الروض
الأنف
مُقَدّمَةُ الرّوْضِ الْأُنُفِ
[ ص 15 ] الْمُقَدّمِ عَلَى كُلّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ وَذِكْرُهُ - سُبْحَانَهُ -
حَرِيّ أَلّا يُفَارِقَ الْخَلَدَ وَالْبَالَ كَمَا بَدَأَنَا - جَلّ وَعَلَا -
بِجَمِيلِ عَوَارِفِهِ قَبْلَ الضّرَاعَةِ إلَيْهِ وَالِابْتِهَالِ فَلَهُ
الْحَمْدُ - تَعَالَى - حَمْدًا لَا يَزَالُ دَائِمَ الِاقْتِبَالِ . ضَافِيَ
السّرْبَالِ جَدِيدًا عَلَى مَرّ الْجَدِيدَيْنِ غَيْرَ بَالٍ . عَلَى أَنّ
حَمْدَهُ - سُبْحَانَهُ - وَشُكْرَهُ عَلَى نِعَمِهِ وَجَمِيلِ بَلَائِهِ مِنّةٌ
مِنْ مِنَنِهِ . وَآلَاءٌ مِنْ آلَائِهِ . فَسُبْحَانَ مَنْ لَا غَايَةَ لِجُودِهِ
وَنَعْمَائِهِ وَلَا حَدّ لِجَلَالِهِ وَلَا حَصْرَ لِأَسْمَائِهِ وَالْحَمْدُ
لِلّهِ الّذِي أَلْحَقَنَا بِعِصَابَةِ الْمُوَحّدِينَ وَوَفّقَنَا لِلِاعْتِصَامِ
بِعُرْوَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْمَتِينِ [ ص 16 ] وَخَلَقَنَا فِي إبّانِ
الْإِمَامَةِ الْمَوْعُودِ بِبَرَكَتِهَا عَلَى لِسَانِ الصّادِقِ الْأَمِينِ
إمَامَةِ سَيّدِنَا الْخَلِيفَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ابْنِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ ابْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ السّاطِعَةِ أَنْوَارُهَا فِي
جَمِيعِ الْآفَاقِ . الْمُطْفِئَةِ بِصَوْبِ سَحَائِبِهَا ، وَجَوْبِ كَتَائِبِهَا
جَمَرَاتِ الْكُفْرِ وَالنّفَاقِ
فِي دَوْلَةٍ لَحَظَ الزّمَانُ شُعَاعًا ... فَارْتَدّ مُنْتَكِصًا بِعَيْنَيْ
أَرْمَدِ
مَنْ كَانَ مَوْلِدُهُ تَقَدّمَ قَبْلَهَا ... أَوْ بَعْدَهَا ، فَكَأَنّهُ لَمْ
يُولَدْ
فَلَهُ الْحَمْدُ - تَعَالَى - عَلَى ذَلِكَ كُلّهِ حَمْدًا لَا يَزَالُ
يَتَجَدّدُ وَيَتَوَالَى ، وَهُوَ الْمَسْئُولُ - سُبْحَانَهُ - أَنْ يَخُصّ
بِأَشْرَفِ صَلَوَاتِهِ وَأَكْثَفِ بَرَكَاتِهِ الْمُجْتَبَى مِنْ خَلِيقَتِهِ
وَالْمَهْدِيّ بِطَرِيقَتِهِ الْمُؤَدّيَ إلَى اللّقَمِ الْأَفْيَحِ وَالْهَادِيَ
إلَى مَعَالِمِ دِينِ اللّهِ مَنْ أَفْلَحَ نَبِيّهُ مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - كَمَا قَدْ أَقَامَ بِهِ الْمِلّةَ الْعَوْجَاءَ ،
وَأَوْضَحَ بِهَدْيِهِ الطّرِيقَةَ الْبَلْجَاءَ وَفَتَحَ بِهِ آذَانًا صُمّا
وَعُيُونًا عُمْيًا ، وَقُلُوبًا غُلْفًا . فَصَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
صَلَاةً تُحِلّهُ أَعْلَى مَنَازِلِ الزّلْفَى .
الْغَايَةُ مِنْ تَأْلِيفِ الْكِتَابِ
( وَبَعْدُ ) فَإِنّي قَدْ انْتَحَيْت فِي هَذَا الْإِمْلَاءِ بَعْدَ اسْتِخَارَةِ
ذِي الطّوْلِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِمَنْ لَهُ الْقُدْرَةُ وَالْحَوْلُ . إلَى
إيضَاحِ مَا وَقَعَ فِي سِيرَةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- الّتِي سَبَقَ إلَى تَأْلِيفِهَا أَبُو بَكْرِ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ
الْمُطّلِبِيّ ، وَلَخَصّهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ الْمَعَافِرِيّ الْمِصْرِيّ
النّسّابَةُ النّحْوِيّ مِمّا بَلَغَنِي عِلْمُهُ وَيُسّرَ لِي فَهْمُهُ مِنْ
لَفْظٍ غَرِيبٍ أَوْ إعْرَابٍ غَامِضٍ أَوْ كَلَامٍ مُسْتَغْلِقٍ أَوْ نَسَبٍ
عَوِيصٍ أَوْ مَوْضِعِ فِقْهٍ يَنْبَغِي التّنْبِيهُ عَلَيْهِ أَوْ خَبَرٍ نَاقِصٍ
يُوجَدُ السّبِيلُ إلَى تَتِمّتِهِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِكُلُولِ الْحَدّ عَنْ
مَبْلَغِ ذَلِكَ [ ص 17 ] يُدَعّ الْجَحْشُ مَنْ بَذّهُ الْأَعْيَارُ وَمَنْ
سَافَرَتْ فِي الْعِلْمِ هِمّتُهُ فَلَا يُلْقِ عَصَا التّسْيَارِ وَقَدْ قَالَ
الْأَوّلُ
افْعَلْ الْخَيْرَ مَا اسْتَطَعْت ، وَإِنْ كَا ... نَ قَلِيلًا فَلَنْ تُحِيطَ
بِكُلّهْ
وَمَتَى تَبْلُغُ الْكَثِيرَ مِنْ الْفَضْلِ ... إذَا كُنْت تَارِكًا لِأَقَلّهْ ؟
نَسْأَلُ اللّه َ التّوْفِيقَ لِمَا يُرْضِيهِ وَشُكْرًا يَسْتَجْلِبُ الْمَزِيدَ
مِنْ فَضْلِهِ وَيَقْتَضِيهِ .
لِمَاذَا أَتْقَنَ التّأْلِيفَ
قَالَ الْمُؤَلّفُ أَبُو الْقَاسِمِ قُلْت هَذَا ؛ لِأَنّي كُنْت حِينَ شَرَعْت
فِي إمْلَاءِ هَذَا الْكِتَابِ خُيّلَ إلَيّ أَنّ الْمَرَامَ عَسِيرٌ فَجَعَلْت
أَخْطُو خَطْوَ الْحَسِيرِ . وَأَنْهَضُ نَهْضَ الْبَرْقِ الْكَسِيرِ وَقُلْت :
كَيْفَ أَرِدُ مَشْرَعًا لَمْ يَسْبِقْنِي إلَيْهِ فَارِطٌ . وَأَسْأَلُك سَبِيلًا
لَمْ تُوطَأْ قَبْلِي بِخُفّ وَلَا حَافِرٍ فَبَيْنَا أَنَا أَتَرَدّدُ تَرَدّدَ
الْحَائِرِ إذْ سَفَعَ لِي هُنَالِكَ خَاطِرٌ أَنّ هَذَا الْكِتَابَ سَيَرِدُ
الْحَضْرَةَ الْعَلِيّةَ الْمُقَدّسَةَ الْإِمَامِيّةَ . وَأَنّ الْإِمَامَةَ
سَتَلْحَظُهُ بِعَيْنِ الْقَبُولِ وَأَنّهُ سَيُكْتَتَبُ لِلْخِزَانَةِ
الْمُبَارَكَةِ - عَمّرَهَا اللّهُ - بِحِفْظِهِ وَكِلَاءَتِهِ وَأَمَدّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ بِتَأْيِيدِهِ وَرِعَايَتِهِ فَيَنْتَظِمُ الْكِتَابُ بِسَلْكِ
أَعْلَاقِهَا ، وَيَتّسِقُ مَعَ تِلْكَ الْأَنْوَارِ فِي مَطَالِعِ إشْرَافِهَا ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ امْتَطَيْت صَهْوَةَ الْجِدّ وَهَزَزْت نَبْعَةَ الْعَزْمِ .
وَمَرَيْت أَخْلَافَ الْحِفْظِ وَاجْتَهَرْتُ يَنَابِيعَ الْفِكْرِ وَعَصَرْت
بَلَالَةَ الطّبْعِ فَأَلْفَيْت - بِحَمْدِ اللّهِ - الْبَابَ فُتُحًا وَسَلَكْت
سُبُلَ رَبّي ذُلُلًا ، فَتَبَجّسَتْ لِي - بِمَنّ اللّهِ تَعَالَى - مِنْ
الْمَعَانِي الْغَرِيبَةِ عُيُونُهَا ، وَانْثَالَتْ عَلَيّ مِنْ الْفَوَائِدِ
اللّطِيفَةِ أَبْكَارُهَا وَعُونُهَا ، وَطَفِقَتْ عَقَائِلُ الْكَلِمِ
يَزْدَلِفْنَ إلَيّ بِأَيّتِهِنّ أَبْدَأُ فَأَعْرَضْت عَنْ بَعْضِهَا إيثَارًا
لِلْإِيجَازِ وَدَفَعْت فِي صُدُورِ أَكْثَرِهَا خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ
وَالْإِمْلَالِ لَكِنْ تَحَصّلَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ فَوَائِدِ الْعُلُومِ
وَالْآدَابِ وَأَسْمَاءِ الرّجَالِ [ ص 18 ] صَدْرِي ، وَنَفَحَهُ فِكْرِي .
وَنَتَجَهُ نَظَرِي ، وَلَقِنْته عَنْ مَشْيَخَتِي ، مِنْ نُكَتٍ عِلْمِيّةٍ لَمْ
أُسْبَقْ إلَيْهَا ، وَلَمْ أُزْحَمْ عَلَيْهَا ، كُلّ ذَلِكَ بِيُمْنِ اللّهِ
وَبَرَكَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْمُحْيِي لِخَوَاطِرِ الطّالِبِينَ وَالْمُوقِظِ
لِهِمَمِ الْمُسْتَرْشِدِينَ وَالْمُحَرّكِ لِلْقُلُوبِ الْغَافِلَةِ إلَى
الِاطّلَاعِ عَلَى مَعَالِمِ الدّينِ مَعَ أَنّي قَلّلْت الْفُضُولَ وَشَذّبْت
أَطْرَافَ الْفُصُولِ وَلَمْ أَتَتَبّعْ شُجُونَ الْأَحَادِيثِ وَلِلْحَدِيثِ شُجُونٌ
وَلَا جَمَحَتْ بِي خَيْلُ الْكَلَامِ إلَى غَايَةٍ لَمْ أُرِدْهَا ، وَقَدْ
عَنَتْ لِي مِنْهُ فُنُونٌ فَجَاءَ الْكِتَابُ مِنْ أَصْغَرِ الدّوَاوِينِ حَجْمًا
. وَلَكِنّهُ كُنَيْفٌ مَلِيءٌ عِلْمًا ، وَلَوْ أَلّفَهُ غَيْرِي لَقُلْت فِيهِ
أَكْثَرَ مِنْ قَوْلِي هَذَا . وَكَانَ بَدْءُ إمْلَائِي هَذَا الْكِتَابِ فِي
شَهْرِ الْمُحَرّمِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَكَانَ
الْفَرَاغُ مِنْهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ . سَنَدُهُ
فَالْكِتَابُ الّذِي تَصَدّيْنَا لَهُ مِنْ السّيَرِ هُوَ مَا حَدّثَنَا بِهِ
الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْعَرَبِيّ
سَمَاعًا عَلَيْهِ قَالَ ثِنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقَرَافِيّ الشّافِعِيّ ، قَالَ
ثِنَا أَبُو مُحَمّدِ بْنُ النّحّاسِ قَالَ ثِنَا أَبُو مُحَمّدِ عَبْدُ اللّهِ
بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْوَرْدِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَبْدِ الرّحِيمِ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحِيمِ بْنِ أَبِي زُرْعَةَ الزّهْرِيّ الْبَرْقِيّ عَنْ
أَبِي مُحَمّدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هِشَامٍ وَحَدّثَنَا بِهِ أَيْضًا -
سَمَاعًا عَلَيْهِ - أَبُو مَرْوَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ بُونُهْ
الْقُرَشِيّ الْعَبْدَرِيّ عَنْ أَبِي بَحْرٍ سُفْيَانَ بْنِ الْعَاصِ الْأَسَدِيّ
عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ هِشَامِ بْنِ أَحْمَدَ الْكِنَانِيّ . وَحَدّثَنِي بِهِ
أَيْضًا أَبُو مَرْوَانَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ بِزَالٍ عَنْ أَبِي عُمَرَ
أَحْمَدَ بْنِ مُحَمّدٍ الْمُقْرِي الطّلَمَنْكِيّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ
بْنِ عَوْنِ اللّهِ بْنِ حُدَيْرٍ عَنْ أَبِي مُحَمّدِ بْنِ الْوَرْدِ عَنْ
الْبَرْقِيّ عَنْ ابْنِ هِشَامٍ . وَحَدّثَنِي بِهِ أَيْضًا - سَمَاعًا وَإِجَازَةً
- أَبُو بَكْرِ مُحَمّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْإِشْبِيلِيّ عَنْ أَبِي عَلِيّ
الْغَسّانِيّ عَنْ أَبِي عُمَرَ النّمَرِيّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَشْيَاخِهِ عَنْ
الطّلَمَنْكِيّ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّمِ .
تَرْجَمَةُ
ابْنِ إسْحَاقَ
[ ص 19 ] أَبُو بَكْرمُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ الْمُطّلِبِيّ
بِالْوَلَاءِ لِأَنّ وَلَاءَهُ لِقَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ
عَبْدِ مَنَافٍ ، وَكَانَ جَدّهُ يَسَارٌ مِنْ سَبْيِ عَيْنِ التّمْرِ ، سَبَاهُ
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ . وَمُحَمّدُ بْنُ إسْحَاق هَذَا - رَحِمَهُ اللّهُ -
ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَأَمّا فِي الْمَغَازِي
وَالسّيَرِ فَلَا تُجْهَلُ إمَامَتُهُ فِيهَا . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ :
مَنْ أَرَادَ الْمَغَازِيَ فَعَلَيْهِ بِابْنِ إسْحَاقَ . ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ
فِي التّارِيخِ ، وَذَكَرَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنّهُ قَالَ مَا
أَدْرَكْت أَحَدًا يَتّهِمُ ابْنَ إسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ
شُعْبَةَ بْنِ الْحَجّاجِ أَنّهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
يَعْنِي : فِي الْحَدِيثِ وَذَكَرَ أَبُو يَحْيَى السّاجِيّ - رَحِمَهُ اللّهُ -
بِإِسْنَادِ لَهُ عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ خَرَجَ إلَى قَرْيَتِهِ بَاذَامَ
فَخَرَجَ إلَيْهِ طُلّابُ الْحَدِيثِ فَقَالَ لَهُمْ أَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ
الْغُلَامِ الْأَحْوَلِ أوَ قَدْ خَلّفْت فِيكُمْ الْغُلَامَ الْأَحْوَلَ يَعْنِي
: ابْنَ إسْحَاقَ ، وَذَكَرَ السّاجِيّ أَيْضًا قَالَ كَانَ أَصْحَابُ الزّهْرِيّ
يَلْجَئُونَ إلَى مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ فِيمَا شَكّوا فِيهِ مِنْ حَدِيثِ
الزّهْرِيّ ، ثِقَةً مِنْهُمْ بِحِفْظِهِ هَذَا مَعْنَى كَلَامِ السّاجِيّ
نَقَلْته مِنْ حِفْظِي ، لَا مِنْ كِتَابٍ . وَذَكَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ ،
وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطّانِ أَنّهُمْ [ ص 20 ]
ابْنَ إسْحَاقَ ، وَاحْتَجّوا بِحَدِيثِهِ وَذَكَرَ عَلِيّ بْنُ عُمَرَ
الدّارَقُطْنِيّ فِي السّنَنِ حَدِيثَ الْقُلّتَيْنِ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ وَمَا
فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ ثُمّ قَالَ فِي حَدِيثٍ جَرَى : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى
حِفْظِ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَشِدّةِ إتْقَانِهِ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَإِنّمَا
لَمْ يُخْرِجْ الْبُخَارِيّ عَنْهُ وَقَدْ وَثّقَهُ وَكَذَلِكَ وَثّقَهُ مُسْلِمُ
بْنُ الْحَجّاجِ ، وَلَمْ يُخْرِجْ عَنْهُ أَيْضًا إلّا حَدِيثًا وَاحِدًا فِي
الرّجْمِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيّ عَنْ أَبِيهِ مِنْ أَجْلِ طَعْنِ مَالِكٍ
فِيهِ وَإِنّمَا طَعَنَ فِيهِ مَالِكٌ - فِيمَا ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ
اللّهُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ إدْرِيسَ الْأَوْدِيّ - لِأَنّهُ بَلَغَهُ أَنّ
ابْنَ إسْحَاقَ قَالَ هَاتُوا حَدِيثَ مَالِكٍ فَأَنَا طَبِيبٌ بِعِلَلِهِ فَقَالَ
مَالِكٌ وَمَا ابْنُ إسْحَاقَ ؟ إنّمَا هُوَ دَجّالٌ مِنْ الدّجَاجِلَةِ نَحْنُ
أَخْرَجْنَاهُ مِنْ الْمَدِينَةِ ، يُشِيرُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - إلَى أَنّ
الدّجّالَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ . قَالَ ابْنُ إدْرِيسَ وَمَا عَرَفْت أَنّ
دَجّالًا يُجْمَعُ عَلَى دَجَاجِلَةٍ حَتّى سَمِعْتهَا عَنْ مَالِكٍ وَذَكَرَ أَنّ
ابْنَ إسْحَاقَ مَاتَ بِبَغْدَادَ سَنَةَ إحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ وَقَدْ
أَدْرَكَ مَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ مَالِكٌ رَوَى حَدِيثًا كَثِيرًا عَنْ مُحَمّدِ
بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ ، وَمَالِكٌ إنّمَا يُرْوَى عَنْ
رَجُلٍ عَنْهُ وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ ثَابِتٍ فِي
تَارِيخِهِ - فِيمَا ذَكَرَ لِي عَنْهُ - أَنّهُ - يَعْنِي ابْنَ إسْحَاقَ - رَأَى
أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ وَالصّبْيَانُ خَلْفَهُ
يَشْتَدّونَ وَيَقُولُونَ هَذَا صَاحِبُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - لَا يَمُوتُ حَتّى يَلْقَى الدّجّالَ وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَيْضًا
أَنّهُ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ ،
وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ . وَذَكَرَ أَنّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ
الْأَنْصَارِيّ شَيْخَ مَالِكٍ رَوَى عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ قَالَ وَرَوَى عَنْهُ
سُفْيَانُ الثّوْرِيّ ، وَالْحَمّادَانِ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ ،
وَحَمّادُ بْنُ زَيْدِ بْنِ دِرْهَمٍ ، وَشُعْبَةُ . وَذَكَرَ عَنْ الشّافِعِيّ -
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - أَنّهُ قَالَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحّرَ فِي
الْمَغَازِي ، فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ فَهَذَا مَا بَلَغَنَا
عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ - رَحِمَهُ اللّهُ .
رُوَاةُ
الْكِتَابِ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ
[ ص 21 ] يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ الشّيْبَانِيّ وَمُحَمّدُ بْنُ فُلَيْحٍ
وَالْبَكّائِيّ ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ إدْرِيسَ وَسَلَمَةُ بْنُ
الْفَضْلِ الْأَسَدِيّ وَغَيْرُهُمْ . وَنَذْكُرُ الْبَكّائِيّ لِأَنّهُ شَيْخُ
ابْنِ هِشَامٍ ، وَهُوَ أَبُو مُحَمّدٍ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ طُفَيْلِ
بْنِ عَامِرٍ الْقَيْسِيّ الْعَامِرِيّ ، مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ثُمّ
مِنْ بَنِي الْبَكّاءِ وَاسْمُ الْبَكّاءِ رَبِيعَةُ ، وَسُمّيَ الْبُكَاءَ
لِخَبَرِ يَسْمُجُ ذِكْرُهُ كَذَلِكَ ذَكَرَ بَعْضُ النّسّابِينَ . وَالْبَكّائِيّ
هَذَا ثِقَةٌ خَرّجَ عَنْهُ الْبُخَارِيّ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ وَخَرّجَ عَنْهُ
مُسْلِمٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ وَحَسْبُك بِهَذَا تَزْكِيَةً . وَقَدْ
رَوَى زِيَادٌ عَنْ حُمَيْدٍ الطّوِيلِ وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ فِي التّارِيخِ عَنْ
وَكِيعٍ قَالَ زِيَادٌ [ ص 22 ] فَقَالَ فِي كِتَابِهِ عَنْ الْبُخَارِيّ : قَالَ
قَالَ وَكِيعٌ : زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ - عَلَى شَرَفِهِ - يَكْذِبُ فِي
الْحَدِيثِ وَهَذَا وَهْمٌ وَلَمْ يَقُلْ وَكِيعٌ فِيهِ إلّا مَا ذَكَرَهُ
الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخِهِ وَلَوْ رَمَاهُ وَكِيعٌ بِالْكَذِبِ مَا خَرّجَ الْبُخَارِيّ
عَنْهُ حَدِيثًا ، وَلَا مُسْلِمٌ كَمَا لَمْ يُخَرّجَا عَنْ الْحَارِثِ
الْأَعْوَرِ لَمّا رَمَاهُ الشّعْبِيّ بِالْكَذِبِ وَلَا عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي
عَيّاشٍ لَمّا رَمَاهُ شُعْبَةُ بِالْكَذِبِ وَهُوَ كُوفِيّ تُوُفّيَ سَنَةَ
ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ .
تَرْجَمَةُ
ابْنِ هِشَامٍ
وَأَمّا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ ، فَمَشْهُورٌ بِحَمْلِ الْعِلْمِ
مُتَقَدّمٌ فِي عِلْمِ النّسَبِ وَالنّحْوِ وَهُوَ حِمْيَرِيّ مَعَافِرِيّ مِنْ
مِصْرَ ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْبَصْرَةِ ، وَتُوُفّيَ بِمِصْرِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
وَمِائَتَيْنِ وَلَهُ كِتَابٌ فِي أَنْسَابِ حِمْيَرَ وَمُلُوكِهَا ، وَكِتَابٌ
فِي شَرْحِ مَا وَقَعَ فِي أَشْعَارِ السّيَرِ مِنْ الْغَرِيبِ - فِيمَا ذُكِرَ
لِي - وَالْحَمْدُ لِلّهِ كَثِيرًا ، وَصَلَوَاتُهُ عَلَى نَبِيّهِ مُحَمّدٍ
وَسَلَامُهُ .
بِسْمِ
اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
وَبِهِ نَسْتَعِينُ
[ ص 23 ] رَبّ الْعَالَمِينَ وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيّدِنَا مُحَمّدٍ وَآلِهِ
أَجْمَعِينَ .
ذِكْرُ سَرْدِ النّسَبِ الزّكِيّ
" مِنْ مُحَمّد ٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - إلَى آدَمَ
عَلَيْهِ السّلَامُ " قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ :
هَذَا كِتَابُ سِيرَةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ -
مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَاسْمُ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ : شَيْبَةُ بْنُ هَاشِمٍ وَاسْمُ هَاشِمٍ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ
.Sتَفْسِيرُ
نَسَبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 23 ] أُبْهِمَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ مَعَانِيَ
بَدِيعَةً وَحِكْمَةً مِنْ اللّهِ بَالِغَةً فِي تَخْصِيصِ نَبِيّهِ مُحَمّدٍ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مُحَمّدٍ وَأَحْمَدَ
فَلْتَنْظُرْ هُنَاكَ وَلَعَلّنَا أَنْ نَعُودَ إلَيْهِ فِي بَابِ مَوْلِدِهِ مِنْ
هَذَا الْكِتَابِ - إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى .
عَبْدُ الْمُطّلِبِ
وَأَمّا جَدّهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ ، فَاسْمُهُ عَامِرٌ فِي قَوْلِ ابْنِ
قُتَيْبَةَ ، وَشَيْبَةُ فِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الصّحِيحُ .
وَقِيلَ سُمّيَ شَيْبَةُ لِأَنّهُ وُلِدَ وَفِي رَأْسِهِ شَيْبَةٌ وَأَمّا
غَيْرُهُ مِنْ الْعَرَبِ مِمّنْ اسْمُهُ شَيْبَةُ فَإِنّمَا قُصِدَ فِي تَسْمِيَتِهِمْ
بِهَذَا الِاسْمِ التّفَاؤُلُ لَهُمْ بِبُلُوغِ سِنّ الْحُنْكَةِ [ ص 24 ] سُمّوا
بِهَرِمِ وَكَبِيرٍ وَعَاشَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً
وَكَانَ لِدَةَ عُبَيْدِ بْنِ الْأَبْرَصِ الشّاعِرِ غَيْرَ أَنّ عُبَيْدًا مَاتَ
قَبْلَهُ بِعِشْرِينَ سَنَةً قَتَلَهُ الْمُنْذِرُ أَبُو النّعْمَانِ بْنُ
الْمُنْذِرِ ، وَيُقَالُ إنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ أَوّلُ مَنْ خَضّبَ بِالسّوَادِ
مِنْ الْعَرَبِ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ سَبَبَ
تَلْقِيبِهِ بِعَبْدِ الْمُطّلِبِ . وَالْمُطّلِبُ مُفْتَعِلٌ مِنْ الطّلَبِ .
وَأَمّا هَاشِمٌ فَعَمْرٌ - كَمَا ذُكِرَ - وَهُوَ اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنْ أَحَدِ
أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ مِنْ الْعَمْرِ الّذِي هُوَ الْعُمْرُ أَوْ الْعَمْرِ الّذِي
هُوَ مِنْ عُمُورِ الْأَسْنَانِ وَقَالَهُ الْقُتَبِيّ : أَوْ الْعَمَرِ الّذِي
هُوَ طَرَفُ الْكُمّ يُقَالُ سَجَدَ عَلَى عَمَرَيْهِ أَيْ عَلَى كُمّيْهِ أَوْ
الْعَمْرِ الّذِي هُوَ الْقُرْطُ كَمَا قَالَ التّنّوخِيّ :
وَعَمْرُو هِنْدٍ كَأَنّ اللّهَ صَوّرَهُ ... عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ يَسُومُ النّاسَ
تَعْنِيتَا
وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجْهًا خَامِسًا ، فَقَالَ فِي الْعُمْرِ الّذِي هُوَ
اسْمٌ لِنَخْلِ السّكّرِ وَيُقَالُ فِيهِ عَمْرٌ أَيْضًا ، قَالَ يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ أَحَدَ الْوُجُوهِ الّتِي بِهَا سُمّيَ الرّجُلُ عَمْرًا وَقَالَ كَانَ
ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَسْتَاكُ بِعَسِيبِ الْعُمْرِ .
[
ص 24 ] [ ص 25 ] وَاسْمُ عَبْدِ مَنَافٍ : الْمُغِيرَةُ بْنُ قُصَيّ ، بْنِ
كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ عَبْدُ مَنَافSوَعَبْدُ
مَنَافٍ اسْمُهُ الْمُغِيرَةُ - كَمَا ذُكِرَ - وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ الْوَصْفِ
وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ إنّهُ مُغِيرٌ عَلَى الْأَعْدَاءِ أَوْ
مُغِيرٌ مِنْ أَغَارَ الْحَبْلَ إذَا أَحْكَمَهُ وَدَخَلَتْهُ الْهَاءُ كَمَا
دَخَلَتْ فِي عَلّامَةٍ وَنَسّابَةٍ لِأَنّهُمْ قَصَدُوا قَصْدَ الْغَايَةِ
وَأَجْرَوْهُ مَجْرَى الطّامّةِ وَالدّاهِيَةِ وَكَانَتْ الْهَاءُ أَوْلَى بِهَذَا
الْمَعْنَى لِأَنّ مَخْرَجَهَا غَايَةُ الصّوْتِ وَمُنْتَهَاهُ وَمِنْ ثَمّ لَمْ
يُكَسّرْ مَا كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الْهَاءُ فَيُقَالُ فِي عَلّامَةٍ عَلَالِيمُ
وَفِي نَسّابَةٍ نَسَاسِيبُ كَيْ لَا يَذْهَبَ اللّفْظُ الدّالّ عَلَى
الْمُبَالَغَةِ كَمَا لَمْ يُكَسّرْ الِاسْمُ الْمُصَغّرُ كَيْ لَا تَذْهَبَ
بِنْيَةُ التّصْغِيرِ وَعَلَامَتُهُ . [ ص 25 ] تَكُونَ الْهَاءُ فِي مُغِيرَةَ
لِلتّأْنِيثِ وَيَكُونُ مَنْقُولًا مِنْ وَصْفِ كَتِيبَةٍ أَوْ خَيْلٍ مُغِيرَةٍ ،
كَمَا سُمّوا بِعَسْكَرِ . وَعَبْدُ مَنَافٍ هَذَا كَانَ يُلَقّبُ قَمَرَ
الْبَطْحَاءِ - فِيمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ - وَكَانَتْ أُمّهُ حُبّى قَدْ
أَخْدَمَتْهُ مَنَاةَ وَكَانَ صَنَمًا عَظِيمًا لَهُمْ وَكَانَ سُمّيَ بِهِ عَبْدُ
مَنَاةَ ثُمّ نَظَرَ قُصَيّ فَرَآهُ يُوَافِقُ عَبْدَ مَنَاةَ بْنَ كِنَانَةَ
فَحَوّلَهُ عَبْدَ مَنَافٍ . ذَكَرَهُ الْبَرْقِيّ وَالزّبَيْرُ أَيْضًا ، وَفِي
الْمُعَيْطِيّ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ قَالَ قُلْت لِمَالِكِ مَا كَانَ اسْمُ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ ؟ قَالَ شَيْبَةُ . قُلْت : فَهَاشِمٌ ؟ قَالَ عَمْرٌو ، قُلْت :
فَعَبْدُ مَنَافٍ ؟ قَالَ لَا أَدْرِي .
وَقُصَيّ
اسْمُهُ زَيْدٌ وَهُوَ تَصْغِيرُ قَصِيّ أَيْ بَعِيدٌ لِأَنّهُ بَعُدَ عَنْ
عَشِيرَتِهِ فِي بِلَادِ قُضَاعَةَ حِينَ احْتَمَلَتْهُ أُمّهُ فَاطِمَةُ مَعَ
رَابّهِ رَبِيعَةَ بْنِ حَرَامٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْكِتَابِ -
إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى - وَصُغّرَ عَلَى فُعَيْلٍ وَهُوَ تَصْغِيرُ فَعِيلٍ
لِأَنّهُمْ كَرِهُوا اجْتِمَاعَ ثَلَاثِ يَاءَاتٍ فَحَذَفُوا إحْدَاهُنّ وَهِيَ
الْيَاءُ الزّائِدَةُ الثّانِيَةُ الّتِي تَكُونُ فِي فَعِيلٍ نَحْوَ قَضِيبٍ
فَبَقِيَ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ لَامَ
الْفِعْلِ فَيَكُونُ وَزْنُهُ فُعَيّا ، وَتَكُونُ يَاءُ التّصْغِيرِ هِيَ
الْبَاقِيَةَ مَعَ الزّائِدَةِ فَقَدْ جَاءَ مَا هُوَ أَبْلَغُ فِي الْحَذْفِ مِنْ
هَذَا ، وَهِيَ قِرَاءَةُ قُنْبُلٍ يَا بُنَيْ بِبَقَاءِ يَاءِ التّصْغِيرِ
وَحْدَهَا ، وَأَمّا قِرَاءَةُ حَفْصٍ يَا بُنَيّ فَإِنّمَا هِيَ يَاءُ
التّصْغِيرِ مَعَ يَاءِ الْمُتَكَلّمِ وَلَامُ الْفِعْلِ مَحْذُوفَةٌ فَكَانَ
وَزْنُهُ فُعَيّ وَمَنْ كَسَرَ الْيَاءَ قَالَ يَا بُنَيّ فَوَزْنُهُ يَا فُعَيْل
، وَيَاءُ الْمُتَكَلّمِ هِيَ الْمَحْذُوفَةُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ .
كِلَابٌ
وَأَمّا كِلَابٌ فَهُوَ مَنْقُولٌ إمّا مِنْ الْمَصْدَرِ الّذِي هُوَ مَعْنَى
الْمُكَالَبَةِ نَحْوَ كَالَبْت الْعَدُوّ مُكَالَبَةً وَكِلَابًا ، وَإِمّا مِنْ
الْكِلَابِ جَمْعُ كَلْبٍ ، لِأَنّهُمْ يُرِيدُونَ الْكَثْرَةَ كَمَا سَمّوْا
بِسِبَاعِ [ ص 26 ] وَأَنْمَارٍ . وَقِيلَ لِأَبِي الرّقَيْشِ الْكِلَابِيّ
الْأَعْرَابِيّ لِمَ تُسَمّونَ أَبْنَاءَكُمْ بِشَرّ الْأَسْمَاءِ نَحْوَ كَلْبٍ
وَذِئْبٍ وَعَبِيدَكُمْ بِأَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ نَحْوَ مَرْزُوقٍ وَرَبَاحٍ ؟
فَقَالَ إنّمَا نُسَمّي أَبْنَاءَنَا لِأَعْدَائِنَا ، وَعَبِيدَنَا لِأَنْفُسِنَا
، يُرِيدُ أَنّ الْأَبْنَاءَ عُدّةُ الْأَعْدَاءِ وَسِهَامٌ فِي نُحُورِهِمْ
فَاخْتَارُوا لَهُمْ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ . وَمُرّةُ مَنْقُولٌ مِنْ وَصْفِ
الْحَنْظَلَةِ وَالْعَلْقَمَةِ وَكَثِيرًا مَا يُسَمّونَ بِحَنْظَلَةَ
وَعَلْقَمَةَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فَيَكُونُ
مَنْقُولًا مِنْ وَصْفِ الرّجُلِ بِالْمَرَارَةِ وَيُقَوّي هَذَا قَوْلُهُمْ
تَمِيمُ بْنُ مُرّ ، وَأَحْسَبُهُ مِنْ الْمُسَمّيْنَ بِالنّبَاتِ لِأَنّ أَبَا
حَنِيفَةَ ذَكَرَ أَنّ الْمُرّةَ بَقْلَةٌ تُقْلَعُ فَتُؤْكَلُ بِالْخَلّ
وَالزّيْتِ يُشْبِهُ وَرَقُهَا وَرَقَ الْهِنْدِبَاءِ .
كَعْبِ
بْنِ لُؤَيّ بْنِ [ ص 26 ] [ ص 27 ]Sكَعْبٌ
وَأَمّا كَعْبٌ فَمَنْقُولٌ إمّا مِنْ الْكَعْبِ الّذِي هُوَ قِطْعَةٌ مِنْ
السّمْنِ أَوْ مِنْ كَعْبِ الْقَدَمِ وَهُوَ عِنْدِي أَشْبَهُ لِقَوْلِهِمْ ثَبَتَ
ثُبُوتَ الْكَعْبِ وَجَاءَ فِي خَبَرِ ابْنِ الزّبَيْرِ أَنّهُ كَانَ يُصَلّي
عِنْدَ الْكَعْبَةِ يَوْمَ قُتِلَ وَحِجَارَةُ الْمَنْجَنِيقِ تَمُرّ بِأُذُنَيْهِ
وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ كَأَنّهُ كَعْبٌ رَاتِبٌ . وَكَعْبُ بْنُ لُؤَيّ هَذَا
أَوّلُ مَنْ جَمَعَ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ وَلَمْ تُسَمّ الْعَرُوبَةُ . الْجُمُعَةَ
إلّا مُنْذُ جَاءَ الْإِسْلَامُ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَقِيلَ هُوَ أَوّلُ مَنْ
سَمّاهَا الْجُمُعَةَ فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَجْتَمِعُ إلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ
فَيَخْطُبُهُمْ وَيُذَكّرُهُمْ بِمَبْعَثِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَيُعْلِمُهُمْ أَنّهُ مِنْ وَلَدِهِ وَيَأْمُرُهُمْ بِاتّبَاعِهِ
وَالْإِيمَانِ بِهِ وَيَنْشُدُ فِي هَذَا أَبْيَاتًا مِنْهَا قَوْلُهُ
يَا لَيْتَنِي شَاهِدٌ فَحْوَاءَ دَعْوَتِهِ ... إذَا قُرَيْشٌ تُبَغّي الْحَقّ
خِذْلَانًا
[ ص 27 ] ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ هَذَا الْخَبَرَ عَنْ كَعْبٍ فِي كِتَابِ
الْأَحْكَامِ لَهُ
لُؤَيّ
وَأَمّا لُؤَيّ ، فَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ هُوَ تَصْغِيرُ اللّأْيِ وَهُوَ
الثّوْرُ الْوَحْشِيّ وَأَنْشَدَ
يَعْتَادُ أَدِحْيَةً بَقَيْنَ بِقَفْرَةِ ... مَيْثَاءَ يَسْكُنُهَا اللّأْيُ
وَالْفَرْقَدُ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ اللّأْيُ هِيَ الْبَقَرَةُ قَالَ وَسَمِعْت أَعْرَابِيّا
يَقُولُ بِكَمْ لَاءَكَ هَذِهِ وَأَنْشَدَ فِي وَصْفِ فَلَاةٍ
كَظَهْرِ اللّأْيِ لَوْ يَبْتَغِي رِيّةً بِهَا ... نَهَارًا لَأَعْيَتْ فِي
بُطُونِ الشّوَاجِنِ
الشّوَاجِنُ شُعَبُ الْجِبَالِ وَالرّيّةُ مَقْلُوبٌ مِنْ وَرَى الزّنْدُ
وَأَصْلُهُ وِرْيَةٌ وَهُوَ الْحُرَاقُ الّذِي يُشْعَلُ بِهِ الشّرَرَةُ مِنْ
الزّنْدِ وَهُوَ عِنْدِي تَصْغِيرُ لَأْيٍ وَاللّأْيُ الْبُطْءُ كَأَنّهُمْ
يُرِيدُونَ مَعْنَى الْأَنَاةِ وَتَرْكِ الْعَجَلَةِ وَذَلِكَ أَنّي أَلْفَيْته
فِي أَشْعَارِ بَدْرٍ مُكَبّرًا عَلَى هَذَا اللّفْظِ فِي شِعْرِ أَبِي أُسَامَةَ
حَيْثُ يَقُولُ
فَدُونَكُمْ بَنِي لَأْيٍ أَخَاكُمْ ... وَدُونَكِ مَالِكًا يَا أُمّ عَمْرِو
مَعَ مَا جَاءَ فِي بَيْتِ الْحُطَيْئَةِ فِي غَيْرِهِ
أَتَتْ آلَ شَمّاسِ بْنِ لَأْيٍ وَإِنّمَا ... أَتَاهُمْ بِهَا الْأَحْلَامُ
وَالْحَسَبُ الْعِدّ
وَقَوْلُهُ أَيْضًا :
فَمَاتَتْ أُمّ جَارَةِ آلِ لَأْيٍ ... وَلَكِنْ يَضْمَنُونَ لَهَا قَرَاهَا
وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالرّاوِيَةُ يَوْمَئِذٍ
يُسْتَقَى عَلَيْهَا أَحَبّ إلَيّ مِنْ شَاءٍ وَلَاءٍ فَاللّاءُ هَهُنَا جَمْعُ
اللّائِي ، وَهُوَ الثّوْرُ مِثْلُ الْبَاقِرِ وَالْجَامِلِ وَتَوَهّمَ ابْنُ
قُتَيْبَةَ أَنّ قَوْلَهُ لَاءٍ مِثْلُ مَاءٍ فَخَطّأَ الرّوَايَةَ وَقَالَ إنّمَا
[ ص 28 ] أَلْعَاعٍ جَمْعُ لَأْيٍ وَلَيْسَ الصّوَابُ إلّا مَا تَقَدّمَ وَأَنّهُ
لَاءٍ مِثْلُ جَاءٍ .
[
ص 28 ] فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ
مُدْرِكَةَ وَاسْمُ مُدْرِكَةَ عَامِرُ بْنُ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ [ ص 29 ] [
ص 30 ]Sفِهْرٌوَغَيْرُهُ
وَأَمّا فِهْرٌ فَقَدْ قِيلَ إنّهُ لَقَبٌ وَالْفِهْرُ مِنْ الْحِجَارَةِ
الطّوِيلُ وَاسْمُهُ قُرَيْشٌ وَقِيلَ بَلْ اسْمُهُ فِهْرٌ وَقُرَيْشٌ لَقَبٌ لَهُ
عَلَى مَا سَيَأْتِي الِاخْتِلَافُ فِيهِ - إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى - وَمَالِكٌ
وَالنّضْرُ وَكِنَانَةُ لَا إشْكَالَ فِيهَا
خُزَيْمَةُ
وَخُزَيْمَةُ وَالِدُ كِنَانَةَ تَصْغِيرُ خَزَمَةَ وَهِيَ وَاحِدَةُ الْخَزَمِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَصْغِيرَ خَزْمَةَ وَكِلَاهُمَا مَوْجُودٌ فِي أَسْمَاءِ
الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ وَهِيَ الْمَرّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ الْخَزْمِ وَهُوَ
شَدّ الشّيْءِ وَإِصْلَاحُهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْخَزَمُ مِثْلُ الدّوْمِ
تُتّخَذُ مِنْ سَعَفِهِ الْحِبَالُ وَيُصْنَعُ مِنْ أَسَافِلِهِ خَلَايَا
لِلنّحْلِ وَلَهُ ثَمَرٌ لَا يَأْكُلُهُ النّاسُ وَلَكِنْ تَأْلَفَهُ الْغِرْبَانُ
وَتَسْتَطِيبُهُ .
مُدْرِكَةُ وَإِلْيَاسُ
وَأَمّا مُدْرِكَةُ فَمَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ وَإِلْيَاسُ أَبُوهُ قَالَ فِيهِ
ابْنُ الْأَنْبَارِيّ إلْيَاسُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَجَعَلَهُ مُوَافِقًا
لِاسْمِ إلْيَاسَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقَالَ فِي
اشْتِقَاقِهِ أَقْوَالًا مِنْهَا : أَنْ يَكُونَ فِعْيَالًا مِنْ الْأَلْسِ وَهِيَ
الْخَدِيعَةُ وَأَنْشَدَ مِنْ فَهّةِ الْجَهْلِ وَالْأَلْسَةِ . وَمِنْهَا أَنّ
الْأَلْسَ اخْتِلَاطُ الْعَقْلِ وَأَنْشَدُوا : إنّي إذًا لَضَعِيفُ الْعَقْلِ
مَأْلُوسُ [ ص 29 ] أَلْيَسُ وَهُوَ الشّجَاعُ الّذِي لَا يَفِرّ . قَالَ
الْعَجّاجُ أَلْيَسُ عَنْ حَوْبَائِهِ سَخِيّ وَقَالَ آخَرُ أَلْيَسُ
كَالنّشْوَانِ وَهُوَ صَاحٍ وَفِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِلْقُتَبِيّ أَنّ فُلَانًا
: أَلْيَسُ أَهْيَسُ أَلَدّ مِلْحَسُ . إنْ سُئِلَ أَزَزَ وَإِنْ دُعِيَ انْتَهَزَ
. وَقَدْ فَسّرَهُ وَزَعَمَ أَنّ أَهْيَسَ مَقْلُوبُ الْوَاوِ وَأَنّهُ مَرّةً
مِنْ الْهَوَسِ وَجُعِلَتْ وَاوُهُ يَاءً لِازْدِوَاجِ الْكَلَامِ فَالْأَلْيَسُ
الثّابِتُ الّذِي لَا يَبْرَحُ وَاَلّذِي قَالَهُ غَيْرُ ابْنِ الْأَنْبَارِيّ
أَصَحّ ، وَهُوَ أَنّهُ الْيَاسُ سُمّيَ بِضَدّ الرّجَاءِ وَاللّامُ فِيهِ
لِلتّعْرِيفِ وَالْهَمْزَةُ هَمْزَةُ وَصْلٍ وَقَالَهُ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي
الدّلَائِلِ وَأَنْشَدَ أَبْيَاتًا شَوَاهِدَ مِنْهَا قَوْلُ قُصَيّ :
إنّي لَدَى الْحَرْبِ رَخِيّ اللّبَبِ ... أُمّهَتِي خِنْدِفُ وَالْيَاسُ أَبِي
وَيُقَالُ إنّمَا سُمّيَ السّلّ دَاءَ يَاسٍ وَدَاءَ إلْيَاسَ لِأَنّ إلْيَاسَ
بْنَ مُضَرَ مَاتَ مِنْهُ . قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ
يَقُولُ الْعَاذِلُونَ إذَا رَأَوْنِي ... أُصِبْت بِدَاءِ يَاسٍ فَهُوَ مُودِي
وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَاصِيَةَ
فَلَوْ كَانَ دَاءُ إلْيَاسَ بِي ، وَأَعَانَنِي ... طَبِيبٌ بِأَرْوَاحِ
الْعَقِيقِ شَفَانِيَا
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ حِزَامٍ
بِي إلْيَاسُ أَوْ دَاءُ الْهُيَامِ أَصَابَنِي ... فَإِيّاكَ عَنّي لَا يَكُنْ
بِك مَا بِيَا
[ ص 30 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَا تَسُبّوا إلْيَاسَ
فَإِنّهُ كَانَ مُؤْمِنًا وَذَكَرَ أَنّهُ كَانَ يَسْمَعُ فِي صُلْبِهِ تَلْبِيَةَ
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِالْحَجّ . يَنْظُرُ فِي كِتَابِ
الْمَوْلِدِ لِلْوَاقِدِيّ . وَإِلْيَاسُ أَوّلُ مَنْ أَهْدَى الْبُدْنَ
لِلْبَيْتِ . قَالَهُ الزّبَيْرُ . وَأُمّ إلْيَاسَ الرّبَابُ بِنْتُ حُمَيْرَةَ
بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَانَ قَالَهُ الطّبَرِيّ ، وَهُوَ خِلَافُ مَا قَالَهُ
ابْنُ هِشَامٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ . وَأَمّا مُضَرُ ، فَقَدْ قَالَ الْقُتَبِيّ
هُوَ مِنْ الْمَضِيرَةِ أَوْ مِنْ اللّبَنِ الْمَاضِرِ وَالْمَضِيرَةُ شَيْءٌ
يُصْنَعُ مِنْ اللّبَنِ فَسُمّيَ مُضَرَ لِبَيَاضِهِ وَالْعَرَبُ تُسَمّي
الْأَبْيَضَ أَحْمَرَ فَلِذَلِكَ قِيلَ مُضَرُ الْحَمْرَاءُ وَقِيلَ بَلْ أَوْصَى
لَهُ أَبُوهُ بِقُبّةِ حَمْرَاءَ ، وَأَوْصَى لِأَخِيهِ رَبِيعَةَ بِفَرَسِ
فَقِيلَ مُضَرُ الْحَمْرَاءُ وَرَبِيعَةُ الْفَرَسِ . وَمُضَرُ أَوّلُ مَنْ سَنّ
لِلْعَرَبِ حِدَاءَ الْإِبِلِ وَكَانَ أَحْسَنَ النّاسِ صَوْنًا فِيمَا زَعَمُوا -
وَسَنَذْكُرُ سَبَبَ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ - إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى - وَفِي
الْحَدِيثِ الْمَرْوِيّ " لَا تَسُبّوا مُضَرَ وَلَا رَبِيعَةَ ، فَإِنّهُمَا
كَانَا مُؤْمِنَيْنِ " ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ .
نِزَارِ
بْنِ مَعَدّ بْنِSنِزَارٌ
وَمَعَدّ
وَأَمّا نِزَارُ فَمِنْ النّزْرِ وَهُوَ الْقَلِيلُ وَكَانَ أَبُوهُ حِينَ وُلِدَ
لَهُ وَنَظَرَ إلَى النّورِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَهُوَ نُورُ النّبُوّةِ الّذِي
كَانَ يَنْتَقِلُ فِي الْأَصْلَابِ إلَى مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - فَرِحَ فَرَحًا شَدِيدًا بِهِ [ ص 31 ] وَأَطْعَمَ وَقَالَ إنّ هَذَا
كُلّهُ نَزْرٌ لِحَقّ هَذَا الْمَوْلُودِ فَسُمّيَ نِزَارًا لِذَلِكَ . وَأَمّا
مَعَدّ أَبُوهُ فَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا
، أَنْ يَكُونَ مَفْعَلًا مِنْ الْعَدّ وَالثّانِي أَنْ يَكُونَ فَعَلّا مِنْ
مَعَدَ فِي الْأَرْضِ أَيْ أَفْسَدَ كَمَا قَالَ
وَخَارِبَيْنِ خَرَبَا فَمَعَدَا ... مَا يَحْسِبَانِ اللّهَ إلّا رَقَدَا
وَإِنْ كَانَ لَيْسَ فِي الْأَسْمَاءِ مَا هُوَ عَلَى وَزْنِ فَعَلٍ بِفَتْحِ
الْفَاءِ إلّا مَعَ التّضْعِيفِ فَإِنّ التّضْعِيفَ يُدْخِلُ فِي الْأَوْزَانِ مَا
لَيْسَ فِيهَا كَمَا قَالُوا . شَمّرَ وَقُشَعْرِيرَةَ وَلَوْلَا التّضْعِيفُ مَا
وُجِدَ مِثْلُ هَذَا ، وَنَحْوُ ذَلِكَ الثّالِثِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَعَدّيْنِ
وَهُمَا مَوْضِعُ عَقِبَيْ الْفَارِسِ مِنْ الْفَرَسِ وَأَصْلُهُ عَلَى
الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنْ الْمَعْدِ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَهُوَ
الْقُوّةُ وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ الْمَعِدَةِ .
عَدْنَانَ
بْنِ أُدّ وَيُقَالُ أُدَدَ بْنِSعَدْنَانُ
وَأَمّا عَدْنَان ُ فَفَعْلَانُ مِنْ عَدَنَ إذَا أَقَامَ وَلِعَدْنَانَ أَخَوَانِ
نَبْتٌ وَعَمْرٌو فِيمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ .
النّسَبُ قَبْلَ عَدْنَانَ
وَأُدَدٌ مَصْرُوفٌ . قَالَ ابْنُ السّرَاجِ . هُوَ مِنْ الْوُدّ وَانْصَرَفَ
لِأَنّهُ مِثْلُ ثُقَبٍ وَلَيْسَ مَعْدُولًا كَعُمَرِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ
سِيبَوَيْهِ . [ ص 32 ] قِيلَ فِي عَدْنَانَ هُوَ ابْنُ مَيْدَعَةَ وَقِيلَ ابْنُ
يَحْثُمَ قَالَهُ الْقُتَبِيّ وَمَا بَعْدَ عَدْنَانَ مِنْ الْأَسْمَاءِ
مُضْطَرَبٌ فِيهِ فَاَلّذِي صَحّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - أَنّهُ انْتَسَبَ إلَى عَدْنَانَ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ بَلْ قَدْ رُوِيَ
عَنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ لَمّا بَلَغَ عَدْنَانَ . قَالَ " كَذَبَ
النّسّابُونَ مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا " ، وَالْأَصَحّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
أَنّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
- أَنّهُ قَالَ إنّمَا نَنْتَسِبُ إلَى عَدْنَانَ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ لَا نَدْرِي
مَا هُو وَأَصَحّ شَيْءٍ رُوِيَ فِيمَا بَعْدَ عَدْنَانَ مَا ذَكَرَهُ
الدّوْلَابِيّ أَبُو بِشْرٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمَعَةَ الزّمَعِيّ عَنْ عَمّتِهِ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ
عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَالَ مَعَدّ بْنُ
عَدْنَانَ بْنِ أُدَدِ بْنِ زَنْدٍ - بِالنّونِ - بْنِ الْيَرَى بْنِ أَعْرَاقِ
الثّرَى " قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ . فَزَنْدٌ هُوَ الْهَمَيْسَعُ وَالْيَرَى
هُوَ نَبْتٌ وَأَعْرَاقُ الثّرَى هُوَ إسْمَاعِيلُ لِأَنّهُ ابْنُ إبْرَاهِيمَ
وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ تَأْكُلْهُ النّارُ كَمَا أَنّ النّارَ لَا تَأْكُلُ الثّرَى
وَقَدْ قَالَ الدّارَقُطْنِيّ : لَا نَعْرِفُ زَنْدًا إلّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ
وَزَنْدُ بْنُ الْجَوْنِ وَهُوَ أَبُو دُلَامَةَ الشّاعِرُ . قَالَ الْمُؤَلّفُ
وَهَذَا الْحَدِيثُ عِنْدِي لَيْسَ بِمُعَارِضِ لِمَا تَقَدّمَ مِنْ قَوْلِهِ
كَذَبَ النّسّابُون وَلَا لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - لِأَنّهُ
حَدِيثٌ مُتَأَوّلٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " [ ص 33 ] ابْنِ
الْيَرَى ، ابْنِ أَعْرَاقِ الثّرَى " كَمَا قَالَ " كُلّكُمْ بَنُو
آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ " لَا يُرِيدُ أَنّ الْهَمَيْسَعَ وَمَنْ دُونَهُ
ابْنٌ لِإِسْمَاعِيلَ لِصُلْبِهِ وَلَا بُدّ مِنْ هَذَا التّأْوِيلِ أَوْ غَيْرِهِ
لِأَنّ أَصْحَابَ الْأَخْبَارِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي بُعْدِ الْمُدّةِ مَا بَيْنَ
عَدْنَانَ وَإِبْرَاهِيمَ وَيَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا
أَرْبَعَةُ آبَاءٍ أَوْ سَبْعَةٌ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ ، أَوْ عَشْرَةٌ
أَوْ عِشْرُونَ فَإِنّ الْمُدّةَ أَطْوَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلّهِ وَذَلِكَ . أَنّ
مَعَدّ بْنَ عَدْنَانَ كَانَ فِي مُدّةِ بُخْتَنَصّرَ ابْنِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ
سَنَةً . قَالَ الطّبَرِيّ : وَذُكِرَ أَنّ اللّهَ تَعَالَى أَوْحَى فِي ذَلِكَ
الزّمَانِ إلَى إرْمِيَاءَ بْنِ حَلْقِيَا أَنْ اذْهَبْ إلَى بُخْتَنَصّرَ
فَأَعْلِمْهُ أَنّي قَدْ سَلّطْته عَلَى الْعَرَبِ ، وَاحْمِلْ مَعَدّا عَلَى
الْبُرَاقِ كَيْلَا تُصِيبُهُ النّقْمَةُ فِيهِمْ فَإِنّي مُسْتَخْرِجٌ مِنْ
صُلْبِهِ نَبِيّا كَرِيمًا أَخْتِمُ بِهِ الرّسُلَ فَاحْتَمَلَ مَعَدّا عَلَى
الْبُرَاقِ إلَى أَرْضِ الشّامِ ، فَنَشَأَ مَعَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَتَزَوّجَ
هُنَاكَ امْرَأَةً اسْمُهَا : مُعَانَةُ بِنْتُ جَوْشَنَ مِنْ بَنِي دُبّ بْنِ
جُرْهُمٍ ، وَيُقَالُ فِي اسْمِهَا : نَاعِمَةٌ . قَالَهُ الزّبَيْرُ وَمِنْ ثَمّ
وَقَعَ فِي كِتَابِ الإسرائيليين نَسَبُ مَعَدّ ثَبّتَهُ فِي كُتُبِهِ رَخِيَا ،
وَهُوَ يُورَخ كَاتِبُ إرْمِيَاءَ . كَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ النّمَرِيّ
حُدّثْت بِذَلِكَ عَنْ الْغَسّانِيّ عَنْهُ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ إبْرَاهِيمَ فِي
ذَلِكَ النّسَبِ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جَدّا ، وَقَدْ ذَكَرَهُمْ كُلّهُمْ
أَبُو الْحَسَنِ الْمَسْعُودِيّ عَلَى اضْطِرَابٍ فِي الْأَسْمَاءِ وَلِذَلِكَ -
وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أَعْرَضَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ
رَفْعِ نَسَبِ عَدْنَانَ إلَى إسْمَاعِيلَ لِمَا فِيهِ مِنْ التّخْلِيطِ
وَتَغْيِيرٍ فِي الْأَلْفَاظِ وَعَوَاصَةِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ مَعَ قِلّةِ
الْفَائِدَةِ فِي تَحْصِيلِهَا . وَقَدْ ذَكَرَ الطّبَرِيّ نَسَبَ عَدْنَانَ إلَى
إسْمَاعِيلَ مِنْ وُجُوهٍ ذَكَرَ فِي أَكْثَرِهَا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ أَبًا
، وَلَكِنْ بِاخْتِلَافِ فِي الْأَلْفَاظِ لِأَنّهَا نُقِلَتْ مِنْ كُتُبٍ
عِبْرَانِيّةٍ وَذُكِرَ مِنْ وَجْهٍ قَوِيّ فِي الرّوَايَةِ عَنْ نُسّابِ
الْعَرَبِ ، أَنّ نَسَبَ عَدْنَانَ يَرْجِعُ إلَى قَيْذَرَ بْنَ إسْمَاعِيلَ
وَأَنّ قَيْذَرَ كَانَ الْمَلِكَ فِي زَمَانِهِ وَأَنّ مَعْنَى قَيْذَرَ الْمَلِكُ
إذَا فُسّرَ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ فِي عَمُودِ هَذَا النّسَبِ بُوّرَا بْنَ شُوحَا
، وَهُوَ أَوّلُ مَنْ عَتَرَ الْعَتِيرَةَ وَأَنّ شُوحَا هُوَ سَعْدُ رَجَبٍ
وَأَنّهُ أَوّلُ مَنْ سَنّ رَجَبًا لِلْعَرَبِ . وَالْعَتِيرَةُ هِيَ الرّجَبِيّةُ
. [ ص 34 ] وَذَكَرَ فِي هَذَا النّسَبِ عُبَيْدَ بْنَ ذِي يَزَنَ بْنِ هَمَاذَا ،
وَهُوَ الطّعّانُ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الرّمَاحُ الْيَزَنِيّةُ وَذَكَرَ فِيهِمْ
أَيْضًا دَوْسَ الْعُتُقَ وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النّاسِ وَجْهًا ، وَكَانَ
يُقَالُ فِي الْمَثَلِ أَعْتَقُ مِنْ دَوْسٍ ، وَهُوَ الّذِي هَزَمَ جَيْشَ
قَطُورَا بْنِ جُرْهُمٍ . وَذَكَرَ فِيهِمْ إسْمَاعِيلَ ذَا الْأَعْوَجِ وَهُوَ
فَرَسُهُ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْخَيْلُ الْأَعْوَجِيّةُ وَهَذَا هُوَ الّذِي
يُشْبِهُ فَإِنْ بُخْتَنَصّرَ كَانَ بَعْدَ سُلَيْمَانَ بِمِئَتَيْنِ مِنْ
السّنِينَ لِأَنّهُ كَانَ عَامِلًا عَلَى الْعِرَاقِ " لَكَيْ لهراسب "
ثُمّ لِابْنِهِ " كَيْ بستاسب " إلَى مُدّةِ بهمن قَبْلَ غَلَبَةِ
الْإِسْكَنْدَرِ عَلَى دَارَا بْنِ دَارَا بهمن ، وَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ مُدّةِ
عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَأَيْنَ هَذِهِ الْمُدّةُ مِنْ مُدّةِ إسْمَاعِيلَ ؟
وَكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَ مَعَدّ وَبَنِيهِ مَعَ هَذَا سَبْعَةُ آبَاءٍ فَكَيْفَ
أَرْبَعَةٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ ؟ . وَكَانَ رُجُوعُ مَعَدّ إلَى أَرْضِ الْحِجَازِ
بَعْدَ مَا رَفَعَ اللّهُ بَأْسَهُ عَنْ الْعَرَبِ وَرَجَعَتْ بَقَايَاهُمْ الّتِي
كَانَتْ فِي الشّوَاهِقِ إلَى مَحَالّهِمْ وَمِيَاهِهِمْ بَعْدَ أَنْ دَوّخَ
بِلَادَهُمْ بُخْتَنَصّرُ وَخَرّبَ الْمَعْمُورَ وَاسْتَأْصَلَ أَهْلَ حَضُورَ
وَهُمْ الّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ
قَرْيَةٍ } الْأَنْبِيَاءَ الْآيَةُ وَذَلِكَ لِقَتْلِهِمْ شُعَيْبَ بْنَ ذِي
مَهْدَمٍ نَبِيّا أَرْسَلَهُ اللّهُ إلَيْهِمْ وَقَبْرُهُ بِصِنّينَ جَبَلٌ
بِالْيَمَنِ وَلَيْسَ بِشُعَيْبِ الْأَوّلِ صَاحِبِ مَدْيَنَ . ذَلِكَ شُعَيْبُ
بْنُ عَيْفِي ، وَيُقَالُ فِيهِ ابْنَ صَيْفُونٍ وَكَذَلِكَ أَهْلُ عَدَنٍ ،
قَتَلُوا نَبِيّا أُرْسِلَ إلَيْهِمْ اسْمُهُ حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ فَكَانَتْ
سَطْوَةُ اللّهِ بِالْعَرَبِ لِذَلِكَ نَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ غَضَبِهِ وَأَلِيمِ
عِقَابِهِ .
مُقَوّمِ
بْنِ نَاحُورِ بْنِ تَيْرَحَ بْنِ [ ص 31 ] [ ص 32 ] [ ص 33 ] [ ص 34 ] نَابِتِ
بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ - خَلِيلِ الرّحْمَنِ - بْنِ تارِح وَهُوَ
آزَرُ بْنُ نَاحُورِ بْنِ ساروغ بْنِ رَاعُو بْنِ فَالَخ بْنِ عَيْبَرَ بْنِ شالَخ
بْن أرْفَخْشَذ بْنِ سَامِ بْنِSعَوْدٌ
إلَى النّسَبِ
ثُمّ نَعُودُ إلَى النّسَبِ . فَأَمّا مُقَوّمٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَأَبُو أُدَدٍ
فَمَفْهُومُ الْمَعْنَى ، وَتَيْرَحُ فَيْعَلٌ مِنْ التّرِحَةِ إنْ كَانَ
عَرَبِيّا . وَكَذَلِكَ نَاحُورُ مِنْ النّحْرِ وَيَشْجُبُ مِنْ الشّجْبِ وَإِنْ
كَانَ الْمَعْرُوفُ أَنْ يُقَالَ شَجِبَ بِكَسْرِ الْجِيمِ يَشْجَبُ بِفَتْحِهَا ،
وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ فِي الْمُغَالَبَةِ شَاجَبْتُهُ [ ص 35 ] الْمَاضِي ؛ كَمَا
يُقَالُ مِنْ الْعِلْمِ عَالَمْته فَعَلَمْته بِفَتْحِ اللّامِ أُعْلِمُهُ
بِضَمّهَا . وَقَدْ ذَكَرَهُمْ أَبُو الْعَبّاسِ النّاشِئُ فِي قَصِيدَتِهِ
الْمَنْظُومَةِ فِي نَسَبِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى
آدَمَ كَمَا ذَكَرَهُمْ ابْنُ إسْحَاقَ . وَإِبْرَاهِيمُ مَعْنَاهُ أَبٌ رَاحِمٌ
وَآزَرُ قِيلَ مَعْنَاهُ يَا أَعْوَجُ وَقِيلَ هُوَ اسْمُ صَنَمٍ وَانْتُصِبَ
عَلَى إضْمَارِ الْفِعْلِ فِي التّلَاوَةِ وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِأَبِيهِ كَانَ
يُسَمّى تارِح وَآزَرُ وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ لِمَجِيئِهِ فِي الْحَدِيثِ
مَنْسُوبًا إلَى آزَرَ وَأُمّهِ نُونًا ، وَيُقَالُ فِي اسْمِهَا . لُيُوثِي ،
أَوْ نَحْوِ هَذَا وَمَا بَعْدَ إبْرَاهِيمَ أَسْمَاءٌ سُرْيَانِيّةٌ فَسّرَ أَكْثَرَهَا
بِالْعَرَبِيّةِ ابْنُ هِشَامٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَذَكَرَ أَنّ فَالَع
مَعْنَاهَا : الْقَسّامُ وَشَالَخ مَعْنَاهَا : الرّسُولُ أَوْ الْوَكِيلُ
وَذَكَرَ أَنّ إسْمَاعِيلَ تَفْسِيرُهُ مُطِيعُ اللّهِ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ
بَيْنَ فَالَع وَعَابِرِ أَبًا اسْمُهُ قَيّنَن أُسْقِطَ اسْمُهُ فِي التّوْرَاةِ
، لِأَنّهُ كَانَ سَاحِرًا ، وأرفخشذ تَفْسِيرُهُ مِصْبَاحٌ مُضِيءٌ وَشَاذّ
مُخَفّفٌ بالسريانية " الضّيَاءُ وَمِنْهُ حم شَاذّ " بالسريانية وَهُوَ
رَابِعُ الْمُلُوكِ بَعْدَ " جيومرث " ، وَهُوَ الّذِي قَتَلَهُ
الضّحّاكُ ، وَاسْمُهُ " بيوراسب بْنِ إندراسب " وَالضّحّاكُ مُغَيّرٌ
مِنْ ازدهاق . قَالَ حَبِيبٌ
وَكَأَنّهُ الضّحّاكُ فِي فَتَكَاتِهِ ... بِالْعَالَمِينَ وَأَنْتَ أفريدون
لِأَنّ أفريدون هُوَ الّذِي قَتَلَ الضّحّاكَ ، بَعْدَ أَنْ عَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ
فِي جَوْرٍ وَعُتُوّ وَطُغْيَانٍ عَظِيمٍ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ عَلَى التّفْصِيلِ
فِي تَارِيخِ الطّبَرِيّ وَغَيْرِهِ .
نُوحِ
بْنِ لَمْكِ بْنِ مَتّوشَلَخ بْنِ أخنوخ ، وَهُوَ إدْرِيسُ النّبِيّ - فِيمَا
يَزْعُمُونَ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ أَوّلَ بَنِي آدَمَ أُعْطِيَ النّبُوّةَ
وَخَطّ بِالْقَلَمِ - ابْنِ يَرْدِ بْنِ مهْلَيِل بْنِ قَيّنَن بْنِ يانِشَ بْنِ
شيثَ بْنِ آدَمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 35 ] [ ص 36 ] قَالَ أَبُو
مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ
الْبَكّائِيّ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ بِهَذَا الّذِي ذَكَرْت
مِنْ نَسَبِ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ وَآلِهِ وَسَلّمَ إلَى آدَمَ
عَلَيْهِ السّلَامُ وَمَا فِيهِ مِنْ حَدِيثِ إدْرِيسَ وَغَيْرِهِ . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي خَلّادُ بْنُ قُرّةَ بْنِ خَالِدٍ السّدُوسِيّ ، عَنْ
شَيْبَانَ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ شَقِيقِ بْنِ ثَوْرٍ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ دِعَامَةَ
أَنّهُ قَالَ [ ص 37 ] تارِح - وَهُوَ آزَرُ - بْنُ نَاحُورِ بْنِ أسرغ بْنِ
أَرْغُو بْنِ فَالَخ بْنِ عَابِرِ بْنِ شالَخ بْنِ أرْفَخْشَذ بْنِ سَامِ بْنِ
نُوحِ بْنِ لَمْكِ بْنِ مَتّوشَلَخ بْنِ أخنوخ بْنِ يُرِدْ بْنِ مهْلائِيل بْنِ
قاين بْنِ أَنُوشِ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
عَمَلُ ابْنِ هِشَامٍ فِي سِيرَةِ ابْنِ إسْحَاقَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَنَا إنْ شَاءَ اللّهُ مُبْتَدِئٌ هَذَا الْكِتَابَ
بِذِكْرِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَمَنْ - 38 - وَلَدَ رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - مِنْ وَلَدِهِ وَأَوْلَادِهِمْ
لِأَصْلَابِهِمْ الْأَوّلَ فَالْأَوّلَ مِنْ إسْمَاعِيلَ إلَى رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - وَمَا يَعْرِضُ مِنْ حَدِيثِهِمْ
وَتَارِكٌ ذِكْرَ غَيْرِهِمْ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ
لِلِاخْتِصَارِ إلَى حَدِيثِ سِيرَةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلّمَ - وَتَارِكٌ بَعْضَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا
الْكِتَابِ مِمّا لَيْسَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلّمَ - فِيهِ ذِكْرٌ وَلَا نَزَلَ فِيهِ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ وَلَيْسَ
سَبَبًا لِشَيْءِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَلَا تَفْسِيرًا لَهُ وَلَا شَاهِدًا
عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْت مِنْ الِاخْتِصَارِ وَأَشْعَارًا ذَكَرَهَا لَمْ أَرَ
أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يَعْرِفُهَا ، وَأَشْيَاءَ بَعْضُهَا
يَشْنُعُ الْحَدِيثُ بِهِ وَبَعْضٌ يَسُوءُ بَعْضَ النّاسِ ذِكْرُهُ وَبَعْضٌ لَمْ
يُقِرّ لَنَا الْبَكّائِيّ بِرِوَايَتِهِ وَمُسْتَقْصٍ - إنْ شَاءَ اللّهُ
تَعَالَى - مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْهُ بِمَبْلَغِ الرّوَايَةِ لَهُ وَالْعِلْمِ بِهِ
.Sنُوحٌ
وَمَنْ قَبْلَهُ
وَذَكَرَ نُوحًا - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَاسْمُهُ عَبْدُ الْغَفّارِ وَسُمّيَ
نُوحًا لِنَوْحِهِ عَلَى ذَنْبِهِ وَأَخُوهُ صَابِئُ بْنُ لَامَك ، إلَيْهِ
يُنْسَبُ دِينُ الصّابِئِينَ فِيمَا ذَكَرُوا وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَذُكِرَ أَنّ
لَامَك وَالِدُ نُوحٍ عَلَيْهِ السّلَامُ . وَلَامَك أَوّلُ مَنْ اتّخَذَ الْعُودَ
لِلْغِنَاءِ بِسَبَبِ يَطُولُ ذِكْرُهُ وَاِتّخَذَ مَصَانِعَ الْمَاءِ . وَأَبُوهُ
مَتّوشَلَخ . وَذَكَرَهُ النّاشِئُ فِي قَصِيدَتِهِ فَقَالَ مَتّوشَلَخ ،
وَتَفْسِيرُهُ مَاتَ الرّسُولُ لِأَنّ أَبَاهُ كَانَ رَسُولًا وَهُوَ خنوخ ؟
وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ هُوَ [ ص 36 ] ابْنُ إسْحَاقَ فِي الْكِتَابِ
الْكَبِيرِ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي ذَرّ عَنْ النّبِيّ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَالَ أَوّلُ مَنْ كَتَبَ بِالْقَلَمِ إدْرِيسُ
" وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ - أَنّهُ قَالَ أَوّلُ مَنْ
كَتَبَ بِالْعَرَبِيّةِ إسْمَاعِيلُ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ وَهَذِهِ الرّوَايَةُ
أَصَحّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى : أَنّ أَوّلَ مَنْ تَكَلّمَ بِالْعَرَبِيّةِ
إسْمَاعِيلُ وَالْخِلَافُ كَثِيرٌ فِي أَوّلِ مَنْ تَكَلّمَ بِالْعَرَبِيّةِ .
وَفِي أَوّلِ مَنْ أَدْخَلَ الْكِتَابَ الْعَرَبِيّ أَرْضَ الْحِجَازِ . فَقِيلَ
حَرْبُ بْنُ أُمَيّةَ . قَالَهُ الشّعْبِيّ . وَقِيلَ هُوَ شَعْبَانُ بْنُ
أُمَيّةَ . وَقِيلَ عَبْدُ بْنُ قُصَيّ تَعَلّمَهُ بِالْحِيرَةِ أَهْلُ الْحِيرَةِ
مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ .
إدْرِيسُ
قَالَ الْمُؤَلّفُ ثُمّ نَرْجِعُ الْآنَ إلَى مَا كُنّا بِصَدَدِهِ . فَنَقُولُ
إنّ إدْرِيسَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - قَدْ قِيلَ إنّهُ إلْيَاسُ وَإِنّهُ لَيْسَ
بِجَدّ لِنُوحِ . وَلَا هُوَ فِي عَمُودِ هَذَا النّسَبِ . وَكَذَلِكَ سَمِعْت
شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللّهُ - يَقُولُ - وَيَسْتَشْهِدُ
بِحَدِيثِ الْإِسْرَاءِ - فَإِنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
كُلّمَا لَقِيَ نَبِيّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الّذِينَ لَقِيَهُمْ لَيْلَةَ
الْإِسْرَاءِ قَالَ مَرْحَبًا بِالنّبِيّ الصّالِحِ وَالْأَخِ الصّالِحِ . وَقَالَ
لَهُ آدَمُ مَرْحَبًا بِالنّبِيّ الصّالِحِ وَالِابْنِ الصّالِحِ . كَذَلِكَ قَالَ
لَهُ إبْرَاهِيمُ . وَقَالَ لَهُ إدْرِيسُ وَالْأَخُ الصّالِحُ . فَلَوْ كَانَ فِي
عَمُودِ نَسَبِهِ لَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لَهُ أَبُوهُ إبْرَاهِيمُ وَأَبُوهُ
آدَمُ وَلِخَاطِبِهِ بِالْبُنُوّةِ وَلَمْ يُخَاطِبْهُ بِالْأُخُوّةِ . وَهَذَا
الْقَوْلُ عِنْدِي أَنْبَلُ وَالنّفْسُ إلَيْهِ أَمْيَلُ لَمّا عَضّدَهُ مِنْ
هَذَا الدّلِيلِ . وَقَالَ إدْرِيسُ بْنُ يُرِدْ وَتَفْسِيرُهُ الضّابِطُ . ابْنُ
مهْلائِيل ، وَتَفْسِيرُهُ الْمُمَدّحُ وَفِي زَمَنِهِ كَانَ بَدْءُ عِبَادَةِ
الْأَصْنَامِ . [ ص 37 ] ابْنِ قَيْنَانَ " وَتَفْسِيرُهُ الْمُسْتَوَى .
" ابْنِ أَنُوشِ " وَتَفْسِيرُهُ الصّادِقُ وَهُوَ بِالْعَرَبِيّةِ
أَنَشّ وَهُوَ أَوّلُ مَنْ غَرَسَ النّخْلَةَ وَبَوّبَ الْكَعْبَةَ وَبَذَرَ الْحَبّةَ
فِيمَا ذَكَرُوا ، " ابْنِ شيث " وَهُوَ بالسريانية : شاث . وبالعبرانية
: شيث . وَتَفْسِيرُهُ عَطِيّةُ اللّهِ " ابْنُ آدَمَ " .
آدَمُ
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ قِيلَ هُوَ اسْمٌ سُرْيَانِيّ وَقِيلَ هُوَ أَفْعَلُ
مِنْ الْأُدْمَةِ . وَقِيلَ أُخِذَ مِنْ لَفْظِ الْأَدِيمِ . لِأَنّهُ خُلِقَ مِنْ
أَدِيمِ الْأَرْضِ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ . وَذَكَرَ قَاسِمُ بْنُ
ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْمُسْتَنِيرِ . وَهُوَ قُطْرُبٌ
أَنّهُ قَالَ لَوْ كَانَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ لَكَانَ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ
وَكَانَتْ الْهَمْزَةُ أَصْلِيّةً فَلَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُ مِنْ الصّرْفِ مَانِعٌ
وَإِنّمَا هُوَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ مِنْ الْأُدْمَةِ . وَلِذَلِكَ جَاءَ غَيْرَ
مُجْرًى . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِشَيْءِ ؛ لِأَنّهُ لَا
يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَدِيمِ وَيَكُونَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ .
تَدْخُلُ الْهَمْزَةُ الزّائِدَةُ عَلَى الْهَمْزَةِ الْأَصْلِيّةِ كَمَا تَدْخُلُ
عَلَى هَمْزَةِ الْأُدْمَةِ . فَأَوّلُ الْأُدْمَةِ هَمْزَةٌ أَصْلِيّةٌ .
فَكَذَلِكَ أَوّلُ الْأَدِيمِ هَمْزَةٌ أَصْلِيّةٌ . فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ
يُبْنَى مِنْهَا أَفْعَلُ . فَيَكُونُ غَيْرَ مُجْرًى . كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ
أَعْيَنُ وَأَرْأَسُ مِنْ الْعَيْنِ وَالرّأْسِ . وَأَسْوَقُ وَأَعْنَقُ مِنْ
السّاقِ وَالْعُنُقِ . مَعَ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِقَوْلِ
السّلَفِ الّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ مِنْهُ لِسَانًا ، وَأَذْكَى جِنَانًا .
حُكْمُ التّكَلّمِ فِي الْأَنْسَابِ
قَالَ الْمُؤَلّفُ وَإِنّمَا تَكَلّمْنَا فِي رَفْعِ هَذَا النّسَبِ عَلَى
مَذْهَبِ مَنْ رَأَى ذَلِكَ مِنْ الْعُلَمَاءِ . [ ص 38 ] وَالطّبَرِيّ وَالْبُخَارِيّ
والزبيريين ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَأَمّا مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللّهُ
- فَقَدْ سُئِلَ عَنْ الرّجُلِ يَرْفَعُ نَسَبَهُ إلَى آدَمَ فَكَرِهَ ذَلِكَ .
قِيلَ لَهُ فَإِلَى إسْمَاعِيلَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا . وَقَالَ وَمَنْ
يُخْبِرْهُ بِهِ ؟ وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يَرْفَعَ فِي نَسَبِ الْأَنْبِيَاءِ
مِثْلَ أَنْ يُقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ . قَالَ وَمَنْ
يُخْبِرْهُ بِهِ ؟ وَقَعَ هَذَا الْكَلَامُ لِمَالِكِ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ
الْمَنْسُوبِ إلَى الْمُعَيْطِيّ وَإِنّمَا أَصْلُهُ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ
مُحَمّدِ بْنِ حُنَيْنٍ . وَتَمّمَهُ الْمُعَيْطِيّ ، فَنَسَبَ إلَيْهِ . وَقَوْلُ
مَالِكٍ هَذَا نَحْوُ مِمّا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ أَنّهُ قَالَ
مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْرِفُ مَا بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ وَعَنْ ابْنِ
عَبّاسٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - قَالَ بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ
ثَلَاثُونَ أَبًا لَا يُعْرَفُونَ .
سِيَاقَةُ
النّسَبِ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ
أَبْنَاءُ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : [ ص 39 ] زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ ، عَنْ
مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ وَلَدَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ
- عَلَيْهِمْ السّلَامُ - اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا : نَابِتًا - وَكَانَ
أَكْبَرَهُمْ - وقيدر ، وَأَذْبُلَ وَمَنَشّا ، وَمِسْمَعًا ، وَمَاشَى ، وَدَمًا
، وَأَذَر ، وطيما ، وَيُطَوّرَا ، وَنُبِشَ وقيذما . وَأُمّهُمْ بِنْتُ مُضَاضِ
بْنِ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيّ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ مُضَاضٌ .
وَجُرْهُمُ بْنُ قَحْطَانَ - وَقَحْطَانُ أَبُو الْيَمَنِ كُلّهَا ، وَإِلَيْهِ
يَجْتَمِعُ نَسَبُهَا - ابْنُ عَابِرِ بْنِ شالَخ بْنِ أرْفَخْشَذ بْنِ سَامِ بْنِ
نُوحٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : جُرْهُمُ بْنُ يَقْطُنَ بْنِ عَيْبَرَ بْنِ شالَخ
، وَيَقْطُنُ هُوَ قَحْطَانُ بْنُ عَيْبَرَ بْنِ شالَخ . [ ص 40 ]
وَفَاةُ إسْمَاعِيلَ وَمَوْطِنُ أُمّهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ عُمْرُ إسْمَاعِيلَ - فِيمَا يَذْكُرُونَ -
مِائَةَ سَنَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمّ مَاتَ - رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ
عَلَيْهِ - وَدُفِنَ فِي الْحِجْرِ مَعَ أُمّهِ هَاجَرَ ، رَحِمَهُمْ اللّهُ
تَعَالَى . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَقُولُ الْعَرَبُ : هَاجَرُ وَآجَرُ
فَيُبْدِلُونَ الْأَلِفَ مِنْ الْهَاءِ كَمَا قَالُوا : هَرَاقَ الْمَاءَ
وَأَرَاقَ الْمَاءَ وَغَيْرَهُ وَهَاجَرُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ .S[ ص 39 ]
ذِكْرُ إسْمَاعِيلَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَبَنِيهِ
وَقَدْ كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - بَنُونَ سِوَى إسْحَاقَ
وَإِسْمَاعِيلَ مِنْهُمْ سِتّةٌ مِنْ قَطُورَا بِنْتِ يَقْطُرَ وَهُمْ مَدْيَانُ
وَزَمِرَانِ وَسُرُج بِالْجِيمِ وَنَقْشَانِ - وَمِنْ وَلَدِ نَقْشَانِ
الْبَرْبَرُ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ - وَأُمّهُمْ رِغْوَةُ . وَمِنْهُمْ نُشِقّ وَلَهُ
بَنُونَ آخَرُونَ مِنْ حَجّونِ بِنْتِ أَهَيّن ، وَهُمْ كَيْسَانُ وسورج
وَأُمَيْمُ وَلَوّطَانِ وَنَافِسُ . هَؤُلَاءِ بَنُو إبْرَاهِيمَ . [ ص 40 ]
ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَسْمَاءَ بَنِي إسْمَاعِيلَ وَلَمْ يَذْكُرْ بِنْتَه ،
وَهِيَ نَسْمَةُ بِنْتُ إسْمَاعِيلَ وَهِيَ امْرَأَةُ عيصو بْنِ إسْحَاقَ
وَوَلَدَتْ لَهُ الرّومَ وَفَارِسَ - فِيمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ - وَقَالَ أَشُكّ
فِي الْأَشْبَانِ هَلْ هِيَ أُمّهُمْ أَمْ لَا ؟ وَهُمْ مِنْ وَلَدِ عيصو ،
وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا : عِيصَا ، وَذَكَرَ فِي وَلَدِ إسْمَاعِيلَ طيما ،
وَقَيّدَهُ الدّارَقُطْنِيّ : ظُمْيًا بِظَاءِ مَنْقُوطَةٍ بَعْدَهَا مِيمٌ
كَأَنّهَا تَأْنِيثُ أَظْمَى ، وَالظّمَى مَقْصُورٌ سُمْرَةٌ فِي الشّفَتَيْنِ .
وَذَكَرَ دَمًا ، وَرَأَيْت لِلْبَكْرِيّ أَنّ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ عُرِفَتْ
بدوما بْنِ إسْمَاعِيلَ وَكَانَ نَزَلَهَا ، فَلَعَلّ دَمًا مُغَيّرٌ مِنْهُ
وَذُكِرَ أَنّ الطّورَ سُمّيَ بيطور بْنِ إسْمَاعِيلَ فَلَعَلّهُ مَحْذُوفُ
الْيَاءِ أَيْضًا - إنْ كَانَ صَحّ مَا قَالَهُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَأَمّا
الّذِي قَالَهُ أَهْلُ التّفْسِيرِ فِي الطّورِ ، فَهُوَ كُلّ جَبَلٍ يُنْبِتُ
الشّجَرَ فَإِنْ لَمْ يُنْبِتْ شَيْئًا فَلَيْسَ بِطُورِ وَأَمّا قيدر
فَتَفْسِيرُهُ عِنْدَهُمْ صَاحِبُ الْإِبِلِ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ صَاحِبَ إبِلِ
إسْمَاعِيلَ . قَالَ وَأُمّهُ هَاجَرُ . وَيُقَالُ فِيهَا : آجَرُ وَكَانَتْ
سُرّيّةً لِإِبْرَاهِيمَ وَهَبَتْهَا لَهُ سَارّةُ بِنْتُ عَمّهِ وَهِيَ سَارّةُ
بِنْتُ توبيل بْنِ نَاحُورٍ وَقِيلَ بِنْتُ هَارَانِ بْن نَاحُورٍ وَقِيلَ
هَارَانِ بِنْتُ تارِح . وَهِيَ بِنْتُ أَخِيهِ عَلَى هَذَا ، وَأُخْتُ لُوطٍ .
قَالَهُ الْقُتَبِيّ فِي الْمَعَارِفِ وَقَالَهُ النّقّاشُ فِي التّفْسِيرِ
وَذَلِكَ أَنّ نِكَاحَ بِنْتِ الْأَخِ كَانَ حَلّالَا إذْ ذَاكَ فِيمَا ذُكِرَ
ثُمّ نَقَضَ النّقّاشُ هَذَا الْقَوْلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : {
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ مَا وَصّى بِهِ نُوحًا } [ الشّورَى : 13 ] . إنّ
هَذَا يَدُلّ عَلَى تَحْرِيمِ بِنْتِ الْأَخِ عَلَى لِسَانِ نُوحٍ - عَلَيْهِ
السّلَامُ - وَهَذَا هُوَ الْحَقّ ، وَإِنّمَا تَوَهّمُوا [ ص 41 ] أَخِيهِ لِأَنّ
هَارَانِ أَخُوهُ وَهُوَ هَارَانِ الْأَصْغَرُ وَكَانَتْ هِيَ بِنْتُ هَارَانِ
الْأَكْبَرِ وَهُوَ عَمّهُ وَبَهَارَانِ سُمّيَتْ مَدِينَةُ حَرّانَ لِأَنّ
الْحَاءَ هَاءٌ بِلِسَانِهِمْ وَهُوَ سُرْيَانِيّ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ
إبْرَاهِيمَ إنّمَا نَطَقَ بالعبرانية حِينَ عَبَرَ النّهْرَ فَارّا مِنْ النمروذ
، وَكَانَ النمروذ قَدْ قَالَ لِلطّلَبِ الّذِينَ أَرْسَلَهُمْ فِي طَلَبِهِ إذَا
وَجَدْتُمْ فَتًى يَتَكَلّمُ بالسريانية ، فَرُدّوهُ فَلَمّا أَدْرَكُوهُ
اسْتَنْطَقُوهُ فَحَوّلَ اللّهُ لِسَانَهُ عِبْرَانِيّا ، وَذَلِكَ حِينَ عَبَرَ
النّهْرَ فَسُمّيَتْ الْعِبْرَانِيّةُ بِذَلِكَ وَأَمّا السّرْيَانِيّةُ فِيمَا
ذَكَرَ ابْنُ سَلَامٍ - فَسُمّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنّ اللّهَ - سُبْحَانَهُ - لَمّا
عَلّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلّهَا ، عَلّمَهُ سِرّا مِنْ الْمَلَائِكَةِ
وَأَنْطَقَهُ بِهَا حِينَئِذٍ وَكَانَتْ هَاجَرُ قَبْلَ ذَلِكَ لِمَلِكِ
الْأُرْدُنّ ، وَاسْمُهُ صَادُوقٌ - فِيمَا ذَكَرَ الْقُتَبِيّ - دَفَعَهَا إلَى
سَارّةَ حِينَ أَخَذَهَا مِنْ إبْرَاهِيمَ عَجَبًا مِنْهُ بِجَمَالِهَا ، فَصُرِعَ
مَكَانَهُ فَقَالَ اُدْعِي اللّهَ أَنْ يُطْلِقَنِي . الْحَدِيثَ وَهُوَ مَشْهُورٌ
فِي الصّحَاحِ ، فَأَرْسَلَهَا ، وَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ ، وَكَانَتْ هَاجَرُ
قَبْلَ ذَلِكَ الْمَلِكِ بِنْتِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكٍ الْقِبْطِ بِمِصْرِ ذَكَرَهُ
الطّبَرِيّ مِنْ حَدِيثِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ أَوْ غَيْرِهِ أَنّ عَمْرَو بْنَ
الْعَاصِ حِينَ حَاصَرَ مِصْرَ ، قَالَ لِأَهْلِهَا : إنّ نَبِيّنَا عَلَيْهِ
السّلَامُ قَدْ وَعَدَنَا بِفَتْحِهَا ، وَقَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَسْتَوْصِيَ
بِأَهْلِهَا خَيْرًا ، فَإِنّ لَهُمْ نَسَبًا وَصِهْرًا ، فَقَالُوا لَهُ هَذَا
نَسَبٌ لَا يَحْفَظُ حَقّهُ إلّا نَبِيّ ، لِأَنّهُ نَسَبٌ بَعِيدٌ . وَصَدَقَ
كَانَتْ أُمّكُمْ امْرَأَةً لِمَلِكِ مِنْ مُلُوكِنَا ، فَحَارَبْنَا أَهْلَ
عَيْنِ شَمْسٍ فَكَانَتْ لَهُمْ عَلَيْنَا دَوْلَةٌ فَقَتَلُوا الْمَلِكَ
وَاحْتَمَلُوهَا ، فَمِنْ هُنَاكَ تَصَيّرَتْ إلَى أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ - أَوْ
كَمَا قَالُوا - وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ الْمَلِكَ الّذِي أَرَادَ سَارّةَ هُوَ
سِنَانُ بْنُ عِلْوَانَ وَأَنّهُ أَخُو الضّحّاكِ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ وَفِي
كِتَابِ التّيجَانِ لِابْنِ هِشَامٍ أَنّهُ عَمْرُو بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ
بَابِلْيُونَ بْنِ سَبَأٍ ، وَكَانَ عَلَى مِصْرَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَهَاجَرُ
أَوّلُ امْرَأَةٍ ثَقَبَتْ أُذُنَاهَا ، وَأَوّلُ مَنْ خُفِضَ مِنْ النّسَاءِ
وَأَوّلُ مَنْ جَرّتْ ذَيْلَهَا ، وَذَلِكَ أَنّ سَارّةَ غَضِبَتْ عَلَيْهَا ،
فَحَلَفَتْ أَنْ تَقْطَعَ ثَلَاثَةَ أَعْضَاءٍ مِنْ أَعْضَائِهَا ، فَأَمَرَهَا
إبْرَاهِيمُ [ ص 42 ] تَبَرّ قَسَمَهَا بِثَقْبِ أُذُنَيْهَا وَخِفَاضِهَا ،
فَصَارَتْ سُنّةً فِي النّسَاءِ وَمِمّنْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ ابْنُ أَبِي
زَيْدٍ فِي نَوَادِرِهِ . وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ نَبِيّ مُرْسَلٌ
أَرْسَلَهُ اللّهُ تَعَالَى إلَى أَخْوَالِهِ مِنْ جُرْهُمٍ وَإِلَى الْعَمَالِيقِ
الّذِينَ كَانُوا بِأَرْضِ الْحِجَازِ ، فَآمَنَ بَعْضٌ وَكَفَرَ بَعْضٌ .
وَقَوْلُهُ وَأُمّهُمْ بِنْتُ مُضَاضٍ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَهَا . وَاسْمُهَا :
السّيّدَةُ ذَكَرَهُ الدّارَقُطْنِيّ . وَقَدْ كَانَ لَهُ امْرَأَةٌ سِوَاهَا مِنْ
جُرْهُمٍ ، وَهِيَ الّتِي أَمَرَهُ أَبُوهُ بِتَطْلِيقِهَا حِينَ قَالَ لَهَا
إبْرَاهِيمُ قُولِي لِزَوْجِك : فَلْيُغَيّرْ عَتَبَتَهُ يُقَالُ اسْمُهَا :
جِدَاءُ بِنْتُ سَعْدٍ ثُمّ تَزَوّجَ أُخْرَى ، وَهِيَ الّتِي قَالَ لَهَا
إبْرَاهِيمُ فِي الزّوْرَةِ الثّانِيَةِ قُولِي لِزَوْجِك : فَلْيُثَبّتْ عَتَبَةَ
بَيْتِهِ الْحَدِيثَ وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي الصّحَاحِ أَيْضًا يُقَالُ اسْمُ هَذِهِ
الْآخِرَةِ سَامَةُ بِنْتُ مُهَلْهِلٍ ذَكَرَهُمَا ، وَذَكَرَ الّتِي قَبْلَهَا
الْوَاقِدِيّ فِي كِتَابِ " انْتِقَالِ النّورِ " وَذَكَرَهَا الْمَسْعُودِيّ
أَيْضًا وَقَدْ قِيلَ فِي الثّانِيَةِ عَاتِكَةُ .
حَدِيثٌ
فِي الْوَصَاةِ بِأَهْلِ مِصْرَ
[ ص 41 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ لَهِيعَةَ ، عَنْ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - قَالَ اللّهَ اللّهَ فِي أَهْلِ
الذّمّةِ ، أَهْلِ الْمَدَرَةِ السّوْدَاءِ السّحْمِ الْجِعَادِ فَإِنّ لَهُمْ
نَسَبًا وَصِهْرًا [ ص 42 ] قَالَ عُمَرُ مَوْلَى غُفْرَةَ : نَسَبُهُمْ أَنّ أُمّ
إسْمَاعِيلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْهُمْ . وَصِهْرُهُمْ
أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - تَسَرّرَ فِيهِمْ
. قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ أُمّ إسْمَاعِيلَ هَاجَرُ ، مِنْ " أُمّ الْعَرَبِ
" قَرْيَةٍ كَانَتْ أَمَامَ الفَرَما مِنْ مِصْرَ وَأُمّ إبْرَاهِيمَ :
مَارِيَةُ سُرّيّةُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - الّتِي
أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ مِنْ حَفْنٍ ، مِنْ كُورَةِ أَنَصّنَا . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ
شِهَابٍ الزّهْرِيّ : أَنّ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ الْأَنْصَارِيّ ثُمّ السّلَمِيّ حَدّثَهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - قَالَ إذَا افْتَتَحْتُمْ مِصْرَ ،
فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا ، فَإِنّ لَهُمْ ذِمّةً وَرَحِمًا "
فَقُلْت لِمُحَمّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزّهْرِيّ : مَا الرّحِمُ الّتِي ذَكَرَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - لَهُمْ ؟ فَقَالَ
كَانَتْ هَاجَرُ أُمّ إسْمَاعِيلَ مِنْهُمْ [ ص 43 ]Sهَدَايَا
الْمُقَوْقِسِ
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ ، وَغُفْرَةُ هَذِهِ هِيَ أُخْتُ
بِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ . وَقَوْلُ مَوْلَى غُفْرَةَ هَذَا : إنّ صِهْرَهُمْ
لِكَوْنِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - تَسَرّرَ مِنْهُمْ
يَعْنِي : مَارِيَةَ بِنْتَ شمعون الّتِي أَهْدَاهَا إلَيْهِ الْمُقَوْقِسُ ،
وَاسْمُهُ جُرَيْجُ بْنُ مِينَاءٍ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ أَرْسَلَ إلَيْهِ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ
وَجَبْرًا مَوْلَى أَبِي رُهْمٍ الْغِفَارِيّ فَقَارَبَ الْإِسْلَامَ وَأَهْدَى
مَعَهُمَا إلَى النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَغْلَتَهُ الّتِي
يُقَالُ لَهَا دُلْدُلُ وَالدّلْدُلُ الْقُنْفُذُ الْعَظِيمُ وَأَهْدَى إلَيْهِ
مَارِيَةَ بِنْتَ شمعون ، وَالْمَارِيَةُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ الْبَقَرَةُ
الْفَتِيّةُ بِخَطّ ابْنِ سِرَاجٍ يَذْكُرُهُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْمُطَرّزِ .
وَأَمّا الْمَارِيّةُ بِالتّشْدِيدِ فَيُقَالُ قَطَاةٌ مَارِيّةٌ أَيْ مَلْسَاءُ
قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبِ الْمُصَنّفِ . وَأَهْدَى إلَيْهِ أَيْضًا
قَدَحًا مِنْ قَوَارِيرَ فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- يَشْرَبُ فِيهِ . رَوَاهُ ابْنُ عَبّاسٍ ، فَيُقَالُ أَنّ هِرْقِلَ عَزَلَهُ
لَمّا رَأَى مِنْ مَيْلِهِ إلَى الْإِسْلَامِ . وَمَعْنَى الْمُقَوْقِسِ :
الْمُطَوّلُ لِلْبِنَاءِ وَالْقُوسُ الصّوْمَعَةُ الْعَالِيَةُ ، يُقَالُ فِي
مَثَلٍ أَنَا فِي الْقُوسِ وَأَنْتَ فِي الْقَرَقوُسِ مَتَى نَجْتَمِعُ ؟ وَقَوْلُ
ابْنِ لَهِيعَةَ بِالْفَرَمَا مِنْ مِصْرَ . الفَرَما : مَدِينَةٌ كَانَتْ
تُنْسَبُ إلَى صَاحِبِهَا الّذِي بَنَاهَا ، وَهُوَ الفَرَما بْنُ قيلقوس ،
وَيُقَالُ فِيهِ ابْنُ قَلِيس ، وَمَعْنَاهُ مُحِبّ الْغَرْسِ وَيُقَالُ فِيهِ
ابْنُ بِلِيسِ . ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيّ . وَالْأَوّلُ قَوْلُ الطّبَرِيّ ،
وَهُوَ أَخُو الْإِسْكَنْدَرِ بْنِ قَلِيس الْيُونَانِيّ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ
الْإِسْكَنْدَرَ حِينَ بَنَى مَدِينَةَ الإسكندرية قَالَ أَبْنِي مَدِينَةً
فَقِيرَةً إلَى اللّهِ غَنِيّةً [ ص 44 ] وَقَالَ الْفَرْمَا : أُبْنَى مَدِينَةٌ
فَقِيرَةٌ إلَى النّاسِ غَنِيّةٌ عَنْ اللّهِ فَسَلّطَ اللّهُ عَلَى مَدِينَةِ
الْفَرْمَا الْخَرَابَ سَرِيعًا ، فَذَهَبَ رَسْمُهَا ، وَعَفَا أَثَرُهَا ،
وَبَقِيَتْ مَدِينَةُ الْإِسْكَنْدَرِ إلَى الْآنَ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ
عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ حِينَ افْتَتَحَ مِصْرَ ، وَقَفَ عَلَى آثَارِ مَدِينَةِ
الْفَرْمَا ، فَسَأَلَ عَنْهَا ، فَحَدّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَاَللّهُ أَعِلْمُ
.
مِصْرُ وَحَفّنِ
وَأَمّا مِصْرُ فَسُمّيَتْ بِمِصْرِ بْنِ النّبَيْطِ وَيُقَالُ ابْنُ قِبْطِ بْنُ
النّبَيْطِ مِنْ وَلَدِ كُوشِ بْنِ كَنْعَانَ . وَأَمّا حَفّنِ الّتِي ذَكَرَ
أَنّهَا قَرْيَةُ أُمّ إبْرَاهِيمَ بْنِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - فَقَرْيَةٌ بِالصّعِيدِ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ الّتِي كَلّمَ الْحَسَنُ
بْنُ عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا - مُعَاوِيَةَ أَنْ يَضَعَ الْخَرَاجَ عَنْ
أَهْلِهَا ، فَفَعَلَ مُعَاوِيَةُ ذَلِكَ حِفْظًا لِوَصِيّةِ رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِهِمْ وَرِعَايَةً لِحُرْمَةِ الصّهْرِ
ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ وَذَكَرَ " أَنَصّنَا
" وَهِيَ قَرْيَةٌ بِالصّعِيدِ يُقَالُ إنّهَا كَانَتْ مَدِينَةَ السّحَرَةِ
. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا يَنْبُتُ اللّبْخُ إلّا بأنصنا ، وَهُوَ عُودٌ
تُنْشَرُ مِنْهُ أَلْوَاحٌ لِلسّفُنِ وَرُبّمَا ، رَعَفَ نَاشِرُهَا ، وَيُبَاعُ
اللّوْحُ مِنْهَا بِخَمْسِينَ دِينَارًا ، أَوْ نَحْوِهَا ، وَإِذَا شُدّ لَوْحٌ
مِنْهَا بِلَوْحِ وَطُرِحَ فِي الْمَاءِ سَنَةً الْتَأَمَا ، وَصَارَا لَوْحًا
وَاحِدًا .
أَصْلُ
الْعَرَبِ وَأَوْلَادُ عَدْنَانَ وَمَعَدّ وَقُضَاعَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [ ص 43 ] أَهْلِ الْيَمَنِ يَقُولُ قَحْطَانُ مِنْ وَلَدِ
إسْمَاعِيلَ وَيَقُولُ إسْمَاعِيلُ أَبُو الْعَرَبِ كُلّهَا . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : عَادُ بْنُ عَوْصِ بْنِ إرَمِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَثَمُودُ وجديس
ابْنَا عَابِرِ بْنِ إرَمِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَطسم وَعِمْلَاق وَأُمَيْمُ
بَنُو لَاوِذْ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ . عَرَبٌ كُلّهُمْ فَوَلَدُ نَابِتِ بْنِ
إسْمَاعِيلَ : يَشْجُبُ بْنُ نَابِتٍ فَوَلَدَ يَشْجُبُ يَعْرُبَ بْنَ يَشْجُبَ
فَوَلَدُ يَعْرُبَ تَيْرَح بْنُ يَعْرُبَ فَوَلَدَ تَيْرَح : ناحورَ بْنِ تَيْرَح
، فَوَلَدَ ناحورَ مُقَوّمَ بْنَ نَاحُورٍ : فَوَلَدَ مُقَوّمٌ أُدَدَ بْنَ
مُقَوّمٍ فَوَلَدَ أُدَدُ عَدْنَانَ بْنَ أُدَدٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَيُقَالُ عَدْنَانَ بْنَ أُدّ . [ ص 44 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَمِنْ
عَدْنَانَ تَفَرّقَتْ الْقَبَائِلُ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ -
عَلَيْهِمَا السّلَامُ - فَوَلَدَ عَدْنَانُ رَجُلَيْنِ مَعَدّ بْنَ عَدْنَانَ ،
وَعَكّ بْنَ عَدْنَانَ . [ ص 45 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَصَارَتْ عَكّ فِي دَارِ
الْيَمَنِ ، وَذَلِكَ أَنّ عَكّا تَزَوّجَ فِي الْأَشْعَرِيّينَ فَأَقَامَ فِيهِمْ
فَصَارَتْ الدّارُ وَاللّغَةُ وَاحِدَةً والأشعريون : بَنُو أَشْعَرِ بْنِ نَبْتِ
بْنِ أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ همَيْسَع بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ يَشْجُبَ
بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانِ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ
قَحْطَانَ وَيُقَالُ أَشْعَرُ نَبْتُ بْنُ أُدَدٍ وَيُقَالُ أَشْعَرُ بْنُ مَالِكٍ
وَمَالِكٌ مُذْحِجُ بْنُ أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ همَيْسَع . وَيُقَالُ أَشْعَرُ
بْنُ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ . [ ص 46 ] أَبُو مُحْرِزٍ خَلَفٌ الْأَحْمَرُ ،
وَأَبُو عُبَيْدَةَ لِعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَحَدِ بَنِي سُلَيْمِ بْنِ
مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ
بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَانَ ، يَفْخَرُ بِعَكّ
وَعَكّ بْنُ عَدْنَانَ الّذِينَ تَلَقّبُوا ... بِغَسّانِ حَتّى طُرّدُوا كُلّ
مَطْرَدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَغَسّانُ : مَاءٌ بِسَدّ مَأْرَبٍ
بِالْيَمَنِ كَانَ شِرْبًا لِوَلَدِ مَازِنِ بْنِ الْأَسَدِ بْنِ الْغَوْثِ ،
فَسُمّوا بِهِ وَيُقَالُ غَسّانُ : مَاءٌ بِالْمُشَلّلِ قَرِيبٌ مِنْ الْجُحْفَةِ
، وَاَلّذِينَ شَرِبُوا مِنْهُ تَحَزّبُوا ، فَسُمّوا بِهِ قَبَائِلَ مِنْ وَلَدِ
مَازِنِ بْنِ الْأَشَدّ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
كَهْلَانَ ، بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ . [ ص 47 ]Sعِكْ
فَصْلٌ وَذَكَرَ عِكْ بْنَ عَدْنَانَ ، وَأَنّ بَعْضَ أَهْلِ الْيَمَنِ يَقُولُ
فِيهِ عِكْ بْنُ عَدْنَانَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، بْنِ الْأَزْدِ ، وَذَكَرَ
الدّارَقُطْنِيّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَنْ ابْنِ الْحُبَابِ أَنّهُ قَالَ فِيهِ
عَكّ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُدْثَانَ بِالثّاءِ الْمُثَلّثَةِ وَلَا خِلَافَ
فِي الْأَوّلِ أَنّهُ بِنُونَيْنِ كَمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِي دَوْسِ بْنِ
عُدْثَانَ أَنّهُ بِالثّاءِ وَهِيَ قَبِيلَةٌ مِنْ الْأَزْدِ أَيْضًا ، وَاسْمُ
عَكّ عَامِرٌ . وَالدّيْثُ الّذِي ذَكَرَهُ هُوَ بِالثّاءِ وَقَالَهُ الزّبَيْرُ الذّيْبُ
بِالذّالِ وَالْيَاءِ وَلِعَدْنَانَ أَيْضًا ابْنٌ اسْمُهُ الْحَارِثُ وَآخَرُ
يُقَالُ لَهُ الْمُذَهّبُ وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي الْمَثَلِ أَجْمَل من الْمُذَهّبِ
وَقَدْ ذَكَرَ أَيْضًا فِي بَنِيهِ الضّحّاكَ وَقِيلَ فِي الضّحّاكِ إنّهُ ابْنُ
مَعَدّ لَا ابْنَ عَدْنَانَ وَقِيلَ إنّ عَدَنَ الّذِي تُعْرَفُ بِهِ مَدِينَةُ [
ص 45 ] عَدَنٍ ، وَكَذَلِكَ أَبْيَنُ هُمَا : ابْنَا عَدْنَانَ قَالَهُ الطّبَرِيّ
. وَلِعَدْنَانَ بْنِ أُدَدٍ أَخَوَانِ نَبْتُ بْنُ أُدَدٍ وَعَمْرُو بْنُ أُدَدٍ
. قَالَهُ الطّبَرِيّ أَيْضًا .
ذِكْرُ قَحْطَانَ وَالْعَرَبِ الْعَارِبَةِ
أَمّا قَحْطَانُ فَاسْمُهُ مِهْزَمٌ - فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ مَاكُولَا - وَكَانُوا
أَرْبَعَةَ إخْوَةٍ فِيمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مُنَبّهٍ قَحْطَانُ وَقَاحِطٌ
وَمِقْحَطٌ وَفَالِغٌ . وَقَحْطَانُ أَوّلُ مَنْ قِيلَ لَهُ أَبَيْت اللّعْنَ
وَأَوّلُ مَنْ قِيلَ لَهُ عِمْ صَبَاحًا ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ هُوَ ابْنُ
عَابِرِ بْنِ شالَخ ، وَقِيلَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللّهِ أَخُو هُودٍ ، وَقِيلَ
هُوَ هُودٌ نَفْسُهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ إرَمِ بْنِ سَامٍ وَمَنْ
جَعَلَ الْعَرَبَ كُلّهَا مِنْ إسْمَاعِيلَ قَالُوا فِيهِ هُوَ ابْنُ تَيْمَنَ
بْنِ قَيْذَرَ بْنِ إسْمَاعِيلَ . وَيُقَالُ هُوَ ابْنُ الْهَمَيْسَعِ بْنِ يَمَنِ
وَبِيَمَنِ سُمّيَتْ الْيَمَنُ فِي قَوْلٍ وَقِيلَ بَلْ سُمّيَتْ بِذَلِكَ
لِأَنّهَا عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ . وَتَفْسِيرُ الْهَمَيْسَعِ الصّرّاعُ .
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يَمَنُ هُوَ . يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ سُمّيَ بِذَلِكَ
لِأَنّ هُودًا عَلَيْهِ السّلَامُ قَالَ لَهُ أَنْتَ أَيْمَنُ وَلَدَيْ نَقِيبَةَ
فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ . قَالَ وَهُوَ أَوّلُ مَنْ قَالَ الْقَرِيضَ وَالرّجَزَ
وَهُوَ الّذِي أَجْلَى بَنِي حَام ٍ إلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا
يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِنْ وَلَدِ قُوطَةَ بْنِ يَافِثٍ . قَالَ وَهِيَ أَوّلُ
جِزْيَةٍ وَخَرَاجٍ أُخِذَتْ فِي بَنِي آدَمَ . وَقَدْ احْتَجّوا لِهَذَا
الْقَوْلِ أَعْنِي : أَنّ قَحْطَانَ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ
يَقُولُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ارْمُوا يَا بَنِي
إسْمَاعِيلَ فَإِنّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لِقَوْمِ مِنْ
أَسْلَمَ بْنِ أَفْصَى ، وَأَسْلَمُ أَخُو خُزَاعَةَ وَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، وَهُمْ مِنْ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ
يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ ، وَلَا حُجّةَ عِنْدِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِأَهْلِ
هَذَا الْقَوْلِ لِأَنّ الْيَمَنَ لَوْ كَانَتْ مِنْ إسْمَاعِيلَ - مَعَ أَنّ
عَدْنَانَ كُلّهَا مِنْ إسْمَاعِيلَ بِلَا شَكّ - لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ
هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِالنّسَبِ إلَى إسْمَاعِيلَ مَعْنًى ، لِأَنّ غَيْرَهُمْ
مِنْ الْعَرَبِ أَيْضًا أَبُوهُمْ إسْمَاعِيلُ وَلَكِنْ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ [
ص 46 ] أَعْلَمُ - عَلَى أَنّ خُزَاعَةَ مِنْ بَنِي قَمَعَةَ أَخِي مُدْرِكَةَ
بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ
عِنْدَ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ لُحَيّ - إنْ شَاءَ اللّهُ - وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي
هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - هِيَ أُمّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السّمَاءِ
يَعْنِي : هَاجَرَ ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَأَوّلَ فِي قَحْطَانَ مَا
تَأَوّلَهُ غَيْرُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَسَبُهُمْ إلَى " مَاءِ
السّمَاءِ عَلَى زَعْمِهِمْ " فَإِنّهُمْ يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ كَمَا يَنْتَسِبُ
كَثِيرٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ إلَى حَاضِنَتِهِمْ وَإِلَى رَابّهِمْ أَيْ
زَوْجِ أُمّهِمْ - كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِ قُضَاعَةَ إنْ شَاءَ
اللّهُ .
سَبَأُ وَأُمَيْمٌ وَوِبَارٌ
وَسَبَأٌ اسْمُهُ عَبْدُ شَمْسٍ - كَمَا ذُكِرَ - وَكَانَ أَوّلَ مَنْ تَتَوّجَ
مِنْ مُلُوكِ الْعَرَبِ ، وَأَوّلَ مَنْ سَبَى فَسُمّيَ سَبَأً ، وَلَسْت مِنْ
هَذَا الِاشْتِقَاقِ عَلَى يَقِينٍ لِأَنّ سَبَأَ مَهْمُوزٌ وَالسّبْيُ غَيْرُ
مَهْمُوزٍ . وَذَكَرَ أُمَيْمًا ، وَيُقَالُ فِيهِ أَمِيمٌ وَوَجَدْت بِخَطّ
أَشْيَاخٍ مَشَاهِيرَ أَمّيمٌ وَأَمّيمٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ
الْمِيمِ مَكْسُورَةً وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْكَلَامِ وَالْعَرَبُ تَضْطَرِبُ
فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْقَدِيمَةِ قَالَ الْمَعْرِيّ :
يَرَاهُ بَنُو الدّهْرِ الْأَخِيرِ بِحَالِهِ ... كَمَا قَدْ رَأَتْهُ جُرْهُمٌ وَأَمِيمُ
فَجَاءَ بِهِ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَأُمَيْمٌ - فِيمَا
ذَكَرُوا - أَوّلُ مَنْ سَقّفَ الْبُيُوتَ بِالْخَشْبِ الْمَنْشُورِ وَكَانَ
مَلِكًا ، وَكَانَ يُسَمّى : آدَمَ وَهُوَ عِنْدَ الْفُرْسِ : آدَمُ الصّغِيرُ
وَوَلَدُهُ [ ص 47 ] هَالَتْ الرّيَاحُ الرّمْلَ عَلَى فِجَاجِهِمْ
وَمَنَاهِلِهِمْ فَهَلَكُوا . قَالَ الشّاعِرُ
وَكَرّ دَهْرٌ عَلَى وَبَارٍ ... فَأُهْلِكَتْ عَنْوَةً وَبَارُ
وَالنّسَبُ إلَيْهِ أَبَارِيّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَمِنْ الْعَمَالِيقِ مُلُوكُ
مِصْرَ الْفَرَاعِنَةُ مِنْهُمْ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبٍ صَاحِبُ مُوسَى
وَقَابُوسُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ إرَاشَةَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ بْنِ عِمْليق أَخُو الْأَوّلِ وَمِنْهُمْ الرّيّانُ بْنُ الْوَلِيدِ
صَاحِبُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَيُقَالُ فِيهِ ابْنُ دومع فِيمَا ذَكَرَ
الْمَسْعُودِيّ . وَأَمّا طَسْمٌ وَجَدِيسٌ فَأَفْنَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَتَلَتْ
طَسْمٌ جَدِيسًا لِسُوءِ مَلَكَتِهِمْ إيّاهُمْ وَجَوْرِهِمْ فِيهِمْ فَأَفْلَتْ
مَعَهُمْ رَجُلٌ اسْمُهُ رَبَاحُ بْنُ مُرّةَ فَاسْتَصْرَخَ بِتُبّعِ وَهُوَ
حَسّانُ بْنُ تُبّانَ أَسْعَدَ وَكَانَتْ أُخْتُهُ الْيَمَامَةُ ، وَاسْمُهَا
عَنَزُ نَاكِحًا فِي طَسْمٍ وَكَانَ هَوَاهَا مَعَهُمْ فَأَنْذَرَتْهُمْ فَلَمْ
يَقْبَلُوا ، فَصَبّحَتْهُمْ جُنُودُ تُبّعٍ فَأَفَنُوهُمْ قَتْلًا ، وَصَلَبُوا
الْيَمَامَةَ الزّرْقَاءَ بِبَابِ جَوّ وَهِيَ الْمَدِينَةُ ، فَسُمّيَتْ جَوّ
بِالْيَمَامَةِ مِنْ هُنَالِكَ إلَى الْيَوْمِ وَذَلِكَ فِي أَيّامِ مُلُوكِ
الطّوَائِفِ وَبَقِيَتْ بَعْدَ طَسْمٍ يَبَابًا لَا يَأْكُلُ ثَمَرَهَا إلّا
عَوَافِي الطّيْرِ وَالسّبَاعِ حَتّى وَقَعَ عَلَيْهَا عُبَيْدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ
الْحَنَفِيّ ، وَكَانَ رَائِدًا لِقَوْمِهِ فِي الْبِلَادِ فَلَمّا أَكَلَ
الثّمَرَ قَالَ إنّ هَذَا لَطَعَامٌ وَحَجّرَ بِعَصَاهُ عَلَى مَوْضِعِ قَصَبَةِ
الْيَمَامَةِ ، فَسُمّيَتْ حِجْرًا ، وَهِيَ مَنَازِلُ حَنِيفَةَ إلَى الْيَوْمِ
وَخَبَرُ طَسْمٍ وَجَدِيسٍ مَشْهُورٌ اقْتَصَرْنَا مَعَهُ عَلَى هَذِهِ النّبْذَةِ
لِشُهْرَتِهِ عِنْدَ الْإِخْبَارِيّينَ .
نَسَبُ
الْأَنْصَارِ
قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ [ ص 48 ] وَالْأَنْصَارُ بَنُو
الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، ابْنَيْ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو ، بْنِ
عَامِرِ ، بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ
بْنِ الْأَسَدِ بْنِ الْغَوْثِ :
إمّا سَأَلْتِ فَإِنّا مَعْشَرٌ نُجُبٌ ... الْأَسْدُ نِسْبَتُنَا وَالْمَاءُ
غَسّانُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . [ ص 49 ]Sذِكْرُ
نَسَبِ الْأَنْصَارِ
[ ص 48 ] الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ ، وَالْأَوْسُ : الذّئْبُ وَالْعَطِيّةُ أَيْضًا
، وَالْخَزْرَجُ : الرّيحُ الْبَارِدَةُ وَلَا أَحْسَبُ الْأَوْسَ فِي اللّغَةِ
إلّا الْعَطِيّةَ خَاصّةً وَهِيَ مَصْدَرُ أُسْته وَأَمّا أَوْسٌ الّذِي هُوَ
الذّئْبُ فَعَلَمٌ كَاسْمِ الرّجُلِ وَهُوَ كَقَوْلِك : أُسَامَةَ فِي اسْمِ
الْأَسَدِ . وَلَيْسَ أَوْسٌ إذَا أَرَدْت الذّئْبَ كَقَوْلِك : ذِئْبٌ وَأَسَدٌ ،
وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجُمِعَ وَعُرّفَ - قَالَ - كَمَا يُفْعَلُ بِأَسْمَاءِ
الْأَجْنَاسِ وَلَقِيلَ فِي الْأُنْثَى : أَوْسَةٌ كَمَا يُقَالُ ذِئْبَةٌ وَفِي
الْحَدِيثِ مَا يُقَوّي هَذَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ " هَذَا
أُوَيْسٌ يَسْأَلُكُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ " فَقَالُوا : " لَا تَطِيبُ
لَهُ أَنْفُسُنَا بِشَيْءِ " وَلَمْ يَقُلْ هَذَا الْأَوْسُ فَتَأَمّلْهُ
وَلَيْسَ أَوْسٌ عَلَى هَذَا مِنْ الْمُسَمّيْنَ بِالسّبَاعِ وَلَا مَنْقُولًا
مِنْ الْأَجْنَاسِ إلّا مِنْ الْعَطِيّةِ خَاصّةً [ ص 49 ] مُزَيْقِيَاءُ لِأَنّهُ
- فِيمَا ذَكَرُوا - كَانَ يُمَزّقُ كُلّ يَوْمٍ حُلّةً . ابْنُ عَامِرٍ وَهُوَ
مَاءُ السّمَاءِ . ابْنُ حَارِثَةَ الْغِطْرِيفُ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَهُوَ
الْبُهْلُولُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الصّنَمُ بْنِ مَازِنِ السّرَاجِ ابْنِ الْأَسَدِ
وَيُقَالُ لِثَعْلَبَةَ أَبِيهِ الصّنَمُ وَكَانَ يُقَالُ لِثَعْلَبَةَ ابْنُ
عَمْرٍو جَدّ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ : ثَعْلَبَةُ الْعَنْقَاءُ وَكَأَنّهُمْ
مُلُوكٌ مُتَوَجّونَ وَمَاتَ حَارِثَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الْعَنْقَاءُ وَالِدُ
الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ ظُهُورِهِمْ عَلَى الرّومِ
بِالشّامِ وَمُصَالَحَةِ غَسّانَ لِمَلِكِ الرّومِ ، وَكَانَ مَوْتُ حَارِثَةَ
وَجِذْعِ بْنِ سِنَانٍ مِنْ صَيْحَةٍ كَانَتْ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ سَمِعَ
فِيهِ صَهِيلَ الْخَيْلِ وَبَعْدَ مَوْتِ حَارِثَةَ كَانَ مَا كَانَ مِنْ نَكْثِ
يَهُودِ الْعُهُودِ حَتّى ظَهَرَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ عَلَيْهِمْ بِمَنْ
اسْتَنْصَرُوا بِهِ مِنْ مُلُوكِ جَفْنَةَ وَيُقَالُ فِي الْأَسْدِ الْأَزْدُ
بِالسّينِ وَالزّايِ وَاسْمُهُ الِازْدِرَاءُ بْنُ الْغَوْثِ . قَالَهُ وَثِيمَةُ
بْنُ مُوسَى بْنِ الْفُرَاتِ . وَقَالَ غَيْرُهُ سُمّيَ أَسْدًا لِكَثْرَةِ مَا
أَسْدَى إلَى النّاسِ مِنْ الْأَيَادِي . وَرُفِعَ فِي النّسَبِ إلَى كَهْلَانَ
بْنِ سَبَأٍ ، وَكَهْلَانُ كَانَ مَلِكًا بَعْدَ حِمْيَرَ ، وَعَاشَ - فِيمَا
ذَكَرُوا - ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ ثُمّ تَحَوّلَ الْمُلْكُ إلَى أَخِيهِ حِمْيَرَ
، ثُمّ فِي بَنِيهِمْ وَهُمْ وَائِلٌ وَمَالِكٌ وَعَمْرٌو وَعَامِرٌ وَسَعْدٌ
وَعَوْفٌ . وَذَكَرَ لَطْمَةَ وَلَدِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ لِأَبِيهِ وَأَنّهُ
كَانَ أَصْغَرَ وَلَدِهِ . قَالَ الْمَسْعُودِيّ : وَاسْمُهُ مَالِكٌ وَقَالَ
غَيْرُهُ ثَعْلَبَةُ . وَقَالَ وَيُقَالُ إنّهُ كَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِهِ .
وَقَوْلُ حَسّانَ
مّا سَأَلْتِ فَإِنّا مَعْشَرٌ أُنُفٌ ... الْأَسْدُ نِسْبَتُنَا ، وَالْمَاءُ
غَسّانُ
يَا أُخْتَ آلِ فِرَاسٍ إنّنِي رَجُلٌ ... مِنْ مَعْشَرٍ لَهُمْ فِي الْمَجْدِ
بُنْيَانُ
وَاشْتِقَاقُ غَسّانَ اسْمُ ذَلِكَ الْمَاءِ مِنْ الْغَسّ وَهُوَ الضّعِيفُ كَمَا
قَالَ غُسّ الْأَمَانَةِ صُنْبُورٌ فَصُنْبُورُ
[ ص 50 ] وَيُقَالُ لِلْهِرّ إذَا زُجِرَ غِسْ بِتَخْفِيفِ السّينِ قَالَهُ
صَاحِبُ الْعَيْنِ . وَالْغَسِيسَةُ مِنْ الرّطْبِ الّتِي يَبْدَؤُهَا
الْإِرْطَابُ مِنْ قِبَلِ مِغْلَاقِهَا ، وَلَا تَكُونُ إلّا ضَعِيفَةً سَاقِطَةً
. سَبَأٌ وَسَيْلُ الْعَرِمِ :
فَقَالَتْ
الْيَمَنُ [ ص 50 ] عَدْنَانَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ ،
وَيُقَالُ عُدْثَانُ بْنِ الدّيثِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ
الْغَوْثِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ مَعَدّ بْنُ عَدْنَانَ أَرْبَعَةَ
نَفَرٍ نِزَارُ بْنُ مَعَدّ وَقُضَاعَةُ بْنُ مَعَدّ وَكَانَ قُضَاعَةُ بِكْرَ
مَعَدّ الّذِي بِهِ يُكَنّى - فِيمَا يَزْعُمُونَ - وَقُنُصُ بْنُ مَعَدّ
وَإِيَادُ بْنُ مَعَدّ . فَأَمّا قُضَاعَةُ فَتَيَامَنَتْ إلَى حِمْيَرَ بْنِ
سَبَأٍ - وَكَانَ اسْمُ سَبَأٍ : عَبْدُ شَمْسٍ ، وَإِنّمَا سُمّيَ سَبَأً ؟
لِأَنّهُ أَوّلُ مَنْ سَبَى فِي الْعَرَبِ - ابْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ
قَحْطَانَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَقَالَتْ الْيَمَنُ وَقُضَاعَةُ : قُضَاعَةُ
بْنُ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرَ . وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مُرّةَ الْجُهَنِيّ ،
وَجُهَيْنَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سَوْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، بْنِ الْحَافِ
بْنِ قُضَاعَةَ :
نَحْنُ بَنُو الشّيْخِ الْهِجَانِ الْأَزْهَرِ ... قُضَاعَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ
حِمْيَرِ
النّسَبُ الْمَعْرُوفُ غَيْرُ الْمُنْكَرِ ... فِي الْحَجَرِ الْمَنْقُوشِ تَحْتَ
الْمِنْبَرِSفَصْلٌ
وَذَكَرَ تَفَرّقَ سَبَأٍ . وَالْعَرَبُ تَقُولُ تَفَرّقُوا أَيْدِي سَبَأً
وَأَيَادِي سَبَأً نَصْبًا عَلَى الْحَالِ وَإِنْ كَانَ مَعْرِفَةً فِي الظّاهِرِ
لِأَنّ مَعْنَاهُ مِثْلَ أَيْدِي سَبَأٍ وَالْيَاءُ سَاكِنَةٌ فِيهِ فِي مَوْضِعِ
النّصْبِ لِأَنّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ اسْمَيْنِ جُعِلَا اسْمًا وَاحِدًا مِثْلَ
مَعْدِي كَرِبَ وَلَمْ يُسَكّنُوهَا فِي ثَمَانِي عَشْرَةَ لِأَنّهَا مُتَحَرّكَةٌ
فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ . فَصْلٌ وَذَكَرَ سَيْلَ الْعَرِمِ ، وَفِي الْعَرِمِ
أَقْوَالٌ قِيلَ هُوَ الْمُسَنّاةُ أَيْ السّدّ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ ، وَقِيلَ
هُوَ اسْمٌ لِلْوَادِي ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَقِيلَ هُوَ الْجُرَذُ الّذِي
خَرّبَ السّدّ وَقِيلَ هُوَ صِفَةٌ لِلسّيْلِ مِنْ الْعَرَامَةِ وَهُوَ مَعْنَى
رِوَايَةِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَقَالَ الْبُخَارِيّ
: الْعَرِمُ : مَاءٌ أَحْمَرُ حُفِرَ فِي الْأَرْضِ حَتّى ارْتَفَعَتْ عَنْهُ
الْجَنّتَانِ فَلَمْ يَسْقِهِمَا ، حَتّى يَبِسَتْ وَلَيْسَ الْمَاءُ الْأَحْمَرُ
مِنْ السّدّ وَلَكِنّهُ كَانَ عَذَابًا أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ . انْتَهَى كَلَامُ
الْبُخَارِيّ . [ ص 51 ] وَالْعَرَبُ تُضِيفُ الِاسْمَ إلَى وَصْفِهِ لِأَنّهُمَا
اسْمَانِ فَتُعَرّفُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ . وَحَقِيقَةُ إضَافَةِ الْمُسَمّى
إلَى الِاسْمِ الثّانِي ، أَيْ صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ كَمَا تَقُولُ ذُو زَيْدٍ
أَيْ . الْمُسَمّى بِزَيْدِ وَمِنْهُ سَعْدُ نَاشِرَةٍ وَعَمْرُو بَطّةَ .
وَقَوْلُ الْأَعْشَى : وَمَأْرِبٌ عَفّى عَلَيْهَا الْعَرِمْ
يَقْوَى أَنّهُ السّيْلُ . وَمَأْرِبٌ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ اسْمٌ لِقَصْرِ كَانَ
لَهُمْ وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِكُلّ مَلِكٍ كَانَ يَلِي سَبَأَ ، كَمَا أَنّ تُبّعًا
اسْمٌ لِكُلّ مَنْ وَلِيَ الْيَمَنَ ، وَحَضْرَمَوْتَ وَالشّجَرَ . قَالَهُ
الْمَسْعُودِيّ . وَكَانَ هَذَا السّدّ مِنْ بِنَاءِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ
يَعْرُبَ وَكَانَ سَاقَ إلَيْهِ سَبْعِينَ وَادِيًا ، وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ
يَسْتَتِمّهُ فَأَتَمّتْهُ مُلُوكُ حِمْيَرَ بَعْدَهُ . وَقَالَ الْمَسْعُودِيّ :
بَنَاهُ لُقْمَانُ بْنُ عَادٍ ، وَجَعَلَهُ فَرْسَخًا ، وَجَعَلَ لَهُ ثَلَاثِينَ
مَثْقَبًا . وَقَوْلُ الْأَعْشَى : إذَا جَاءَ مَوّارُهُ لَمْ يَرِمْ
مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { يَوْمَ تَمُورُ السّمَاءُ مَوْرًا } فَهُوَ مَفْتُوحُ
الْمِيمِ وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ مَضْمُومَ الْمِيمِ وَالْفَتْحُ أَصَحّ .
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ دَمٌ مَائِرٌ أَيْ سَائِلٌ . وَفِي الْحَدِيثِ " أَمِرّ
الدّمَ بِمَا شِئْت " أَيْ أَرْسِلْهُ وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَمْرِ
بِسُكُونِ الْمِيمِ جَعَلَهُ مِنْ مَرَيْت الضّرْعَ . وَالنّفْسُ إلَى الرّوَايَةِ
الْأُولَى أَمْيَلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ النّقّاشُ
وَفَسّرَهُ . وَقَوْلُهُ لَمْ يَرِمْ أَيْ لَمْ يُمْسِكْهُ السّدّ حَتّى
يَأْخُذُوا مِنْهُ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ . وَقَوْلُهُ فَأَرْوِي الزّرُوعَ
وَأَعْنَابَهَا أَيْ أَعْنَابَ تِلْكَ الْبِلَادِ لِأَنّ الزّرُوعَ لَا عِنَبَ
لَهَا . وَأَنْشَدَ لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ
مِنْ سَبَأِ الْحَاضِرِينَ مَأْرِب إذْ ... يَبْنُونَ مِنْ سَيْلِهِ الْعَرِمَا
[ ص 52 ] الْعَرِمَ هُوَ السّدّ ، وَاسْمُ أَبِي الصّلْتِ رَبِيعَةُ بْنُ وَهْبِ
بْنِ عِلَاجٍ الثّقَفِيّ وَأُمّهُ رُقَيّةُ بِنْتُ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ
مَنَافٍ .
ذَكَرَ مَعَدّ وَوَلَدِهِ
قَوْلُهُ وَوَلَدَ مَعَدّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ أَمّا نِزَازٌ فَمُتّفَقٌ عَلَى
أَنّهُ ابْنُ مَعَدّ وَسَائِرُ وَلَدِ مَعَدّ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمِنْهُمْ
جُشَمُ بْنُ مَعَدّ وَسِلْهِمُ بْنُ مَعَدّ وَجُنَادَةُ بْنُ مَعَدّ وَقُنَاصَةُ
بْنُ مَعَدّ وَقُنُصُ بْنُ مَعَدّ وَسَنَامُ بْنُ مَعَدّ وَعَوْفٌ - وَقَدْ
انْقَرَضَ عَقِبُهُ - وَحَيْدَانُ وَهُمْ الْآنَ فِي قُضَاعَةَ ، وَأَوْدٌ وَهُمْ
فِي مُذْحِجٍ يَنْسُبُونَ بَنِي أَوْدِ بْنِ عَمْرٍو ، وَمِنْهُمْ عُبَيْدٌ
الرّمّاحُ وَحَيْدَةُ وَحَيَادَةُ وَجُنَيْدٌ وَقَحْمٌ فَأَمّا قُضَاعَةَ
فَأَكْثَرُ النّسّابِينَ يَذْهَبُونَ إلَى أَنّ قُضَاعَةَ هُوَ ابْنُ مَعَدّ
وَهُوَ مَذْهَبُ الزّبَيْرِيّينَ وَابْنِ هِشَامٍ ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - أَنّهُ سُئِلَ عَنْ قُضَاعَةَ ، فَقَالَ هُوَ ابْنُ مَعَدّ وَكَانَ بِكْرَهُ
. قَالَ أَبُو عُمَرَ وَلَيْسَ دُونَ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ مَنْ يُحْتَجّ بِهِ
فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ عَارَضَهُ حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ
الْجُهَنِيّ . وَجُهَيْنَةُ : [ ص 53 ] ابْنُ زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سَوْدِ بْنِ
أَسْلُمِ - بِضَمّ اللّامِ - ابْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ أَنّهُ قَالَ يَا
رَسُولَ اللّهِ لِمَنْ نَحْنُ ؟ فَقَالَ " أَنْتُمْ بَنُو مَالِكِ بْنِ
حِمْيَرَ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مُرّةَ - وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَيُكَنّى أَبَا مَرْيَمَ :
يَأَيّهَا الدّاعِي اُدْعُنَا وَأَبْشِرْ ... وَكُنْ قُضَاعِيّا وَلَا تَنَزّرْ
نَحْنُ بَنُو الشّيْخِ الْهِجَانِ الْأَزْهَرِ ... قُضَاعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ
حِمْيَرِ
قَالَ ذُو الْحَسَبَيْنِ قَالَ الزّبَيْرُ الشّعْرُ لِأَفْلَحَ بْنِ الْيَعْبُوبِ .
وَعَمْرُو بْنُ مُرّةَ هَذَا لَهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - حَدِيثَانِ أَحَدُهُمَا : فِي أَعْلَامِ النّبُوّةِ وَالْآخَرُ مَنْ
وَلِيَ أَمْرَ النّاسِ فَسَدّ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلّةِ
وَالْمَسْكَنَةِ سَدّ اللّهُ بَابَهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلّتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَمِمّا احْتَجّ بِهِ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوّلِ
أَيْضًا قَوْلُ زُهَيْرٍ
قُضَاعِيّةٌ أَوْ أُخْتُهَا مُضَرِيّةٌ ... يُحَرّقُ فِي حَافّاتِهَا الْحَطَبُ
الْجَزْلُ
فَجَعَلَ قُضَاعَةَ وَمُضَرَ أَخَوَيْنِ وَأَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ لِلَبِيدٍ
وَغَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ الْكُمَيْتُ يُعَاتِبُ قُضَاعَةَ فِي انْتِسَابِهِمْ إلَى
الْيَمَنِ :
عَلَامَ نَزَلْتُمْ مِنْ غَيْرِ فَقْرٍ ... وَلَا ضَرّاءَ مَنْزِلَةَ الْحَمِيلِ
وَالْحَمِيلُ الْمَسْبِيّ لِأَنّهُ يَحْمِلُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ . قَالَ
الْأَعْمَشُ : كَانَ أَبِي حَمِيلًا فَوَرّثَهُ مَسْرُوقٌ . أَرَادَ أَنّ
مَسْرُوقًا كَانَ يَرَى التّوَارُثَ بِوِلَادَةِ الْأَعَاجِمِ . وَقَالَ ابْنُ
الْمَاجِشُونِ كَانَ أَبِي وَمَالِكٌ وَابْنُ دِينَارٍ وَالْمُغِيرَةُ يَقُولُونَ
فِي الْحَمِيلِ - وَهُوَ الْمَسْبِيّ - يَقُولُ ابْنُ هُرْمُزَ ثُمّ رَجَعَ
مَالِكٌ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَسِيرِ إلَى قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ ، وَأَنّهُمْ
يَتَوَارَثُونَ بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ وَلَمّا تَعَارَضَ الْقَوْلَانِ فِي
قُضَاعَةَ ، وَتَكَافَأَتْ الْحِجَاجُ نَظَرْنَا فَإِذَا بَعْضُ النّسّابِينَ -
وَهُوَ الزّبَيْرُ - قَدْ ذَكَرَ مَا يَدُلّ عَلَى صِدْقِ الْفَرِيقَيْنِ وَذَكَرَ
عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ أَوْ غَيْرِهِ أَنّ امْرَأَةَ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرَ ، [ ص
54 ] اسْمُهَا : عُكْبُرَةُ آمَتْ مِنْهُ وَهِيَ تُرْضِعُ قُضَاعَةَ ،
فَتَزَوّجَهَا مَعَدّ ، فَهُوَ رَابّهُ فَتَبَنّاهُ وَتُكَنّى بِهِ وَيُقَالُ بَلْ
وَلَدَتْهُ عَلَى فِرَاشِهِ فَنُسِبَ إلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الزّبَيْرِ كَمَا
نُسِبَ بَنُو عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ إلَى عَلِيّ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنِ
بْنِ الذّئْبِ الْأَسَدِيّ لِأَنّهُ كَانَ حَاضِنَ أَبِيهِمْ وَزَوْجَ أُمّهِمْ
فَيُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَلِيّ إلَى الْآنِ وَكَذَلِكَ عُكْلٌ ، وَهُوَ حَاضِنُ
بَنِي عَوْفِ بْنِ وُدّ بْنِ طَابِخَةَ وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُونَ إلّا بِعُكْلِ
وَكَذَلِكَ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ إنّمَا هُمْ بَنُو سَعْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
قُضَاعَةَ ، وَهُذَيْمٌ كَانَ حَاضِنَ سَعْدٍ فَنُسِبَ إلَيْهِ وَهَذَا كَثِيرٌ
فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَسَيَأْتِي مِنْهُ فِي الْكِتَابِ زِيَادَةٌ - إنْ
شَاءَ اللّهُ - وَتَفْسِيرُ قُضَاعَةَ فِيمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْعَيْنِ كَلْبُ
الْمَاءِ فَهُوَ اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنْهُ وَهُوَ لَقَبٌ لَهُ وَاسْمُهُ عَمْرٌو ،
وَيُكَنّى أَبَا حَسَنٍ وَكُنْيَتُهُ أَبَا حُكْمٍ فِيمَا ذَكَرُوا . وَقَوْلُ
ابْنِ إسْحَاقَ : كَانَ بِكْرَ مَعَدّ فَالْبِكْرُ أَوّلُ وَلَدِ الرّجُلِ وَأَبُوهُ
بِكْرٌ وَالثّنْيُ وَلَدُهُ الثّانِي ، وَأَبُوهُ ثَنْيٌ وَالثّلْثُ وَلَدُهُ
الثّالِثُ وَلَا يُقَالُ لِلْأَبِ ثِلْثٌ وَلَا يُقَالُ فِيمَا بَعْدَ الثّالِثِ
شَيْءٌ مِنْ هَذَا ، قَالَهُ الْخَطّابُ . وَمِمّا عُوتِبَتْ بِهِ قُضَاعَةُ فِي
انْتِسَابِهِمْ إلَى الْيَمَنِ قَوْلُ أَعْشَى بَنِي تَغْلِبَ ، وَقِيلَ هِيَ
لِرَجُلِ مِنْ كَلْبٍ ، وَكَلْبٌ مِنْ قُضَاعَةَ :
أَزَنّيْتُمْ عَجُوزَكُمْ وَكَانَتْ ... قَدِيمًا لَا يُشَمّ لَهَا خِمَارُ
عَجُوزٌ لَوْ دَنَا مِنْهَا يَمَانٌ ... لَلَاقَى مِثْلَ مَا لَاقَى يَسَارُ
يُرِيدُ يَسَارَ الْكَوَاعِبِ الّذِي هَمّ بِهِنّ فَخَصَيْنَهُ وَقَالَ بَعْضُ
شُعَرَاءِ حِمْيَرَ فِي قُضَاعَةَ :
مَرَرْنَا عَلَى حَيّيْ قُضَاعَةَ غَدْوَةً ... وَقَدْ أَخَذُوا فِي الزّفْنِ
وَالزّفَنَانِ
فَقُلْت لَهُمْ مَا بَالُ زَفْنِكُمْ كَذَا ... لِعُرْسِ نَرَى ذَا الزّفْنَ أَوْ
لِخِتَانِ
فَقَالُوا : أَلَا إنّا وَجَدْنَا لَنَا أَبًا ... فَقُلْت : لِيَهْنِئْكُمْ
بِأَيّ مَكَانِ ؟
فَقَالُوا : وَجَدْنَاهُ بِجَرْعَاءِ مَالِكٍ ... فَقُلْت : إذَا مَا أُمّكُمْ
بِحَصَانِ
فَمَا مَسّ خُصْيَا مَالِكٍ فَرْجَ أُمّكُمْ ... وَلَا بَاتَ مِنْهُ الْفَرْجُ
بِالْمُتَدَانِي
فَقَالُوا : بَلَى وَاَللّهِ حَتّى كَأَنّمَا ... خُصْيَاهُ فِي بَابِ اسْتِهَا
جُعَلَانِ
ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ - رَحِمَهُ اللّهُ - فِي كِتَابِ الْإِنْبَاهِ لَهُ وَقَالَ
جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي حُنّ بْنِ رَبِيعَةَ مِنْ قُضَاعَةَ
يَصِفُ بُثَيْنَةَ وَهِيَ مِنْ حُنّ أَيْضًا :
رَبَتْ فِي الرّوَابِي مِنْ مَعَدّ وَفُضّلَتْ ... عَلَى الْمُحْصَنَاتِ الْبِيضِ
وَهْيَ وَلِيدُ
وَقَالَ جَمِيلٌ أَيْضًا وَهُوَ يَحْدُو بِالْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
أَنَا جَمِيلٌ فِي السّنَامِ مِنْ مَعَدّ ... الضّارِبِينَ النّاسَ فِي الرّكْنِ
الْأَشَدْ
قُنُصُ
بْنُ مَعَدّ وَنَسَبُ النّعْمَانِ
[ ص 52 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا قُنُصُ بْنُ مَعَدّ فَهَلَكَتْ
بَقِيّتُهُمْ - فِيمَا يَزْعُمُ نَسّابُ مَعَدّ - وَكَانَ مِنْهُمْ النّعْمَانُ
بْنُ الْمُنْذِرِ مَلِكُ الْحِيرَةِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ
بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ : أَنّ النّعْمَانَ
بْنَ الْمُنْذِرِ كَانَ مِنْ وَلَدِ قُنُصِ بْنِ مَعَدّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَيُقَالُ قُنُصٌ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ
بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي
زُرَيْقٍ أَنّهُ حَدّثَهُ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ -
حِينَ أَتَى بِسَيْفِ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، دَعَا جُبَيْرَ بْنَ
مُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ - وَكَانَ
جُبَيْرٌ مِنْ أَنْسَبِ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشِ وَلِلْعَرَبِ قَاطِبَةً وَكَانَ
يَقُولُ إنّمَا أَخَذْت النّسَبَ مِنْ أَبِي بَكْرِ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
وَكَانَ أَبُو بَكْرِ الصّدّيقُ أَنْسَبَ الْعَرَبِ - فَسَلّحَهُ إيّاهُ ثُمّ
قَالَ مِمّنْ كَانَ يَا جُبَيْرٌ النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ ؟ فَقَالَ كَانَ
مِنْ أَشْلَاءِ قُنُصِ بْنِ مَعَدّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَمّا سَائِرُ
الْعَرَبِ فَيَزْعُمُونَ أَنّهُ كَانَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ ، مِنْ وَلَدِ
رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ . [ ص 53 ] [ ص 54
] [ ص 54 ] [ ص 56 ]
لَخْمُ بْنُ عَدِيّ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : لَخْمُ بْنُ عَدِيّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُرّةَ بْنِ
أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ همَيْسَع بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ
زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ لَخْمُ بْنُ عَدِيّ بْنِ عَمْرِو
بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو
بْنِ عَامِرٍ ، وَكَانَ تَخَلّفَ بِالْيَمَنِ بَعْدَ خُرُوجِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ
مِنْ الْيَمَنِ .
أَمْرُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فِي خُرُوجِهِ مِنْ الْيَمَنِ وَقِصّةُ سَدّ مَأْرِبٍ
وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنْ الْيَمَنِ - فِيمَا حَدّثَنِي
أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ أَنّهُ رَأَى جُرَذًا يَحْفِرُ فِي سَدّ مَأْرِبٍ
الّذِي كَانَ يَحْبِسُ عَلَيْهِمْ الْمَاءَ فَيَصْرِفُونَهُ حَيْثُ شَاءُوا مِنْ
أَرْضِهِمْ فَعَلِمَ أَنّهُ لَا بَقَاءَ لِلسّدّ عَلَى ذَلِكَ فَاعْتَزَمَ عَلَى
النّقْلَةِ مِنْ الْيَمَنِ ، فَكَادَ قَوْمَهُ فَأَمَرَ أَصْغَرَ وَلَدِهِ إذَا
أَغْلَظَ لَهُ وَلَطَمَهُ أَنْ يَقُومَ إلَيْهِ فَيَلْطِمَهُ فَفَعَلَ ابْنُهُ مَا
أَمَرَهُ بِهِ فَقَالَ [ ص 57 ] لَا أُقِيمُ بِبَلَدِ لَطَمَ وَجْهِي فِيهِ
أَصْغَرُ وَلَدِي ، وَعَرَضَ أَمْوَالَهُ فَقَالَ أَشْرَافٌ مِنْ أَشْرَافِ
الْيَمَنِ : اغْتَنِمُوا غَضْبَةَ عَمْرٍو فَاشْتَرُوا مِنْهُ أَمْوَالَهُ .
وَانْتَقَلَ فِي وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ . وَقَالَتْ الْأَزْدُ : لَا
نَتَخَلّفُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، فَبَاعُوا أَمْوَالَهُمْ وَخَرَجُوا
مَعَهُ فَسَارُوا حَتّى نَزَلُوا بِلَادَ عَكّ مُجْتَازِينَ يَرْتَادُونَ
الْبُلْدَانَ . فَحَارَبَتْهُمْ عَكّ ، فَكَانَتْ حَرْبُهُمْ سِجَالًا . فَفِي
ذَلِكَ قَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ الْبَيْتَ الّذِي كَتَبْنَا ، ثُمّ
ارْتَحَلُوا عَنْهُمْ فَتَفَرّقُوا فِي الْبُلْدَانِ فَنَزَلَ آلُ جَفْنَةَ بْنِ
عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الشّامَ ، وَنَزَلَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ يَثْرِبَ ،
وَنَزَلَتْ خُزَاعَةُ مَرّا ، وَنَزَلَتْ أَزْدُ السّرَاةِ السّرَاةَ . وَنَزَلَتْ
أَزْدُ عُمَانَ عُمَانَ . ثُمّ أَرْسَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَى السّدّ السّيْلَ
فَهَدَمَهُ فَفِيهِ أَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ
مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي
مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبّكُمْ
وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدّلْنَاهُمْ بِجَنّتَيْهِمْ جَنّتَيْنِ ذَوَاتَيْ
أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } [ سَبَأِ : 15ْ 16 ] .
وَالْعَرِمُ : السّدّ ، وَاحِدَتُهُ عَرِمَةٌ فِيمَا حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ .
قَالَ الْأَعْشَى : أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ
صَعْبِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفْصَى بْنِ
جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَفْصَى بْنِ دُعْمِيّ بْنِ جَدِيلَةَ وَاسْمُ الْأَعْشَى :
مَيْمُونُ بْنُ قَيْسِ بْنِ جَنْدَلِ بْنِ شَرَاحيل بْنِ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
ضُبَيْعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
وَفِي ذَاكَ لِلْمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ ... وَمَأْرِبُ عَفّى عَلَيْهَا الْعَرِمْ
رُخَامٌ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرٌ ... إذَا جَاءَ مَوّارُهُ لَمْ يَرِمْ
فَأَرْوَى الزّرُوعَ وَأَعْنَابَهَا ... عَلَى سِعَةٍ مَاؤُهُمْ إذْ قُسِمْ
فَصَارُوا أَيَادِي مَا يَقْدِرُو ... نَ مِنْهُ عَلَى شُرْبِ طِفْلٍ فُطِمْ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ
الثّقَفِيّ - وَاسْمُ ثَقِيفٍ : قَسِيّ بْنُ مُنَبّهِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ
بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ
مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَانَ .
مِنْ سَبَأِ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبَ إذْ ... يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِهِ
الْعَرِمَا
[ ص 58 ] قَصِيدَةٍ لَهُ . وَتُرْوَى لِلنّابِغَةِ الْجَعْدِيّ وَاسْمُهُ قَيْسُ
بْنُ عَبْدِ اللّهِ أَحَدُ بَنِي جَعْدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ . وَهُوَ
حَدِيثٌ طَوِيلٌ مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ مَا ذَكَرْت مِنْ الِاخْتِصَارِ .Sذِكْرُ
قُنُصِ بْنِ مَعَدّ
وَكَانَ قُنُصُ بْنُ مَعَدّ قَدْ انْتَشَرَ وَلَدُهُ بِالْحِجَازِ فَوَقَعَتْ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِيهِمْ حَرْبٌ وَتَضَايَقُوا فِي الْبِلَادِ وَأَجْدَبَتْ
لَهُمْ الْأَرْضُ فَسَارُوا نَحْوَ سَوَادِ الْعِرَاقِ ، وَذَلِكَ أَيّامَ مُلُوكِ
الطّوَائِفِ فَقَاتَلَهُمْ الْأَرْدَانِيّونَ وَبَعْضُ مُلُوكِ الطّوَائِفِ
وَأَجْلَوْهُمْ عَنْ السّوَادِ وَقَتَلُوهُمْ إلّا أَشْلَاءَ لَحِقَتْ بِقَبَائِلِ
الْعَرَبِ ، وَدَخَلُوا فِيهِمْ وَانْتَسَبُوا إلَيْهِمْ . فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ
إسْحَاقَ حَدِيثَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمً حِينَ أُتِيَ عُمَرُ بِسَيْفِ
النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، وَكَانَ جُبَيْرٌ أَنْسَبَ النّاسِ - الْحَدِيثُ .
وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ سَيْفَ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ إنّمَا [ ص 56 ]
أُتِيَ بِهِ عُمَرَ حِينَ اُفْتُتِحَتْ الْمَدَائِنُ - وَكَانَتْ بِهَا خَرَائِبُ
كِسْرَى وَذَخَائِرُهُ فَلَمّا غُلِبَ عَلَيْهَا فَرّ إلَى إصْطَخْرَ فَأَخَذَتْ
أَمْوَالَهُ وَنَفَائِسَ عُدَدِهِ وَأَخَذَ لَهُ خَمْسَةَ أَسْيَافٍ لَمْ يُرَ
مِثْلُهَا . أَحَدُهَا : سَيْفُ كِسْرَى أبرويز ، وَسَيْفُ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ
وَسَيْفُ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ الّذِي كَانَ اسْتَلَبَهُ مِنْهُ حِينَ
قَتَلَهُ غَضَبًا عَلَيْهِ وَأَلْقَاهُ إلَى الْفِيَلَةِ فَخَبَطَتْهُ بِأَيْدِيهَا
، حَتّى مَاتَ . وَقَالَ الطّبَرِيّ : إنّمَا مَاتَ فِي سِجْنِهِ فِي الطّاعُونِ
الّذِي كَانَ فِي الْفُرْسِ ، وَسَيْفُ خَاقَانَ مَلِكِ التّرْكِ ، وَسَيْفِ
هِرَقْلَ ، وَكَانَ تَصَيّرَ إلَى كِسْرَى أَيّامَ غَلَبَتِهِ عَلَى الرّومِ فِي
الْمُدّةِ الّتِي ذَكَرَهَا اللّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { الم غُلِبَتِ الرّومُ
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ } الْآيَةَ . فَهَذَا كَانَ سَبَبُ تَصَيّرِ سَيْفِ
النّعْمَانِ إلَى كِسْرَى أبرويز ، ثُمّ إلَى كِسْرَى يَزْدَجْرِدْ ثُمّ إلَى
عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَكَانَ الّذِي قَتَلَ النّعْمَانَ مِنْهُمْ
أبرويز بْنُ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ وَكَانَ لأبرويز فِيمَا ذُكِرَ أَلْفُ
فِيلٍ وَخَمْسُونَ أَلْفَ فَرَسٍ وَثَلَاثَةُ آلَافِ امْرَأَةٍ - فِيمَا ذَكَرَ
الطّبَرِيّ - وَتَفْسِيرُ أَنُوشِرْوَانَ بِالْعَرَبِيّةِ مُجَدّدُ الْمُلْكِ -
فِيمَا ذَكَرُوا وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ أبرويز : الْمُظَفّرُ
. قَالَهُ الْمَسْعُودِيّ وَالطّبَرِيّ أَيْضًا ، وَزَادَ الطّبَرِيّ فِي حَدِيثِ
جُبَيْرٍ حِينَ سَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ نَسَبِ النّعْمَانِ قَالَ كَانَتْ الْعَرَبُ
تَقُولُ إنّهُ مِنْ أَشْلَاءِ قُنُصِ بْنِ مَعَدّ وَهُوَ وَلَدُ عَجْمِ بْنِ
قُنُصٍ إلّا أَنّ النّاسَ لَمْ يَدْرُوا مَا عَجْمٌ فَجَعَلُوا مَكَانَهُ لَخْمًا
: فَقَالُوا : هُوَ مِنْ لَخْمٍ ، وَنَسَبُوا إلَيْهِ . وأبرويز هُوَ الّذِي
كَتَبَ إلَيْهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَمَزّقَ كِتَابَهُ
فَدَعَا عَلَيْهِمْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ يُمَزّقُوا
كُلّ مُمَزّقٍ . [ ص 57 ]
حَدِيثُ
رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ وَرُؤْيَاهُ
رُؤْيَا رَبِيعَةَ : قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ مَلِكُ
الْيَمَنِ بَيْنَ أَضْعَافِ مُلُوكِ التّبَابِعَةِ ، فَرَأَى رُؤْيَا هَالَتْهُ
وَفَظِعَ بِهَا ، فَلَمْ يَدَعْ كَاهِنًا ، وَلَا سَاحِرًا ، وَلَا عَائِفًا ،
وَلَا مُنَجّمًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ إلّا جَمَعَهُ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ
إنّي قَدْ رَأَيْت رُؤْيَا هَالَتْنِي ، وَفَظِعْت بِهَا ، فَأَخْبِرُونِي بِهَا
وَبِتَأْوِيلِهَا ، قَالُوا لَهُ اُقْصُصْهَا عَلَيْنَا نُخْبِرْك بِتَأْوِيلِهَا
، قَالَ إنّي إنْ أَخْبَرْتُكُمْ بِهَا لَمْ أَطْمَئِنّ إلَى خَبَرِكُمْ عَنْ
تَأْوِيلِهَا ، فَإِنّهُ لَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَهَا إلّا مَنْ عَرَفَهَا قَبْلَ
أَنْ أُخْبِرَهُ بِهَا ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ
يُرِيدُ هَذَا فَلْيَبْعَثْ إلَى سَطِيحٍ وَشِقّ فَإِنّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ
مِنْهُمَا ، فَهُمَا يُخْبِرَانِهِ بِمَا سَأَلَ عَنْهُ . وَاسْمُ سَطِيحٍ رَبِيعُ
بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنِ بْنِ ذِئْبِ بْنِ عَدِيّ بْنِ مَازِنِ
غَسّانَ . [ ص 59 ] رُهْمِ بْنِ أَفْرَكَ بْنِ قَسْرِ بْنِ عَبْقَرَ بْنِ
أَنْمَارِ بْنِ نِزَارٍ ، وَأَنْمَارُ أَبُو بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ .
نَسَبُ بَجِيلَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَتْ الْيَمَنُ : وَبَجِيلَةُ : بَنُو أَنْمَارِ ،
بْنِ إرَاشِ بْنِ لِحْيَانَ ، بْنِ عَمْرِو ، بْنِ الْغَوْثِ ، بْنِ نَبْتِ بْنِ
مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ إرَاشُ بْنُ عَمْرِو
بْنِ لِحْيَانَ بْنِ الْغَوْثِ . وَدَارُ بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ يَمَانِيّةٌ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَبَعَثَ إلَيْهِمَا ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ سَطِيحٌ قَبْلَ
شِقّ فَقَالَ لَهُ إنّي رَأَيْت رُؤْيَا هَالَتْنِي ، وَفَظِعْت بِهَا ،
فَأَخْبِرْنِي بِهَا ، فَإِنّك إنْ أَصَبْتهَا أَصَبْت تَأْوِيلَهَا . قَالَ
أَفْعَلُ . رَأَيْت حُمَمَهُ خَرَجَتْ مِنْ ظُلُمَهْ فَوَقَعَتْ بِأَرْضِ تَهَمَهْ
فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلّ ذَاتِ جُمْجُمَهْ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا أَخْطَأْت
مِنْهَا شَيْئًا يَا سَطِيحٌ ، مَا عِنْدَك فِي تَأْوِيلِهَا ، فَقَالَ احْلِفْ
بِمَا [ ص 60 ] أَرْضَكُمْ الْحَبَشُ فَلَيَمْلِكُنّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى
جُرَشَ ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ وَأَبِيك يَا سَطِيحٌ إنّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ
مُوجِعٌ فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ ؟ أَفِي زَمَانِي هَذَا ، أَمْ بَعْدَهُ ؟ قَالَ لَا
، بَعْدَهُ بِحِينِ أَكْثَرَ مِنْ سِتّينَ أَوْ سَبْعِينَ يَمْضِينَ مِنْ
السّنِينَ قَالَ أَفَيَدُومُ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِمْ أَمْ يَنْقَطِعُ ؟ قَالَ لَا
، بَلْ يَنْقَطِعُ لِبِضْعِ وَسَبْعِينَ مِنْ السّنِينَ ثُمّ يُقْتَلُونَ
وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا هَارِبِينَ قَالَ وَمَنْ يَلِي ذَلِكَ مِنْ قَتْلِهِمْ
وَإِخْرَاجِهِمْ ؟ . [ ص 61 ] قَالَ يَلِيهِ إرَمُ ذِي يَزَنَ ، يَخْرُجُ
عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنٍ ، فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ . قَالَ
أَفَيَدُوم ذَلِكَ مِنْ سُلْطَانِهِ أَمْ يَنْقَطِعُ ؟ قَالَ لَا ، بَلْ
يَنْقَطِعُ . قَالَ وَمَنْ يَقْطَعُهُ ؟ قَالَ نَبِيّ زَكِيّ ، يَأْتِيهِ
الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيّ قَالَ وَمِمّنْ هَذَا النّبِيّ ؟ . قَالَ رَجُلٌ
مِنْ وَلَدِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ ، يَكُونُ الْمُلْكُ
فِي قَوْمِهِ إلَى آخِرِ الدّهْرِ . [ ص 62 ] قَالَ وَهَلْ لِلدّهْرِ مِنْ آخِرٍ ؟
قَالَ نَعَمْ يَوْمٌ يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوّلُونَ وَالْآخَرُونَ يَسْعَدُ فِيهِ
الْمُحْسِنُونَ وَيَشْقَى فِيهِ الْمُسِيئُونَ قَالَ أَحَقّ مَا تُخْبِرُنِي ؟
قَالَ نَعَمْ . وَالشّفَقِ وَالْغَسَقِ وَالْفَلَقِ إذَا اتّسَقَ إنّ مَا
أَنْبَأْتُك بِهِ لَحَقّ . ثُمّ قَدِمَ عَلَيْهِ شِقّ ، فَقَالَ لَهُ كَقَوْلِهِ
لِسَطِيحِ وَكَتَمَهُ مَا قَالَ سَطِيحٌ لِيَنْظُرَ أَيَتّفِقَانِ أَمْ
يَخْتَلِفَانِ فَقَالَ نَعَمْ رَأَيْت حُمَمَةً خَرَجَتْ مِنْ ظُلْمَةٍ فَوَقَعَتْ
بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلّ ذَاتِ نَسَمَةٍ . قَالَ
فَلَمّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَرَفَ أَنّهُمَا قَدْ اتّفَقَا ، وَأَنّ قَوْلَهُمَا
وَاحِدٌ إلّا أَنّ سَطِيحًا قَالَ " وَقَعَتْ بِأَرْضِ تَهَمَهْ فَأَكَلَتْ
مِنْهَا كُلّ ذَاتِ جُمْجُمَهْ " . [ ص 63 ] وَقَالَ شِقّ : " وَقَعَتْ
بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلّ ذَاتِ نَسَمَةٍ . فَقَالَ
لَهُ الْمَلِكُ مَا أَخْطَأْت يَا شِقّ مِنْهَا شَيْئًا ، فَمَا عِنْدَك فِي
تَأْوِيلِهَا ؟ . قَالَ أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرّتَيْنِ مِنْ إنْسَانٍ
لَيَنْزِلَن أَرْضَكُمْ السّودَانُ ، فَلَيَغْلِبُنّ عَلَى كُلّ طَفْلَةِ
الْبَنَانِ وَلَيَمْلِكُنّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى نَجْرَانَ . [ ص 64 ] فَقَالَ
لَهُ الْمَلِكُ وَأَبِيك يَا شِقّ ، إنّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ فَمَتَى
هُوَ كَائِنٌ ؟ أَفِي زَمَانِي ، أَمْ بَعْدَهُ ؟ قَالَ لَا ، بَلْ بَعْدَهُ
بِزَمَانِ ثُمّ يَسْتَنْقِذُكُمْ مِنْهُمْ عَظِيمٌ ذُو شَأْنٍ وَيُذِيقُهُمْ
أَشَدّ الْهَوَانِ . [ ص 65 ] قَالَ وَمَنْ هَذَا الْعَظِيمُ الشّأْنُ ؟ قَالَ
غُلَامٌ لَيْسَ بَدَنِيّ وَلَا مُدَنّ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ ذِي يَزَنَ
فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ . [ ص 66 ] قَالَ أَفَيَدُومُ
سُلْطَانُهُ أَمْ يَنْقَطِعُ ؟ قَالَ بَلْ يَنْقَطِعُ بِرَسُولِ مُرْسَلٍ يَأْتِي
بِالْحَقّ وَالْعَدْلِ بَيْنَ أَهْلِ الدّينِ وَالْفَضْلِ يَكُونُ الْمُلْكُ فِي
قَوْمِهِ إلَى يَوْمِ الْفَصْلِ قَالَ وَمَا يَوْمُ الْفَصْلِ ؟ قَالَ يَوْمٌ
تُجْزَى فِيهِ الْوُلَاةْ وَيُدْعَى فِيهِ مِنْ السّمَاءِ بِدَعَوَاتْ يَسْمَعُ
مِنْهَا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتْ وَيُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ النّاسِ
لِلْمِيقَاتْ يَكُونُ فِيهِ لِمَنْ اتّقَى الْفَوْزُ وَالْخَيْرَاتْ . [ ص 67 ] قَالَ
أَحَقّ مَا تَقُولُ ؟ قَالَ إي وَرَبّ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
مِنْ رَفْعٍ وَخَفْضٍ إنّ مَا أَنْبَأْتُك بِهِ لَحَقّ مَا فِيهِ أَمْضٌ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : أَمْضٌ . يَعْنِي : شَكّا ، هَذَا بِلُغَةِ حِمْيَرَ ، وَقَالَ
أَبُو عَمْرٍو . أَمْضٌ أَيْ بَاطِلٌ .S[ ص 58 ]
حَدِيثُ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ وَرُؤْيَاهُ
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ نَصْرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَهُوَ فِي قَوْلِ نُسّابِ
الْيَمَنِ : رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نُمَارَةَ بْنِ لَخْمٍ .
وَقَالَ الزّبَيْرُ فِي هَذَا النّسَبِ نَصْرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ شَعْوَذِ بْنِ
مَالِكِ بْنِ عَجْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُمَارَةَ بْنِ لَخْمٍ وَلَخْمٌ أَخُو
جُذَامٍ ، وَسُمّيَ لَخْمًا لِأَنّهُ لَخَمَ أَخَاهُ أَيْ لَطَمَهُ فَعَضّهُ
الْآخَرُ فِي يَدِهِ فَجَذَمَهَا ، فَسُمّيَ جُذَامًا ، وَقَالَ قُطْرُبٌ اللّخْمُ
سَمَكَةٌ فِي الْبَحْرِ بِهَا سُمّيَ الرّجُلُ لَخْمًا وَأَكْثَرُ الْمُؤَرّخِينَ
يَقُولُونَ فِيهِ نَصْرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَقَدْ تَقَدّمَ مَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ فِي نَسَبِ النّعْمَانِ وَهُوَ مِنْ وَلَدِ رَبِيعَةَ ، وَأَنّ لَخْمًا فِي
نَسَبِهِ تَصْحِيفٌ مِنْ عَجْمِ بْنِ قُنُصٍ . وَذَكَرَ رُؤْيَاهُ وَسَطِيحًا
الْكَاهِنَ وَنَسَبَهُ وَقَدْ خَالَفَهُ مُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ النّسّابَةُ فِي
شَيْءٍ [ ص 59 ] وَكَانَ سَطِيحٌ جَسَدًا مُلْقًى لَا جَوَارِحَ لَهُ - فِيمَا
يَذْكُرُونَ - وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْجُلُوسِ إلّا إذَا غَضِبَ انْتَفَخَ
فَجَلَسَ وَكَانَ شِقّ شِقّ إنْسَانٍ - فِيمَا يَذْكُرُونَ - إنّمَا لَهُ يَدٌ
وَاحِدَةٌ وَرِجْلٌ وَاحِدَةٌ وَعَيْنٌ وَاحِدَةٌ وَيُذْكَرُ عَنْ وَهْبِ بْنِ
مُنَبّهٍ أَنّهُ قَالَ قِيلَ لِسَطِيحِ أَنّى لَك هَذَا الْعِلْمُ ؟ فَقَالَ لِي
صَاحِبٌ مِنْ الْجِنّ اسْتَمَعَ أَخْبَارَ السّمَاءِ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ حِينَ
كَلّمَ اللّهُ تَعَالَى مِنْهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السّلَامُ - فَهُوَ يُؤَدّي
إلَيّ مِنْ ذَلِكَ مَا يُؤَدّيهِ . وَوُلِدَ سَطِيحٌ وَشِقّ فِي الْيَوْمِ الّذِي مَاتَتْ
فِيهِ طَرِيفَةُ الْكَاهِنَةُ امْرَأَةُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، وَهِيَ بِنْتُ
الْخَيْرِ الْحِمْيَرِيّةُ وَدَعَتْ بِسَطِيحِ قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ فَأَتَيْت بِهِ
فَتَفَلَتْ فِي فِيهِ وَأَخْبَرَتْ أَنّهُ سَيَخْلُفُهَا فِي عِلْمِهَا ،
وَكَهَانَتِهَا ، وَكَانَ وَجْهُهُ فِي صَدْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْسٌ وَلَا
عُنُقٌ وَدَعَتْ بِشِقّ فَفَعَلَتْ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَتْ بِسَطِيحِ ثُمّ
مَاتَتْ وَقَبْرُهَا " الْجُحْفَةُ " ، وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ أَنّ
خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ الْقَسْرِيّ كَانَ مِنْ وَلَدِ شِقّ هَذَا ، فَهُوَ
خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَسَدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ كُرْزٍ وَذَكَرَ أَنّ
كُرْزًا كَانَ دَعِيّا ، وَأَنّهُ كَانَ مِنْ الْيَهُودِ ، فَجَنَى جِنَايَةً
فَهَرَبَ إلَى بَجِيلَةَ ، فَانْتَسَبَ فِيهِمْ وَيُقَالُ كَانَ عَبْدًا لِعَبْدِ
الْقَيْسِ وَهُوَ ابْنُ عَامِرٍ ذِي الرّقْعَةِ ، وَسُمّيَ بِذِي الرّقْعَةِ ؛
لِأَنّهُ كَانَ أَعْوَرَ يُغَطّي عَيْنَهُ بِرُقْعَةِ . ابْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ
جُوَيْنِ بْنِ شِقّ الْكَاهِنِ بْنِ صَعْبٍ . [ ص 60 ] أَكَلَتْ مِنْهَا كُلّ
ذَاتِ جُمْجُمَهْ وَكُلّ ذَاتِ نَسَمَهْ . نَصْبُ كُلّ أَصَحّ فِي الرّوَايَةِ
وَفِي الْمَعْنَى ؛ لِأَنّ الْحُمَمَةَ نَارٌ فَهِيَ تَأْكُلُ وَلَا تُؤْكَلُ
عَلَى أَنّ فِي رِوَايَةِ الشّيْخِ بِرَفْعِ كُلّ وَلَهَا وَجْهٌ لَكِنْ فِي
حَاشِيَةِ كِتَابِهِ أَنّ فِي نُسْخَةِ الْبَرْقِيّ الّتِي قَرَأَهَا عَلَى ابْنِ
هِشَامٍ : كُلّ ذَاتِ بِنَصْبِ اللّامِ . وَقَوْلُهُ " خَرَجَتْ مِنْ
ظُلُمَهْ " أَيْ مِنْ ظُلْمَةٍ وَذَلِكَ أَنّ الْحُمَمَةَ قِطْعَةٌ مِنْ
نَارٍ وَخُرُوجُهَا مِنْ ظُلْمَةٍ يُشْبِهُ خُرُوجَ عَسْكَرِ الْحَبَشَةِ مِنْ
أَرْضِ السّودَانِ ، وَالْحُمَمَةُ الْفَحْمَةُ وَقَدْ تَكُونُ جَمْرَةً
مُحْرِقَةً كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَيَكُونُ لَفْظُهَا مِنْ الْحَمِيمِ
وَمِنْ الْحُمّى أَيْضًا لِحَرَارَتِهَا ، وَقَدْ تَكُونُ مُنْطَفِئَةً فَيَكُونُ
لَفْظُهَا مِنْ الْحُمّةِ وَهِيَ السّوَادُ يُقَالُ حَمّمْت وَجْهَهُ إذَا
سَوّدْته ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَاصِلٌ فِي لَفْظِ الْحُمَمَةِ هَهُنَا .
وَقَوْلُهُ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ لِأَنّهَا وَقَعَتْ بَيْنَ صَنْعَاءَ
وَأَحْوَازِهَا . وَقَوْلُهُ فِي أَرْضِ تَهَمَهْ أَيْ مُنْخَفِضَةً وَمِنْهُ
سُمّيَتْ تِهَامَةٌ . وَقَوْلُهُ أَكَلَتْ مِنْهَا كُلّ ذَاتِ جُمْجُمَهْ وَلَمْ
يَقُلْ كُلّ ذِي جُمْجُمَةٍ وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى سُبْحَانَهُ
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلَى حِمْلِهَا
لَا يُحْمَلُ مِنْهُ شَيْءٌ [ فَاطِرِ 18 ] . لِأَنّ الْقَصْدَ إلَى النّفْسِ
وَالنّسَمَةِ فَهُوَ أَعَمّ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ
وَلَوْ جَاءَ بِالتّذْكِيرِ لَكَانَ إمّا خَاصّا بِالْإِنْسَانِ أَوْ عَامّا فِي
كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَوْ جَمَادٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- " [ تَنَحّ عَنّي ، فَإِنّ ] كُلّ بَائِلَةٍ تَفْيُخُ " ، أَيْ
يَكُونُ مِنْهَا إفَاخَةٌ وَهِيَ الْحَدَثُ وَقَالَ النّحّاسُ هُوَ تَأْنِيثُ
الصّفَةِ وَالْخِلْقَةِ . وَقَوْلُهُ لَيَهْبِطَن أَرْضَكُمْ الْحَبَشُ هُمْ بَنُو
حَبَشِ بْنِ كُوشِ بْنِ حَامِ بْنِ نُوحٍ وَبِهِ سُمّيَتْ الْحَبَشَةُ . [ ص 61 ]
أَبْيَنَ إلَى جُرَشَ ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى مِثْلِ
إصْبَعٍ وَجَوّزَ فِيهِ الْفَتْحَ وَكَذَلِكَ تَقَيّدَ فِي هَذَا الْكِتَابِ
وَفَالَ ابْنُ مَاكُولَا : هُوَ أَبْيَنُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَيْمَنَ بْنِ
الْهَمَيْسَعِ مِنْ حِمْيَرَ ، أَوْ مِنْ ابْنِ حِمْيَرَ سُمّيَتْ بِهِ
الْبَلْدَةُ وَقَدْ تَقَدّمَ قَوْلُ الطّبَرِيّ أَنّ أَبْيَنَ وَعَدَنَ ابْنَا
عَدَنٍ ، سُمّيَتْ بِهِمَا الْبَلْدَتَانِ . وَقَوْلُهُ بِغُلَامِ لَا دَنِيّ
وَلَا مُدَنّ . الدّنِيّ مَعْرُوفٌ وَالْمُدَنّ الّذِي جَمَعَ الضّعْفَ مَعَ
الدّنَاءَةِ . قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ . وَقَوْلُهُ لَحَقّ مَا فِيهِ أَمْضٌ
أَيْ مَا فِيهِ شَكّ وَلَا مُسْتَرَابٌ وَقَدْ عَمّرَ سَطِيحٌ زَمَانًا طَوِيلًا
بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ حَتّى أَدْرَكَ مَوْلِدَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَرَأَى كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ بْنَ قَبَاذِ بْنِ فَيْرُوزَ
مَا رَأَى مِنْ ارْتِجَاسِ الْإِيوَانِ وَخُمُودِ النّيرَانِ وَلَمْ تَكُنْ
خَمَدَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ عَامٍ وَسَقَطَتْ مِنْ قَصْرِهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ
شُرْفَةٌ وَأَخْبَرَهُ الْمُوبَذَانُ وَمَعْنَاهُ الْقَاضِي ، أَوْ الْمُفْتِي
بِلُغَتِهِمْ أَنّهُ رَأَى إبِلًا صِعَابًا ، تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا ،
فَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهِمْ وَغَارَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ فَأَرْسَلَ كِسْرَى
عَبْدَ الْمَسِيحِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَيّانَ بْنِ نُفَيْلَةَ الْغَسّانِيّ إلَى
سَطِيحٍ وَكَانَ سَطِيحٌ مِنْ أَخْوَالِ عَبْدِ الْمَسِيحِ وَلِذَلِكَ أَرْسَلَهُ
كِسْرَى فِيمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ إلَى سَطِيحٍ يَسْتَخْبِرُهُ عِلْمَ ذَلِكَ
وَيَسْتَعْبِرُهُ رُؤْيَا الْمُوبَذَانِ فَقَدِمَ عَلَيْهِ وَقَدْ أَشْفَى عَلَى
الْمَوْتِ فَسَلّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَحُرْ إلَيْهِ سَطِيحٌ جَوَابًا فَأَنْشَأَ
عَبْدُ الْمَسِيحِ يَقُولُ
أَصَمّ أَمْ يَسْمَعُ غِطْرِيفُ الْيَمَنْ ... أَمْ فَادَ فَازْلَمّ بِهِ شَأْوُ
الْعَنَنْ
يَا فَاصِلَ الْخُطّةِ أَعْيَتْ مَنْ وَمَنْ ... أَتَاك شَيْخُ الْحَيّ مِنْ آلِ
سَنَنْ
وَأُمّهُ مِنْ آلِ ذِئْبِ بْنِ حَجَنْ ... أَبْيَضُ فَضْفَاضُ الرّدَاءِ
وَالْبَدَنْ
رَسُولُ قَيْلِ الْعُجْمِ يَسْرِي لِلْوَسَنْ ... لَا يَرْهَبْ الرّعْدَ وَلَا
رَيْبَ الزّمَنْ
تَجُوبُ بِي الْأَرْضُ عَلَنْدَاةٌ شَزَنْ ... تَرْفَعُنِي وَجْنًا وَتَهْوِي بِي
وَجَنْ
حَتّى أَتَى عَارِيَ الجآجي وَالْقَطَنْ ... تَلُفّهُ فِي الرّيحِ بَوْغَاءُ
الدّمَنْ
كَأَنّمَا حُثْحِثَ مِنْ حِضْنَيْ ثَكَنْ
ثَكَنٌ اسْمُ جَبَلٍ فَلَمّا سَمِعَ سَطِيحٌ شِعْرَهُ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ
عَبْدُ الْمَسِيحِ عَلَى جَمَلٍ مُشِيحٍ جَاءَ إلَى سَطِيحٍ حِينَ أَوْفَى عَلَى
الضّرِيحِ بَعَثَك مَلِكُ بَنِي سَاسَانَ لِارْتِجَاسِ الْإِيوَانِ وَخُمُودِ
النّيرَانِ وَرُؤْيَا الْمُوبَذَانِ . رَأَى إبِلًا صِعَابًا ، تَقُودُ خَيْلًا
عِرَابًا ، قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَةَ ، وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا . يَا عَبْدَ
الْمَسِيحِ إذَا كَثُرَتْ التّلَاوَةُ وَظَهَرَ صَاحِبُ الْهِرَاوَةِ وَخَمَدَتْ
نَارُ فَارِسَ ، وَغَارَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ وَفَاضَ وَادِي السّمَاوَةِ
فَلَيْسَتْ الشّامُ لِسَطِيحِ شَامًا ، يَمْلِكُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ وَمَلِكَاتٌ
عَلَى عَدَدِ الشّرُفَاتِ وَكُلّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ ثُمّ قَضَى سَطِيحٌ مَكَانَهُ .
وَقَوْلُهُ فَازْلَمّ بِهِ مَعْنَاهُ قُبِضَ قَالَهُ ثَعْلَبٌ ، وَقَوْلُهُ شَأْوُ
الْعَنَنْ . يُرِيدُ الْمَوْتَ وَمَا عَنّ مِنْهُ قَالَهُ الْخَطّابِيّ . وَفَادَ مَاتَ
. يُقَالُ مِنْهُ فَادَ يَفُودُ وَأَمّا يَفِيدُ فَمَعْنَاهُ يَتَبَخْتَرُ .
فَوَقَعَ
فِي نَفْسِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ مَا قَالَا ، فَجَهّزَ بَنِيهِ وَأَهْلَ
بَيْتِهِ إلَى الْعِرَاقِ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَكَتَبَ لَهُمْ إلَى مَلِكٍ مِنْ
مُلُوكِ فَارِسَ يُقَالُ لَهُ سَابُورُ بْنُ خُرّزاذ فَأَسْكَنَهُمْ الْحِيرَةَ .
نَسَبُ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ
فَمِنْ بَقِيّةِ وَلَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ ،
فَهُوَ فِي نَسَبِ الْيَمَنِ وَعِلْمِهِمْ النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ
النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
نَصْرٍ ، ذَلِكَ الْمَلِكُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ
بْنِ الْمُنْذِرِ فِيمَا أَخْبَرَنِي خَلَفٌ الْأَحْمَرُ .Sوَقَوْلُ
ابْنِ إسْحَاقَ فِي خَبَرِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ ، فَجَهّزَ أَهْلَهُ وَبَنِيهِ
إلَى الْحِيرَةِ ، وَكَتَبَ لَهُمْ إلَى مَلِكٍ يُقَالُ لَهُ سَابُورُ بْنُ
خُرّزاذ . [ ص 63 ]
مِنْ تَارِيخِ مُلُوكِ الْفُرْسِ
قَالَ الْمُؤَلّفُ الشّيْخُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ - عَفَا اللّهُ عَنْهُ -
وَلَا يُعْرَفُ خُرّزاذ فِي مُلُوكِ بَنِي سَاسَانَ مِنْ الْفُرْسِ ، وَهُمْ مِنْ
عَهْدِ أَزْدَشِيرِ بْنِ بَابِك إلَى يَزْدَجْرِدْ الّذِي قُتِلَ فِي أَوّلِ
خِلَافَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - مَعْرُوفُونَ مُسَمّوْنَ
بِأَسْمَائِهِمْ وَبِمَقَادِيرِ مُدَدِهِمْ . مَشْهُورٌ ذَلِكَ عِنْدَ
الْإِخْبَارِيّينَ وَالْمُؤَرّخِينَ وَلَكِنّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ
خُرّزاذ هَذَا مَلِكًا دُونَ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ مِنْهُمْ أَوْ يَكُونُ أَحَدَ
مُلُوكِ الطّوَائِفِ وَهُوَ الظّاهِرُ فِي مُدّةِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ لِأَنّهُ
جَدّ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ وَابْنُ أُخْتِ جَذِيمَةَ الْأَبْرَشِ وَكَانَ مُلْكُ
جَذِيمَةَ أَوّلَهُ فِيمَا أَحْسَبُ فِي مُدّةِ مُلُوكِ الطّوَائِفِ وَآخِرُهُ فِي
مُدّةِ السّاسَانِيّينَ وَأَوّلُ مَنْ مَلَكَ الْحِيرَةَ مِنْ السّاسَانِيّةِ
سَابُورُ بْنُ أَزْدَشِيرِ وَهُوَ الّذِي خَرّبَ الْحَضَرَ وَكَانَتْ مُلُوكُ
الطّوَائِفِ مُتَعَادّينَ يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ قَدْ تَحَصّنَ كُلّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حِصْنٍ وَتَحَوّزَ إلَى حَيّزٍ مِنْهُمْ عَرَبٌ . وَمِنْهُمْ
أشغانيون عَلَى دِينِ الْفُرْسِ ، وَأَكْثَرُهُمْ يَنْتَسِبُونَ إلَى الْفُرْسِ
مِنْ ذُرّيّةِ دَارَا بْنِ دَارَا ، وَكَانَ الّذِي فَرّقَهُمْ وَشَتّتْ
شَمْلَهُمْ وَأَدْخَلَ بَعْضَهُمْ بَيْنَ بَعْضٍ لِئَلّا يَسْتَوْثِقَ لَهُمْ
مُلْكٌ وَلَا يَقُومُ لَهُمْ سُلْطَانٌ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ فيلبش الْيُونَانِيّ
، حِينَ ظَهَرَ عَلَى دَارَا ، وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِ مَمْلَكَتِهِ
وَتَزَوّجَ بِنْتَه رَوْشَنك . بِوَصِيّةِ أَبِيهَا دَارَا لَهُ بِذَلِكَ حِينَ
وَجَدَهُ مُثْخَنًا فِي الْمَعْرَكَةِ وَلَمْ يَكُنْ الْإِسْكَنْدَرُ أَرَادَ
قَتْلَهُ لِأَنّهُ كَانَ أَخَاهُ لِأُمّهِ فِيمَا زَعَمُوا ، فَوَضَعَ
الْإِسْكَنْدَرُ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِهِ - فِيمَا ذَكَرُوا - وَقَالَ يَا سَيّدَ
النّاسِ لَمْ أُرِدْ قَتْلَك ، وَلَا رَضِيته ، فَهَلْ لَك مِنْ حَاجَةٍ ؟ قَالَ
نَعَمْ . تَزَوّجْ ابْنَتِي رَوْشَنك ، وَتَقْتُلُ مَنْ قَتَلَنِي ، ثُمّ قَضَى دَارَا
، فَفَعَلَ ذَلِكَ الْإِسْكَنْدَرُ وَفَرّقَ الْفُرْسَ ، وَأَدْخَلَ بَيْنَهُمْ
الْعَرَبَ . فَتَحَاجَزُوا ، وَسُمّوا : مُلُوكَ الطّوَائِفِ لِأَنّ كُلّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ كَانَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْأَرْضِ ثُمّ دَامَ أَمْرُهُمْ كَذَلِكَ
أَرْبَعمِائَةِ وَثَمَانِينَ سَنَةً فِي قَوْلِ الطّبَرِيّ ، وَقَدْ قِيلَ أَقَلّ
مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ الْمَسْعُودِيّ : خَمْسمِائَةِ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَفِي
أَيّامِهِمْ بُعِثَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَذَلِكَ بَعْدَ
مَوْتِ الْإِسْكَنْدَرِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ . فَابْنُ خُرّزاذ هَذَا -
وَاَللّهُ أَعْلَمُ - مِنْ أُولَئِكَ . وَبَنُو سَاسَانَ الْقَائِمُونَ بَعْدَ
مُلُوكِ الطّوَائِفِ وَبَعْدَ مُلُوكِ الأشغانيين : هُمْ بَنُو [ ص 64 ] سَاسَانَ
بْنِ بهمن . وَهُوَ مِنْ الْكِينِيّةِ وَإِنّمَا قِيلَ لَهُمْ الْكِينِيّةُ لِأَنّ
كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُضَافُ إلَى كَيْ وَهُوَ الْبَهَاءُ . وَيُقَالُ مَعْنَاهُ
إدْرَاكُ الثّأْرِ . وَأَوّلُ مَنْ تَسَمّى بِكَيْ أَفْرِيذُونُ بْنُ أَثَفَيَانِ
قَاتِلُ الضّحّاكِ بِثَأْرِ جَدّهِ جَمّ ثُمّ صَارَ الْمُلْكُ فِي عَقِبِهِ إلَى
منوشهر الّذِي بُعِثَ مُوسَى - عَلَيْهِ السّلَامُ - فِي زَمَانِهِ إلَى كَيْ
قاووس . وَكَانَ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَسَيَأْتِي
طَرَفٌ مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْكِتَابِ إلَى كَيْ يستاسب الّذِي وَلِيَ بُخْتَنَصّرَ
وَمَلّكَهُ . وَبُخْتُنَصّرَ هُوَ الّذِي حَيّرَ الْحِيرَةَ حِينَ جَعَلَ فِيهَا
سَبَايَا الْعَرَبِ ، فَتَحَيّرُوا هُنَاكَ فَسُمّيَتْ الْحِيرَةُ ، وَأَخَذَ
اسْمَهُ مِنْ بوخت وَهِيَ النّخْلَةُ لِأَنّهُ وُلِدَ فِي أَصْلِ نَخْلَةٍ . ثُمّ
كَانَ بَعْدَ كَيْ يستاسب بهمن بْنِ إسبندياذ بْن يستاسب . وَكَانَ لَهُ ابْنَانِ
دَارَا وَسَاسَانَ وَكَانَ سَاسَانُ هُوَ الْأَكْبَرُ فَكَانَ قَدْ طَمِعَ فِي
الْمُلْكِ بَعْدَ أَبِيهِ فَصَرَفَ بهمن الْأَمْرَ عَنْهُ إلَى دَارَا لِخَبَرِ
يَطُولُ ذِكْرُهُ حَمَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ " خُمّانَا أُمّ دَارَا " ،
فَخَرَجَ " سَاسَانُ " سَائِحًا فِي الْجِبَالِ وَرَفَضَ الدّنْيَا ،
وَهَانَتْ عَلَيْهِ وَعَهِدَ إلَى بَنِيهِ مَتَى كَانَ لَهُمْ الْأَمْرُ أَنْ
يَقْتُلُوا كُلّ أَشْغَانِي وَهُمْ نَسْلُ " داراء " فَلَمّا قَامَ
" أَزْدَشِيرُ بْنُ بَابِك " وَقَيّدَهُ الدّارَقُطْنِيّ " أردشير
" بِالرّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَدَعَا مُلُوكَ الطّوَائِفِ إلَى الْقِيَامِ
مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ حَتّى يَنْتَظِمَ لَهُ مُلْكُ فَارِسَ ، وَأَجَابَهُ
إلَى ذَلِكَ أَكْثَرُهُمْ وَكَانُوا يَدًا عَلَى الْأَقَلّ حَتّى أَزَالُوهُ
وَجَعَلَ " أَزْدَشِيرُ " يَقْتُلُ كُلّ مَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ
أُولَئِكَ الأشغانيين ، فَقَتَلَ مَلِكًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ الْأَرْدَوَانُ
وَاسْتَوْلَى عَلَى قَصْرِهِ فَأَلْقَى فِيهِ امْرَأَةً جَمِيلَةً رَائِعَةَ
الْحَسَنِ فَقَالَ لَهَا : مَا أَنْتِ ؟ فَقَالَتْ أَمَةٌ مِنْ إمَاءِ الْمَلِكِ
وَكَانَتْ بِنْتُ الْمَلِكِ الْأَرْدَوَانِ لَاذَتْ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ مِنْ
الْقَتْلِ لِأَنّهُ كَانَ لَا يُبْقِي مِنْهُمْ ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى ، فَصَدّقَ
قَوْلَهَا ، وَاسْتَسَرّهَا فَحَمَلَتْ مِنْهُ فَلَمّا أَثْقَلَتْ اسْتَبْشَرَتْ
بِالْأَمَانِ مِنْهُ فَأَقَرّتْ أَنّهَا بِنْتُ الأشغاني الّذِي قُتِلَ وَاسْمُهُ
أردوان - فِيمَا ذَكَرُوا - فَدَعَا وَزِيرًا لَهُ نَاصِحًا - وَقَدْ سَمّاهُ
الطّبَرِيّ فِي التّارِيخِ - فَقَالَ اسْتَوْدِعْ هَذِهِ بَطْنَ الْأَرْضِ
فَكَرِهَ الْوَزِيرُ أَنْ يَقْتُلَهَا ، وَفِي بَطْنِهَا ابْنٌ لِلْمَلِكِ
وَكَرِهَ أَنْ يَعْصِيَ أَمْرَهُ فَاِتّخَذَ لَهَا قَصْرًا تَحْتَ الْأَرْضِ ثُمّ
خَصَى نَفْسَهُ وَصَبّرَ مَذَاكِيرَهُ وَجَعَلَهَا فِي حَرِيرَةٍ وَوَضَعَ
الْحَرِيرَةَ فِي حُقّ وَخَتَمَ عَلَيْهِ ثُمّ جَاءَ بِهِ الْمَلِكُ فَاسْتَوْدَعَهُ
إيّاهُ وَجَعَلَ لَا يَدْخُلُ إلَى الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ الْقَصْرِ سِوَاهُ
وَلَا تَرَاهَا إلّا عَيْنُهُ [ ص 65 ] أَبِيهِ فَسَمّاهُ شاهَبُور ، وَمَعْنَاهُ
ابْنُ الْمَلِكِ فَكَانَ الصّبِيّ يُدْعَى بِهَذَا ، وَلَا يَعْرِفُ لِنَفْسِهِ
اسْمًا غَيْرَهُ فَلَمّا قَبِلَ التّعْلِيمَ نَظَرَ فِي تَعْلِيمِهِ وَتَقْوِيمِ
أَوَدِهِ . وَاجْتَهَدَ فِي كُلّ مَا يُصْلِحُهُ إلَى أَنْ تَرَعْرَعَ الْغُلَامُ
. فَدَخَلَ الْوَزِيرُ يَوْمًا عَلَى أَزْدَشِيرِ وَهُوَ وَاجِمٌ فَقَالَ لَا
يَسُوءُك اللّهُ أَيّهَا الْمَلِكُ فَقَدْ سَاءَنِي إطْرَاقُك وَوُجُومُك ،
فَقَالَ كَبِرَتْ سِنّي ، وَلَيْسَ لِي وَلَدٌ أُقَلّدُهُ الْأَمْرَ بَعْدِي ،
وَأَخَافُ انْتِثَارَ الْأَمْرِ بَعْدَ انْتِظَامِهِ وَافْتِرَاقَ الْكَلِمَةِ
بَعْدَ اجْتِمَاعِهَا ، فَقَالَ لَهُ إنّ لِي عِنْدَك وَدِيعَةً أَيّهَا الْمَلِكُ
وَقَدْ احْتَجْت إلَيْهَا ، فَأَخْرَجَ إلَيْهِ الْحُقّةَ بِخَاتَمِهَا ، فَفَضّ
الْخَاتَمَ وَأَخْرَجَ الْمَذَاكِيرَ مِنْهَا ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا هَذَا
؟ فَقَالَ كَرِهْت أَنْ أَعْصِيَ الْمَلِكَ حِينَ أَمَرَنِي فِي الْجَارِيَةِ
بِمَا أَمَرَ فَاسْتَوْدَعْتهَا بَطْنَ الْأَرْضِ حَيّةً حَتّى أَخْرَجَ اللّهُ
مِنْهَا سَلِيلَ الْمَلِكِ حَيّا ، وَأَرْضَعَتْهُ وَحَضَنَتْهُ وَهَا هُوَ ذَا
عِنْدِي ، فَإِنْ أَمَرَ الْمَلِكُ جِئْته بِهِ فَأَمَرَهُ أَزْدَشِيرُ
بِإِحْضَارِهِ فِي مِائَةِ غُلَامٍ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ ، بِأَيْدِيهِمْ
الصّوَالِجُ يَلْعَبُونَ الْكُرَةَ فَلَعِبُوا فِي الْقَصْرِ فَكَانَتْ الْكُرَةُ
تَقَعُ فِي إيوَانِ الْمَلِكِ فَيَتَهَيّبُونَ أَخْذَهَا حَتّى طَارَتْ
لِلْغُلَامِ فَوَقَعَتْ فِي سَرِيرِ الْمَلِكِ فَتَقَدّمَ حَتّى أَخَذَهَا ،
وَلَمْ يَهَبْ ذَلِكَ فَقَالَ الْمَلِكُ ابْنِي وَالشّمْسِ مُتَعَجّبًا مِنْ
عِزّةِ نَفْسِهِ وَصَرَامَتِهِ ثُمّ قَالَ لَهُ مَا اسْمُك يَا غُلَامُ ؟ فَقَالَ
لَهُ شاهَبُور ، فَقَالَ لَهُ صَدَقْت أَنْتَ ابْنِي . وَقَدْ سَمّيْتُك بِهَذَا
الِاسْمِ وَبُورُ هُوَ الِابْنُ وَشَاهَ هُوَ الْمَلِكُ بِلِسَانِهِمْ
وَإِضَافَتُهُمْ مَقْلُوبَةٌ يُقَدّمُونَ الْمُضَافَ إلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ
كَمَا تَقَدّمَ فِي " الْكَيّ " الْكَلِمَةُ الّتِي كَانَتْ فِي
أَوَائِلِ أَسْمَاءِ الْمُلُوكِ الْكِينِيّةِ فَكَانُوا يُضَافُونَ إلَى الْكَيّ
ثُمّ إنّ أَزْدَشِيرَ عَهِدَ إلَى ابْنِهِ شاهَبُور ، وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ
فِي قَوْلِ الْأَعْشَى :
أَقَامَ بِهِ شاهَبُور الْجُنُودَ ... حَوْلَيْنِ يَضْرِبُ فِيهِ الْقُدُم
ثُمّ غَيّرَتْ الْعَرَبُ هَذَا الِاسْمَ فَقَالُوا : سَابُورُ وَتَسَمّى بِهِ
مُلُوكُ بَنِي سَاسَانَ مِنْهُمْ سَابُورُ ذُو الْأَكْتَافِ الّذِي وَطِئَ أَرْضَ
الْعَرَبِ ، وَكَانَ يَخْلَعُ أَكْتَافَهُمْ حَتّى مَرّ بِأَرْضِ بَنِي تَمِيمٍ
فَفَرّوا مِنْهُ وَتَرَكُوا عَمْرَو بْنَ تَمِيمٍ . وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثمِائَةِ
سَنَةٍ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْفِرَارِ وَكَانَ فِي قُفّةٍ مُعَلّقًا مِنْ عَمُودِ
الْخَيْمَةِ مِنْ الْكِبَرِ فَأُخِذَ وَجِيءَ بِهِ الْمَلِكُ فَاسْتَنْطَقَهُ
سَابُورُ فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَأْيًا وَدَهَاءً فَقَالَ لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ
لِمَ تَفْعَلُ هَذَا بِالْعَرَبِ ؟ فَقَالَ يَزْعُمُونَ أَنّ مُلْكَنَا يَصِلُ
إلَيْهِمْ عَلَى يَدِ نَبِيّ يُبْعَثُ فِي آخِرِ الزّمَانِ فَقَالَ عَمْرٌو :
فَأَيْنَ حِلْمُ الْمُلُوكِ وَعَقْلُهُمْ ؟ إنْ يَكُنْ هَذَا الْأَمْرُ بَاطِلًا
فَلَا يَضُرّك ، وَإِنْ يَكُنْ حَقّا أَلْفَاك ، وَقَدْ اتّخَذْت عِنْدَهُمْ يَدًا
، يُكَافِئُونَك عَلَيْهَا ، [ ص 66 ] فَيُقَالُ إنّ سَابُورَ انْصَرَفَ عَنْهُمْ
وَاسْتَبْقَى بَقِيّتَهُمْ وَأَحْسَنَ إلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ
. وَأَمّا أبرويز بْنُ هُرْمُزَ - وَتَفْسِيرُهُ بِالْعَرَبِيّةِ مُظَفّرٌ -
فَهُوَ الّذِي كَتَبَ إلَيْهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
وَسَيَأْتِي طَرَفٌ مِنْ ذِكْرِهِ وَهُوَ الّذِي عُرِضَ عَلَى اللّهِ تَعَالَى فِي
الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ سَلّمْ مَا فِي يَدَيْك إلَى صَاحِبِ الْهِرَاوَةِ فَلَمْ
يَزَلْ مَذْعُورًا مِنْ ذَلِكَ حَتّى كَتَبَ إلَيْهِ النّعْمَانُ بِظُهُورِ
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِتِهَامَةَ فَعَلِمَ أَنّ الْأَمْرَ
سَيَصِيرُ إلَيْهِ حَتّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ وَهُوَ الّذِي سُئِلَ
عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا حُجّةُ اللّهِ
عَلَى كِسْرَى ؟ فَقَالَ إنّ اللّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ إلَيْهِ مَلَكًا ، فَسَلَكَ
يَدَهُ فِي جِدَارِ مَجْلِسِهِ حَتّى أُخْرِجهَا إلَيْهِ وَهِيَ تَتَلَأْلَأُ
نُورًا ، فَارْتَاعَ كِسْرَى ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ لِمَ تَرْعَ يَا كِسْرَى .
إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولَهُ فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ [ دُنْيَاك وَآخِرَتَك ] ،
فَقَالَ سَأَنْظُرُ ذَكَرَهُ الطّبَرِيّ ، فِي أَعْلَامٍ كَثِيرَةٍ مِنْ
النّبُوّةِ عُرِضَتْ عَلَى أبرويز أَضْرَبْنَا عَنْ الْإِطَالَةِ بِهَا ، فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ وَتَسَمّى أَيْضًا سَابُورُ بَعْدَ هَذَا سَابُورُ بْنِ أبرويز
أَخُو شِيرَوَيْه ، وَقَدْ مَلَكَ نَحْوًا مِنْ شَهْرَيْنِ فِي مُدّةِ النّبِيّ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَلَكَ أَخُوهُ شِيرَوَيْه نَحْوًا مِنْ
سِتّةِ أَشْهُرٍ ثُمّ مَلَكَتْ بُورَانُ أُخْتُهُمَا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النّبِيّ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ مَلَكَتْهُمْ
امْرَأَةٌ فَمَلَكَتْ سَنَةً وَهَلَكَتْ وَتَشَتّتَ أَمْرُهُمْ كُلّ الشّتَاتِ .
ثُمّ اجْتَمَعُوا عَلَى يَزْدَجْرِدْ بْنِ شَهْرَيَارَ وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ
غَلَبُوا عَلَى أَطْرَافِ أَرْضِهِمْ ثُمّ كَانَتْ حُرُوبُ الْقَادِسِيّةِ
مَعَهُمْ إلَى أَنْ قَهَرَهُمْ الْإِسْلَامُ وَفُتِحَتْ بِلَادُهُمْ عَلَى يَدَيْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَاسْتُؤْصِلَ أَمْرُهُمْ
وَالْحَمْدُ لِلّهِ . وَسَابُورُ تُنْسَبُ إلَيْهِ الثّيَابُ السّابِرِيّةُ قَالَهُ
الْخَطّابِيّ ، وَزَعَمَ أَنّهُ مِنْ النّسَبِ الّذِي غُيّرَ فَإِذَا نَسَبُوا
إلَى نَيْسَابُورَ الْمَدِينَةِ ، قَالُوا : نَيْسَابُورِيّ عَلَى الْقِيَاسِ
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنّ نِيّ هِيَ الْقَصَبُ وَكَانَتْ مَقْصَبَةً فَبَنَاهَا
سَابُورُ مَدِينَة ، فَنُسِبَتْ إلَيْهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 67 ]
رُجُوعُهُ إلَى حَدِيثِ سَطِيحٍ وَذِي يَزَنَ
فَصْلٌ وَقَوْلُ سَطِيحٍ فِي حَدِيثِ رَبِيعَةَ : إرَمَ ذِي يَزَنَ ، الْمَعْرُوفُ
سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ ، وَلَكِنْ جَعَلَهُ إرَمًا ، إمّا لِأَنّ الْإِرَمَ هُوَ
الْعَلَمُ فَمَدَحَهُ بِذَلِكَ وَإِمّا شَبّهَهُ بِعَادِ إرَمَ فِي عِظَمِ
الْخَلْقِ وَالْقُوّةِ قَالَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } وَرَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ هَذَا
هُوَ أَحَدُ مُلُوكِ الْحِيرَةِ ، وَهُمْ آلُ الْمُنْذِرِ وَالْمُنْذِرُ هُوَ
ابْنُ مَاءِ السّمَاءِ وَهِيَ أُمّهُ عُرِفَ بِهَا ، وَهِيَ مِنْ النّمِرِ بْنِ
قَاسِطٍ وَابْنُهُ عَمْرُو بْنُ هِنْدٍ عُرِفَ بِأُمّهِ أَيْضًا ، وَهِيَ بِنْتُ
الْحَارِثِ آكِلِ الْمِرَارِ جَدّ امْرِئِ الْقَيْسِ الشّاعِرِ وَيُعْرَفُ عَمْرٌو
بِمُحَرّقِ لِأَنّهُ حَرّقَ مَدِينَة ، يُقَالُ لَهَا : مَلْهَمٌ وَهِيَ عِنْدَ
الْيَمَامَةِ ، وَقَالَ الْمُبَرّدُ وَالْقُتَبِيّ سُمّيَ مُحَرّقًا ، لِأَنّهُ
حَرّقَ مِائَةً مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَذَكَرَ خَبَرَهُمْ . وَوَلَدُ نَصْرِ بْنِ رَبِيعَةَ
هُوَ عَدِيّ ، وَكَانَ كَاتِبًا لِجَذِيمَةَ الْأَبْرَشِ وَابْنُهُ عَمْرٌو ،
وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ جَذِيمَةَ وَيُكَنّى جَذِيمَةُ أَبَا مَالِكٍ فِي قَوْلِ
الْمَسْعُودِيّ ، وَهُوَ مُنَادِمُ الْفَرْقَدَيْنِ وَاسْمُ أُخْتِ جَذِيمَةَ
رَقَاشُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ فَهْمِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دَوْسٍ ، وَهُوَ الّذِي
اخْتَطَفَتْهُ الْجِنّ ، وَفِيهِ [ ص 68 ] شَبّ عَمْرٌو عَنْ الطّوْقِ . وَهُوَ
قَاتِلُ الزّبّاءِ بِنْتِ عَمْرٍو وَاسْمُهَا : نَائِلَةُ فِي قَوْلِ الطّبَرِيّ
وَيَعْقُوبَ بْنِ السّكّيتِ وَمَيْسُونُ فِي قَوْلِ دُرَيْدٍ وَاسْتَشْهَدَ
الطّبَرِيّ بِقَوْلِ الشّاعِرِ
أَتَعْرِفُ مَنْزِلًا بَيْنَ الْمُنَقّى
وَبَيْنَ مَجَرّ نَائِلَةَ الْقَدِيم
وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي غَيْرِ هَذَاالْمَوْضِعِ ذِكْرَ نَسَبِهَا وَطَرَفًا مِنْ
أَخْبَارِهَا . وَأَخُو عَمْرُو بْنُ هِنْدٍ : النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ ،
وَهُوَ ابْنُ مَامَةَ وَكَانَ مُلْكُهُ بَعْدَ عَمْرٍو ، وَفِي مُلْكُ عَمْرٍو
وُلِدَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِي زَمَنِ كِسْرَى
أَنُوشِرْوَانَ بْنِ قَبَاذٍ . وَأَسْقَطَ ابْنُ إسْحَاقَ مِنْ هَذَا النّسَبِ
رَجُلَيْنِ وَهُمَا : النّعْمَانُ بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ وَأَبُوهُ امْرُؤُ
الْقَيْسِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ . وَقَدْ قِيلَ إنّ النّعْمَانَ هَذَا هُوَ
أَخُو امْرِئِ الْقَيْسِ وَمَلَكَ بَعْدَهُ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ النّعْمَانِ بَعْدَ
هَذَا عِنْدَ ذِكْرِ صَاحِبِ الْحَضْرِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ، وَأَنّهُ
الّذِي بَنَى الْخَوَرْنَقَ وَالسّدِيرَ .
اسْتِيلَاءُ
أَبِي كَرِبَ تُبّانَ أَسْعَدَ عَلَى مُلْكِ الْيَمَنِ وَغَزْوُهُ إلَى يَثْرِبَ
[ ص 68 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا هَلَكَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ رَجَعَ
مُلْكُ الْيَمَنِ كُلّهُ إلَى حَسّانِ بْنِ تُبّانَ أَسْعَدَ أَبِي كَرِبَ -
وَتُبّانُ أَسْعَدُ هُوَ تُبّعٌ الْآخِرُ - ابْنُ كُلْكِي كَرِبَ بْنِ زَيْدٍ
وَزَيْدٌ هُوَ تُبّعٌ [ ص 69 ] الْأَذْعَارِ بْنِ أَبْرَهَةَ ذِي الْمَنَارِ بْنِ
الرّيشِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ الرّائِشِ - قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
بْنِ عَدِيّ بْنِ صَيْفِيّ بْنِ سَبَأٍ الْأَصْغَرِ بْنِ كَعْبِ كَهْفِ الظّلْمِ
بْنِ زَيْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ جُشَمَ
بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ وَائِلِ بْنِ الْغَوْثِ ، بْنِ قَطَنِ ، بْنِ عَرِيبِ
بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَيْمَنَ بْنِ الْهَمَيْسَعِ بْنِ العَرَنجَج ، والعَرَنْجَج :
حِمْيَرُ بْنُ سَبَأٍ الْأَكْبَرِ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ قَحْطَانَ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يَشْجُبُ بْنُ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَتُبّانُ أَسْعَدَ أَبُو كَرِبَ الّذِي قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، وَسَاقَ
الْحَبْرَيْنِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ إلَى الْيَمَنِ ، وَعَمّرَ الْبَيْتَ
الْحَرَامَ وَكَسَاهُ وَكَانَ مُلْكُهُ قَبْلَ مُلْكِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ . [ ص
70 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ
لَيْتَ حَظّي مِنْ أَبِي كَرِبَ ... أَنْ يَسُدّ خَيْرُهُ خَبَلَهُSقَوْمُ
تُبّعٍ
فَصْلٌ وَقَوْلُهُ فِي نَسَبِ حَسّانِ بْنِ تُبّانَ أَسْعَدَ : هُوَ تُبّانُ
أَسْعَدَ . اسْمَانِ جُعِلَا اسْمًا وَاحِدًا ، وَإِنْ شِئْت أَضَفْت كَمَا
تُضِيفُ مَعْدِي كَرِبَ وَإِنْ شِئْت جَعَلْت الْإِعْرَابَ فِي الِاسْمِ الْآخِرِ
وَتُبّانُ مِنْ التّبَانَةِ وَهِيَ الذّكَاءُ وَالْفِطْنَةُ . يُقَالُ رَجُلٌ
تَبِنٌ وَطَبِنٌ . وَكُلْكِي كَرِبَ اسْمٌ مُرَكّبٌ أَيْضًا وَسَيَأْتِي مَعْنَى
الْكَرِبِ فِي لُغَةِ حِمْيَرَ عِنْدَ ذِكْرِ مَعْدِي كَرِبَ - إنْ شَاءَ اللّهُ
تَعَالَى - وَكَانَ مُلْكُ كُلْكِي كَرِبَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَكَانَ
مُضْعِفًا سَاقِطَ الْهِمّةِ لَمْ يَغْزُ قَطّ . وَقَوْلُهُ فِي نَسَبِ حَسّانِ
ابْنِ تُبّانَ أَسْعَدَ وَتُبّانُ الْأَسْعَدُ [ هُوَ ] تُبّعٌ [ الْآخِرُ ]
نَقّصَ مِنْ النّسَبِ أَسْمَاءَ كَثِيرَةً وَمُلُوكًا ؛ فَإِنّ عَمْرًا ذَا
الْأَذْعَارِ كَانَ بَعْدَهُ نَاشِرُ بْنُ عَمْرٍو ، وَيُقَالُ لَهُ [ ص 69 ]
يَعْفُرَ ] وَإِنّمَا قِيلَ لَهُ نَاشِرٌ لِأَنّهُ نَشَرَ الْمُلْكَ وَاسْمُهُ
مَالِكٌ . مَلَكَ بَعْدَ قَتْلِ رجعيم بْنِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ
بِالشّامِ ، وَهُوَ الّذِي انْتَهَى إلَى وَادِي الرّمْلِ ، وَمَاتَتْ فِيهِ
طَائِفَةٌ مِنْ جُنْدِهِ جَرَتْ عَلَيْهِمْ الرّمَالُ وَبَعْدَهُ تُبّعٌ
الْأَقْرَنُ وأفريقيس بْنُ قَيْسٍ الّذِي بَنَى إفْرِيقِيّةَ وَبِهِ سُمّيَتْ
وَسَاقَ إلَيْهَا الْبَرْبَرَ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ وَتُبّعُ بْنُ الْأَقْرَنِ
وَهُوَ التّبّعُ الْأَوْسَطُ وَشِمْرُ بْنُ مَالِكٍ الّذِي سُمّيَتْ بِهِ مَدِينَة
سَمَرْقَنْدَ ، وَمَالِكٌ هُوَ الْأُمْلُوكُ وَفِي بَنِي الْأُمْلُوكِ يَقُولُ
الشّاعِرُ
فَنَقّبْ عَنْ الْأُمْلُوكِ وَاهْتِفْ بِيَعْفُرٍ ... وَعِشْ جَارَ عِزّ لَا
يُغَالِبُهُ الدّهْرُ
وَقَدْ قِيلَ إنّ الْأُمْلُوكَ كَانَ عَلَى عَهْدِ منوشهر ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ
مُوسَى - عَلَيْهِ السّلَامُ - كُلّ هَؤُلَاءِ مَذْكُورُونَ بِأَخْبَارِهِمْ فِي
غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ . وَعَمْرُو ذُو الْأَذْعَارِ كَانَ عَلَى عَهْدِ
سُلَيْمَانَ ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلِ وَكَانَ أَوْغَلَ فِي دِيَارِ الْمَغْرِبِ
وَسَبَى أُمّةً وُجُوهُهَا فِي صُدُورِهَا ، فَذُعِرَ النّاسُ مِنْهُمْ فَسُمّيَ
ذَا الْأَذْعَارِ وَبَعْدَهُ مَلَكَتْ بِنْتُ بِلْقِيسَ هَدَاهِدُ بْنُ
شُرَحْبِيلَ صَاحِبَةُ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَاسْمُ أُمّهَا
يَلْمُقهُ بِنْتُ جِنّي ، وَقِيلَ رَوَاحَةُ بِنْتُ سُكَين . قَالَهُ ابْنُ
هِشَامٍ . وَزَعَمَ أَيْضًا أَنّهَا قَتَلَتْ عَمْرًا ذَا الْأَذْعَارِ بِحِيلَةِ
ذَكَرَهَا ، وَأَنّهُ سُمّيَ ذَا الْأَذْعَارِ لِكَثْرَةِ مَا ذُعِرَ النّاسُ
مِنْهُ لِجَوْرِهِ وَأَنّهُ ابْنُ أَبْرَهَةَ ذِي الْمَنَارِ بْنِ الصّعْبِ وَهُوَ
ذُو الْقَرْنَيْنِ بْنُ ذِي مَرَاثِلَ الْحِمْيَرِيّ ، وَأَبُوهُ أَبْرَهَةُ ذُو
الْمَنَارِ سُمّيَ [ ص 70 ] نِيرَانًا فِي جِبَالٍ لِيَهْتَدِيَ بِهَا . وَأَمّا
حَسّانُ الّذِي ذُكِرَ فَهُوَ الّذِي اسْتَبَاحَ طَسْمًا ، وَصَلَبَ الْيَمَامَةَ
الزّرْقَاءَ وَذَلِكَ حِينَ اسْتَصْرَخَهُ عَلَيْهِمْ رَبَاحُ بْنُ مُرّةَ أَخُو
الزّرْقَاءِ ، وَهُوَ مِنْ فَلّ جَدِيسٍ وَقَدْ تَقَدّمَ الْإِيمَاءُ إلَى
خَبَرِهِمْ . وَمَعْنَى تُبّعٍ فِي لُغَةِ الْيَمَنِ : الْمَلِكُ الْمَتْبُوعُ
وَقَالَ الْمَسْعُودِيّ : لَا يُقَالُ لِلْمَلَكِ تُبّعٌ حَتّى يَغْلِبَ الْيَمَنَ
وَالشّحْرَ وَحَضْرَمَوْتَ . وَأَوّلُ التّبَابِعَةِ : الْحَارِثُ الرّائِشُ
وَهُوَ ابْنُ هَمّالِ بْنِ ذِي شَدَدٍ وَسُمّيَ الرّائِشَ لِأَنّهُ رَاشَ النّاسَ
بِمَا أَوْسَعَهُمْ مِنْ الْعَطَاءِ وَقَسَمَ فِيهِمْ مِنْ الْغَنَائِمِ وَكَانَ
أَوّلَ مَنْ غَنِمَ فِيمَا ذَكَرُوا . وَأَمّا الْعَرَنْجَجُ الّذِي ذَكَرَ أَنّهُ
حِمْيَرُ بْنُ سَبَأٍ ، فَمَعْنَاهُ بِالْحِمْيَرِيّةِ الْعَتِيقُ . قَالَهُ ابْنُ
هِشَامٍ ، وَفِي عَهْدِ زَمَنِ تُبّعِ الْأَوْسَطِ - وَهُوَ حَسّانُ بْنُ تُبّان
أَسَعْدُ - كَانَ خُرُوجُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنْ الْيَمَنِ مِنْ أَجْلِ سَيْلِ
الْعَرِمِ ، فِيمَا ذَكَرَ الْقُتَبِيّ . وَأَمّا عَمْرٌو أَخُو حَسّانَ الّذِي
ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قِصّتَهُ وَقَتَلَهُ لِأَخِيهِ . فَهُوَ الْمَعْرُوفُ
بِمَوْثَبَانَ . سُمّيَ بِذَلِكَ لِلُزُومِهِ الْوِثَابِ وَهُوَ [ السّرِيرُ ]
الْفِرَاشُ وَقِلّةُ غَزْوِهِ . قَالَهُ الْقُتَبِيّ .
سَبَبُ
غَضَبِ تُبّانٍ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ قَدْ جَعَلَ طَرِيقَهُ - حِينَ أَقْبَلَ مِنْ
الْمَشْرِقِ - عَلَى الْمَدِينَةِ ، وَكَانَ قَدْ مَرّ بِهِ فِي بَدْأَتِهِ فَلَمْ
يَهِجْ أَهْلَهَا ، وَخَلّفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ابْنًا لَهُ فَقُتِلَ غِيلَةً
فَقَدِمَهَا وَهُوَ مُجْمِعٌ لِإِخْرَابِهَا ، وَاسْتِئْصَالِ أَهْلِهَا ،
وَقَطْعِ نَخْلِهَا ، فَجُمِعَ لَهُ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ ،
وَرَئِيسُهُمْ عَمْرُو بْنُ طَلّةَ أَخُو بَنِي النّجّارِ ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي
عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ ، وَاسْمُ مَبْذُولٍ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ
، وَاسْم النّجّارِ تَيْمُ اللّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ ، بْنِ عَمْرِو ، بْنِ
الْخَزْرَجِ ، بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو ، بْنِ عَامِرٍ . [ ص
71 ] طَلّةَ وَنَسَبُهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَمْرُو ابْنُ طَلّةَ عَمْرُو بْنُ
مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ ، وَطَلّةُ
أُمّهُ وَهِيَ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ ، بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ
عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْب بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ .Sوَأَمّا
مَا ذَكَرَهُ مِنْ غَزْوِ تُبّعٍ الْمَدِينَةِ ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقُتَبِيّ أَنّهُ
لَمْ يَقْصِدْ غَزَوْهَا ، وَإِنّمَا قَصَدَ قَتْلَ الْيَهُودِ الّذِينَ كَانُوا
فِيهَا ، وَذَلِكَ أَنّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانُوا نَزَلُوهَا مَعَهُمْ
حِينَ خَرَجُوا مِنْ الْيَمَنِ عَلَى شُرُوطٍ وَعُهُودٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فَلَمْ
يَفِ لَهُمْ بِذَلِكَ يَهُودُ وَاسْتَضَامُوهُمْ فَاسْتَغَاثُوا [ ص 71 ] قِيلَ
بَلْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ لِأَبِي جُبَيْلَة الْغَسّانِيّ وَهُوَ الّذِي
اسْتَصْرَخَتْهُ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ عَلَى يَهُودَ فَاَللّهُ أَعْلَمُ .
وَالرّجُلُ الّذِي عَدَا عَلَى عَذْقِ الْمَلِكِ وَجَدّهُ مِنْ بَنِي النّجّارِ
هُوَ مَالِكُ بْنُ الْعَجْلَانِ فِيمَا قَالَ الْقُتَبِيّ ، وَلَا يَصِحّ هَذَا
عِنْدِي فِي الْقِيَاسِ لِبُعْدِ عَهْدِ تُبّعٍ مِنْ مُدّةِ مَلِكِ بْنِ
الْعَجْلَانِ . وَخَبَرُ مَلِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ إنّمَا هُوَ مَعَ أَبِي
جُبَيْلَة الْغَسّانِيّ حِينَ اسْتَصْرَخَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ عَلَى الْيَهُودِ ،
فَجَاءَ حَتّى قَتَلَ وُجُوهًا مِنْ يَهُودَ . وَأَمّا تُبّعٌ فَحَدِيثُهُ أَقْدَمُ
مِنْ ذَلِكَ . يُقَالُ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِسَبْعِمِائَةِ عَامٍ
وَالصّحِيحُ فِي اسْمِ أَبِي جُبَيْلَة : جُبَيْلَة غَيْرُ مُكَنّى ، ابْنُ
عَمْرِو بْنِ جَبَلة بْنِ جَفْنَةَ وَجَفْنَةُ هُوَ غَلَبَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
عَامِرٍ مَاءِ السّمَاءِ . وَجُبَيْلَةُ هُوَ جَدّ جَبَلة بْنِ الْأَيْهَمِ آخِرُ
مُلُوكِ بَنِي جَفْنَةَ وَمَاتَ جُبَيْلَة الْغَسّانِيّ مِنْ عَلَقَةٍ شَرِبَهَا
فِي مَاءٍ وَهُوَ مُنْصَرَفٍ عَنْ الْمَدِينَةِ . وَذَكَرَ أَنّ تُبّعًا أَرَادَ
تَخْرِيبَ الْمَدِينَةِ ، وَاسْتِئْصَالَ الْيَهُودِ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ
مِنْهُمْ لَهُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ سَنَةً الْمَلِكُ أَجَلّ مِنْ أَنْ يَطِيرَ
بِهِ نَزَقٌ . أَوْ يَسْتَخْفِهِ غَضَبٌ وَأَمْرُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَضِيقَ
عَنّا حِلْمُهُ أَوْ نُحْرَمُ صَفْحَهُ مَعَ أَنّ هَذِهِ الْبَلْدَةَ مُهَاجَرُ نَبِيّ
يُبْعَثُ بِدِينِ إبْرَاهِيمَ . وَهَذَا الْيَهُودِيّ هُوَ أَحَدُ الْحَبْرَيْنِ
اللّذَيْنِ ذَكَرَ ابْن إسْحَاقَ ، قَالَ وَاسْمُ الْحَبْرَيْنِ سُحَيْتٌ
وَالْآخَرُ مُنَبّهٌ . ذَكَرَ ذَلِكَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ وَفِي
رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، قَالَ وَاسْمُ الْحَبْرِ الّذِي كَلّمَ
الْمَلِكَ بليامين ، وَذَكَرَ أَنّ امْرَأَةً اسْمُهَا : فُكَيْهَةُ مِنْ بَنِي
زُرَيْقٍ كَانَتْ تَحْمِلُ لَهُ الْمَاءَ مِنْ بِئْرِ رُومَةَ بَعْدَمَا قَالَ
لَهُ الْحَبْرَانِ مَا قَالَا ، وَكَفّ عَنْ قِتَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ،
وَدَخَلُوا عَسْكَرَهُ فَأَعْطَى فُكَيْهَةَ حَتّى أَغْنَاهَا ، فَلَمْ تَزَلْ
هِيَ وَعَشِيرَتُهَا مِنْ أَغْنَى الْأَنْصَارِ حَتّى [ ص 72 ] آمَنَ الْمَلِكُ
بِمُحَمّدِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأُعْلِمَ بِخَبَرِهِ قَالَ
شَهِدْت عَلَى أَحْمَدَ أَنّهُ ... نَبِيّ مِنْ اللّهِ بَارِي النّسَمْ
فَلَوْ مُدّ عُمْرِي إلَى عُمْرِهِ ... لَكُنْت وَزِيرًا لَهُ وَابْنُ عَمْ
وَجَاهَدْت بِالسّيْفِ أَعْدَاءَهُ ... وَفَرّجْت عَنْ صَدْرِهِ كُلّ هَمْ
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدّنْيَا فِي كِتَابِ الْقُبُورِ وَذَكَرَهُ أَيْضًا أَبُو
إسْحَاقَ الزّجّاجُ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي لَهُ أَنّ قَبْرًا حُفِرَ بِصَنْعَاءَ
فَوُجِدَ فِيهِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا لَوْحٌ مِنْ فِضّةٍ مَكْتُوبٌ بِالذّهَبِ
وَفِيهِ هَذَا قَبْرُ لَمِيسَ وَحُبّى ابْنَتَيْ تُبّعٍ مَاتَا ، وَهُمَا
تَشْهَدَانِ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيك لَهُ وَعَلَى ذَلِكَ مَاتَ
الصّالِحُونَ قَبْلَهُمَا ، وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - لَا أَدْرِي أَتُبّعٌ لَعِينٌ أَمْ لَا وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَالَ لَا تَسُبّوا تُبّعًا ؛ فَإِنّهُ كَانَ
مُؤْمِنًا فَإِنْ صَحّ هَذَا الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ فَإِنّمَا هُوَ بَعْدَمَا
أُعْلِمَ بِحَالِهِ وَلَا نَدْرِي : أَيّ التّبَايِعَةِ أَرَادَ غَيْرَ أَنّ فِي
حَدِيثِ مَعْمَرٍ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لَا تَسُبّوا أَسْعَدَ
الْحِمْيَرِيّ ، فَإِنّهُ أَوّلُ مَنْ كَسَا الْكَعْبَةَ فَهَذَا أَصَحّ مِنْ
الْحَدِيثِ الْأَوّلِ وَأَبْيَنُ حَيْثُ ذَكَرَ فِيهِ أَسَعْدَ . وَتُبّانُ أَسْعَدُ
الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ وَقَدْ كَانَ تُبّعٌ الْأَوّلُ مُؤْمِنًا أَيْضًا
بِالنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ الرّائِشُ وَقَدْ قَالَ
شِعْرًا يُنْبِئُ فِيهِ بِمَبْعَثِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
يَقُولُ فِيهِ
وَيَأْتِي بَعْدَهُمْ رَجُلٌ عَظِيمٌ ... نَبِيءٌ لَا يُرَخّصُ فِي الْحَرَامِ
وَقَدْ قِيلَ أَنّهُ الْقَائِلُ
مَنَعَ الْبَقَاءَ تَصَرّفُ الشّمْسِ ... وَطُلُوعُهَا مِنْ حَيْثُ لَا تُمْسِي
الْيَوْمَ أَعْلَمُ مَا يَجِيءُ بِهِ ... وَمَضَى بِفَصْلِ قَضَائِهِ أَمْسِ
وَطُلُوعُهَا بَيْضَاءُ مُشْرِقَةٌ ... وَغُرُوبُهَا صَفْرَاءُ كَالْوَرْسِ
تَجْرِي عَلَى كَبِدِ السّمَاءِ كَمَا ... يَجْرِي حِمَامُ الْمَوْتِ فِي النّفْسِ
[ ص 73 ] قِيلَ إنّ هَذَا الشّعْرَ لِتُبّعِ الْآخَرُ [ وَقِيلَ لِأُسْقُفِ
نَجْرَانَ ] ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ وَمِنْ هَذَا أَخَذَ أَبُو تَمَامٍ قَوْلَهُ
أَلْقَى إلَى كَعْبَةِ الرّحْمَنِ أَرْحُلَهُ ... وَالشّمْسُ قَدْ نَفَضَتْ
وَرْسًا عَلَى الْأُصُلِ
قِصّةُ
مُقَاتَلَةِ تُبّانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 73 ] كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ ،
يُقَالُ لَهُ أَحْمَرُ عَدَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ تُبّعٍ حِينَ نَزَلَ
بِهِمْ فَقَتَلَهُ وَذَلِكَ أَنّهُ وَجَدَهُ فِي عَذْقٍ لَهُ يَجُدّهُ فَضَرَبَهُ
بِمِنْجَلِهِ فَقَتَلَهُ وَقَالَ إنّمَا التّمْرُ لِمَنْ أَبَرّهُ ، فَزَادَ
ذَلِكَ تُبّعًا حَنَقًا عَلَيْهِمْ فَاقْتَتَلُوا ، فَتُزْعِمُ الْأَنْصَارُ
أَنّهُمْ كَانُوا يُقَاتِلُونَهُ بِالنّهَارِ وَيُقِرّونَهُ بِاللّيْلِ
فَيُعْجِبُهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَيَقُولُ وَاَللّهِ إنّ قَوْمَنَا لَكِرَامٌ .
فَبَيْنَا تُبّعٌ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِتَالِهِمْ إذْ جَاءَهُ حَبْرَانِ مِنْ
أَحْبَارِ الْيَهُودِ ، مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ - وَقُرَيْظَةُ وَالنّضِيرُ
وَالنّجّامُ وَعَمْرٌو - وَهُوَ هَدْلٌ - بَنُو الْخَزْرَجِ بْنِ الصّرِيحِ بْنِ
التّوْمَانِ بْنِ السّبْطِ بْنِ الْيَسَعَ بْنِ سَعْدِ بْنِ لَاوِيّ بْنِ خَيْرِ
بْنِ النّجّامِ ، بْنِ تَنْحوم ، بْنِ عازَر ، بْنِ [ ص 74 ] عِزْرَى ، بْنُ
هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ ، بْنِ يَصْهَرُ بْنِ قَاهِث ، بْنِ لَاوِيّ بْنِ
يَعْقُوبَ - وَهُوَ إسْرَائِيلُ - بْنُ إسْحَاق بْنِ إبْرَاهِيمَ خَلِيلُ
الرّحْمَنِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِمْ - عَالِمَانِ رَاسِخَانِ فِي الْعِلْمِ
حِينَ سَمِعَا بِمَا يُرِيدُ مِنْ إهْلَاكِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا ، فَقَالَا
لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ لَا تَفْعَلْ فَإِنّك إنْ أَبَيْت إلّا مَا تُرِيدُ حِيلَ
بَيْنَك وَبَيْنَهَا ، وَلَمْ نَأْمَنْ عَلَيْك عَاجِلَ الْعُقُوبَةِ فَقَالَ لَهُمَا
: وَلِمَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَا : هِيَ مُهَاجَرُ نَبِيّ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا
الْحَرَمِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي آخِرِ الزّمَانِ تَكُونُ دَارَهُ وَقَرَارَهُ
فَتَنَاهَى عَنْ ذَلِكَ وَرَأَى أَنّ لَهُمَا عِلْمًا ، وَأَعْجَبَهُ مَا سَمِعَ
مِنْهُمَا ، فَانْصَرَفَ عَنْ الْمَدِينَةِ ، وَأَتْبَعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا ،
فَقَالَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ غَزِيّة بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ بْنِ
عَوْفِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ يَفْخَرُ بِعَمْرِو بْنِ طَلّةَ [
ص 75 ]
أَصَحَا أَمْ قَدْ نَهَى ذُكَرَه ... أَمْ قَضَى مِنْ لَذّةٍ وَطَرَهْ
أَمْ تَذَكّرْت الشّبَابَ وَمَا ... ذِكْرُك الشّبَابَ أَوْ عُصُرَهْ
إنّهَا حَرْبٌ رَبَاعِيَةٌ ... مِثْلُهَا آتَى الْفَتَى عِبَرَهْ
فَاسْأَلَا عِمْرَانَ أَوْ أَسَدًا ... إذْ أَتَتْ عَدْوًا مَعَ الزّهَرَهْ
فَيْلَقٌ فِيهَا أَبُو كَرِب ... سُبّغ أَبْدَانُهَا ذَفِرَهْ
ثُمّ قَالُوا : مِنْ نَؤُمّ بِهَا ... ابْنَيْ عَوْفٍ أُمّ النّجَره ؟
بَلْ بَنِي النّجّارُ إنّ لَنَا ... فِيهِمْ قَتْلَى ، وَإِنّ تِرَه
فَتَلَقّتْهُمْ مُسَايَفَةٌ ... مُدّهَا كالغَبْية النّثِره
فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ طَلّةَ م ... لّى الْإِلَهُ قَوْمَهُ عُمُرَهْ
سَيّدٌ سَامَى الْمُلُوكَ وَمَنْ ... رَامَ عَمْرًا لَا يَكُنْ قَدَرَهْ
[ ص 76 ] الْأَنْصَارِ يَزْعُمُونَ أَنّهُ إنّمَا كَانَ حَنَقَ تُبّعٍ عَلَى هَذَا
الْحَيّ مِنْ يَهُودَ [ ص 77 ] كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَإِنّمَا أَرَادَ
هَلَاكَهُمْ فَمَنَعُوهُمْ مِنْهُ حَتّى انْصَرَفَ عَنْهُمْ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي
شِعْرِهِ
حَنَقًا عَلَى سِبْطَيْنِ حَلّا يَثْرِبَا ... أَوْلَى لَهُمْ بِعِقَابِ يَوْمٍ
مُفْسِدِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الشّعْرُ الّذِي فِيهِ هَذَا الْبَيْتُ مَصْنُوعٌ فَذَلِكَ
الّذِي مَنَعَنَا مِنْ إثْبَاتِهِ .Sغَرِيبُ
حَدِيثِ تُبّعٍ
ذَكَرَ فِيهِ فَجَدّ عَذْق الْمَلِكِ . الْعَذْقُ النّخْلَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ
وَالْعِذْق بِالْكَسْرَةِ الْكِبَاسَةُ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ التّمْرِ وَذَكَرَ
فِي نَسَبِ قُرَيْظَةَ وَالنّضِيرِ عَمْرًا ، وَهُوَ هَدَلٌ بِفَتْحِ الدّالّ
وَالْهَاءُ كَأَنّهُ مَصْدَرُ هَدَلَ هَدْلًا إذَا اسْتَرْخَتْ شَفَتُهُ
وَذَكَرَهُ الْأَمِيرُ ابْنُ مَاكُولَا عَنْ أَبِي عَبْدَةَ النّسّابَةِ فَقَالَ
فِيهِ هَدْلٌ بِسُكُونِ الدّالِ . وَذَكَرَ فِيهِ ابْنُ التّوْمَانِ عَلَى وَزْنِ
فَعَلَانِ كَأَنّهُ مِنْ لَفْظِ التّوَمِ وَهُوَ الدّرّ أَوْ نَحْوُهُ . وَفِيهِ
ابْنُ السّبْطِ بِكَسْرِ السّينِ وَفِيهِ ابْنُ تَنْحوم بِفَتْحِ التّاءِ
وَسُكُونِ النّونِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ عِبْرَانِيّ ، وَكَذَلِكَ
عازَر ، وَعِزْرَى بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِنْ عِزْري . وقاهث ، وَبِالتّاءِ
الْمَنْقُوطَةِ بِاثْنَتَيْنِ . وَهَكَذَا وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ أَبِي
بَحْرٍ . وَفِي غَيْرِهَا بِالثّاءِ الْمُثَلّثَةِ وَكُلّهَا عِبْرَانِيّةٌ .
وَكَذَلِكَ إسْرَائِيلُ وَتَفْصِيلُهُ بِالْعَرَبِيّةِ سَرِيّ اللّهِ . [ ص 74 ]
عَبْدِ الْعُزّى : أَصَحَا أَمْ قَدْ نَهَى ذُكَرَه . الذّكَرُ جَمْعُ ذِكْرَةٍ .
كَمَا تَقُولُ بُكْرَةٌ وَبُكَر ، وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى ذِكْرَى
بِالْأَلْفِ وَقَلّمَا يُجْمَعُ فِعْلى عَلَى فُعَل ، وَإِنّمَا يُجْمَعُ عَلَى فِعَالٍ
فَإِنْ كَانَ أَرَادَ فِي هَذَا الْبَيْتِ جَمْعَ : ذِكْرَى ، وَشَبّهَ أَلِفَ
التّأْنِيثِ بِهَاءِ التّأْنِيثِ فَلَهُ وَجْهٌ قَدْ يَحْمِلُونَ الشّيْءَ عَلَى
الشّيْءِ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ . وَقَوْلُهُ ذِكْرُك الشّبَابَ أَوْ عُصُرَهْ
أَرَادَ أَوْ عُصُرَهْ . وَالْعَصْرُ وَالْعُصُر لُغَتَانِ . وَحُرّكَ الصّادَ
بِالضّمّ قَالَ ابْنُ جِنّي : لَيْسَ شَيْءٌ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ بِسُكُونِ
الْعَيْنِ يَمْتَنِعُ فِيهِ فُعُل . وَقَوْلُهُ إنّهَا حَرْبٌ رَبَاعِيَةٌ .
مَثَلٌ . أَيْ لَيْسَتْ بِصَغِيرَةِ وَلَا جَذَعَةٍ . بَلْ هِيَ فَوْقَ ذَلِكَ
وَضُرِبَ سِنّ الرّبَاعِيَةِ مَثَلًا ، كَمَا يُقَالُ حَرْبٌ عَوَانٌ . لِأَنّ
الْعَوَانَ أَقْوَى مِنْ الْفِتْيَةِ وَأَدْرَبُ . وَقَوْلُهُ عَدْوًا مَعَ
الزّهَرَهْ . يُرِيدُ صَبّحَهُمْ بِغَلَسِ قَبْلَ مَغِيبِ الزّهَرَةِ وَقَوْلُهُ أَبْدَانُهَا
ذَفِرَهْ [ ص 75 ] الرّائِحَةِ طَيّبَةً كَانَتْ أَوْ كَرِيهَةً . وَأَمّا
الدّفْرُ بِالدّالِ الْمُهْمَلَةِ فَإِنّمَا هُوَ فِيمَا كَرِهَ مِنْ الرّوَائِحِ
وَمِنْهُ قِيلَ لِلدّنْيَا : أُمّ دَفْرٍ وَذَكَرَهُ الْقَالِيّ فِي الْأَمَالِي
بِتَحْرِيكِ الْفَاءِ وَغَلِطَ فِي ذَلِكَ وَالدّفْرُ بِالسّكُونِ أَيْضًا :
الدّفْعُ . وَقَوْلُهُ أَمّ النّجِرَةِ . جَمْعُ نَاجِرٍ وَالنّاجِرُ وَالنّجّارُ
بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَهَذَا كَمَا قِيلَ الْمَنَاذِرَة فِي بَنِي الْمُنْذِرِ
وَالنّجّارُ وَهُمْ تَيْمُ اللّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ
، وَسُمّيَ النّجّارَ لِأَنّهُ نَجَرَ وَجْهَ رَجُلٌ بِقَدّومِ فِيمَا ذَكَرَ
بَعْضُ أَهْلِ النّسَبِ . وَقَوْلُهُ فِيهِمْ قَتْلَى وَإِنّ تِرَه . أَظَهَرَ إنّ
بَعْدَ الْوَاوِ . أَرَادَ إنّ لَنَا قَتْلَى وَتِرَةٌ وَالتّرَةُ الْوِتْرُ
فَأَظْهَرَ الْمُضْمَرَ وَهَذَا الْبَيْتُ شَاهِدٌ عَلَى أَنّ حُرُوفَ الْعَطْفَ
يُضْمَرُ بَعْدَهَا الْعَامِلُ الْمُتَقَدّمُ نَحْوُ قَوْلِك : إنّ زَيْدًا
وَعَمْرًا فِي الدّارِ فَالتّقْدِيرُ إنّ زَيْدًا ، وَإِنّ عَمْرًا فِي الدّارِ
وَدَلّتْ الْوَاوُ عَلَى مَا أَرَدْت ، وَإِنْ احْتَجْت إلَى الْإِظْهَارِ
أُظْهِرَتْ كَمَا فِي هَذَا الْبَيْتِ إلّا أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ الْجَامِعَةُ
فِي نَحْوِ اخْتَصَمَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو ، فَلَيْسَ ثَمّ إضْمَارٌ لِقِيَامِ
الْوَاوِ مَقَامَ صِيغَةِ التّثْنِيَةِ كَأَنّك قُلْت : اخْتَصَمَ هَذَانِ وَعَلَى
هَذَا تَقُولُ طَلَعَ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ فَتُغَلّبُ الْمُذَكّرَ كَأَنّك قُلْت
: طَلَعَ هَذَانِ النّيرَانِ فَإِنْ جَعَلْت الْوَاوَ هِيَ الّتِي تُضْمَرُ
بَعْدَهَا الْفِعْلُ قُلْت : طَلَعَتْ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَتَقُولُ فِي نَفْيِ
الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى : مَا طَلَعَ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَنَفْيِ
الْمَسْأَلَةِ الثّانِيَةِ مَا طَلَعَتْ الشّمْسُ وَلَا الْقَمَرُ تُعِيدُ حَرْفَ
النّفْيِ . لِيَنْتَفِيَ بِهِ الْفِعْلُ الْمُضْمَرُ . وَيَتَفَرّعُ مِنْ هَذَا
الْأَصْلِ فِي النّحْوِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ لَا نُطَوّلُ بِذِكْرِهَا .
وَقَوْلُهُ فَتَلَقّتْهُمْ مُسَايِفَةٌ بِكَسْرِ الْيَاءِ أَيْ كَتِيبَةٌ
مُسَايِفَةٌ . وَلَوْ فَتَحْت الْيَاءَ فَقُلْت : مُسَايَفَةٌ لَكَانَ حَالًا مِنْ
الْمَصْدَرِ الّتِي تَكُونُ أَحْوَالًا مِثْلَ كَلّمْته مُشَافَهَةً وَلَعَلّ
هَذِهِ الْحَالُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ذِكْرٌ فِي الْكِتَابِ فَنَكْشِفُ عَنْ
سِرّهَا ، وَنُبَيّنُ مَا خَفِيَ عَلَى النّاسِ مِنْ أَمْرِهَا ، وَفِي غَيْرِ
نُسْخَةٍ الشّيْخُ فَتَلَقّتْهُمْ مُسَابَقَةً بِالْبَاءِ وَالْقَافِ .
وَالْغَبْيَةُ الدّفْعَةُ مِنْ الْمَطَرِ . وَقَوْلُهُ النّثِرَةِ أَيْ
الْمُنْتَثِرَةِ وَهِيَ الّتِي لَا تُمْسِكُ مَاءً . وَقَوْلُهُ [ مَلّى ]
الْإِلَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ [ ص 76 ] قَالَ ابْنُ أَحْمَرَ
أَلَا يَا دِيَارَ الْحَيّ بِالسّبُعَانِ ... أَمَلّ عَلَيْهَا بِالْبِلَى
الْمَلَوَانِ
أَلَا يَا دِيَارَ الْحَيّ لَا هَجْرَ بَيْنَنَا ... وَلَا كُنّ رَوْعَاتٍ مِنْ
الْحَدَثَانِ
نَهَارٌ وَلَيْلٌ دَائِبٌ مَلَوَاهُمَا ... عَلَى كُلّ حَالِ النّاسِ
يَخْتَلِفَانِ
مَعْنَى قَوْلِ الشّاعِرِ دَائِبٌ مَلَوَاهُمَا . وَالْمَلَوَانِ اللّيْلُ
وَالنّهَارُ . وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنّ الشّيْءَ لَا يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ .
لَكِنّهُ جَازَ هَهُنَا لِأَنّ الْمَلَا هُوَ الْمُتّسَعُ مِنْ الزّمَانِ
وَالْمَكَانِ وَسُمّيَ اللّيْلُ وَالنّهَارُ مَلَوَيْنِ لِانْفِسَاحِهِمَا ،
فَكَأَنّهُ وَصْفٌ لَهُمَا ، لَا عِبَارَةَ عَنْ ذَاتَيْهِمَا ؛ وَلِذَلِكَ
جَازَتْ إضَافَتُهُ إلَيْهَا ، فَقَالَ دَائِبٌ مَلَوَاهُمَا أَيْ مُدّاهُمَا
وَانْفِسَاحُهُمَا . وَقَدْ رَأَيْت مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَيْتِ
بِعَيْنِهِ لِأَبِي عَلِيّ الفسوري فِي بَعْضِ مَسَائِلِهِ الشّيرَازِيّةِ .
وَقَوْلُهُ لَا يَكُنْ قَدَرُهُ . دُعَاءُ عَلَيْهِ وَالْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى
عَمْرٍو . أَرَادَ لَا يَكُنْ قَدَرٌ عَلَيْهِ . وَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرّ
فَتَعَدّى الْفِعْلُ فَنَصَبَ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرّ فِي كُلّ
فِعْلٍ وَإِنّمَا جَازَ فِي هَذَا ، لِأَنّهُ فِي مَعْنَى : اسْتَطَاعَهُ أَوْ
أَطَاعَهُ فَحَمَلَ عَلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ
وَالْبَيْتُ الّذِي أَنْشَدَهُ
لَيْتَ حَظّي مِنْ أَبِي كَرِب ... أَنْ يَسُدّ خَيْرُهُ خَبَلَهْ
قَالَ الْبَرْقِيّ : نُسِبَ هَذَا الْبَيْتُ إلَى الْأَعْشَى ، وَلَمْ يَصِحّ
قَالَ وَإِنّمَا هُوَ لِعَجُوزِ مِنْ بَنِي سَالِمٍ . أَحَبّهُ قَالَ فِي اسْمِهَا
: جَمِيلَةُ قَالَتْهُ حِينَ جَاءَ مَالِكُ بْنُ الْعَجْلَانِ بِخَبَرِ تُبّعٍ ،
فَدَخَلَ سِرّا ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ قَدْ جَاءَ تُبّعٌ ، فَقَالَتْ الْعَجُوزُ الْبَيْتَ
. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ تُبّعٍ : وَقَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنّ حَنَقَهُ إنّمَا
كَانَ عَلَى هَذَيْنِ السّبْطَيْنِ مِنْ يَهُودَ يُقَوّي مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ
هَذَا عَنْهُ . [ ص 77 ] زَعَمَ ابْنُ هِشَامٍ أَنّهُ مَصْنُوعٌ قَدْ ذَكَرَهُ فِي
كِتَابِ التّيجَانِ وَهُوَ قَصِيدٌ مُطَوّلٌ أَوّلُهُ
مَا بَالُ عَيْنِك لَا تَنَامُ كَأَنّمَا ... كُحِلَتْ مَآقِيُهَا بِسُمّ
الْأَسْوَدِ
حَنَقًا عَلَى سِبْطَيْنِ حَلّا يَثْرِبَا ... أَوْلَى لَهُمْ بِعِقَابِ يَوْمٍ
مُفْسِدِ
وَذَكَرَ فِي الْقَصِيدَةِ ذَا الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ الصّعْبُ بْنُ ذِي مَرَاثِدَ
فَقَالَ فِيهِ
وَلَقَدْ أَذَلّ الصّعْبُ صَعْبَ زَمَانِهِ ... وَأَنَاطَ عُرْوَةَ عِزّهُ
بِالْفَرْقَدِ
لَمْ يَدْفَعْ الْمَقْدُورَ عَنْهُ قُوّةً ... عِنْدَ الْمَنُونِ وَلَا سُمُوّ
الْمَحْتِدِ
وَالصّنْعَةُ بَادِيَةٌ فِي هَذَا الْبَيْتِ وَفِي أَكْثَرِ شِعْرِهِ وَفِيهِ
يَقُولُ
فَأَتَى مَغَارَ الشّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا ... فِي عَيْنِ ذِي خُلُبٍ وَثَأْطَ
حَرْمَدِ
وَالْخُلُبُ الطّينُ وَالثّأَطُ الْحَرْمَدُ وَهُوَ الْحَمَأُ الْأَسْوَدُ وَرَوَى
نَقَلَةُ الْأَخْبَارِ أَنّ تُبّعًا لَمّا عَمِدَ إلَى الْبَيْتِ يُرِيدُ
إخْرَابَهُ رُمِيَ بِدَاءِ تَمَخّضَ مِنْهُ رَأْسُهُ قَيْحًا وَصَدِيدًا يَثُجّ
ثَجّا ، وَأَنْتَنَ حَتّى لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُ قَيْدَ
الرّمْحِ وَقِيلَ بَلْ أُرْسِلَتْ عَلَيْهِ رِيحٌ كَتّعَتْ مِنْهُ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ
وَأَصَابَتْهُمْ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ حَتّى دَفّتْ خَيْلُهُمْ فَسُمّيَ ذَلِكَ
الْمَكَانُ الدّفّ فَدَعَا بِالْحُزَاةِ وَالْأَطِبّاءِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ دَائِهِ
فَهَالَهُمْ مَا رَأَوْا مِنْهُ وَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ فَرَجًا . فَعِنْدَ
ذَلِكَ قَالَ لَهُ الْحَبْرَانِ : لَعَلّك هَمَمْت بِشَيْءِ فِي أَمْرِ هَذَا
الْبَيْتِ فَقَالَ نَعَمْ أَرَدْت هَدْمَهُ . فَقَالَا لَهُ تُبْ إلَى اللّهِ
مِمّا نَوَيْت فَإِنّهُ بَيْتُ اللّهِ وَحَرَمُهُ وَأَمَرَاهُ بِتَعْظِيمِ
حُرْمَتِهِ فَفَعَلَ فَبَرِئَ مِنْ دَائِهِ وَصَحّ مِنْ وَجَعِهِ . وَأَخْلِقْ
بِهَذَا الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فَإِنّ اللّهَ - سُبْحَانَهُ - يَقُولُ {
وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [
الْحَجّ : 25 ] . أَيْ وَمَنْ يُسْهِمُ فِيهِ بِظُلْمِ . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ
بِظُلْمِ تَدُلّ عَلَى صِحّةِ الْمَعْنَى ، وَأَنّ مَنْ هَمّ فِيهِ بِالظّلْمِ -
وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ - عُذّبَ تَشْدِيدًا فِي حَقّهِ وَتَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ
وَكَمَا فَعَلَ اللّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَهْلَكَهُمْ قَبْلَ الْوُصُولِ
إلَيْهِ .
تُبّعٌ
يَعْتَنِقُ النّصْرَانِيّةَ وَيَدْعُو قَوْمَهُ إلَيْهَا
[ ص 78 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ تُبّعٌ وَقَوْمُهُ أَصْحَابُ أَوْثَانٍ
يَعْبُدُونَهَا ، فَتَوَجّهَ إلَى مَكّةَ ، وَهِيَ طَرِيقُهُ إلَى الْيَمَنِ ،
حَتّى إذَا كَانَ بَيْنَ عُسْفان ، وَأَمَجَ ، أَتَاهُ نَفَرٌ مِنْ هُذَيل بْنِ
مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ ، فَقَالُوا لَهُ
أَيّهَا الْمَلِكُ أَلَا نَدُلّك عَلَى بَيْتِ مَالٍ دَائِرٍ أَغَفَلَتْهُ
الْمُلُوكُ قَبْلَك ، فِيهِ اللّؤْلُؤُ وَالزّبَرْجَدُ وَالْيَاقُوتُ وَالذّهَبُ وَالْفِضّةُ
؟ قَالَ بَلَى ، قَالُوا : بَيْتُ بِمَكّةَ يَعْبُدُهُ أَهْلُهُ وَيُصَلّونَ
عِنْدَهُ . وَإِنّمَا أَرَادَ الُهُذَلِيّونَ هَلَاكَهُ بِذَلِكَ لَمّا عَرَفُوا
مِنْ هَلَاكِ مَنْ أَرَادَهُ مِنْ الْمُلُوكِ وَبَغَى عِنْدَهُ . فَلِمَا أَجْمَعَ
لِمَا قَالُوا ، أَرْسَلَ إلَى الْحَبْرَيْنِ فَسَأَلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَا
لَهُ مَا أَرَادَ الْقَوْمُ إلّا هَلَاكَك وَهَلَاكَ جُنْدَك . مَا نَعْلَمُ
بَيْتًا لِلّهِ اتّخَذَهُ فِي الْأَرْضِ لِنَفْسِهِ غَيْرَهُ وَلَئِنْ فَعَلْت مَا
دَعَوْك إلَيْهِ لَتَهْلِكَنّ وَلَيَهْلِكَنّ مَنْ مَعَك جَمِيعًا ، قَالَ
فَمَاذَا تَأْمُرَانِنِي أَنْ أَصْنَعَ إذَا أَنَا قَدِمْت عَلَيْهِ ؟ قَالَا :
تَصْنَعُ عِنْدَهُ مَا يَصْنَعُ أَهْلُهُ تَطُوفُ بِهِ وَتُعَظّمُهُ وَتُكْرِمُهُ
وَتَحْلِقُ رَأْسَك عِنْدَهُ وَتَذِلّ لَهُ حَتّى تَخْرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ
فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْتُمَا مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَا : أَمَا وَاَللّهِ إنّهُ
لَبَيْتُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ وَإِنّهُ لَكُمَا أَخْبَرْنَاك ، وَلَكِنْ أَهْلُهُ
حَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ بِالْأَوْثَانِ الّتِي نَصَبُوهَا حَوْلَهُ
وَبِالدّمَاءِ الّتِي يُهْرِيقُونَ عِنْدَهُ وَهُمْ نَجَسٌ أَهْلُ شِرْكٍ - أَوْ
كَمَا قَالَا لَهُ - فَعَرَفَ نُصْحَهُمَا وَصَدّقَ حَدِيثَهُمَا فَقَرّبَ
النّفَرَ مِنْ هُذَيل ، فَقَطّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ ثُمّ مَضَى حَتّى
قَدِمَ مَكّةَ ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَنَحَرَ عِنْدَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ
وَأَقَامَ بِمَكّةَ سِتّةَ أَيّامٍ - فِيمَا يَذْكُرُونَ - يَنْحَرُ بِهَا
لِلنّاسِ وَيُطْعِمُ أَهْلَهَا ، وَيَسْقِيهِمْ الْعَسَلَ وَأُرِيَ فِي الْمَنَامِ
أَنْ يَكْسُوَ الْبَيْتَ فَكَسَاهُ الْخَصَفَ ثُمّ أُرِي أَنْ يَكْسُوهُ أَحْسَنَ مِنْ
ذَلِكَ فَكَسَاهُ الْمَعَافِرَ ثُمّ أُرِي أَنْ يَكْسُوَهُ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ
فَكَسَاهُ الْمُلَاءَ وَالْوَصَائِلَ فَكَانَ تُبّعٌ - فِيمَا يَزْعُمُونَ -
أَوّلَ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ وَأَوْصَى بِهِ وُلَاتُهُ مِنْ جُرْهُمٍ ،
وَأَمَرَهُمْ بِتَطْهِيرِهِ وَأَلّا يُقَرّبُوهُ دَمًا ، وَلَا مَيْتَةً وَلَا [ ص
79 ] مِئْلَاتٍ وَهِيَ الْمَحَايِضُ وَجَعَلَ لَهُ بَابًا وَمِفْتَاحًا ،
وَقَالَتْ سُبَيعة بِنْتُ الْأَحَبّ بْنِ زَبِينة ، بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ عَوْفِ
بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ ، بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ
بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ وَكَانَتْ عِنْدَ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ
كَعْبِ ، بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ
غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ ، بْنِ كِنَانَةَ لِابْنِ لَهَا
مِنْهُ يُقَالُ لَهُ خَالِدٌ تُعُظّمَ عَلَيْهِ حُرْمَةُ مَكّةَ ، وَتَنْهَاهُ
عَنْ الْبَغْيِ فِيهَا ، وَتَذْكُرُ تُبّعًا وَتُذَلّلُهُ لَهَا ، وَمَا صَنَعَ
بِهَا :
أَبُنَيّ لَا تَظْلِمْ بِمَكّةَ لَاالصّغِيرَ وَلَا الْكَبِيرَ ... وَاحْفَظْ
مَحَارِمَهَا بُنَيّ وَلَا يَغُرّنّكَ الْغَرُورْ
أَبُنَيّ مَنْ يَظْلِمْ بِمَكّةَ يَلْقَ أَطْرَافَ الشّرُورْ ... أَبُنَيّ
يُضْرَبْ وَجْهُهُ وَيَلُحْ بِخَدّيْهِ السّعيرْ
أَبُنَيّ قَدْ جَرّبْتهَا فَوَجَدْت ظَالِمَهَا يَبُورْ ... اللّهُ أَمّنَهَا ،
وَمَا بُنِيَتْ بِعَرْصَتِهَا قُصورْ
وَلَقَدْ غَزَاهَا تُبّعٌ فَكَسَا بَنِيّتَهَا الْحَبِيرْ ... وَأَذَلّ رَبّي
مُلْكَهُ فِيهَا فَأَوْفَى بالنّذُورْ
يَمْشِي إلَيْهَا - حَافِيًا بِفِنَائِهَا - أَلْفَا بَعِيرْ ... يَسْقِيهِمْ
الْعَسَلَ الْمُصَفّى وَالرّحِيضَ مِنْ الشّعِيرْ
وَالْفِيلُ أَهْلَكَ جَيْشَهُ يُرْمُونَ فِيهَا بِالصّخُورْ ... وَالْمُلْكُ فِي
أَقْصَى الْبِلَادِ وَفِي الْأَعَاجِمِ وَالْخَزِيرْ
فَاسْمَعْ إذَا حُدّثْت ، وَافْهَمْ كَيْفَ عَاقِبَةُ الْأُمُورْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يُوقَفُ عَلَى قَوَافِيهَا لَا تُعْرَبُ .S[ ص 78 ] فَكَسَا
الْبَيْتَ الْخَصَفَ . جَمَعَ : خَصَفَةً وَهِيَ شَيْءٌ يُنْسَجُ مِنْ الْخَوْصِ
وَاللّيفِ وَالْخَصَفُ أَيْضًا : ثِيَابٌ غُلَاظٌ . وَالْخَصَفُ لُغَةٌ فِي
الْخَزَفِ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ . وَالْخُصْفُ بِضَمّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الصّاد
هُوَ الْجَوْزُ . وَيُرْوَى أَنّ تُبّعًا لَمّا كَسَا الْبَيْتَ الْمُسُوحَ
وَالْأَنْطَاعَ . انْتَفَضَ الْبَيْتَ فَزَالَ ذَلِكَ عَنْهُ وَفَعَلَ ذَلِكَ
حِينَ كَسَاهُ الْخَصَفَ فَلَمّا كَسَاهُ الْمُلَاءَ وَالْوَصَائِلَ قَبْلَهَا .
وَمِمّنْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ : قَاسِمٌ فِي الدّلَائِلِ . وَأَمّا
الْوَصَائِلُ فَثِيَابٌ مُوَصّلَةٌ مِنْ ثِيَابِ الْيَمَنِ . وَاحِدَتُهَا :
وَصِيلَةٌ . وَقَوْلُهُ وَلَا تَقْرَبُوهُ بِمِئْلَاتٍ وَهِيَ الْمَحَائِضُ . لَمْ
يُرِدْ النّسَاءَ الْحُيّضَ لِأَنّ حَائِضًا لَا [ ص 79 ] مَحَائِضٍ وَإِنّمَا
هِيَ جَمْعُ مَحِيضَة ، وَهِيَ خِرْقَةُ الْمَحِيضِ وَيُقَالُ لِلْخِرْقَةِ
أَيْضًا : مِئْلَاةٌ وَجَمْعُهَا : الْمَآلِي قَالَ الشّاعِرُ
كَأَنّ مُصَفّحَاتٍ فِي ذُرَاهُ ... وَأَنْوَاحًا عَلَيْهِنّ الْمَآلِي
[ ص 80 ] النّوّاحَاتُ بِأَيْدِيهِنّ فَكَانَ الْمِئْلَاتُ كُلّ خِرْقَةٍ دَنِسَةٍ
لِحَيْضِ كَانَتْ أَوْ لِغَيْرِهِ وَزْنُهَا مِفْعَلَة مِنْ أَلَوْت : إذَا
قَصّرْت وَضَيّعْت ، وَجَعَلَهَا صَاحِبُ الْعَيْنِ فِي بَابِ الْإِلْيَةِ
وَالْأَلِيّةِ فَلَامُ الْفِعْلِ عِنْدَهُ يَاءٌ عَلَى هَذَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ
وَيُرْوَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِئْلَاثًا بِثَاءِ مُثَلّثَةٍ وَمِنْ قَوْلِهِ
حِينَ كَسَا الْبَيْتَ
وَكَسَوْنَا الْبَيْتَ الّذِي حَرّمَ اللّهُ ... مُلَاءً مُعَضّدًا وَبُرُودَا
فَأَقَمْنَا بِهِ مِنْ الشّهْرِ عَشْرًا ... وَجَعَلْنَا لُبَابَهُ إقْلِيدًا
وَنَحَرْنَا بِالشّعْبِ سِتّةَ أَلْفٍ ... فَتَرَى النّاسَ نَحْوَهُنّ وُرُودَا
ثُمّ سِرْنَا عَنْهُ نَؤُمّ سُهَيْلًا ... فَرَفَعْنَا لِوَاءَنَا مَعْقُودَا
وَقَالَ الْقُتَبِيّ ، كَانَتْ قِصّةُ تُبّعٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِسَبْعِمِائَةِ
عَامٍ . وَقَوْلُهُ بِنْت الْأَحَبّ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ابْنُ زَبِينَةَ
بِالزّايِ وَالْبَاءِ وَالنّونِ فَعِيلَة مِنْ [ ص 81 ] زَبَانِيّ عَلَى غَيْرِ
قِيَاسٍ . وَلَوْ سُمّيَ بِهِ رَجُلٌ لَقِيلَ فِي النّسَبِ إلَيْهِ . زَبْنِيّ
عَلَى الْقِيَاسِ . قَالَ سِيبَوَيْهِ : الْأَحَبّ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ .
يَقُولُهُ أَهْلُ النّسَبِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ يَقُولُهُ بِالْجِيمِ وَإِنّمَا
قَالَتْ بِنْتُ الْأَحَبّ هَذَا الشّعْرَ فِي حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَ بَنِي
السّبّاقِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ ، وَبَيْنَ بَنِي عَلِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَمِيمٍ
حَتّى تَفَانَوْا . وَلَحِقَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي السّبّاقِ بِعَكّ . فَهُمْ
فِيهِمْ . قَالَ وَهُوَ أَوّلُ بَغْيٍ كَانَ فِي قُرَيْشٍ . وَقَدْ قِيلَ أَوّلُ
بَغْيٍ كَانَ فِي قُرَيْشٍ بَغْيُ الْأَقَايِشِ وَهُمْ بَنُو أُقَيْشٍ مِنْ بَنِي
سَهْمٍ بَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَلَمّا كَثُرَ بَغْيُهُمْ عَلَى النّاسِ
أَرْسَلَ اللّهُ عَلَيْهِمْ فَأْرَةً تَحْمِلُ فَتِيلَةً فَأَخْرَقَتْ الدّارَ
الّتِي كَانَتْ فِيهَا مَسَاكِنُهُمْ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ عَقِبٌ .
كِسْوَةُ الْكَعْبَةِ
وَقَوْلُهَا : وَكَسَا بَنِيّتَهَا الْحَبِيرُ . تُرِيدُ الْحَبِرَاتِ وَالرّحِيضُ
مِنْ الشّعِيرِ أَيْ الْمُنَقّى وَالْمُصَفّى مِنْهُ وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي
غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَوّلُ مَنْ كَسَا الْكَعْبَةَ الدّيبَاجَ الْحَجّاجُ
وَذَكَرَ جَمَاعَةً سِوَاهُ مِنْهُمْ الدّارَقُطْنِيّ . فُتَيْلَةُ بِنْتُ جَنَابٍ
أُمّ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ . كَانَتْ قَدْ أَضَلّتْ الْعَبّاسَ
صَغِيرًا ، فَنَزَرَتْ إنْ وَجَدَتْهُ أَنْ تَكْسُو الْكَعْبَةَ الدّيبَاجَ
فَفَعَلَتْ ذَلِكَ حِينَ وَجَدَتْهُ . وَكَانَتْ مِنْ بَيْتِ مَمْلَكَةٍ
وَسَيَأْتِي ذِكْرُ نَسَبِهَا فِيمَا بَعْدُ - إنْ شَاءَ اللّهُ . وَقَالَ
الزّبَيْرُ النّسّابَةُ بَلْ أَوّلُ مَنْ كَسَاهَا الدّيبَاجَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
الزّبَيْرِ .
أَصْلُ
الْيَهُودِيّةِ بِالْيَمَنِ
[ ص 80 ] خَرَجَ مِنْهَا مُتَوَجّهًا إلَى الْيَمَنِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِهِ
وَبِالْحَبْرَيْنِ حَتّى إذَا دَخَلَ الْيَمَنَ دَعَا قَوْمَهُ إلَى الدّخُولِ
فِيمَا دَخَلَ فِيهِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ حَتّى يُحَاكِمُوهُ إلَى النّارِ الّتِي
كَانَتْ بِالْيَمَنِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي أَبُو مَالِكِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ القُرظِيّ قَالَ سَمِعْت إبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمّدِ
بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ يُحَدّثُ أَنّ تُبّعًا لَمّا دَنَا مِنْ
الْيَمَنِ لِيَدْخُلَهَا حَالَتْ حِمْيَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَقَالُوا :
لَا تَدْخُلْهَا عَلَيْنَا ، وَقَدْ فَارَقْت دِينَنَا ، فَدَعَاهُمْ إلَى دِينِهِ
وَقَالَ إنّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِكُمْ فَقَالُوا : فَحَاكَمَنَا إلَى النّارِ .
قَالَ نَعَمْ . قَالَ وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ - فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْيَمَنِ -
نَارٌ تَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ تَأْكُلُ الظّالِمَ وَلَا
تَضُرّ الْمَظْلُومَ فَخَرَجَ قَوْمُهُ بِأَوْثَانِهِمْ وَمَا يَتَقَرّبُونَ بِهِ
فِي دِينِهِمْ وَخَرَجَ الْحَبْرَانِ بِمَصَاحِفِهِمَا فِي أَعْنَاقِهِمَا
مُتَقَلّدِيهَا ، حَتّى قَعَدُوا لِلنّارِ عِنْدَ مَخْرَجِهَا الّذِي تَخْرَجُ
مِنْهُ فَخَرَجَتْ النّارُ إلَيْهِمْ فَلَمّا أَقْبَلَتْ نَحْوَهُمْ حَادُوا
عَنْهَا وَهَابُوهَا ، فذَمَرهم مَنْ حَضَرَهُمْ مِنْ النّاسِ وَأَمَرُوهُمْ
بِالصّبْرِ لَهَا ، فَصَبَرُوا حَتّى غَشِيَتْهُمْ فَأَكَلَتْ الْأَوْثَانَ وَمَا
قَرّبُوا مَعَهَا ، وَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ مِنْ [ ص 81 ] حِمْيَرَ ، وَخَرَجَ
الْحَبْرَانِ بِمَصَاحِفِهِمَا فِي أَعْنَاقِهِمَا تَعْرَقُ جِبَاهُهُمَا لَمْ
تَضُرّهُمَا ، فَأَصْفَقَتْ عِنْدَ ذَاكَ حِمْيَرُ عَلَى دِينِهِ فَمِنْ هُنَالِكَ
وَعَنْ ذَلِكَ كَانَ أَصْلُ الْيَهُودِيّةِ بِالْيَمَنِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَقَدْ حَدّثَنِي مُحَدّثٌ أَنّ الْحَبْرَيْنِ وَمَنْ خَرَجَ مِنْ حِمْيَرَ ،
إنّمَا اتّبَعُوا النّارَ لِيَرُدّوهَا ، وَقَالُوا : مَنْ رَدّهَا فَهُوَ أَوْلَى
بِالْحَقّ ، فَدَنَا مِنْهَا رِجَالٌ مِنْ حِمْيَرَ بِأَوْثَانِهِمْ لِيَرُدّوهَا
فَدَنَتْ مِنْهُمْ لِتَأْكُلَهُمْ فَحَادُوا عَنْهَا وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا رَدّهَا
، وَدَنَا مِنْهَا الْحَبْرَانِ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَعَلَا يَتْلُوَانِ التّوْرَاةَ
وَتَنْكُصُ عَنْهُمَا ، حَتّى رَدّاهَا إلَى مَخْرَجِهَا الّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ
فَأَصْفَقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ حِمْيَرُ عَلَى دِينِهِمَا . وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ
ذَلِكَ كان .
مَصِيرُ
رِئَامٍ
[ ص 82 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رِئَامٌ بَيْتًا لَهُمْ يُعَظّمُونَهُ
وَيَنْحَرُونَ عِنْدَهُ وَيُكَلّمُونَ مِنْهُ إذْ كَانُوا عَلَى شِرْكِهِمْ
فَقَالَ الْحَبْرَانِ لِتُبّعِ إنّمَا هُوَ شَيْطَانٌ يَفْتِنُهُمْ بِذَلِكَ
فَخَلّ بَيْننَا وَبَيْنه ، قَالَ فَشَأْنُكُمَا بِهِ فَاسْتَخْرَجَا مِنْهُ -
فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْيَمَنِ - كَلْبًا أَسْوَدَ فَذَبَحَاهُ ثُمّ هَدَمَا
ذَلِكَ الْبَيْتَ فَبَقَايَاهُ الْيَوْمَ - كَمَا ذُكِرَ لِي - بِهَا آثَارُ
الدّمَاءِ الّتِي كَانَتْ تُهْرَاق عَلَيْهِ .Sرِئَامٌ
[ ص 82 ] وَذَكَرَ الْبَيْتَ الّذِي كَانَ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ رِئَامٌ ، وَهُوَ
فِعَالٌ مِنْ رَئِمَتْ الْأُنْثَى وَلَدَهَا تَرْأَمهُ رِئْمًا وَرِئَامًا : إذَا
عَطَفَتْ عَلَيْهِ وَرَحِمَتْهُ . فَاشْتَقّوا لِهَذَا الْبَيْتِ اسْمًا لِمَوْضِعِ
الرّحْمَةِ الّتِي كَانُوا يَلْتَمِسُونَ فِي عِبَادَتِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ رِئَامًا كَانَ فِيهِ شَيْطَانٌ
وَكَانُوا يَمْلَئُونَ لَهُ حِيَاضًا مِنْ دِمَاءِ الْقُرْبَانِ فَيَخْرَجُ
فَيُصِيبُ مِنْهَا ، وَيُكَلّمُهُمْ وَكَانُوا يَعْبُدُونَهُ فَلَمّا جَاءَ
الْحَبْرَانِ مَعَ تُبّعٍ نَشَرَا التّوْرَاةَ عِنْدَهُ وَجَعَلَا يَقْرَآنِهَا ؛
فَطَارَ ذَلِكَ الشّيْطَانُ حَتّى وَقَعَ فِي الْبَحْرِ .
مُلْكُ
حَسّانَ بْنِ تُبّانٍ وَقَتْلُ عَمْرٍو أَخِيهِ لَهُ
فَلَمّا مَلَكَ ابْنُهُ حَسّانُ بْنُ تُبّانَ أَسَعْدَ أَبِي كَرِب ، سَارَ
بِأَهْلِ الْيَمَنِ ، يُرِيدُ أَنْ يَطَأَ بِهِ أَرْضَ الْعَرَبِ ، وَأَرْضَ
الْأَعَاجِمِ ، حَتّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ أَرْضِ الْعِرَاقِ - قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : بِالْبَحْرَيْنِ ، فِيمَا ذَكَر لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ - كَرِهَتْ
حِمْيَرُ وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ الْمَسِيرَ مَعَهُ وَأَرَادُوا الرّجْعَةَ إلَى
بِلَادِهِمْ وَأَهْلِهِمْ فَكَلّمُوا أَخًا لَهُ يُقَالُ لَهُ عَمْرٌو ، وَكَانَ
مَعَهُ فِي جَيْشِهِ فَقَالُوا لَهُ اُقْتُلْ أَخَاك حَسّانَ وَنُمَلّك عَلَيْنَا
، وَتَرْجِعُ بِنَا إلَى بِلَادِنَا ، فَأَجَابَهُمْ فَاجْتَمَعْت عَلَى ذَلِكَ
إلّا ذَا رُعَيْن الْحِمْيَرِيّ ، فَإِنّهُ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْبَل
مِنْهُ . فَقَالَ ذُو رَعَيْنَ [ ص 83 ]
أَلَا مَنْ يَشْتَرِي سَهَرًا بِنَوْمِ ... سَعِيدٌ مَنْ يَبِيت قَرِيرَ عَيْنٍ
فَإِمّا حِميَرٌ غَدَرَتْ وَخَانَتْ ... فَمَعْذِرَةُ الْإِلَهِ لِذِي رُعَيْن
ثُمّ كَتَبَهُمَا فِي رُقْعَةٍ وَخَتَمَ عَلَيْهَا ، ثُمّ أَتَى بِهِمَا عَمْرًا ،
فَقَالَ لَهُ ضَعْ لِي هَذَا الْكِتَابَ عِنْدَك ، فَفَعَلَ ثُمّ قَتَلَ عَمْرٌو
أَخَاهُ حَسّانَ وَرَجَعَ بِمَنْ مَعَهُ إلَى الْيَمَنِ . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ
حِمْيَرَ [ ص 84 ]
لَاهِ عَيْنًا الّذِي رَأَى مِثْلَ حَسّانَ ... قَتِيلًا فِي سَالِفِ الْأَحْقَابِ
قَتَلَتْهُ مَقَاوِلُ خَشْيَةَ الْحَبْسِ ... غَدَاةً قَالُوا : لِبَابِ لِبَابِ
مَيْتُكُمْ خَيْرُنَا وَحَيّكُمْ رَبّ ... عَلَيْنَا ، وَكُلّكُمْ أَرْبَابِي
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَوْلُهُ لِبَابِ لِبَابِ لَا بَأْسَ لَا بَأْسَ
بِلُغَةِ حِمْيَرَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : لِبَابِ لِبَابِ .
هَلَاكُ عَمْرٍو
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا نَزَلَ عَمْرُو بْنُ تُبّانَ الْيَمَنَ مُنِعَ
مِنْهُ النّوْمِ وَسُلّطَ عَلَيْهِ السّهَرَ فَلَمّا جَهَدَهُ ذَلِكَ سَأَلَ
الْأَطِبّاءَ والحُزاة مِنْ الْكُهّانِ وَالْعَرّافِينَ عَمّا بِهِ فَقَالَ لَهُ
قَائِلٌ مِنْهُمْ إنّهُ مَا قَتَلَ رَجُلٌ قَطّ أَخَاهُ أَوْ ذَا رَحِمِهِ بَغْيًا
عَلَى مِثْلِ مَا قَتَلْت أَخَاك عَلَيْهِ إلّا ذَهَبَ نَوْمُهُ وَسُلّطَ عَلَيْهِ
السّهَرُ فَلَمّا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ جَعَلَ يَقْتُلُ كُلّ مَنْ أَمَرَهُ بِقَتْلِ
أَخِيهِ حَسّانَ مِنْ أَشْرَافِ الْيَمَنِ ، حَتّى خَلَصَ إلَى ذِي رُعَيْن ،
فَقَالَ لَهُ ذُو رُعَيْن : إنّ لِي عِنْدَك بَرَاءَةٌ فَقَالَ وَمَا هِيَ ؟ قَالَ
الْكِتَابُ الّذِي دَفَعْت إلَيْك ، فَأَخْرَجَهُ فَإِذَا الْبَيْتَانِ فَتَرَكَهُ
وَرَأَى أَنّهُ قَدْ نَصَحَهُ . وَهَلَكَ عَمْرٌو ، فَمَرَجَ أَمْرُ حِمْيَرَ عِنْدَ
ذَلِكَ وَتَفَرّقُوا .Sلُغَةً
وَنَحْوُ وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَمْرٍو أَخِي حَسّانَ وَهُوَ الّذِي كَانَ
يُقَالُ لَهُ مَوْثَبَانُ وَقَدْ تَقَدّمَ لِمَ لُقّبَ بِذَلِكَ . وَقَوْلُ ذِي
رُعَيْن لَهُ فِي الْبَيْتَيْنِ
أَلَا مَنْ يَشْتَرِي سَهَرًا بِنَوْمِ ... سَعِيدٌ مِنْ يَبِيتُ قَرِيرَ عَيْنٍ
[ ص 83 ] أَحَارِ تَرَى بَرْقًا أُرِيك وَمِيضَهُ . أَرَادَ أَتَرَى وَفِي
الْبَيْتِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ بَلْ مَنْ يَبِيتُ قَرِيرَ عَيْنٍ هُوَ السّعِيدُ .
فَحَذَفَ الْخَبَرَ لِدَلَالَةِ أَوّلِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ . وَفِي كِتَابِ ابْنِ
دُرَيْدٍ سَعِيدٌ أَمْ يَبِيتُ بِحَذْفِ مَنْ وَهَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ
الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصّفّةِ مَقَامَهُ لِأَنّ مَنْ هَاهُنَا نَكِرَةٌ
مَوْصُوفَةٌ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الرّاجِزِ
لَوْ قُلْت مَا فِي قَوْمِهَا لَمْ تَأْثَمْ ... يَفْضُلُهَا فِي حَسَبٍ وَمِيسَمِ
أَيْ مَنْ يَفْضُلُهَا ، وَهَذَا ، إنّمَا يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ إذَا كَانَ
الْفِعْلُ مُضَارِعًا لَا مَاضِيًا ، قَالَهُ ابْنُ السّرّاجِ وَغَيْرُهُ . وَذُو
رُعَيْن تَصْغِيرُ رَعْنٍ وَالرّعْنُ أَنْفُ الْجَبَلِ وَرُعَيْن جَبَلٌ
بِالْيَمَنِ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ ذُو رُعَيْن .
وَقَوْلُهُ فِي الْأَبْيَاتِ بَعْدَ هَذَا : لَاهِ مَنْ رَأَى مِثْلَ حَسّانَ
أَرَادَ لِلّهِ وَحَذَفَ لَامَ الْجَرّ وَاللّامّ الْأُخْرَى مَعَ أَلِفِ
الْوَصْلِ وَهَذَا حَذْفٌ كَثِيرٌ . وَلَكِنّهُ جَازَ فِي هَذَا الِاسْمِ خَاصّةً
لِكَثْرَةِ دَوْرِهِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ . مِثْلُ قَوْلِ الْفَرّاءِ لِهَنّكَ
مِنْ بَرَقٍ عَلَيّ كَرِيمٌ . أَرَادَ وَاَللّهِ إنّك . وَقَالَ بَعْضُهُمْ
أَرَادَ لِأَنّك وَأَبْدَلَ الْهَمْزَةَ هَاءً . وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنّ اللّامّ لَا
تُجْمَعُ مَعَ إنّ إلّا أَنْ تُؤَخّرَ اللّامّ إلَى الْخَبَرِ ، لِأَنّهُمَا
حَرْفَانِ مُؤَكّدَانِ وَلَيْسَ انْقِلَابُ الْهَمْزَةِ هَاءً بِمُزِيلِ الْعِلّةِ
الْمَانِعَةِ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا . [ ص 84 ]
الْمَقَاوِلُ
وَقَوْلُهُ قَتَلَتْهُ الْمَقَاوِلُ يُرِيدُ الْأَقْيَالَ وَهُمْ الّذِينَ دُونَ
التّبَابِعَةِ وَاحِدُهُمْ قَيّلٌ مِثْلُ سَيّدٍ ثُمّ خُفّفَ وَاسْتُعْمِلَ
بِالْيَاءِ فِي إفْرَادِهِ وَجَمْعِهِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ الْوَاوَ لِأَنّ
مَعْنَاهُ الّذِي يَقُولُ وَيَسْمَعُ قَوْلَهُ وَلَكِنّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَقُولُوا
: أَقْوَالُ فَيَلْتَبِسُ بِجَمْعِ قَوْلٍ كَمَا قَالُوا : عِيدٌ وَأَعْيَادٌ
وَإِنْ كَانَ مِنْ عَادَ يَعُودُ لَكِنْ أَمَاتُوا الْوَاوَ فِيهِ إمَاتَةً كَيْ
لَا يُشْبِهُ جَمْعَ الْعَوْدِ وَإِذَا أَرَادُوا إحْيَاءَ الْوَاوِ فِي جَمْعِ
قَيّلٌ قَالُوا : مَقَاوِلُ كَأَنّهُ جَمْعُ مِقْوَلٍ أَوْ جَمْعُ : مَقَالٍ
وَمَقَالَةٍ فَلَمْ يَبْعُدُوا مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ وَأَمِنُوا اللّبْسَ وَقَدْ
قَالُوا : مُحَاسِنُ وَمُذَاكِرُ لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا ، وَكَأَنّهُمْ
ذَهَبُوا أَيْضًا فِي مُقَاوِلٍ مَذْهَبَ الْمَرَازِبِ وَهُمْ مُلُوكُ الْعَجَمِ ،
وَاَللّهُ أَعْلَمُ . عَلَى أَنّهُمْ قَالُوا : أَقْيَالٌ وَأَقْوَالٌ وَلَمْ
يَقُولُوا فِي جَمْعِ عِيدٍ إلّا أَعْيَاد ، وَمِثْلُ عِيدٍ وَأَعْيَادٍ . رِيحٌ
وَأَرْيَاحٌ فِي لُغَةِ بَنِي أَسَدٍ وَقَدْ صَرّفُوا مِنْ الْقَيّلِ فِعْلًا ،
وَقَالُوا : قَالَ عَلَيْنَا فُلَانٌ أَيْ مَلَكَ وَالْقِيَالَةُ الْإِمَارَةُ
وَمِنْهُ قَوْلُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي تَسْبِيحِهِ
الّذِي رَوَاهُ التّرْمِذِيّ [ ص 85 ] سُبْحَانَ الّذِي لَبِسَ الْعَزّ وَقَالَ
بِهِ أَيْ مَلَكَ بِهِ وَقَهَرَ . كَذَا فَسّرَهُ الْهَرَوِيّ فِي الْغَرِيبَيْنِ
.
خَبَرٌ
لخنيعة وَذِي نُوَاسٍ
[ ص 85 ] حِمْيَرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ بُيُوتِ الْمَمْلَكَةِ يُقَالُ لَهُ لخنيعة
يَنُوفُ ذُو شَنَاتِرَ فَقَتَلَ خِيَارَهُمْ وَعَبَثَ بِبُيُوتِ أَهْلِ
الْمَمْلَكَةِ مِنْهُمْ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ حِمْيَرَ للخنيعة :
تَقْتُلُ أَبْنَاءَهَا وَتَنْفِي سَرَاتَهَا ... وَتَبْنِي بِأَيْدِيهَا لَهَا
الذّلّ حِمْيَرُ
تُدَمّرُ دُنْيَاهَا بِطَيْشِ حُلُومُهَا ... وَمَا ضَيّعْت مِنْ دِينِهَا فَهُوَ
أَكْثَرُ
كَذَلِكَ الْقُرُونُ قَبْلَ ذَاكَ بِظُلْمِهَا ... وَإِسْرَافِهَا تَأْتِي
الشّرُورُ فَتَخْسَرُ
فَسُوقُ لخنيعة
[ ص 86 ] وَكَانَ لخنيعة امْرِئِ فَاسِقًا يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ، فَكَانَ
يُرْسِلُ إلَى الْغُلَامِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ فَيَقَعُ عَلَيْهِ فِي
مَشْرَبَةٍ لَهُ قَدْ صَنَعَهَا لِذَلِكَ لِئَلّا يَمْلِكُ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمّ
يَطْلُعُ مِنْ مَشْرَبَتِهِ تِلْكَ إلَى حَرَسِهِ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ جُنْدِهِ
قَدْ أَخَذَ مِسْوَاكًا ، فَجَعَلَهُ فِي فِيهِ أَيْ لِيُعْلِمَهُمْ أَنّهُ قَدْ
فَرَغَ مِنْهُ حَتّى بَعَثَ إلَى زُرْعَةَ ذِي نُوَاسِ بْنِ تُبّانَ أَسَعْد أَخِي
حَسّانَ وَكَانَ صَبِيّا صَغِيرًا حِينَ قُتِلَ حَسّانُ ثُمّ شَبّ غُلَامًا
جَمِيلًا وَسِيمًا ، ذَا هَيْئَةٍ وَعَقْلٍ فَلَمّا أَتَاهُ رَسُولُهُ عَرَفَ مَا
يُرِيدُ مِنْهُ فَأَخَذَ سِكّينًا جَدِيدًا لَطِيفًا ، فَخَبَأَهُ بَيْنَ قَدَمِهِ
وَنَعْلِهِ ثُمّ أَتَاهُ فَلَمّا خَلَا مَعَهُ وَثَبَ إلَيْهِ فَوَاثَبَهُ ذُو
نُوَاسٍ ، فَوَجْأَهُ حَتّى قَتَلَهُ . ثُمّ حَزّ رَأْسَهُ فَوَضَعَهُ فِي
الْكُوّةِ الّتِي كَانَ يُشْرِفُ مِنْهَا ، وَوَضَعَ مِسْوَاكَهُ فِي فِيهِ ثُمّ
خَرَجَ عَلَى النّاسِ فَقَالُوا لَهُ ذَا نُوَاسٍ أَرَطْبٌ أَمْ يَبَاسٌ ؟ فَقَالَ
سَلْ نَخْمَاس اسْتُرْطُبَان ذُو نُوَاسٍ . اسْتُرْطُبَان لَا بَأْسَ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا كَلَامُ حِمْيَرَ . وَنَخْمَاس : الرّأْسُ . فَنَظَرُوا
إلَى الْكُوّةِ فَإِذَا رَأْسُ لخنيعة مَقْطُوعٌ فَخَرَجُوا فِي إثْرِ ذِي نُوَاسٍ
حَتّى أَدْرَكُوهُ فَقَالُوا : مَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكُنَا غَيْرُك ، إذْ
أَرَحْتنَا مِنْ هَذَا الْخَبِيثِ . [ ص 87 ]
مُلْكُ ذِي نُوَاسٍ
فَمَلّكُوهُ وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ حِمْيَرُ وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ ، فَكَانَ
آخِرَ مُلُوكِ حِمْيَرَ . وَهُوَ صَاحِبُ الْأُخْدُودِ ، وَتَسَمّى : يُوسُفَ
فَأَقَامَ فِي مُلْكِهِ زَمَانًا .Sخَبَرُ
لخنيعة وَذِي نُوَاسٍ
وَقَالَ فِيهِ ابْنُ دُرَيْدٍ لخنيعة وَقَالَ هُوَ مِنْ اللّخَعِ وَهُوَ
اسْتِرْخَاءٌ فِي الْجِسْمِ وَذُو شَنَاتِرَ . الشّنَاتِرُ الْأَصَابِعُ بِلُغَةِ
حِمْيَرَ ، وَاحِدُهَا : شَنْتَرَةٍ وَذُو نُوَاسٍ اسْمُهُ زُرْعَةُ وَهُوَ مِنْ
قَوْلِهِمْ لِلْغُلَامِ زَرَعَكَ اللّهُ أَيْ أَنْبَتَكَ وَسَمّوْا بِزَارِعِ
كَمَا سَمّوْا بِنَابِتِ وَقَالَ اللّهُ تَعَالَى : { أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ
نَحْنُ الزّارِعُونَ } [ الْوَاقِعَةُ 64 ] أَيْ تُنْبِتُونَهُ وَفِي مُسْنَدِ
وَكِيعِ بْنِ الْجَرّاحِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ الْجَبَلِيّ أَنّهُ كَانَ
يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرّجُلُ زَرَعْت فِي أَرْضِي كَذَا وَكَذَا ، لِأَنّ
اللّهَ هُوَ الزّارِعُ وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ - مَرْفُوعًا - إلَى النّبِيّ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - النّهْيُ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا ، وَقَدْ
تَكَلّمْنَا عَلَى وَجْهِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ هَذَا الْإِمْلَاءِ فَقَدْ
جَاءَ فِي الصّحِيحِ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا ، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا
الْحَدِيثَ . وَفِي كِتَابِ اللّهِ أَيْضًا قَالَ { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ
دَأَبًا } [ يُوسُفُ 47 ] ، وَسُمّيَ ذَا نُوَاسٍ بِغَدِيرَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ
تَنُوسَانِ أَيْ ضَفِيرَتَانِ مِنْ شَعْرٍ وَالنّوْسُ الْحَرَكَةُ وَالِاضْطِرَابُ
فِيمَا كَانَ مُتَعَلّقًا ، قَالَ الرّاجِزُ
لَوْ رَأَتْنِي وَالنّعَاسُ غَالِبِي ... عَلَى الْبَعِيرِ نَائِسًا ذَبَاذِبِي
[ ص 86 ] وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : أَرَادَ بِالذّبَاذِبِ مَذَاكِيرَهُ
وَالْأَوّلُ أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى . وَذَكَرَ قَوْلَ ذِي نُوَاسٍ لِلْحَرَسِ
حِينَ قَالُوا لَهُ أَرَطْبٌ أَمْ يَبَاسٌ وَالْيَبَاسُ وَالْيَبِيسُ مِثْلُ
الْكِبَارِ وَالْكَبِيرِ فَقَالَ لَهُمْ سَلْ نَخْمَاس ، وَالنّخْمَاس فِي
لُغَتِهِمْ هُوَ الرّأْسُ كَمَا ذَكَرَ وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ أَبِي بَحْرٍ الّتِي
قَيّدَهَا عَلِيّ أَبُو الْوَلِيدِ الْوَقْشِي : نَخْمَاس بِنُونِ وَخَاءٍ
مَنْقُوطَةٍ وَلَعَلّ هَذَا هُوَ الصّحِيحُ إذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
النّخْمَاس فِي لُغَتِهِمْ هُوَ الرّأْسُ ثُمّ صُحّفَ وَقَيّدَهُ كُرَاعٌ
بِالتّاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقٍ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ -
فِيمَا ذَكَرَ لِي - وَقَوْلُهُ اسْتُرْطُبَان إلَى آخِرِ الْكَلَامِ مُشْكِلٌ
يُفَسّرُهُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرْجِ فِي الْأَغَانِي قَالَ كَانَ الْغُلَامُ
إذَا خَرَجَ مِنْ عِنْدَ لخنيعة ، وَقَدْ لَاطَ بِهِ قَطَعُوا مَشَافِرَ نَاقَتِهِ
وَذَنَبَهَا : وَصَاحُوا بِهِ أَرَطْبٌ أَمْ يَبَاسٌ فَلَمّا خَرَجَ ذُو نُوَاسٍ
مِنْ عِنْدِهِ وَرَكِبَ نَاقَةً لَهُ يُقَالُ لَهَا : السّرَابُ قَالُوا : ذَا
نُوَاسٍ أَرَطْبٌ أَمْ يَبَاسٌ فَقَالَ " سَتَعْلَمُ الْأَحْرَاسُ اسْت ذِي
نُوَاسٍ اسْتَ رَطْبَانِ أَمْ يَبَاسٍ " فَهَذَا اللّفْظُ مَفْهُومٌ .
وَاَلّذِي وَقَعَ فِي الْأَصْلِ هَذَا مَعْنَاهُ وَلَفْظُهُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا ،
وَلَعَلّهُ تَغْيِيرٌ فِي اللّفْظِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَكَانَ مُلْك لخنيعة
سَبْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَمُلْكُ ذُو نُوَاسٍ بَعْدَهُ ثَمَانِيّا وَسِتّينَ
سَنَةً . قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ .
بَقَايَا
مِنْ أَهْلِ دِينِ عِيسَى بِنَجْرَانَ
وَبِنَجْرَانَ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ
السّلَامُ عَلَى الْإِنْجِيلِ . أَهْلُ فَضْلٍ وَاسْتِقَامَةٍ مِنْ أَهْلِ دِينهمْ
لَهُمْ رَأْسٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الثّامِرِ . وَكَانَ مَوْقِعَ
أَصْلِ ذَلِكَ الدّينِ بِنَجْرَانَ وَهِيَ بِأَوْسَطِ أَرْضِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ
الزّمَانِ وَأَهْلُهَا وَسَائِرُ الْعَرَبِ كُلّهَا أَهْلُ أَوْثَانٍ
يَعْبُدُونَهَا ، وَذَلِكَ أَنّ رَجُلًا مِنْ بَقَايَا أَهْلِ ذَلِكَ الدّينِ
يُقَالُ لَهُ فَيْمِيون ، وَقَعَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَحَمَلَهُمْ عَلَيْهِ .
فَدَانُوا بِهِ .
[ ابْتِدَاءُ وُقُوعِ النّصْرَانِيّةِ بِنَجْرَانَ ]
حَدِيثُ فَيْمِيون
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي لَبِيَدِ مَوْلَى
الْأَخْنَسِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبّهٍ الْيَمَانِيّ أَنّهُ حَدّثَهُمْ أَنّ
مَوْقِعَ ذَلِكَ الدّينِ بِنَجْرَانَ كَانَ أَنّ رَجُلًا مِنْ بَقَايَا أَهْلِ
دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يُقَالُ لَهُ فَيْمِيون ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا
مُجْتَهِدًا زَاهِدًا فِي الدّنْيَا ، مُجَابَ الدّعْوَةِ [ ص 88 ] وَكَانَ
سَائِحًا يَنْزِلُ بَيْنَ الْقُرَى ، لَا يُعْرَفُ بَقَرِيّةٍ إلّا خَرَجَ مِنْهَا
إلَى قَرْيَةٍ لَا يُعْرَفُ بِهَا ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إلّا مِنْ كَسْبِ
يَدَيْهِ . وَكَانَ بَنّاءً يَعْمَلُ الطّينَ وَكَانَ يُعَظّمُ الْأَحَدَ فَإِذَا
كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ شَيْئًا ، وَخَرَجَ إلَى فَلَاةٍ مِنْ
الْأَرْضِ يُصَلّي بِهَا حَتّى يُمْسِيَ . قَالَ وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى
الشّامِ يَعْمَلُ عَمَلَهُ ذَلِكَ مُسْتَخْفِيًا ، فَفَطِنَ لِشَأْنِهِ رَجُلٌ
مِنْ أَهْلِهَا يُقَالُ لَهُ صَالِحٌ فَأَحَبّهُ صَالِحٌ حُبّا لَمْ يُحِبّهُ
شَيْئًا كَانَ قَبْلَهُ . فَكَانَ يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ . وَلَا يَفْطِنُ لَهُ
فَيْمِيون ، حَتّى خَرَجَ مَرّةً فِي يَوْمِ الْأَحَدِ إلَى فَلَاةٍ مِنْ
الْأَرْضِ . كَمَا كَانَ يَصْنَعُ وَقَدْ اتّبَعَهُ صَالِحٌ وفَيْمِيون لَا
يَدْرِي - فَجَلَسَ صَالِحٌ مِنْهُ مَنْظَرَ الْعَيْنِ مُسْتَخْفِيًا مِنْهُ . لَا
يُحِبّ أَنْ يَعْلَمَ بِمَكَانِهِ وَقَامَ فَيْمِيون يُصَلّي ، فَبَيْنَمَا هُوَ
يُصَلّي إذْ أَقْبَلَ نَحْوَهُ التّنّينُ - الْحَيّةُ ذَاتُ الرّءُوسِ السّبْعَةِ
- فَلَمّا رَآهَا فَيْمِيون دَعَا عَلَيْهَا فَمَاتَتْ وَرَآهَا صَالِحٌ وَلَمْ
يَدْرِ مَا أَصَابَهَا ، فَخَافَهَا عَلَيْهِ . فَعِيلَ عَوْلُهُ . فَصَرَخَ يا
فَيْمِيون التّنّينُ قَدْ أَقْبَلَ نَحْوَك ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ
وَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ حَتّى فَرَغَ مِنْهَا وَأَمْسَى ، فَانْصَرَفَ
وَعَرَفَ أَنّهُ قَدْ عَرَفَ وَعَرَفَ صَالِحٌ أَنّهُ قَدْ رَأَى مَكَانَهُ .
فَقَالَ لَهُ يَا فَيْمِيون تَعْلَمُ وَاَللّهِ أَنّي مَا أَحْبَبْت شَيْئًا قَطّ
حُبّك ، وَقَدْ أَرَدْت صُحْبَتَك ، وَالْكَيْنُونَةَ مَعَك حَيْثُ كُنْت ،
فَقَالَ مَا شِئْت . أَمْرِي كَمَا تَرَى ، فَإِنْ عَلِمْت أَنّك تَقْوَى عَلَيْهِ
فَنَعَمْ فَلَزِمَهُ صَالِحٌ وَقَدْ كَادَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ يَفْطِنُونَ
لِشَأْنِهِ وَكَانَ إذَا فَاجَأَهُ الْعَبْدَ بِهِ الضّرّ دَعَا لَهُ فَشُفِيَ
وَإِذَا دُعِيَ إلَى أَحَدٍ بِهِ ضُرّ لَمْ يَأْتِهِ وَكَانَ لِرَجُلِ مِنْ أَهْلِ
الْقَرْيَةِ ابْنٌ ضَرِيرٌ فَسَأَلَ عَنْ شَأْنِ فَيْمِيون ، فَقِيلَ لَهُ إنّهُ
لَا يَأْتِي أَحَدًا دَعَاهُ وَلَكِنّهُ رَجُلٌ يَعْمَلُ لِلنّاسِ الْبُنْيَانَ
بِالْأَجْرِ فَعَمِدَ الرّجُلُ إلَى ابْنِهِ ذَلِكَ فَوَضَعَهُ فِي حُجْرَتِهِ
وَأَلْقَى عَلَيْهِ ثَوْبًا ، ثُمّ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ يَا فَيْمِيون ، إنّي
قَدْ أَرَدْت أَنْ أَعْمَلَ فِي بَيْتِي عَمَلًا ، فَانْطَلِقْ مَعِي إلَيْهِ
حَتّى تَنْظُرَ إلَيْهِ فأُشارِطك عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ مَعَهُ حَتّى دَخَلَ
حُجْرَتَهُ ثُمّ قَالَ لَهُ مَا تُرِيدُ أَنْ تَعْمَلَ فِي بَيْتِك هَذَا ؟ قَالَ
كَذَا وَكَذَا ، ثُمّ انْتَشَطَ الرّجُلُ الثّوْبَ عَنْ الصّبِيّ ثُمّ قَالَ لَهُ
يَا فَيْمِيون ، عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللّهِ أَصَابَهُ مَا تَرَى ، فَادْعُ اللّهَ
لَهُ فَدَعَا لَهُ فَيْمِيون ، فَقَامَ الصّبِيّ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَعَرَفَ
فَيْمِيون أَنّهُ قَدْ عَرَفَ فَخَرَجَ مِنْ الْقَرْيَةِ وَاتّبَعَهُ صَالِحٌ
فَبَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي فِي بَعْضِ [ ص 89 ] الشّامِ ، إذْ مَرّ بِشَجَرَةِ عَظِيمَةٍ
فَنَادَاهُ مِنْهَا رَجُلٌ فَقَالَ يَا فَيْمِيون . قَالَ نَعَمْ . قَالَ مَا
زِلْت أَنْظُرُك ، وَأَقُولُ مَتَى هُوَ جَاءَ ؟ حَتّى سَمِعْت صَوْتَك ،
فَعَرَفَتْ أَنّك هُوَ . لَا تَبْرَحْ حَتّى تَقُومَ عَلَيّ فَإِنّي مَيّتٌ الْآنَ
. قَالَ فَمَاتَ وَقَامَ عَلَيْهِ حَتّى وَارَاهُ ثُمّ انْصَرَفَ وَتَبِعَهُ
صَالِحٌ حَتّى وَطِئَا بَعْضَ أَرْضِ الْعَرَبِ ، فَعَدَوْا عَلَيْهِمَا ،
فَاخْتَطَفَتْهُمَا سَيّارَةٌ مِنْ بَعْضِ الْعَرَبِ ، فَخَرَجُوا بِهِمَا ، حَتّى
بَاعُوهُمَا بِنَجْرَانَ وَأَهْلُ نَجْرَانَ يَوْمئِذٍ عَلَى دِينِ الْعَرَبِ ،
يَعْبُدُونَ نَخْلَةً طَوِيلَةً بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لَهَا عِيدٌ فِي كُلّ سَنَةٍ
إذَا كَانَ ذَلِكَ الْعِيدُ عَلّقُوا عَلَيْهَا كُلّ ثَوْبٍ حَسَنٍ وَجَدُوهُ
وَحُلِيّ النّسَاءِ ثُمّ خَرَجُوا إلَيْهَا ، فَعَكَفُوا عَلَيْهَا يَوْمًا . فَابْتَاعَ
فَيْمِيون رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَابْتَاعَ صَالِحًا آخَرُ فَكَانَ فَيْمِيون
إذَا قَامَ مِنْ اللّيْلِ - يَتَهَجّدُ فِي بَيْتٍ لَهُ أَسْكَنَهُ إيّاهُ
سَيّدُهُ - يُصَلّي ، اسْتَسْرَجَ لَهُ الْبَيْتَ نُورًا ، حَتّى يُصْبِحَ مِنْ
غَيْرِ مِصْبَاحٍ فَرَأَى ذَلِكَ سَيّدُهُ فَأَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْهُ
فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِ فَأَخْبَرَهُ بِهِ وَقَالَ لَهُ فَيْمِيون : إنّمَا
أَنْتُمْ فِي بَاطِلٍ . إنّ هَذِهِ النّخْلَةَ لَا تَضُرّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْ
دَعَوْت عَلَيْهَا إلَهِي الّذِي أَعْبُدُهُ لَأَهْلَكَهَا ، وَهُوَ اللّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَ فَقَالَ لَهُ سَيّدُهُ فَافْعَلْ فَإِنّك إنْ
فَعَلْت دَخَلْنَا فِي دِينِك ، وَتَرَكْنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ . قَالَ فَقَامَ
فَيْمِيون ، فَتَطَهّرَ وَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمّ دَعَا اللّهَ عَلَيْهَا ، فَأَرْسَلَ
اللّهُ عَلَيْهَا رِيحًا فَجَعَفَتْهَا مِنْ أَصْلِهَا فَأَلْقَتْهَا فَاتّبَعَهُ
عِنْدَ ذَلِكَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِهِ فَحَمَلَهُمْ عَلَى الشّرِيعَةِ
مِنْ دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ ثُمّ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ
الْأَحْدَاثُ الّتِي دَخَلَتْ عَلَى أَهْلِ دِينَهُمْ بِكُلّ أَرْضٍ فَمِنْ
هُنَالِكَ كَانَتْ النّصْرَانِيّةُ بِنَجْرَانَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَهَذَا حَدِيثُ وَهْبِ بْنِ مُنَبّهٍ عَنْ أَهْلِ نَجْرَانَ .Sحَدِيثُ
فَيُمْؤُنّ
[ ص 87 ] الطّبَرِيّ أَنّهُ قَالَ فِيهِ قيمؤن بِالْقَافِ وَشَكّ فِيهِ وَقَالَ
الْقُتَبِيّ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ آلِ جَفْنَةَ مِنْ غَسّانَ جَاءَهُمْ مِنْ الشّامِ
، فَحَمَلَهُمْ عَلَى دِينِ عِيسَى - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَلَمْ يُسَمّهِ
وَقَالَ فِيهِ النّقّاشُ اسْمُهُ يَحْيَى ، وَكَانَ أَبُوهُ مَلِكًا فَتُوُفّيَ
وَأَرَادَ قَوْمَهُ أَنْ يُمَلّكُوهُ بَعْدَ أَبِيهِ فَفَرّ مِنْ الْمُلْكِ
وَلَزِمَ السّيَاحَةَ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ قِصّةَ الرّجُلِ الّذِي دَعَا لِابْنِهِ
فَشُفِيَ بِأَتَمّ مِمّا ذَكَرَهَا ابْنُ إسْحَاقَ ، قَالَ فَيُمْؤُنّ حِينَ
دَخَلَ مَعَ الرّجُلِ وَكَشَفَ لَهُ عَنْ ابْنِهِ " اللّهُمّ عَبْدٌ مِنْ
عِبَادِك دَخَلَ عَلَيْهِ عَدُوّك فِي نِعْمَتِك ، لِيُفْسِدَهَا عَلَيْهِ
فَاشْفِهِ وَعَافِهِ وَامْنَعْهُ مِنْهُ " ، فَقَامَ الصّبِيّ : لَيْسَ بِهِ
بَأْسٌ فَتَبَيّنَ مِنْ هَذَا أَنّ الصّبِيّ كَانَ مَجْنُونًا لِقَوْلِهِ دَخَلَ
عَلَيْهِ عَدُوّك ، يَعْنِي : الشّيْطَانَ وَلَيْسَ هَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ
إسْحَاقَ . [ ص 88 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي الرّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ
مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرظِيّ ، وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ ، وَمَا ذَكَرُوهُ
مِنْ خَبَرِ فَيُمْؤُنّ قَالَ وَلَمْ يُسَمّوهُ لِي بِالِاسْمِ الّذِي سَمّاهُ
ابْنُ مُنَبّهٍ . قَالَ الْمُؤَلّفُ رَحِمَهُ اللّهُ يَحْتَمِلُ أَنّهُمْ سَمّوْهُ
يَحْيَى ، وَهُوَ الِاسْمُ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ وَمَا قَالَهُ النّقّاشُ
وَالْقُتَبِيّ . وَفِيهِ ذِكْرُ قَرْيَةِ نَجْرَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
وَنَجْرَانُ اسْمُ رَجُلٍ كَانَ أَوّلَ مَنْ نَزَلَهَا ، فَسُمّيَتْ بِهِ وَهُوَ
نَجْرَانُ بْنُ زَيْدِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ . قَالَهُ
الْبَكْرِيّ . [ ص 89 ] وَذَكَرَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ، وَمَا أَنَزَلَ اللّهُ
تَعَالَى فِيهِمْ وَقَدْ رَوَى ابْنُ سَنْجَرٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ
الّذِينَ خَدّدُوا الْأُخْدُودَ ثَلَاثَةٌ تُبّعٌ صَاحِبُ الْيَمَنِ ،
وَقُسْطَنْطِين ابْنُ هِلَانِي - وَهِيَ أُمّهُ حِينَ صَرَفَ النّصَارَى عَنْ التّوْحِيدِ
وَدِينِ الْمَسِيحِ إلَى عِبَادَةِ الصّلِيبِ وَبُخْتُنَصّرَ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ
حِينَ أَمَرَ النّاسَ أَنْ يَسْجُدُوا إلَيْهِ فَامْتَنَعَ دَانْيَالُ
وَأَصْحَابُهُ فَأَلْقَاهُمْ فِي النّارِ فَكَانَتْ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَيْهِمْ
وَحَرَقَ الّذِينَ بَغَوْا عَلَيْهِمْ .
أَمْرُ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ وَقِصّةُ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ
فَيْمِيون وَالسّاحِرُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 90 ] يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ
القُرظِيّ ، وَحَدّثَنِي أَيْضًا بَعْضُ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ أَهْلِهَا : أَنّ
أَهْلَ نَجْرَانَ كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَكَانَ فِي
قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا قَرِيبًا مِنْ نَجْرَانَ - وَنَجْرَانُ : الْقَرْيَةُ
الْعُظْمَى الّتِي إلَيْهَا جِمَاعُ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ - سَاحِرٌ يُعَلّمُ
غِلْمَانَ أَهْلِ نَجْرَانَ السّحْرَ فَلَمّا نَزَلَهَا فَيْمِيون - وَلَمْ
يُسَمّوهُ لِي بِاسْمِهِ الّذِي سَمّاهُ بِهِ وَهْبُ بْنُ مُنَبّهٍ ، قَالُوا :
رَجُلٌ نَزَلَهَا - ابْتَنَى خَيْمَةً بَيْنَ نَجْرَانَ ، وَبَيْنَ تِلْكَ
الْقَرْيَةِ الّتِي بِهَا السّاحِرُ فَجَعَلَ أَهْلُ نَجْرَانَ يُرْسِلُونَ
غِلْمَانَهُمْ إلَى ذَلِكَ السّاحِرِ يُعَلّمُهُمْ السّحْرَ فَبَعَثَ إلَيْهِ
الثّامِرُ ابْنَهُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الثّامِرِ مَعَ غِلْمَانِ أَهْلِ نَجْرَانَ
، فَكَانَ إذَا مَرّ بِصَاحِبِ الْخَيْمَةِ أَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْهُ مِنْ
صَلَاتِهِ وَعِبَادَتِهِ فَجَعَلَ يَجْلِسُ إلَيْهِ وَيَسْمَعُ مِنْهُ حَتّى
أَسْلَمَ ، فَوَحّدَ اللّهَ وَعَبَدَهُ وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ شَرَائِعِ
الْإِسْلَامِ حَتّى إذَا فَقِهَ فِيهِ جَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ الِاسْمِ
الْأَعْظَمِ - وَكَانَ يُعَلّمُهُ - فَكَتَمَهُ إيّاهُ وَقَالَ لَهُ يَا بْنَ
أَخِي إنّك لَنْ تَحْمِلَهُ [ ص 91 ] أَخْشَى عَلَيْك ضَعْفَك عَنْهُ -
وَالثّامِرُ أَبُو عَبْدِ اللّهِ لَا يَظُنّ إلّا أَنّ ابْنَهُ يَخْتَلِفُ إلَى
السّاحِرِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْغِلْمَانُ فَلَمّا رَأَى عَبْدُ اللّهِ أَنّ
صَاحِبَهُ قَدْ ضَنّ بِهِ عَنْهُ وَتَخَوّفَ ضَعْفَهُ فِيهِ عَمِدَ إلَى قِدَاحٍ
فَجَمَعَهَا ، ثُمّ لَمْ يُبْقِ لِلّهِ اسْمًا يَعْلَمُهُ إلّا كَتَبَهُ فِي
قِدْحٍ لِكُلّ اسْمٍ قِدْحٌ حَتّى إذَا أَحْصَاهَا أَوْقَدَ لَهَا نَارًا ، ثُمّ
جَعَلَ يَقْذِفُهَا فِيهَا قِدْحًا قِدْحًا ، حَتّى إذَا مَرّ بِالِاسْمِ
الْأَعْظَمِ قَذَفَ فِيهَا بِقِدْحِهِ فَوَثَبَ الْقِدْحُ حَتّى خَرَجَ مِنْهَا
لَمْ تَضُرّهُ شَيْئًا فَأَخَذَهُ ثُمّ أَتَى صَاحِبَهُ [ ص 92 ] فَأَخْبَرَهُ
بِأَنّهُ قَدْ عَلِمَ الِاسْمَ الّذِي كَتَمَهُ فَقَالَ وَمَا هُوَ ؟ قَالَ هُوَ
كَذَا وَكَذَا ، قَالَ وَكَيْفَ عَلِمْته ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ قَالَ أَيْ
ابْنَ أَخِي ، قَدْ أَصَبْته فَأَمْسِكْ عَلَى نَفْسِك ، وَمَا أَظُنّ أَنْ
تَفْعَلَ .Sخَبَرُ
ابْنِ الثّامِرِ
التّفَاضُلُ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ الْإِلَهِيّةِ
[ ص 90 ] وَذَكَرَ فِيهِ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ وَقَوْلُ الرّاهِبِ لَهُ إنّك لَنْ
تُطِيقَهُ . أَيْ لَنْ تُطِيقَ شُرُوطَهُ وَالِانْتِهَاضَ بِمَا يَجِبُ مِنْ
حَقّهِ وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِ اللّهِ تَعَالَى : { قَالَ الّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ
مِنَ الْكِتَابِ } [ النّمْلُ 40 ] إنّهُ أُوتِيَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ الّذِي
إذَا دُعِيَ اللّهُ بِهِ أَجَابَ وَهُوَ آصَفُ بْنُ برخيا فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ . وَأَعْجَبُ مَا قِيلَ فِيهِ إنّهُ ضَبّةُ بْنُ أُدّ بْنِ
طَابِخٍ قَالَهُ النّقّاشُ وَلَا يَصِحّ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا
الْعُلَمَاءُ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى تَرْكِ التّفْضِيلِ بَيْنَ أَسْمَاءِ
اللّهِ تَعَالَى ، وَقَالُوا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ
أَعْظَمَ مِنْ الِاسْمِ الْآخَرِ وَقَالُوا : إذَا أَمَرَ فِي خَبَرٍ أَوْ أَثَرَ
ذِكْرَ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ فَمَعْنَاهُ الْعَظِيمُ كَمَا قَالُوا : إنّي
لَأُوجِلَ أَيْ وَجِلًا ، وَكَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي أَكْبَرِ مِنْ قَوْلِك :
اللّهُ أَكْبَرُ إنّ أَكْبَرَ بِمَعْنَى كَبِيرٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ
سِيبَوَيْهِ ، وَذَكَرُوا أَنّ أَهْوَنَ بِمَعْنَى : هَيّنٍ مِنْ قَوْلِهِ عَزّ
وَجَلّ { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الرّومُ : 27 ] وَأَكْثَرُوا
الِاسْتِشْهَادَ عَلَى هَذَا وَنَسَبَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطّالٍ هَذَا
الْقَوْلَ إلَى جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ ، وَالْقَابِسِيّ وَغَيْرُهُمَا
، وَمِمّا احْتَجّوا بِهِ أَيْضًا : أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - لَمْ يَكُنْ لِيُحَرّمَ الْعِلْمَ بِهَذَا الِاسْمِ وَقَدْ عَلِمَهُ
مَنْ هُوَ دُونَهُ مَنْ لَيْسَ بِنَبِيّ وَلَمْ يَكُنْ لِيَدْعُوَ حِينَ اجْتَهَدَ
فِي الدّعَاءِ لِأُمّتِهِ أَلّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ وَهُوَ رَءُوفٌ
بِهِمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ عَنَتُهُمْ إلّا بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ لِيُسْتَجَابَ
لَهُ فِيهِ فَلَمّا مُنِعَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنّهُ لَيْسَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ
اللّهِ إلّا وَهُوَ [ ص 91 ] كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ فِي الْحُكْمِ وَالْفَضِيلَةِ
يَسْتَجِيبُ اللّهُ إذَا دُعِيَ بِبَعْضِهَا إنْ شَاءَ وَيَمْنَعُ إذَا شَاءَ
وَقَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرّحْمَنَ أَيّا
مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ الْإِسْرَاءُ 115 ] ، وَظَاهِرُ
هَذَا الْكَلَامِ التّسْوِيَةُ بَيْنَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى ، وَكَذَلِكَ ذَهَبَ
هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ
اللّهِ تَعَالَى أَفَضْلَ مِنْ شَيْءٍ لِأَنّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ مِنْ رَبّ وَاحِدٍ
فَيَسْتَحِيلُ التّفَاضُلُ فِيهِ . قَالَ الشّيْخُ الْفَقِيهُ الْحَافِظُ أَبُو
الْقَاسِمِ - عَفَا اللّهُ عَنْهُ وَجْهُ اسْتِفْتَاحِ الْكَلَامِ مَعَهُمْ أَنْ
يُقَالَ هَلْ يَسْتَحِيلُ هَذَا عَقْلًا ، أَمْ يَسْتَحِيلُ شَرْعًا ؟ وَلَا
يَسْتَحِيلُ عَقْلًا أَنْ يُفَضّلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ عَمَلًا مِنْ الْبِرّ عَلَى
عَمَلٍ وَكَلِمَةً مِنْ الذّكْرِ عَلَى كَلِمَةٍ فَإِنّ التّفْضِيلَ رَاجِعٌ إلَى
زِيَادَةِ الثّوَابِ وَنُقْصَانِهِ وَقَدْ فُضّلَتْ الْفَرَائِضُ عَلَى
النّوَافِلِ بِإِجْمَاعِ وَفُضّلَتْ الصّلَاةُ وَالْجِهَادُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ
الْأَعْمَالِ وَالدّعَاءِ وَالذّكْرُ عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ فَلَا يَبْعُدُ
أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ مِنْ بَعْضٍ وَأَجْزَلَ
ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ مِنْ بَعْضٍ وَالْأَسْمَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسَمّى ،
وَهِيَ مِنْ كَلَامِ اللّهِ سُبْحَانَهُ الْقَدِيمِ وَلَا نَقُولُ فِي كَلَامِ
اللّهِ هُوَ هُوَ وَلَا هُوَ غَيْرُهُ كَذَلِكَ لَا نَقُولُ فِي أَسْمَائِهِ
الّتِي تَضَمّنَهَا كَلَامُهُ إنّهَا هُوَ وَلَا هِيَ غَيْرُهُ فَإِنْ تَكَلّمْنَا
نَحْنُ بِهَا بِأَلْسِنَتِنَا الْمَخْلُوقَةِ وَأَلْفَاظِنَا الْمُحْدَثَةِ
فَكَلَامُنَا عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِنَا ، وَاَللّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -
يَقُولُ { وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصّافّاتُ 3 ] ، وَقُبْحًا
لِلْمُعْتَزِلَةِ ؛ فَإِنّهُمْ زَعَمُوا أَنّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَأَسْمَاؤُهُ
عَلَى أَصْلِهِمْ الْفَاسِدِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ الْمُسَمّى بِهَا ، وَسَوّوْا
بَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِ فِي [ ص 92 ] ثَبَتَ هَذَا ،
وَصَحّ جَوَازُ التّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ إذَا دَعَوْنَا بِهَا ،
فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَفْضِيلِ السّوَرِ وَالْآيِ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ
فَإِنّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى التّلَاوَةِ الّتِي هِيَ عَمَلُنَا ، لَا إلَى
الْمَتْلُوّ الّذِي هُوَ كَلَامُ رَبّنَا ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الْقَدِيمَةِ
وَقَدْ قَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأُبَيّ أَيّ آيَةٍ مَعَك فِي
كِتَابِ اللّهِ أَعْظَمُ ؟ فَقَالَ اللّهُ لَا إلَهَ إلّا هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ
فَقَالَ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ وَمُحَالٌ أَنْ يُرِيدَ
بِقَوْلِهِ أَعْظَمُ مَعْنًى عَظِيمٌ لِأَنّ الْقُرْآنَ كُلّهُ عَظِيمٌ فَكَيْفَ
يَقُولُ لَهُ أَيّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ عَظِيمَةٌ وَكُلّ آيَةٍ فِيهِ عَظِيمَةٌ
كَذَلِكَ ؟ وَكُلّ مَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَكْبَرُ بِمَعْنَى
كَبِيرٍ وَأَهْوَنُ بِمَعْنَى هَيّنٍ بَاطِلٍ عِنْدَ حُذّاقِ النّحَاةِ وَلَوْلَا
أَنْ نَخْرُجَ عَمّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ لَأَوْضَحْنَا بُطْلَانَهُ بِمَا لَا
قِبَلَ لَهُمْ بِهِ وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا فِي الْعَرَبِيّةِ مَا جَازَ أَنْ
يُحْمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ " أَيّ آيَةٍ مَعَك فِي كِتَابِ اللّهِ أَعْظَمُ
" ، لِأَنّ الْقُرْآنَ كُلّهُ عَظِيمٌ وَإِنّمَا سَأَلَهُ عَنْ الْأَعْظَمِ
مِنْهُ وَالْأَفْضَلِ فِي ثَوَابِ التّلَاوَةِ وَقُرْبِ الْإِجَابَةِ وَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى ثُبُوتِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ وَأَنّ لِلّهِ
اسْمًا هُوَ أَعْظَمُ أَسْمَائِهِ وَمُحَالٌ أَنْ يَخْلُو الْقُرْآنُ عَنْ ذَلِكَ الِاسْمِ
وَاَللّهُ تَعَالَى يَقُولُ { مَا فَرّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [
الْأَنْعَامُ 38 ] ، فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ لَا مُحَالَةَ . وَمَا كَانَ اللّهُ
لِيُحَرّمَهُ مُحَمّدًا ، وَأُمّتَهُ وَقَدْ فَضّلَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ
وَفَضّلَهُمْ عَلَى الْأُمَمِ فَإِنْ قُلْت : فَأَيْنَ هُوَ فِي الْقُرْآنِ ؟
فَقَدْ قِيلَ إنّهُ أُخْفِيَ فِيهِ كَمَا أُخْفِيَتْ السّاعَةُ فِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ لِيَجْتَهِدَ النّاسُ وَلَا
يَتّكِلُوا . قَالَ الْفَقِيهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ - رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ - فِي قَوْلِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأُبَيّ أَيّ
آيَةٍ مَعَك فِي كِتَابِ اللّهِ أَعْظَمُ وَلَمْ يَقُلْ أَفَضْلُ إشَارَةً إلَى
الِاسْمِ الْأَعْظَمِ أَنّهُ فِيهَا ، إذْ لَا يُتَصَوّرُ أَنْ تَكُونَ هِيَ
أَعْظَمُ آيَةً وَيَكُونُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ فِي أُخْرَى دُونَهَا . بَلْ
إنّمَا صَارَتْ أَعْظَمَ الْآيَاتِ لِأَنّ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ فِيهَا . أَلَا
تَرَى كَيْفَ هَنّأَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أُبَيّا ،
بِمَا أَعْطَاهُ اللّهُ تَعَالَى مِنْ الْعِلْمِ وَمَا هَنّأَهُ إلّا بِعَظِيمِ
بِأَنْ عَرَفَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ وَالْآيَةُ الْعُظْمَى الّتِي كَانَتْ
الْأُمَمُ قَبْلَنَا لَا يَعْلَمُهُ مِنْهُمْ إلّا الْأَفْرَادُ عَبْدُ اللّهِ
بْنُ الثّامِرِ ، وآصف صَاحِبُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَبُلْعُوم قَبْلَ
أَنْ يَتّبِعَهُ الشّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ وَقَدْ جَاءَ مَنْصُوصًا
فِي حَدِيثِ أُمّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - الّذِي خَرّجَهُ
التّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُدَ ، وَيُرْوَى أَيْضًا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ
- وَكُنْيَتُهَا : أُمّ سَلَمَةَ [ ص 93 ] سَأَلَتْ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِي هَاتِينَ الْآيَتَيْنِ { اللّهُ لَا إِلَهَ
إِلّا هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ } و { الم اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ الْحَيّ
الْقَيّومُ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ { هُوَ الْحَيّ لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ
فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ } الْآيَةَ أَيْ فَادْعُوهُ بِهَذَا الِاسْمِ
ثُمّ قَالَ { الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } تَنْبِيهًا لَنَا عَلَى
حَمْدِهِ وَشُكْرِهِ إذْ عَلِمْنَا مِنْ هَذَا الِاسْمِ الْعَظِيمِ مَا لَمْ
نَكُنْ نَعْلَمُ فَإِنْ قُلْت : فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتّرْمِذِيّ
أَيْضًا أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَمِعَ رَجُلًا -
وَهُوَ زَيْدٌ أَبُو عَيّاشٍ الزّرَقِيّ - ذَكَرَ اسْمَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي
أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ - يَقُولُ " اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُك ، بِأَنّ لَك
الْحَمْدُ لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ الْمَنّانُ بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ذُو
الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فَقَالَ لَقَدْ دَعَا اللّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ .
وَيُرْوَى أَنّهُ قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَفَرَ اللّهُ لَهُ غَفَرَ
اللّهُ لَهُ . وَرَوَى التّرْمِذِيّ نَحْوَ هَذَا فِيمَنْ قَالَ اللّهُمّ إنّي
أَسْأَلُك ؛ فَإِنّك اللّهُ الّذِي لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصّمَدُ الّذِي
لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُولَدْ وَهَذَا مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ أُمّ سَلَمَةَ قُلْنَا :
لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذَا ، وَبَيْنَ مَا تَقَدّمَ فَإِنّا لَمْ نَقُلْ إنّ
الِاسْمَ الْأَعْظَمَ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ بَلْ الْحَيّ الْقَيّومُ صِفَتَانِ
تَابِعَتَانِ لِلِاسْمِ الْأَعْظَمِ . وَتَتْمِيمٌ لِذِكْرِهِ وَكَذَلِكَ
الْمَنّانُ . وَذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَقَدْ
خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ أَيْضًا فِي الدّعَوَاتِ وَكَذَلِكَ الْأَحَدُ الصّمَدُ فِي
حَدِيثِ التّرْمِذِيّ . وَقَوْلُك : اللّهُ لَا إلَهَ إلّا هُوَ هُوَ الِاسْمُ
لِأَنّهُ لَا سَمِيّ لَهُ وَلَمْ يَتّسِمْ بِهِ غَيْرُهُ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ فِي التّسْعَةِ وَالتّسْعِينَ اسْمًا : إنّهَا كُلّهَا تَابِعَةٌ
لِلِاسْمِ الّذِي هُوَ اللّهُ وَهُوَ تَمَامُ الْمِائَةِ فَهِيَ مِائَةٌ عَلَى
عَدَدِ دَرَجِ الْجَنّةِ إذْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصّحِيحِ أَنّهَا مِائَةُ دَرَجَةٍ
بَيْنَ كُلّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ وَقَالَ فِي الْأَسْمَاءِ
" مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنّةَ " فَهِيَ عَلَى عَدَد دَرَجِ
الْجَنّةِ وَأَسْمَاؤُهُ تَعَالَى [ ص 94 ] تُحْصَى ، وَإِنّمَا هَذِهِ
الْأَسْمَاءُ هِيَ الْمُفَضّلَةُ عَلَى غَيْرِهَا ، وَالْمَذْكُورَةِ فِي
الْقُرْآنِ . يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الصّحِيحِ أَسْأَلُك بِأَسْمَائِك
الْحُسْنَى مَا عَلِمْت مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ وَوَقَعَ فِي جَامِعِ ابْنِ
وَهْبٍ : سُبْحَانَك لَا أُحْصِي أَسَمَاءَك وَمِمّا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ الِاسْمُ
الْأَعْظَمُ أَنّك تُضِيفُ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ إلَيْهِ وَلَا تُضِيفُهُ إلَيْهَا
. تَقُولُ الْعَزِيزُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللّهِ وَلَا تَقُلْ اللّهُ اسْمٌ مِنْ
أَسْمَاءِ الْعَزِيزِ وَفُخّمَتْ اللّامّ مِنْ اسْمِهِ - وَإِنْ كَانَتْ لَا
تُفَخّمُ لَامٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إلّا مَعَ حُرُوفِ الْإِطْبَاقِ نَحْوُ
الطّلَاقِ وَلَا تُفَخّمُ لَامٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ
الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي أَسْمَائِهِ الّتِي لَيْسَتْ بِمُسْتَعْلِيَةِ إلّا
فِي هَذَا الِاسْمِ الْعَظِيمِ الْمُنْتَظَمِ مِنْ أَلِفٍ وَلَامَيْنِ وَهَاءٍ .
فَالْأَلِفُ مِنْ مَبْدَأِ الصّوْتِ وَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إلَى مَخْرَجِ الْأَلِفِ
فَشَاكَلَ اللّفْظ الْمَعْنَى ، وَطَابَقَهُ لِأَنّ الْمُسَمّى بِهَذَا الِاسْمِ
مِنْهُ الْمَبْدَأُ وَإِلَيْهِ الْمَعَادُ . وَالْإِعَادَةُ أَهْوَنُ مِنْ
الِابْتِدَاءِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ فَكَذَلِكَ الْهَاءُ أَخَفّ وَأَلْيَنُ فِي
اللّفْظِ مِنْ الْهَمْزَةِ الّتِي هِيَ مَبْدَأُ الِاسْمِ . أُخْبِرْت بِهَذَا
الْكَلَامِ أَوْ نَحْوِهِ فِي الِاسْمِ وَحُرُوفِهِ عَنْ ابْنِ فَوْرَكٍ رَحِمَهُ
اللّهُ . ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ شَيْخُنَا فِي كِتَابِ شَرْحِ الْأَسْمَاءِ
الْحُسْنَى لَهُ . فَإِنْ قِيلَ فَأَيْنَ مَا ذَكَرُوهُ عَنْ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ
وَأَنّهُ لَا يُدْعَى اللّهُ بِهِ إلّا أَجَابَ وَلَا يُسْأَلُ بِهِ شَيْئًا إلّا
أَعْطَاهُ . قُلْنَا : عَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّ هَذَا الِاسْمَ
كَانَ عِنْدَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا - إذَا عَلِمَهُ - مَصُونًا غَيْر مُبْتَذَلٍ
مُعَظّمًا لَا يَمَسّهُ إلّا طَاهِرٌ وَلَا يَلْفِظُ بِهِ إلّا طَاهِرٌ وَيَكُونُ
الّذِي يَعْرِفُهُ عَامِلًا بِمُقْتَضَاهُ مُتَأَلّهًا مُخْبِتًا ، قَدْ امْتَلَأَ
قَلْبُهُ بِعَظَمَةِ الْمُسَمّى بِهِ لَا يَلْتَفِتُ إلَى غَيْرِهِ وَلَا يَخَافُ
سِوَاهُ فَلَمّا اُبْتُذِلَ وَتُكُلّمَ بِهِ فِي مَعْرِضِ الْبَطَالَاتِ وَالْهَزْلِ
وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ ذَهَبَتْ مِنْ الْقُلُوبِ هَيْبَتُهُ فَلَمْ يَكُنْ
فِيهِ مِنْ سُرْعَةِ الْإِجَابَةِ وَتَعْجِيلِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ لِلدّاعِي مَا
كَانَ قَبْلُ . أَلَا تَرَى قَوْلَ أَيّوبَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي بَلَائِهِ
" قَدْ كُنْت أَمُرّ بِالرّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللّهَ -
يَعْنِي فِي تَنَازُعِهِمَا ، أَيْ تَخَاصُمِهِمَا - فَأَرْجِعُ إلَى بَيْتِي ،
فَأُكَفّرُ عَنْهُمَا كَرَاهَةَ أَنْ يُذْكَرَ اللّهُ إلّا فِي حَقّ وَفِي
الْحَدِيثِ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَرِهْت أَنْ
أَذْكُرَ اللّهَ إلّا عَلَى طُهْرٍ فَقَدْ لَاحَ لَك تَعْظِيمُ الْأَنْبِيَاءِ
لَهُ . [ ص 95 ] الثّانِي : أَنّ الدّعَاءَ بِهِ إذَا كَانَ مِنْ الْقَلْبِ وَلَمْ
يَكُنْ بِمُجَرّدِ اللّسَانِ اُسْتُجِيبَ لِلْعَبْدِ غَيْرَ أَنّ الِاسْتِجَابَةَ تَنْقَسِمُ
كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - إمّا أَنْ يُعَجّلَ لَهُ مَا سَأَلَ وَإِمّا
أَنْ يَدّخِرَ لَهُ وَذَلِكَ خَيْرٌ مِمّا طَلَبَ وَإِمّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ
مِنْ الْبَلَاءِ بِقَدْرِ مَا سَأَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَأَمّا دُعَاءُ النّبِيّ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأُمّتِهِ أَلّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ
بَيْنَهُمْ فَمَنَعَهَا ، فَقَدْ أُعْطِيَ عِوَضًا لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الشّفَاعَةِ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ قَالَ أُمّتِي هَذِهِ أُمّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ
عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَذَابُهَا فِي الدّنْيَا : الزّلَازِلُ
وَالْفِتَنُ خَرّجَهُ أَبُو دَاوُدَ ، فَإِذَا كَانَتْ الْفِتَنُ سَبَبًا لِصَرْفِ
عَذَابِ الْآخِرَةِ عَنْ الْأُمّةِ فَمَا خَابَ دُعَاؤُهُ لَهُمْ . عَلَى أَنّنِي
تَأَمّلْت هَذَا الْحَدِيثَ وَتَأَمّلْت حَدِيثَهُ الْآخَرَ حِينَ نَزَلَتْ { قُلْ
هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } [
الْأَنْعَامُ 65 ] . فَقَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِك . فَلَمّا سَمِعَ { أَوْ مِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِك ، فَلَمّا سَمِعَ { أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قَالَ هَذِهِ أَهْوَنُ
فَمِنْ هَاهُنَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أُعِيذَتْ أُمّتُهُ مِنْ الْأُولَى
وَالثّانِيَةِ وَمُنِعَ الثّالِثَةُ حِينَ سَأَلَهَا بَعْدُ . وَقَدْ عَرَضْت
هَذَا الْكَلَامَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ فُقَهَاءِ زَمَانِنَا ، فَقَالَ هَذَا حَسَنٌ
جِدّا ، غَيْرَ أَنّا لَا [ ص 96 ] أَكَانَتْ مَسْأَلَتُهُ بَعْدَ نُزُولِ
الْآيَةِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ فَأَخْلِقْ بِهَذَا
النّظَرِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا . قُلْت لَهُ أَلَيْسَ فِي الْمُوَطّأِ أَنّهُ دَعَا
بِهَا فِي مَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ ، وَلَا خِلَافَ
أَنّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ مَكّيّةٌ ؟ فَقَالَ نَعَمْ وَسَلّمَ وَأَذْعَنَ
لِلْحَقّ وَأَقَرّ بِهِ . رَحِمَهُ اللّهُ .
هَلْ الشّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ ؟
فَصْلٌ وَذَكَرَ مِنْ وَجْدَانِ عَبْدِ اللّهِ فِي خَرِبَةٍ مِنْ خِرَبِ نَجْرَانَ
. يُصَدّقُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَا تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ } [ آلُ عِمْرَانَ : 169 ] الْآيَةَ
وَمَا وُجِدَ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ ، وَغَيْرِهِمْ
عَلَى هَذِهِ الصّورَةِ لَمْ يَتَغَيّرُوا بَعْدَ الدّهُورِ الطّوِيلَةِ
كَحَمْزَةِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فَإِنّهُ وُجِدَ
حِينَ حَفَرَ مُعَاوِيَةُ الْعَيْنَ صَحِيحًا لَمْ يَتَغَيّرْ وَأَصَابَتْ الْفَأْسُ
أُصْبُعَهُ فَدَمِيَتْ وَكَذَلِكَ أَبُو جَابِرٍ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حَرَامٍ
وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ ، وَطَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ - رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُمْ - اسْتَخْرَجَتْهُ بِنْتُهُ عَائِشَةُ مِنْ قَبْرِهِ حِينَ رَأَتْهُ فِي
الْمَنَامِ فَأَمَرَهَا أَنْ تَنْقُلَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ فَاسْتَخْرَجَتْهُ مِنْ
مَوْضِعِهِ بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَمْ يَتَغَيّرْ . ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ
فِي الْمَعَارِفِ . وَالْأَخْبَارُ بِذَلِكَ صَحِيحَةٌ . وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ
طَرِيقِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ يُصَلّونَ فِي قُبُورِهِمْ .
انْفَرَدَ بِهِ ثَابِتٌ الْبُنَانِيّ عَنْ أَنَسٍ وَقَدْ رُوِيَ أَنّ ثَابِتًا
اُلْتُمِسَ فِي قَبْرِهِ بَعْدَمَا دُفِنَ فَلَمْ يُوجَدْ فَذَكَرَ ذَلِكَ
لَبِنْتِهِ . فَقَالَتْ كَانَ يُصَلّي فَلَمْ تَرَوْهُ لِأَنّي كُنْت أَسْمَعُهُ
إذَا تَهَجّدَ بِاللّيْلِ يَقُولُ " اللّهُمّ اجْعَلْنِي مِمّنْ يُصَلّي فِي
قَبْرِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ " . وَفِي الصّحِيحِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ مَرَرْت بِمُوسَى - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَهُوَ
يُصَلّي فِي قَبْرِهِ .
ابْنُ
الثّامِرِ يَدْعُو إلَى الْإِسْلَامِ
[ ص 93 ] فَجَعَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الثّامِرِ إذَا دَخَلَ نَجْرَانَ لَمْ
يَلْقَ أَحَدًا بِهِ ضُرّ إلّا قَالَ يَا عَبْدَ اللّهِ أَتُوَحّدُ اللّهَ
وَتَدْخُلُ فِي دِينِي ، وَادَعْو اللّهَ فَيُعَافِيَك مِمّا أَنْتَ فِيهِ مِنْ
الْبَلَاءِ ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُوَحّدُ اللّهَ وَيُسْلِمُ وَيَدْعُو لَهُ
فَيُشْفَى ، حَتّى لَمْ يَبْقَ بِنَجْرَانَ أَحَدٌ بِهِ ضُرّ إلّا أَتَاهُ
فَاتّبَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ وَدَعَا لَهُ فَعُوفِيَ حَتّى رُفِعَ شَأْنُهُ إلَى
مَلِكِ نَجْرَانَ ، فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَفْسَدْت عَلَيّ [ ص 94 ] دِينِي
وَدِينَ آبَائِي ، لَأُمَثّلَنّ بِك ، قَالَ لَا تَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ
فَجَعَلَ يُرْسِلُ بِهِ إلَى الْجَبَلِ الطّوِيلِ فَيُطْرَحُ عَلَى رَأْسِهِ
فَيَقَعُ إلَى الْأَرْضِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَجَعَلَ يَبْعَثُ بِهِ إلَى مِيَاهٍ
بِنَجْرَانَ بُحُورٍ لَا يَقَعُ فِيهَا شَيْءٌ إلّا هَلَكَ فَيُلْقَى فِيهَا ،
فَيَخْرَجُ [ ص 95 ] غَلَبَهُ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الثّامِرِ : إنّك وَاَللّهِ
لَنْ تَقْدِرَ عَلَى قَتْلِي حَتّى تُوَحّدَ اللّهَ فَتُؤْمِنَ بِمَا آمَنْت بِهِ
فَإِنّك إنْ فَعَلْت ذَلِكَ سُلّطْت عَلَيّ فَقَتَلَتْنِي . قَالَ فَوَحّدَ اللّهَ
تَعَالَى ذَلِكَ الْمَلِكُ وَشَهِدَ شَهَادَةَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ ،
ثُمّ ضَرَبَهُ بِعَصَا فِي يَدِهِ فَشَجّهُ شَجّةً غَيْرَ كَبِيرَةٍ فَقَتَلَهُ
ثُمّ هَلَكَ الْمَلِكُ مَكَانَهُ وَاسْتَجْمَعَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ - وَكَانَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ مِنْ الْإِنْجِيلِ وَحُكْمِهِ - ثُمّ أَصَابَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ
أَهْلَ دِينِهِمْ مِنْ الْأَحْدَاثِ فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ أَصْلُ
النّصْرَانِيّةِ بِنَجْرَانَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ
: فَهَذَا حَدِيثُ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرظِيّ وَبَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ .
أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَمَعْنَاهُ
[ ص 96 ] [ ص 97 ] فَسَارَ إلَيْهِمْ ذُو نُوَاسٍ بِجُنُودِهِ فَدَعَاهُمْ إلَى
الْيَهُودِيّةِ وَخَيّرَهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ وَالْقَتْلِ فَاخْتَارُوا الْقَتْلَ
فَخَدّ لَهُمْ الْأُخْدُودَ ، فَحَرَقَ مَنْ حَرَقَ بِالنّارِ وَقَتَلَ مَنْ
قَتَلَ بِالسّيْفِ وَمَثّلَ بِهِمْ حَتّى قَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ
أَلْفًا ، فَفِي ذِي نُوَاسٍ وَجُنْدِهِ تِلْكَ أَنَزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَى
رَسُولِهِ سَيّدِنَا مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { قُتِلَ أَصْحَابُ
الْأُخْدُودِ النّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى
مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلّا أَنْ
يُؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ الْبُرُوجُ ] . [ ص 100 ] قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : الْأُخْدُودُ : الْحَفْرُ الْمُسْتَطِيلُ فِي الْأَرْضِ
كَالْخَنْدَقِ وَالْجَدْوَلِ وَنَحْوِهِ وَجَمْعُهُ أَخَادِيدُ . قَالَ ذُو
الرّمّةِ - وَاسْمُهُ غَيْلَانُ بْنُ عُقْبَةَ أَحَدُ بَنِي عَدِيّ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ
بْنِ أُدّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ . مِنْ الْعِرَاقِيّةِ
اللّاتِي يُحِيلُ لَهَا بَيْنَ الْغَلَاةِ وَبَيْنَ النّخْلِ أَخُدُودُ
[ ص 101 ]
مَصِيرُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَيُقَالُ كَانَ فِيمَنْ قَتَلَ ذُو نُوَاسٍ ، عَبْدُ
اللّهِ بْنُ الثّامِرِ رَأْسُهُمْ وَإِمَامُهُمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ أَنّهُ حَدّثَ أَنّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ كَانَ فِي زَمَانِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - حَفَرَ خَرِبَةً مِنْ خَرِبِ
نَجْرَانَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَوَجَدُوا عَبْدَ اللّهِ بْنَ الثّامِرِ تَحْتَ
دَفْنٍ مِنْهَا قَاعِدًا ، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى ضَرْبَةٍ فِي رَأْسِهِ مُمْسِكًا
عَلَيْهَا بِيَدِهِ فَإِذَا أَخّرْت يَدَهُ عَنْهَا تَنْبَعِثُ دما ، وإذا
أَرْسَلْت يَدَهُ رَدّهَا عَلَيْهَا ، فَأَمْسَكَتْ دَمَهَا ، وَفِي يَدِهِ
خَاتَمٌ مَكْتُوبٌ فِيهِ " رَبّي اللّهُ " فَكَتَبَ فِيهِ إلَى عُمَرَ
بْنِ الْخَطّابِ يُخْبِرُ بِأَمْرِهِ فَكَتَبَ إلَيْهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
أَنْ أَقِرّوهُ عَلَى حَالِهِ وَرُدّوا عَلَيْهِ الدّفْنَ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ
فَفَعَلُواSأَصْحَابُ
الْأُخْدُودِ
[ ص 97 ] عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ إنّمَا رَوَاهُ ابْنُ إسْحَاقَ مَوْقُوفًا
عَلَى مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرظِيّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ ، لِيَصِلَ
بِهِ حَدِيثَ فَيُمْؤُنّ وَهُوَ حَدِيثُ ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيب عَنْ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَهُوَ أَوْلَى أَنْ
يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُخَالِفُ حَدِيثَ ابْنِ إسْحَاقَ فِي أَلْفَاظٍ
كَثِيرَةٍ . قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إذَا
حَدّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَعْنِي حَدِيثًا تَقَدّمَ قَبْلَ هَذَا الْحَدِيثِ
يُحَدّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْآخَرِ . قَالَ كَانَ مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ
وَكَانَ لِذَلِكَ الْمَلِكِ كَاهِنٌ يَكْهُنُ لَهُ فَقَالَ الْكَاهِنُ اُنْظُرُوا
لِي غُلَامًا فَهُمَا أَوْ قَالَ فَطِنًا لَقِنًا ؛ فَأَعْلَمَهُ عِلْمِي هَذَا ،
فَإِنّي أَخَافُ أَنْ أَمَوْتَ فَيَنْقَطِعُ مِنْكُمْ هَذَا الْعِلْمُ وَلَا يَكُونُ
فِيكُمْ مَنْ يَعْلَمُهُ قَالَ فَنَظَرُوا لَهُ غُلَامًا عَلَى مَا وَصَفَ
فَأَمَرُوهُ أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الْكَاهِنُ وَأَنْ يَخْتَلِفَ إلَيْهِ فَجَعَلَ
يَخْتَلِفُ إلَيْهِ وَكَانَ عَلَى طَرِيقِ الْغُلَامِ رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَةٍ
قَالَ مَعْمَرٌ أَحْسَبُ أَنّ أَصْحَابَ الصّوَامِعِ يَوْمئِذٍ كَانُوا
مُسْلِمِينَ . قَالَ فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَسْأَلُ الرّاهِبَ كُلّمَا مَرّ بِهِ
فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتّى أَخْبَرَهُ فَقَالَ إنّمَا أَعْبُدُ اللّهَ قَالَ
فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَمْكُثُ عِنْدَ الرّاهِبِ وَيُبْطِئُ عَلَى الْكَاهِنِ
فَأَرْسَلَ الْكَاهِنُ إلَى أَهْلِ الْغُلَامِ أَنّهُ لَا يَكَادُ يَحْضُرُنِي ،
فَأَخْبَرَ الْغُلَامُ الرّاهِبَ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ الرّاهِبُ إذَا قَالَ لَك
الْكَاهِنُ أَيْنَ كُنْت ، فَقُلْ كُنْت عِنْدَ أَهْلِي ، فَإِذَا قَالَ لَك
أَهْلُك : أَيْنَ كُنْت ؟ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّك كُنْت عِنْدَ الْكَاهِنِ قَالَ
فَبَيْنَمَا الْغُلَامُ عَلَى ذَلِكَ إذْ مَرّ بِجَمَاعَةِ مِنْ النّاسِ كَثِيرٍ
قَدْ حَبَسَتْهُمْ دَابّةٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إنّ تِلْكَ الدّابّةَ كَانَتْ
أَسَدًا ، فَأَخَذَ الْغُلَامُ حَجَرًا ، فَقَالَ اللّهُمّ إنْ كَانَ مَا يَقُولُ
الرّاهِبُ حَقّا فَأَسْأَلُك أَنْ تَقْتُلَهُ قَالَ ثُمّ رَمَى ، فَقَتَلَ
الدّابّةَ فَقَالَ النّاسُ مَنْ قَتَلَهَا ؟ فَقَالُوا : الْغُلَامُ فَفَزِعَ
النّاسُ وَقَالُوا : لَقَدْ عَلِمَ هَذَا الْغُلَامُ عِلْمًا لَمْ يَعْلَمْهُ
أَحَدٌ . قَالَ فَسَمِعَ بِهِ أَعْمَى ، فَقَالَ لَهُ إنْ أَنْتَ رَدَدْت بَصَرِي
فَلَك كَذَا وَكَذَا ، فَقَالَ لَهُ لَا أُرِيدُ مِنْك هَذَا ، وَلَكِنْ أَرَأَيْت
إنْ رَجَعَ إلَيْك بَصَرُك أَتُؤْمِنُ بِاَلّذِي رَدّهُ ؟ [ ص 98 ] قَالَ نَعَمْ .
قَالَ فَدَعَا اللّهَ فَرَدّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ فَآمَنَ الْأَعْمَى ، فَبَلَغَ
الْمَلِكَ أَمْرُهُمْ فَبَعَثَ إلَيْهِمْ فَأَتَى بِهِمْ فَقَالَ لَأَقْتُلَنّ
كُلّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ قِتْلَةً لَا أَقْتُلُ بِهَا صَاحِبَهُ فَأَمَرَ
بِالرّاهِبِ وَبِالرّجُلِ الّذِي كَانَ أَعْمَى ، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ عَلَى
مَفْرِقِ أَحَدِهِمَا فَقَتَلَهُ ثُمّ قَتَلَ الْآخَرَ بِقِتْلَةِ أُخْرَى ، ثُمّ
أَمَرَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ انْطَلِقُوا بِهِ إلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا ،
فَأَلْقُوهُ مِنْ رَأْسِهِ فَانْطَلَقُوا بِهِ إلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ فَلَمّا انْتَهَوْا
إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الّذِي أَرَادُوا أَنْ يَلْقَوْهُ مِنْهُ جَعَلُوا
يَتَهَافَتُونَ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ وَيَتَرَدّوْنَ مِنْهُ حَتّى لَمْ يَبْقَ
مِنْهُمْ إلّا الْغُلَامُ قَالَ ثُمّ رَجَعَ فَأَمَرَ بِهِ الْمَلِكَ أَنْ
يَنْطَلِقُوا بِهِ إلَى الْبَحْرِ فَيَلْقَوْنَهُ فِيهِ فَانْطَلَقَ بِهِ إلَى
الْبَحْرِ فَغَرّقَ اللّهُ الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وَأَنْجَاهُ فَقَالَ
الْغُلَامُ لِلْمَلِكِ إنّك لَا تَقْتُلُنِي حَتّى تَصْلُبَنِي وَتَرْمِيَنِي ،
وَتَقُولَ إذَا رَمَيْتنِي : " بِاسْمِ اللّهِ رَبّ هَذَا الْغُلَامِ "
. قَالَ فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ ثُمّ رَمَاهُ فَقَالَ بِاسْمِ اللّهِ رَبّ هَذَا
الْغُلَامِ فَوَضَعَ الْغُلَامُ يَدَهُ عَلَى صُدْغِهِ حِينَ رُمِيَ ثُمّ مَاتَ
فَقَالَ النّاسُ لَقَدْ عَلِمَ هَذَا الْغُلَامُ عِلْمًا مَا عَلِمَهُ أَحَدٌ ،
فَإِنّا نُؤْمِنُ بِرَبّ هَذَا الْغُلَامِ قَالَ فَقِيلَ لِلْمَلِكِ أَجَزِعْت
أَنّ خَالَفَك ثَلَاثَةً فَهَذَا الْعَالَمُ كُلّهمْ قَدْ خَالَفُوك ، قَالَ
فَخَدّ أَخُدُودًا ، ثُمّ أَلْقَى فِيهِ الْحَطَبَ وَالنّارَ ثُمّ جَمَعَ النّاسَ
فَقَالَ مَنْ رَجَعَ عَنْ ذَنْبِهِ تَرَكْنَاهُ وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ
أَلْقَيْنَاهُ فِي هَذِهِ النّارِ فَجَعَلَ يُلْقِيهِمْ فِي ذَلِكَ الْأُخْدُودِ .
قَالَ يَقُولُ اللّهُ سُبْحَانَهُ - { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النّارِ
ذَاتِ الْوَقُودِ } حَتّى بَلَغَ { الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ الْبُرُوجُ ] . قَالَ
فَأَمّا الْغُلَامُ فَإِنّهُ دُفِنَ . قَالَ فَيُذْكَرُ أَنّهُ أُخْرِجَ فِي
زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَأُصْبُعُهُ عَلَى
صُدْغِهِ كَمَا وَضَعَهَا حِينَ قُتِلَ . رَوَاهُ التّرْمِذِيّ عَنْ مَحْمُودِ
بْنِ غَيْلَانَ عَنْ عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ
هَدّابِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، ثُمّ اتّفَقَا عَنْ ثَابِتٍ
عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيب غَيْرَ أَنّ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ أَنّ
الْأَعْمَى الّذِي شُفِيَ كَانَ جَلِيسًا لِلْمَلِكِ وَأَنّهُ جَاءَهُ بَعْدَ مَا
شُفِيَ فَجَلَسَ مِنْ الْمَلِكِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ مَنْ رَدّ عَلَيْك
بَصَرَك ، قَالَ رَبّي ، قَالَ وَهَلْ لَك رَبّ غَيْرِي ؟ فَقَالَ اللّهُ رَبّي
وَرَبّك ، فَأَمَرَ بِالْمِنْشَارِ فَجُعِلَ عَلَى رَأْسِهِ حَتّى وَقَعَ شِقّاهُ
وَأَمَرَ بِالرّاهِبِ فَفُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي آخِرِ
الْحَدِيثِ . قَالَ فَأُتِيَ بِامْرَأَةِ لِتُلْقَى فِي النّارِ وَمَعَهَا صَبِيّ
يَرْضَعُ فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ يَا أُمّهْ لَا تَجْزَعِي ، فَإِنّك عَلَى
الْحَقّ وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنّ الْغُلَامَ الرّضِيعَ كَانَ مِنْ سَبْعَةِ
أَشْهُرٍ .
أَمْرُ
دَوْسٍ ذِي ثُعْلُبَانٍ وَابْتِدَاءُ مُلْكِ الْحَبَشَةِ
وَذِكْرُ أَرْيَاطٍ الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْيَمَنِ
دَوْسٌ يَسْتَنْصِرُ بِقَيْصَرَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَفْلَتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ سَبَأٍ ، يُقَالُ لَهُ
دَوْسٌ ذُو ثُعْلُبَانٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فَسَلَكَ الرّمْلَ فَأَعْجَزَهُمْ
فَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ حَتّى أَتَى قَيْصَرَ مَلِكَ الرّومِ ،
فَاسْتَنْصَرَهُ عَلَى ذِي نُوَاسٍ وَجُنُودِهِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا بَلَغَ
مِنْهُمْ فَقَالَ لَهُ بَعُدَتْ بِلَادُك مِنّا ، وَلَكِنْ سَأَكْتُبُ لَك إلَى
مَلِكِ الْحَبَشَةِ فَإِنّهُ عَلَى هَذَا الدّينِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى بِلَادِك ،
وَكَتَبَ إلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِنَصْرِهِ وَالطّلَبِ بِثَأْرِهِ .
هَزِيمَةُ ذِي نُوَاسٍ وَانْتِحَارُهُ
فَقَدِمَ دَوْسٌ عَلَى النّجَاشِيّ بِكِتَابِ قَيْصَرَ فَبَعَثَ مَعَهُ سَبْعِينَ
أَلْفًا مِنْ الْحَبَشَةِ ، وَأَمّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ
أَرْيَاطٌ - وَمَعَهُ فِي جُنْدِهِ أَبْرَهَةُ الْأَشْرَمُ - فَرَكِبَ أَرْيَاطٌ
الْبَحْرَ حَتّى نَزَلَ بِسَاحِلِ الْيَمَنِ ، وَمَعَهُ دَوْسٌ ذُو ثُعْلُبَانٍ
وَسَارَ إلَيْهِ ذُو نُوَاسٍ فِي حِمْيَرَ ، وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَبَائِلِ
الْيَمَنِ ، فَلَمّا الْتَقَوْا انْهَزَمَ ذُو نُوَاسٍ وَأَصْحَابُهُ فَلَمّا
رَأَى ذُو نُوَاسٍ مَا نَزَلَ [ ص 102 ] فَرَسَهُ فِي الْبَحْرِ ثُمّ ضَرَبَهُ
فَدَخَلَ بِهِ فَخَاضَ بَهْ ضَحْضَاحَ الْبَحْرِ حَتّى أَفْضَى بِهِ إلَى غَمْرِهِ
فَأَدْخَلَهُ فِيهِ وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ . وَدَخَلَ أَرْيَاطٌ الْيَمَنِ
، فَمَلَكَهَا .Sحَدِيثُ
الْحَبَشَةِ
وَذَكَرَ فِيهِ دَوْسًا ذَا ثَعْلَبَانِ الّذِي أَتَى قَيْصَرَ . وَدَوْسٌ : هُوَ
ابْنُ تُبّعٍ الّذِي قَتَلَهُ أَخُوهُ قَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ
رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ . [ ص 99 ] وَذَكَرَ فِيهِ قَيْصَرَ وَكِتَابَهُ
لَلنّجَاشِيّ . وَقَيْصَرُ اسْمُ عَلَمٍ لِكُلّ مَنْ وَلِيَ الرّومَ وَتَفْسِيرُهُ
بِلِسَانِهِمْ الْبُقَيْرُ الّذِي بُقِرَ بَطْنُ أُمّهِ عَنْهُ وَكَانَ أَوّلُ
مَنْ تَسَمّى بِهِ بُقَيْرًا ، فَلَمّا مُلّكَ وَعُرِفَ بِهِ تَسَمّى بِهِ كُلّ
مَنْ مُلّكَ بَعْدَهُ . قَالَهُ الْمَسْعُودِيّ . وَإِنّمَا كَتَبَ بِذَلِكَ إلَى
النّجَاشِيّ ، لِأَنّهُ عَلَى دِينِهِ وَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الْيَمَنِ مِنْهُ
وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ ذَا نُوَاسٍ أُدْخِلَ الْحَبَشَةَ صَنْعَاءَ
الْيَمَنِ ، حِينَ رَأَى أَنْ لَا قِبَلَ لَهُ بِهِمْ بَعْدَ أَنْ اسْتَنْفَرَ
جَمِيعَ الْمَقَاوِلِ لِيَكُونُوا مَعَهُ يَدًا وَاحِدَةً عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا
إلّا أَنْ يُحْمَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَوْزَتَهُ عَلَى حِدَتِهِ فَخَرَجَ
إلَيْهِمْ وَمَعَهُ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِهِ وَأَمْوَالُهُ عَلَى أَنْ يُسَالِمُوهُ
وَمَنْ مَعَهُ وَلَا يَقْتُلُوا أَحَدًا فَكَتَبُوا إلَى النّجَاشِيّ بِذَلِكَ
فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ فَدَخَلُوا صَنْعَاءَ وَدَفَعَ
إلَيْهِمْ الْمَفَاتِيحَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقْبِضُوا مَا فِي بِلَادِهِ مِنْ
خَزَائِنِ أَمْوَالِهِ ثُمّ كَتَبَ هُوَ إلَى كُلّ مَوْضِعٍ مِنْ أَرْضِهِ أَنْ
اُقْتُلُوا كُلّ ثَوْرٍ أَسْوَدَ فَقُتِلَ أَكْثَرُ الْحَبَشَةِ ، فَلَمّا بَلَغَ
ذَلِكَ النّجَاشِيّ وَجّهَ جَيْشًا إلَى أَبْرَهَةَ وَعَلَيْهِمْ أَرِيَاطٌ
وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْتُلَ ذَا نُوَاسٍ وَيُخَرّبَ ثُلُثَ بِلَادِهِ وَيَقْتُلُ
ثُلُثَ الرّجَالِ وَيَسْبِي ثُلُثَ النّسَاءِ وَالذّرّيّةِ فَفَعَلَ ذَلِكَ
أَبْرَهَةُ . وَأَبْرَهَةُ بِالْحَبَشَةِ هُوَ الْأَبْيَضُ الْوَجْهِ وَفِي هَذَا
قُوّةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنّ أَبْرَهَةَ هَذَا هُوَ أَبْرَهَةُ بْنُ الصّبَاحِ
الْحِمْيَرِيّ وَلَيْسَ بِأَبِي يكْسوم الْحَبَشِيّ وَإِنّ الْحَبَشَةَ كَانُوا قَدْ
أَمّرُوا أَبْرَهَةَ بْنَ الصّبَاحِ عَلَى الْيَمَنِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَهُ
ابْنُ سَلّام فِي تَفْسِيرِهِ وَاقْتَحَمَ ذُو نُوَاسٍ الْبَحْرَ فَهَلَكَ وَقَامَ
بِأَمْرِهِ مِنْ بَعْدَهُ ذُو جَدَن ، وَاسْمُهُ عَلَسُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو
سُبَيْع بْنِ الْحَارِثِ ، وَالْجَدَنُ حُسْنُ الصّوْتِ يُقَالُ إنّهُ أَوّلُ مَنْ
أَظَهَرَ الْغِنَاءَ بِالْيَمَنِ فَسُمّيَ بِهِ وَجَدَنُ أَيْضًا : مَفَازَةٌ
بِالْيَمَنِ زَعَمَ الْبَكْرِيّ أَنّ ذَا جَدَن إلَيْهَا يُنْسَبُ فَحَارَبَ
الْحَبَشَةَ بَعْدَ ذِي نُوَاسٍ فَكَسَرُوا جُنْدَهُ وَغَلَبُوهُ عَلَى أَمْرِهِ
فَفَرّ إلَى الْبَحْرِ كَمَا فَعَلَ ذُو نُوَاسٍ ، فَهَلَكَ فِيهِ وَذَكَرُوا
سَبَبَ مُنَازَعَةِ أَبْرَهَةَ لِأَرْيَاطٍ وَأَنّ ذَلِكَ إنّمَا كَانَ لِأَنّ
أَبْرَهَةَ بَلّغَ النّجَاشِيّ أَنّهُ اسْتَبَدّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يُرْسِلْ
إلَيْهِ مِنْ جِبَايَةِ الْيَمَنِ شَيْئًا ، فَوَجّهَ أَرْيَاطًا إلَى خَلْعِهِ
فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَاهُ أَبْرَهَةُ إلَى الْمُبَارَزَةِ - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ
إسْحَاقَ - وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ عَتْوَدة الْغُلَامَ الّذِي قَتَلَ
أَرْيَاطًا . وَالْعَتْوَدَةُ الشّدّةُ وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِهِ أَرْيَجْدَةُ .
قَالَ لَهُ أَبْرَهَةُ احْتَكِمْ عَلَيّ قَالَ أَحْتَكِمُ أَنْ لَا تَزِفّ
امْرَأَةً إلَى بَعْلِهَا ، حَتّى أَكُونَ أَنَا الّذِي أَبَدَأَ بِهَا قَبْلَهُ
فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبْرَهَةُ وَغَبَرَ الْعَبْدُ زَمَانًا يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَمّا
اشْتَدّ الْغَيْظُ بِأَهْلِ الْيَمَنِ ، قَتَلُوا عَتْوَدة غِيلَةً فَقَالَ لَهُمْ
الْمَلِكُ قَدْ أَنّى لَكُمْ يَأْهَلَ الْيَمَنِ أَنْ تَفْعَلُوا فِعْلَ
الْأَحْرَارِ وَأَنْ تَغْضَبُوا لَحَرَمَكُمْ وَلَوْ عَلِمْت أَنّ هَذَا الْعَبْدَ
يَسْأَلُنِي هَذَا الّذِي سَأَلَ مَا حَكّمْته ، وَلَكِنْ وَاَللّهِ لَا يُؤْخَذُ
مِنْكُمْ فِيهِ دِيَةٌ وَلَا تُطْلَبُونَ بِذَخْلٍ [ ص 100 ] وَقَعَ اسْمُ أرْياط
فِي رِوَايَةِ يُونُسَ لَمْ يُسَمّهِ بِهَذَا الِاسْمِ إنّمَا سَمّاهُ رَوْزَنَةً
أَوْ نَحْوُ هَذَا . وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ سَيْفَ بْنَ ذِي يَزَنَ لَمّا
فَعَلَ ذُو نُوَاسٍ بِالْحَبَشَةِ مَا فَعَلَ ثُمّ ظَفَرُوا بِهِ بَعَثَ
عَظِيمُهُمْ " إلَى أَبِي مُرّةَ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ ، فَانْتَزَعَ
مِنْهُ رَيْحَانَةَ بِنْتَ عَلْقَمَةَ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ لَهُ
مَعْدِي كَرِب . فَمَلَكَهَا أَبْرَهَةُ . وَأَوْلَدَهَا مَسْرُوقَ بْنَ
أَبْرَهَةَ وَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَجّهَ سَيْفٌ إلَى كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ يَطْلُبُ
مِنْهُ الْغَوْثَ عَلَى الْحَبَشَةِ ، فَوَعَدَهُ بِذَلِكَ وَأَقَامَ عِنْدَهُ
سِنِينَ ثُمّ مَاتَ وَخَلّفَهُ ابْنه مَعْدِي كَرِب فِي طَلَبِ الثّأْرِ
فَأَدْخَلَ عَلَى كِسْرَى ، فَقَالَ لَهُ مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ يَطْلُبُ
إرْثَ أَبِيهِ وَهُوَ وَعْدُ الْمَلِكِ الّذِي وَعَدَ بِهِ فَسَأَلَ عَنْهُ
كِسْرَى : أَهُوَ مِنْ بَيْتِ مَمْلَكَةٍ أَمْ لَا ؟ فَأُخْبِرَ أَنّهُ مِنْ
بَيْتِ مُلْكٍ فَوَجّهَ مَعَهُ وَهْرَزَ الْفَارِسَ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ
وَخَمْسِمِائَةِ مِنْ الْفُرْسِ ، وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فِي ثَمَانِمِائَةِ
غَرِقَ مِنْهُمْ مِائَتَانِ وَسَلِمَ سِتّمِائَةٍ وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ قَوْلُ
ابْنِ قُتَيْبَةَ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصّوَابِ إذْ يَبْعُدُ مُقَاوَمَةُ
الْحَبَشَةِ بِسِتّمِائَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ إلَيْهِمْ مِنْ الْعَرَبِ -
كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ - مَا جَمَعَ . ثُمّ إنّ مَعْدِ يَكْرُبَ بْنِ سَيْفٍ
لَمّا قَتَلَ الْحَبَشَةَ وَمَلَكَ هُوَ وَوَهْرَزَ الْيَمَنَ أَقَامَ فِي ذَلِكَ
نَحْوَ أَرْبَعِ سِنِينَ . ثُمّ قَتَلَتْهُ عَبِيدٌ لَهُ كَانَ قَدْ اتّخَذَهُمْ
مِنْ أُولَئِكَ الْحَبَشَةِ ، خَرَجَ بِهِمْ إلَى الصّيْدِ فَزَرَقُوهُ
بِحِرَابِهِمْ ثُمّ هَرَبُوا فَأُتْبِعُوا فَقُتِلُوا . وَتَفَرّقَ أَمْرُ
الْيَمَنِ بَعْدَهُ إلَى مَخَالِف عَلَيْهَا مُقَاوِلٌ كَمُلُوكِ الطّوَائِفِ لَا
يَدِينُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ إلّا مَا كَانَ مِنْ صَنْعَاءَ ، وَكَوْنُ
الْأَبْنَاءِ فِيهَا ، حَتّى جَاءَ الْإِسْلَامُ .
فَصْلٌ
وَاسْتَشْهَدَ ابْنُ هِشَامٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ عَلَى الْأُخْدُودِ بِبَيْتِ ذِي
الرّمّةِ وَهُوَ غَيْلَانُ بْنُ عُقْبَةُ بْنِ بُهَيْش بِضَمّ الْبَاءِ وَالشّينِ
وَسُمّيَ ذَا الرّمّةِ بِبَيْتِ قَالَهُ فِي الْوَتَدِ أَشْعَثَ بَاقِي رُمّةِ
التّقْلِيدِ . وَقِيلَ إنّ مَيّةَ سَمّتْهُ بِذَلِكَ وَكَانَ قَدْ قَالَ لَهَا :
اُصْلُحِي لِي هَذَا الدّلْوَ فَقَالَتْ لَهُ إنّي خَرْقَاءُ فَوَلّى وَهِيَ عَلَى
عُنُقِهِ بِرُمّتِهَا ، فَنَادَتْهُ يَا ذَا الرّمّةِ إنْ كُنْت خَرْقَاءَ فَإِنّ
لِي أُمّةٌ صُنّاعًا ؛ فَلِذَلِكَ سَمّاهَا بِخَرْقَاءَ كَمَا سَمّتْهُ بِذِي
الرّمّةِ . [ ص 101 ] [ ص 102 ]
فَصْلٌ
وَقَوْلُهُ فَخَاضَ ضَحْضَاحَ الْبَحْرِ إلَى غِمْرِهِ . الضّحْضَاحُ مِنْ
الْمَاءِ الّذِي يَظْهَرُ مَعَهُ الْقَعْرُ وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ الضّحّ وَهُوَ
حَرّ الشّمْسِ كَأَنّ الشّمْسَ تُدَاخِلُهُ لِقِلّتِهِ فَقُلِبَتْ فِيهِ إحْدَى
الْحَاءَيْنِ ضَادًا ، كَمَا قَالُوا فِي ثَرّةٍ ثَرْثَارَةٌ وَفِي تَمَلّلَ
تَمَلْمَلٌ وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيّينَ مِنْ النّحْوِيّينَ وَلَسْت أَعْرِفُ
أَصْلًا يَدْفَعُهُ وَلَا دَلِيلًا يَرُدّهُ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا : الرّقْرَاقُ
وَالضّهْلُ وَقَدْ يُسْتَعَارُ فِي غَيْرِ الْمَاءِ كَقَوْلِ النّبِيّ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ
هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النّارِ وَلَوْلَا مَكَانِي لَكَانَ فِي الطّمْطَامِ
وَفِي الْبُخَارِيّ : وَجَدْته فِي غَمْرَةٍ مِنْ النّارِ فَأَخْرَجْته إلَى
الضّحْضَاحِ وَالْغَمْرُ هُوَ الطّمْطَامُ
مَا
قِيلَ مِنْ شِعْرٍ فِي دَوْسٍ
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ - وَهُوَ يَذْكُرُ مَا سَاقَ إلَيْهِمْ
دَوْسٌ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ : لَا كَدَوْسِ وَلَا كَأَعْلَاقِ رَحْلِهِ
فَهِيَ مَثَلٌ بِالْيَمَنِ إلَى هَذَا الْيَوْمِ . وَقَالَ ذُو جَدَنٍ
الْحِمْيَرِيّ :
هَوْنُك لَيْسَ يَرُدّ الدّمْعَ مَا فَاتَا ... لَا تُهْلِكِي أَسَفًا فِي إثْرِ
مَنْ مَاتَا
أَبَعْدَ بَيْنَونَ لَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ ... وَبَعْدَ سَلْحِينَ يَبْنِي
النّاسُ أَبْيَاتًا
[ ص 103 ] بَيْنُونُ وَسَلْحِينُ وَغُمْدَانُ : مِنْ حُصُونِ الْيَمَنِ الّتِي
هَدَمَهَا أَرْيَاطٌ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي النّاسِ [ ص 104 ] وَقَالَ ذُو جَدَنٍ
أَيْضًا :
دَعِينِي - لَا أَبَا لَك - لَنْ تُطِيقِي ... لِحَاك اللّهُ قَدْ أَنْزَفْتِ
رِيقِي
لَدَى عَزْفِ الْقِيَانِ إذْ انْتَشَيْنَا ... وَإِذْ نُسْقَى مِنْ
الْخَمْرِالرّحِيقُ
وَشُرْبُ الْخَمْرِ لَيْسَ عَلَيّ عَارًا ... إذَا لَمْ يَشْكُنِي فِيهَا رَفِيقِي
فَإِنّ الْمَوْتَ لَا يَنْهَاهُ نَاهٍ ... وَلَوْ شَرِبَ الشّفَاءَ مَعَ النّشُوقِ
وَلَا مُتَرَهّبٌ فِي أُسْطُوَانٍ ... يُنَاطِحُ جُدُرَهُ بَيْضِ الْأَنُوقِ
وَغُمْدَانُ الّذِي حُدّثْت عَنْهُ ... بَنَوْهُ مُسَمّكًا فِي رَأْسِ نِيقِ
بِمَنْهَمَةِ وَأَسْفَلَهُ جُرُونُ ... وَحُرّ الْمَوْحَلِ اللّثِقِ الزّلِيقِ
مَصَابِيحُ السّلِيطِ تَلُوحُ فِيهِ ... إذَا يُمْسِي كَتَوْمَاضِ الْبُرُوقِ
وَنَخْلَتُهُ الّتِي غُرِسَتْ إلَيْهِ ... يَكَادُ الْبُسْرُ يَهْصِرُ
بِالْعُذُوقِ
فَأَصْبَحَ بَعْدَ جِدّتِهِ رَمَادًا ... وَغَيّرَ حُسْنَهُ لَهَبُ الْحَرِيقِ
وَأَسْلَمَ ذُو نُوَاسٍ مُسْتَكِينًا ... وَحَذّرَ قَوْمَهُ ضَنْكَ الْمَضِيقِS[ ص 105 ] [ ص 106 ]
جَدَنٍ هَوْنك لَسْنَ يَرُدّ الدّمْعَ مَا فَاتَا
وَهَكَذَا رُوِيَ هَذَا الْقَسِيمُ نَاقِصًا قَالَهُ الْبَرْقِيّ ، وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ : هَوْنُكُمَا لَسْنَ
يَرُدّ . قَالَ وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْعَرَبِ لِلْوَاحِدِ افْعَلَا ، وَهُوَ
كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْكَلَامِ . وَفِيهِ
أَبَعْدَ بَيْنَونَ لَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ ... وَبَعْدَ سَلْحِينَ يَبْنِي
النّاسُ أَبْيَاتًا
[ ص 103 ] فَبَيْنُونُ وَسَلْحِينُ مَدِينَتَانِ خَرّبَهُمَا أَرْيَاطٌ كَمَا ذَكَرَ
. قَالَ الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ " مُعْجَمِ مَا اسْتَعْجَمَ " :
سُمّيَتْ بَيْنُونَ لِأَنّهَا كَانَتْ بَيْنَ عُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ ، فَهِيَ
إذًا عَلَى قَوْلِهِ فَعْلُونَ مِنْ الْبَيْنِ وَالْيَاءُ أَصْلِيّةٌ وَقِيَاسُ
النّحْوِيّينَ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا ، لِأَنّ الْإِعْرَابَ إذَا كَانَ فِي النّونِ
لَزِمَتْ الِاسْمَ الْيَاءُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ كَقِنّسْرِينَ وَفِلَسْطِينَ
أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ فِي آخِرِ الْبَيْتِ وَبَعْدَ سَلْحِينَ ، فَكَذَلِكَ
كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ عَلَى هَذَا : أَبَعْدَ بَيْنِينَ وَعَلَى مَذْهَبِ
مَنْ جَعَلَهُ مِنْ الْعَرَبِ بِالْوَاوِ فِي الرّفْعِ وَبِالْيَاءِ فِي الْخَفْضِ
وَالنّصْبِ . يَقُولُ أَيْضًا : أَبَعْدَ بَيْنِينَ وَلَيْسَ لِلْعَرَبِ فِيهِ
مَذْهَبٌ ثَالِثٌ فَثَبَتَ أَنّهُ لَيْسَ مِنْ الْبَيْنِ إنّمَا هُوَ فَيْعُولٌ وَالْوَاوُ
زَائِدَةٌ مِنْ أَبَنّ بِالْمَكَانِ وَبَنّ إذَا أَقَامَ فِيهِ لَكِنّهُ لَا
يَنْصَرِفُ لِلتّعْرِيفِ وَالتّأْنِيثِ غَيْرَ أَنّ أَبَا سَعِيدٍ السّيْرَافِيّ
ذَكَرَ وَجْهًا ثَالِثًا لِلْعَرَبِ فِي تَسْمِيَةِ الِاسْمِ بِالْجَمْعِ
الْمُسْلِمِ فَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِعْرَابُ فِي النّونِ وَتَثْبُتُ الْوَاوُ
وَقَالَ فِي زَيْتُونٍ إنّهُ فَعْلُونٌ مِنْ الزّيْتِ وَأَجَازَ أَبُو الْفَتْحِ
بْنُ جِنّيّ أَنْ يَكُونَ الزّيْتُونُ فَيْعُولًا مِنْ الزّيْتِ وَلَكِنْ مِنْ
قَوْلِهِمْ زَتَنَ الْمَكَانُ إذَا أَنْبَتَ الزّيْتُونُ فَإِنْ صَحّتْ هَذِهِ
الْحِكَايَةُ عَنْ الْعَرَبِ ، وَإِلّا فَالظّاهِرُ أَنّهُ مِنْ الزّيْتِ وَأَنّهُ
فَعْلُونٌ وَقَدْ كَثُرَ هَذَا فِي كَلَامِ النّاسِ غَيْرَ أَنّهُ لَيْسَ فِي
كَلَامِ الْعَرَبِ الْقُدَمَاءِ فَفِي الْمَعْرُوفِينَ مِنْ أَسْمَاءِ النّاسِ
سُحْنُونٌ وَعَبْدُونٌ قَالَ الشّاعِرُ - وَهُوَ ابْنُ الْمُعْتَزّ
سَقَى الْجَزِيرَةَ ذَاتَ الظّلّ وَالشّجَرِ ... وَدَيْرَ عَبْدُونَ هَطّالٌ مِنْ
الْمَطَرِ
وَدَيْرُ عَبْدُونَ مَعْرُوفٌ بِالشّامِ وَكَذَلِك دَيْرُ فَيْنُونَ غَيْرَ أَنّ
فَيْنُونَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَيْعُولًا ، فَلَا يَكُونُ مِنْ هَذَا
الْبَابِ كَمَا قُلْنَا فِي بَيْنُونَ ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ . وَأَمّا حَلَزُونٌ -
وَهُوَ دُودٌ يَكُونُ بِالْعُشْبِ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الرّمَثِ - فَلَيْسَ
مِنْ بَابِ فِلَسْطِينَ وَقِنّسْرِينَ وَلَكِنّ النّونَ فِيهِ أَصْلِيّةٌ
كَزَرَجُونَ وَلِذَلِكَ أَدْخَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي بَابِ فَعْلُونٍ وَكَذَلِكَ
فَعَلَ صَاحِبُ كِتَابِ الْعَيْنِ أَدْخَلَهُ فِي بَابِ الرّبَاعِيّ فَدَلّ عَلَى
أَنّ النّونَ عِنْدَهُ فِيهِ أَصْلِيّةٌ وَأَنّهُ فَعَلُولٌ بِلَامَيْنِ .
وَقَوْلُ ذِي جَدَنٍ وَبَعْدَ سَلْحِينَ يُقْطَعُ عَلَى أَنّ بَيْنُونَ :
فَيْعُولٌ عَلَى كُلّ حَالٍ لِأَنّ الّذِي ذَكَرَهُ السّيْرَافِيّ مِنْ
الْمَذْهَبِ الثّالِثِ إنْ صَحّ فَإِنّمَا هِيَ لُغَةٌ أُخْرَى غَيْرُ لُغَةِ ذِي
جَدَنٍ الْحِمْيَرِيّ ، إذْ لَوْ كَانَ مِنْ لُغَتِهِ لَقَالَ سَلْحُونٌ
وَأَعْرَبَ النّونَ مَعَ بَقَاءِ الْوَاوِ فَلَمّا لَمْ [ ص 104 ] بَيْنُونَ :
زِيَادَةُ الْيَاءِ وَأَنّ النّونَيْنِ أَصْلِيّتَانِ كَمَا تَقَدّمَ . وَقَوْلُهُ
دَعِينِي - لَا أَبَا لَك - لَنْ تُطِيقِي
أَيْ لَنْ تُطِيقِي صَرْفِي بِالْعَذْلِ عَنْ شَأْنِي ، وَحَذَفَ النّونَ مِنْ
تُطِيقِينَ لِلنّصْبِ أَوْ لِلْجَزْمِ عَلَى لُغَةِ مَنْ جَزَمَ بِلَنْ إنْ كَانَ
ذَلِكَ مِنْ لُغَتِهِ وَالْيَاءُ الّتِي بَعْدَ الْقَافِ اسْمٌ مُضْمَرٌ فِي
قَوْلِ سِيبَوَيْهِ ، وَحَرْفُ عَلَامَةِ تَأْنِيثٍ فِي قَوْلِ الْأَخْفَشِ
وَلِلْحُجّةِ لَهُمَا ، وَعَلَيْهِمَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا . وَقَوْلُهُ قَدْ
أَنْزَفْتِ رِيقِي . أَيْ أَكْثَرْت عَلَيّ مِنْ الْعَذْلِ حَتّى أَيْبَسْتِ
رِيقِي فِي فَمِي ، وَقِلّةُ الرّيقِ مِنْ الْحَصَرِ ، وَكَثْرَتُهُ مِنْ قُوّةِ النّفْسِ
وَثَبَاتِ الْجَأْشِ قَالَ الرّاجِزُ
إنّي إذَا زَبّبَتْ الْأَشْدَاقُ ... وَكَثُرَ اللّجَاجُ وَاللّقْلَاقُ
ثَبْتُ الْجَنَانِ مِرْجَمٌ وَدّاقُ
[ ص 105 ] كَثْرَةِ الْكَلَامِ وَقَوْلُهُ وَدّاقُ أَيْ يَسِيلُ كَالْوَدْقِ .
يُرِيدُ سَيَلَانَ الرّيقِ وَكَثْرَةَ الْقَوْلِ كَمَا قَالَ أَبُو الْمُخَشّ فِي
ابْنِهِ كَانَ أَشْدَقَ خُرْطُمَانِيّا إذَا تَكَلّمَ سَالَ لُعَابُهُ .
وَقَوْلُهُ وَلَوْ شَرِبَ الشّفَاءَ مَعَ النّشُوقِ
أَيْ لَوْ شَرِبَ كُلّ دَوَاءٍ يُسْتَشْفَى بِهِ وَتَنَشّقَ كُلّ نَشُوقٍ يُجْعَلُ
فِي الْأَنْفِ لِلتّدَاوِي بِهِ مَا نَهَى ذَلِكَ الْمَوْتُ عَنْهُ . وَقَوْلُهُ
وَلَا مُتَرَهّبٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفَعَهُ عَطْفًا عَلَى نَاهٍ أَيْ لَا
يَرُدّ الْمَوْتَ نَاهٍ وَلَا مُتَرَهّبٌ . أَيْ دُعَاءُ مُتَرَهّبٍ يَدْعُو لَك ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَرَهّبٌ رَفْعًا عَلَى مَعْنَى : وَلَا يَنْجُو مِنْهُ
مُتَرَهّبٌ . كَمَا قَالَ تَاللّهِ يَبْقَى عَلَى الْأَيّامِ ذُو حِيَدٍ .
الْبَيْتُ . وَالْأُسْطُوَانُ أُفْعُوَالٌ . النّونُ أَصْلِيّةٌ لِأَنّ جَمْعَهُ
أَسَاطِينُ وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ أَفَاعِينُ . وَقَوْلُهُ يُنَاطِحُ جُدْرَهُ
بَيْضُ الْأَنُوقِ
جُدْرُهُ جَمْعُ جِدَارٍ وَهُوَ مُخَفّفٌ مِنْ جُدُورٍ وَفِي التّنْزِيلِ أَوْ
مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ تُقَيّدُ بِضَمّ الْجِيمِ وَالْجَدْرُ أَيْضًا بِفَتْحِ
الْجِيمِ الْحَائِطُ ، وَلَكِنّ الرّوَايَةَ فِي الْكِتَابِ هَكَذَا كَمَا
ذَكَرْنَا . وَالْأَنُوقُ الْأُنْثَى مِنْ الرّخَمِ يُقَالُ فِي الْمَثَلِ أَعَزّ
مِنْ بَيْضِ الْأَنُوقِ إذَا أَرَادَ مَا لَا يُوجَدُ لِأَنّهَا تَبْيَضّ حَيْثُ
لَا يُدْرَكُ بِيضُهَا مِنْ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ . هَذَا قَوْلُ الْمُبَرّدِ فِي
الْكَامِلِ وَلَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ فَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ الْأَنُوقُ الذّكَرُ
مِنْ الرّخَمِ وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى ، لِأَنّ الذّكَرَ لَا يَبْيَضّ ،
فَمَنْ أَرَادَ بَيْضَ الْأَنُوقِ فَقَدْ أَرَادَ الْمُحَالَ كَمَنْ أَرَادَ
الْأَبْلَقَ الْعَقُوقَ وَقَدْ قَالَ الْقَالِي فِي الْأَمَالِي : الْأَنُوقُ
يَقَعُ عَلَى الذّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ الرّخَمِ . وَقَوْلُهُ وَغُمْدَانُ
الّذِي حُدّثْت عَنْهُ
هُوَ الْحِصْنُ الّذِي كَانَ لِهَوْذَةَ بْنِ عَلِيّ مَلِكِ الْيَمَامَةَ ،
وَسَيَأْتِي طَرَفٌ مِنْ ذِكْرِهِ . وَمُسَمّكًا : مُرَفّعًا مِنْ قَوْلِهِ سَمَكَ
السّمَاءَ وَالنّيقُ أَعْلَى الْجَبَلِ . وَقَوْلُهُ بِمَنْهَمَةِ هُوَ مَوْضِعُ
الرّهْبَانِ . وَالرّاهِبُ يُقَالُ لَهُ النّهَامِيّ وَيُقَالُ لِلنّجّارِ أَيْضًا
: نِهَامِيّ ، فَتَكُونُ الْمَنْهَمَةُ أَيْضًا عَلَى هَذَا مَوْضِعَ نَجْرٍ . [ ص
106 ] وَأَسْفَلَهُ جُرُونٌ . جَمْعُ جُرْنٍ وَهُوَ النّقِيرُ مِنْ جَرَنَ
الثّوْبُ إذَا لَانَ [ وَانْسَحَقَ ] . وَرِوَايَةُ أَبِي الْوَلِيدِ الْوَقْشِيّ
جُرُوبٌ بِالْبَاءِ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الطّبَرِيّ بِالْبَاءِ أَيْضًا . وَفِي
حَاشِيَةِ كِتَابِ الْوَقْشِيّ الْجُرُوبُ حِجَارَةٌ سُودٌ . كَذَا نَقَلَ أَبُو
بَحْرٍ عَنْهُ فِي نُسْخَةِ كِتَابِهِ فَإِنْ صَحّ هَذَا فِي اللّغَةِ وَإِلّا
فَالْجُرُوبُ جَمْعُ جَرِيبٍ عَلَى حَذْفِ الْيَاءِ مِنْ جَرِيبٍ فَقَدْ يُجْمَعُ
الِاسْمُ عَلَى حَذْفِ الزّوَائِدِ كَمَا جَمَعُوا صَاحِبًا عَلَى أَصْحَابٍ .
وَقَالُوا : طَوِيّ وَأَطْوَاءٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَالْجَرِيبُ وَالْجِرْبَةُ
الْمَزْرَعَةُ . وَقَوْلُهُ وَحُرّ الْمَوْحَلِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَهُوَ
الْقِيَاسُ لِأَنّهُ مِنْ وَحِلَ يَوْحَلُ . وَلَوْ كَانَ الْفِعْلُ مِنْهُ وَحَلَ
عَلَى مِثْلِ وَعَدَ لَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْمَوْحِلِ الْكَسْرُ لَا غَيْرُ
وَقَدْ ذَكَرَ الْقُتَبِيّ فِيهِ اللّغَتَيْنِ الْكَسْرَ وَالْفَتْحَ وَالْأَصْلُ
مَا قَدّمْنَاهُ . وَقَوْلُهُ وَحُرّ بِضَمّ الْحَاءِ وَهُوَ خَالِصُ كُلّ شَيْءٍ
وَفِي كِتَابِ أَبِي بَحْرٍ عَنْ الْوَقْشِيّ وَحَرّ الْمَوْحَلِ بِفَتْحِ
الْحَاءِ وَالْجِيمُ مِنْ الْمَوْجَلِ مَفْتُوحَةٌ وَفَسّرَ الْمَوْجَلَ فَقَالَ
حِجَارَةٌ مُلْسٌ لَيّنَةٌ وَاَلّذِي أَذْهَبُ إلَيْهِ أَنّ الْمَوْجَلَ هَهُنَا
وَاحِدُ الْمَوَاجِلِ وَهِيَ مَنَاهِلُ الْمَاءِ وَفُتِحَتْ الْجِيمُ لِأَنّ
الْأَصْلَ مَأْجَلٌ كَذَلِكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هِيَ الْمَآجِلُ وَوَاحِدُهَا
: مَأْجَلٌ . وَفِي آثَارِ الْمُدَوّنَةِ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللّهُ - عَنْ
مَوَاجِلِ بُرْقَةَ يَعْنِي : الْمَنَاهِلَ فَلَوْ كَانَتْ الْوَاوُ فِي
الْكَلِمَةِ أَصْلًا لَقِيلَ فِي الْوَاحِدِ مَوْجِلٌ مِثْلُ مَوْضِعٍ إلّا أَنْ
يُرَادَ بِهِ مَعْنَى الْوَجَلِ فَيَكُونُ الْمَاضِي مِنْ الْفِعْلِ مَكْسُورَ
الْجِيمِ وَالْمُسْتَقْبَلُ مَفْتُوحًا ، فَيُفْتَحُ الْمَوْجَلُ حِينَئِذٍ وَلَا
مَعْنَى لَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَوْلُهُ اللّثِقُ الزّلِيقُ . اللّثِقُ
مِنْ اللّثَقِ وَهُوَ أَنْ يُخْلَطَ الْمَاءُ بِالتّرَابِ فَيَكْثُرُ مِنْهُ
الزّلَقُ قَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ غَابَ الشّفَقُ وَطَالَ الْأَرَقُ وَكَثُرَ
اللّثَقُ فَلِيَنْطِقْ مَنْ نَطَقَ . وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ أَبِي بَحْرٍ
اللّبِقُ بِالْبَاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِوَاحِدَةِ وَذَكَرَ أَنّهُ هَكَذَا وُجِدَ
فِي أَصْلِ ابْنِ هِشَامٍ ، وَلَا مَعْنَى لِلّبِقِ هَهُنَا ، وَأَظُنّهُ
تَصْحِيفًا مِنْ الرّاوِي - وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ فِي الشّعْرِ يَكَادُ
الْبُسْرُ يَهْصِرُ بِالْعُذُوقِ . أَيْ تَمِيلُ بِهَا ، وَهُوَ جَمْعُ عِذْقٍ
بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهِيَ الْكِبَاسَةُ أَوْ جَمْعُ عَذْقٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ
وَهِيَ النّخْلَةُ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي وَصْفِهَا بِالْإِيقَارِ أَنْ يَكُونَ
جَمْعُ عَذْقٍ بِالْفَتْحِ . وَقَوْلُهُ وَأَسْلَمَ ذُو نُوَاسٍ مُسْتَكِينًا .
أَيْ خَاضِعًا ذَلِيلًا ، وَفِي التّنْزِيلِ { فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبّهِمْ } [
الْمُؤْمِنُونَ 76 ] ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا :
أَنْ يَكُونَ مِنْ السّكُونِ ، وَيَكُونُ الْأَصْلُ اسْتَكَنّ عَلَى [ ص 107 ]
فَصَارَتْ أَلِفًا كَمَا قَالَ الشّاعِرُ
وَإِنّنِي حَيْثُمَا يَثْنِي الْهَوَى بَصَرِي ... مِنْ حَيْثُ مَا سَلَكُوا
أَدْنَوْ فَأَنْظُورُ
وَقَالَ آخَرُ يَا لَيْتَهَا جَرَتْ عَلَى الْكَلْكَالِ . أَرَادَ الْكَلْكَلَ .
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ اسْتَفْعَلَ مِنْ كَانَ يَكُونُ مِثْلُ
اسْتَقَامَ مِنْ قَامَ يَقُومُ . قَالَ الْمُؤَلّفُ رَحِمَهُ اللّهُ هَذَا
الْقَوْلُ الْأَخِيرُ جَيّدٌ فِي التّصْرِيفِ مُسْتَقِيمٌ فِي الْقِيَاسِ لَكِنّهُ
بَعِيدٌ فِي الْمَعْنَى عَنْ بَابِ الْخُضُوعِ وَالذّلّةِ وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ
قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى ، لَكِنّهُ بَعِيدٌ عَنْ قِيَاسِ التّصْرِيفِ إذْ لَيْسَ
فِي الْكَلَامِ فِعْلٌ عَلَى وَزْنِ افْتِعَالٍ بِأَلِفِ وَلَكِنْ وَجَدْت
لِغَيْرِ ابْنِ الْأَنْبَارِيّ قَوْلًا ثَالِثًا : إنّهُ اسْتَفْعَلَ مِنْ الْكَيْنِ
وَكَيْنُ الْإِنْسَانِ عَجُزُهُ وَمُؤَخّرُهُ وَكَأَنّ الْمُسْتَكِينَ قَدْ حَنَا
ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا يُقَالُ صَلّى ، أَيْ حَنَا صَلَاهُ وَالصّلَا : أَسْفَلُ
الظّهْرِ وَهَذَا الْقَوْلُ جَيّدٌ فِي التّصْرِيفِ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنْ
الْخُضُوعِ .
[
ص 107 ] وَقَالَ ابْنُ الذّئْبَةِ الثّقَفِيّ فِي ذَلِكَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
الذّئْبَةُ أُمّهُ وَاسْمُهُ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ يالَيْل بْنِ سَالِمِ بْنِ
مَالِكِ بْنِ حُطَيْطِ بْنِ جُشَمِ بْنِ قَسِيّ [ ص 108 ]
لَعَمْرُك مَا لِلْفَتَى مِنْ مَفَرّ ... مَعَ الْمَوْتِ يَلْحَقُهُ وَالْكِبَرُ
لَعَمْرُك مَا لِلْفَتَى صُحُرَةٌ ... لَعَمْرُك مَا إنْ لَهُ مِنْ وَزَرْ
أَبَعْدَ قَبَائِلَ مِنْ حِمْيَرَ ... أُبِيدُوا صَبَاحًا بِذَاتِ الْعَبَرْ
بِأَلْفِ أُلُوفٍ وَحَرّابَةٍ ... كَمِثْلِ السّمَاءِ قُبَيْلَ الْمَطَرْ
يُصِمّ صِيَاحَهُمْ الْمُقْرَبَاتِ ... وَيَنْفُونَ مَنْ قَاتَلُوا بِالذّفَرْ
سَعَالِيَ مِثْلُ عَدِيدِ التر ... اب تَيْبَسُ مِنْهُمْ رِطَابُ الشّجَرِSوَذَكَرَ
قَوْلَ ابْنِ الذّئْبَةِ وَاسْمُهُ وَهُوَ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ يالَيْل ،
وَقَالَ فِيهِ لَعَمْرُك مَا لِلْفَتَى صُحُرَةٌ وَهُوَ الْمُتّسَعُ أُخِذَ مِنْ
لَفْظِ الصّحْرَاءِ وَالْوِزْرُ الْمَلْجَأُ وَمِنْهُ اُشْتُقّ الْوَزِيرُ لِأَنّ
الْمَلِكَ يَلْجَأُ إلَى رَأْيِهِ وَقَدْ قِيلَ مِنْ الْوِزْرِ لِأَنّهُ يَحْمِلُ
عَنْ الْمَلِكِ أَثْقَالًا ، وَالْوِزْرُ الثّقْلُ وَلَا يَصِحّ قَوْلُ مَنْ قَالَ
هُوَ مِنْ أَزَرَهُ إذَا أَعَانَهُ لِأَنّ فَاءَ الْفِعْلِ فِي الْوَزِيرِ وَاوٌ
وَفِي الْأُزُرِ الّذِي هُوَ الْعَوْنُ هَمْزَةٌ . وَذَاتُ الْعَبَرِ أَيْ ذَاتُ
الْحُزْنِ يُقَالُ عَبَرَ الرّجُلُ إذَا حَزِنَ وَيُقَالُ لِأُمّهِ الْعُبْرُ ، كَمَا
يُقَالُ لِأُمّهِ الثّكْلُ . وَالْمُقَرّبَاتُ الْخَيْلُ الْعِتَاقُ الّتِي لَا
تَسْرَحُ فِي الْمَرْعَى ، وَلَكِنْ تُحْبَسُ قُرْبَ الْبُيُوتِ مُعَدّةً
لِلْعَدُوّ . وَقَوْلُهُ وَيَنْفُونَ مَنْ قَاتَلُوا بِالذّفَرِ . أَيْ
بِرِيحِهِمْ وَأَنْفَاسِهِمْ يَنْفُونَ مَنْ قَاتَلُوا ، وَهَذَا إفْرَاطٌ فِي
وَصْفِهِمْ بِالْكَثْرَةِ قَالَ الْبَرْقِيّ : أَرَادَ يَنْفُونَ مَنْ قَاتَلُوا
بِذَفَرِ آبَاطِهِمْ أَيْ [ ص 108 ] قَالَ الْمُؤَلّفُ - رَحِمَهُ اللّهُ - فَإِنْ
كَانَ أَرَادَ هَذَا فَإِنّمَا قَصَدَهُ لِأَنّ السّودَانَ أَنْتَنُ النّاسِ
آبَاطًا وَأَعْرَاقًا . وَقَوْلُهُ سَعَالِيَ شَبّهَهُمْ بِالسّعَالِيِ مِنْ
الْجِنّ جَمْعُ سِعْلَاةٍ [ أَوْ سِعْلَاءٍ ] . وَيُقَالُ بَلْ هِيَ السّاحِرَةُ
مِنْ الْجِنّ ، وَقَوْلُهُ كَمِثْلِ السّمَاءِ أَيْ كَمِثْلِ السّحَابِ
لِاسْوِدَادِ السّحَابِ وَظُلْمَتِهِ قُبَيْلَ الْمَطَرِ .
وَقَالَ
عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ الزّبَيْدِيّ فِي شَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
قَيْسِ بْنِ مَكْشُوحٍ الْمُرَادِيّ فَبَلَغَهُ أَنّهُ يَتَوَعّدُهُ فَقَالَ
يَذْكُرُ حِمْيَرَ وَعِزّهَا ، وَمَا زَالَ مِنْ مُلْكِهَا عَنْهَا :
أَتُوعِدُنِي كَأَنّك ذُو رُعَيْنٍ ... بِأَفْضَلِ عِيشَةٍ أَوْ ذُو نُوَاسٍ
وَكَائِنٌ كَانَ قَبْلَك مِنْ نَعِيمٍ ... وَمُلْكٍ ثَابِتٍ فِي النّاسِ رَاسِي
قَدِيمٍ عَهْدُهُ مِنْ عَهْدِ عَادٍ ... عَظِيمٍ قَاهِرِ الْجَبَرُوتِ قَاسِي
فَأَمْسَى أَهْلُهُ بَادُوا ، وَأَمْسَى ... يَحُولُ مِنْ أُنَاسٍ فِي أُنَاسٍ
نَسَبُ زُبَيْدٍ
[ ص 109 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : زُبَيْدُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ
مُنَبّهِ بْنِ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ ، وَيُقَالُ
زُبَيْدُ بْنُ مُنَبّهِ بْنِ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ وَيُقَالُ زُبَيْدُ
بْنُ صَعْبٍ . وَمُرَادٌ يُحَابِرُ بْنُ مَذْحِجَ .
عَوْدٌ إلَى شِعْرِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - إلَى سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيّ
، وَبَاهِلَةُ بْنُ يَعْصُرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ . وَهُوَ
إرْمِينِيّةُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُفَضّلَ أَصْحَابَ الْخَيْلِ الْعِرَابِ عَلَى
أَصْحَابِ الْخَيْلِ الْمَقَارِفِ فِي الْعَطَاءِ فَعَرَضَ الْخَيْلَ فَمَرّ بِهِ
فَرَسُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ فَرَسُك هَذَا
مُقْرِفٌ فَغَضِبَ عَمْرٌو ، وَقَالَ هَجِينٌ عَرَفَ هَجِينًا مِثْلَهُ فَوَثَبَ
إلَيْهِ قَيْسٌ فَتَوَعّدَهُ فَقَالَ عَمْرٌو هَذِهِ الْأَبْيَاتِ . [ ص 110 ]
عَوْدٌ إلَى شِقّ وَسَطِيحٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَهَذَا الّذِي عَنَى سَطِيحٌ الْكَاهِنُ بِقَوْلِهِ
لَيَهْبِطَن أَرْضَكُمْ الْحَبَشُ ، فَلَيَمْلِكُنّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى
جُرَشٍ وَاَلّذِي عَنَى شِقّ الْكَاهِنِ بِقَوْلِهِ " لَيَنْزِلَن أَرْضَكُمْ
السّودَانُ ، فَلَيَغْلِبُنّ عَلَى كُلّ طَفْلَةٍ الْبَنَانَ وَلْيَمْلِكُنّ مَا
بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى نَجْرَانَ " .Sفَصْلٌ
وَقَوْلُهُ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ ، وَمَعْدِي كَرِبَ بِالْحِمْيَرِيّةِ
وَجْهُ الْفَلّاحِ . الْمَعْدِي هُوَ الْوَجْهُ بِلُغَتِهِمْ وَالْكَرِبُ هُوَ
الْفَلّاحُ وَقَدْ تَقَدّمَ أَبُو كَرِبَ فَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا : أَبُو
الْفَلّاحِ . قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ . وَكَذَلِكَ
تَقَدّمَ كَلْكِي كَرِبَ وَلَا أَدْرِي مَا كَلْكِي . وَقَوْلُهُ قَيْسُ بْنُ
مَكْشُوحٍ الْمُرَادِيّ ، إنّمَا هُوَ حَلِيفٌ لِمُرَادِ وَاسْمُ مُرَادٍ
يُحَابِرُ بْنُ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ ، وَنَسَبُهُ فِي بَجِيلَةَ ،
ثُمّ فِي بَنِي أَحْمَسَ وَأَبُوهُ مَكْشُوحٌ اسْمُهُ هُبَيْرَةُ بْنُ هِلَالٍ
وَيُقَالُ عَبْدُ يَغُوثَ بْنُ هُبَيْرَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
عَامِرِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ أَحْمَسَ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ أَنْمَارٍ ،
وَأَنْمَارٌ : هُوَ وَالِدُ بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ ، وَسُمّيَ أَبُوهُ مَكْشُوحًا ،
لِأَنّهُ ضُرِبَ بِسَيْفِ عَلَى كَشْحِهِ وَيُكَنّى قَيْسَ : أَبَا شَدّادٍ وَهُوَ
قَاتِلُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيّ الْكَذّابِ هُوَ وَذَادَوَيْهِ وَفَيْرُوزُ
وَكَانَ قَيْسٌ بَطَلًا بَئِيسًا قُتِلَ مَعَ عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ -
يَوْمَ صَفّينَ وَلَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَوَاقِفُ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا
عَنْ بُهْمَةٍ مِنْ الْبُهْمِ وَكَذَلِكَ لَهُ فِي حُرُوبِ الشّامِ مَعَ الرّومِ
وَقَائِعُ وَمَوَاقِفُ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ خَالِدِ
بْنِ الْوَلِيدِ . [ ص 109 ] وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ - رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ - يُكَنّى : أَبَا ثَوْرٍ تُضْرَبُ الْأَمْثَالُ بِفُرُوسِيّتِهِ
وَبَسَالَتِهِ وَفِيهِ يَقُولُ الشّاعِرُ حِينَ مَاتَ
فَقُلْ لِزُبَيْدِ بَلْ لِمَذْحِجَ كُلّهَا ... رُزِيتُمْ أَبَا ثَوْرٍ
قَرِيعَكُمْ عَمْرًا
وَصَمْصَامَتُهُ الْمَشْهُورَةُ كَانَتْ مِنْ حَدِيدَةٍ وُجِدَتْ عِنْدَ
الْكَعْبَةِ مَدْفُونَةً فِي الْجَاهِلِيّةِ فَصُنِعَ مِنْهَا ذُو الْفَقَارِ
وَالصّمْصَامَةُ ثُمّ تَصَيّرَتْ إلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي .
يُقَالُ إنّ عَمْرًا وَهَبَهَا لَهُ لِيَدِ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنّ
رَيْحَانَةَ أُخْت عَمْرٍو الّتِي يَقُولُ فِيهَا عَمْرٌو :
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدّاعِي السّمِيعُ ... يُؤَرّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعٌ
كَانَ أَصَابَهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ فِي سَبْيٍ سَبَاهُ فَمَنّ عَلَيْهَا ،
وَخَلّى سَبِيلَهَا ، فَشَكَرَ ذَلِكَ لَهُ عَمْرٌو أَخُوهَا ، وَفِي آخِرِ
الْكِتَابِ مِنْ خَبَرِ قَيْسِ بْنِ مَكْشُوحٍ وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ
أَكْثَرُ مِمّا وَقَعَ هَهُنَا ، وَالشّعْرُ السّينِيّ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ
إسْحَاقَ وَأَوّلُهُ أَتُوعِدُنِي كَأَنّك ذُو رُعَيْنٍ . ذَكَرَ الْمَسْعُودِيّ
أَنّ عَمْرًا قَالَهُ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - حِينَ
أَرَادَ ضَرْبَهُ بِالدّرّةِ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ وَفِي الشّعْرِ زِيَادَةٌ لَمْ
تَقَعْ فِي السّيرَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ
فَلَا يَغْرُرْك مُلْكُك ، كُلّ مُلْكٍ ... يَصِيرُ لِذِلّةِ بَعْدَ الشّمَاسِ
[ ص 110 ] وَذَكَرَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ حِينَ هَجَنَ فَرَسَ عَمْرٍو ،
وَنَسَبَهُ إلَى بَاهِلَةَ بْنِ أَعْصُرَ وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ
بَاهِلِيّ ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي قُتَيْبَةَ بْنِ مَعْنٍ وَبَاهِلَةُ : أُمّهُمْ
وَهِيَ بِنْتُ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ ، وَأَبُوهُمْ
يَعْصُرُ وَهُوَ مُنَبّهُ بْنُ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ وَسُمّيَ
يَعْصُرَ لِقَوْلِهِ
أَعُمَيْرٌ إنّ أَبَاك غَيّرَ لَوْنَهُ ... مَرّ اللّيَالِي وَاخْتِلَافُ
الْأَعْصُرِ
فَيُقَالُ لَهُ أَعْصُرُ وَيَعْصُرُ وَكَانَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ قَاضِيًا
لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - عَلَى الْكُوفَةِ ، وَيُقَالُ
سَلْمَانُ الْخَيْلِ لِأَنّهُ كَانَ يَتَوَلّى النّظَرَ فِيهَا ، قَالَ أَبُو
وَائِلٍ : اخْتَلَفْت إلَى سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ،
وَهُوَ قَاضٍ فَمَا وَجَدْت عِنْدَهُ أَحَدًا يَخْتَصِمُ إلَيْهِ وَاسْتُشْهِدَ
سَلْمَانُ بِأَرْمِينِيّةَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ .
غَلَبُ
أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمِ عَلَى أَمْرِ الْيَمَنِ وَقَتْلُ أَرْيَاطٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ أَرْيَاطٌ بِأَرْضِ الْيَمَنِ سِنِينَ فِي
سُلْطَانِهِ ذَلِكَ ثُمّ نَازَعَهُ فِي أَمْرِ الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ أَبْرَهَةُ
الْحَبَشِيّ ، حَتّى تَفَرّقَتْ الْحَبَشَةُ عَلَيْهِمَا ، فَانْحَازَ إلَى كُلّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ثُمّ سَارَ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ
فَلَمّا تَقَارَبَ النّاسُ أَرْسَلَ أَبْرَهَةُ إلَى أَرْيَاطٍ : إنّك لَا
تَصْنَعُ بِأَنْ تَلْقَى الْحَبَشَةُ بَعْضُهَا بِبَعْضِ حَتّى تُفْنِيهَا شَيْئًا
، فَابْرُزْ إلَيّ وَأَبْرُزُ إلَيْك ، فَأَيّنَا أَصَابَ صَاحِبَهُ انْصَرَفَ
إلَيْهِ جُنْدُهُ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ أَرْيَاطٌ : أَنْصَفْت فَخَرَجَ إلَيْهِ أَبْرَهَةُ
- وَكَانَ رَجُلًا قَصِيرًا لَحِيمًا ، وَكَانَ ذَا دِينٍ فِي النّصْرَانِيّةِ -
وَخَرَجَ إلَيْهِ أَرْيَاطٌ وَكَانَ رَجُلًا جَمِيلًا عَظِيمًا طَوِيلًا ، وَفِي
يَدِهِ حَرْبَةٌ لَهُ وَخَلْفَ أَبْرَهَةَ غُلَامٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ عَتْوَدَةُ
يَمْنَعُ ظَهْرَهُ فَرَفَعَ أَرْيَاطٌ الْحَرْبَةَ فَضَرَبَ أَبْرَهَةَ يُرِيدُ
يَافُوخَهُ فَوَقَعَتْ الْحَرْبَةُ عَلَى جَبْهَةِ أَبْرَهَةَ فَشَرَمَتْ [ ص 111
] وَأَنْفَهُ وَعَيْنَهُ وَشَفَتَهُ فَبِذَلِكَ سُمّيَ أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمَ ،
وَحَمَلَ عَتْوَدَةُ عَلَى أَرْيَاطٍ مِنْ خَلْفِ أَبْرَهَةَ فَقَتَلَهُ
وَانْصَرَفَ جُنْدُ أَرْيَاطٍ إلَى أَبْرَهَةَ فَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَبَشَةُ
بِالْيَمَنِ وَوَدَى أَبْرَهَةُ أَرِيَاطًا .
مَوْقِفُ النّجَاشِيّ
مِنْ أَبْرَهَةَ فَلَمّا بَلَغَ النّجَاشِيّ غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَ
عَدَا عَلَى أَمِيرِي ، فَقَتَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِي ، ثُمّ حَلَفَ لَا يَدَعُ
أَبْرَهَةَ حَتّى يَطَأَ بِلَادَهُ وَيَجُزّ نَاصِيَتَهُ فَحَلَقَ أَبْرَهَةُ
رَأْسَهُ وَمَلَأَ جِرَابًا مِنْ تُرَابِ الْيَمَنِ ، ثُمّ بَعَثَ إلَى
النّجَاشِيّ ، ثُمّ كَتَبَ إلَيْهِ " أَيّهَا الْمَلِكُ إنّمَا كَانَ
أَرْيَاطٌ عَبْدَك ، وَأَنَا عَبْدُك ، فَاخْتَلَفْنَا فِي أَمْرِك ، وَكُلّ
طَاعَتُهُ لَك ، إلّا أَنّي كُنْت أَقْوَى عَلَى أَمْرِ الْحَبَشَةِ ، وَأَضْبَطَ
لَهَا ، وَأَسْوَسَ مِنْهُ وَقَدْ حَلَقْت رَأْسِي كُلّهُ حِينَ بَلَغَنِي قَسَمُ
الْمَلِكِ وَبَعَثْت إلَيْهِ بِجِرَابِ تُرَابٍ مِنْ أَرْضِي ؛ لِيَضَعَهُ تَحْتَ
قَدَمَيْهِ فَيَبَرّ قَسَمَهُ فِيّ " . فَلَمّا انْتَهَى ذَلِكَ إلَى
النّجَاشِيّ رَضِيَ عَنْهُ وَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ اُثْبُتْ بِأَرْضِ الْيَمَنِ
حَتّى يَأْتِيَك أَمْرِي ، فَأَقَامَ أَبْرَهَةُ بِالْيَمَنِ .Sوَذَكَرَ
خَبَرَ عَتْوَدَةَ غُلَامَ أَبْرَهَةَ وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ حَدِيثِهِ فِيمَا
مَضَى ، وَمَا زَادَ فِيهِ الطّبَرِيّ وَغَيْرُهُ وَأَنّ الْعَتْوَدَةَ الشّدّةُ
فِي الْحَرْبِ . وَذَكَرَ أَنّ أَرْيَاطًا عَلَا بِالْحَرْبَةِ أَبْرَهَةَ فأخطأ
يَافُوخَهُ . وَالْيَافُوخُ وَسَطُ الرّأْسِ . وَيُقَالُ لَهُ [ ص 111 ] سُمّيَ
يَأْفُوخًا بِالْهَمْزِ عَلَى وَزْنِ يَفْعُولٍ وَجَمْعُهُ يَآفِيخٌ قَالَ
الْعَجّاجُ ضَرِبٌ إذَا صَابَ الْيَآفِيخَ حَفَرَ
وَقَوْلُهُ شَرَمَ أَنْفَهُ وَشَفَتَهُ أَيْ شَقّهُمَا .
أَمْرُ
الْفِيلِ وَقِصّةُ النّسْأَةِ
كَنِيسَةُ أَبْرَهَةَ
ثُمّ إنّ أَبْرَهَةَ بَنَى الْقُلّيْسَ بِصَنْعَاءَ فَبَنَى كَنِيسَةً لَمْ يُرَ
مِثْلُهَا فِي زَمَانِهَا بِشَيْءِ مِنْ [ ص 112 ] كَتَبَ إلَى النّجَاشِيّ : إنّي
قَدْ بَنَيْت لَك أَيّهَا الْمَلِكُ كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ مِثْلُهَا لِمَلِكِ
كَانَ قَبْلَك ، وَلَسْت بِمُنْتَهٍ حَتّى أَصْرِفَ إلَيْهَا حَجّ الْعَرَبِ ،
فَلَمّا تَحَدّثَتْ الْعَرَبُ بِكِتَابِ أَبْرَهَةَ ذَلِكَ إلَى النّجَاشِيّ ،
غَضِبَ رَجُلٌ مِنْ النّسْأَةِ ، أَحَدُ بَنِي فُقَيْمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرِ
بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ
بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ .Sخَبَرُ
الْقُلّيْسِ مَعَ الْفِيلِ وَذِكْرُ بُنْيَانِ أَبْرَهَةَ لِلْقُلّيْسِ
وَهِيَ الْكَنِيسَةُ الّتِي أَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ إلَيْهَا حَجّ الْعَرَبِ ،
وَسُمّيَتْ هَذِهِ الْكَنِيسَةُ الْقُلّيْسَ لِارْتِفَاعِ بِنَائِهَا وَعُلْوِهَا
، وَمِنْهُ الْقَلَانِسُ لِأَنّهَا فِي أَعْلَى الرّءُوسِ وَيُقَالُ تَقَلْنَسَ
الرّجُلُ وَتَقَلّسَ [ ص 112 ] وَكَانَ أَبْرَهَةُ قَدْ اسْتَذَلّ أَهْلَ
الْيَمَنِ فِي بُنْيَانِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ وَجَشّمَهُمْ فِيهَا أَنْوَاعًا مِنْ
السّخْرِ وَكَانَ يَنْقُلُ إلَيْهَا الْعَدَدَ مِنْ الرّخَامِ الْمُجَزّعِ
وَالْحِجَارَةُ الْمَنْقُوشَةُ بِالذّهَبِ مِنْ قَصْرِ بِلْقِيسَ صَاحِبَةِ
سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَكَانَ فِي مَوْضِعِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ
عَلَى فَرَاسِخَ وَكَانَ فِيهِ بَقَايَا مِنْ آثَارِ مُلْكِهَا ، فَاسْتَعَانَ
بِذَلِكَ عَلَى مَا أَرَادَهُ فِي هَذِهِ الْكَنِيسَةِ مِنْ بَهْجَتِهَا
وَبِهَائِهَا ، وَنَصَبَ فِيهَا صُلْبَانًا مِنْ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَمَنَابِرَ
مِنْ الْعَاجِ وَالْآبُنُسِ وَكَانَ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ فِي بِنَائِهَا حَتّى
يُشْرِفَ مِنْهَا عَلَى عَدَنَ ، وَكَانَ حُكْمُهُ فِي الْعَامِلِ إذَا طَلَعَتْ
عَلَيْهِ الشّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي عَمَلِهِ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ فَنَامَ
رَجُلٌ مِنْهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ حَتّى طَلَعَتْ الشّمْسُ فَجَاءَتْ مَعَهُ أُمّهُ
وَهِيَ امْرَأَةٌ عَجُوزٌ فَتَضَرّعَتْ إلَيْهِ تَسْتَشْفِعُ لِابْنِهَا ، فَأَبَى
إلّا أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ فَقَالَتْ اضْرِبْ بِمِعْوَلِك الْيَوْمَ فَالْيَوْمُ
لَك ، وَغَدًا لِغَيْرِك ، فَقَالَ وَيْحَك مَا قُلْت ؟ فَقَالَتْ نَعَمْ كَمَا
صَارَ هَذَا الْمُلْكُ مِنْ غَيْرِك إلَيْك ، فَكَذَلِكَ يَصِيرُ مِنْك إلَى
غَيْرِك ، فَأَخَذَتْهُ مَوْعِظَتُهَا ، وَأَعْفَى النّاسَ مِنْ الْعَمَلِ فِيهَا
بَعْدُ . فَلَمّا هَلَكَ وَمُزّقَتْ الْحَبَشَةُ كُلّ مُمَزّقٍ وَأُقْفِرَ مَا
حَوْلَ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ فَلَمْ يَعْمُرْهَا أَحَدٌ ، وَكَثُرَتْ حَوْلَهَا
السّبَاعُ وَالْحَيّاتُ وَكَانَ كُلّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهَا
أَصَابَتْهُ الْجِنّ ، فَبَقِيَتْ مِنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ بِمَا فِيهَا مِنْ
الْعُدَدِ وَالْخَشَبِ الْمُرَصّعِ بِالذّهَبِ وَالْآلَاتِ الْمُفَضّضَةِ الّتِي
تُسَاوِي قَنَاطِيرَ مِنْ الْمَالِ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا
شَيْئًا إلَى زَمَنِ أَبِي الْعَبّاسِ فَذُكِرَ لَهُ أَمْرُهَا ، وَمَا يُتَهَيّبُ
مِنْ جِنّهَا وَحَيّاتِهَا ، فَلَمْ يَرُعْهُ ذَلِكَ . وَبَعَثَ إلَيْهَا بِابْنِ
الرّبِيعِ عَامِلِهِ عَلَى الْيَمَنِ مَعَهُ أَهْلُ الْحَزْمِ وَالْجَلَادَةِ
فَخَرّبَهَا ، وَحَصَلُوا مِنْهَا مَالًا كَثِيرًا بِبَيْعِ مَا أَمْكَنَ بَيْعُهُ
مِنْ رُخَامِهَا وَآلَاتِهَا ، فَعَفَا بَعْدَ ذَلِكَ رَسْمُهَا ، وَانْقَطَعَ
خَبَرُهَا ، وَدُرِسَتْ آثَارُهَا ، وَكَانَ الّذِي يُصِيبُهُمْ مِنْ الْجِنّ
يَنْسُبُونَهُ إلَى كُعَيْبٍ وَامْرَأَتِهِ صَنَمَيْنِ كَانَتْ الْكَنِيسَةُ
عَلَيْهِمَا ، فَلَمّا كُسِرَ كُعَيْبٌ وَامْرَأَتُهُ أُصِيبَ الّذِي كَسَرَهُ
بِجُذَامِ فَافْتُتِنَ بِذَلِكَ رَعَاعُ الْيَمَنِ وَطَغَامُهُمْ وَقَالُوا :
أَصَابَهُ كُعَيْبٌ وَذَكَرَ أَبُو الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيّ أَنّ كُعَيْبًا كَانَ
مِنْ خَشَبٍ طُولُهُ سِتّونَ ذِرَاعًا .
النّسِيءُ
وَالنّسَأَةُ
الّذِينَ كَانُوا [ ص 113 ] الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَيُحِلّونَ الشّهْرَ
مِنْ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ، وَيُحَرّمُونَ مَكَانَهُ الشّهْرَ مِنْ أَشْهُرِ
الْحِلّ وَيُؤَخّرُونَ ذَلِكَ الشّهْرَ فَفِيهِ أَنَزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى : { إِنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ
كَفَرُوا يُحِلّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ مَا
حَرّمَ اللّهُ } [ التّوْبَةُ 37 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : لِيُوَاطِئُوا :
لِيُوَافِقُوا ، وَالْمُوَاطَأَةُ الْمُوَافَقَةُ تَقُولُ الْعَرَبُ : وَاطَأْتُك
عَلَى هَذَا الْأَمْرِ أَيْ وَافَقْتُك عَلَيْهِ وَالْإِيطَاءُ فِي الشّعْرِ
الْمُوَافَقَةُ وَهُوَ اتّفَاقُ الْقَافِيَتَيْنِ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ وَجَنْسٍ
وَاحِدٍ نَحْوَ قَوْلِ الْعَجّاجِ - وَاسْمُ الْعَجّاجِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
رُؤْبَةَ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمِ بْنِ مُرّ بْنِ
أُدّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ : فِي أُثْعُبَانِ
الْمَنْجَنُونِ الْمُرْسَلِ
ثُمّ قَالَ مُدّ الْخَلِيجَ فِي الْخَلِيجِ الْمُرْسَلِ
" وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ " : قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَكَانَ أَوّلَ مَنْ نَسَأَ الشّهُورَ عَلَى الْعَرَبِ ، حَلّتْ
مِنْهَا مَا أَحَلّ وَحَرّمَتْ مِنْهَا مَا حَرّمَ الْقَلَمّسُ وَهُوَ حُذَيْفَةُ
بْنُ عَبْدِ بْنِ فُقَيْمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ ، ثُمّ قَامَ بَعْدَهُ
عَلَى ذَلِكَ ابْنُهُ عَبّادُ بْنُ حُذَيْفَةَ ثُمّ قَامَ بَعْدَ عَبّادٍ قَلَعُ
بْنُ عَبّادٍ ثُمّ قَامَ بَعْدَ قَلَعٍ أُمَيّةُ بْنُ قَلَعٍ ثُمّ قَامَ بَعْدَ
أُمَيّةَ [ ص 114 ] جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ . وَكَانَ آخِرَهُمْ وَعَلَيْهِ قَامَ [
ص 115 ] وَكَانَتْ الْعَرَبُ إذَا فَرَغَتْ مِنْ حَجّهَا اجْتَمَعَتْ إلَيْهِ
فَحَرّمَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ الْأَرْبَعَةَ رَجَبًا ، وَذَا الْقَعْدَةِ وَذَا
الْحَجّةِ وَالْمُحَرّمَ . فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِلّ شَيْئًا أَحَلّ الْمُحَرّمَ
فَأَحَلّوهُ [ ص 116 ] مَكَانَهُ صَفَرًا فَحَرّمُوهُ لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ
الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ . فَإِذَا أَرَادُوا الصّدْرَ قَامَ فِيهِمْ
فَقَالَ " اللّهُمّ إنّي قَدْ أَحَلَلْت لَك أَحَدَ الصّفَرَيْنِ الصّفَرَ
الْأَوّلَ وَنَسَأْت الْآخَرَ لِلْعَامِ الْمُقْبِلِ " . فَقَالَ فِي ذَلِكَ
عُمَيْرُ بْنُ قَيْسٍ " جِذْلُ الطّعَانِ " أَحَدُ بَنِي فِرَاسِ بْنِ
غَنَمِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ ، يَفْخَرُ بِالنّسَأَةِ
عَلَى الْعَرَبِ :
لَقَدْ عَلِمَتْ مَعَدّ أَنّ قَوْمِي ... كِرَامُ النّاسِ أَنّ لَهُمْ كِرَامَا
فَأَيّ النّاسِ فَاتُونَا بِوِتْرِ ... وَأَيّ النّاسِ لَمْ نُعْلِك لِجَامَا
أَلَسْنَا النّاسِئِينَ عَلَى مَعَدّ ... شُهُورَ الْحِلّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَوّلُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ : الْمُحَرّمُ .Sالنّسِيءُ
وَالنّسَأَةُ
[ ص 113 ] وَذَكَرَ النّسَأَةَ وَالنّسِيءَ مِنْ الْأَشْهُرِ . فَأَمّا النّسَأَةُ
فَأَوّلُهُمْ الْقَلَمّسُ وَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ بْنِ فُقَيْمٍ وَقِيلَ
لَهُ الْقَلَمّسُ لِجُودِهِ إذْ الْقَلَمّسُ مِنْ أَسْمَاءِ الْبَخْرِ وَأَنْشَدَ
قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ
إلَى نَضَدٍ مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ كَأَنّهُمْ ... هِضَابُ أَجَا أَرْكَانُهُ لَمْ
تَقَصّفْ
قَلَامِسَةٌ سَاسُوا الْأُمُورَ فَأُحْكِمَتْ ... سِيَاسَتُهَا حَتّى أَقَرّتْ
لِمُرْدِفِ
[ ص 114 ] وَذَكَرَ أَبُو عَلِيّ الْقَالِي فِي الْأَمَالِي أَنّ الّذِي نَسَأَ
الشّهُورَ مِنْهُمْ نُعَيْمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَلَيْسَ هَذَا بِمَعْرُوفِ وَأَمّا
نَسَؤُهُمْ لِلشّهْرِ فَكَانَ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا : مَا ذَكَرَ ابْنُ
إسْحَاقَ مِنْ تَأْخِيرِ شَهْرِ الْمُحَرّمِ إلَى صَفَرٍ لِحَاجَتِهِمْ إلَى شَنّ
الْغَارَاتِ وَطَلَبِ الثّارّاتِ وَالثّانِي : تَأْخِيرُهُمْ الْحَجّ عَنْ
وَقْتِهِ تَحَرّيًا مِنْهُمْ لِلسّنَةِ الشّمْسِيّةِ فَكَانُوا يُؤَخّرُونَهُ فِي
كُلّ عَامٍ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ، أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا ، حَتّى يَدُورَ
الدّوْرُ إلَى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَيَعُودُ إلَى وَقْتِهِ وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ : إنّ الزّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ
كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَكَانَتْ حَجّةُ
الْوَدَاعِ فِي السّنَةِ الّتِي عَادَ فِيهَا الْحَجّ إلَى وَقْتِهِ وَلَمْ يَحُجّ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكّةَ
غَيْرَ تِلْكَ الْحَجّةِ وَذَلِكَ لِإِخْرَاجِ الْكُفّارِ الْحَجّ عَنْ وَقْتِهِ
وَلِطَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - إذْ كَانَتْ مَكّةُ بِحُكْمِهِمْ
حَتّى فَتَحَهَا اللّهُ عَلَى نَبِيّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ
شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ نَرَى أَنّ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ { يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْأَهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجّ } [ الْبَقَرَةُ 189 ]
. وَخَصّ الْحَجّ بِالذّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقّتَةِ
بِالْأَوْقَاتِ تَأْكِيدًا لِاعْتِبَارِهِ بِالْأَهِلّةِ دُونَ حِسَابِ
الْأَعَاجِمِ مِنْ أَجْلِ مَا كَانُوا أَحْدَثُوا فِي الْحَجّ مِنْ الِاعْتِبَارِ
بِالشّهُورِ الْعَجَمِيّةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ قَوْلَ
الْعَجّاجِ فِي أُثْعُبَانِ الْمَنْجَنُونِ الْمُرْسَلِ . الْأُثْعُبَانُ مَا
يَنْدَفِعُ مِنْ الْمَاءِ مِنْ شُعَبِهِ . وَالْمَنْجَنُونُ أَدَاةُ السّانِيَةِ
وَالْمِيمُ فِي الْمَنْجَنُونِ أَصْلِيّةٌ فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ ، وَكَذَلِكَ
النّونُ لِأَنّهُ يُقَالُ فِيهِ مَنْجَنِينُ مِثْلُ عَرْطَلِيلٍ وَقَدْ ذَكَرَ
سِيبَوَيْهِ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ أَنّ النّونَ زَائِدَةٌ
إلّا أَنّ بَعْضَ رُوَاةِ الْكِتَابِ قَالَ فِيهِ مُنْحَنُونَ بِالْحَاءِ فَعَلَى
هَذَا لَمْ يَتَنَاقَضْ كَلَامُهُ - رَحِمَهُ اللّهُ - وَفِي أَدَاةِ السّانِيَةِ
الدّولَابُ بِضَمّ الدّالِ وَفَتْحِهَا ، وَالشّهْرَقُ وَهُوَ الّذِي يُلْقَى
عَلَيْهِ حَبْلُ الْأَقْدَاسِ وَاحِدُهَا : قُدْسٌ وَالْعَامّةُ تَقُولُ قَادُوسٌ
وَالْعَصَامِيرُ عِيدَانُ السّانِيَةِ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ : وَقَالَ صَاحِبُ
الْعَيْنِ الْعُصْمُورُ عُودُ السّانِيَةِ . وَقَوْلُهُ مَدّ الْخَلِيجُ .
الْخَلِيجُ : الْجَبَلُ وَالْخَلِيجُ أَيْضًا : خَلِيجُ الْمَاءِ . وَذَكَرَ اسْمَ
الْعَجّاجِ وَلَمْ يُكَنّهِ وَكُنْيَتُهُ أَبُو الشّعْثَاءِ ، وَسُمّيَ الْعَجّاجُ
بِقَوْلِهِ حَتّى يَعِجّ عِنْدَهَا مَنْ عَجّجَا . [ ص 115 ] وَقَالَ عُمَيْرُ
بْنُ قَيْسٍ : كِرَامُ النّاسِ أَنّ لَهُمْ كِرَامًا . أَيْ آبَاءً كِرَامًا ،
وَأَخْلَاقًا كِرَامًا . وَقَوْلُهُ وَأَيّ النّاسِ لَمْ نُعْلِك لِجَامًا . أَيْ
لَمْ نَقْدَعْهُمْ وَنَكْفِهِمْ كَمَا يُقْدَعُ الْفَرَسُ بِاللّجَامِ . تَقُولُ
أَعْلَكْت الْفَرَسَ لِجَامَهُ إذَا رَدَدْته عَنْ تَنَزّعِهِ فَمَضَغَ اللّجَامَ
كَالْعِلْكِ مِنْ نَشَاطِهِ فَهُوَ مَقْدُوعٌ قَالَ الشّاعِرُ
وَإِذَا احْتَبَى قَرَبُوسَهُ بِعِنَانِهِ ... عَلَكَ اللّجَامُ إلَى انْصِرَافِ
الزّائِرِ
وَكَانَ عُمَيْرٌ هَذَا مِنْ أَطْوَلِ النّاسِ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي مُقْبِلِي
الظّعُنِ وَسُمّيَ جِذْلَ الطّعّانِ لِثَبَاتِهِ فِي الْحَرْبِ كَأَنّهُ جِذْلُ
شَجَرَةٍ وَاقِفٍ وَقِيلَ لِأَنّهُ كَانَ يُسْتَشْفَى بِرَأْيِهِ وَيُسْتَرَاحُ
إلَيْهِ كَمَا تَسْتَرِيحُ الْبَهِيمَةُ الْجَرْبَاءُ إلَى الْجَذِلِ تَحْتَكّ
بِهِ وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ الْحُبَابِ [ ابْنِ الْمُنْذِرِ ] : أَنَا
جُذَيْلُهَا الْمُحَكّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرْجِبُ وَقَوْلُ الْأَعْرَابِيّ
يَصِفُ ابْنَهُ إنّهُ لِجَذْلُ حِكَاكٍ وَمِدْرَهُ لِكَاكٍ . وَاللّكَاكُ
الزّحَامُ .
فَصْلٌ
وَذَكَرَ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ مِنْ النّسَأَةِ ، وَعَلَيْهِ قَامَ الْإِسْلَامُ
وَلَمْ يَذْكُرْ هَلْ أَسْلَمَ أَمْ لَا ، وَقَدْ وَجَدْت لَهُ خَبَرًا يَدُلّ
عَلَى إسْلَامِهِ حَضَرَ الْحَجّ فِي زَمَنِ عُمَرَ فَرَأَى النّاسَ يَزْدَحِمُونَ
عَلَى الْحَجّ فَنَادَى : أَيّهَا النّاسُ إنّي قَدْ أَجَرْته مِنْكُمْ فَخَفَقَهُ
عُمَرُ بِالدّرّةِ وَقَالَ وَيْحَك : إنّ اللّهَ قَدْ أَبْطَلَ أَمْرَ
الْجَاهِلِيّةِ . وَذَكَرَ الْبَرْقِيّ عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ قَالَ فَنَسَأَ
قَلَعُ بْنُ عَبّادٍ سَبْعَ سِنِينَ وَنَسَأَ بَعْدَهُ أُمَيّةُ بْنُ قَلَعٍ
إحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً ثُمّ نَسَأَ مِنْ بَعْدِهِ جُنَادَةُ وَهُوَ أَبُو
أُمَامَةَ وَهُوَ الْقَلَمّسُ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ
وَقَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ : أَوّلُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ : الْمُحَرّمُ قَوْلٌ
وَقَدْ قِيلَ أَوّلُهَا ذُو الْقَعْدَةِ لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَدَأَ بِهِ حِينَ ذَكَرَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ ، وَمَنْ
قَالَ الْمُحَرّمُ أَوّلُهَا ، احْتَجّ بِأَنّهُ أَوّلُ السّنَةِ وَفِقْهُ هَذَا
الْخِلَافِ أَنّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ، فَيُقَالُ لَهُ
عَلَى الْأَوّلِ ابْدَأْ بِالْمُحَرّمِ ثُمّ بِرَجَبِ ثُمّ بِذِي الْقَعْدَةِ
وَذِي الْحَجّةِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يُقَالُ لَهُ ابْدَأْ بِذِي الْقَعْدَةِ
حَتّى يَكُونَ آخِرُ صِيَامِك فِي رَجَبٍ مِنْ الْعَامِ الثّانِي .
سَبَبُ
حَمْلَةِ أَبْرَهَةَ عَلَى الْكَعْبَةِ
[ ص 117 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَخَرَجَ الْكِنَانِيّ حَتّى أَتَى الْقُلّيْسَ
فَقَعَدَ فِيهَا - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يَعْنِي أَحْدَثَ فِيهَا - قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : ثُمّ خَرَجَ فَلَحِقَ بِأَرْضِهِ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبْرَهَةُ
فَقَالَ مَنْ صَنَعَ هَذَا ؟ فَقِيلَ لَهُ صَنَعَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ
مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ الّذِي تَحُجّ الْعَرَبُ إلَيْهِ بِمَكّةَ لَمّا
سَمِعَ قَوْلَك : " أَصْرِفُ إلَيْهَا حَجّ الْعَرَبِ " غَضِبَ فَجَاءَ
فَقَعَدَ فِيهَا ، أَيْ أَنّهَا لَيْسَتْ لِذَلِكَ بِأَهْلِ . فَغَضِبَ عِنْدَ
ذَلِكَ أَبْرَهَةُ وَحَلَفَ لَيَسِيرَن إلَى الْبَيْتِ حَتّى يَهْدِمَهُ ثُمّ
أَمَرَ الْحَبَشَةَ فَتَهَيّأَتْ وَتَجَهّزَتْ ثُمّ سَارَ وَخَرَجَ مَعَهُ
بِالْفِيلِ وَسَمِعَتْ بِذَلِكَ الْعَرَبُ ، فَأَعْظَمُوهُ وَفَظِعُوا بِهِ
وَرَأَوْا جِهَادَهُ حَقّا عَلَيْهِمْ حِينَ سَمِعُوا بِأَنّهُ يُرِيدُ هَدْمَ
الْكَعْبَةِ ، بَيْتِ اللّهِ الْحَرَامِ .Sالْقُعُودُ
عَلَى الْمَقَابِرِ
[ ص 116 ] خَرَجَ الْكِنَانِيّ حَتّى قَعَدَ فِي الْقُلّيْسِ أَيْ أَحْدَثَ فِيهَا
، وَفِيهِ شَاهِدٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي تَفْسِيرِ
الْقُعُودِ عَلَى الْمَقَابِرِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ وَأَنّ ذَلِكَ لِلْمَذَاهِبِ
كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
ذُو
نَفْرٍ وَنُفَيْلٌ يُحَاوِلَانِ حِمَايَةَ الْبَيْتِ
[ ص 118 ] فَخَرَجَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَمُلُوكِهِمْ
يُقَالُ لَهُ ذُو نَفْرٍ ، فَدَعَا قَوْمَهُ وَمَنْ أَجَابَهُ مِنْ سَائِرِ
الْعَرَبِ إلَى حَرْبِ أَبْرَهَةَ وَجِهَادُهُ عَنْ بَيْتِ اللّهِ الْحَرَامِ
وَمَا يُرِيدُ مِنْ هَدْمِهِ وَإِخْرَابِهِ فَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ مَنْ
أَجَابَهُ ثُمّ عَرَضَ لَهُ فَقَاتَلَهُ فَهُزِمَ ذُو نَفْرٍ وَأَصْحَابُهُ
وَأَخَذَ لَهُ ذُو نَفْرٍ ، فَأُتِيَ بِهِ أَسِيرًا ، فَلَمّا أَرَادَ قَتْلَهُ قَالَ
لَهُ ذُو نَفْرٍ : أَيّهَا الْمَلِكُ لَا تَقْتُلْنِي فَإِنّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ
بَقَائِي مَعَك خَيْرًا لَك مِنْ قَتْلِي ، فَتَرَكَهُ مِنْ الْقَتْلِ وَحَبَسَهُ
عِنْدَهُ فِي وَثَاقٍ وَكَانَ أَبْرَهَةُ رَجُلًا حَلِيمًا . ثُمّ مَضَى
أَبْرَهَةُ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ يُرِيدُ مَا خَرَجَ لَهُ حَتّى إذَا كَانَ
بِأَرْضِ خَثْعَمَ عَرَضَ لَهُ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيّ فِي قَبِيلَيْ
خَثْعَمَ شَهْرَانَ وَنَاهِسَ ، وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ ،
فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أَبْرَهَةُ وَأَخَذَ لَهُ نُفَيْلٌ أَسِيرًا ، فَأُتِيَ
بِهِ فَلَمّا هَمّ بِقَتْلِهِ قَالَ لَهُ نُفَيْلٌ أَيّهَا الْمَلِكُ لَا
تَقْتُلْنِي فَإِنّي دَلِيلُك بِأَرْضِ الْعَرَبِ ، وَهَاتَانِ يَدَايَ لَك عَلَى
قَبِيلَيْ خَثْعَمَ : شَهْرَانَ وَنَاهِسَ بِالسّمْعِ وَالطّاعَةِ فَخَلّى سَبِيلَهُ
.Sأَنْسَابٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ نُفَيْلٍ الْخَثْعَمِيّ وَهَاتَانِ يَدَايَ لَك عَلَى شَهْرَانَ
وَنَاهِسَ ، وَهُمَا قَبِيلَا خَثْعَمَ ، أَمَا خَثْعَمُ : فَاسْمُ جَبَلٍ سُمّيَ
بِهِ بَنُو عِفْرِسِ بْنِ خُلْفِ بْنِ أَفْتَلَ بْنِ أَنْمَارٍ ، لِأَنّهُمْ
نَزَلُوا عِنْدَهُ وَقِيلَ إنّهُمْ تَخَثْعَمُوا بِالدّمِ عِنْدَ حِلْفٍ عَقَدُوهُ
بَيْنَهُمْ أَيْ تَلَطّخُوا ، وَقِيلَ بَلْ خَثْعَمُ ثَلَاثٌ شَهْرَانُ وَنَاهِسُ
وَأَكْلُبُ غَيْرَ أَنّ أَكْلُبَ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ هُوَ ابْنُ رَبِيعَةَ
بْنِ نِزَارٍ وَلَكِنّهُمْ دَخَلُوا فِي خَثْعَمَ ، وَانْتَسَبُوا إلَيْهِمْ
فَاَللّهُ أَعْلَمُ . قَالَ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ :
مَا أَكْلُبُ مِنّا ، وَلَا نَحْنُ مِنْهُمْ ... وَمَا خَثْعَمُ يَوْمَ الْفَخَارِ
وَأَكْلُبُ
قَبِيلَةُ سُوءٍ مِنْ رَبِيعَةَ أَصْلُهَا ... فَلَيْسَ لَهَا عَمّ لَدَيْنَا ،
وَلَا أَبٌ
فَأَجَابَهُ الْأَكْلَبِيّ فَقَالَ
إنّي مِنْ الْقَوْمِ الّذِينَ نَسَبْتنِي ... إلَيْهِمْ كَرِيمُ الْجَدّ وَالْعَمّ
وَالْأَبِ
فَلَوْ كُنْت ذَا عِلْمٍ بِهِمْ مَا نَفَيْتنِي ... إلَيْهِمْ تَرَى أَنّي
بِذَلِكَ أُثْلَبُ
فَإِنْ لَا يَكُنْ عَمّايَ خُلْفًا وَنَاهِسًا ... فَإِنّي امْرِئِ عَمّايَ بَكْرٌ
وَتَغْلِبُ
أَبُونَا الّذِي لَمْ تُرْكَبُ الْخَيْلُ قَبْلَهُ ... وَلَمْ يَدْرِ مَرْءٌ
قَبْلَهُ كَيْفَ يَرْكَبُ
[ ص 117 ] رَبِيعَةَ ، وَرَبِيعَةُ كَانَ يُقَالُ لَهُ رَبِيعَةُ الْفَرَسِ .
وَأَمّا ثَقِيفٌ وَمَا ذُكِرَ مِنْ اخْتِلَافِ النّسّابِينَ فِيهِمْ فَبَعْضُهُمْ
يَنْسُبُهُمْ إلَى إيَادٍ ، وَبَعْضُهُمْ يَنْسُبُهُمْ إلَى قَيْسٍ ، وَقَدْ
نُسِبُوا إلَى ثَمُودَ أَيْضًا . وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْهُ -
عَلَيْهِ السّلَامُ - رَوَاهُ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ فِي جَامِعِهِ وَكَذَلِكَ
أَيْضًا رُوِيَ فِي الْجَامِعِ أَنّ أَبَا رِغَالٍ مِنْ ثَمُودَ ، وَأَنّهُ كَانَ
بِالْحَرَمِ حِينَ أَصَابَ قَوْمَهُ الصّيْحَةُ فَلَمّا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ
أَصَابَهُ مِنْ الْهَلَاكِ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ فَدُفِنَ هُنَاكَ وَدُفِنَ مَعَهُ
غُصْنَانِ مِنْ ذَهَبٍ وَذُكِرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - مَرّ بِالْقَبْرِ وَأَمَرَ بِاسْتِخْرَاجِ الْغُصْنَيْنِ مِنْهُ
فَاسْتَخْرَجَا . وَقَالَ جَرِيرٌ أَوْ غَيْرُهُ
إذَا مَاتَ الْفَرَزْدَقُ فَارْجُمُوهُ ... كَرَجْمِكُمْ لِقَبْرِ أَبِي رِغَالِ
وَوَقَعَ فِي هَذِهِ النّسْخَةِ فِي ن