَقْنُوَةٍ
تَزَاوَرُ عَنْهُمْ الشّمْسُ فَلَا تُؤْذِيهِمْ فَقَالَ لِمَنْ اقْتَصَرَ مِنْ
أَهْلِ التّأْوِيلِ عَلَى هَذَا : فَمَا فِي ذِكْرِ الْكَلْبِ وَبَسْطِ
ذِرَاعَيْهِ مِنْ الْفَائِدَةِ وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى اللّطْفِ بِهِمْ ؟
فَالْجَوَابُ مَا قَدّمْنَاهُ مِنْ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَتْرُكْ مِنْ
بَيَانِ حَالِهِمْ شَيْئًا ، حَتّى ذَكَرَ حَالَ كَلْبِهِمْ مَعَ أَنّ
تَأَمّلَهُمْ مُتَعَذّرٌ عَلَى مَنْ اطّلَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ الرّعْبِ
فَكَيْفَ مَنْ لَمْ يَرَهُمْ وَلَا سَمِعَ بِهِمْ لَوْلَا الْوَحْيُ الّذِي
جَاءَهُ مِنْ اللّهِ سُبْحَانَهُ بِالْبَيَانِ الْوَاضِحِ الشّافِي ،
وَالْبُرْهَانِ الْكَافِي ، وَالرّعْبِ الّذِي كَانَ يَلْحَقُ الْمُطَلّعَ
عَلَيْهِمْ قِيلَ كَانَ مِمّا طَالَتْ شُعُورُهُمْ وَأَظْفَارُهُمْ . وَمِنْ
الْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي فَجْوَةٍ [ ص 61 ]
فَضَاءٍ وَمَعَ أَنّهُمْ فِي فَضَاءٍ مِنْهُ فَلَا تُصِيبُهُمْ الشّمْسُ . قَالَ
ابْنُ سَلّامٍ فَهَذِهِ آيَةٌ . قَالَ وَكَانُوا يُقَلّبُونَ فِي السّعَةِ
مَرّتَيْنِ وَمِنْ فَوَائِدِ الْآيَةِ أَنّهُ أَخْرَجَ الْكَلْبَ عَنْ التّقْلِيبِ
فَقَالَ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ وَمَعَ أَنّهُ كَانَ لَا يُقَلّبُ لَمْ تَأْكُلْهُ
الْأَرْضُ لِأَنّ التّقْلِيبَ كَانَ مِنْ فِعْلِ الْمَلَائِكَةِ بِهِمْ
وَالْمَلَائِكَةُ أَوْلِيَاءُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي
الْآخِرَةِ وَالْكَلْبُ خَارِجٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ . أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ
قَالَ بِالْوَصِيدِ أَيْ بِفَنَاءِ الْغَارِ لَا دَاخِلًا مَعَهُمْ لِأَنّ
الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ فَهَذِهِ فَوَائِدُ جُمّةٌ قَدْ
اشْتَمَلَ عَلَيْهَا هَذَا الْكَلَامُ . قَالَ ابْنُ سَلّامٍ وَإِنّمَا كَانُوا
يُقَلّبُونَ فِي الرّقْدَةِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يُبْعَثُوا .
{ لَوِ اطّلَعْتَ عَلَيْهِمْ
لَوَلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } إلَى قَوْلِهِ {
قَالَ الّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ } أَهْلُ السّلْطَانِ وَالْمُلْكِ
مِنْهُمْ { لَنَتّخِذَنّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } [ ص 62 ]Sالْمُتَنَازِعُونَ
فِي أَمْرِهِمْ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ { قَالَ الّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ
لَنَتّخِذَنّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } [ الْكَهْفِ : 21 ] وَقَالَ يَعْنِي
أَصْحَابَ السّلْطَانِ فَاسْتَدَلّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنّهُمْ
كَانُوا مُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ { لَنَتّخِذَنّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } . وَذَكَرَ
الطّبَرِيّ أَنّ أَهْلَ تِلْكَ الْمَدِينَةِ تَنَازَعُوا قَبْلَ مَبْعَثِهِمْ فِي
الْأَجْسَادِ وَالْأَرْوَاحِ . كَيْفَ تَكُونُ إعَادَتُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَقَالَ قَوْمٌ تُعَادُ الْأَجْسَادُ كَمَا كَانَتْ بِأَرْوَاحِهَا ، كَمَا
يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ وَقَالُوا : تُبْعَثُ
الْأَرْوَاحُ دُونَ الْأَجْسَادِ كَمَا يَقُولُهُ النّصَارَى ، وَشَرِيَ بَيْنَهُمْ
الشّرّ ، وَاشْتَدّ الْخِلَافُ وَاشْتَدّ عَلَى مَلِكِهِمْ مَا نَزَلَ بِقَوْمِهِ
مِنْ ذَلِكَ فَلَبِسَ الْمُسُوحَ وَافْتَرَشَ الرّمَادَ وَأَقْبَلَ عَلَى
الْبُكَاءِ وَالتّضَرّعِ إلَى اللّهِ أَنْ يُرِيَهُ الْفَصْلَ فِيمَا اخْتَلَفُوا
فِيهِ فَأَحْيَا اللّهُ أَصْحَابَ الْكَهْفِ عِنْدَ ذَلِكَ فَكَانَ مِنْ
حَدِيثِهِمْ مَا عُرِفَ وَشُهِرَ فَقَالَ الْمَلِكُ لِقَوْمِهِ هَذِهِ آيَةٌ
أَظْهَرَهَا اللّهُ لَكُمْ لِتَتّفِقُوا ، وَتَعْلَمُوا أَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ
كَمَا أَحْيَا هَؤُلَاءِ وَأَعَادَ أَرْوَاحَهُمْ إلَى أَجْسَادِهِمْ فَكَذَلِكَ
يُعِيدُ الْخَلْقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا بَدَأَهُمْ فَرَجَعَ الْكُلّ إلَى
مَا قَالَهُ الْمَلِكُ وَعَلِمُوا أَنّهُ الْحَقّ .
{ سَيَقُولُونَ } يَعْنِي :
أَحْبَارَ يَهُودَ الّذِينَ أَمَرُوهُمْ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْهُمْ { ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ
كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ }
أَيْ لَا عِلْمَ لَهُمْ { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ
رَبّي أَعْلَمُ بِعِدّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ
فِيهِمْ إِلّا مِرَاءً ظَاهِرًا } أَيْ لَا [ ص 63 ] { وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ
مِنْهُمْ أَحَدًا } فَإِنّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِمْ .Sعَنْ وَاوِ
الثّمَانِيَةِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ
كَلْبُهُمْ } قَدْ أَفْرَدْنَا لِلْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْوَاوِ الّتِي
يُسَمّيهَا بَعْضُ النّاسِ وَاوَ الثّمَانِيَةِ بَابًا طَوِيلًا ، وَاَلّذِي
يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ تَعْلَمَ أَنّ هَذِهِ الْوَاوَ تَدُلّ عَلَى
تَصْدِيقِ الْقَائِلِينَ لِأَنّهَا عَاطِفَةٌ عَلَى كَلَامٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ
نَعَمْ [ ص 63 ] قَائِلًا لَوْ قَالَ إنّ زَيْدًا شَاعِرٌ فَقُلْت لَهُ وَفَقِيهٌ
كُنْت قَدْ صَدّقْته ، كَأَنّك قُلْت : نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ وَفَقِيهٌ أَيْضًا ،
وَفِي الْحَدِيثِ سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَيُتَوَضّأُ بِمَا أَفْضَلَتْ الْخَمْرُ فَقَالَ وَبِمَا أَفْضَلَتْ السّبَاعُ .
يُرِيدُ نَعَمْ وَبِمَا أَفْضَلَتْ السّبَاعُ . خَرّجَهُ الدّارَقُطْنِيّ . وَفِي
التّنْزِيلِ { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ } [ الْبَقَرَةِ 126 ] هُوَ مِنْ هَذَا
الْبَابِ . فَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَهُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ { وَيَقُولُونَ
سَبْعَةٌ } فَقَالَ سُبْحَانَهُ { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } وَلَيْسَ كَذَلِكَ
سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ وَرَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ لِأَنّهُ فِي مَوْضِعِ النّعْتِ
لِمَا قَبْلَهُ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { رَجْمًا بِالْغَيْبِ
} وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْقِصّةِ .
{ وَلَا تَقُولَنّ لِشَيْءٍ
إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ وَاذْكُرْ رَبّكَ إِذَا
نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا }
أَيْ وَلَا تَقُولَن لِشَيْءِ سَأَلُوك عَنْهُ كَمَا قُلْت فِي هَذَا : إنّي
مُخْبِرُكُمْ غَدًا . [ ص 64 ] مَشِيئَةَ اللّهِ { وَاذْكُرْ رَبّكَ إِذَا نَسِيتَ
وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبّي } لِخَيْرِ مِمّا سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ
رَشَدًا ، فَإِنّك لَا تَدْرِي مَا أَنَا صَانِعٌ فِي ذَلِكَ .Sآيَةُ
الِاسْتِثْنَاءِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقُولَنّ لِشَيْءٍ } وَفَسّرَهُ
فَقَالَ أَيْ اسْتَثْنِ شِيئَةَ اللّهِ . الشّيئَةُ مَصْدَرُ شَاءَ يَشَاءُ كَمَا
أَنّ الْخِيفَةَ مَصْدَرُ خَافَ يَخَافُ وَلَكِنّ هَذَا التّفْسِيرَ وَإِنْ كَانَ
صَحِيحَ الْمَعْنَى ، فَلَفْظُ الْآيَةِ مُشْكِلٌ جِدّا ؛ لِأَنّ قَوْلَهُ { وَلَا
تَقُولَنّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا } [ الْكَهْفِ : 23 ] نَهَى عَنْ
أَنْ يَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ أَنْ يَصِلَهُ بِإِلّا أَنْ
يَشَاءَ اللّهُ فَيَكُونُ الْعَبْدُ الْمَنْهِيّ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ مَنْهِيّا
أَيْضًا عَنْ أَنْ يَصِلَهُ بِقَوْلِهِ { إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ } هَذَا
مُحَالٌ فَقَوْلُهُ إذًا : { إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ } اسْتِثْنَاءٌ مِنْ
اللّهِ رَاجِعٌ إلَى أَوّلِ الْكَلَامِ وَهَذَا أَيْضًا إذَا تَأَمّلْته نَقْضٌ
لِعَزِيمَةِ النّهْيِ وَإِبْطَالٌ لِحُكْمِهِ فَإِنّ السّيّدَ إذَا قَالَ
لِعَبْدِهِ لَا تَقُمْ إلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ أَنْ تَقُومَ فَقَدْ حَلّ
عُقْدَةَ النّهْيِ لِأَنّ مَشِيئَةَ اللّهِ لِلْفِعْلِ لَا تُعْلَمُ إلّا
بِالْفِعْلِ فَلِلْعَبْدِ إذًا أَنْ يَقُومَ وَيَقُولَ قَدْ شَاءَ اللّهُ أَنْ
نَقُومَ فَلَا يَكُونُ لِلنّهْيِ مَعْنًى عَلَى هَذَا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ رَدّ
حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى النّهْيِ وَلَا هُوَ مِنْ الْكَلَامِ الّذِي نَهَى
الْعَبْدَ عَنْهُ فَقَدْ تَبَيّنَ إشْكَالُهُ وَالْجَوَابُ أَنّ فِي الْكَلَامِ
حَذْفًا وَإِضْمَارًا تَقْدِيرُهُ وَلَا تَقُولَن : إنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا
إلّا ذَاكِرًا إلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ ، أَوْ نَاطِقًا بِأَنْ يَشَاءَ اللّهُ
وَمَعْنَاهُ إلّا ذَاكِرًا شِيئَةَ اللّهِ كَمَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ ؛ لِأَنّ
الشّيئَةَ مَصْدَرٌ وَأَنْ مَعَ الْفِعْلِ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ وَإِعْرَابُ
ذَلِكَ الْمَصْدَرِ مَفْعُولٌ بِالْقَوْلِ الْمُضْمَرِ وَالْعَرَبُ تَحْذِفُ
الْقَوْلَ وَتَكْتَفِي بِالْمَقُولِ فَفِي التّنْزِيلِ { فَأَمّا الّذِينَ
اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ } [ آلِ عِمْرَانَ : 106 ] أَيْ يُقَالُ
لَهُمْ أَكَفَرْتُمْ فَحُذِفَ الْقَوْلُ وَبَقِيَ الْكَلَامُ الْمَقُولُ
وَكَذَلِكَ [ ص 64 ] { يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ
} [ الرّعْدِ 24 ] أَيْ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَهُوَ كَثِيرٌ وَكَذَلِكَ
إذًا قَوْلُهُ إلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ هِيَ مِنْ كَلَامِ النّاهِي لَهُ
سُبْحَانَهُ ثُمّ أَضْمَرَ الْقَوْلَ وَهُوَ الذّكْرُ الّذِي قَدّمْنَاهُ وَبَقِيَ
الْمَقُولُ وَهُوَ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي هَذَا
الْمَقَامِ وَإِنْ كَانَ فِي الْآيَةِ مِنْ الْبَسْطِ وَالتّفْتِيشِ مَا هُوَ
أَكْثَرُ مِنْ هَذَا .
{ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ
ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا } أَيْ سَيَقُولُونَ ذَلِكَ . { قُلِ اللّهُ
أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ
وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ
أَحَدًا } [ ص 65 ] يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمّا سَأَلُوك عَنْهُ .S{
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ }
فَصْلٌ
وَفْد فَسّرَ قَوْلَهُ تَعَالَى : { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ } فَقَالَ
مَعْنَاهُ أَيْ سَيَقُولُونَ ذَلِكَ وَهُوَ أَحَدُ التّأْوِيلَاتِ فِيهَا .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَرَأَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ : وَقَالُوا : لَبِثُوا ،
بِزِيَادَةِ قَالُوا . ثُمّ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قُلْ رَبّي أَعْلَمُ بِمَا
لَبِثُوا ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ الْمُؤَلّفِ أَوْ غَيْرِهِ وَإِنّمَا التّلَاوَةُ {
قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } وَقَدْ قِيلَ إنّهُ إخْبَارٌ مِنْ اللّهِ
تَعَالَى عَنْ مِقْدَارِ لُبْثِهِمْ وَلَكِنْ لَمّا عَلِمَ اسْتِبْعَادَ قُرَيْشٍ
وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفّارِ لِهَذَا الْمِقْدَارِ وَعَلِمَ أَنّ فِيهِ
تَنَازُعًا بَيْنَ النّاسِ فَمِنْ ثَمّ قَالَ { قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا
لَبِثُوا } وَقَوْلِهِ { ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا } أَيْ إنّهَا
ثَلَاثُمِائَةٍ بِحِسَابِ الْعَجَمِ ، وَإِنْ حُسِبَتْ الْأَهِلّةُ فَقَدْ زَادَ
الْعَدَدُ تِسْعًا ، لِأَنّ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ بِحِسَابِ الشّمْسِ تَزِيدُ
تِسْعَ سِنِينَ بِحِسَابِ الْقَمَرِ فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ قَالَ ثَلَاثِمِائَةٍ
سِنِينَ وَلَمْ يَقُلْ سَنَةً وَهُوَ قِيَاسُ الْعَدَدِ فِي الْعَرَبِيّةِ لِأَنّ
الْمِائَةَ تُضَافُ إلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ فَالْجَوَابُ أَنّ سِنِينَ فِي
الْآيَةِ بَدَلٌ مِمّا قَبْلَهُ لَيْسَ عَلَى حَدّ الْإِضَافَةِ وَلَا التّمْيِيزِ
وَلِحِكْمَةِ عَظِيمَةٍ عُدِلَ بِاللّفْظِ عَنْ الْإِضَافَةِ إلَى الْبَدَلِ
وَذَلِكَ أَنّهُ لَوْ قَالَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ لَكَانَ الْكَلَامُ كَأَنّهُ
جَوَابٌ لِطَائِفَةِ وَاحِدَةٍ مِنْ النّاسِ وَالنّاسُ فِيهِمْ طَائِفَتَانِ
طَائِفَةٌ عَرَفُوا طُولَ لُبْثِهِمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا كَمّيّةَ السّنِينَ
فَعَرّفَهُمْ أَنّهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَطَائِفَةٌ لَمْ يَعْرِفُوا طُولَ
لُبْثِهِمْ وَلَا شَيْئًا مِنْ خَبَرِهِمْ فَلَمّا قَالَ ثَلَاثَمِائَةِ مُعَرّفًا
لِلْأَوّلِينَ بِالْكَمّيّةِ الّتِي شَكّوا فِيهَا ، مُبَيّنًا لِلْآخَرِينَ أَنّ
هَذِهِ الثّلَاثَمِائَةِ سُنُونَ وَلَيْسَتْ أَيّامًا وَلَا شُهُورًا ،
فَانْتَظَمَ الْبَيَانُ لِلطّائِفَتَيْنِ مِنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ وَجَمْعِ
الْمَعْدُودِ وَتَبَيّنَ أَنّهُ بَدَلٌ إذْ الْبَدَلُ يُرَادُ بِهِ تَبْيِينُ مَا
قَبْلَهُ أَلَا تَرَى أَنّ الْيَهُودَ قَدْ كَانُوا عَرَفُوا أَنّ لِأَصْحَابِ
الْكَهْفِ نَبَأً عَجِيبًا ، وَلَمْ يَكُنْ الْعَجَبُ إلّا مِنْ طُولِ لُبْثِهِمْ
غَيْرَ أَنّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنّهَا ثَلَاثُمِائَةٍ أَوْ
أَقَلّ ، فَأَخْبَرَ أَنّ تِلْكَ السّنِينَ ثَلَاثُمِائَةٍ ثُمّ لَوْ وَقَفَ
الْكَلَامُ هَهُنَا لَقَالَتْ الْعَرَبُ ، وَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِخَبَرِهِمْ مَا
هَذِهِ الثّلَاثُمِائَةِ ؟ فَقَالَ كَالْمُبَيّنِ لَهُمْ سِنِينَ وَقَدْ رُوِيَ
مَعْنَى هَذَا التّفْسِيرِ عَنْ الضّحّاكِ ، ذَكَرَهُ النّحّاسُ . [ ص 65 ]
السّنَةُ وَالْعَامُ
فَصْلٌ
وَقَالَ سِنِينَ وَلَمْ يَقُلْ أَعْوَامًا ، وَالسّنَةُ وَالْعَامُ وَإِنْ
اتّسَعَتْ الْعَرَبُ فِيهِمَا ، وَاسْتَعْمَلَتْ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ
الْآخَرِ اتّسَاعًا ، وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ وَالْعِلْمِ
بِتَنْزِيلِ الْكَلَامِ فَرْقًا ، فَخُذْهُ أَوّلًا مِنْ الِاشْتِقَاقِ فَإِنّ
السّنَةَ مِنْ سَنَا يَسْنُو إذَا دَارَ حَوْلَ الْبِئْرِ وَالدّابّةُ هِيَ
السّانِيَةُ فَكَذَلِكَ السّنَةُ دَوْرَةٌ مِنْ دَوْرَاتِ الشّمْسِ وَفْد تُسَمّى
السّنَةُ دَارًا ، فَفِي الْخَبَرِ : إنّ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ أَلْفَ دَارٍ أَيْ
أَلْفَ سَنَةٍ هَذَا أَصْلُ الِاسْمِ وَمِنْ ثَمّ قَالُوا : أَكَلَتْهُمْ السّنَةُ
فَسَمّوْا شِدّةَ الْقَحْطِ سَنَةً قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَلَقَدْ أَخَذْنَا
آلَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينَ } [ الْأَعْرَافِ 13 ] وَمِنْ ثَمّ قِيلَ أَسْنَتَ
الْقَوْمُ إذَا أَقْحَطُوا ، وَكَأَنّ وَزْنَهُ أَفْعَتُوا ، لَا أَفْعَلُوا ،
كَذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ التّاءَ بَدَلًا مِنْ الْوَاوِ
فَهِيَ عِنْدَهُ أَفْعَلُوا ، لِأَنّ الْجُدُوبَةَ وَالْخِصْبَ مُعْتَبَرٌ
بِالشّتَاءِ وَالصّيْفِ وَحِسَابُ الْعَجَمِ إنّمَا هُوَ بِالسّنِينَ الشّمْسِيّةِ
بِهَا يُؤَرّخُونَ وَأَصْحَابُ الْكَهْفِ مِنْ أُمّةٍ عَجَمِيّةٍ وَالنّصَارَى
يَعْرِفُونَ حَدِيثَهُمْ وَيُؤَرّخُونَ بِهِ فَجَاءَ اللّفْظُ فِي الْقُرْآنِ
بِذِكْرِ السّنِينَ الْمُوَافِقَةِ لِحِسَابِهِمْ وَتَمّمَ الْفَائِدَةَ
بِقَوْلِهِ { وَازْدَادُوا تِسْعًا } لِيُوَافِقَ حِسَابَ الْعَرَبِ ، فَإِنّ
حِسَابَهُمْ بِالشّهُورِ الْقَمَرِيّةِ كَالْمُحَرّمِ وَصَفَرٍ وَنَحْوِهِمَا
وَانْظُرْ بَعْدَ هَذَا إلَى قَوْلِهِ { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } [ يُوسُفَ
47 ] الْآيَةِ وَلَمْ يَقُلْ أَعْوَامًا ، نَفْيُهُ شَاهِدٌ لِمَا تَقَدّمَ غَيْرَ
أَنّهُ قَالَ { ثُمّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ } وَلَمْ يَقُلْ سَنَةٌ
عُدُولًا عَنْ اللّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنّ السّنَةَ قَدْ يُعَبّرُ بِهَا عَنْ
الشّدّةِ وَالْأَزْمَةِ كَمَا تَقَدّمَ فَلَوْ قَالَ سَنَةً لَذَهَبَ الْوَهْمُ
إلَيْهَا ؛ لِأَنّ الْعَامَ أَقَلّ أَيّامًا مِنْ السّنَةِ وَإِنّمَا دَلّتْ
الرّؤْيَا عَلَى سَبْعِ سِنِينَ شِدَادٍ وَإِذَا انْقَضَى الْعَدَدُ فَلَيْسَ
بَعْدَ الشّدّةِ إلّا رَخَاءٌ وَلَيْسَ فِي الرّؤْيَا مَا يَدُلّ عَلَى مُدّةِ
ذَلِكَ الرّخَاءِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَقَلّ مِنْ عَامٍ وَالزّيَادَةُ
عَلَى الْعَامِ مَشْكُوكٌ فِيهَا ، لَا تَقْتَضِيهَا الرّؤْيَا ، فَحَكَمَ
بِالْأَقَلّ وَتَرَكَ مَا يَقَعُ فِيهِ الشّكّ مِنْ الزّيَادَةِ عَلَى الْعَامِ
فَهَاتَانِ فَائِدَتَانِ فِي اللّفْظِ بِالْعَامِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ وَأَمّا
قَوْلُهُ { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } فَإِنّمَا ذَكَرَ السّنِينَ وَهِيَ
أَطْوَلُ مِنْ الْأَعْوَامِ لِأَنّهُ مُخْبِرٌ عَنْ اكْتِهَالِ الْإِنْسَانِ
وَتَمَامِ قُوّتِهِ وَاسْتِوَائِهِ فَلَفْظُ السّنِينَ أَوْلَى بِهَذَا
الْمَوْطِنِ لِأَنّهَا أَكْمَلُ مِنْ الْأَعْوَامِ وَفَائِدَةٌ أُخْرَى : أَنّهُ
خَبَرٌ عَنْ السّنّ وَالسّنّ مُعْتَبَرٌ بِالسّنِينَ لِأَنّ أَصْلَ السّنّ فِي
الْحَيَوَانِ لَا يُعْتَبَرُ إلّا بِالسّنَةِ الشّمْسِيّةِ لِأَنّ النّتَاجَ
وَالْحَمْلَ يَكُونُ بِالرّبِيعِ وَالصّيْفِ حَتّى قِيلَ رِبْعِيّ لِلْبَكِيرِ
وَصَيْفِيّ لِلْمُؤَخّرِ قَالَ الرّاجِزُ
إنّ بَنِيّ صِبْيَةٌ صَيْفِيّونْ ... أَفْلَحَ مَنْ كَانَ لَهُ رِبْعِيّونْ
[ ص 66 ] قِيلَ فِي الْفَصِيلِ وَنَحْوِهِ ابْنُ سَنَةٍ وَابْنُ سَنَتَيْنِ قِيلَ
ذَلِكَ فِي الْآدَمِيّينَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ فِي الْمَاشِيَةِ لِمَا قَدّمْنَا
، وَأَمّا قَوْلُهُ { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } فَلِأَنّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ {
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجّ } [
الْبَقَرَةِ 189 ] فَالرّضَاعُ مِنْ الْأَحْكَامِ الشّرْعِيّةِ وَقَدْ قَصَرْنَا
فِيهَا عَلَى الْحِسَابِ بِالْأَهِلّةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ يُحِلّونَهُ عَامًا
وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا وَلَمْ يَقُلْ سَنَةً لِأَنّهُ يَعْنِي شَهْرَ الْمُحَرّمِ
وَرَبِيعَ إلَى آخِرِ الْعَامِ وَلَمْ يَكُونُوا يَحْسِبُونَ بِأَيْلُول وَلَا
بِتِشْرِين وَلَا بينير ، وَهِيَ الشّهُورُ الشّمْسِيّةُ وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {
فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ } إخْبَارٌ مِنْهُ لِمُحَمّدِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأُمّتِهِ وَحِسَابُهُمْ بِالْأَعْوَامِ وَالْأَهِلّةِ كَمَا
وَقّتَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي قِصّةِ نُوحٍ { فَلَبِثَ
فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلّا خَمْسِينَ عَامًا } [ الْعَنْكَبُوتِ 140 ] قِيلَ
إنّمَا ذَكَرَ أَوّلًا السّنِينَ لِأَنّهُ كَانَ فِي شَدَائِدِ مُدّتِهِ كُلّهَا
إلّا خَمْسِينَ عَامًا مُنْذُ جَاءَهُ الْفَرَجُ وَأَتَاهُ الْغَوْثُ ، وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ اللّهُ - سُبْحَانَهُ - عَلِمَ أَنّ عُمْرَهُ كَانَ أَلْفًا ، إلّا
أَنّ الْخَمْسِينَ مِنْهَا ، كَانَتْ أَعْوَامًا ، فَيَكُونُ عُمُرُهُ أَلْفَ
سَنَةٍ تَنْقُصُ مِنْهَا مَا بَيْنَ السّنِينَ الشّمْسِيّةِ وَالْقَمَرِيّةِ فِي
الْخَمْسِينَ خَاصّةً لِأَنّ خَمْسِينَ عَامًا بِحِسَابِ الْأَهِلّةِ أَقَلّ مِنْ
خَمْسِينَ سَنَةٍ شَمْسِيّةٍ بِنَحْوِ عَامٍ وَنِصْفٍ فَإِنْ كَانَ اللّهُ
سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ هَذَا مِنْ عُمُرِهِ فَاللّفْظُ مُوَافِقٌ لِهَذَا
الْمَعْنَى ، وَإِلّا فَفِي الْقَوْلِ الْأَوّلِ مَقْنَعٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ
بِمَا أَرَادَ فَتَأَمّلْ هَذَا ، فَإِنّ الْعِلْمَ بِتَنْزِيلِ الْكَلَامِ
وَوَضْعَ الْأَلْفَاظِ فِي مَوَاضِعِهَا اللّائِقَةِ بِهَا يَفْتَحُ لَك بَابًا
مِنْ الْعِلْمِ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَابْنِ هَذَا الْأَصْلَ تَعْرِفُ
الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ } [ الْمَعَارِجِ 4 ] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنّ يَوْمًا
عِنْدَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدّونَ } [ الْحِجْرِ : 47 ] وَأَنّهُ
كَلَامٌ وَرَدَ فِي مَعْرِضِ التّكْثِيرِ وَالتّفْخِيمِ لَطُولُ ذَلِكَ الْيَوْمِ
وَالسّنَةِ أَطْوَلُ مِنْ الْعَامِ كَمَا تَقَدّمَ فَلَفْظُهَا أَلْيَقُ بِهَذَا
الْمَقَامِ .
[ ص 66 ] وَقَالَ فِيمَا
سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الرّجُلِ الطّوّافِ { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي
الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا إِنّا مَكّنّا لَهُ فِي
الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سَبَبًا } [ الْكَهْفِ : 83 ] حَتّى
انْتَهَى إلَى آخِرِ قِصّةِ خَبَرِهِ . [ ص 67 ] وَكَانَ مِنْ خَبَرِ ذِي
الْقَرْنَيْنِ أَنّهُ أُوتِيَ مَا لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ غَيْرُهُ فَمُدّتْ لَهُ
الْأَسْبَابُ حَتّى انْتَهَى مِنْ الْبِلَادِ إلَى مَشَارِقِ الْأَرْضِ
وَمَغَارِبِهَا ، لَا يَطَأُ أَرْضًا إلّا سُلّطَ عَلَى أَهْلِهَا ، حَتّى
انْتَهَى مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلَى مَا لَيْسَ وَرَاءَهُ شَيْءٌ مِنْ
الْخَلْقِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مَنْ يَسُوقُ الْأَحَادِيثَ عَنْ
الْأَعَاجِمِ ، فِيمَا تَوَارَثُوا مِنْ عِلْمِهِ أَنّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ
رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ ، اسْمُهُ مَرْزُبَانُ بْنُ مَرْذَبَةَ الْيُونَانِيّ
، مِنْ وَلَدِ يُونَانِ بْنِ يافث بْنِ نُوحٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُهُ
الْإِسْكَنْدَرُ وَهُوَ الّذِي بَنَى الإسكندرية ، فَنُسِبَتْ إلَيْهِ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ
مَعْدَانَ الْكُلَاعِيّ وَكَانَ رَجُلًا قَدْ أَدْرَكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سُئِلَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ مَلِكٌ
مَسَحَ الْأَرْضَ مِنْ تَحْتِهَا بِالْأَسْبَابِ [ ص 68 ] وَقَالَ خَالِدٌ سَمِعَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ رَجُلًا يَقُولُ يَا ذَا
الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ عُمَرُ اللّهُمّ غَفْرًا ، أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ تَسَمّوْا
بِالْأَنْبِيَاءِ حَتّى تَسَمّيْتُمْ بِالْمَلَائِكَةِ ؟ [ ص 69 ] قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ أَقَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَمْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَ قَالَهُ فَالْحَقّ مَا
قَالَ . [ ص 70 ]Sذِكْرُ قِصّةِ الرّجُلِ الطّوّافِ ذِي الْقَرْنَيْنِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قِصّةَ الرّجُلِ الطّوّافِ وَالْحَدِيثَ الّذِي جَاءَ فِيهِ عَنْ رَسُولِ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ كَانَ مَلِكًا مَسَحَ الْأَرْضَ
بِالْأَسْبَابِ وَلَمْ يَشْرَحْ مَعْنَى الْأَسْبَابِ . وَلِأَهْلِ التّفْسِيرِ
فِيهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَآتَيْنَاهُ
مِنْ كُلّ شَيْءٍ سَبَبًا } [ الْكَهْفِ : 84 ] أَيْ عِلْمًا يَتْبَعُهُ وَفِي
قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَأَتْبَعَ سَبَبًا } [ الْكَهْفِ : 85 ] أَيْ طَرِيقًا
مُوَصّلَةً وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ السّبَبُ حَبْلٌ
مِنْ نُورٍ كَانَ مَلَكٌ يَمْشِي بِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ [ ص 67 ] وَقَدْ قِيلَ فِي
اسْمِ ذَلِكَ الْمَلِكِ زياقيل ، وَهَذَا يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ سَبَبًا
أَيْ طَرِيقًا ، وَيَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِ النّبِيّ "
مَسَحَ الْأَرْضَ بِالْأَسْبَابِ " ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِذِي
الْقَرْنَيْنِ كَمَا اُخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ فَأَصَحّ مَا جَاءَ
فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الطّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ قَالَ سَأَلَ
ابْنُ الْكَوّاءِ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ أَرَأَيْت ذَا
الْقَرْنَيْنِ أَنَبِيّا كَانَ أَمْ مَلِكًا ؟ لَا نَبِيّا كَانَ وَلَا مَلِكًا ،
وَلَكِنْ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا دَعَا قَوْمَهُ إلَى عِبَادَةِ اللّهِ
فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنَيْ رَأْسِهِ ضَرْبَتَيْنِ وَفِيكُمْ مِثْلُهُ . يَعْنِي :
نَفْسَهُ وَقِيلَ كَانَتْ لَهُ ضَفِيرَتَانِ مِنْ شَعَرٍ وَالْعَرَبُ تُسَمّي
الْخُصْلَةَ مِنْ الشّعَرِ قَرْنًا ، وَقِيلَ إنّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ رُؤْيَا
طَوِيلَةً أَنّهُ أَخَذَ بِقَرْنَيْ الشّمْسِ فَكَانَ التّأْوِيلُ أَنّهُ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْقَيْرَوَانِيّ
الْعَابِدُ فِي كِتَابِ الْبُسْتَانِ لَهُ قَالَ وَبِهَذَا سُمّيَ ذَا
الْقَرْنَيْنِ وَأَمّا اسْمُهُ فَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ
اسْمُهُ مَرْزَبَى بْنُ مَرْذَبَةَ بِذَالٍ مَفْتُوحَةٍ فِي اسْمِ أَبِيهِ وَزَايٍ
فِي اسْمِهِ وَقِيلَ فِيهِ هَرْمَسَ وَقِيلَ هرديس . وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي
غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ اسْمُهُ الصّعْبُ بْنُ ذِي مَرَاثِدَ وَهُوَ أَوّلُ
التّبَابِعَةِ ، وَهُوَ الّذِي حَكَمَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي
بِئْرِ السّبْعِ حِينَ حَاكَمَ إلَيْهِ فِيهَا ، وَقِيلَ إنّهُ أفريدون بْنُ
أَثَفَيَانِ الّذِي قَتَلَ الضّحّاكَ ، وَيُرْوَى فِي [ ص 68 ] قَيْسِ بْنِ
سَاعِدَةَ الّتِي خَطَبَهَا بِسُوقِ عُكَاظٍ ، أَنّهُ قَالَ فِيهَا : يَا مَعْشَرَ
إبَادٍ أَيْنَ الصّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ مَلِكُ الْخَافِقَيْنِ وَأَذَلّ الثّقَلَيْنِ
وَعَمّرَ أَلْفَيْنِ ثُمّ كَانَ ذَلِكَ كَلَحْظَةِ عَيْنٍ وَأَنْشَدَ ابْنُ
هِشَامٍ لِلْأَعْشَى : وَالصّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ أَصْبَحَ ثَاوِيًا
بِالْحِنْوِ فِي جَدَثٍ أُمَيْمٍ مُقِيمِ
وَقَوْلُهُ بِالْحِنْوِ يُرِيدُ حِنْوَ قَرَاقِرَ الّذِي مَاتَ فِيهِ ذُو
الْقَرْنَيْنِ بِالْعِرَاقِ وَقَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ فِي السّيرَةِ إنّهُ مِنْ
أَهْلِ مِصْرَ ، إنّهُ الْإِسْكَنْدَرُ الّذِي بَنَى الإسكندرية ، فَعُرِفَتْ بِهِ
قَوْلٌ بَعِيدٌ مِمّا تَقَدّمَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْكَنْدَرُ سُمّيَ
ذَا الْقَرْنَيْنِ أَيْضًا تَشْبِيهًا لَهُ بِالْأَوّلِ لِأَنّهُ مَلَكَ مَا
بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِيمَا ذَكَرُوا أَيْضًا ، وَأَذَلّ مُلُوكَ
فَارِسَ ، وَقَتَلَ دَارَا بْنَ دَارَا ، وَأَذَلّ مُلُوكَ الرّومِ وَغَيْرَهُمْ
وَقَالَ الطّبَرِيّ فِي الْإِسْكَنْدَرِ وَهُوَ اسكندروس بْنُ قليقوس ، وَيُقَالُ
فِيهِ ابْنُ قَلِيسٍ وَكَانَتْ أُمّهُ زِنْجِيّةً وَكَانَتْ أُهْدِيَتْ لِدَارَا
أَكْبَرَ أَوْ سَبَاهَا ، فَوَجَدَ مِنْهَا نَكْهَةً اسْتَثْقَلَهَا ، فَعُولِجَتْ
بِبَقْلَةِ يُقَالُ لَهَا : أندروس ، فَحَمَلَتْ مِنْهُ بِدَارَا الْأَصْغَرِ
فَلَمّا وَضَعَتْهُ رَدّهَا ، فَتَزَوّجَهَا وَالِدُ الْإِسْكَنْدَرِ فَحَمَلَتْ
مِنْهُ بالإسكندروس ، فَاسْمُهُ عِنْدَهُمْ مُشْتَقّ مِنْ تِلْكَ الْبَقْلَةِ
الّتِي طَهُرَتْ أُمّهُ بِهَا فِيمَا ذَكَرُوا ، وَذَكَرَ عَنْ الزّبَيْرِ أَنّهُ
قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ هُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الضّحّاكِ بْنِ مَعَدّ [ وَقَالَ
ابْنُ حَبِيبٍ فِي ] الْمُحَبّرِ فِي ذِكْرِ مُلُوكِ الْحِيرَةِ ، قَالَ الصّعْبُ
بْنُ قَرِينِ [ بْنِ الْهُمّالِ ] : هُوَ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونُوا مُلُوكًا فِي أَوْقَاتٍ شَتّى ، يُسَمّى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَا
الْقَرْنَيْنِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَالْأَوّلُ كَانَ عَلَى عَهْدِ إبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السّلَامُ وَهُوَ صَاحِبُ الْخَضِرِ حِينَ طَلَبَ عَيْنَ الْحَيَاةِ
فَوَجَدَهَا الْخَضِرُ وَلَمْ يَجِدْهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ حَالَتْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا الظّلُمَاتُ الّتِي وَقَعَ فِيهَا هُوَ وَأَجْنَادُهُ فِي خَبَرٍ
طَوِيلٍ مَذْكُورٍ فِي بَعْضِ التّفَاسِيرِ مَشْهُورٍ عِنْدَ الْأَخْبَارِيّينَ .
حُكْمُ التّسَمّي بِأَسْمَاءِ النّبِيّينَ
وَأَمّا قَوْلُ عُمَرَ لِرَجُلِ سَمِعَهُ يَقُولُ يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمْ
يَكْفِكُمْ أَنْ تَتَسَمّوْا بِالْأَنْبِيَاءِ حَتّى تَسَمّيْتُمْ
بِالْمَلَائِكَةِ إنْ كَانَ عُمَرُ قَالَهُ بِتَوْقِيفِ مِنْ الرّسُولِ عَلَيْهِ
السّلَامُ فَهُوَ مَلَكٌ لَا يَقُولُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - إلّا الْحَقّ وَإِنْ كَانَ قَالَهُ بِتَأْوِيلِ تَأَوّلَهُ [ فَقَدْ ]
خَالَفَهُ عَلِيّ فِي الْخَبَرِ الْمُتَقَدّمِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ
الْخَبَرَيْنِ أَصَحّ نَقْلًا ، غَيْرَ أَنّ الرّوَايَةَ الْمُتَقَدّمَةَ عَنْ
عَلِيّ يُقَوّيهَا مَا نَقَلَهُ أَهْلُ الْأَخْبَارِ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ
وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ رَحِمَهُ اللّهُ كَرَاهِيَةُ
التّسَمّي بِأَسْمَاءِ [ ص 69 ] الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى
الْمُغِيرَةِ تَكْنِيَتُهُ بِأَبِي عِيسَى ، وَأَنْكَرَ عَلَى صُهَيْبٍ
تَكْنِيَتَهُ بِأَبِي يَحْيَى ، فَأَخْبَرَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنّ رَسُولَ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَنّاهُ بِذَلِكَ فَسَكَتَ وَكَانَ
عُمَرُ إنّمَا كَرِهَ مِنْ ذَلِكَ الْإِكْثَارَ وَأَنْ يَظُنّ أَنّ
لِلْمُسْلِمِينَ شَرَفًا فِي الِاسْمِ إذَا سُمّيَ بِاسْمِ نَبِيّ أَوْ أَنّهُ
يَنْفَعُهُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَكَأَنّهُ اسْتَشْعَرَ مِنْ رَعِيّتِهِ هَذَا
الْغَرَضَ أَوْ نَحْوَهُ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا كَرِهَ مِنْ ذَلِكَ . وَإِلّا فَقَدْ
سَمّى بِمُحَمّدِ طَائِفَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيّ
وَطَلْحَةُ وَأَبُو حُذَيْفَةَ وَأَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ وَخَاطِبٌ
وَخَطّابٌ ابْنَا الْحَارِثِ كُلّ هَؤُلَاءِ الْمُحَمّدِينَ كَانُوا يُكَنّونَ
بِأَبِي الْقَاسِمِ إلّا مُحَمّدَ بْنَ خَطّابٍ وَسَمّى أَبُو مُوسَى ابْنًا لَهُ
بِمُوسَى ، فَكَانَ يُكَنّى بِهِ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ سَمّى ابْنَهُ
بِيَحْيَى ، وَعَلِمَ بِهِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ
وَكَانَ لِطَلْحَةِ عَشَرَةٌ مِنْ الْوَلَدِ كُلّهُمْ يُسَمّى بِاسْمِ نَبِيّ
مِنْهُمْ مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ عِيسَى ، وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَإِبْرَاهِيمُ
وَمُحَمّدٌ وَكَانَ لِلزّبَيْرِ عَشْرٌ كُلّهُمْ يُسَمّى بِاسْمِ شَهِيدٍ فَقَالَ
لَهُ طَلْحَةُ أَنَا أُسَمّيهِمْ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنْتَ تُسَمّيهِمْ
بِأَسْمَاءِ الشّهَدَاءِ ، فَقَالَ لَهُ الزّبَيْرُ فَإِنّي أَطْمَعُ أَنْ يَكُونَ
بَنِيّ شُهَدَاءَ وَلَا تَطْمَعْ أَنْتَ أَنْ يَكُونَ بَنُوك أَنْبِيَاءَ ذَكَرَهُ
ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَسَمّى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- ابْنَهُ إبْرَاهِيمَ وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ وَفِي السّنَنِ
لِأَبِي دَاوُدَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ
سَمّوا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ لَا
عَلَى الْوُجُوبِ وَأَمّا التّسَمّي بِمُحَمّدِ فَفِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ عَنْ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ مَا كَانَ لَهُ
ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ وَلَمْ يُسَمّ أَحَدَهُمْ بِمُحَمّدِ فَقَدْ جَهِلَ
وَفِي الْمُعَيْطِيّ عَنْ مَالِك ٍ أَنّهُ سُئِلَ عَمّنْ اسْمُهُ مُحَمّدٌ
وَيُكَنّى أَبَا الْقَاسِمِ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا ، فَقِيلَ لَهُ أَكَنّيْت ابْنَك
أَبَا الْقَاسِمِ وَاسْمُهُ مُحَمّدٌ ؟ فَقَالَ مَا كَنّيْته بِهَا وَلَكِنّ
أَهْلَهُ يُكَنّونَهُ بِهَا ، وَلَمْ أَسْمَعْ فِي ذَلِكَ نَهْيًا ، وَلَا أَرَى
بِذَلِكَ بَأْسًا ، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ مَالِكًا لَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ لَمْ
يَصِحّ عِنْدَهُ حَدِيثُ النّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ الصّحِيحِ -
فَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَلَعَلّهُ بَلَغَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنّهُ عَلَيْهِ
السّلَامُ - قَالَ " مَا الّذِي أَحَلّ اسْمِي وَحَرّمَ كُنْيَتِي " ؟
وَهَذَا هُوَ النّاسِخُ لِحَدِيثِ النّهْيِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ ابْنُ
سِيرِينَ يَكْرَهُ لِكُلّ أَحَدٍ أَنْ يَتَكَنّى بِأَبِي الْقَاسِمِ كَانَ اسْمُهُ
مُحَمّدًا ، أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَطَائِفَةٌ إنّمَا يَكْرَهُونَهُ لِمَنْ اسْمُهُ
مُحَمّدٌ وَفِي الْمُعَيْطِيّ أَيْضًا [ ص 70 ] وَقَالَ وَمَا عِلْمُهُ بِأَنّهُ
مَهْدِيّ ، وَأَبَاحَ التّسْمِيَةَ بِالْهَادِي ، وَقَالَ لِأَنّ الْهَادِيَ هُوَ
الّذِي يَهْدِي إلَى الطّرِيقِ وَقَدْ قَدّمْنَا كَرَاهِيَةَ مَالِكٍ التّسَمّيَ
بِجِبْرِيلَ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ كَرَاهِيَةَ عُمَرَ لِلتّسَمّي
بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَكَرِهَ مَالِكٌ التّسَمّيَ بِيَاسِينَ .
أَسْبَابُ نُزُولِ بَعْضِ
الْآيَاتِ وَعَنْ الرّوحِ
وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الرّوحِ { وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ
إِلّا قَلِيلًا } [ الْإِسْرَاءِ 85 ] . [ ص 71 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَحُدّثْت عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، أَنّهُ قَالَ لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْمَدِينَةَ ، قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ يَا
مُحَمّدُ أَرَأَيْت قَوْلَك : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّا قَلِيلًا }
[ ص 72 ] قَالَ " كُلّا " ، قَالُوا : فَإِنّك تَتْلُو فِيمَا جَاءَك :
أَنّا قَدْ أُوتِينَا التّوْرَاةَ فِيهَا بَيَانُ كُلّ شَيْءٍ . فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 73 ] إنّهَا فِي عِلْمِ اللّهِ
قَلِيلٌ ،وَعِنْدَكُمْ فِي ذَلِكَ مَا يَكْفِيكُمْ لَوْ أَقَمْتُمُوهُ " .
قَالَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ [ ص 74 ] {
وَلَوْ أَنّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدّهُ مِنْ
بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ } [ لُقْمَانَ 27 ] أَيْ إنّ التّوْرَاةَ فِي هَذَا مِنْ عِلْمِ اللّهِ
قَلِيلٌ .Sالرّوحُ وَالنّفْسُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ سُؤَالَهُمْ عَنْ الرّوحِ وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ
تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ } الْآيَةَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ
إسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْبَكّائِيّ أَنّهُ قَالَ فِي هَذَا الْخَبَرِ :
فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " هُوَ
جِبْرِيلُ " وَهَذِهِ الرّوَايَةُ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ تَدُلّ عَلَى خِلَافِ
مَا رَوَى غَيْرُهُ أَنّ يَهُودَ قَالَتْ لِقُرَيْشِ اسْأَلُوهُ عَنْ الرّوحِ
فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِ فَلَيْسَ بِنَبِيّ وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ فَهُوَ
نَبِيّ ، وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِيمَا تَقَدّمَ مِنْ الْحَدِيثِ اسْأَلُوهُ عَنْ
الرّجُلِ الطّوّافِ وَعَنْ الْفِتْيَةِ وَعَنْ الرّوحِ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ
وَإِلّا فَالرّجُلُ مُتَقَوّلٌ فَسَوّى فِي الْخَبَرِ بَيْنَ الرّوحِ وَغَيْرِهِ
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التّأْوِيلِ فِي الرّوحِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَقَالَ
بَعْضُهُمْ هُوَ جِبْرِيلُ لِأَنّهُ الرّوحُ الْأَمِينُ وَرُوحُ الْقُدُسِ ،
وَعَلَى هَذَا رِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِقُرَيْشِ حِينَ سَأَلُوهُ " هُوَ جِبْرِيلُ
" ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ الرّوحُ خَلْقٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صُوَرِ بَنِي
آدَمَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ الرّوحُ خَلْقٌ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ وَلَا
تَرَاهُمْ فَهُمْ لِلْمَلَائِكَةِ كَالْمَلَائِكَةِ لِبَنِي آدَمَ وَرُوِيَ عَنْ
عَلِيّ أَنّهُ قَالَ الرّوحُ مَلَكٌ لَهُ مِائَةُ أَلْفِ رَأْسٍ لِكُلّ رَأْسٍ
مِائَةُ أَلْفِ وَجْهٍ فِي كُلّ وَجْهٍ مِائَةُ أَلْفِ فَمٍ فِي كُلّ فَمٍ مِائَةُ
أَلْفِ لِسَانٍ يُسَبّحُ اللّهَ بِلُغَاتِ مُخْتَلِفَةٍ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
الرّوحُ الّذِي سَأَلَتْ عَنْهُ يَهُودُ هُوَ رُوحُ الْإِنْسَانِ ثُمّ اخْتَلَفَ
أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَمْ يُجِبْهُمْ رَسُولُ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ سُؤَالِهِمْ لِأَنّهُمْ سَأَلُوهُ
تَعَنّتًا وَاسْتِهْزَاءً فَقَالَ اللّهُ لَهُ قُلْ الرّوحُ مِنْ [ ص 71 ] أَمْرِ
رَبّي ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يُبَيّنَهُ لَهُمْ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بَلْ قَدْ
أَخْبَرَهُمْ اللّهُ بِهِ وَأَجَابَهُمْ عَمّا سَأَلُوا ؛ لِأَنّهُ قَالَ
لِنَبِيّهِ قُلْ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي ، وَأَمْرُ الرّبّ هُوَ الشّرْعُ
وَالْكِتَابُ الّذِي جَاءَ بِهِ فَمَنْ دَخَلَ فِي الشّرْعِ وَتَفَقّهَ فِي
الْكِتَابِ وَالسّنّةِ عَرَفَ الرّوحَ فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ اُدْخُلُوا فِي
الدّينِ تَعْرِفُوا مَا سَأَلْتُمْ فَإِنّهُ مِنْ أَمْرِ رَبّي ، أَيْ مِنْ
الْأَمْرِ الّذِي جِئْت بِهِ مُبَلّغًا عَنْ رَبّي ، وَذَلِكَ أَنّ الرّوحَ لَا
سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْ جِهَةِ الطّبِيعَةِ وَلَا مِنْ جِهَةِ
الْفَلْسَفَةِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الرّأْيِ وَالْقِيَاسِ وَإِنّمَا يُعْرَفُ مِنْ
جِهَةِ الشّرْعِ فَإِذَا نَظَرْت إلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَالسّنّةِ مِنْ
ذِكْرِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ
} [ السّجْدَةِ 9 ] أَيْ مِنْ رُوحِ الْحَيَاةِ وَالْحَيَاةُ مِنْ صِفَاتِ اللّهِ
سُبْحَانَهُ وَالنّفْخُ فِي الْحَقِيقَةِ مُضَافٌ إلَى مَلَكٍ يَنْفُخُ فِيهِ
بِأَمْرِ رَبّهِ وَتَنْظُرُ إلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ الرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ
أَنّ الْأَرْوَاحَ جُنُودٌ مُجَنّدَةٌ وَأَنّهَا تَتَعَارَفُ وَتَتَشَامّ فِي
الْهَوَاءِ وَأَنّهَا تُقْبَضُ مِنْ الْأَجْسَادِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنّهَا
تُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ فَتَفْهَمُ السّؤَالَ وَتَسْمَعُ وَتَرَى ، وَتُنَعّمُ
وَتُعَذّبُ وَتَلْتَذّ وَتَأْلَمُ وَهَذِهِ كُلّهَا مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ
فَتَعْرِفُ أَنّهَا أَجْسَامٌ بِهَذِهِ الدّلَائِلِ لَكِنّهَا لَيْسَتْ
كَالْأَجْسَادِ فِي كَثَافَتِهَا وَثِقَلِهَا وَإِظْلَامِهَا ، إذْ الْأَجْسَادُ
خُلِقَتْ مِنْ مَاءٍ وَطِينٍ وَحَمَإِ مَسْنُونٍ فَهُوَ أَصْلُهَا ،
وَالْأَرْوَاحُ خُلِقَتْ مِمّا قَالَ اللّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ النّفْخُ
الْمُتَقَدّمُ الْمُضَافُ إلَى الْمَلَكِ . وَالْمَلَائِكَةُ خُلِقَتْ مِنْ نُورٍ
كَمَا جَاءَ فِي الصّحِيحِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَضَافَ النّفْخَ إلَى نَفْسِهِ
فَكَذَلِكَ أَضَافَ قَبْضَ الْأَرْوَاحِ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ { اللّهُ يَتَوَفّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } [ الزّمَرِ 42 ] وَأَضَافَ ذَلِكَ إلَى الْمَلَكِ
أَيْضًا فَقَالَ { قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ } [ السّجْدَةِ 11 ]
وَالْفِعْلُ مُضَافٌ إلَى الْمَلَكِ مَجَازًا ، وَإِلَى الرّبّ حَقِيقَةً فَهُوَ
أَيْضًا جِسْمٌ وَلَكِنّهُ مِنْ جِنْسِ الرّيحِ وَلِذَلِكَ سُمّيَ رُوحًا مِنْ
لَفْظِ الرّيحِ وَنَفْخُ الْمَلَكِ فِي مَعْنَى الرّيحِ غَيْرَ أَنّهُ ضُمّ
أَوّلُهُ لِأَنّهُ نُورَانِيّ ، وَالرّيحُ هَوَاءٌ مُتَحَرّكٌ وَإِذَا كَانَ
الشّرْعُ قَدْ عَرَفْنَا مِنْ مَعَانِي الرّوحِ وَصِفَاتِهِ بِهَذَا الْقَدْرِ
فَقَدْ عَرَفَ مِنْ جِهَةِ أَمْرِهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ { قُلِ الرّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبّي } وَقَوْلُهُ مِنْ أَمْرِ رَبّي أَيْضًا ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ أَمْرِ
اللّهِ وَلَا مِنْ أَمْرِ رَبّكُمْ يَدُلّ عَلَى خُصُوصٍ وَعَلَى مَا قَدّمْنَاهُ
مِنْ أَنّهُ لَا يَعْلَمُهُ إلّا مَنْ أَخَذَ مَعْنَاهُ مِنْ قَوْلِ اللّهِ
سُبْحَانَهُ وَقَوْلِ رَسُولِهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ
وَالْيَقِينِ الصّادِقِ وَالْفِقْهِ فِي الدّينِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُخْبِرْ
الْيَهُودَ حِينَ سَأَلُوهُ عَنْهُ فَقَدْ أَحَالَهُمْ عَلَى مَوْضِعِ الْعِلْمِ
بِهِ . [ ص 72 ]
الْفَرْقُ بَيْنَ الرّوحِ وَالنّفْسِ
فَصْلٌ
وَمِمّا يَتّصِلُ بِمَعْنَى الرّوحِ وَحَقِيقَتِهِ أَنْ تَعْرِفَ هَلْ هِيَ
النّفْسُ أَوْ غَيْرُهَا ، وَقَدْ كَثُرَتْ فِي ذَلِكَ الْأَقْوَالُ وَاضْطَرَبَتْ
الْمَذَاهِبُ فَتَعَلّقَ قَوْمٌ بِظَوَاهِرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ لَا تُوجِبُ
الْقَطْعَ لِأَنّهَا نَقْلُ آحَادٍ وَأَيْضًا فَإِنّ أَلْفَاظَهَا مُحْتَمِلَةٌ
لِلتّأْوِيلِ وَمَجَازَاتُ الْعُرْفِ وَاتّسَاعَاتُهَا فِي الْكَلَامِ كَثِيرَةٌ
فَمِمّا تَعَلّقُوا بِهِ فِي أَنّ الرّوحَ هِيَ النّفْسُ قَوْلُ بِلَالٍ "
أَخَذَ بِنَفْسِي الّذِي أَخَذَ بِنَفْسِك " مَعَ قَوْلِ النّبِيّ عَلَيْهِ
السّلَامُ " إنّ اللّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا " ، وَقَوْلِهِ - عَزّ
وَجَلّ - اللّهُ يَتَوَفّى الْأَنْفُسَ وَالْمَقْبُوضَةُ هِيَ الْأَرْوَاحُ وَلَمْ
يُفَرّقُوا بَيْنَ الْقَبْضِ وَالتّوَفّي ، وَلَا بَيْنَ الْأَخْذِ فِي قَوْلِ
بِلَالٍ " أَخَذَ بِنَفْسِي الّذِي أَخَذَ بِنَفْسِك " وَبَيْنَ قَوْلِ
النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ " قَبَضَ أَرْوَاحَنَا " ، وَتَنْقِيحُ
الْأَقْوَالِ وَتَرْجِيحُهَا يَطُولُ . وَقَدْ رَوَى أَبُو عُمَرَ فِي التّمْهِيدِ
حَدِيثًا يَدُلّ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِهِ فِي أَنّ النّفْسَ هِيَ الرّوحُ لَكِنْ
عَلّلَهُ فِيهِ أَنّ اللّهَ خَلَقَ آدَمَ وَجَعَلَ فِيهِ نَفْسًا وَرُوحًا ،
فَمِنْ الرّوحِ عَفَافُهُ وَفَهْمُهُ وَحِلْمُهُ وَسَخَاؤُهُ وَوَفَاؤُهُ وَمِنْ
النّفْسِ شَهْوَتُهُ وَطَيْشُهُ وَسَفَهُهُ وَغَضَبُهُ وَنَحْوُ هَذَا ، وَهَذَا
الْحَدِيثُ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ إذَا تُؤُمّلَ صَحّ نَقْلُهُ أَوْ لَمْ يَصِحّ
وَسَبِيلُك أَنْ تَنْظُرَ فِي كِتَابِ اللّهِ أَوّلًا ، لَا إلَى الْأَحَادِيثِ الّتِي
تُنْقَلُ مَرّةً عَلَى اللّفْظِ وَمَرّةً عَلَى الْمَعْنَى ، وَتَخْتَلِفُ فِيهَا
أَلْفَاظُ الْمُحَدّثِينَ فَنَقُولُ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا سَوّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } وَلَمْ يَقُلْ مِنْ نَفْسِي وَكَذَلِكَ قَالَ {
ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ } [ السّجْدَةِ 9 ] وَلَمْ يَقُلْ مِنْ
نَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ هَذَا ، وَلَا خَفَاءَ فِيمَا
بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ فِي الْكَلَامِ وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى أَنّ
بَيْنَهُمَا فَرْقًا فِي الْمَعْنَى ، وَبِعَكْسِ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {
تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } وَلَمْ يَقُلْ
تَعْلَمُ مَا فِي رُوحِي ، وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي رُوحِك ، وَلَا يَحْسُنُ هَذَا
الْقَوْلُ أَيْضًا أَنْ يَقُولَهُ غَيْرُ عِيسَى ، وَلَوْ كَانَتْ النّفْسُ وَالرّوحُ
اسْمَيْنِ لِمَعْنَى وَاحِدٍ كَاللّيْثِ وَالْأَسَدِ لَصَحّ وُقُوعُ كُلّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مَكَانَ صَاحِبِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ } وَلَا يَحْسُنُ فِي الْكَلَامِ يَقُولُونَ فِي أَرْوَاحِهِمْ
وَقَالَ تَعَالَى : { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ } وَلَمْ يَقُلْ أَنْ تَقُولَ رُوحٌ [ ص
73 ] كَلَامِ اللّهِ تَعَالَى ؟ وَلَكِنْ بَقِيَتْ دَقِيقَةٌ يُعْرَفُ مَعَهَا
السّرّ وَالْحَقِيقَةُ وَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ اخْتِلَافٌ مُتَبَايِنٌ
إنْ شَاءَ اللّهُ فَنَقُولُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ الرّوحُ مُشْتَقّ مِنْ
الرّيحِ وَهُوَ جِسْمٌ هَوَائِيّ لَطِيفٌ بِهِ تَكُونُ حَيَاةُ الْجَسَدِ عَادَةً
أَجْرَاهَا اللّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنّ الْعَقْلَ يُوجِبُ أَلّا يَكُونَ لِلْجِسْمِ
حَيَاةٌ حَتّى يُنْفَخَ فِيهِ ذَلِكَ الرّوحُ الّذِي هُوَ فِي تَجَاوِيفِ
الْجَسَدِ كَمَا قَالَ ابْنُ فُورَكٍ وَأَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو بَكْرٍ
الْمُرَادِيّ ، وَسَبَقَهُمْ إلَى نَحْوٍ مِنْهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيّ ،
وَمَعْنَى كَلَامِهِمْ وَاحِدٌ أَوْ مُتَقَارِبٌ .
الرّوحُ سَبَبُ الْحَيَاةِ
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنّ الرّوحَ سَبَبُ الْحَيَاةِ عَادَةً أَجْرَاهَا اللّهُ
تَعَالَى ، فَهُوَ كَالْمَاءِ الْجَارِي فِي عُرُوقِ الشّجَرَةِ صُعُدًا ، حَتّى
تَحْيَا بِهِ عَادَةً فَنُسَمّيهِ مَاءً بِاعْتِبَارِ أَوّلِيّتِهِ وَنُسَمّي
أَيْضًا هَذَا رُوحًا بِاعْتِبَارِ أَوّلِيّتِهِ وَاعْتِبَارِ النّفْخَةِ الّتِي
هِيَ رِيحٌ فَمَا دَامَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمّهِ حَيّا ، فَهُوَ ذُو رُوحٍ
فَإِذَا نَشَأَ وَاكْتَسَبَ ذَلِكَ الرّوحُ أَخْلَاقًا وَأَوْصَافًا لَمْ تَكُنْ
فِيهِ وَأَقْبَلَ عَلَى مَصَالِحِ الْجِسْمِ كَلَفًا بِهِ وَعَشِقَ مَصَالِحَ
الْجَسَدِ وَلَذّاتِهِ وَدَفَعَ الْمَضَارّ عَنْهُ سُمّيَ نَفْسًا ، كَمَا
يَكْتَسِبُ الْمَاءُ الصّاعِدُ فِي الشّجَرَةِ مِنْ الشّجَرَةِ أَوْصَافًا لَمْ
تَكُنْ فِيهِ فَالْمَاءُ فِي الْعِنَبَةِ مَثَلًا هُوَ مَاءٌ بِاعْتِبَارِ
الْأَصْلِ وَالْبَدْأَةِ فَفِيهِ مِنْ الْمَاءِ الْمُيُوعَةُ وَالرّطُوبَةُ
وَفِيهِ مِنْ الْعِنَبَةِ الْحَلَاوَةُ وَأَوْصَافٌ أُخَرَ فَتُسَمّيهِ مِصْطَارًا
إنْ شِئْت ، أَوْ خَمْرًا إنْ شِئْت ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمّا أَوْجَبَهُ
الِاكْتِسَابُ لِهَذِهِ الْأَوْصَافِ فَمَنْ قَالَ إنّ النّفْسَ هِيَ الرّوحُ
عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ فَلَمْ يُحْسِنْ الْعِبَارَةَ وَإِنّمَا
فِيهَا مِنْ الرّوحِ الْأَوْصَافُ الّتِي تَقْتَضِيهَا نَفْخَةُ الْمَلَكِ
وَالْمَلَكُ مَوْصُوفٌ بِكُلّ خُلُقٍ كَرِيمٍ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ
فَمِنْ الرّوحِ عَفَافُهُ وَحِلْمُهُ وَوَفَاؤُهُ وَفَهْمُهُ وَمِنْ النّفْسِ
شَهْوَتُهُ وَغَضَبُهُ وَطَيْشُهُ وَذَلِكَ أَنّ الرّوحَ كَمَا قَدّمْنَا مَازِجُ
الْجَسَدِ الّذِي فِيهِ الدّمُ وَيُسَمّى الدّمُ نَفْسًا ، وَهُوَ مَجْرَى
الشّيْطَانِ وَقَدْ حَكَمَتْ الشّرِيعَةُ بِنَجَاسَةِ الدّمِ لِسِرّ لَعَلّهُ أَنْ
يُفْهَمَ مِمّا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ فَمَنْ يَعْرِفُ جَوْهَرَ الْكَلَامِ
وَيُنْزِلُ الْأَلْفَاظَ مَنَازِلَهَا ، لَا يُسَمّي رُوحًا إلّا مَا وَقَعَ بِهِ
الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَمَادِ وَالْحَيّ وَاَلّذِي كَانَ سَبَبًا لِلْحَيَاةِ كَمَا
فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عِنْدَ ذِكْرِ إحْيَاءِ النّطْفَةِ وَنَفْخِ الرّوحِ
فِيهَا ، وَلَا يُقَالُ نَفْخُ النّفْسِ فِيهَا إلّا عِنْدَ الِاتّسَاعِ فِي
الْكَلَامِ وَتَسْمِيَةُ الشّيْءِ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ وَمِنْ هَهُنَا سُمّيَ
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ : رُوحًا ، وَالْوَحْيُ رُوحًا ، لِأَنّ بِهِ
تَكُونُ حَيَاةُ الْقُلُوبِ قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ
مَثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [ الْأَنْعَامِ 122 ]
وَقَالَ فِي الْكُفّارِ { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ } [ النّحْلِ 21 ] وَقَالَ
فِي [ ص 74 ] وَقَالَ { إِنّ النّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسّوءِ } [ يُوسُفَ 53 ]
وَلَمْ يَقُلْ إنّ الرّوحَ لَأَمّارَةٌ لِأَنّ الرّوحَ الّذِي هُوَ سَبَبُ
الْحَيَاةِ لَا يَأْمُرُ بِسُوءِ وَلَا يُسَمّى أَيْضًا نَفْسًا ، كَمَا قَدّمْنَا
حَتّى يَكْتَسِبَ مِنْ الْجَسَدِ الْأَوْصَافَ الْمَذْكُورَةَ وَمَا كَانَ
نَحْوَهَا ، وَالْمَاءُ النّازِلُ مِنْ السّمَاءِ جِنْس وَاحِدٌ فَإِذَا مَازَجَ
أَجْسَادَ الشّجَرِ كَالتّفّاحِ وَالْفِرْسِكِ وَالْحَنْظَلِ وَالْعُشُرِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ كَذَلِكَ الرّوحُ الْبَاطِنَةُ الّتِي هِيَ مِنْ
عِنْدِ اللّهِ هِيَ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَقَدْ أَضَافَهَا إلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا
لَهَا حِينَ قَالَ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ثُمّ يُخَالِطُ الْأَجْسَادَ
الّتِي خُلِقَتْ مِنْ طِينٍ وَقَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ الطّينِ طَيّبٌ وَخَبِيثٌ
فَيَنْزِعُ كُلّ فَرْعٍ إلَى أَصْلِهِ وَيَنْزِعُ ذَلِكَ الْأَصْلُ إلَى مَا
سَبَقَ فِي أُمّ الْكِتَابِ وَإِلَى مَا دَبّرَهُ وَأَحْكَمَهُ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَتَنَافَرُ النّفُوسُ أَوْ تَتَقَارَبُ وَتَتَحَابّ
أَوْ تَتَبَاغَضُ عَلَى حَسَبِ التّشَاكُلِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَهِيَ مَعْنَى
قَوْلِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " فَمَا تَعَارَفَ
مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ " . وَقَدْ كَتَبَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ إلَى صَدِيقٍ لَهُ " إنّ نَفْسِي غَيْرُ مَشْكُورَةٍ
عَلَى الِانْقِيَادِ إلَيْك بِغَيْرِ زِمَامٍ فَإِنّهَا صَادَفَتْ عِنْدَك بَعْضَ
جَوَاهِرِهَا ، وَالشّيْءُ يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا " .
الْإِنْسَانُ رُوحٌ وَجَسَدٌ
فَصْلٌ
وَقَدْ يُعَبّرُ بِالنّفْسِ عَنْ جُمْلَةِ الْإِنْسَانِ رُوحُهُ وَجَسَدُهُ
فَتَقُولُ عِنْدِي ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ وَلَا تَقُولُ عِنْدِي ثَلَاثَةُ أَرْوَاحٍ
لَا يُعَبّرُ بِالرّوحِ إلّا عَنْ الْمَعْنَى الْمُتَقَدّمِ ذِكْرُهُ وَإِنّمَا
اتّسَعَ فِي النّفْسِ وَعَبّرَ بِهَا عَنْ الْجُمْلَةِ لِغَلَبَةِ أَوْصَافِ
الْجَسَدِ عَلَى الرّوحِ حَتّى صَارَ يُسَمّى نَفْسًا ، وَطَرَأَ هَذَا الِاسْمُ
بِسَبَبِ الْجَسَدِ كَمَا يَطْرَأُ عَلَى الْمَاءِ فِي الشّجَرِ أَسْمَاءٌ عَلَى
حَسَبِ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الشّجَرِ مِنْ حُلْوٍ وَحَامِضٍ وَمُرّ وَحِرّيفٍ
وَغَيْرِ ذَلِكَ فَتَحَصّلَ مِنْ مَضْمُونِ مَا ذَكَرْنَا أَلّا يُقَالَ فِي
النّفْسِ هِيَ الرّوحُ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَتّى تُقَيّدَ بِمَا تَقَدّمَ وَلَا
يُقَالُ فِي الرّوحِ هُوَ النّفْسُ إلّا كَمَا يُقَالُ فِي الْمَنِيّ هُوَ الْإِنْسَانُ
أَوْ كَمَا يُقَالُ لِلْمَاءِ الْمُغَذّي لِلْكَرْمَةِ هُوَ الْخَمْرُ أَوْ
الْخَلّ ، عَلَى مَعْنَى أَنّهُ سَتَنْضَافُ إلَيْهِ أَوْصَافٌ يُسَمّى بِهَا
خَمْرًا أَوْ خَلّا ، فَتَقْيِيدُ الْأَلْفَاظِ هُوَ مَعْنَى الْكَلَامِ
وَتَنْزِيلُ كُلّ لَفْظٍ فِي مَوْضِعِهِ هُوَ مَعْنَى الْبَلَاغَةِ فَافْهَمْهُ .
[ ص 75 ]
النّفْسُ
فَصْلٌ
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَمْ يَبْقَ إلّا قَوْلُ بِلَالٍ أَخَذَ بِنَفْسِي الّذِي
أَخَذَ بِنَفْسِك ، فَذَكَرَ النّفْسَ لِأَنّهُ مُعْتَذِرٌ مِنْ تَرْكِ عَمَلٍ
أُمِرَ بِهِ وَالْأَعْمَالُ مُضَافَةٌ إلَى النّفْسِ لِأَنّ الْأَعْمَالَ
جَسَدَانِيّةٌ وَقَوْلُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " إنّ
اللّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا فَذَكَرَ الرّوحَ الّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِأَنّهُ
أَنِسَهُمْ مِنْ فَزَعِهِمْ فَأَعْلَمَهُمْ أَنّ خَالِقَ الْأَرْوَاحِ يَقْبِضُهَا
إذَا شَاءَ فَلَا تَنْبَسِطُ انْبِسَاطَهَا فِي الْيَقَظَةِ وَرُوحُ النّائِمِ
وَإِنْ وُصِفَ بِالْقَبْضِ فَلَا يَدُلّ لَفْظُ الْقَبْضِ عَلَى انْتِزَاعِهِ
بِالْكُلّيّةِ . كَمَا لَا يَدُلّ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي الظّلّ { ثُمّ
قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } [ الْفُرْقَانِ : 46 ] عَلَى إعْدَامِ
الظّلّ بِالْكُلّيّةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { اللّهُ يَتَوَفّى الْأَنْفُسَ }
فَلَمْ يَقُلْ الْأَرْوَاحَ لِأَنّهُ وَعَظَ الْعِبَادَ الْغَافِلِينَ عَنْهُ
فَأَخْبَرَ أَنّهُ يَتَوَفّى أَنْفُسَهُمْ ثُمّ يُعِيدُهَا حَتّى يَتَوَفّاهَا ،
فَلَا يُعِيدُهَا إلَى الْحَشْرِ لِتَزْدَجِرَ النّفُوسُ بِهَذِهِ الْعِظَةِ عَنْ
سُوءِ أَعْمَالِهَا ؛ إذْ الْآيَةُ مَكّيّةٌ وَالْخِطَابُ لِلْكُفّارِ وَقَدْ
تَنَزّلَتْ الْأَلْفَاظُ مَنَازِلَهَا فِي الْحَدِيثِ وَالْقُرْآنِ وَذَلِكَ
مَعْنَى الْفَصَاحَةِ وَسِرّ الْبَلَاغَةِ . [ ص 75 ]
عَنْ تَسْيِيرِ الْجِبَالِ
وَبَعْثِ الْمَوْتَى
قَالَ وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا سَأَلَهُ قَوْمُهُ
لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ تَسْيِيرِ الْجِبَالِ وَتَقْطِيعِ الْأَرْضِ وَبَعْثِ مَنْ
مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ مِنْ الْمَوْتَى : { وَلَوْ أَنّ قُرْآنًا سُيّرَتْ بِهِ
الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلّهِ
الْأَمْرُ جَمِيعًا } أَيْ لَا أَصْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إلّا مَا شِئْت . وَأَنْزَلَ
عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ خُذْ لِنَفْسِك ، مَا سَأَلُوهُ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ
أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جِنَانًا وَقُصُورًا وَكُنُوزًا ، وَيَبْعَثَ مَعَهُ مَلَكًا
يُصَدّقُهُ بِمَا يَقُولُ وَيَرُدّ عَنْهُ { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرّسُولِ
يَأْكُلُ الطّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنّةٌ
يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتّبِعُونَ إِلّا رَجُلًا مَسْحُورًا
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلًا تَبَارَكَ الّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ } أَيْ
مِنْ أَنْ تَمْشِيَ فِي الْأَسْوَاقِ وَتَلْتَمِسَ الْمَعَاشَ { جَنّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا } [ الْفُرْقَانِ : 7 - 10
] . وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلّا إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي
الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ
رَبّكَ بَصِيرًا } [ الْفُرْقَانِ : 20 ] أَيْ جَعَلْت بَعْضَكُمْ لِبَعْضِ
بَلَاءً لِتَصْبِرُوا ، وَلَوْ شِئْت أَنْ أَجْعَلَ الدّنْيَا مَعَ رُسُلِي فَلَا
يُخَالِفُوا لَفَعَلْت . [ ص 76 ] وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِ فِيمَا قَالَ عَبْدُ
اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ
لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ
فَتُفَجّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السّمَاءَ كَمَا
زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السّمَاءِ وَلَنْ
نُؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ
رَبّي هَلْ كُنْتُ إِلّا بَشَرًا رَسُولًا } [ الْإِسْرَاءِ 90 - 95 ] . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : الْيَنْبُوعُ مَا نَبَعَ مِنْ الْمَاءِ مِنْ الْأَرْضِ
وَغَيْرِهَا . وَجَمْعُهُ يَنَابِيعُ . قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ . وَاسْمُهُ
إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْفِهْرِيّ .
وَإِذَا هَرَقْت بِكُلّ دَارٍ عِبْرَةً ... نُزِفَ الشّؤُونُ وَدَمْعُك
الْيَنْبُوعُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْكِسَفُ الْقِطَعُ مِنْ الْعَذَابِ .
وَوَاحِدَتُهُ كِسْفَةٌ . مِثْلَ سِدْرَةٍ وَسِدَرٍ . وَهِيَ أَيْضًا : وَاحِدَةُ
الْكِسَفِ . وَالْقَبِيلُ يَكُونُ مُقَابَلَةً وَمُعَايَنَةً . وَهُوَ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى : { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا } أَيْ عِيَانًا .
وَأَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَعْشَى بَنِي قَيْسِ بَنِي ثَعْلَبَةَ
أُصَالِحُكُمْ حَتّى تَبُوؤُوا بِمِثْلِهَا ... كَصَرْخَةِ حُبْلَى يَسّرَتْهَا
قَبِيلُهَا
[ ص 77 ] الْقَابِلَةَ لِأَنّهَا تُقَابِلُهَا ، وَتَقْبَلُ وَلَدَهَا . وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَيُقَالُ الْقَبِيلُ جَمْعُهُ قُبُلٌ وَهِيَ
الْجَمَاعَاتُ وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى : { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلّ
شَيْءٍ قُبُلًا } [ الْأَنْعَامِ 111 ] . فَقُبُلٌ جَمْعُ قَبِيلٍ مِثْلَ سُبُلٍ
جَمْعُ سَبِيلٍ وَسُرُرٍ جَمْعُ سَرِيرٍ وَقُمُصٍ جَمْعُ قَمِيصٍ . وَالْقَبِيلُ
أَيْضًا : فِي مَثَلٍ مِنْ الْأَمْثَالِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ مَا يَعْرِفُ قَبِيلًا
مِنْ دَبِيرٍ أَيْ لَا يَعْرِفُ مَا أَقْبَلَ مِمّا أَدْبَرَ قَالَ الْكُمَيْتُ
بْنُ زَيْدٍ
تَفَرّقَتْ الْأُمُورُ بِوُجْهَتَيْهِمْ ... فَمَا عَرَفُوا الدّبِيرَ مِنْ
الْقَبِيلِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَيُقَالُ إنّمَا أُرِيدَ بِهَذَا :
الْفُتْلُ فَمَا فُتِلَ إلَى الذّرَاعِ فَهُوَ الْقَبِيلُ وَمَا فُتِلَ إلَى
أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ فَهُوَ الدّبِيرُ وَهُوَ مِنْ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ
الّذِي ذَكَرْت . وَيُقَالُ فُتِلَ الْمِغْزَلُ . فَإِذَا فُتِلَ إلَى الرّكْبَةِ
فَهُوَ الْقَبِيلُ وَإِذَا فُتِلَ إلَى الْوَرِكِ فَهُوَ الدّبِيرُ . وَالْقَبِيلُ
أَيْضًا : قَوْمُ الرّجُلِ . وَالزّخْرُفُ الذّهَبُ . وَالْمُزَخْرَفُ الْمُزَيّنُ
بِالذّهَبِ . قَالَ الْعَجّاجُ
مِنْ طَلَلٍ أَمْسَى تَخَالُ الْمُصْحَفَا ... رُسُومَهُ وَالْمُذْهَبَ
الْمُزَخْرَفَا
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ وَيُقَالُ أَيْضًا لِكُلّ مُزَيّنٍ
مُزَخْرَفٌ . [ ص 76 ]Sابْنُ هَرْمَةَ
فَصْلٌ
وَاسْتَشْهَدَ ابْنُ هِشَامٍ بِقَوْلِ ابْنِ هَرْمَةَ وَنَسَبُهُ فَقَالَ فِهْرِيّ
: وَإِنّمَا هُوَ خُلْجِيّ ، وَالْخُلْجُ اسْمُهُ قَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
فِهْرٍ ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَةِ بَنِي قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ الْخُلْجِ ،
فَقِيلَ لِأَنّهُمْ اخْتَلَجُوا مِنْ قُرَيْشٍ وَسُكّانِ مَكّةَ ، وَقِيلَ
لِأَنّهُمْ نَزَلُوا بِمَوْضِعِ فِيهِ خُلْجٌ مِنْ مَاءٍ وَنَسَبُوا إلَيْهِ
وَابْنُ هَرْمَةَ وَاسْمُهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيّ بْنِ هَرْمَةَ وَهُوَ شَاعِرٌ
مِنْ شُعَرَاءِ الدّوْلَةِ الْعَبّاسِيّةِ وَبَيْتُهُ
وَإِذَا هَرَقْت بِكُلّ دَارٍ عِبْرَةً ... نَزَفَ الشّؤُونُ وَدَمْعُك
الْيَنْبُوعُ
وَالشّؤُونُ مَجَارِي الدّمْعِ وَهِيَ أَطْبَاقُ الرّأْسِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ
لِلرّجُلِ وَثَلَاثَةٌ لِلْمَرْأَةِ كَذَلِكَ ذَكَرُوا عَنْ أَهْلِ التّشْرِيحِ
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ فَاَللّهُ أَعْلَمُ .
مِنْ شَرْحِ الْآيَاتِ
وَكُلّ مَا شَرَحَ ابْنُ هِشَامٍ مِنْ الْآيَاتِ الّتِي تَلَاهَا ابْنُ إسْحَاقَ ،
فَقَدْ تَقَدّمَ مَا يَحْتَاجُ بَيَانُهُ مِنْهُ وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْبَيْتَ يُرَادُ بِهِ الْقَصْرُ
وَالْمَنْزِلُ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا ، فَإِنّهُ يُسَمّى بَيْتًا كَمَا قَدّمْنَا
فِي شَرْحِ بَيْتِ الْقَصَبِ فِي حَدِيثِ خَدِيجَةَ . [ ص 77 ] [ ص 78 ] [ ص 79 ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ إنّا قَدْ بَلَغْنَا أَنّك إنّمَا يُعَلّمُك
رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ . يُقَالُ لَهُ الرّحْمَنُ . وَلَنْ نُؤْمِنَ بِهِ أَبَدًا
: { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ
لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرّحْمَنِ
قُلْ هُوَ رَبّي لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ }
[ الرّعْدِ 35 ] . وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِيمَا قَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ -
لَعَنَهُ اللّهُ - وَمَا هُمْ بِهِ { أَرَأَيْتَ الّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا
صَلّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتّقْوَى أَرَأَيْتَ
إِنْ كَذّبَ وَتَوَلّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنّ اللّهَ يَرَى كَلّا لَئِنْ لَمْ
يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ
نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزّبَانِيَةَ كَلّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ }
سُورَةِ الْعَلَقِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : لَنَسْفَعًا : لَنَجْذِبَنّ
وَلَنَأْخُذَنّ . قَالَ الشّاعِرُ
قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصّرَاخَ رَأَيْتهمْ ... مِنْ بَيْنِ مُلْجِمٍ مُهْرِهِ
أَوْ سَافِعِ
وَالنّادِي : الْمَجْلِسُ الّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْقَوْمُ وَيَقْضُونَ فِيهِ
أُمُورَهُمْ وَفِي كِتَابِ اللّهِ [ ص 78 ] { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ
الْمُنْكَرَ } [ الْعَنْكَبُوتِ 29 ] وَهُوَ النّدِيّ . قَالَ عَبِيدُ بْنُ
الْأَبْرَصِ :
اذْهَبْ إلَيْك فَإِنّي مِنْ بَنِي أَسَدٍ ... أَهْلِ النّدِيّ وَأَهْلِ الْجُرْدِ
وَالنّادِي
وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى : { وَأَحْسَنُ نَدِيّا } [ مَرْيَمَ : 73 ] .
وَجَمْعُهُ أَنْدِيَةٌ . يَقُولُ فَلْيَدْعُ أَهْلَ نَادِيَهُ . كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [ يُوسُفَ 82 ] يُرِيدُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ
. قَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ
تَمِيمٍ :
يَوْمَانِ يَوْمُ مَقَامَاتٍ وَأَنْدِيَةٍ ... وَيَوْمُ سَيْرٍ إلَى الْأَعْدَاءِ
تَأْوِيبُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ
لَا مَهَاذِيرَ فِي النّدِيّ مَكَاثِ ... يَرَ وَلَا مُصْمِتِينَ بِالْإِفْحَامِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَيُقَالُ النّادِي : الْجُلَسَاءُ .
وَالزّبَانِيَةُ الْغِلَاظُ الشّدَادُ وَهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَزَنَةُ
النّارِ . وَالزّبَانِيَةُ أَيْضًا فِي الدّنْيَا : أَعْوَانُ الرّجُلِ الّذِينَ
يَخْدُمُونَهُ وَيُعِينُونَهُ وَالْوَاحِدُ زِبْنِيَةٌ . قَالَ ابْنُ الزّبَعْرَى
فِي ذَلِكَ
مَطَاعِيمُ فِي الْمَقْرَى مَطَاعِينُ فِي الْوَغَى ... زَبَانِيَةٌ غُلْبٌ
عِظَامٌ حُلُومُهَا
يَقُولُ شِدَادٌ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَقَالَ صَخْرُ بْنُ
عَبْدِ اللّهِ الْهُذَلِيّ ، وَهُوَ صَخْرُ الْغَيّ وَمِنْ كَبِيرٍ نَفَرٌ
زَبَانِيَهْ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَنْزَلَ اللّهُ
تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا عَرَضُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ { قُلْ مَا
سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلّا عَلَى اللّهِ وَهُوَ
عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ سَبَأِ : 47 ] . فَلَمّا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَا عَرَفُوا مِنْ الْحَقّ وَعَرَفُوا
صِدْقَهُ فِيمَا حَدّثَ وَمَوْقِعَ نُبُوّتِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمِ
الْغُيُوبِ حِينَ سَأَلُوهُ عَمّا سَأَلُوا عَنْهُ حَالَ الْحَسَدُ مِنْهُمْ لَهُ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اتّبَاعِهِ وَتَصْدِيقِهِ فَعَتَوْا عَلَى اللّهِ وَتَرَكُوا
أَمْرَهُ عِيَانًا ، وَلَجّوا فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ فَقَالَ
قَائِلُهُمْ { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلّكُمْ
تَغْلِبُونَ } أَيْ اجْعَلُوهُ [ ص 79 ] غَلَبَكُمْ . فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ
يَوْمًا - وَهُوَ يَهْزَأُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا
جَاءَ بِهِ مِنْ الْحَقّ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّ جُنُودَ
اللّهِ الّذِينَ يُعَذّبُونَكُمْ فِي النّارِ وَيَحْبِسُونَكُمْ فِيهَا تِسْعَةَ
عَشَرَ وَأَنْتُمْ أَكْثَرُ النّاسِ عَدَدًا ، وَكَثْرَةً أَفَيَعْجِزُ كُلّ
مِائَةِ رَجُلٍ مَعَكُمْ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ ؟ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النّارِ إِلّا
مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدّتَهُمْ إِلّا فِتْنَةً لِلّذِينَ كَفَرُوا } [
الْمُدّثّرِ 31 ] إلَى آخِرِ الْقِصّةِ فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ
جَعَلُوا إذَا جَهَرَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
بِالْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلّي ، يَتَفَرّقُونَ عَنْهُ وَيَأْبَوْنَ أَنْ
يَسْتَمِعُوا لَهُ فَكَانَ الرّجُلُ مِنْهُمْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَمِعَ مِنْ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَعْضَ مَا يَتْلُو مِنْ
الْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلّي ، اسْتَرَقَ السّمْعَ دُونَهُمْ فَرْقًا مَعَهُمْ
فَإِنْ رَأَى أَنّهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنّهُ يَسْتَمِعُ مِنْهُ ذَهَبَ خَشْيَةَ
أَذَاهُمْ فَلَمْ يَسْتَمِعْ وَإِنْ خَفَضَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - صَوْتَهُ فَظَنّ الّذِي يَسْتَمِعُ أَنّهُمْ لَا
يَسْتَمِعُونَ شَيْئًا مِنْ قِرَاءَتِهِ وَسَمِعَ هُوَ شَيْئًا دُونَهُمْ أَصَاخَ
لَهُ يَسْتَمِعُ مِنْهُ [ ص 80 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي دَاوُدُ بْنُ
الْحُصَيْنِ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ ، أَنّ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ
عَبّاسٍ حَدّثَهُمْ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا
حَدّثَهُمْ إنّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا
تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } [ الْإِسْرَاءِ 110 ] . مِنْ
أَجْلِ أُولَئِكَ النّفَرِ . يَقُولُ لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك فَيَتَفَرّقُوا
عَنْك ، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا ، فَلَا يَسْمَعْهَا مَنْ يُحِبّ أَنْ يَسْمَعَهَا
مِمّنْ يَسْتَرِقُ ذَلِكَ دُونَهُمْ لَعَلّهُ يَرْعَوِي إلَى بَعْضِ مَا يَسْمَعُ
فَيَنْتَفِعُ بِهِ .
خَزَنَةُ جَهَنّمَ وَأَبُو الْأَشَدّيْنِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ أَبِي جَهْلٍ مُسْتَهْزِئًا : يَزْعُمُ مُحَمّدٌ
أَنّ جُنُودَ رَبّهِ الّتِي يُخَوّفُكُمْ بِهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَأَنْتُمْ
النّاسُ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ . وَأَهْلُ التّفْسِيرِ يَعْزُونَ هَذِهِ
الْمَقَالَةَ إلَى أَبِي الْأَشَدّيْنِ الْجُمَحِيّ وَاسْمُهُ كَلَدَةُ بْنُ
أُسَيْدِ بْنِ خَلَفٍ وَأَبُو دَهْبَلٍ الشّاعِرُ هُوَ ابْنُ أَخِيهِ وَاسْمُهُ
وَهْبُ بْنُ زَمَعَةَ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ
جُمَحَ وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي دَهْبَلٍ التّوْأَمَةُ الّتِي يَعْرِفُ بِهَا
صَالِحٌ مَوْلَى التّوْأَمَةِ وَهِيَ أُخْتُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ
أُمَيّةَ ، وَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ قُتِلَ يَوْمَ الْجَمَلِ وَأَنّهُ
قَالَ اكْفُونِي مِنْهُمْ اثْنَيْنِ وَأَنَا أَكْفِيكُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ
إعْجَابًا مِنْهُ بِنَفْسِهِ وَكَانَ بَلَغَ مِنْ شِدّتِهِ - فِيمَا زَعَمُوا -
أَنّهُ كَانَ يَقِفُ عَلَى جِلْدِ الْبَقَرَةِ وَيُجَاذِبُهُ عَشْرَةٌ لِيَنْتَزِعُوهُ
مِنْ تَحْتِ قَدَمِهِ فَيَتَمَزّقُ الْجِلْدُ وَلَا يَتَزَحْزَحُ عَنْهُ وَقَدْ
دَعَا النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى الْمُصَارَعَةِ وَقَالَ
إنْ صَرَعْتنِي آمَنْت بِك ، فَصَرَعَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - مِرَارًا ، وَلَمْ يُؤْمِنْ وَقَدْ نَسَبَ ابْنُ إسْحَاقَ خَبَرَ
الْمُصَارَعَةِ إلَى رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطّلِبِ
وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَأَمّا مَا قَالَ أَهْلُ
التّأْوِيلِ فِي خَزَنَةِ جَهَنّمَ التّسْعَةَ عَشَرَ فَرُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَنّهُ
قَالَ بِيَدِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَمُودٌ لَهُ شُعْبَتَانِ وَإِنّهُ لَيَدْفَعُ
بِالشّعْبَةِ تِسْعِينَ أَلْفًا [ ص 80 ] فَائِدَةَ عَدَدِهَا وَتَسْمِيَتِهَا ،
وَذَكَرَ الزّبَانِيَةَ وَالْحِكْمَةَ فِي كَوْنِهِمْ عَدَدًا قَلِيلًا مَسْأَلَةً
فِي قَرِيبٍ مِنْ جُزْءٍ فَلْتُنْظَرْ هُنَاكَ .
بَهْتُ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ بَشَرًا يُعَلّمُهُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ قُرَيْشٍ : إنّمَا يُعَلّمُهُ رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهُ
الرّحْمَنُ وَإِنّا لَا نُؤْمِنُ بِالرّحْمَنِ فَأَنْزَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ {
وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبّي } كَانَ مُسَيْلِمَةُ بْنُ
حَبِيبٍ الْحَنَفِيّ ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي الدّوَلِ قَدْ تَسَمّى : الرّحْمَنَ فِي
الْجَاهِلِيّةِ وَكَانَ مِنْ الْمُعَمّرِينَ ذَكَرَ وَثِيمَةُ بْنُ مُوسَى أَنّ
مُسَيْلِمَةَ تَسَمّى بِالرّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ عَبْدُ اللّهِ أَوْ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 81 ]
كَبِيرٌ
وَأَنْشَدَ فِي تَفْسِيرِ الزّبَانِيَةِ وَمِنْ كَبِيرٍ نَفَرٌ زَبَانِيَهْ
وَجَدْت فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ كَبِيرٌ حَيّ مِنْ
هُذَيْلٍ قَالَ الْمُؤَلّفُ وَفِي أَسَدٍ أَيْضًا : كَبِيرُ بْنُ غَنْمِ بْنِ
دُودَانَ بْنِ أَسَدٍ ، وَمِنْ ذُرّيّتِهِ بَنُو جَحْشِ بْنُ رَيّانَ بْنِ
يَعْمُرَ بْنِ صَبْوَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَبِيرٍ وَلَعَلّ الرّاجِزَ أَنْ يَكُونَ
أَرَادَ هَؤُلَاءِ فَإِنّهُمْ أَشْهَرُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَبَنُو كَبِيرٍ
أَيْضًا : بَطْنٌ مِنْ بَنِي غَامِدٍ ، وَهُمْ مِنْ الْأَزْدِ ، وَاَلّذِي
تَقَدّمَ ذِكْرُهُ مِنْ هُذَيْلٍ هُوَ كَبِيرُ بْنُ طَابِخَةَ بْنِ لِحْيَانَ بْنِ
سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ .
أَوّلُ صَحَابِيّ جَهَرَ
بِالْقُرْآنِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ كَانَ أَوّلَ مَنْ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَكّةَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ قَالَ اجْتَمَعَ يَوْمًا أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالُوا : وَاَللّهِ مَا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ هَذَا
الْقُرْآنَ يُجْهَرُ لَهَا بِهِ قَطّ ، فَمَنْ رَجُلٌ يُسْمِعُهُمُوهُ ؟ فَقَالَ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : أَنَا ، قَالُوا : إنّا نَخْشَاهُمْ عَلَيْك ،
إنّمَا نُرِيدُ رَجُلًا لَهُ عَشِيرَةٌ يَمْنَعُونَهُ مِنْ الْقَوْمِ إنْ
أَرَادُوهُ قَالَ دَعُونِي فَإِنّ اللّهَ سَيَمْنَعُنِي . قَالَ فَغَدَا ابْنُ
مَسْعُودٍ حَتّى أَتَى الْمَقَامَ فِي الضّحَى ، وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا
حَتّى قَامَ عِنْدَ الْمَقَامِ ثُمّ قَرَأَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
رَافِعًا بِهَا صَوْتَهُ { الرّحْمَنُ عَلّمَ الْقُرْآنَ } قَالَ ثُمّ
اسْتَقْبَلَهَا يَقْرَؤُهَا . قَالَ فَتَأَمّلُوهُ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ . مَاذَا
قَالَ ابْنُ أُمّ عَبْدٍ ؟ قَالَ ثُمّ قَالُوا : لِيَتْلُوَ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ
مُحَمّدٌ فَقَامُوا إلَيْهِ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ فِي وَجْهِهِ وَجَعَلَ
يَقْرَأُ حَتّى بَلَغَ مِنْهَا مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَبْلُغَ . ثُمّ انْصَرَفَ
إلَى أَصْحَابِهِ وَقَدْ أَثّرُوا فِي وَجْهِهِ فَقَالُوا لَهُ هَذَا الّذِي
خَشِينَا عَلَيْك فَقَالَ مَا كَانَ أَعْدَاءُ اللّهِ أَهْوَنَ عَلَيّ مِنْهُمْ
الْآنَ وَلَئِنْ شِئْتُمْ لَأُغَادِيَنهُمْ بِمِثْلِهَا غَدًا ، قَالُوا : لَا ،
حَسْبُك ، قَدْ أَسْمَعْتهمْ مَا يَكْرَهُونَ [ ص 81 ] .
الّذِينَ اسْتَمَعُوا إلَى
قِرَاءَةِ النّبِيّ ( صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ )
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ
الزّهْرِيّ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَأَبَا جَهْلِ بْنَ
هِشَامٍ وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثّقَفِيّ حَلِيفَ
بَنِي زُهْرَةَ خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْتَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يُصَلّي مِنْ اللّيْلِ فِي بَيْتِهِ فَأَخَذَ
كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا يَسْتَمِعُ فِيهِ وَكُلّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ
صَاحِبِهِ فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرّقُوا .
فَجَمَعَهُمْ الطّرِيقُ فَتَلَاوَمُوا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ لَا
تَعُودُوا ، فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ
شَيْئًا ، ثُمّ انْصَرَفُوا ، حَتّى إذَا كَانَتْ اللّيْلَةُ الثّانِيَةُ عَادَ
كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إلَى مَجْلِسِهِ فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتّى إذَا
طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرّقُوا ، فَجَمَعَهُمْ الطّرِيقُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضِ مِثْلَ مَا قَالُوا أَوّلَ مَرّةٍ ثُمّ انْصَرَفُوا حَتّى إذَا كَانَتْ
اللّيْلَةُ الثّالِثَةُ أَخَذَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ فَبَاتُوا
يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتّى إذَا طَلَعَ [ ص 82 ] تَفَرّقُوا ، فَجَمَعَهُمْ
الطّرِيقُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ لَا نَبْرَحُ حَتّى نَتَعَاهَدَ أَلّا
نَعُودَ فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمّ تَفَرّقُوا . فَلَمّا أَصْبَحَ
الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أَخَذَ عَصَاهُ ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ
فِي بَيْتِهِ فَقَالَ أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِك فِيمَا
سَمِعْت مِنْ مُحَمّدٍ فَقَالَ يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ وَاَللّهِ لَقَدْ سَمِعْت
أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا ، وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا ، وَسَمِعْت أَشْيَاءَ مَا
عَرَفْت مَعْنَاهَا وَلَا مَا يُرَادُ بِهَا ، قَالَ الْأَخْنَسُ وَأَنَا
وَاَلّذِي حَلَفْت بِهِ . قَالَ ثُمّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتّى أَتَى أَبَا
جَهْلٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ فَقَالَ يَا أَبَا الْحَكَمِ مَا رَأْيَك
فِيمَا سَمِعْت مِنْ مُحَمّدٍ ؟ فَقَالَ مَاذَا سَمِعْت ، تَنَازَعْنَا نَحْنُ
وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشّرَفَ أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا ، وَحَمَلُوا
فَحَمَلْنَا ، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا ، حَتّى إذَا تَحَاذَيْنَا عَلَى
الرّكَبِ وَكُنّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا : مِنّا نَبِيّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ
مِنْ السّمَاءِ فَمَتَى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ وَاَللّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ
أَبَدًا ، وَلَا نُصَدّقُهُ . قَالَ فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ وَتَرَكَهُ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- إذَا تَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ قَالُوا يَهْزَءُونَ
بِهِ قُلُوبُنَا فِي أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إلَيْهِ لَا نَفْقُهُ مَا تَقُولُ
{ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ } لَا نَسْمَعُ مَا تَقُولُ { وَمِنْ بَيْنِنَا
وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } قَدْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَك فَاعْمَلْ بِمَا أَنْتَ
عَلَيْهِ إنّنَا عَامِلُونَ بِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ إنّا لَا نَفْقُهُ عَنْك
شَيْئًا ، فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ {
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } إلَى قَوْلِهِ { وَإِذَا ذَكَرْتَ
رَبّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } [
الْإِسْرَاءِ 45 - 46 ] أَيْ كَيْفَ فَهِمُوا تَوْحِيدَك رَبّك إنْ كُنْت جَعَلْت
عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنّةً وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ، وَبَيْنَك وَبَيْنَهُمْ
حِجَابًا بِزَعْمِهِمْ أَيْ إنّي لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ . { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا
يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ
الظّالِمُونَ إِنْ تَتّبِعُونَ إِلّا رَجُلًا مَسْحُورًا } [ الْإِسْرَاءِ 47 ]
أَيْ ذَلِكَ مَا تَوَاصَوْا بِهِ مِنْ تَرْكِ مَا بَعَثْتُك بِهِ إلَيْهِمْ . {
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلًا } [ الْإِسْرَاءِ 48 ] أَيْ أَخْطَئُوا الْمَثَلَ الّذِي ضَرَبُوا لَك ،
فَلَا يُصِيبُونَ بِهِ هُدًى ، وَلَا يَعْتَدِلُ لَهُمْ فِيهِ قَوْلٌ { وَقَالُوا
أَئِذَا كُنّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا }
أَيْ قَدْ جِئْت تُخْبِرُنَا : أَنّا سَنُبْعَثُ بَعْدَ مَوْتِنَا إذَا كُنّا
عِظَامًا وَرُفَاتًا ، وَذَلِكَ مَا لَا يَكُونُ . { قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ
حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ
يُعِيدُنَا قُلِ الّذِي فَطَرَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ } [ ص 83 ] الْإِسْرَاءِ 49 - 51
] . أَيْ الّذِي خَلَقَكُمْ مِمّا تَعْرِفُونَ فَلَيْسَ خَلْقُكُمْ مِنْ تُرَابٍ
بِأَعَزّ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ
بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُمَا ، قَالَ سَأَلْته عَنْ قَوْلِ اللّهِ تَعَالَى : { أَوْ خَلْقًا مِمّا
يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } مَا الّذِي أَرَادَ اللّهُ بِهِ ؟ فَقَالَ الْمَوْتَ .Sحَوْلَ آيَاتٍ مِنْ
الْقُرْآنِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ اسْتِمَاعَ أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي سُفْيَانَ وَالْأَخْنَسِ إلَى قَوْلِ
أَبِي جَهْلٍ فَلَمّا تَجَاذَيْنَا عَلَى الرّكَبِ . وَقَعَ فِي الْجَمْهَرَةِ
الْجَاذِي : الْمُقْعِي عَلَى قَدَمَيْهِ قَالَ وَرُبّمَا جَعَلُوا الْجَاذِيَ
وَالْجَاثِيَ سَوَاءً . [ ص 82 ] وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ خَبَرًا
عَنْهُمْ { جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
حِجَابًا مَسْتُورًا } [ الْإِسْرَاءِ 45 ] قَالَ بَعْضُهُمْ مَسْتُورٌ بِمَعْنَى
: سَاتِرٌ كَمَا قَالَ { كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّا } أَيْ آتِيًا ، وَالصّحِيحُ
أَنّ مَسْتُورًا هُنَا عَلَى بَابِهِ لِأَنّهُ حِجَابٌ عَلَى الْقَلْبِ فَهُوَ لَا
يُرَى . [ ص 83 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ {
أَوْ خَلْقًا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } فَقَالَ الْمَوْتَ وَهُوَ تَفْسِيرٌ
يَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرٍ وَرَأَيْت لِبَعْضِ الْمُتَأَخّرِينَ فِيهِ قَالَ
أَرَادَ ابْنُ عَبّاسٍ أَنّ الْمَوْتَ سَيَفْنَى كَمَا يَفْنَى كُلّ شَيْءٍ كَمَا
جَاءَ أَنّهُ يُذْبَحُ عَلَى الصّرَاطِ فَكَانَ الْمَعْنَى أَنْ لَوْ كُنْتُمْ
حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَأَدْرَكَكُمْ الْفَنَاءُ وَالْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ
الْمَوْتَ الّذِي هُوَ كَبِيرٌ فِي صُدُورِكُمْ فَلَا بُدّ لَكُمْ مِنْ الْفَنَاءِ
- وَاَللّهُ أَعْلَمُ - بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ وَقَدْ بَقِيَ فِي نَفْسِي مِنْ
تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ حَتّى يُكْمِلَ اللّهُ نِعْمَتَهُ بِفَهْمِهَا
إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى - وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَلّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ
نُفُورًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُفُورًا : جَمْعُ نَافِرٍ فَيَكُونُ نَصْبًا عَلَى
الْحَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُؤَكّدًا ل " وَلّوْا " .
وَمِمّا أَنْزَلَ اللّهُ فِي اسْتِمَاعِهِمْ { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ
إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصّمّ } [ يُونُسَ 42 ] أَلَا تَرَى كَيْفَ جَمَعَ
يَسْتَمِعُونَ وَالْحَمْلُ عَلَى اللّفْظِ إذَا قُرّبَ مِنْهُ أَحْسَنُ أَلَا
تَرَى إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللّهِ }
فَأُفْرِدَ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ وَقَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ { وَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ } فَجُمِعَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى ، لِمَا بَعُدَ عَنْ اللّفْظِ
وَهَكَذَا كَانَ الْقِيَاسُ فِي قَوْلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ وَلَكِنْ
لَمّا كَانُوا جَمَاعَةً وَنَزَلَتْ الْآيَةُ فِيهِمْ بِأَعْيَانِهِمْ صَارَ
الْمَعْنَى : وَمِنْهُمْ نَفَرٌ يَسْتَمِعُونَ يَعْنِي أُولَئِكَ النّفَرَ وَهُمْ
أَبُو جَهْلٍ وَأَبُو سُفْيَانَ وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ ، أَلَا تَرَى كَيْفَ
قَالَ بَعْدُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْك فَأُفْرِدَ حَمْلًا عَلَى اللّفْظِ
لِارْتِفَاعِ السّبَبِ الْمُتَقَدّمِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
ذِكْرُ عُدْوَانِ
الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ مِمّنْ أَسْلَمَ بِالْأَذَى
وَالْفِتْنَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّهُمْ عَدَوْا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ ، وَاتّبَعَ
رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ [ ص 84 ] وَالْجُوعِ
وَالْعَطَشِ وَبِرَمْضَاءِ مَكّةَ إذَا اشْتَدّ الْحَرّ ، مَنْ اسْتَضْعَفُوا
مِنْهُمْ يَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُفْتَنُ مِنْ شِدّةِ
الْبَلَاءِ الّذِي يُصِيبُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْلُبُ لَهُمْ وَيَعْصِمُهُ اللّهُ
مِنْهُمْ .
تَعْذِيبُ بِلَالٍ وَعِتْقُهُ
وَكَانَ بِلَالٌ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، لِبَعْضِ بَنِي
جُمَحَ مُوَلّدًا مِنْ مُوَلّدِيهِمْ وَهُوَ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ ، وَكَانَ اسْمُ
أُمّهِ حَمَامَةُ وَكَانَ صَادِقَ الْإِسْلَامِ طَاهِرَ الْقَلْبِ وَكَانَ
أُمَيّةُ بْنُ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ يُخْرِجُهُ إذَا
حَمِيَتْ الظّهِيرَةُ فَيَطْرَحُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فِي بَطْحَاءِ مَكّةَ ، ثُمّ
يَأْمُرُ بِالصّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمّ يَقُولُ لَهُ
لَا تَزَالُ هَكَذَا حَتّى تَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمّدِ وَتَعْبُدَ اللّاتِي
وَالْعُزّى ؛ فَيَقُولُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ أَحَدٌ أَحَدٌ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ وَرَقَةُ
بْنُ نَوْفَلٍ يَمُرّ بِهِ وَهُوَ يُعَذّبُ بِذَلِكَ وَهُوَ يَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ
، فَيَقُولُ أَحَدٌ ، أَحَدٌ وَاَللّهِ يَا بِلَالُ ثُمّ يُقْبِلُ عَلَى أُمَيّةَ
بْنِ خَلَفٍ ، وَمَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِهِ مِنْ بَنِي جُمَحَ فَيَقُولُ أَحْلِفُ
بِاَللّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذَا لَأَتّخِذَنهُ حَنَانًا ، حَتّى مَرّ
بِهِ أَبُو بَكْرِ الصّدّيقُ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ -
يَوْمًا ، وَهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ بِهِ وَكَانَتْ دَارُ أَبِي بَكْرٍ فِي بَنِي
جُمَحَ فَقَالَ لِأُمَيّةِ بْنِ خَلَفٍ أَلَا تَتّقِي اللّهَ فِي هَذَا
الْمِسْكِينِ ؟ حَتّى مَتَى ؟ قَالَ أَنْتَ الّذِي أَفْسَدْته ، فَأَنْقِذْهُ
مِمّا تَرَى ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَفْعَلُ عِنْدِي غُلَامٌ أَسْوَدُ أَجْلِدُ
مِنْهُ وَأَقْوَى ، عَلَى دِينِك ، أُعْطِيكَهُ بِهِ قَالَ قَدْ قَبِلْت فَقَالَ
هُوَ لَك . فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ غُلَامَهُ
ذَلِكَ وَأَخَذَهُ فَأَعْتَقَهُ . [ ص 85 ]
مِنْ عُتَقَاءِ أَبِي بَكْرٍ
ثُمّ أَعْتَقَ مَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إلَى الْمَدِينَةِ
سِتّ رِقَابٍ بِلَالٌ سَابِعُهُمْ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ ، شَهِدَ بَدْرًا
وَأُحُدًا ، وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا ، وَأُمّ شُمَيْسٍ
وَزِنّيرَةُ ، وَأُصِيبَ بَصَرُهَا حِينَ أَعْتَقَهَا ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : مَا
أَذْهَبَ بَصَرَهَا إلّا اللّاتِي وَالْعُزّى ؛ فَقَالَتْ كَذَبُوا - وَبَيْتِ
اللّهِ - مَا تَضُرّ اللّاتِي وَالْعُزّى ، وَمَا تَنْفَعَانِ فَرَدّ اللّهُ
بَصَرَهَا . وَأَعْتَقَ النّهْدِيّةَ وَبِنْتَهَا ، وَكَانَتَا لِامْرَأَةِ مِنْ
بَنِي عَبْدِ الدّارِ فَمَرّ بِهِمَا وَقَدْ بَعَثَتْهُمَا سَيّدَتُهُمَا
بِطَحِينِ لَهَا ، وَهِيَ تَقُولُ وَاَللّهِ لَا أُعْتِقُكُمَا أَبَدًا ، فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حِلّا يَا أُمّ فُلَانٍ فَقَالَتْ حِلّ أَنْتَ
أَفْسَدْتهمَا فَأَعْتَقَهُمَا ؛ قَالَ فَبِكَمْ هُمَا ؟ قَالَتْ بِكَذَا وَكَذَا
، قَالَ قَدْ أَخَذْتهمَا وَهُمَا حُرّتَانِ أَرْجِعَا إلَيْهَا طَحِينَهَا ،
قَالَتَا : أوَ نَفْرُغُ مِنْهُ يَا أَبَا بَكْرٍ ثُمّ نَرُدّهُ إلَيْهَا ؟ قَالَ
وَذَلِكَ إنْ شِئْتُمَا . [ ص 86 ] وَمَرّ بِجَارِيَةِ بَنِي مُؤَمّلٍ حَيّ مِنْ
بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ ، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ
يُعَذّبُهَا لِتَتْرُكَ الْإِسْلَامَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ وَهُوَ
يَضْرِبُهَا ، حَتّى إذَا مَلّ قَالَ إنّي أَعْتَذِرُ إلَيْك ، إنّي لَمْ أَتْرُكْ
إلّا مَلَالَةً فَتَقُولُ كَذَلِكَ فَعَلَ اللّهُ بِك ، فَابْتَاعَهَا أَبُو
بَكْرٍ فَأَعْتَقَهَا .
بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَأَبِيهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي
عَتِيقٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ
قَالَ قَالَ أَبُو قُحَافَةَ لِأَبِي بَكْرٍ يَا بُنَيّ إنّي أَرَاك تَعْتِقُ
رِقَابًا ضِعَافًا ، فَلَوْ أَنّك إذْ فَعَلْت مَا فَعَلْت أَعْتَقْت رِجَالًا
جَلَدًا يَمْنَعُونَك ، وَيَقُومُونَ دُونَك ؟ قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ يَا أَبَتْ إنّي إنّمَا أُرِيدُ مَا أُرِيدُ لِلّهِ عَزّ وَجَلّ ،
قَالَ فَيَتَحَدّثُ أَنّهُ مَا نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ إلّا فِيهِ وَفِيمَا
قَالَ لَهُ أَبُوهُ { فَأَمّا مَنْ أَعْطَى وَاتّقَى وَصَدّقَ بِالْحُسْنَى } [
اللّيْلِ 5 ، 6 ] . إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ
نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى }
[ اللّيْلِ 19 - 21 ] .Sالْمُكْرَهُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ تَعْذِيبَ مَنْ أَسْلَمَ وَطَرْحَهُمْ فِي الرّمْضَاءِ وَكَانُوا
يُلْبِسُونَهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ [ ص 84 ] رَحِمَهُ اللّهُ - وَأَنْزَلَ
اللّهُ فِيهِمْ إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالْإِيمَانِ وَنَزَلَ
فِي عَمّارٍ وَأَبِيهِ إلّا أَنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَلَمّا كَانَ
الْإِيمَانُ أَصْلُهُ فِي الْقَلْبِ رَخّصَ لِلْمُؤْمِنِ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ
أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ [ ص 85 ] قَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ مَا مِنْ كَلِمَةٍ تَدْفَعُ عَنّي سَوْطَيْنِ إلّا قُلْتهَا هَذَا فِي
الْقَوْلِ فَأَمّا الْفِعْلُ فَتَنْقَسِمُ فِيهِ الْحَالُ فَمِنْهُ مَا لَا
خِلَافَ فِي جَوَازِهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْقَتْلَ
وَإِنْ لَمْ يَخَفْ إلّا مَا دُونَ الْقَتْلِ فَالصّبْرُ لَهُ أَفْضَلُ وَإِنْ
لَمْ يَخَفْ فِي ذَلِكَ إلّا كَسَجْنِ يَوْمٍ أَوْ طَرَفٍ مِنْ الْهَوَانِ خَفِيفٍ
فَلَا تَحِلّ لَهُ الْمَعْصِيَةُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَأَمّا الْإِكْرَاهُ عَلَى
الْقَتْلِ فَلَا خِلَافَ فِي حَظْرِهِ لِأَنّهُ إنّمَا رَخّصَ لَهُ فِيمَا دُونَ
الْقَتْلِ لِيَدْفَعَ بِذَلِكَ قَتْلَ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ وَهِيَ نَفْسُهُ فَأَمّا
إذَا دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِ أُخْرَى ، فَلَا رُخْصَةَ وَاخْتُلِفَ فِي
الْإِكْرَاهِ عَلَى الزّنَى ، فَذُكِرَ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنّهُ قَالَ لَا
رُخْصَةَ فِيهِ لِأَنّهُ لَا يَنْتَشِرُ لَهُ إلّا عَنْ إرَادَةٍ فِي الْقَلْبِ
أَوْ شَهْوَةٍ وَأَفْعَالُ الْقَلْبِ لَا تُبَاحُ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَقَالَ
غَيْرُهُ بَلْ يُرَخّصُ فِي ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ الْقَتْلَ لِأَنّ انْبِعَاثَ
الشّهْوَةِ عِنْدَ الْمُمَاسّةِ بِمَنْزِلَةِ انْبِعَاثِ اللّعَابِ عِنْدَ مَضْغِ
الطّعَامِ وَقَدْ يَجُوزُ أَكْلُ الْحَرَامِ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ
وَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيّونَ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ الْإِكْرَاهِ وَهِيَ هَلْ
الْمُكْرَهُ عَلَى الْفِعْلِ مُخَاطَبٌ بِالْفِعْلِ أَمْ لَا ؟ فَقَالَتْ
الْمُعْتَزِلَةُ : لَا يَصِحّ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ مَعَ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ
وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيّةُ ذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنّ الْعَزْمَ إنّمَا هُوَ فِعْلُ
الْقَلْبِ وَقَدْ يُتَصَوّرُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْحِينِ [ ص 86 ] أَمْرِ اللّهِ
تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَنّهُ يَفْعَلُهُ خَوْفًا مِنْ النّاسِ
وَذَلِكَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى فَرْضٍ كَالصّلَاةِ مَثَلًا ، إذَا قِيلَ صَلّ
وَإِلّا قُتِلْت ، وَأَمّا إذَا قِيلَ لَهُ إنْ صَلّيْت قُتِلْت ، فَظَنّ
الْقَاضِي أَنّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا ، وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي ذَلِكَ
وَغَلّطَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَقَالُوا : لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
أَنّهُ مُخَاطَبٌ بِالصّلَاةِ مَأْمُورٌ بِهَا ، وَإِنْ رُخّصَ لَهُ فِي تَرْكِهَا
، فَلَيْسَ التّرْخِيصُ مِمّا يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ الْخِطَابِ وَإِنّمَا
يَرْفَعُ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ الْمَأْثَمَ وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ
مُخَاطَبًا بِهَا ، وَهَذَا الْغَلَطُ الْمَنْسُوبُ إلَى الْقَاضِي فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ بِقَوْلِ لَهُ وَإِنّمَا حَكَاهُ فِي كِتَابِ التّقْرِيبِ
وَالْإِرْشَادِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ . قَالُوا : لَا يُتَصَوّرُ
الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ لِلْفِعْلِ مَعَ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ . قَالَ الْقَاضِي
: وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنّهُ يُتَصَوّرُ انْكِفَافُهُ عَنْهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ
فَكَذَلِكَ يُتَصَوّرُ مِنْهُ الْقَصْدُ إلَى الِامْتِثَالِ لَهُ وَبِهِ
يَتَعَلّقُ التّكْلِيفُ فَإِنّمَا غَلِطَ مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ مِنْ
الْأُصُولِيّينَ هَذَا الْقَوْلَ الّذِي أَبْطَلَهُ وَبَيّنَ بُطْلَانَهُ
وَإِنّمَا ذَكَرْت مَا قَالُوهُ قَبْلَ أَنْ أَرَى كَلَامَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ
وَأَقِفَ عَلَى حَقِيقَةِ مَذْهَبِهِ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْغَلَطِ فِيهَا .
تَعْذِيبُ عَمّارِ بْنِ
يَاسِرٍ
[ ص 87 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ بَنُو مَخْزُوم ٍ يَخْرُجُونَ
بِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِأَبِيهِ وَأُمّهِ - وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ إسْلَامٍ
- إذَا حَمِيَتْ الظّهِيرَةُ يُعَذّبُونَهُمْ بِرَمْضَاءِ مَكّةَ ، فَيَمُرّ
بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَيَقُولُ فِيمَا
بَلَغَنِي : صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمْ الْجَنّةُ فَأَمّا أُمّهُ
فَقَتَلُوهَا ، وَهِيَ تَأْبَى إلّا الْإِسْلَامَ . وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ
الْفَاسِقُ الّذِي يُغْرِي بِهِمْ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، إذَا سَمِعَ
بِالرّجُلِ قَدْ أَسْلَمَ ، لَهُ شَرَفٌ وَمَنَعَةٌ أَنّبَهُ وَأَخْزَاهُ وَقَالَ
تَرَكْت دِينَ أَبِيك وَهُوَ خَيْرٌ مِنْك : لَنُسَفّهَنّ حِلْمَك وَلَنُفَيّلَنّ
رَأْيَك ، وَلَنَضَعَنّ شَرَفَك ، وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا ، قَالَ وَاَللّهِ
لَنُكَسّدَنّ تِجَارَتَك ، وَلَنُهْلِكَنّ مَالَك ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا
ضَرَبَهُ وَأَغْرَى بِهِ
فِتْنَةُ الْمُعَذّبِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ ، قَالَ قُلْت لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ : أَكَانَ الْمُشْرِكُونَ
يَبْلُغُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ
الْعَذَابِ مَا [ ص 88 ] قَالَ نَعَمْ وَاَللّهِ إنْ كَانُوا لَيَضْرِبُونَ
أَحَدَهُمْ وَيُجِيعُونَهُ وَيُعَطّشُونَهُ حَتّى مَا يَقْدِرَ أَنْ يَسْتَوِيَ
جَالِسًا مِنْ شِدّةِ الضّرّ الّذِي نَزَلَ بِهِ حَتّى يُعْطِيَهُمْ مَا سَأَلُوهُ
مِنْ الْفِتْنَةِ حَتّى يَقُولُوا لَهُ آللّاتِي وَالْعُزّى إلَهَك مِنْ دُونِ
اللّهِ ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ حَتّى إنّ الْجُعَلَ لَيَمُرّ بِهِمْ فَيَقُولُونَ لَهُ
أَهَذَا الْجُعَلُ إلَهَك مِنْ دُونِ اللّهِ ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ افْتِدَاءً
مِنْهُمْ مِمّا يَبْلُغُونَ مِنْ جَهْدِهِ .
رَفْضُ تَسْلِيمِ الْوَلِيدِ لِتَقْتُلَهُ قُرَيْشٌ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّبَيْرُ بْنُ عُكّاشَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ أَبِي أَحْمَدَ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ مَشَوْا
إلَى هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ حِينَ أَسْلَمَ أَخُوهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ
، وَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا فِتْيَةً مِنْهُمْ كَانُوا
قَدْ أَسْلَمُوا ، مِنْهُمْ سَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ ، وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي
رَبِيعَةَ . قَالَ فَقَالُوا لَهُ - وَخَشُوا شَرّهُمْ إنّا قَدْ أَرَدْنَا أَنْ
نُعَاتِبَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ عَلَى هَذَا الدّينِ الّذِي أَحْدَثُوا ، فَإِنّا
نَأْمَنُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ . قَالَ هَذَا ، فَعَلَيْكُمْ بِهِ .
فَعَاتِبُوهُ وَإِيّاكُمْ وَنَفْسَهُ . وَأَنْشَأَ يَقُولُ أَلَا لَا يُقْتَلَن
أَخِي عُيَيْشٍ فَيَبْقَى بَيْنَنَا أَبَدًا تَلَاحِي
[ ص 89 ] لَأَقْتُلَن أَشْرَفَكُمْ رَجُلًا . قَالَ فَقَالُوا : اللّهُمّ
الْعَنْهُ . مَنْ يُغَرّرْ بِهَذَا الْخَبِيثِ فَوَاَللّهِ لَوْ أُصِيبَ فِي
أَيْدِينَا لَقُتِلَ أَشْرَفُنَا رَجُلًا . قَالَ فَتَرَكُوهُ وَنَزَعُوا عَنْهُ
قَالَ وَكَانَ ذَلِكَ مِمّا دَفَعَ اللّهُ بِهِ عَنْهُمْ .Sآلُ يَاسِرٍ
فَصْلٌ
[ ص 87 ] وَذَكَرَ فِيمَنْ عُذّبَ فِي اللّهِ سُمَيّةُ أُمّ عَمّارٍ ، وَقَدْ
ذَكَرْنَا قَتْلَ أَبِي جَهْلٍ لَهَا ، وَهِيَ أَوّلُ شَهِيدٍ فِي الْإِسْلَامِ
وَرُوِيَ أَنّ عَمّارًا قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لَقَدْ بَلَغَ مِنّا الْعَذَابُ كُلّ مَبْلَغٍ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ [ ص 50 ]
صَبْرًا أَبَا الْيَقْظَانِ ثُمّ قَالَ اللّهُمّ لَا تُعَذّبْ أَحَدًا مِنْ آلِ
عَمّارٍ بِالنّار وَسُمَيّةُ أُمّهُ وَهِيَ بِنْتُ خَيّاطٍ كَانَتْ مَوْلَاةً
لِأَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَاسْمُهُ مُهَشّمٌ وَهُوَ عَمّ أَبِي
جَهْلٍ وَغَلِطَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِيهَا ، فَزَعَمَ أَنّ الْأَزْرَقَ مَوْلَى
الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ خَلَفَ عَلَيْهَا بَعْدَ يَاسِرٍ فَوَلَدَتْ لَهُ سَلَمَةَ
بْنَ الْأَزْرَقِ وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالنّسَاءِ إنّمَا سُمَيّةُ أُمّ
سَلَمَةَ بْنِ الْأَزْرَقِ سُمَيّةُ أُخْرَى ، وَهِيَ أُمّ زِيَادِ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ لَا أُمّ عَمّارٍ وَعَمّارٌ وَالْحُوَيْرِثُ وَعَبّودُ بَنُو يَاسِرِ
بْنِ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ الْحُصَيْنِ بْنِ
لَوْذَيْنِ وَيُقَالُ الْوَذِيمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ بْنِ
حَارِثَةَ بْنِ زيام بْنِ عَنْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أُدَدَ بْنِ زَيْدٍ
الْعَنْسِيّ الْمُذْحِجِيّ حَلِيفٌ لِبَنِي مَخْزُومٍ وَمِنْ وَلَدِ عَمّارٍ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَهُوَ الْمَقْتُولُ
بِالْأَنْدَلُسِ قَتَلَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ . [ ص 88 ]
زِنّيرَةُ وَغَيْرُهَا
فَصْلٌ
وَذَكَرَ زِنّيرَةَ الّتِي أَعْتَقَهَا أَبُو بَكْرٍ وَأَوّلُ اسْمِهَا : زَايٌ
مَكْسُورَةٌ بَعْدَهَا نُونٌ مَكْسُورَةٌ مُشَدّدَةٌ عَلَى وَزْنِ فِعّيلَةٍ هكذا
صَحّتْ الرّوَايَةُ فِي الْكِتَابِ وَالزّنّيرَةُ وَاحِدَةُ الزّنَانِيرِ وَهِيَ
الْحَصَا الصّغَارُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهَا :
زَنْبَرَةٌ بِفَتْحِ الزّايِ وَسُكُونِ النّونِ وَبَاءٍ بَعْدَهَا ، وَلَا
تُعْرَفُ زَنْبَرَةٌ فِي النّسَاءِ وَأَمّا فِي الرّجَالِ فَزَنْبَرَةُ بْنُ
زُبَيْرِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلَةَ بْنِ كَاهِلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ ،
وَابْنُهُ خَالِدُ بْنُ زَنْبَرَةَ وَهُوَ الْغَرِقُ قَالَهُ الدّارَقُطْنِيّ .
أُمّ عُمَيْسٍ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ أُمّ عُمَيْسٍ وَكَانَتْ لِبَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ أَعْتَقَهَا أَبُو
بَكْرٍ وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ هَؤُلَاءِ الّذِينَ عُذّبُوا فِي اللّهِ
لِمَا أَعْطَوْا بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا سُئِلُوا مِنْ الْكُفْرِ جَاءَتْ قَبِيلَةُ
كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِأَنْطَاعِ الْأُدُمِ فِيهَا الْمَاءُ فَوَضَعُوهُمْ فِيهَا
، وَأَخَذُوهُمْ بِأَطْرَافِ الْأَنْطَاعِ وَاحْتَمَلُوهُمْ إلّا بِلَالًا . [ ص
89 ]
عَنْ بِلَالٍ
وَقَوْلُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ : لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ يَعْنِي : بِلَالًا ،
وَهُوَ عَلَى هَذَا الْحَالِ لَأَتّخِذَنهُ حَنَانًا أَيْ لَأَتّخِذَن قَبْرَهُ
مَنْسَكًا وَمُسْتَرْحَمًا . وَالْحَنَانُ : الرّحْمَةُ وَكَانَ بِلَالٌ رَحِمَهُ
اللّهُ يُكَنّى : أَبَا عَبْدِ الْكَرِيمِ وَقِيلَ أَبَا عَبْدِ اللّهِ وَأُخْتُهُ
غُفْرَةُ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ ذِكْرُ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ ،
وَهِيَ هَذِهِ . وَالْغُفْرَةُ الْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ الْأَرَاوِيّ وَالذّكَرُ
غُفْرٌ .
ذِكْرُ الْهِجْرَةِ الْأُولَى
إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ
[ ص 90 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنْ الْبَلَاءِ . وَمَا هُوَ فِيهِ
مِنْ الْعَافِيَةِ . بِمَكَانِهِ مِنْ اللّهِ وَمِنْ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ
وَأَنّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمّا هُمْ فِيهِ مِنْ الْبَلَاءِ
. قَالَ لَهُمْ لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فَإِنّ بِهَا مَلِكًا
لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ . وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ
لَكُمْ فَرَجًا مِمّا أَنْتُمْ فِيهِ فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى أَرْضِ
الْحَبَشَةِ ، مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ وَفِرَارًا إلَى اللّهِ بِدِينِهِمْ .
فَكَانَتْ أَوّلَ هِجْرَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ .Sبَابُ الْهِجْرَةِ
إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ
[ ص 90 ] نَسَبَ الْحَبَشَةِ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ وَأَمّا النّجَاشِيّ فَاسْمٌ
لِكُلّ مَلِكٍ يَلِي الْحَبَشَةَ ، كَمَا أَنّ كِسْرَى اسْمٌ لِمَنْ مَلَكَ
الْفُرْسَ ، وَخَاقَانَ اسْمٌ لِمَلِكِ التّرْكِ كَائِنًا مَنْ كَانَ
وَبَطْلَيْمُوسَ اسْمٌ لِمَنْ مَلَكَ يُونَانَ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى
قَبْلُ وَاسْمُ هَذَا النّجَاشِيّ : أَصْحَمَةُ بْنُ أَبْجَرَ وَتَفْسِيرُهُ
عَطِيّةُ .
أَصْحَابُ الْهِجْرَةِ
الْأُولَى إلَى الْحَبَشَةِ
وَكَانَ أَوّلُ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ
شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ [ ص 91 ] بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ
بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ : عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ بْنُ أَبِي
الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ مَعَهُ امْرَأَتُهُ رُقَيّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ
أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ
سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ،
وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مُحَمّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ . وَمِنْ
بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ : الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ بْنِ
خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ . وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ : مُصْعَبُ
بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ . وَمِنْ
بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ : عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ
بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ بْنُ يَقَظَةَ
بْنِ مُرّةَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ
أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ
. وَمِنْ بَنِي جُمَحَ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ عُثْمَانُ بْنُ
مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ وَمِنْ بَنِي
عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ : عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، حَلِيفُ آلِ الْخَطّابِ ، مِنْ
عَنْزِ بْنِ وَائِلٍ مَعَهُ امْرَأَتُهُ [ ص 92 ] لَيْلَى بِنْتِ أَبِي حَثْمَةَ
بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمِ بْن عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ
عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ . وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ
لُؤَيّ أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسِ
بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ ، وَيُقَالُ
بَلْ أَبُو حَاطِبِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ
بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ . وَيُقَالُ هُوَ أَوّلُ مَنْ قَدِمَهَا .
وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ : سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ ، وَهُوَ سُهَيْلُ
بْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبّةَ بْنِ
الْحَارِثِ . فَكَانَ هَؤُلَاءِ الْعَشْرَةُ أَوّلَ مَنْ خَرَجَ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فِيمَا بَلَغَنِي . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: وَكَانَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ، فِيمَا ذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ خَرَجَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَتَتَابَعَ الْمُسْلِمُونَ حَتّى اجْتَمَعُوا بِأَرْضِ
الْحَبَشَةِ ، فَكَانُوا بِهَا ، مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ بِأَهْلِهِ مَعَهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ لَا أَهْلَ لَهُ مَعَهُ .
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ أُمَيّةَ
وَمِنْ بَنِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ
بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ : جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبِ
بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ
عُمَيْسِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قُحَافَةَ بْنِ خَثْعَمَ
، وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ، رَجُلٌ .
وَمِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ عُثْمَانَ بْنَ
عَفّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، مَعَهُ
امْرَأَتُهُ رُقَيّةُ ابْنَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ
فَاطِمَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ مُحَرّثِ بْنِ حَمَلِ بْنِ شِقّ
بْنِ [ ص 93 ] خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ مَعَهُ
امْرَأَتُهُ أُمَيْنَةُ بِنْتُ خَلَفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ
بْنِ سُبَيْعِ بْنِ جُعْثُمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو ، مِنْ
خُزَاعَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ هُمَيْنَةُ بِنْتُ خَلْفٍ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ سَعِيدَ بْنَ خَالِدٍ ،
وَأَمَةَ بِنْتَ خَالِدٍ فَتَزَوّجَ أَمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الزّبَيْرُ بْنُ
الْعَوّامِ ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ ، وَخَالِدُ بْنُ
الزّبَيْرِ .
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَبَنِيّ عَبْدِ شَمْسٍ
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ : عَبْدُ اللّهِ بْنُ
جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمُرَ بْنِ صَبِرَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَبِيرِ بْنِ
غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدٍ ؛ وَأَخُوهُ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ ،
مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبِ بْنِ
أُمَيّةَ ، وَقَيْسُ بْنِ عَبْدِ اللّهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ
، مَعَهُ امْرَأَتُهُ بَرَكَةُ بِنْتُ يَسَارٍ مَوْلَاةُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ
حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ ، وَمُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ وَهَؤُلَاءِ آلُ
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، سَبْعَةُ نَفَرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : مُعَيْقِيبٌ
مِنْ دَوْسٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ
مَنَافٍ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ ،
وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ قَيْسٍ حَلِيفُ آلِ
عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، رَجُلَانِ .
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِيّ أَسَدٍ
وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرِ
بْنِ وَهْبِ بْنِ نَسُبّ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَازِنِ بْنِ
مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ ، حَلِيفٌ
لَهُمْ رَجُلٌ . وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ :
الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ
نَوْفَلِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ ، وَيَزِيدُ بْنُ زَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ
بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ . وَعَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
أَسَدٍ ، أَرْبَعَةُ نَفَرٍ . [ ص 94 ]
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيّ وَعَبْدِ الدّارِ وَلَدَيْ قُصَيّ
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيّ : طُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ أَبِي
كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ [ بْنِ قُصَيّ ] رَجُلٌ . وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ
قُصَيّ : مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ
الدّارِ وَسُوَيْطُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حَرْمَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عُمَيْلَةَ
بْنِ السّبّاقِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ وَجَهْمُ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ
بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ
حَرْمَلَةَ بِنْتُ عَبْدِ الْأَسْوَدِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ أُقَيْشِ بْنِ عَامِرِ
بْنِ بَيَاضَةَ بْنِ سُبَيْعِ بْنِ جُعْثُمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَلِيحِ بْنِ
عَمْرٍو ، مِنْ خُزَاعَةَ ، وَابْنَاهُ عَمْرُو بْنُ جَهْمٍ وَخُزَيْمَةُ بْنُ
جَهْمٍ وَأَبُو الرّومِ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ
عَبْدِ الدّارِ وَفِرَاسُ بْنُ النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ
عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ خَمْسَةُ نَفَرٍ .Sوَذَكَرَ فِي
أَوّلِ مَنْ خَرَجَ إلَى الْحَبَشَةِ : عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ وَزَوْجَهُ
رُقَيّةَ بِنْتَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَكَانَ حِينَ
تَزَوّجَهَا يُغَنّيهَا النّسَاءُ
أَحْسَنُ شَخْصَيْنِ رَأَى إنْسَانٌ ... رُقَيّةُ وَبَعْلُهَا عُثْمَانُ
[ ص 91 ] كَانَ يُكَنّى ، وَمَاتَ عَبْدُ اللّهِ وَهُوَ ابْنُ سِتّ سِنِينَ
وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنّ دِيكًا نَقَرَهُ فِي عَيْنِهِ فَتَوَرّمَ وَجْهُهُ
فَمَرِضَ فَمَاتَ . وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنْ
الْهِجْرَةِ ثُمّ كُنّيَ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَا عَمْرٍو ، وَهَذَا هُوَ عَبْدُ
اللّهِ الْأَصْغَرُ . وَعَبْدُ اللّهِ الْأَكْبَرُ هُوَ ابْنُهُ مِنْ فَاخِتَةَ
بِنْتِ غَزْوَانَ وَأَكْبَرُ بَنِيهِ بَعْدَ هَذَيْنِ عَمْرٌو ، وَمِنْ بَنِيهِ
عُمَرُ وَخَالِدٌ وَسَعِيدٌ وَالْوَلِيدُ وَالْمُغِيرَةُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ
وَأَبَانُ ، وَفِي السّيرَةِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الرّوَايَةِ أَنّ رُقَيّةَ
كَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ وَأَنّ رِجَالًا مِنْ الْحَبَشَةِ رَأَوْهَا
بِأَرْضِهِمْ فَكَانُوا يُدَرْكِلُونَ إذَا رَأَوْهَا إعْجَابًا مِنْهُمْ
بِحُسْنِهَا ، فَكَانَتْ تَتَأَذّى بِذَلِكَ وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ
لِغُرْبَتِهِمْ أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ شَيْئًا ، حَتّى خَرَجَ أُولَئِكَ النّفَرُ
مَعَ النّجَاشِيّ إلَى عَدُوّهِ الّذِي كَانَ ثَارَ عَلَيْهِ فَقُتِلُوا جَمِيعًا
، فَاسْتَرَاحَتْ مِنْهُمْ وَظَهَرَ النّجَاشِيّ عَلَى عَدُوّهِ وَرَوَى
الزّبَيْرُ فِي حَدِيثٍ أَسْنَدَهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - بَعَثَ رَجُلًا بِلُطُفٍ إلَى عُثْمَانَ وَرُقَيّةَ فَاحْتُبِسَ
عَلَيْهِ الرّسُولُ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ إنْ شِئْت أَخْبَرْتُك مَا
حَبَسَك ، قَالَ نَعَمْ قَالَ وَقَفْت تَنْظُرُ إلَى عُثْمَانَ وَرُقَيّةَ
تَعْجَبُ مِنْ حُسْنِهِمَا وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ تَسْمِيَةَ الْمُهَاجِرِينَ
إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَقَدْ تَقَدّمَ التّعْرِيفُ بِبَعْضِهِمْ وَذَكَرْنَا
سَبَبَ إسْلَامِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَأَنّهُ رَأَى نُورًا خَرَجَ
مِنْ زَمْزَمَ أَضَاءَتْ لَهُ مِنْهُ نَخْلُ الْمَدِينَةِ ، حَتّى رَأَوْا
الْبُسْرَ فِيهَا ، فَقَصّ رُؤْيَاهُ فَقِيلَ لَهُ هَذِهِ بِئْرُ بَنِي عَبْدِ
الْمُطّلِبِ ، وَهَذَا النّورُ فِيهِمْ يَكُونُ فَكَانَ سَبَبًا لِبِدَارِهِ
لِلْإِسْلَامِ .
رُؤْيَا سَعْدٍ وَخَالِدٍ وَلَدَيْ الْعَاصِ
[ ص 92 ] كَانَتْ لِأَخِيهِ وَأَنّ عَمْرًا هُوَ الّذِي عَبّرَهَا لَهُ وَهَذَا
هُوَ الصّحِيحُ فِيهَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَأَمّا أَخُوهُ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ
، فَكَانَ يَرَى - قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ - نَفْسَهُ قَدْ أَشْفَى عَلَى نَارٍ
تَأَجّجَ وَكَأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ أَخَذَ
بِحُجْزَتِهِ يَصْرِفُهُ عَنْهَا ، فَلَمّا اسْتَيْقَظَ عَلِمَ أَنّ نَجَاتَهُ
مِنْ النّارِ عَلَى يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فَلَمّا أَظْهَرَ إيمَانَهُ ضَرَبَهُ أَبُوهُ بِمَقْرَعَةِ حَتّى كَسَرَهَا عَلَى
رَأْسِهِ وَحَلَفَ أَلّا يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَأَغْرَى بِهِ إخْوَتَهُ فَطَرَدُوهُ
وَآذَوْهُ [ ص 93 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَتّى هَاجَرَ إلَى أَرْضِ
الْحَبَشَةِ - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ - وَأَبُوهُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ
أَبُو أُحَيْحَةَ الّذِي يَقُولُ فِيهِ الْقَائِلُ
أَبُو أُحَيْحَةَ
أَبُو أُحَيْحَةَ مَنْ يَعْتَمّ عِمّتَهُ ... يُضْرَبُ وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ
وَذَا عَدَدِ
[ ص 94 ] وَكَانَ إذَا اعْتَمّ لَمْ يَعْتَمّ قُرَشِيّ إعْظَامًا لَهُ وَقَدْ
قِيلَ فِي عِمّتِهِ أَيْضًا مَا أَنْشَدَهُ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الْجَاحِظُ :
وَكَانَ أَبُو أُحَيْحَةَ قَدْ عَلِمْتُمْ ... بِمَكّةَ غَيْرَ مُهْتَضِمٍ ذَمِيمِ
إذَا شَدّ الْعِصَابَةَ ذَاتَ يَوْمٍ ... وَقَامَ إلَى الْمَجَالِسِ وَالْخُصُومِ
لَقَدْ حَرُمَتْ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْشِي ... بِمَكّةَ غَيْرَ مُحْتَقِرٍ لَئِيمِ
مَاتَ أُحَيْحَةُ الّذِي كَانَ يُكْنَى بِهِ فِي حَرْبِ الْفِجَارِ ، وَأَسْلَمَ
مِنْ بَنِيهِ أَرْبَعَةٌ أَبَانٌ وَخَالِدٌ [ ص 95 ] سَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَبْدَ اللّهِ وَمَاتَ أُحَيْحَةُ بْنُ سَعِيدٍ
وَالْعَاصُ بْنُ سَعِيدٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ بَنِيهِ عَلَى الْكُفْرِ قُتِلَ
الْعَاصُ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا .
أَمَةُ بِنْتُ خَالِدٍ وَأَبُوهَا
[ ص 96 ] وَذَكَرَ أَمَةَ بِنْتَ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ الّتِي وُلِدَتْ بِأَرْضِ
الْحَبَشَةِ ، قَالَ وَتَزَوّجَهَا الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ ، وَهِيَ الّتِي
كَسَاهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهِيَ صَغِيرَةٌ
وَجَعَلَ يَقُولُ سَنّاهْ سَنّاهْ يَا أُمّ خَالِدٍ أَيْ حَسَنٌ حَسَنٌ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ
، وَكَانَتْ قَدْ تَعَلّمَتْ لِسَانَ الْحَبَشَةِ ، لِأَنّهَا وُلِدَتْ
بِأَرْضِهِمْ وَوَلَدَتْ لِلزّبَيْرِ عَمْرًا وَخَالِدًا ، يُقَالُ إنّ أَبَاهَا
خَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ أَوّلُ مَنْ كَتَبَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
مَاتَ بِأَجْنَادِينَ شَهِيدًا ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - قَدْ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى صَنْعَاءَ [ ص 97 ] وَالْيَمَنِ ، فَلَمّا
تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَرَادَ أَبُو بَكْرٍ
أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فَقَالَ لَا أَعْمَلُ لِأَحَدِ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَبَدًا ، وَيُرْوَى أَنّ أَبَاهُ سَعِيدَ بْنَ
الْعَاصِ مَرِضَ فَقَالَ إنْ رَفَعَنِي اللّهُ مِنْ مَرَضِي لَا يُعْبَدُ إلَهُ
ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ بِمَكّةَ أَبَدًا ، فَقَالَ ابْنُهُ خَالِدٌ اللّهُمّ لَا
تَرْفَعْهُ فَهَلَكَ مَكَانَهُ هَؤُلَاءِ بَنُو سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ
أُمَيّةَ : [ ص 98 ]
عبد شمس
وَعُثْمَانُ هُوَ ابْنُ عَفّانَ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ
شَمْسِ ، وَلَا يُخْتَلَفُ فِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنّهُ بِالدّالِ وَأَمّا عَبْ
شَمْسِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، فَقَالَ فِيهِ أَبُو
عُبَيْدٍ وَالْقُتَبِيّ : عَبْدُ شَمْسٍ كَمَا فِي الْأَوّلِ . وَقَالَ أَكْثَرُ
النّاسِ فِيهِ عَبْ شَمْسٍ ثُمّ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ فَقِيلَ مَعْنَاهُ
عَبْدُ شَمْسٍ ، لَكِنْ أُدْغِمَتْ الدّالُ وَقِيلَ بَلْ [ عَبْ شَمْسٍ و ] عَبْ
الشّمْسِ هُوَ ضَوْءُهَا أَوْ صَفَاؤُهَا ، وَقِيلَ فِي الْمَثَلِ هُوَ أَبْرَدُ
مِنْ عَبْقُرّ أَيْ الْبَرْدِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ وَهُوَ الْمُبَرّدُ مِنْ عَبْ
قُرّ أَيْ بَيَاضُ قُرّ وَمِنْ حَبْ قُرّ أَيْضًا . وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ
أَعْنِي : عَبْ شَمْسٍ . وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَقَالَ مَعْنَاهُ
عَبْءُ شَمْسٍ بِالْهَمْزِ . ثُمّ حُذِفَتْ الْهَمْزَةُ تَسْهِيلًا . وَعَبْءُ
الشّمْسِ . وَعَبْوُهَا مِثْلُهُ .
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَنِي
زُهْرَةَ وَبَنِيّ هُذَيْلٍ وَبَهْرَاءَ
وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ : عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ
عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ وَعَامِرُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ ،
وَأَبُو وَقّاصٍ مَالِكُ بْنُ أُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ ،
وَالْمُطّلِبُ بْنُ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
زُهْرَةَ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي عَوْفِ بْنِ ضُبَيْرَةَ بْنِ
سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ عَبْدَ
اللّهِ بْنَ الْمُطّلِبِ . وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ هُذَيْلٍ : عَبْدُ اللّهِ
بْنُ مَسْعُودِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شَمْخِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلَةَ بْنِ
كَاهِلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ ، وَأَخُوهُ
عُتْبَةُ بْنُ مَسْعُودٍ . [ ص 95 ] بَهْرَاءَ : الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ ثُمَامَةَ بْنِ مَطْرُودِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ
الشّرِيدِ بْنِ أَبِي أَهْوَزَ بْنِ أَبِي فَائِشِ بْنِ دُرَيْمِ بْنِ الْقَيْنِ
بْنِ أَهْوَدَ بْنِ بَهْرَاءَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ هَزْلُ بْنُ فَاسِ بْنِ ذَرّ وَدَهِيرُ بْنُ ثَوْرٍ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ
عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ وَذَلِكَ أَنّهُ
تَبَنّاهُ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَحَالَفَهُ سِتّةُ نَفَرٍ .
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِيّ مَخْزُومٍ
وَمِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ الْحَارِثُ بْنُ خَالِدِ بْنِ صَخْرِ بْنِ عَامِرِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ مَعَهُ امْرَأَتُهُ رَيْطَةُ
بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
تَيْمٍ وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مُوسَى بْنَ الْحَارِثِ وَعَائِشَةَ
بِنْتَ الْحَارِثِ وَزَيْنَبَ بِنْتَ الْحَارِثِ ، وَفَاطِمَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ
وَعَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ ،
رَجُلَانِ .
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ
أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي
أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ،
وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ ، وَاسْمُ
أَبِي سَلَمَةَ عَبْدُ اللّهِ وَاسْمُ أُمّ سَلَمَةَ هِنْدٌ . وَشَمّاسُ بْنُ
عُثْمَانَ بْنِ الشّرِيدِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ هَرَمِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ
مَخْزُومٍ
مِنْ سِيرَةِ الشّمّاسِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُ شَمّاسٍ عُثْمَانُ وَإِنّمَا سُمّيَ شَمّاسًا ؛
لِأَنّ شَمّاسًا مِنْ الشّمّاسَةِ قَدِمَ مَكّةَ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَكَانَ
جَمِيلًا فَعَجِبَ النّاسُ مِنْ جَمَالِهِ فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ -
وَكَانَ خَالَ شَمّاسٍ أَنَا آتِيكُمْ بِشَمّاسِ أَحْسَنَ مِنْهُ فَجَاءَ بِابْنِ
أُخْتِهِ عُثْمَانَ بْنِ عُثْمَانَ ، فَسُمّيَ شَمّاسًا . فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ
شِهَابٍ وَغَيْرُهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَهَبّارُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ
عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ،
وَأَخُوهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سُفْيَانَ ، وَهِشَامُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ [ ص 96 ] وَسَلَمَةُ
بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ،
وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ
بْنِ مَخْزُومٍ .
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ حُلَفَاءِ بَنِي مَخْزُومٍ وَمِنْ بَنِي جُمَحَ
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مُعَتّبُ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ
عَفِيفِ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ حَبَشِيّةَ ابْنِ سَلُولَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو ،
مِنْ خُزَاعَةَ ، وَهُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ عَيْهَامَةُ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ حَبَشِيّةُ ابْنُ سَلُولَ وَهُوَ الّذِي يُقَالُ
لَهُ مُعَتّبُ بْنُ حَمْرَاءَ . وَمِنْ بَنِي جُمَحَ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ
بْنِ كَعْبٍ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ
بْنِ جُمَحَ ، وَابْنُهُ السّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ وَأَخَوَاهُ قُدَامَةُ بْنُ
مَظْعُونٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَظْعُونٍ ، وَحَاطِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ ، مَعَهُ
امْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُجَلّلِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي قَيْسِ
بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ وَابْنَاهُ
مُحَمّدُ بْنُ حَاطِبٍ وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ ، وَهُمَا لِبِنْتِ الْمُجَلّلِ
وَأَخُوهُ حَطّابُ بْنُ الْحَارِثِ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ فُكَيْهَةُ بِنْتُ
يَسَارٍ ، وَسُفْيَانُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ
بْنِ جُمَحَ مَعَهُ ابْنَاهُ جَابِرُ بْنُ سُفْيَانَ وَجُنَادَةُ بْنُ سُفْيَانَ
وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ حَسَنَةُ وَهِيَ أُمّهُمَا ، وَأَخُوهُمَا مِنْ أُمّهِمَا :
شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ أَحَدُ الْغَوْثِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : شُرَحْبِيلُ
بْنُ عَبْدِ اللّهِ أَحَدُ الْغَوْثِ بْنِ مُرّ ، أَخِي تَمِيمِ بْنِ مُرّ .
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ وَبَنِيّ عَدِيّ وَبَنِيّ عَامِرٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَعُثْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ أُهْبَانَ بْنِ وَهْبِ
بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَبَنِيّ
هُذَيْلٍ وَبَهْرَاءَ :، أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا . [ ص 97 ] وَمِنْ بَنِي سَهْمِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ خُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ
عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ
بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْلٍ ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْعَاصُ بْنُ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ
بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ
قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْحَارِثِ
بْنِ قَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ،
وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ
، وَالْحَارِثُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ
، وَمَعْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ،
وَبِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ،
وَأَخٌ لَهُ مِنْ أُمّهِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو ،
وَسَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ،
وَالسّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ،
وَعُمَيْرُ بْنُ رِئَابِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ مُهَشّمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ
وَمَحْمِيّةُ بْنُ الْجَزَاءِ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي زُبَيْدٍ ، أَرْبَعَةَ
عَشَرَ رَجُلًا . وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ : مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ نَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حُرْثَانَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ
بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيّ وَعُرْوَةُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حُرْثَانَ بْنِ
عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيّ وَعَدِيّ بْنُ نَضْلَةَ بْنِ
عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حُرْثَانَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ
عَدِيّ وَابْنُهُ النّعْمَانُ بْنُ عَدِيّ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، حَلِيفٌ
لِآلِ الْخَطّابِ مِنْ عَنَزِ بْنِ وَائِلٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ
أَبِي حَثْمَةَ بْنِ غَانِمٍ خَمْسَةُ نَفَرٍ . وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ
: أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ
عَبْدِ وُدّ بْنِ نَضْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ مَعَهُ
امْرَأَتُهُ أُمّ كُلْثُومِ بِنْتِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ
عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ وَعَبْدُ اللّهِ
بْنُ مَخْرَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ
نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ ، وَسَلِيطُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ
وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ وَأَخُوهُ السّكْرَانُ
بْنُ عَمْرٍو ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ
عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ
عَامِرٍ [ ص 98 ] وَمَالِكُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ
عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ مَعَهُ
امْرَأَتُهُ عَمْرَةُ بِنْتُ السّعْدِيّ بْنِ وَقْدَانَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ
عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ ، وَحَاطِبُ بْنُ
عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ ، حَلِيفٌ لَهُمْ . ثَمَانِيَةُ
نَفَرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ مِنْ الْيَمَنِ .
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ : أَبُو عُبَيْدَةَ
بْنُ الْجَرّاحِ ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْجَرّاحِ بْنِ
هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ ، وَسُهَيْلُ
ابْنُ بَيْضَاءَ وَهُوَ سُهَيْلُ بْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ
أُهَيْبِ بْنِ ضَبّةَ بْنِ الْحَارِثِ وَلَكِنّ أُمّهُ غَلَبَتْ عَلَى نَسَبِهِ فَهُوَ
يُنْسَبُ إلَيْهَا ، وَهِيَ دَعْدُ بِنْتُ جَحْدَمِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ ظَرِبِ
بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ ، وَكَانَتْ تُدْعَى : بَيْضَاءَ وَعَمْرُو بْنُ
أَبِي سَرْحِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبّةَ بْنِ
الْحَارِثِ وَعِيَاضُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدّادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبّةَ بْنِ الْحَارِثِ ، وَيُقَالُ بَلْ رَبِيعَةُ
بْنُ هِلَالِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ضَبّةَ بْنِ الْحَارِثِ وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ
بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدّادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
ضَبّةَ بْنِ الْحَارِثِ ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ غَنْمِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ
أَبِي شَدّادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ضَبّةَ بْنِ
الْحَارِثِ وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُمَيّةَ
بْنِ ظَرِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ ، وَالْحَارِثُ بْنِ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ
لَقِيطِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ ظَرِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ .
ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ . [ ص 99 ]
عَدَدُ الّذِينَ هَاجَرُوا إلَى الْحَبَشَةِ
فَكَانَ جَمِيعُ مَنْ لَحِقَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَهَاجَرَ إلَيْهَا مِنْ
الْمُسْلِمِينَ سِوَى أَبْنَائِهِمْ الّذِينَ خَرَجُوا بِهِمْ مَعَهُمْ صِغَارًا
وَوُلِدُوا بِهَا ، ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا ، إنْ كَانَ عَمّارُ بْنُ
يَاسِرٍ فِيهِمْ وَهُوَ يُشَكّ فِيهِ .Sعَمّارٌ لَمْ يُهَاجِرْ إلَى
الْحَبَشَةِ
[ ص 99 ] وَشَكّ ابْنُ إسْحَاقَ فِي عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ : هَلْ هَاجَرَ إلَى
أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، أَمْ لَا . وَالْأَصَحّ عِنْدَ أَهْلِ السّيَرِ
كَالْوَاقِدِيّ وَابْنِ عُقْبَةَ . وَغَيْرِهِمَا أَنّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ .
حَوْلَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ مَنْ هَاجَرَ إلَى
أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِمْ تَمِيمَ بْنَ الْحَارِثِ .
وَذَكَرَهُ الْوَاقِدِيّ وَغَيْرُهُ . وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ كَانَ أَبُوهُ
مِنْ الْمُسْتَهْزِئِينَ الّذِي أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِمْ { إِنّا كَفَيْنَاكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ } [ الْحِجْرِ : 95 ] .
حَوْلَ بَنِي زُهْرَةَ وَطَلِيبِ بْنِ عَبْدٍ
وَذَكَرَ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ مَنْ هَاجَرَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَهُمْ
سِتّةُ نَفَرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ السّابِعَ وَهُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ شِهَابٍ جَدّ
مُحَمّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، وَكَانَ
اسْمُهُ عَبْدَ الْجَانّ فَسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَبْدَ اللّهِ مَاتَ بِمَكّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللّهِ
الْأَصْغَرُ شَهِدَ أُحُدًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ ثُمّ أَسْلَمَ . وَذَكَرَ
الْمُطّلِبَ بْنَ عَبْدِ عَوْفٍ وَلَمْ يَذْكُرْ أَخَاهُ طَلِيبًا ، وَكِلَاهُمَا
هَاجَرَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَمَاتَ فِيهَا ، وَهُمَا أَخَوَا أَزْهَرِ
بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ .
مِنْ شِعْرِ الْهِجْرَةِ
الْحَبَشِيّةِ
وَكَانَ مِمّا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي الْحَبَشَةِ ، أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ
الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ، حِينَ أَمِنُوا
بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَحَمِدُوا جِوَارَ النّجَاشِيّ ، وَعَبَدُوا اللّهَ لَا
يَخَافُونَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدًا ، وَقَدْ أَحْسَنَ النّجَاشِيّ جِوَارَهُمْ حِينَ
نَزَلُوا بِهِ قَالَ [ ص 100 ]
يَا رَاكِبًا بَلّغَن عَنّي مُغَلْغَلَةً ... مَنْ كَانَ يَرْجُو بَلَاغَ اللّهِ
وَالدّينِ
كُلّ امْرِئِ مِنْ عِبَادِ اللّهِ مُضْطَهَدٍ ... بِبَطْنِ مَكّةَ مَقْهُورٍ
وَمَفْتُونِ
أَنّا وَجَدْنَا بِلَادَ اللّهِ وَاسِعَةً ... تُنْجِي مِنْ الذّلّ وَالْمَخْزَاةِ
وَالْهُونِ
فَلَا تُقِيمُوا عَلَى ذُلّ الْحَيَاةِ وَخَزَ ... ي فِي الْمَمَاتِ وَعَيْبٍ
غَيْرِ مَأْمُونِ
إنّا تَبِعْنَا رَسُولَ اللّهِ وَاطّرَحُوا ... قَوْلَ النّبِيّ وَعَالُوا فِي
الْمَوَازِينِ
فَاجْعَلْ عَذَابَك بِالْقَوْمِ الّذِينَ بَغَوْا ... وَعَائِذًا بِك أَنْ
يَعْلُوا فَيُطْغُونِي
[ ص 101 ] وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ أَيْضًا ، يَذْكُرُ نَفْيَ
قُرَيْشٍ إيّاهُمْ مِنْ بِلَادِهِمْ وَيُعَاتِبُ بَعْضَ قَوْمِهِ فِي ذَلِك : [ ص
102 ]
أَبَتْ كَبِدِي لَا أَكْذِبَنك قِتَالُهُمْ ... عَلَيّ وَتَأْبَاهُ عَلَيّ
أَنَامِلِي
وَكَيْفَ قِتَالِي مَعْشَرًا أَدّبُوكُمْ ... عَلَى الْحَقّ أَنْ لَا تَأْشِبُوهُ
بِبَاطِلِ
نَفَتْهُمْ عِبَادُ الْجِنّ مِنْ حُرّ أَرْضِهِمْ ... فَأَضْحَوْا عَلَى أَمْرٍ
شَدِيدِ الْبَلَابِلِ
فَإِنّ تَكُ كَانَتْ فِي عَدِيّ أَمَانَةٌ ... عَدِيّ بْنِ سَعْدٍ عَنْ تُقًى ،
أَوْ تَوَاصُلِ
فَقَدْ كُنْت أَرْجُو أَنّ ذَلِكَ فِيكُمْ ... بِحَمْدِ الّذِي لَا يُطّبَى
بِالْجَعَائِلِ
وَبَدّلْت شِبْلًا شِبْلَ كُلّ خَبِيثَةٍ ... بِذِي فَجْرٍ مَأْوَى الضّعَافِ
الْأَرَامِلِ
[ ص 103 ]Sمِنْ شِعْرِ الْهِجْرَةِ الْحَبَشِيّةِ وَمَسَائِلُهُ
النّحْوِيّةُ
فَصْلٌ
وَأَنْشَدَ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ مَا قَالَهُ فِي أَرْضِ الْحَبَشَةِ ،
وَفِيهِ قَوْلُهُ [ ص 100 ]
أَلْحِقْ عَذَابَك بِالْقَوْمِ الّذِينَ طَغَوْا ... وَعَائِذًا بِك أَنْ يَعْلُو
فَيُطْغُونِي
أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ فِيمَا يَنْتَصِبُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَتْرُوكِ
إظْهَارُهُ وَذَلِكَ لِحِكْمَةِ وَهِيَ أَنّ الْفِعْلَ لَوْ ظَهَرَ لَمْ يَخْلُ
أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا ، فَالْمَاضِي يُوهِمُ الِانْقِطَاعَ
وَالْمُتَكَلّمُ إنّمَا يُرِيدُ أَنّهُ فِي مَقَامِ الْعَائِذِ وَفِي حَالِ عَوْذٍ
وَالْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ أَيْضًا يُؤْذِنُ بِالِانْتِظَارِ وَفِعْلُ الْحَالِ
مُشْتَرَكٌ مَعَ الْمُسْتَقْبَلِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ يُوهِمُ أَنّهُ
غَيْرُ عَائِذٍ فَكَانَ مَجِيئُهُ بِلَفْظِ الِاسْمِ الْمَنْصُوبِ عَلَى الْحَالِ
أَدَلّ عَلَى مَا يُرِيدُ فَإِنّ عَائِذًا كَقَائِمِ وَقَاعِدٍ وَهُوَ الّذِي
يُسَمّى عِنْدَ الْكُوفِيّينَ الدّائِمُ فَالْقَائِلُ عَائِذًا بِك يَا رَبّ
إنّمَا يُرِيدُ أَنَا فِي حَالِ عِيَاذٍ بِك ، وَالْعَامِلُ فِي هَذِهِ الْحَالِ
تَكَلّمُهُ وَنِدَاؤُهُ أَيْ أَقُولُ قَوْلِي هَذَا عَائِذًا ، وَلَيْسَ
تَقْدِيرُهُ عُذْت وَلَا أَعُوذُ إنّمَا يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَهُ رَبّهُ أَوْ يَرَاهُ
عَائِذًا بِهِ . وَقَوْلُهُ أَنْ يَعْلُو يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنْ مَعَ مَا
بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَفِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عِنْدَ النّحْوِيّينَ أَمّا
النّصْبُ فَعَلَى إضْمَارِ الْفِعْلِ لِأَنّهُ قَالَ عَائِذًا ، فَأَعْلَمَ أَنّهُ
خَائِفٌ فَكَأَنّهُ قَالَ أَخَافُ أَنْ يَعْلُو فَيُطْغُونِي ، وَأَمّا الْخَفْضُ
فَعَلَى إضْمَارِ حَرْفِ الْجَرّ فَكَأَنّهُ قَالَ مِنْ أَنْ يَعْلُو ، وَهُوَ
مَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ فِي أَنْ الْمُخَفّفَةِ وَأَنْ الْمُشَدّدَةِ
نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً } [
الْأَنْبِيَاءِ 92 ] تَقْدِيرُهُ لِأَنّ هَذِهِ وَجَازَ إضْمَارُ حَرْفِ الْجَرّ
فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ حُرُوفُ الْجَرّ لَا تُضْمَرُ
لِأَنّهُمَا مَوْصُولَتَانِ بِمَا بَعْدَهُمَا ، فَطَالَ الِاسْمُ بِالصّلَةِ
فَجَازَ حَذْفُ الْجَرّ تَخْفِيفًا . وَلِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ دَعْوَى
ادّعَيْتُمْ أَنّ أَنْ وَمَا بَعْدَهَا اسْمٌ مَخْفُوضٌ وَهُوَ لَا يَظْهَرُ فِيهِ
الْخَفْضُ ثُمّ بَنَيْتُمْ التّعْلِيلَ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ لِأَنّ الْخَفْضَ لَمْ
يَثْبُتْ بَعْدُ فَنَقُولُ إنّمَا عَلِمْنَا أَنّهُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ
لِوُقُوعِهِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقَعُ فِيهِ إلّا الْمَخْفُوضُ بِحَرْفِ الْجَرّ
نَحْوَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ
اللّهُ } [ التّوْبَةِ 97 ] وَنَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى : [ ص 101 ] { أَحَقّ أَنْ
تَقُومَ فِيهِ } [ التّوْبَةُ 108 ] وَنَحْوُ قَوْلِهِ { أَنْ تَضِلّ إِحْدَاهُمَا
} [ الْبَقَرَةُ 28 ] . فَقَوْلُهُ تَعَالَى : أَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا ،
مَعْنَاهُ بِأَنْ لَا يَعْلَمُوا ، فَلَوْ كَانَ قَبْلَ أَنْ فَعَلَ لَقُلْنَا :
حُذِفَ حَرْفُ الْجَرّ فَتَعَدّى الْفِعْلُ فَنَصَبَ وَلَكِنْ أَجَدْرُ وَأَحَقّ
اسْمَانِ لَا يَعْمَلَانِ فَمِنْ هَهُنَا عَرَفَ النّحْوِيّونَ أَنّهُ فِي
مَوْضِعِ خَفْضٍ إذْ لَا نَاصِبَ لَهُ وَأَمّا مَا اعْتَلّوا بَهْ مِنْ طُولِ
الِاسْمِ بِالصّلَةِ وَأَنّ ذَلِكَ هُوَ الّذِي سَوّغَ لَهُمْ إضْمَارَ حَرْفِ
الْجَرّ فَتَعْلِيلٌ مَدْخُولٌ يُنْتَقَضُ عَلَيْهِمْ بِالْأَسْمَاءِ
الْمَوْصُولَةِ كَاَلّذِي وَمَنْ وَمَا ، فَإِنّهَا قَدْ طَالَتْ بِالصّلَةِ
وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إضْمَارُ حَرْفِ الْجَرّ فِيهَا ، لَا تَقُولُ خَرَجْت
مَا عِنْدَك ، وَلَا هَرَبْت الّذِي عِنْدَك أَيْ مَنْ الّذِي عِنْدَك ، وَتَقُولُ
خَرَجْت أَنْ يَرَانِي زَيْدٌ وَفَرَرْت أَنْ يَرَانِي عَمْرٌو ، أَيْ مِنْ أَنْ
يَرَانِي ، وَلِأَنْ يَرَانِي بَدَلٌ عَلَى أَنّ الْعِلّةَ غَيْرُ مَا قَالُوا ، وَهِيَ
أَنّ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ لَيْسَ بِاسْمِ مَحْضٍ وَإِنّمَا هُوَ فِي تَأْوِيلِ
اسْمٍ وَالِاسْمُ الْمَحْضُ مَا دَلّ عَلَيْهِ حَرْفُ الْجَرّ فَلَا بُدّ إذًا
مِنْ إظْهَارِ حَرْفِ الْجَرّ إذَا جِئْت بِهِ لِأَنّهُ اسْمٌ قَابِلٌ لِدُخُولِ
الْخَوَافِضِ عَلَيْهِ وَأَمّا أَنّ فَحَرْفٌ مَحْضٌ لَا يَصِحّ دُخُولُ حَرْفِ
جَرّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْفِعْلِ الْمُتّصِلِ بِهِ فَلَا تَقُولُ هُوَ اسْمٌ
مَخْفُوضٌ إنّمَا هُوَ فِي تَأْوِيلِ اسْمٍ مَخْفُوضٍ فَمِنْ هَهُنَا فَرّقَتْ
الْعَرَبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ فَإِذَا أَدْخَلْت
عَلَيْهِ حَرْفَ الْجَرّ مُظْهَرًا جَازَ لِأَنّهُ فِي تَأْوِيلِ اسْمٍ وَإِذَا
أَضْمَرْت حَرْفَ الْجَرّ جَازَ أَيْضًا الْتِفَاتًا إلَى أَنّ الْحَرْفَ الْجَرّ
لَا يَدْخُلُ عَلَى الْحَرْفِ وَلَا عَلَى الْفِعْلِ فَحَسَنٌ إسْقَاطُهُ مُرَاعَاةً
لِلَفْظِ أَنْ وَلِلْفِعْلِ الْفِعْل ، وَقُلْنَا : هُوَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ
عَلَى مَعْنَى أَنّ الْكَلَامَ يُؤَوّلُ إلَى الِاسْمِ الْمَخْفُوضِ لَا أَنّهُ
يَظْهَرُ فِيهِ خَفْضٌ أَوْ يُقَدّرُ تَقْدِيرَ الْمَبْنِيّ الّذِي مَنَعَهُ
الْبِنَاءُ مِنْ ظُهُورِ الْخَفْضِ فِيهِ حَتّى يُشْبِهَ أَنْ فَنَقُولُ هُوَ
اسْمٌ مَبْنِيّ عَلَى السّكُونِ ، لَا بَلْ نَقُولُ هِيَ حَرْفٌ وَالْحَرْفُ لَا
يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَرْفُ الْجَرّ لَا مُضْمَرًا وَلَا مُظْهَرًا ، وَإِنّمَا هُوَ
تَقْدِيرٌ فِي الْمَعْنَى ، لَا فِي اللّفْظِ فَافْهَمْهُ .
لَا يُضَافُ اسْمٌ إلَى أَنّ الْمَصْدَرِيّةِ
فَصْلٌ وَاعْلَمْ أَنّ [ أَنْ ] الّتِي فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ لَا يُضَافُ
إلَيْهَا اسْمٌ . تَقُولُ هَذَا مَوْضِعُ أَنْ تَقْعُدَ وَيَوْمُ خُرُوجِك ، وَلَا
تَقُولُ يَوْمُ أَنْ تَخْرُجَ لِأَنّهَا لَيْسَتْ بِاسْمِ كَمَا قَدّمْنَا ،
وَإِنّمَا تُضَافُ إلَى الْأَسْمَاءِ الْمَحْضَةِ لَا إلَى التّأْوِيلِ وَلَا
يُضَافُ إلَيْهَا أَيْضًا اسْمُ الْفَاعِلِ لَا بِمَعْنَى الْمُضِيّ وَلَا
بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ وَلَا الْمَصْدَرِ إلّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ نَحْوُ مَخَافَةَ
أَنْ تَقُومَ وَذَلِك إذَا أَرَدْت مَعْنَى الْمَفْعُولِ بِأَنّ وَمَا بَعْدَهَا ،
وَأَمّا عَلَى نَحْوِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى الْفَاعِلِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِك .
[ ص 102 ] لَائِقًا بِهَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنّي لَمْ أَذْكُرْ الْخَفْضَ
بِإِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرّ فِي أَنّ وَإِنّ إلّا مُسَاعَدَةً لِمَنْ تَقَدّمَ
فَعَلَيْهِ بَنَيْت التّعْلِيلَ وَالتّأْصِيلَ وَإِذَا أَبَيْت مِنْ التّقْلِيدِ
فَلَا إضْمَارَ لِحُرُوفِ الْجَرّ فِيهَا ، إنّمَا هُوَ النّصَبُ بِفِعْلِ
مُضْمَرٍ أَوْ مُظْهَرٍ أَمّا قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَحَقّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ }
فَإِنّمَا لَمّا قَالَ أَحَقّ عُلِمَ أَنّهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ فِيهِ
وَكَذَلِكَ أَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا ، وَمَعْنَى أَجْدَرَ أَخْلَقُ وَأَقْرَبُ
وَلَمَا ثَبَتَتْ لَهُمْ هَذِهِ الصّفّةُ اقْتَضَى ذَلِكَ أَلّا يَعْلَمُوا ؛
فَصَارَ مَنْصُوبًا فِي الْمَعْنَى ، وَلَوْ جِئْت بِالْمَصْدَرِ الّذِي هُوَ
اسْمٌ مَحْضٌ نَحْوُ الْقِيَامُ وَالْعِلْمُ لَمْ يَصِحّ إضْمَارُ هَذَا الْفِعْلِ
لِأَنّ أَجْدَرَ وَأَحَقّ وَنَحْوَهُمَا اسْمَانِ يُضَافَانِ إلَى مَا بَعْدَهُمَا
، فَلَوْ جِئْت بِالْقِيَامِ بَعْدَ قَوْلِك أَحَقّ فَقُلْت : أَحَقّ قِيَامُك ،
لَانْقَلَبَ الْمَعْنَى . وَلَوْ نَصَبْته بِإِضْمَارِ الْفِعْلِ الّذِي أَضْمَرْت
مَعَ أَنّ لَمْ يَكُنْ دَلِيلٌ عَلَيْهِ لِأَنّ الِاسْمَ يَطْلُبُ الْإِضَافَةَ
فَيُمْنَعُ مِنْ الْإِضْمَارِ وَالنّصَبِ وَإِذَا وَقَعَتْ بَعْدَهُ لَمْ يَطْلُبْ
الْإِضَافَةَ لِمَا قَدّمْنَاهُ مِنْ امْتِنَاعِ إضَافَةِ الْأَسْمَاءِ إلَيْهَا ،
وَإِنّمَا اخْتَرْنَا هَذَا الْمَذْهَب ، وَآثَرْنَاهُ عَلَى مَا تَقَدّمَ مِنْ
إضْمَارِ الْخَافِضِ لِأَنَا قَدْ نَجِدُهَا فِي مَوَاضِعَ مَجْرُورَةٍ وَلَا
يَجُوزُ إضْمَارُ حَرْفِ الْجَرّ كَقَوْلِك : سِرْ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشّمْسُ
وَلَا يَجُوزُ إضْمَارٌ إلَى هَهُنَا ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ
تَفْعَلَ كَذَا ، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا إضْمَارُ مِنْ وَلَوْ كَانَ حَرْفُ الْجَرّ
مَعَهَا لِلْعِلّتَيْنِ المتقدمتين لَاطّرَدَ جَوَازُ ذَلِكَ فِيهَا عَلَى
الْإِطْلَاقِ وَإِنّمَا هِيَ أَبَدًا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا حَرْفُ الْجَرّ
ظَاهِرًا مَفْعُولَةً بِفِعْلِ مُضْمَرٍ وَقَدْ تَكُونُ فَاعِلَةً وَلَكِنْ
بِفِعْلِ ظَاهِرٍ نَحْوُ يُعْجِبنِي أَنْ تَقُومَ وَأَمّا خَرَجْت أَنْ أَرَى
زَيْدًا فَعَلَى إضْمَارِ الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ كَأَنّك أَرَدْت : أَنْ
أَرَاهُ أَوْ أَنْ لَا أَرَاهُ لِأَنّ كُلّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا ، فَقَدْ أَرَادَ
بِهِ أَمْرًا مَا ، لَكِنّك إنْ جَعَلْت مَكَانَهَا الْمَصْدَرَ لَمْ يَجُزْ
الْإِضْمَارُ أَوْ قُبّحَ لِأَنّ الْمَصْدَرَ تَعْمَلُ فِيهِ الْأَفْعَالُ
الظّاهِرَةُ إذَا كَانَتْ مُتَعَدّيَةً وَتَصِلُ إلَيْهِ بِحَرْفِ جَرّ إذَا لَمْ
تَكُنْ مُتَعَدّيَةً وَأَنّ مَعَ الْفِعْلِ لَا تَعْمَلُ فِيهَا الْحَوَاسّ وَلَا
أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ الظّاهِرَةِ تَقُولُ رَأَيْت قِيَامَ زَيْدٍ وَلَا تَقُولُ
أَنْ يَقُومَ وَسَمِعْت كَلَامَك ، وَلَا تَقُولُ سَمِعْت أَنْ تَتَكَلّمَ
وَإِنّمَا يَتَعَلّقُ بِهَا ، وَتَعْمَلُ فِيهَا الْأَفْعَالُ الْبَاطِنَةُ نَحْوُ
خِفْت وَاشْتَهَيْت وَكَرِهْت ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى هَذَا أَوْ قَرِيبًا
مِنْهُ فَإِذَا سَمِعَ الْمُخَاطَبُ أَنّ مَعَ الْفِعْلِ لَمْ يَذْهَبْ وَهْمُهُ
بِحُكْمِ الْعَادَةِ إلّا إلَى هَذِهِ الْمَعَانِي ، فَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً
فَذَاكَ وَإِلّا اعْتَقَدْنَا أَنّهَا مُضْمَرَةً وَأَنّ الْفِعْلَ الظّاهِرَ
دَالّ عَلَيْهَا . [ ص 103 ] وَقَعَ قَبْلَهَا فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ
الظّاهِرَةِ وَقَعَ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مُتَعَدّيًا أَوْ وُصِلَ بِحَرْفِ إنْ
كَانَ غَيْرَ مُتَعَدّ وَمُنِعَ مِنْ الْإِضْمَارِ أَنّهُ لَفْظِيّ ،
وَالْإِضْمَارُ مَعْنَوِيّ إلّا فِي بَابِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ وَقَدْ
قَدّمْنَا فِيهِ سِرّا بَدِيعًا فِيمَا سَبَقَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
الْحَارِثِ أَيْضًا :
وَتِلْكَ قُرَيْشٌ تَجْحَدُ اللّهَ حَقّهُ ... كَمَا جَحَدَتْ عَادٌ وَمَدْيَنُ
وَالْحِجْرُ
فَإِنْ أَنَا لَمْ أَبْرِقْ فَلَا يَسَعَنّنِي ... مِنْ الْأَرْضِ بَرّ ذُو
فَضَاءٍ وَلَا بَحْرُ
بِأَرْضِ بِهَا عَبْدُ الْإِلَهِ مُحَمّدٌ ... أُبَيّنُ مَا فِي النّفْسِ إذْ
بَلَغَ النّقْرُ
فَسُمّيَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الْحَارِثِ - يَرْحَمُهُ اللّهُ - لَبَيْتِهِ الّذِي
قَالَ الْمُبْرِق .Sفَصْلٌ
وَأَنْشَدَ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ شِعْرًا فِيهِ كَمَا جَحَدَتْ عَادٌ
وَمَدْيَنُ وَالْحِجْرُ
أَمّا عَادٌ فَقَدْ تَقَدّمَ نَسَبُهَا ، وَأَمّا الْحِجْرُ فَلَيْسَتْ بِأُمّةِ
وَلَكِنّهَا دِيَارُ ثَمُودَ . أَرَادَ أَهْلَ الْحِجْرِ ، وَأَمّا مَدْيَنُ
فَأُمّةُ شُعَيْبٍ ، وَهُمْ بَنُو مَدَيَانِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ
وَأُمّهُمْ قُطُورًا بِنْتُ يَقِطَانِ الْكَنْعَانِيّةُ ، وَلَدَتْ لَهُ
ثَمَانِيّةً مِنْ الْوَلَدِ تَنَاسَلَتْ مِنْهُمْ أُمَمٌ وَقَدْ سَمّيْنَاهُمْ فِي
كِتَابِ التّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ وَفِي أَوّلِ هَذَا الْكِتَابِ . وَفِيهِ
أَيْضًا قَوْلُهُ فَإِنْ أَنَا لَمْ أَبْرِقْ فَلَا يَسَعَنّنِي . الْبَيْتَ قَالَ
وَبِهِ سُمّيَ الْمُبْرِقَ قَالَ الْمُؤَلّفُ وَفِي هَذَا حُجّةٌ عَلَى
الْأَصْمَعِيّ حِينَ مَنَعَ أَنْ يُقَالَ أُرْعِد وَأُبْرِق ، وَذَكَرَ لَهُ
قَوْلَ الْكُمَيْتِ أُرْعِدُ وَأُبْرِقُ يَا يَزِيدُ
فَلَمْ يَرَهُ حُجّةً [ وَقَالَ الْكُمَيْتُ جُرْمقَانِيّ مِنْ أَهْلِ الْمُوصِلِ
] لَيْسَ بِحُجّةِ وَأَلْحَقَهُ بِالْمُحَدّثِينَ لِتَأَخّرِ زَمَانِهِ كَمَا فَعَلَ
بِذِي الرّمّةِ حِينَ احْتَجّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ ذُو زَوْجَةٍ بِالْمِصْرِ أَمْ
ذُو خُصُومَةٍ
فَأَبَى أَنْ يَقُولَ زَوْجَةٌ بِهَاءِ التّأْنِيثِ وَقَالَ طَالَمَا أَكَلَ ذُو
الرّمّةِ الزّيْتَ فِي حَوَانِيتِ الْبَقّالِينَ وَبَيْتُ الْمُبْرِقِ فِي هَذَا حُجّةٌ
بِلَا خِلَافٍ وَقَدْ وُجِدَ أُرْعِدُ وَأُبْرِقُ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَيْتِ
مِمّا تَقُومُ بِهِ الْحُجّةُ أَيْضًا ، وَبَيْتُ الْمُبْرِقِ هَذَا يَحْتَمِلُ
وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَبْرَقَ فِي الْأَرْضِ إذَا ذَهَبَ بِهَا
لَا مِنْ أَرْعَدَ وَأَبْرَقَ وَكَذَلِكَ وَجَدْته فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ
عَلَى هَذَا الْبَيْتِ مَنْسُوبًا لِلْمَصْعَبِ قَالَ الْإِبْرَاقُ الذّهَابُ
وَفِي الْعَيْنِ أَبَرَقَتْ النّاقَةُ بِذَنَبِهَا إذَا ضَرَبَتْ [ ص 104 ] قَالَ
نَهْشَلُ بْنُ دَارِمٍ لِأَخِيهِ سَلِيطٍ - وَقَدْ لَامَهُ عَلَى تَرْكِ
الْكَلَامِ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ لَا أُحْسِنُ تَأْنَامَكَ وَلَا تَكْذَابَكَ
تَشُولُ بِلِسَانِك شَوَلَانَ الْبُرُوقِ . وَذَكَرَ فِي الشّعْرِ يَلِينَ مَا فِي
النّفْسِ إذْ بَلَغَ النّقْرُ
وَيُرْوَى : يَلِينَ مَا فِي الصّدْرِ . وَالنّقْرُ الْبَحْثُ عَنْ الشّيْءِ
وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِيهِ التّنْقِيرُ وَاسْتَشْهَدَ عَبْدُ اللّهِ
الْمُبْرِقُ فِي غَزْوَةِ الطّائِفِ ، وَكَانَ أَبُوهُ الْحَارِثَ مِنْ
الْمُسْتَهْزِئِينَ وَكَانَ جَدّهُ قَيْسٌ أَعَزّ قُرَيْشٍ فِي زَمَانِهِ يُرْوَى
أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ كَانَ يُنَفّزُ ابْنَهُ عَبْدَ اللّهِ وَالِدَ رَسُولِ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ طِفْلٌ فَيَقُولُ
كَأَنّهُ فِي الْعِزّ قَيْسُ بْنُ عَدِيّ ... فِي دَارِ قَيْسٍ النّدِيّ يَنْتَدِي
قَالَهُ الزّبِيرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ .
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ
مَظْعُونٍ يُعَاتِبُ أُمَيّةَ بْنَ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ
، وَهُوَ ابْنُ عَمّهِ وَكَانَ يُؤْذِيهِ فِي إسْلَامِهِ وَكَانَ أُمَيّةُ
شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ
أَتَيْمَ بْنَ عَمْرٍو لِلّذِي جَاءَ بِغْضَةً ... وَمِنْ دُونِهِ الشّرْمَان
وَالْبَرْكُ أَكْتَعُ
أَأَخْرَجْتنِي مِنْ بَطْنِ مَكّةَ آمِنًا ... وَأَسْكَنْتنِي فِي صَرْحِ
بَيْضَاءَ تُقْذَعُ
تَرِيشُ نِبَالًا لَا يُوَاتِيك رِيشُهَا ... وَتِبْرِي نِبَالًا رِيشُهَا لَك
أَجْمَعُ
وَحَارَبْت أَقْوَامًا كِرَامًا أَعِزّةً ... وَأَهْلَكْت أَقْوَامًا بِهِمْ كُنْت
تَفْزَعُ
سَتَعْلَمُ إنْ نَابَتْك يَوْمًا مُلِمّةٌ ... وَأَسْلَمَك الْأَوْبَاشُ مَا كُنْت
تَصْنَعُ
[ ص 107 ] وَتَيْمُ بْنُ عَمْرٍو ، الّذِي يَدْعُو عُثْمَانُ جُمَحٌ كَانَ اسْمُهُ
تَيْمًا .Sحَوْلَ لَامِ التّعَجّبِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ شِعْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ : أَتَيْمَ بْن عَمْرٍو لِلّذِي جَاءَ
بِغْضَةً
أَرَاهُ عَجَبًا لِلّذِي جَاءَ وَالْعَرَبُ تَكْتَفِي بِهَذِهِ اللّامِ فِي
التّعَجّبِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ لِهَذَا الْعَبْدِ الْحَبَشِيّ جَاءَ
مِنْ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ إلَى الْأَرْضِ الّتِي خُلِقَ مِنْهَا قَالَهُ فِي
عَبْدٍ حَبَشِيّ دُفِنَ بِالْمَدِينَةِ ، وَقَالَ فِي جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ
مُعَاذٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى قَبْرِهِ وَتَقَهْقَرَ ثُمّ قَالَ سُبْحَانَ اللّهِ
لِهَذَا الْعَبْدِ الصّالِحِ ضُمّ عَلَيْهِ الْقَبْرُ ثُمّ فُرِجَ عَنْهُ وَقِيلَ
فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ } أَقْوَالٌ مِنْهَا : أَنّهَا
مُتَعَلّقَةٌ بِمَعْنَى التّعَجّبِ كَأَنّهُ قَالَ اعْجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ
، وَبِغْضَةً نُصِبَ عَلَى التّمْيِيزِ كَأَنّهُ قَالَ يَا عَجَبًا لِمَا جَاءَ
بِهِ مِنْ بِغْضَةٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ وَرَوَى
الزّبَيْرُ هَذَا الْبَيْتَ أَتَيْمَ بْنَ عَمْرٍو الّذِي فَارَ ضِغْنُهُ
مِنْ مَعَانِي شِعْرِ ابْنِ مَظْعُونٍ
[ ص 105 ] بَيْطَاءَ تُقْدَعُ بِالطّاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا ، وَقَالَ
بِيَطَاءَ اسْمُ سَفِينَةٍ وَتُقْدَعُ بِالدّالِ أَيْ تُدْفَعُ وَزَعَمَ أَنّ
تَيْمَ بْنَ عَمْرٍو وَهُوَ جُمَحٌ سُمّيَ جُمَحًا ؛ لِأَنّ أَخَاهُ سَهْمَ بْنَ
عَمْرٍو - وَكَانَ اسْمُهُ زَيْدًا - سَابَقَهُ إلَى غَايَةٍ فَجَمَحَ عَنْهَا
تَيْمٌ فَسُمّيَ جُمَحًا ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا زَيْدٌ فَقِيلَ قَدْ سَهَمَ زَيْدٌ
فَسُمّيَ سَهْمًا . وَقَوْلُهُ وَمِنْ دُونِنَا الشّرْمَان . الشّرْمُ الْبَحْرُ
وَقَالَ الشّرْمَان بِالتّثْنِيَةِ لِأَنّهُ أَرَادَ الْبَحْرَ الْمِلْحَ
وَالْبَحْرَ الْعَذْبَ وَفِي التّنْزِيلِ { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ } وَالشّرْمُ
مِنْ شَرَمْت الشّيْءَ إذَا خَرَقْته ، وَكَذَلِكَ الْبَحْرُ مِنْ بَحَرْت
الْأَرْضَ إذَا خَرَقْتهَا ، وَمِنْهُ سُمّيَتْ الْبَحِيرَةُ لِخَرْقِ أُذُنِهَا
وَالْبَرْكُ : مَا اطْمَأَنّ مِنْ الْأَرْضِ وَاتّسَعَ وَلَمْ يَكُنْ مُنْتَصِبًا
كَالْجِبَالِ . وَقَوْلُهُ فِي صَرْحِ بَيْضَاءَ . يُرِيدُ مَدِينَةَ الْحَبَشَةِ
، وَأَصْلُ الصّرْحِ الْقَصْرُ يُرِيدُ أَنّهُ سَاكِنٌ عِنْدَ صَرْحِ النّجَاشِيّ
. وَقَوْلُهُ تُقْذَعُ أَيْ تُكْرَهُ كَأَنّهُ مِنْ أَقَذَعْت الشّيْءَ إذَا
صَادَفَتْهُ قَذِعًا وَيُقَالُ أَيْضًا : قَذَعْت الرّجُلَ إذَا رَمَيْته
بِالْفُحْشِ يُرِيدُ أَنّ أَرْضَ الْحَبَشَةِ مَقْذُوعَةٌ وَأَحْسِبُ هَذِهِ
الرّوَايَةَ تَصْحِيفًا ، وَالصّحِيحُ مَا قَدّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ الزّبَيْرِ
وَرِوَايَتِهِ وَأَنّهُ بِيَطَاءَ بِالطّاءِ وَتُقْدَعُ بِالدّالِ . وَقَوْلُهُ
وَأَسْلَمَك الْأَوْبَاشُ يُرِيدُ أَخْلَاطًا مِنْ النّحَاسِ يُقَال : أَوْشَابٌ
وَأَوْبَاشٌ وَالْأَوْبَاشُ أَيْضًا شَجَرٌ مُتَفَرّقٌ وَالْوَبْشُ بَيَاضٌ فِي
أَظْفَارِ الْأَحْدَاثِ .
أَنْسَابٌ
وَذَكَرَ فِيمَنْ هَاجَرَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي عَدِيّ مَعْمَرُ
بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نَضْلَةَ وَقَالَ فِيهِ عَلِيّ بْنُ الْمَدِينِيّ :
إنّمَا هُوَ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نَافِعِ بْنِ نَضْلَةَ . وَقَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : نَضْلَةُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حُرْثَانَ بْنِ عَوْفِ بْن
عُبَيْدٍ وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ قَالَ إنّمَا هُوَ نَضْلَةُ بْنُ
عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجٍ وَذَكَرَ أَنّهُ قَوْلُ مُصْعَبٍ فِي كِتَابِ
[ ص 106 ] وَذَكَرَ فِي بَنِي عَدِيّ عُرْوَةَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حُرْثَانَ
كَذَا فِي كِتَابِ الْمُصْعَبِ إلّا أَنّهُ قَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي أُثَاثَةَ
أَوْ عُرْوَةُ بْنُ أَبِي أُثَاثَةَ عَلَى الشّكّ وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ فِي
كِتَابِ الِاسْتِيعَابِ فَقَالَ فِيهِ عُرْوَةُ بْنُ أَبِي أُثَاثَةَ وَيُقَالُ
ابْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حُرْثَانَ قَالَ وَأُمّهُ أُمّ عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِي ، فَهُوَ أَخُوهُ لِأُمّ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَأُمّهُمَا اسْمُهَا
: لَيْلَى ، وَتَلَقّبَ بِالنّابِغَةِ وَهِيَ مِنْ بَنِي رَبِيعَةَ ثُمّ مِنْ
بَنِي جَلّانَ قَالَ أَبُو عُمَرَ وَيُقَالُ فِيهِ ابْنُ أَبِي أُثَاثَةَ قَالَ
الْمُؤَلّفُ وَقَدْ قَدّمْنَا أَنّ الْمُصْعَبَ الزّبَيْرِيّ شَكّ فِيهِ فَقَالَ
عُرْوَةُ أَوْ عَمْرٌو ، وَأَمّا الزّبَيْرُ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي أُثَاثَةَ
وَلَمْ يَشُكّ ثُمّ قَالَ أَبُو عُمَرَ لَمْ يَذْكُرُهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِيمَنْ
هَاجَرَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَذَكَرَهُ الْوَاقِدِيّ ، وَأَبُو مَعْشَرٍ
وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ ، قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ أَبِي عُمَرَ -
رَحِمَهُ اللّهُ - فَإِنّ ابْنَ إسْحَاقَ ذَكَرَهُ فِيهِمْ غَيْرَ أَنّهُ نَسَبَهُ
إلَى جَدّهِ عَبْدِ الْعُزّى ، وَأَسْقَطَ اسْمَ أَبِيهِ أَبِي أُثَاثَةَ وَقَالَ
حِينَ ذَكَرَ مَنْ هَاجَرَ مِنْ بَنِي عَدِيّ بَعْدَ مَا عَدّهُمْ خَمْسَةً قَالَ
أَرْبَعَةُ نَفَرٍ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَذَكَرَ فِيهِمْ مَعَ
الْخَمْسَةِ لَيْلَى بِنْتَ أَبِي حَثْمَةَ امْرَأَةَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ،
فَهُمْ عَلَى هَذَا سِتّةٌ غَيْرَ أَنّهُ يَحْتَمِلُ أَنّهُ يُرِيدُ أَرْبَعَةَ
نَفَرٍ دُونَ حَلِيفِهِمْ عَامِرٍ وَمَا أَظُنّهُ قَصَدَ هَذَا ؛ لِأَنّ مِنْ
عَادَتِهِ أَنّ يَعُدّ الْحُلَفَاءَ مَعَ الصّمِيمِ لِأَنّ الدّعْوَةَ
تَجْمَعُهُمْ .
أُمّ سَلَمَةَ
وَذَكَرَ أُمّ سَلَمَةَ وَبَعْلَهَا أَبَا سَلَمَةَ تُوُفّيَ عَنْهَا
بِالْمَدِينَةِ ، وَخَلّفَ عَلَيْهَا رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَذَكَرَ اسْمَهَا هَذَا ، وَقِيلَ فِي اسْمِهَا : رَمَلَةُ وَأَبُوهَا
أَبُو أُمَيّةَ اسْمُهُ حُذَيْفَةُ يُعْرَفُ بِزَادِ الرّاكِبِ . وَذَكَرَ أَنّهَا
وَلَدَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ ، وَكَانَ اسْمُ
زَيْنَبَ بَرّةَ فَسَمّاهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
زَيْنَبَ كَانَتْ زَيْنَبُ هَذِهِ عِنْدَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَمْعَةَ وَكَانَتْ
قَدْ دَخَلَتْ ع