Translate ***

الاثنين، 1 أغسطس 2022

مجلد1 و2. زاد المعاد في هدي خير العباد محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى : 751هـ)

 

ج1. زاد المعاد في هدي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى : 751هـ)

المجلد الأول
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
حسبي الله ونعم الوكيل
مقدمة المؤلف
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين ولا إله إلا الله إله الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين ومالك يوم الدين الذي لا فوز إلا في طاعته ولا عز إلا في التذلل لعظمته ولا غنى إلا في الإفتقار إلى رحمته ولا هدى إلا في الإستهداء بنوره ولا حياة إلا في رضاه ولا نعيم إلا في قربه ولا صلاح للقلب ولا فلاح إلا في الإخلاص له وتوحيد حبه الذي إذا أطيع شكر وإذا عصي تاب وغفر وإذا دعي أجاب وإذا عومل أثاب
والحمد لله الذي شهدت له بالربوبية جميع مخلوقاته وأقرن له بالإلهية جميع مصنوعاته وشهدت بأنه الله الذي لا إله إلا هو بما أودعها من عجائب صنعته وبدائع آياته وسبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ولا إله إلاالله وحده لا شريك له في إلهيته كما لا شريك له في ربوبيته ولا شبيه له في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته والله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا وسبحان من سبحت له السماوات وأملاكها والنجوم وأفلاكها والأرض وسكانها

والبحار وحيتانها والنجوم والجبال والشجر والدواب والآكام والرمال وكل رطب ويابس وكل حي وميت { تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا } [الإسراء : 44]
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمة قامت بها الأرض والسماوات وخلقت لأجلها جميع المخلوقات وبها أرسل الله تعالى رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه ولأجلها نصبت الموازين ووضعت الدواوين وقام سوق الجنة والنار وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار والأبرار والفجار فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب وهي الحق الذي خلقت له الخليقة وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب وعليها يقع الثواب والعقاب وعليها نصبت القبلة وعليها أسست الملة ولأجلها جردت سيوف الجهاد وهي حق الله على جميع العباد فهي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام وعنها يسأل الأولون والآخرون فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين
فجواب الأولى بتحقيق لا إله إلا الله معرفة وإقرارا وعملا وجواب الثانية بتحقيق أن محمدا رسول الله معرفة وإقرارا وانقياد وطاعة
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه وسفيره بينه وبين عباده المبعوث بالدين القويم والمنهج المستقيم أرسلة الله رحمة للعالمين وإماما للمتقين وحجة على الخلائق أجمعين أرسله على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل وافترض

على العباد طاعتَه وتعزيره وتوقيره ومحبته، والقيام بحقوقه، وسدَّ دون جنَته الطرق، فلن تفتح لأحد إلا من طريقه، فشرح له صدرَه، ورفع له ذِكْره، ووضع عنه وِزره، وجعل الذِّلَةَ والصَّغار على من خالف أمره. ففي "المسند" من حديث أبي منيب الجُرَشي،عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بُعِثْتُ بالسَّيفِ بَينَ يدِي الساعةِ حتى يُعْبَدَ اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وجُعِلَ رِزقي تحتَ ظِلَ رمُحي، وجُعِلَ الذِّلَةُ والصَّغَار على مَنْ خالف أمري، ومن تشبَّه بِقَومٍ، فهو منهم " وكما أنَّ الذِّلة مضروبة على من خالف أمره، فالعِزَّة لأهل طاعته ومتابعته، قال الله سبحانه: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]. وقال تعالى: {وَلِلّهِ الْعِزّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. وقال تعالى: {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوَاْ إِلَى السّلْمِ وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35].
وقال تعالى: {يَأَيّهَا النّبِيّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] أي: اللهُ وحده كافيك، وكافي أتباعِك، فلا تحتاجون معه إلى أحد.
وهنا تقديران، أحدُهما: أن تكون الواو عاطفة ل (مَنْ) على الكاف المجرورة، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار على المذهب المختار، وشواهدُه كثيرة، وَشُبَهُ المنع منه واهِية.
والثاني: أن تكون الواو وَاوَ (مع) وتكون (مَن) في محل نصب

عطفاً على الموضع، (فإن حسبك) في معنى (كافيك)، أي: اللهُ يكفيك ويكفي مَنِ اتبعك، كما تقول العرب: حسبك وزيداً درهم، قال الشَّاعر:
إِذَا كَانَتِ الهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ العَصَا ... فَحَسْبُكَ وَالضحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّد
وهذا أصحُّ التقديرين.
وفيها تقدير ثالث: أن تكون (مَنْ) في موضع رفع بالابتداء، أي: ومن اتبعك من المؤمنين، فحسبُهُم اللهُ.
وفيها تقدير رابع، وهو خطأ من جهة المعنى، وهو أن تكون "مَنْ" في موضع رفع عطفاً على اسم الله، ويكون المعنى: حسبُك الله وأتباعُك، وهذا وإن قاله بعضُ الناس، فهو خطأ محض، لا يجوز حملُ الآية عليه، فإن "الحسب" و"الكفاية" للّه وحده، كالتوكل والتقوى والعبادة، قال الله تعالى: {وَإِن يُرِيدُوَاْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الّذِيَ أَيّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]. ففرَّق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسبَ له وحدَه، وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل مِن عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى: {الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]. ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، فإذا كان هذا قولَهم، ومدح الرب تعالى لهم بذلك، فكيف يقول لرسوله: الله وأتباعُك حسبُك، وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب، ولم يُشركوا بينه وبين رسوله فيه، فكيف يُشرك بينهم وبينه في حسب رسوله؟! هذا مِن أمحل المحال وأبطل الباطل، ونظيرُ هذا قولُه تعالى: {وَلَوْ أَنّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]. فتأمل كيف جعل الإِيتاء للّه ولرسوله، كما قال

تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ } [الحشر: 7]. وجعل الحسبَ له وحده، فلم يقل: وقالوا: حسبنا الله ورسولُه، بل جعله خالصَ حقِّه، كما قال تعالى: {إِنّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]. ولم يقل: وإلى رسوله، بل جعل الرغبة إليه وحدَه، كما قال تعالى: {فَإذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وإِلى رَبِّكَ فَارغَب} [الشرح: 7-8]، فالرغبةُ، والتوكل، والإِنابةُ، والحسبُ للَّهِ وحده، كما أن العبادةَ والتقوى، والسجود للّه وحدَه، والنذر والحلف لا يكون إلا للّه سبحانه وتعالى. ونظيرُ هذا قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]. فالحسبُ: هو الكافي، فأخبر سبحانه وتعالى أنَّه وحده كافٍ عبدَه، فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية؟! والأدلة الدَّالة على بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر هاهنا.
والمقصودُ أن بحسب متابعة الرسول تكونُ العزَّة والكفاية والنُّصرة، كما أن بحسب متابعته تكونُ الهدايةُ والفلاح والنجاة، فالله سبحانه علَّق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شَقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن، والفلاحُ والعزَّة، والكفاية والنصرة، والوِلاية والتأييد، وطيبُ العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذِّلةُ والصَّغار، والخوفُ والضلال، والخِذلان والشقاءُ في الدنيا والآخرة. وقد أقسم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن "لا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يَكُونَ هو أَحَبَّ إِلَيْهِ مِن وَلَده وَوَالِدِه وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" وأقسم الله سبحانه بأن

لا يؤمنُ مَن لا يُحكِّمه في كل ما تنازع فيه هو وغيرُه، ثم يَرضى بحُكمه، ولا يَجِدُ في نفسه حرجاً ممّا حكم به ثم يُسلم له تسليماً، وينقاد له انقياداً وقال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله، فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل إذا أمر، فأمرُه حتم، وإنما الخِيَرَةُ في قول غيره إذا خفي أمرُه، وكان ذلك الغيرُ مِن أهل العلم به وبسنته، فبهذه الشروط يكونُ قولُ غيره سائغَ الاتباع، لا واجب الاتباع، فلا يجب على أحد اتباعُ قول أحد سواه، بل غايتُه أنَّه يسوغ له اتباعُه، ولو تَرَكَ الأخذ بقول غيره، لم يكن عاصياً للّه ورسوله. فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين اتباعُه، ويحرم عليهم مخالفتُه، ويجب عليهم تركُ كل قول لقوله؟ فلا حكم لأحد معه، ولا قولَ لأحد معه، كما لا تشريع لأحد معه، وكلُّ من سواه، فإنما يجب اتباعُه على قوله إذا أمر بما أمر به، ونهى عما نهى عنه، فكان مبلغاً محضاً ومخبراً لا منشئاً ومؤسساً، فمن أنشأ أقوالاً، وأسس قواعدَ بحسب فهمه وتأويله، لم يجب على الأمّةِ اتباعُها، ولا التحاكم إليها حتى تُعرَض على ما جاء به الرسولُ، فإن طابقته،ووافقته،وشهد لها بالصحة، قُبِلَتْ حينئذٍ، وإن خالفته، وجب ردُّها واطِّراحُها، فإن لم يتبين فيها أحدُ الأمرين، جُعِلَتْ موقوفة، وكان أحسنُ أحوالها أن يجوزَ الحكمُ والإِفتاء بها وتركه، وأما أنه يجب ويتعين، فكلا، ولما.

وبعدُ، فإنَّ الله سبحانه وتعالى هوالمنفردُ بالخلق والاختيار من المخلوقات، قال الله تعالى: {وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]. وليس المراد هاهنا بالاختيار الإِرادة التي يُشير إليها المتكلمون بأنه الفاعل المختار - وهو سبحانه -كذلك، ولكن ليس المرادُ بالاختيار هاهنا هذا المعنى، وهذا الاختيار داخل في قوله: { يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ، فإنه لا يخلُق إلا باختياره وداخل في قوله تعالى: {مَا يَشَاءُ}، فإن المشيئة هي الاختيارُ، وإنما المرادُ بالاختيار هاهنا: الاجتباء والاصطفاء، فهو اختيارٌ بعدَ الخلق، والاختيارُ العام اختيارٌ قبل الخلق، فهو أعم وأسبق، وهذا أخصُّ، وهو متأخر، فهو اختيارٌ من الخلق، والأول اختيارٌ للخلق.
وأصحُّ القولين أن الوقف التام على قوله: {وَيَخْتار} ويكون {مَا كَانَ لَهُم الخِيَرَةُ} نفياً، أي: ليس هذا الاختيار إليهم، بل هو إلى الخالق وحده، فكما أنه المنفرد بالخلق، فهو المنفرد بالاختيار منه، فليس لأحد أن يخلق، ولا أن يختار سواه، فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره، وَمَحَالِّ رضاه، وما يصلُح للاختيار مما لا يصلح له، وغيرُه لا يُشاركه في ذلك بوجه.
وذهب بعض من لا تحقيق عنده، ولا تحصيل إلى أن "ما" في قوله تعالى: {مَا كَانَ لهُمُ الخِيَرَةُ} موصولة، وهي مفعول "ويختار" أي: ويختار الذي لهم الخيرة، وهذا باطل من وجوه.
أحدُها: أن الصلة حينئذٍ تخلو من العائد، لأن "الخِيرةَ" مرفوع بأنه اسم "كان" والخبر "لهم"، فيصير المعنى : ويختار الأمر الذي كان الخيرةُ لهم، وهذا التركيبُ محال من القول. فإنْ قيل: يمكن تصحيحُه بأن يكون العائد محذوفاً، ويكون التقدير: ويختار الذي كان لهم الخِيرةُ فيه، أي: ويختار الأمرَ الذي كان لهم الخِيرةُ

في اختياره.
قيل: هذا يفسُد من وجه آخر، وهو أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيها حذف العائد، فإنه إنما يحذف مجروراً إذا جُرَّ بحرف جُرَّ الموصولُ بمثله مع اتحاد المعنى، نحوُ قوله تعالى: {يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون: 33]، ونظائره، ولا يجوز أن يقال: جاءني الذي مررتُ، ورأيت الذي رغبتُ، ونحوه.
الثّاني: أنه لو أُريد هذا المعنى لنصب "الخيرة" وشُغِلَ فعل الصلة بضمير يعود على الموصول، فكأنه يقول: ويختارُ ما كان لهم الخيرة، أي: الذي كان هو عينَ الخيرة لهم، وهذا لم يقرأْ به أحد البتَّة، مع أنه كان وجه الكلام على هذا التقدير.
الثّالث: أن الله سبحانه يَحكي عن الكفار اقتراحَهم في الاختيار، وإرادتهم أن تكون الخيرةُ لهم، ثم ينفي هذا سبحانه عنهم، ويبين تفرُّدَه هو بالاختيار، كما قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَىَ رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 31-32]، فأنكر عليهم سبحانَه تخيُّرَهم عليه، وأخبر أن ذلك ليس إليهم، بل إلى الذي قَسَمَ بينهم معايشَهم المتضمنةَ لأرزاقهم وَمُدَدِ آجالهم، وكذلك هو الذي يَقسِم فضله بين أهل الفضل على حسب علمه بمواقع الاختيار، ومن يصلُح له ممن لا يصلُح، وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات، وقسم بينهم معايشهم، ودرجات التفضيل، فهو القاسم ذلك وحده لا غيره، وهكذا هذه الآية بيّن فيها انفراده بالخلق والاختيار، وأنه سبحانَه أعلمُ بمواقع اختياره، كما قال

تعالى : { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] ، أي : الله أعلم بالمحل الذي يصلح لاصطفائه وكرامته وتخصيصه بالرسالة والنبوة دون غيره .
الرابع : أنه نزه نفسه سبحانه عما اقتضاه شركهم من اقتراحهم واختيارهم فقال : { ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون } [ القصص : 68 ] ، ولم يكن شركهم مقتضياً لإثبات خالق سواه حتى نزه نفسه عنه ، فتأمله ، فإنه في غاية اللطف .
الخامس : أن هذا نظير قوله تعالى في [ الحج : 73 - 76 ] : { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب * ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز } ثم قال : { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور } .
وهذا نظير قوله في
[ القصص : 69 ] { وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون } ونظير قوله في [ الأنعام : 124 ] { الله أعلم حيث يجعل رسالته } فأخبر في ذلك كله عن علمه المتضمن لتخصيصه محال اختياره بما خصصها به ، لعلمه بأنها تصلح له دون غيرها ، فتدبر السياق في هذه الآيات تجده متضمناً لهذا المعنى ، زائداً عليه ، والله أعلم .
السادس : أن هذه الآية مذكورة عقيب قوله : { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين * فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون * فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين * وربك يخلق ما يشاء ويختار } [ القصص : 65 - 68] فكما خلقهم وحده سبحانه ، اختار منهم من تاب ، وآمن ، وعمل صالحاً ، فكانوا صفوته

من عباده، وخيرتَه مِن خلقه، وكان هذا الاختيارُ راجعاً إلى حكمته وعلمه سبحانه لمن هو أهلٌ له، لا إلى اختيار هؤلاء المشركين واقتراحِهم، فسبحان الله وتعالى عمَّا يشركون.
فصل
وإذا تأملت أحوالَ هذا الخلقِ، رأيتَ هذا الاختيار والتخصيص فيه دالاً على ربوبيته تعالى ووحدانيته، وكمالِ حكمته وعلمه وقدرته، وأنه اللهُ الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلُق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبِّر كتدبيره، فهذا الاختيارُ والتدبير، والتخصيص المشهود أثرُه في هذا العالم مِنْ أعظم آيات ربوبيته، وأكبرِ شواهد وحدانيته، وصفات كماله، وصدقِ رسله، فنشيرُ منه إلى يسير يكونُ منبهاً على ما وراءه، دالاً على ما سواه.
فخلق الله السماواتِ سبعاً، فاختار العُليا منها، فجعلها مستقر المقربين مِن ملائكته، واختصها بالقرب مِن كرسيه ومِن عرشه، وأسكنها مَن شاءَ مِن خلقه، فلها مزيةٌ وفضلٌ على سائر السماوات، ولو لم يكن إلا قربُها منه تبارك وتعالى. وهذا التفضيلُ والتخصيصُ مع تساوي مادة السماوات مِن أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته، وأنه يخلق ما يشاء ويختار.
وَمِن هذا تفضيلُه سبحانه جنّةَ الفردوس على سائر الجنان، وتخصيصُها بأن جعل عرشه سقفَها، وفي بعض الآثار: "إن الله سبحانه غرسها

بيده، واختارها لِخيرته مِن خلقه". وَمِن هذا اختيارُه مِن الملائكة المصطفيْنَ مِنهم على سائرهم،كجبريلَ، وميكائيلَ، وإسرافيلَ، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "اللهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإسْرَافِيلَ،فَاطِرَ السَّماوات وَالأرضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".
فذكر هؤلاء الثلاثة مِن الملائكة لكمال اختصاصهم، واصطفائهم، وقربهم من الله، وكم مِن مَلَك غيرهِم في السماوات، فلم يُسم إلا هؤلاء الثلاثة. فجبريل: صاحبُ الوحي الذي به حياةُ القلوب والأرواح، وميكائيلُ: صاحب القَطْرِ الذي به حياةُ الأرض والحيوان والنبات، وإسرافيل: صاحب الصُور الذي إذا نفخ فيه، أحيت نفختُه بإذن الله الأموات، وأخرجتهم مِن قبورهم.
وكذلك اختيارُه سبحانه للأنبياء مِن ولد آدم عليه وعليهم الصلاةُ والسلام، وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، واختياره الرسل منهم، وهم ثَلاثُمائة وثلاثة عشر، على ما في حديث أبي ذر الذي رواه أحمد، وابن حبان في صحيحه"، واختيارُه أولي العزم منهم، وهم خمسة

المذكورون في سورة (الأحزاب) و(الشورى) في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقاً غَلِيظاً} [الأحزاب: 7]، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّىَ بِهِ نُوحاً وَالّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَىَ أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13]، واختار منهم الخليلينِ: إبراهيمَ ومحمداً صلى الله عليهما وآلهما وسلم.
وَمِنْ هذا اختيارُه سبحانه ولدَ إسماعيل من أجناس بني آدم، ثم اختار منهم بني كِنانة مِن خُزيمة، ثم اختار مِن ولد كِنانة قُريشاً، ثم اختار مِن قريش بني هاشم، ثم اختار من بني هاشم سَيِّدَ ولدِ آدم محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكذلك اختار أصحابه مِن جملة العَالَمِينَ، واختار منهم السابقينَ الأولين، واختار منهم أهلَ بدر، وأهلَ بيعة الرِّضوان، واختار لهم مِن

الدِّين أكملَه، ومِن الشرائع أفضلَها، ومن الأخلاق أزكَاها وأطيبها وأطهَرها.
واختار أمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سائر الأمم، كما في "مسند الإِمام أحمد" وغيره من حديث بهَزِ بن حكيم بن معاوية بن حيْدَةَ، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنْتمْ مُوفونَ سَبْعِينَ أُمَّة أَنْتمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى الله". قال علي بن المْديني وأحمد: حديثُ بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه صحيح.
وظهر أثرُ هذا الاختيار في أعمالهم وأخلاقهم وتوحيدِهم ومنازلهم في الجنَة ومقاماتهم في الموقف، فإنهم أعلى من النَّاس على تلٍّ فوقهم يشرفون عليهم، وفي الترمذي من حديث بُريدة بن الحُصَيْبِ الأسلمي قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَهلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمَائةُ صفٍّ، ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ" قال الترمذي: هذا حديث حسن. والذي في "الصحيح" من حديث أبي سعيد الخُدري، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث بعث النار: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَده

إنِّى لأَطْمَعُ أَنْ تكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الجَنَّةِ "، ولم يزد على ذلك. فَإِمَّا أن يقال: هذا أصح، وإمَّا أن يُقال: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طمع أن تكون أمتُه شطرَ أهل الجنة، فأعلمه ربُّه فقال: "إنهم ثمانون صفاً من مائة وعشرين صفاً"، فلا تنافي بين الحديثين، والله أعلم.
وَمِن تفضيل الله لأمته واختيارِه لها أنه وهبها مِن العلم والحلم ما لم يَهَبْهُ لأُمَّة سواها، وفي "مسند البزار" وغيره من حديث أبي الدرداء قال: سمعتُ أبا القاسم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِعيسَى ابْنِ مَريَمَ: "إِنِّي بَاعِثٌ مِنْ بَعْدِكَ آمةً إِنْ أَصَابَهُم مَا يُحِبُّونَ، حَمِدُوا وَشَكَرُوا، وَإنْ أَصَابَهمْ مَا يَكْرَهُونَ، احْتَسَبُوا وَصبَرُوا، وَلاَ حِلْمَ وَلاَ عِلْمَ، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ هَذَا وَلا حِلْمَ وَلا عِلْمَ؟ قَالَ: أُعْطِيهِمْ مِنْ حِلْمِي وَعِلْمِي".
وَمِن هذا اختيارُه سبحانه وتعالى مِن الأماكن والبلاد خيرَهَا وأشرفهَا، وهي البلد الحرامُ، فإنه سبحانه وتعالى اختاره لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعله مناسك لعباده، وأوجب عليهم الإِتيانَ إليه من القُرْب والبُعْد مِن كلِّ فَجٍّ عميقٍ، فلا يَدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين، كاشفي رؤوسهم، متجردين عن لِباس أهل الدنيا، وجعلَه حَرَماً آمِناً، لا يُسفك فيه دمٌ، ولا تُعَضَدُ به

شجرة،ولا يُنَفَّر له صيدٌ، ولا يُختلى خلاه، ولا تُلتقط لُقَطَتُه للتمليك بل للتعريف ليس إلا، وجعل قصده مكفراً لما سلف من الذنوب، ماحياً للأوزار، حاطاً للخطايا، كما في "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن أَتَى هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيوْم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"، ولم يرض لقاصده مِنَ الثواب دون الجنَّة، ففي "السنن" من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحدِيدِ والذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ دُونَ الجنَّةِ ". وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةَ" ، فلو لم يكن البلدُ الأمين خيرَ بلاده، وَأحبَّها إليه، ومختارَه من البلاد، لما جعل عرصَاتِها مناسِكَ لعباده، فَرَضَ عليهم قصدَها، وجعل ذلك من آكدِ فروض الإِسلام، وأقسم به

في كتابه العزيز في موضعين منه، فقال تعالى؟ {وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ} [التين: 3]، وقال تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1]، وليس على وجه الأرض بقعةٌ يجب على كل قادرٍ السعيُ إليها والطوافُ بالبيت الذي فيها غيرَها، وليس على وجه الأرض موضعٌ يُشرع تقبيلُه واستلامُه، وتُحط الخطايا والأوزار فيه غيرَ الحجر الأسود، والركن اليماني. وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، ففي "سنن النسائي" و"المسند" بإسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير،عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "صَلاَةٌ في مَسجدي هَذَا أفْضَلُ مِن ألفِ صلاَة فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ المَسْجدَ الْحَرَامَ، وصَلاَةٌ في المًسجِدِ الحَرَامِ أفْضَل مِنْ صَلاَةً في مَسْجدي هَذَا بمَائَة صَلاَة" ورواه ابن حبان في "صحيحه" وهذا صَرًيح في أنَ اَلمسجد الَحَراَمَ أفضلُ بقاعِ الأرض على الإطلاق، ولذلك كان شدُّ الرحال إليه فرضاً، ولِغيره مما يُستحب ولا يجب، وَفي "المسند"، والترمذي والنسائي، عن عبد الله بن عدي بن الحصراء أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو واقف على راحلته بالحَزْوَرَة مِنْ مَكَّةَ يَقُول: "وَالله إِنَّك لَخَيْرُ أَرضِ اللهِ وَأحَبُّ أرْضِ اللهِ إِلًى اللهِ، وَلَوْلاَ أنِّي

أخْرِجْتُ مِنْكَِ مَاَ خَرَجْتُ" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
بل وَمِن خصائصها كونُها قبلةً لأهل الأرض كلِّهم، فليس على وجه الأرض قبلةٌ غيرُها.
ومِن خواصها أيضاً أنه يحرم استقبالُها واستدبارُها عند قضاء الحاجة دون سائر بِقاع الأرض.
وأصح المذاهب في هذه المسألة: أنه لا فرق في ذلك بين الفضاء والبنيان، لبضعة عشر دليلاً قد ذُكِرت في غير هذا الموضع، وليس مع المفرق ما يُقاومها البتة، مع تناقضهم في مقدار الفضاء والبنيان، وليس هذا موضعَ استيفاء الحِجَاج من الطرفين.
ومن خواصها أيضاً أن المسجدَ الحرامَ أولُ مسجد وضع في الأرض، كما في "الصحيحين" عن أبي ذر قال: سألتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أوّل مَسجد وُضِعَ في الأرض؟ فقال: "المَسْجد الحَرَامُ" قُلْتُ: ثُمَّ أي؟ قَالَ: "المَسْجَدُ الأِّقْصَى" قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أرْبَعُونَ عَامَاً " وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرفِ المرادَ به، فقال: معلوم أن سليمان بنَ داود هو الذي بنى المسجد الأقصى، وبينه وبين إبراهيم أكثر

من ألف عام، وهذا من جهل هذا القائلِ، فإن سليمان إنما كان له مِن المسجَد الأقصى تجديدُه، لا تأسيسُه، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وآلهما وسلم بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار.
ومما يدل على تفضيلها أن الله تعالى أخبر أنها أمُّ القرى، فالقرى كلُها تبع لها، وفرعٌ عليها، وهي أصلُ القرى، فيجب ألاَّ يكون لها في القُرى عَدِيل، فهي كما أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن (الفاتحة) أنها أمُّ القرآن ولهذا لم يكن لها في الكتب الإِلهية عديلٌ.
ومن خصائصها أنها لا يجوزُ دخولُها لغير أصحاب الحوائج المتكررة إلا بإحرام، وهذه خاصية لا يُشاركها فيها شيءٌ من البلاد، وهذه المسألةُ تلقاها الناسُ عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد روي عن ابن عباس بإسناد لا يحتج به مرفوعاً "لا يَدْخُلُ أَحَدٌ مَكَّةَ إلاَّ بِإحْرَامٍ، مِنْ أَهْلِهَا وَمِنْ غَيرِ أَهْلِهَا" ذكره أبو أحمد بن عدي، ولكن الحجاج بن أرطاة في الطريق، وآخر قبله من الضعفاء.
وللفقهاء في المسألة ثلاثةُ أقوال: النَّفْيُ، والإِثباتُ، والفرقُ بين من هو داخلُ المواقيتِ ومن هو قبلَها، فمن قبلها لا يُجَاوزها إلا بإحرام، ومن هو داخلها، فحكمُه حكمُ أهل مكَّة، وهو قول أبي حنيفة، والقولان الأولان للشافعي وأحمد.

ومِن خواصِّه أنه يُعاقب فيه على الهمِّ بالسيئات وإن لم يفعلها، قال تعالى {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] فتأمل. كيف عدى فعل الإِرادة هاهنا بالباء، ولا يقال: أردتُ بكذا إلا لما ضمِنَّ معنى فعل "هم" فإنه يقال: هممت بكذا، فتوعدَ من هم بأن يَظلم فيه بأن يُذيقه العذَابَ الألِيم.
وَمِن هذا تضاعفُ مقادير السيئات فيه، لا كمياتُها، فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن سيئة كبيرة، وجزاؤها مثلها، وصغيرة جزاؤها مثلها، فالسيئة في حَرَمِ الله وبلده وعلى بساطه آكدُ وأعظمُ منها في طرف من أطراف الأرض، ولهذا ليس من عصى الملكَ على بساط مُلكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبِساطه، فهذا فصلُ النزاع في تضعيف السيئات، والله أعلم.
وقد ظهر سرُّ هذا التفضيل والاختصاص في انجذاب الأفئدة، وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها لهذا البلدِ الأمين، فجذبُه للقلوب أعظمُ من جذب المغناطيس للحديد، فهو الأولى بقول القائل:
مَحَاسِنُهُ هَيُولَى كُلِّ حُسْنٍ ... وَمَغْنَاطِيسُ أفْئدَةِ الرِّجَالِ
ولهذا أخبر سبحانه أنه مثابةٌ للناس، أي: يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يَقضون منه وطراً، بل كلما ازدادوا له زيارة، ازدادوا له اشتياقا.
لاَ يَرْجِعُ الطَّرْفُ عَنْهَا حِينَ يَنْظُرُها ... حَتَّى يَعُود إلَيْهَا الطَّرْفُ مُشْتَاقاً
فلله كم لها مِن قتيل وسليبٍ وجريح، وكم أُنفِقَ في حبها من الأموال والأرواح، وَرَضِيَ المحب بمفارقةِ فِلَذِ الأكباد والأهل، والأحباب والأوطان، مقدِّماً بين يديه أنواع المخاوف والمتالف، والمعاطف والمشاق،

وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه ، ويراه - لو ظهر سلطان المحبة في قلبه - أطيب من نعم المتحليه وترفهم ولذاتهم .
وَلَيْسَ مُحِباً مَنْ يَعُدُّ شَقَاءَه ... عَذَاباً إذَا مَا كَانَ يَرضَى حبيبُه
وهذا كله سر إضافته إليه سبحانه وتعالى بقوله : { وطهر بيتي } [ الحج : 26 ] فاقتضت هذه الإضافة الخاصة من هذا الإجلال والتعظيم والمحبة ما اقتضته ، كما اقتضت إضافته لعبده ورسوله إلى نفسه ما اقتضته من ذلك ، وكذلك إضافته عباده المؤمنين إليه كستهم من الجلال والمحبة والوقار ما كستهم ، فكل ما أضافه الرب تعالى إلى نفسه ، فله من المزية والإختصاص على غيره ما أوجب له الإصطفاء والإجتباء ، ثم يكسوه بهذه الإضافة تفضيلاً آخر ، وتخصيصاً وجلالة زائداً على ما كان له قبل الإضافة ، ولم يوفق لفهم هذا المعنى من سوى بين الأعيان والأفعال ، والأزمان والأماكن ، وزعم أنه لا مزية لشئ منها على شئ ، وإنما هو مجرد الترجيح بلا مرجح ، وهذا القول باطل بأكثر من أربعين وجهاً قد ذكرت في غير هذا الموضع ، ويكفي تصور هذا المذهب الباطل في فساده ، فإن مذهباً يقتضي أن تكون ذوات الرسل كذوات أعدائهم في الحقيقة ، وإنما التفضيل بأمر لا يرجع إلى اختصاص الذوات بصفات ومزايا لا تكون لغيرها ، وكذلك نفس البقاع واحدة بالذات ليس لبقعة على بقعة مزية البتة ، وإنما هو لما يقع فيها من الأعمال الصالحة ، فلا مزية لبقعة البيت ، والمسجد الحرام ، ومنى وعرفة والمشاعر على أي بقعة سميتها من الأرض ، وإنما التفضيل باعتبار أمر خارج عن البقعة لا يعود إليها ، ولا إلى وصف قائم بها ، والله سبحانه وتعالى قد رد هذا القول الباطل بقوله تعالى : { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } قال الله تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام :124]

أي : لَيس كلُّ أحد أهلاً ولا صالحاً لتحمُّل رسالته، بل لها محالٌّ مخصوصة لا تليق إلا بها، ولا تصلح إلا لها، والله أعلم بهذه المحالِّ منكم. ولو كانت الذواتُ متساوية كما قال هؤلاء، لم يكن في ذلك ردٌ عليهم، وكذلك قولُه تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولوَاْ أَهَؤُلاءِ مَنّ اللهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] أي: هو سبحانه أعلمُ بمن يشكره على نعمته، فيختصه بفضله، وَيَمُنُّ عليه ممن لا يشكره،فليس كلُّ محلٍ يصلح لشكره، واحتمال منته، والتخصيص بكرامته.
فذواتُ ما اختاره واصطفاه من الأعيان والأماكن والأشخاص وغيرها مشتَمِلَة على صفات وأمور قائمة بها ليست لغيرها، ولأجلها اصطفاها اللهُ، وهو سبحانه الذي فضلها بتلك الصفاتِ، وخصها بالاختيار، فهذا خلقُه، وهذا اختياره {وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 67]، وما أبين بطلانَ رأْيَ يقضي بأن مكان البيت الحرام مساوٍ لسائر الأمكنة، وذاتَ الحجر الأسود مسَاويةٌ لسائر حجارة الأرض، وذاتَ رسول الله. مساويةٌ لذات غيره، وإنما التفضيلُ في ذلك بأمور خارجة عن الذات والصفات القائمة بها، وهذه الأقاويل وأمثالُها من الجنايات التي جناها المتكلمون على الشريعة، ونسبوها إليها وهي بريئة منها، وليس معهم أكثرُ من اشتراك الذوات في أمر عام، وذلك لا يوجب تساويها في الحقيقة، لأن المختلفاتِ قد تشترِك في أمر عام مع اختلافها في صفاتها النفسية، وما سوَّى اللهُ تعالى بين ذات المِسك وذاتِ البول أبداً، ولا بين ذات الماء وذات النَّار أبداً، والتفاوتُ البَيِّنُ بَيْنَ الأمكنة الشريفة وأضدادها،والذواتِ الفاضلة وأضدادها أعظمُ من هذا

التفاوت بكثير، فبين ذاتِ موسى عليه السلام وذاتِ فرعون من التفاوت أعظمُ مما بين المسك والرجيع،وكذلك التفاوتُ بين نفس الكعبة، وبين بيت السلطان أعظمُ من هذا التفاوت أيضاً بكثير، فكيف تُجْعَلُ البقعتان سواءً في الحقيقة والتفضيل باعتبار ما يقع هناك من العبادات والأذكار والدعوات؟!
ولم نقصِدِ استيفاءَ الردِّ على هذا المذهب المردودِ المرذول، وإنما قصدنا تصويرَه، وإلى اللبيب العادل العاقل التحاكُم، ولا يَعبأ الله وعبادُه بغيره شيئاً، والله سبحانه لا يُخصصُ شيئاً، ولا يُفضله ويرجحه إلا لمعنى يقتضي تخصيصَه وتفضيله، نعم هو معطي ذلك المرجح وواهبُه، فهو الذي خلقه، ثم اختاره بعد خلقه، وربُّك يخلق ما يشاءُ ويختار.
وَمِن هذا تفضيلُه بعض الأيام والشهور على بعض، فخير الأيام عند الله يومُ النحر، وهو يومُ الحج الأكبر كما في "السنن" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " أَفْضَلُ الأيَّامِ عِنْدَ اللَهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ القَرِّ". وقيل: يومُ عرفة أفضلُ منه، وهذا هو المعروف عند أصحاب الشافعي، قالوا: لأنه يومُ الحج الأكبر، وصيامُه يكفر سنتين، ومَا مِنْ يَوْمٍ يَعْتِقُ اللهُ

فِيهِ الرِّقابَ أَكثَرَ مِنهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، ولأنه سبحانه وتعالى يَدْنُو فِيهِ مِنْ عِبَادِه، ثُمَّ يُبَاهِي مَلاَئِكَتَه بِأَهْلِ الموقف. والصواب القول الأول، لأن الحديثَ الدالَّ على ذلك لا يُعارضه شيء يُقاومه، والصوابُ أن يومَ الحج الأكبر هو يومُ النَّحر، لقوله تعالى: {وَأَذَانٌ مّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الأكْبَرِ} [التوبة: 3] وثبت في "الصحيحين" أن أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما أَذَّنَا بِذَلِكَ يَوْمَ النَّحْرِ، لاَ يَومَ عَرَفَةَ. وفي "سنن أبي داود" بأصح إسناد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يوم الْحَجِّ الأكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ" ، وكذلك قال أبو هريرة، وجماعةٌ من الصحابة، ويومُ عرفة مقدِّمة ليوم النَّحر بين يديه، فإن فيه يكونُ الوقوفُ، والتضرعُ، والتوبةُ، والابتهالُ، والاستقالةُ، ثم يومَ النَّحر تكون الوفادةُ والزيارة، ولهذا سمي طوافُه طوافَ الزيارة، لأنهم قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة، ثم أذن لهم ربُّهم يوم النَّحر في زيارته، والدخولِ عليه إلى بيته،

ولهذا كان فيه ذبحُ القرابين، وحلقُ الرؤوس، ورميُ الجمار، ومعظمُ أفعال الحج، وعملُ يوم عرفة كالطهور والاغتسال بين يدي هذا اليوم. وكذلك تفضيل عشر ذي الحجة على غيره من الأيام، فإنَّ أيامه أفضلُ الأيامِ عند الله، وقد ثبت في "صحيح البخاري" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالح فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هذه الأيَّامِ العَشْرِ " قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: "وَلاَ الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ ومَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيءٍ" وهي الأيامُ العشر التي أقسم الله بها في كتابه بقوله: {وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1-2] ولهدا يُستحب فيها الإِكثارُ من التكْبِير والتهليل والتحميدِ،كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَأكْثرُوا فِيهِنَّ مِنَ التكْبِيرِ وَالتَّهْلِيل وَالتَحْمِيدِ "، ونسبتُهَا إلى الأيام كنسبة مواضع المناسك في سائر البقاع.
وَمِنْ ذَلك تفضيلُ شهر رمضان على سائر الشهور، وتفضيلُ عشرِهِ الأخير على سائر الليالي، وتفضيلُ ليلة القدر على ألف شهر.

فإن قلت: أيُّ العَشرين أفضلُ؟ عَشرُ ذي الحِجَّة، أو العشرُ الأخير من رمضان؟ وأيُّ الليلتين أفضلُ؟ ليلةُ القدرِ، أو ليلة الإِسراء؟
قلت: أمّا السؤالُ الأول، فالصوابُ فيه أن يقالُ: ليالي العشر الأخير من رمضان، أفضلُ من ليالي عشر ذي الحجة، وأيَّام عشر ذي الحِجَّة أفضلُ من أيام عشر رمضان، وبهذا التفصيلِ يزولُ الاشتباه، ويدل عليه أن لياليَ العشر من رمضان إنما فُضِّلَتْ باعتبار ليلة القدر، وهي من الليالي، وعشرُ ذيَ الحِجَّة إنما فُضِّلَ باعتبار أيامه، إذ فيه يومُ النحر، ويومُ عرفة، ويوم التروية.
وأما السؤال الثاني، فقد سُئِلَ شيخُ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل قال: ليلةُ الإِسراء أفضلُ مِن ليلة القدر، وقال آخر: بل ليلةُ القدر أفضلُ، فَأَيُّهُما المصيبُ؟
فأجاب : الحمدُ للَّهِ، أما القائلُ بأن ليلة الإِسراء أفضلُ مِن ليلة القدر، فإن أراد به أن تكونَ الليلةُ التي أسري فيها بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونظائِرُها مِن كل عام أفضلَ لأمَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن ليلة القدر بحيث يكونُ قيامُها والدعاءُ فيها أفضلَ منه في ليلةِ القدر، فهذا باطل، لم يقله أحدٌ من المسلمين، وهو معلومُ الفساد بالاطِّراد من دين الإِسلام. هذا إذا كانت ليلةُ الإِسراء تُعرف عينُها، فكيف ولم يقمْ دليلٌ معلوم لا على شهرها، ولا على عشرها، ولا على عينِها، بل النقولُ في ذلك منقطعةٌ مختلفة، ليس فيها ما يُقطع به، ولا شُرِعَ للمسلمين تخصيصُ الليلة التي يُظن أنها ليلة الإِسراء بقيام ولا غيره، بخلاف ليلة القدر، فإنه قد ثبت في "الصحيحين" عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْر

رَمَضانَ" وفي "الصحيحين" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَاناً واحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" ، وقد أخبر سبحانه أنها خيرٌ مِن ألف شهر، وأنَّه أنزل فيها القرآن.
وإن أراد أن الليلة المعينة التي أسري فيها بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحصل له فيها ما لم يحصلْ له في غيرها مِن غير أن يُشرع تخصيصها بقيام ولا عبادة، فهذا صحيح، وليس إذا أعطى اللَهُ نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضيلة في مكان أو زمان، يجب أن يكون ذلك الزمان والمكانُ أفضلَ مِن جميع الأمكنة والأزمنة. هذا إذا قدر أنه قام دليل على أن إنعامَ الله تعالى على نبيه ليلَة الإِسراءِ كان أعظمَ من إنعامه عليه بإنزال القرآنِ ليلةَ القدر، وغيرِ ذلك من النعم التي أنعم عليه بها.
والكلام في مثل هذا يحتاج إلى علم بحقائق الأُمور، ومقادير النعم التي لا تُعرف إلا بوحي، ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بلا علم، ولا يُعرف عن أحد من المسلمين أنه جعل لليلة الإِسراءِ فضيلةَ على غيرها، لا سيما على ليلة القدر، ولا كان الصحابةُ والتابعون لهم بإحسان يقصدُون تخصيص ليلة الإِسراء بأمر من الأمورِ، ولا يذكرونها، ولهذا لا يُعرف أي ليلة كانت، وإن كان الإِسراءُ مِن أعظم فضائله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع هذا فلم يُشرع تخصيصُ ذلك الزمانِ، ولا ذلك المكانِ بعبادة شرعية، بل غارُ حراء الذي ابتدئ فيه

بنزول الوحي، وكان يتحراه قبلَ النبوة، لم يقصِدْهُ هو ولا أحدٌ مِن أصحابه بعد النبوة مدةَ مُقامه بمكة، ولا خصَّ اليومَ الذي أنزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرِها، ولا خصَّ المكانَ الذي ابتدئ فيه بالوحي ولا الزمانَ بشيء، ومن خص الأمكنَة والأزمنَة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله، كان مِن جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمانَ أحوال المسيح مواسمَ وعبادات، كيوم الميلاد، ويوم التعميد، وغير ذلك من أحواله. وقد رأى عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه جماعة يتبادرون مكاناً يُصلون فيه، فقال: ما هذا؟ قالوا: مكانٌ صلى فيه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أتُريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟! إنما هلكَ مَنْ كان قبلكم بهذا، فمن أدركته فيه الصلاة فليصل، وإلا فليمضِ.
وقد قال بعضُ الناس: إن ليلة الإِسراء في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل مِن ليلة القدر، وليلة القدر بالنسبة إلى الأمّة أفضلُ من ليلة الإِسراء، فهذه الليلة في حق الأمّة أفضلُ لهم، وليلة الإِسراء في حق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،أفضلُ له.
فإن قيل: فأيهما أفضلُ: يوم الجمعة، أو يوم عرفة؟ فقد روى ابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." لاَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ وَلاَ تَغْرُبُ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ" وفيه أيضاً حديث أوس بن أوس "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْس يَوْمُ الجُمْعَةِ".

قيل: قد ذهب بعضُ العلماء إلى تفضيل يوم الجمعة على يوم عرفة، محتجاً بهذا الحديث، وحكى القاضي أبو يعلى رواية عن أحمد أن ليلة الجمعة أفضلُ من ليلة القدر، والصوابُ أن يوم الجمعة أفضلُ أيام الأسبوع، ويومَ عرفة ويوم النَّحر أفضلُ أيام العام، وكذلك ليلةُ القدر، وليلة الجمعة، ولهذا كان لوقفة الجمعة يومَ عرفة مزية على سائر الأيام من وجوه متعدّدة.
أحدها : اجتماعُ اليومين اللذين هما أفضلُ الأيام.
الثاني : أنه اليومُ الذي فيه ساعة محققة الإِجابة، وأكثر الأقوال أنها آخر ساعة بعد العصر وأهل الموقف كلُّهم إذ ذاك واقفون للدعاء والتضرع.
الثالث : موافقتُه ليوم وقفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الرَّابع: أن فيه اجتماعَ الخلائق مِن أقطار الأرض للخطبة وصلاة الجمعة، ويُوافق ذلك اجتماعَ أهل عرفة يومَ عرفة بعرفة، فيحصُل مِن اجتماع المسلمين في مساجدهم وموقفهم من الدعاء والتضرع ما لا يحصُل

في يوم سواه.
الخامس: أن يوم الجمعة يومُ عيد، ويومَ عرفة يومُ عيد لأهل عرفة، ولذلك كره لمن بعرفة صومه، وفي النسائي عن أبي هريرة قال: " نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ" ، وفي إسناده نظر، فإن مهدي بن حرب العبدي ليس بمعروف، ومداره عليه، ولكن ثبت في الصحيح من حديث أم الفضل " أن ناساً تمارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرفَةَ في صِيَام رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال بعضُهم: هُوَ صَائِمٌ، وَقَالَ بعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ بقَدَحِ لَبنٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ، فَشَربَهُ".
وقد اختلف في حكمة استحباب فطر يوم عرفة بعرفة، فقالت طائفة: لِيتقوى على الدعاء، وهذا هو قولُ الخِرقي وغيره، وقال غيرهم - منهم شيخ الإِسلام ابن تيمية -: الحِكمة فيه أنه عيد لأهل عرفة، فلا يُستحب صومُه لهم، قال: والدليلُ عليه الحديث الذي في "السنن" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأيَّامُ مِنَى عِيدُنَا أهلَ الإِسلامِ".

قال شيخنا: وإنما يكون يومُ عرفة عيداً في حق أهلِ عرفة، لاجتماعهم فيه، بخلاف أهل الأمصار، فإنهم إنما يجمعون يوم النَحر، فكان هو العيدَ في حقهم، والمقصود أنه إذا اتفق يومُ عرفة، ويومُ جمعة، فقد اتفق عيدانِ معاً.
السادس : أنه موافق ليوم إكمال الله تعالى دينَه لعباده المؤمنين، وإتمامِ نعمته عليهم، كما ثبت في "صحيح البخاري" عن طارق بن شهاب قال: جاء يهوديٌ إلى عمرَ بنِ الخطاب فقال: يَا أَمِيرَ المُؤمِنِين آيَةٌ تَقْرَؤونَهَا في كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ وَنَعْلَمُ ذَلِكَ اليَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، لاتَّخَذْنَاهُ عِيداً، قَالَ: أيُ آَيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة:3] فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: إِنِّي لأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَنَحْنُ وَاقِفُونَ مَعَهُ بِعَرَفَةَ.
السابع: أنه موافق ليوم الجمع الأكبر، والموقفِ الأعظم يومِ القيامة، فإن القيامة تقومُ يومَ الجمعة، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ خَيْرَاً إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ " ولهذا شرع اللهُ سبحانه وتعالى لِعباده يوماً يجتمعون

فيه، فيذكرون المبدأ والمعاد، والجنَّة والنَّار، وادَّخر اللهُ تعالى لهذه الأُمَّة يومَ الجمعة، إذ فيه كان المبدأُ، وفيه المعادُ، ولهذا كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في فجره سورتي (السجدة) و(هل أتى على الإِنسان ) لاشتمالهما على ما كان وما يكونُ في هذا اليوم، مِن خلق آدم، وذكر المبدأ والمعاد، ودخولِ الجنَّة والنَّار، فكان تذَكِّرُ الأمَّة في هذا اليوم بما كان فيه وما يكون، فهكذا يتذكَّر الإِنسانُ بأعظم مواقف الدنيا - وهو يومُ عرفة - الموقفَ الأعظم بين يدي الرب سبحانه في هذا اليوم بعينه، ولا يتنصف حتى يستقرَّ أهل الجنة في منازلهم، وأهل الناَّر في منازلهم.
الثامن: أن الطاعةَ الواقِعَة مِن المسلمين يومَ الجُمعة، وليلةَ الجمعة، أكثر منها في سائر الأيام، حتى إن أكثرَ أهل الفجور يَحترِمون يوم الجمعة وليلته، ويرون أن من تَجَرَّأ فيه على معاصي اللهِ عز وجل، عجَّل اللهُ عقوبته ولم يُمهله، وهذا أمر قد استقرَّ عندهم وعلموه بالتجارِب، وذلك لِعظم اليومِ وشرفِهِ عند الله، واختيارِ الله سبحانه له من بين سائر الأيام، ولا ريب أن للوقفة فيه مزيةً على غيره.
التاسع: أنه موافق ليوم المزيد في الجنة، وهو اليومُ الذي يُجمَعُ فيه أهلُ الجنة في وادٍ أَفْيحَ، ويُنْصَبُ لهم مَنَابِرُ مِن لؤلؤ، ومنابِرُ من ذهب، ومنابرُ من زَبَرْجَدٍ وياقوت على كُثبَانِ المِسك، فينظرون إلى ربِّهم تبارك وتعالى، ويتجلى

لهم، فيرونه عِياناً ويكون أسرعُهم موافاة أعجلَهم رواحاً إلى المسجد، وأقربُهم منه أقربَهم من الإِمام، فأهلُ الجنة مشتاقون إلى يوم المزيد فيها لما ينالون فيه من الكرامة، وهو يوم جمعة، فإذا وافق يوم عرفة، كان له زيادةُ مزية واختصاص وفضل ليس لغيره.
العاشر: أنه يدنو الرّبُّ تبارك وتعالى عشيةَ يومِ عرفة مِن أهل الموقف، ثم يُباهي بهم الملائكة فيقول: "مَا أَرَادَ هؤُلاءِ، أُشْهِدُكُم أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُم" وتحصلُ مع دنوه منهم تبارك وتعالى ساعةُ الإِجابة التي لاَ يَرُدُّ فيها سائل يسأل خيراً فيقربُون منه بدعائه والتضرع إليه في تلك الساعة، ويقرُب منهم تعالى نوعين من القُرب، أحدهما: قربُ الإِجابة المحققة في تلك الساعة، والثاني: قربه الخاص من أهل عرفة، ومباهاتُه بهم ملائكته، فتستشعِرُ قلوبُ أهل الإِيمان بهذه الأمور، فتزداد قوة إلى قوتها، وفرحاً وسروراً وابتهاجاً ورجاء لفضل ربها

وكرمه، فبهذه الوجوه وغيرها فُضِّلَتْ وقفةُ يومِ الجمعة على غيرها.
وأمّا ما استفاض على ألسنة العوام بأنها تعدل ثنتين وسبعين حجة، فباطل لا أصل له عن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين والله أعلم.
فصل
والمقصود أن اللهَ سبحانه وتعالى اختار مِن كل جنس من أجناس المخلوقات أطيبَه، واختصه لنفسه وارتضاه دون غيره، فإنه تعالى طيبٌ لا يحبُّ إلا الطيب، ولا يقبل من العمل والكلام والصدقة إلا الطيبَ، فالطيب مِن كل شيء هو مختارُه تعالى.
وأما خلقُه تعالى، فعام للنوعين، وبهذا يُعلم عنوانُ سعادة العبد وشقاوته، فإن الطيب لا يناسبه إلا الطيب، ولا يرضى إلا به، ولا يسكُن إلا إليه، ولا يطمئن قلبُه إلا به، فله من الكلام الكَلِمُ الطيب الذي لا يصعد إلى الله تعالى إلا هو، وهو أشدُّ شيء نُفرة عن الفحش في المقال، والتفحُّش في اللسان والبذَاء، والكذب والغيبة، والنميمة والبُهت،وقول الزور، وكل كلام خبيث.
وكذلك لا يألف من الأعمال إلا أطيبها، وهي الأعمال التي اجتمعت على حسنها الفِطَرُ السليمةُ مع الشرائع النبوية، وزكتها العقولُ الصحيحة، فاتفق على حسنها الشرعُ والعقلُ والفِطرةُ، مثل أن يَعْبُدَ الله وحده لا يُشرِكُ به شيئاً، ويؤثِرَ مرضاته على هواه، ويتحببَ إليه جُهده وطاقته، ويُحْسِنَ إلى خلقه ما استطاع، فيفعلَ بهم ما يُحب أن يفعلوا به، ويُعَاملوه به، ويَدَعَهم ممّا يحب أن يَدَعُوه منه، وينصحَهم بما ينصح به نفسه، ويحكم لهم بما يحب أن يحكم له به، ويحمل أذاهم ولا يحمِّلهم أذاه، ويكُفَّ عن

أعراضهم ولا يُقابلهم بما نالوا من عرضه، وإذا رأى لهم حسناً أذاعه، وإذا رأى لهم سيئاً، كتمه، ويقيم أعذارهم ما استطاع فيما لا يُبطِلُ شريعة، ولا يُناقضُ للّه أمراً ولا نهياً.
وله أيضاً من الأخلاق أطيبُها وأزكاها، كالحلم، والوقار، والسكينة، والرحمة، والصبر، والوفاء، وسهولة الجانب، ولين العريكة، والصدق، وسلامة الصدر من الغِل والغش والحقد والحسد، والتواضع، وخفض الجناج لأهل الإِيمان والعزة، والغلظة على أعداء الله، وصيانة الوجه عن بذله وتذلله لغير الله، والعِفة، والشجاعة، والسخاء، والمُروءة، وكل خلق اتفقت على حسنه الشرائع والفطر والعقول.
وكذلك لا يختار من المطاعم إلا أطيبها، وهو الحلال الهنيء المريء الذي يُغذِّي البدن والروح أحسنَ تغذية، مع سلامة العبد من تَبِعَتِهِ.
وكذلك لا يختار من المناكح إلا أطيبها وأزكاها، ومِن الرائحة إلا أطيبَها وأزكاها، ومن الأصحاب والعُشراء إلا الطيبين منهم، فروحه طيب، وبدنُه طيب، وخُلُقُه طيب، وعملُه طيب، وكلامُه طيِّب، ومطعمُه طيب، ومَشربه طيب، وملبَسهُ طيب، ومنكِحُه طيب، ومدخلُه طيب، ومخرجُه طيب، ومُنْقَلَبُهُ طيب، ومثواه كله طيب. فهذا ممن قال الله تعالى فيه: {الّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النَّحل: 32] ومِنَ الَّذِينَ يَقُول لهم خَزَنَةُ الجنَّة: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] وهذه الفاء تقتضي السببية، أي: بسبب طيبكم ادخلاها. وقال تعالى {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِينَ وَالطّيّبُونَ لِلْطّيّبَاتِ} [النور: 26] وقد فسرت الآية بأن الكلماتِ الخبيثات للخبيثين، والكلمات الطيبات للطيبين، وفسرت بأن النساءَ

الطيباتِ للرجال الطيبين، والنساءَ الخَبِيثَاتِ للرجال الخبيثين، وهي تعم ذلك وغيره، فالكلمات، والأعمال، والنساء الطيبات لمناسبها من الطيبين، والكلمات، والأعمال، والنساء الخبيثة لمناسبها من الخبيثين، فالله سبحانه وتعالى جعل الطَّيِّبَ بحذافيره في الجنة، وجعل الخبيث بحذافيره في النار فجعل الدُّور ثلاثة: داراً أخلصت للطيبين، وهي حرامٌ على غير الطيبين، وقد جمعت كُلَّ طيب وهي الجنة، وداراً أخلصت للخبيث والخبائث ولا يدخلها إلا الخبيثون، وهي النَّار، وداراً امتزج فيها الطيبُ والخبيث، وخلط بينهما، وهي هذه الدار، ولهذا وقع الابتلاءُ،والمحنة بسبب هذا الامتزاج والاختلاط، وذلك بموجب الحكمة الإِلهية، فإذا كان يوم معاد الخليقة، ميز الله الخبيث مِن الطيب، فجعل الطيب وأهله في دار على حدة لا يُخالِطهم غيرُهم، وجعل الخبيثَ وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم، فعاد الأمر إلى دارين فقط: الجنَّة، وهي دار الطيبين، والنار، وهي دار الخبيثين، وأنشأ الله تعالى من أعمال الفريقين ثوابَهم وعقابَهم، فجعل طيباتِ أقوال هؤلاء وأعمالهم وأخلاقهم هي عينَ نعيمهم ولذاتهم، أنشأ لهم منها أكملَ أسباب النعيم والسرور، وجعل خبيثاتِ أقوال الآخرين وأعمالهم وأخلاقهم هي عينَ عذابهم وآلامهم، فأنشأ لهم منها أعظمَ أسباب العِقاب والآلام، حكمة بالغة، وعزة باهرة قاهرة، لِيُرِي عباده كمالَ ربوبيته، وكمالَ حكمته وعلمه وعدله ورحمته، وليعلم أعداؤه أنهم كانوا هم المفترين الكذَّابين، لا رسلُه البررة الصادقون. قال الله تعالى: { وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَىَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنّ أَكْثَرَ الْنّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ لِيُبَيّنَ لَهُمُ الّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الّذِينَ كَفَرُواْ أَنّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ} [ النحل: 38-39].
والمقصود أن الله - سبحانه وتعالى - جعل للسعادة والشقاوة عنواناً يُعرفان

به، فالسعيدُ الطيب لا يليق به إلا طيب، ولا يأتي إلا طيباً ولا يصدر منه إلا طيب، ولا يُلابِس إلا طيباً، والشقي الخبيث لا يليق به إلا الخبيث، ولا يأتي إلا خبيثاً، ولا يصدُر منه إلا الخبيثُ، فالخبيث يتفجر من قَلبه الخبثُ على لسانه وجوارحه، والطَّيِّبُ يتفجر من قلبه الطِّيبُ على لسانه وجوارحه. وقد يكون في الشخص مادتان، فأيهما غلب عليه كان من أهلها، فإن أراد الله به خيراً طهره من المادة الخبيثة قبل الموافاة، فيُوافيه يوم القيامة مطهراً، فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار، فيطهره منها بما يوفِّقه له من التوبة النصوحِ، والحسناتِ الماحية، والمصائب المكفِّرة، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة، ويُمسك عن الآخر مواد التطهير، فيلقاه يوم القيامة بمادة خبيثة، ومادة طيبة، وحكمته تعالى تأبى أن يُجَاوره أحد في داره بخبائثه، فيدخله النار طهرة له وتصفية وسبكاً، فإذا خلصت سبيكةُ إيمانه من الخبث، صلَح حينئذٍ لجواره، ومساكنة الطيبين من عباده. وإقامة هذا النوع من الناس في النار على حسب سرعة زوال تلك الخبائث منهم وبطئها، فأسرعهم زوالاً وتطهيراً أسرعُهم خروجاً،وأبطؤهم أبطؤهم خروجاً، جزاءً وفاقاً، وما ربُّك بظلام للعبيد.
ولما كان المشرك خبيث العنصر، خبيث الذات، لم تطهر النار خبثه، بل لو خرج منها لعاد خبيثاً كما كان، كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه، فلذلك حرَم الله تعالى على المشرك الجنَّة.
ولما كان المؤمن الطيب المطيب مبرَّءاً من الخبائث، كانت النار حراماً عليه، إذ ليس فيه ما يقتضي تطهيره بها، فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب، وشهدت فِطَرُ عباده وعقولهم بأنه أحكم الحاكمين، وربُّ العالمين، لاإله إلا هو.

فصل
ومن هاهنا تعلم اضطرار العباد فوقَ كل ضرورة إلى معرفة الرسول، وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا، ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيلَ إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا مِن جهتهم، ولا يُنال رضى الله البتة إلا على أيديهم، فالطَّيِّب من الأعمال والأقوال والأخلاق، ليس إلا هديهم وما جاؤوا به، فهم الميزانُ الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم تُوزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظمُ مِن ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فُرِضَت، فضرورةُ العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير. وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديُه وما جاء به طرفةَ عين، فسد قلبُك، وصار كالحوت إذا فارق الماء، ووضع في المِقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل، كهذه الحال، بل أعظمُ، ولكن لا يُحِسُّ بهذا إلا قلب حي و
مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلاَمُ
وإذا كانت سعادةُ العبد في الدارين معلقةً بهدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيجِب على كلَ من نصح نفسه، وأحب نجاتها وسعادتها، أن يعرف من هديه
وسيرته وشأنه مَا يَخْرُجُ به عن الجاهلين به، ويدخل به في عِداد أتباعه وشِيعته وحِزبه، والناس في هذا بين مستقِل، ومستكثِر، ومحروم، والفضلُ بيد الله يُؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

فصل
وهذه كلمات يسيرة لا يَستغني عن معرفتها مَنْ له أدنى همة إلى معرفة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيرتِه وهديه، اقتضاها الخاطِرُ المَكْدودُ على عُجَرِهِ وبُجَرِهِ مع البِضاعة المزجاة التي لا تنفتح لها أبوابُ السُّدَدِ، ولا يتنافس فيها المتنافسون مع تعليقها في حال السفر لا الإِقامة، والقلبُ بكل وادٍ منه شُعبة، والهمة قد تفرقت شَذَرَ مَذَرَ، والكتاب مفقود، ومَنْ يفتح باب العلم لمذاكرته معدوم غيرُ موجود، فَعُودُ العلم النافع الكفيل بالسعادة قد أصبح ذاوياً، وربعه قد أوحش من أهله وعاد منهم خالياً، فلسان العالم قد مُلِىءَ بالغلول مضاربةً لغلبة الجاهلين، وعادت موارِدُ شفائه وهي معاطبه لكثرة المنحرفين والمحرِّفين، فليس له مُعَوَّل إلا على الصبرِ الجميل، وما له ناصر ولا معين إلا الله وحده وهو حسبُنا ونعم الوكيل.

فصل: في نسبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وهو خير أهل الأرض نسباً على الإِطلاق، فلنسبه من الشرف أعلى ذِرْوة، وأعداؤه كانوا يشهدون له بذلك، ولهذا شهد له به عدوُّه إذ ذاك أبو سفيان بين يدي مَلِك الرّوم، فأَشرف القوم قومُه، وأَشرف القبائل قبيلُه، وأَشرفُ الأفخاذ فخذه.
فهو محمَّد بن عبد الله، بن عبد المُطَّلِب، بن هَاشِم، بن عَبدِ مَنَاف، بن قُصَيِّ، بنِ كِلاب، بنِ مُرَّة، بنِ كَعْبِ، بنِ لُؤَي، بنِ غَالِب، بنِ فِهْر، بنِ مَالِك، بنِ النَّضْرِ، بنِ كِنَانَة، بنِ خُزَيْمَة، بنِ مُدْرِكَة، بنِ إليَاس، بنِ مُضَرَ، بنِ نِزَار، بنِ مَعَدِّ، بنِ عَدْنَان.
إلى هاهنا معلوم الصحة، متفق عليه بين النسابين، ولا خِلاف فيه البتة، وما فوق "عدنان" مختلف فيه. ولا خلاف بينهم أن "عدنان" من ولد إسماعيل عليه السلام، وإسماعيل: هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وأمّا القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجهاً، وسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية قدّس الله روحه يقول: هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكِتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم، فإن فيه: إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنَه بكره، وفي لفظ: وحيده، ولا يشكُّ أهلُ الكِتاب مع المسلمين

أن إسماعيل هو بكر أولاده، والذي غرَّ أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم: اذبح ابنك إسحاق، قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم، لأنها تناقض قوله: اذبح بكرك ووحيدك،ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويختاروه لأنفسهم دون العرب، ويأبى اللهُ إلا أن يجعل فضله لأهله. وكيف يسوغ أن يُقال: إن الذبيح إسحاق، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب، فقال تعالى عن الملائكة: إنهم قالوا لإِبراهيم لما أتوه بالبشرى: { لاَ تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنَا إِلَىَ قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 70-71] فمحال أن يبشرها بأنه يكون لها ولد، ثم يأمر بذبحه، ولا ريبَ أن يعقوب عليه السلام داخل في البشارة، فَتَنَاوُل البشارة لإِسحاق ويعقوب في اللفظ واحد، وهذا ظاهِر الكلام وسياقُه.فإن قيل: لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان "يعقوب" مجروراً عطفاً على إسحاق، فكانت القراءة {ومن وراء إسحاق يعقوب} أي: ويعقوب من وراء إسحاق. قيل: لا يمنع الرفعُ أن يكون يعقوبُ مبشراً به، لأن البشارةَ قول مخصوص، وهي أولُ خبر سارٍّ صادق. وقوله تعالى: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوب} جملة متضمنة لهذه القيود، فتكون بشارة، بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية. ولما كانت البشارة قولاً، كان موضع

هذه الجملة نصباً على الحكاية بالقول، كأن المعنى: وقلنا لها: من وراء إِسحاق يعقوب، والقائل إذا قال: بشرتُ فلاناً بِقُدوم أخيه وَثَقَلِهِ في أثره، لم يعقل منه إلا بشارته بالأمرين جميعاً. هذا ممّا لا يستريبُ ذو فهم فيه البتة، ثم يُضعف الجرَّ أمر آَخر، وهو ضعف قولك: مررت بزيد وَمِنْ بعده عمرو، ولأن العاطف يقوم مقام حرف الجرِّ،.فلا يفصل بينه وبين المجرور، كما لا يفصل بين حرف الجار والمجرور. ويدل عليه أيضاً أن الله سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة (الصافات ) قال: {فَلَمّا أَسْلَمَا وَتَلّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن يَإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدّقْتَ الرّؤْيَا إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [ الصافات: 103-111]. ثم قال تعالى: {وَبَشّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ} [الصافات: 112]. فهذه بشارة من الله تعالى له شكراً على صبره على ما أُمِرَ به، وهذا ظاهر جداً في أن المبشَّر به غيرُ الأول، بل هو كالنص فيه.
فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته، أي: لما صبر الأب على ما أُمر به، وأَسلم الولد لأمر الله، جازاه الله على ذلك بأن أعطاه النُّبوة.
قيل: البشارة وقعت على المجموع: على ذاته ووجوده، وأن يكون نبياً، ولهذا نصب "نبياً" على الحال المقدَّر، أي: مقدراً نبوته، فلا يمكن إخراجُ البِشارة أن تقع على الأصل، ثم تخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفَضْلَةِ، هذا مُحال من الكلام، بل إذا وقعت البِشارةُ على نبوته، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى.
وأيضاً فلا ريب أن الذبيح كان بمكّة، ولذلك جُعلت القرابينُ يومَ

النَّحر بها، كما جُعِل السعيُ بين الصفا والمروة ورمي الجمار تذكيراً لشأن إِسماعيل وأمِّه، وإقامةً لذكر الله، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللَّذان كانا بمكّة دون إسحاق وأمه، ولهذا اتصل مكانُ الذبح وزمانُه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل، وكان النَّحرُ بمكّة مِن تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زماناً ومكاناً، ولو كان الذبح بالشام كما يزعم أهل الكِتاب ومن تلقى عنهم، لكانت القرابين والنَّحر بالشام، لا بمكّة.
وأيضاً فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليماً. لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه. ولما ذكر إسحاق سماه عليماً، فقال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مّنكَرُونَ} [الذاريات: 24-25] إلى أن قال: {قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ} [الذاريات: 28] وهذا إسحاق بلا ريب، لأنه من امرأته، وهي المبشًّرة به، وأمّا إسماعيل، فمن السُّرِّيَّةِ. وأيضاً فإنهما بُشِّرا به على الكِبرَ واليَأْسِ من الولد، وهذا بخلاف إسماعيل، فإنه ولد قبلَ ذلك.
وأيضاً فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أنَّ بكر الأولاد أحبُّ إلى الوالدين ممن بعده، وإبراهيم عليه السلام لما سأل ربه الولد، ووهبه له، تعلقت شُعْبَةٌ من قلبه بمحبته، والله تعالى قد اتخذه خليلاً، والخُلة مَنْصِبٌ يقتضي توحيدَ المحبوب بالمحبة، وأن لا يُشارك بينه وبين غيره فيها، فلما أخذ الولدُ شعبةً من قلب الوالد، جاءت غَيْرةُ الخُلة تنتزعها من قلب الخليل، فأمره بذبح المحبوب، فلما أقدم على ذبحه، وكانت محبةُ الله أعظمَ عنده من محبة الولد، خَلَصَتِ الخلة حينئذٍ من شوائب المشاركة،

فلم يبق في الذبح مصلحة، إذ كانت المصلحةُ إنما هي في العزم وتوطين النفس عليه، فقد حَصَل المقصودُ، فَنُسِخَ الأمر، وَفُدي الذبيح، وَصدَّق الخليلُ الرؤيا، وحصل مراد الرب.
ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار إنما حصل عند أول مولود، ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول، بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ما يقتضي الأمر بذبحه، وهذا في غاية الظهور.
وأيضاً فإن سارة امرأة الخليل عليه السلام غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة، فإنها كانت جارية، فلما ولدت إسماعيل وأَحبَّه أبوه، اشتدت غيرة "سارة"، فأمر الله سبحانه أن يُبعد عنها "هاجر" وابنها، ويسكنها في أرض مكّة لتبرد عن "سارة" حرارةُ الغيرة، وهذا من رحمته تعالى ورأفته، فكيف يأمره سبحانه بعد هذا أن يذبح ابنها، ويدع ابن الجارية بحاله، هذا مع رحمة الله لها وإبعاد الضرر عنها وجبره لها، فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية، بل حكمتُه البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السُّرِّيَّةِ، فحينئذٍ يرق قلبُ السيدة عليها وعلى ولدها، وتتبدل قسوةُ الغيرة رحمة، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتاً هذه وابنها منهم، وليُريَ عباده جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة، وأن عاقبة صبر "هاجر" وابنها على البُعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد آلت إلى ما آلت إليه، من جَعل آثارهما ومواطىء أقدامهما مناسكَ لعباده المؤمنين، ومتعبداتٍ لهم إلى يوم القيامة، وهذه سنته تعالى فِيمَن يُريد رفعه مِن خلقه أن يمنَّ عليه بعد استضعافه وذله وانكساره. قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] وذلك فضل الله يُؤْتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

ولنرجع إِلى المقصود من سيرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهديه وأخلاقه لا خلاف أنه ولد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجوف مكّة، وأن مولده كان عامَ الفيل، وكان أمرُ الفيل تقدِمة قدَّمها الله لنبيه وبيته، وإلا فأصحاب الفيل كانوا نصارى أهل كِتاب، وكان دينهم خيراً مِن دين أهل مكّة إذ ذاك، لأَنهم كانوا عُبَّاد أوثان، فنصرهم الله على أهل الكِتاب نصراً لا صنُع للبشر فيه، إرهاصاً وتقدِمة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي خرج من مكَّة، وتعظيماً للبيت الحرام.
واختلف في وفاة أبيه عبد الله، هل توفي ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمل، أو توفي بعد ولادته؟ على قولين: أصحهما: أنه توفي ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمل.
والثاني: أنه توفي بعد ولادته بسبعة أشهر. ولا خلاف أن أُمّه ماتت بين مكّة والمدينة "بالأبواء" منصرفها من المدينة مِن زيارة أخواله، ولم يستكمل إذ ذاك سبعَ سنين.
وَكَفَلَه جدّه عبد المطلب، وتُوفي ولِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحوُ ثمان سنين، وقيل: ست، وقيل: عشر، ثم كَفَلَه عمُّه أبو طالب، واستمرت كفالتُه له، فلما بلغ ثِنتي عشرة سنة، خرج به عمُه إلى الشام، وقيل: كانت سِنُّهُ تسعَ سنين، وفي هذه الخرجة رآه بَحِيرى الراهب، وأمر عمه ألا يَقْدَم به إلى الشام خوفاً عليه من اليهود، فبعثه عمُّه مع بعض غلمانه إلى مكّة، ووقع في كتاب الترمذي وغيره أنه بعث معه بلالاً،وهو من الغلط الواضح،

فإن بلالاً إذ ذاك لعلّه لم يكن موجوداً، وإن كان، فلم يكن مع عمه، ولا مع أبي بكر. وذكر البزار في "مسنده" هذا الحديث، ولم يقل: وأرسل معه عمه بلالاً، ولكن قال: رجلاً.
فلمَّا بلغ خمساً وعشرين سنة، خرج إلى الشام في تجارة، فوصل إلى "بصرى" ثم رجع، فتزوج عَقِبَ رجوعه خديجة بنتَ خويلد. وقيل: تزوجها وله ثلاثون سنة. وقيل: إحدى وعشرون، وسنها أربعون، وهي أولُ امرأة تزوجها، وأول امرأة ماتت من نسائه، ولم ينكح عليها غيرها، وأمره جبريلُ أن يقرأ عليها السلام من ربها.
ثم حَبَّبَ اللهُ إليه الخلوة، والتعبدَ لربه، وكان يخلو ب "غار حراء" يَتعَبَّدُ فيه الليالي ذواتِ العدد، وبُغِّضَتْ إليه الأوثان ودينُ قومه، فلم يكن شيء أبغضَ إليه من ذلك.
فلما كَمُلَ له أربعون، أشرق عليه نورُ النبوة، وأكرمه اللهُ تعالى برسالته، وبعثه إلى خلقه، واختصه بكرامته، وجعله أمينَه بينه وبين عبادة. ولا خلاف أن مبعثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يومَ الاثنين، واختلف في شهر المبعث. فقيل: لثمان مضين من ربيع الأول، سنة إحدى وأربعين من عام الفيل،

هذا قولُ الأكثرين، وقيل: بل كان ذلك في رمضان، واحتج هؤلاء بقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِيَ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] قالوا: أول ما أكرمه الله تعالى بنبوته، أنزل عليه القرآن، وإلى هذا ذهب جماعة، منهم يحيى الصرصري حيث يقول في نونيته:
وَأَتَتْ عَليْهِ أَرْبَعُونَ فَأَشْرَقَتْ ... شَمْسُ النِّبوَةِ مِنْهُ في رَمَضانِ
والأولون قالوا: إنما كان إنزال القرآنِ في رمضان جملةً واحدةً في ليلة القدر إلى بيت العزَّة، ثم أُنزل مُنَجَّما بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة.
وقالت طائفة : أنزلَ فيه القرآن، أي في شأنه وتعظيمه، وفرض صومه. وقيل: كان ابتداءُ المبعث في شهر رجب.
وكمل الله له من مراتب الوحي مراتبَ عديدة:
إحداها: الرُّؤيا الصادقة، وكانت مبدأَ وحيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
الثانية: ما كان يُلقيه الملَكُ في رُوْعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعي أَنّه لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى

تَسْتكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا في الطَّلَبِ، وَلاَ يَحْمِلَنّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَن تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ".
الثالثة: أَنّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتمثَّلُ له المَلَكُ رجلاً، فيُخاطبه حتى يَعِيَ عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً.
الرَّابعة: أَنّه كان يأتيه في مثل صَلْصَلَةِ الجرس، وكان أَشدَّه عليه فَيَتَلَبَّسُ به الملكُ حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد وحتى إن راسلته لتَبْرُكُ به إلى الأرض إذا كان راكبها ولقد جاءه الوحيُ مرةً

كذلك، وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضُّها
الخامسة: أنه يَرَى المَلَكَ في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يُوحِيَه،وهذا وقع له مرتين، كما ذكر الله ذلك في سورة [النَّجم: 7-13]
السادسة: ما أوحاه الله وهو فوق السماواتِ ليلَة المعراج مِن فرض الصلاة وغيرها.
السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة مَلَكٍ، كما كلّم اللهُ موسى بن عِمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعاً بنص القرآن، وثبوتها لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو في حديث الإِسراء.
وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهي تكليم الله له كفاحاً من غير حجاب، وهذا على مذهب من يقول: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربَّه تبارك وتعالى، وهي مسألة خلاف بين السلفِ والخلف، وإن كان جمهور الصحابة بل كُلُّهم مع عائشة كما حكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعاً للصحابة.

فصل: في خِتانه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه وُلد مختوناً مسروراً، وروي في ذلك حديث لا يصح ذكره أبو الفرج بن الجوزي في "الموضوعات" وليس فيه حديث ثابت، وليس هذا من خواصه، فإن كثيراً من النّاس يُولد مختوناً.
وقال الميموني: قلت لأبي عبد الله: مسألة سئلتُ عنها: خَتَّان ختن صبياً، فلم يستقص؟ قال: إذا كان الختان جاوز نصف الحشفة إلى فوق، فلا يعيد، لأن الحشفة تغلظ، وكلما غلظت ارتفع الختان. فأمّا إذا كان الختان دون النصف، فكنتُ أرى أن يعيد. قلت: فإن الإِعادة شديدة جداً، وقد يُخاف عليه من الإِعادة؟ فقال: لا أدري، ثم قال لي فإن هاهنا رجلاً ولد له ابنٌ مختون، فاغتمَّ لذلك غماً شديداً، فقلت له: إذا كان الله قد كفاك المؤنة،فما غمُّكَ بهذا؟! انتهى. وحدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن عثمان الخليلي المحدِّث ببيت المقدس أنه وُلِدَ كذلك، وأن أهله لم يختنوه، والناس يقولون لمن ولد كذلك: خَتَنَهُ القمر، وهذا من خرافاتهم.
القول الثاني: أنّه خُتِنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ شَقَّ قلبَه الملائكةُ عند ظئره حليمة.
القول الثالث: أن جدّه عبد المطلب خَتَنَهُ يومَ سابعه، وصنع له مأدُبة وسمّاه محمّداً.

قال أبو عمر بن عبد البرّ: وفي هذا الباب حديث مسند غريب، حدثناه أحمد بن محمد بن أحمد، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف، حدثنا محمد بن أبي السري العسقلاني، حدثنا الوليد بن مسلم، عن شعيب، عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن عبد المطلب ختن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ سابعه، وجعل له مأدُبه، وسمَّاه محمداً، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يحيى بن أيوب: طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممن لقيته إلا عند ابن أبي السري، وقد وقعت هذه المسألة بين رجلين فاضلين، صنف أحدهما مصنفاً في أنه ولد مختوناً وأجلب فيه من الأحاديث التي لا خِطام لها ولا زِمام، وهو كمال الدين بن طلحة، فنقضه عليه كمال الدين بن العديم، وبين فيه أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُتِنَ على عادة العرب، وكان عموم هذه السُّنَّة للعرب قاطبة مغنياً عن نقل معين فيها، والله أعلم.
فصل: في أمهاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللاتي أرضعنه
فمنهن ثويبه مولاة أبي لهب، أرضعته أياماً، وأرضعت معه أبا سلمة

عبد الله بن عبد الأسد المخزومي بلبن ابنها مسروح، وأرضعت معهما عمَّه حمزةَ بن عبد المطلب. واختلف في إسلامها، فالله أعلم. ثم أرضعته حليمةُ السعدية بلبن ابنها عبد الله أخي أنيسة، وجُدامة، وهي الشيماء أولاد الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي، واختُلِف في إسلام أبويه من الرضاعة، فالله أعلم، وأرضعت معه ابن عمه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وكان شديدَ العداوة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أسلم عامَ الفتح وحسن إسلامه، وكان عمه حمزة مسترضعاً في بني سعد بن بكر فأرضعت أمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً وهو عند أمه حليمة، فكان حمزة رضيعَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جهتين: من جهة ثويبة،ومن جهة السعدية.
فصل: في حواضنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فمنهن أُمّه آمنةُ بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب.
ومنهن ثويبة وحليمة، والشيماء ابنتها، وهي أخته من الرضاعة، كانت تحضنه مع أمها، وهي التي قدمت عليه في وفد هَوزان، فبسط لها رداءه، وأجلسها عليه رعاية لحقها.
ومنهن الفاضلة الجليلة أم أيمن بَرَكة الحبشية، وكان ورِثها مِنْ أبيه، وكانت دايتَه،وزوَّجها من حِبِّه زيد بن حارثة، فولدت له أُسامة، وهي التي دخل عليها أبو بكر وعمر بعد موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي تبكي، فقالا: يا أم أيمن ما يُبكيك فما عند الله خير لرسوله؟ قالت: إنِّي لأعلم أن ما عند الله

خير لرسوله، وإنما أبكي لانقطاع خبر السماء، فهيجتهما على البكاء، فبكيا.
فصل: في مبعثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأول ما نزل عليه
بعثه الله على رأس أربعين، وهي سنُّ الكمال. قيل: ولها تبعث الرسل، وأما ما يذكر عن المسيح أنه رُفعَ إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنة، فهذا لا يعرف له أثر متصل يجب المصير إليه.
وأول ما بدئ به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمر النبوة الرؤيا، فكان لا يَرى رُؤيا إلا جاءتْ مِثْلَ فَلَقِ الصبُّح قيل: وكان ذلك ستةَ أشهر، ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة والله أعلم.
ثم أكرمه الله تعالى بالنبوة، فجاءه المَلَك وهو بغار حِرَاءٍ، وكان يُحب الخلوة فيه، فأول ما أنزل عليه { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] هذا قول عائشة والجمهور.

وقال جابر: أول ما أنزل عليه: {يَأَيّهَا الْمُدّثّرُ} [المدثر: 1]
والصحيح قول عائشة لوجوه:
أحدها أن قوله: "مَا أَنَا بِقَارِىء" صريح في أنه لم يقرأ قبل ذلك شيئاً.
الثاني : الأمر بالقراءة في الترتيب قبل الأمر بالإِنذار، فإنه إذا قرأ في نفسه، أنذر بما قرأه، فأمره بالقراءة أولاً، ثم بالإِنذار بما قرأه ثانياً.
الثالث: أن حديث جابر، وقوله: أول ما أنزل من القرآن {يَا أيها المُدَّثر} [المدثر: 1] قول جابر، وعائشة أخبرت عن خبره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نفسه بذلك.
الرَّابع : أن حديث جابر الذي احتج به صريح في أنه قد تقدم نزول الملَك عليه أولاً قبل نزول {يَأيُّهَا المُدَّثَر} [المدثر: 1] فإنه قال: "فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء، فرجعت إلى أهلي فقلت: زملوني دثروني، فأنزل الله: {يَأَيُّهَا المُدَّثَرُ} [المدثر: 1]" وقد أخبر أن الملك الذي جاءه بحراء أنزل عليه {اقرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] فدل حديث جابر على تأخر نزول {يَا أَيُّهَا المُدثِّرُ} [المدثر: 1] والحجة في روايته، لا في رأيه، والله أعلم.

فصل: في ترتيب الدعوة ولها مراتب
المرتبة الأولى : النبوة. الثانية: إنذار عشيرته الأقربين. الثالثة: إنذار قومه. الرابعة: إنذار قومٍ ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة. الخامسة: إنذارُ جميع مَنْ بلغته دعوته من الجن والإِنس إلى آخر الدّهر.
فصل
وأقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك ثلاث سنين يدعو إلى الله سبحانه مستخفياً، ثم نزل عليه {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]. فأعلن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالدعوة وجاهر قومه بالعداوة، واشتد الأذى عليه وعلى المسلمين حتى أذن الله لهم بالهجرتين.
فصل: في أسمائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وكلها نعوت ليست أعلاماً محضة لمجرد التعريف، بل أسماء مشتقة من صفات قائمة به تُوجِبُ له المدحَ والكمال.

فمنها محمد، وهو أشهرها، وبه سمي في التوراة صريحاً كما بيناه بالبرهان الواضح في كتاب "جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام" وهو كتاب فرد في معناه لم يُسبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها، بينَّا فيه الأحاديث الواردة في الصلاة والسلام عليه، وصحيحها من حسنها، ومعلولها وبينا ما في معلولها من العلل بياناً شافياً، ثم أسرار هذا الدعاء وشرفه وما اشتمل عليه من الحكم والفوائد، ثم مواطن الصلاة عليها ومحالها، ثم الكلام في مقدار الواجب منها، واختلاف أهل العلم فيه، وترجيح الراجح، وتزييف المزيَّف، وَمَخبَرُ الكِتابِ فَوْقَ وصفه.
والمقصود أن اسمه محمد في التوراة صريحاً بما يوافق عليه كلُّ عالم من مؤمني أهل الكتاب.
ومنها أحمد، وهو الاسم الذي سماه به المسيح، لسرٍّ ذكرناه في ذلك ا لكِتابِ.
ومنها المتوكِّل، ومنها الماحي، والحاشر، والعاقب، والمُقَفِّى، ونبى التوبة، ونبيُّ الرحمة، ونبيُّ الملحمة، والفاتحُ، والأمينُ.ويلحق بهذه الأسماء: الشاهد، والمبشِّر، والبشير، والنذير، والقاسِم، والضَّحوك، والقتَّال، وعبد الله، والسراج المنير، وسيد ولد آدم، وصاحبُ لواء الحمد، وصاحب المقام المحمود، وغير ذلك من الأسماء، لأن أسماءه إذا كانت أوصاف مدح، فله من كل وصف اسم، لكن ينبغي أن يفرق بين الوصف المختص به، أو الغالب عليه، ويشتق له منه اسم، وبين الوصف المشترَك، فلا يكون له منه اسم يخصه.

وقال جبير بن مُطْعِم: سمَّى لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه أسماء، فقال: "أنا مُحَمَّدٌ، وأنا أحْمَدُ، وأنا المَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِي الكُفرَ، وأنا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، والعَاقِب الَّذِي لَيسَ بَعْدَهُ نَبيٌّ".
وأسماؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نوعان:
أحدهما: خاص لا يُشارِكُه فيه غيره من الرسل كمحمد، وأحمد، والعاقب، والحاشر، والمقفي، ونبي الملحمة.
والثاني : ما يشاركه في معناه غيره من الرسل، ولكن له منه كماله، فهو مختص بكماله دون أصله، كرسول الله، ونبيه، وعبده، والشَّاهدِ، والمبشِّرِ، والنذيرِ، ونبيِّ الرحمة، ونبيّ التوبة.
وأما إن جعل له مِن كل وصف من أوصافه اسم، تجاوزت أسماؤه المائتين، كالصادق، والمصدوق، والرؤوف الرَّحيم، إلى أمثال ذلك. وفي هذا قال من قال من الناس: إن لله ألفَ اسمٍ، وللنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألفَ اسم، قاله أبو الخطاب بنُ دِحيةَ ومقصوده الأوصاف.

فصل: في شرح معاني أسمائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أمّا مُحَمَّد، فهو اسم مفعول، من حَمِدَ، فهو محمد، إذا كان كثيرَ الخصال التي يُحمد عليها، لذلك كان أبلغَ من محمود، فإن "محموداً" من الثلاثي المجرد، ومحمد من المضاعف للمبالغة، فهو الذي يحمد أكثر ممّا يحمد غيره من البشر، ولهذا - والله أعلم - سمِي به في التوراة، لكثرة الخصال المحمودة التي وُصِفَ بها هو ودينه وأمته في التوراة، حتى تَمَنَى موسى عليه الصلاة والسلام أن يكون منهم، وقد أتينا على هذا المعنى بشواهده هناك، وبينا غلط أبي القاسم السهيلي حيث جعل الأمر بالعكس، وأن اسمه في التوراة أحمد.
وأما أحمد، فهو اسم على زِنة أفعل التفضيل، مشتق أيضاً من الحمد. وقد اختلف الناس فيه: هل هو بمعنى فاعل أو مفعول؟ فقالت طائفة: هو بمعنى الفاعل، أي: حَمْدُه للّه أكثرُ من حمد غيره له، فمعناه: أحمد

الحامدين لربه، ورجحوا هذا القول بأن قياس أفعل التفضيل، أن يُصاغ من فعل الفاعل، لا من الفعل الواقع على المفعول، قالوا: ولهذا لا يقال: ما أضربَ زيداً، ولا زيد أضرب من عمرو باعتبار الضرب الواقع عليه، ولا: ما أشرَبَه للماء، وآكله للخبز، ونحوه، قالوا: لأن أفعل التفضيل، وفعل التعجب، إنما يُصاغان من الفعل اللازم، ولهذا يقدر نقله من "فَعَلَ" و"فَعِلَ" المفتوح العين ومكسورها، إلى "فَعُلَ" المضموم العين، قالُوا: ولهذا يعدَّى بالهمزة إلى المفعول، فهمزته للتعدية، كقولك: ما أظرفَ زيداً، وأكرمَ عمراً، وأصلهما: من ظَرُف، وَكَرُمَ. قالوا: لأن المتعجَّب منه فاعل في الأصل، فوجب أن يكون فعله غيرَ متعد، قالوا: وأما نحو: ما أضرب زيداً لعمرو، فهو منقول من "فَعَلَ" المفتوح العين إلى "فَعُلَ" المضموم العين، ثم عُدي والحالة هذه بالهمزة قالوا: والدليل على ذلك مجيئهم باللام، فيقولون: ما أضرب زيداً لعمرو، ولو كان باقياً على تعديه، لقيل: مَا أضربَ زيداً عمراً، لأنه متعد إلى واحد بنفسه، وإلى الآخر بهمزة التعدية، فلما أن عدَّوه إلى المفعول بهمزة التعدية، عدَّوه إلى الآخر باللام، فهذا هو الذي أوجب لهم أن قالوا: إنهما لا يُصاغان إلا من فعل الفاعل، لا من الفعل الواقع على المفعول.
ونازعهم في ذلك آخرون، وقالوا: يجوز صوغُهما من فعل الفاعل، ومن الواقع على المفعول، وكثرة السماع به من أبين الأدلة على جوازه، تقول العرب: ما أشغَلَه بالشيء، وهو من شُغِلَ، فهو مشغول وكذلك يقولون: ما أولَعه بكذا، وهو من أُولعَ بالشيء، فهو مُولَع به، مجني للمفعول ليس إلا، وكذلك قولهم: ما أعجبه بكذا، فهو من أُعجِبَ به، ويقولون: ما أحبه إلي، فهو تعجب من فعل المفعول، وكونه محبوباً لك، وكذا: ما أبغضه إليَّ، وأمقته إليَّ.

وهاهنا مسألة مشهورة ذكرها سيبويه، وهي أنك تقول: ما أبغضني له، وما أحبني له، وما أمقتني له: إذا كنتَ أنتَ المبغِضَ الكارِه، والمحِب الماقِت، فتكون متعجباً من فعل الفاعل، وتقول: ما أبغضني إليه، وما أمقتني إليه، وما أحبني إليه: إذا كنت أنت البغيض الممقوت، أو المحبوب، فتكون متعجباً من الفعل الواقع على المفعول، فما كان باللام فهو للفاعل، وما كان ب "إلى" فهو للمفعول. وأكثر النحاة لا يعللون بهذا. والذي يقال في علته والله أعلم: إن اللام تكون للفاعل في المعنى، نحو قولك: لمن هذا؟ فيقال: لزيد، فيؤتى باللام. وأما "إلى" فتكون للمفعول في، المعنى، فتقول: إلى من يصل هذا الكتاب؟ فتقول: إلى عبد الله، وسر ذلك أن اللام في الأصل للملك والاختصاص، والاستحقاق إنما يكون للفاعل الذي يملك ويستحق، و"إلى" لانتهاء الغاية، والغاية منتهى ما يقتضيه الفعلُ، فهي بالمفعول أليق، لأنها تمام مقتضى الفعل، ومِن التعجب من فعل المفعول قولُ كعب بن زهير في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَلَهْوَ أَخوَفُ عِنْدِي إِذ أُكَلِّمُهُ ... وَقِيلَ إنَّكَ مَحْبُوسّ وَمَقْتُولُ
مِنْ خَادِرٍ مِنْ لُيُوثِ الأُسْدِ مَسْكَنُهُ ... بِبَطْنِ عَثّرَ غِيْلٌ دُونَهُ غِيْلُ
فأخوف هاهنا، من خيف، فهو مَخُوفُ، لا من خاف، وكذلك قولهم: ما أجَنَّ زيداً، من جُنَّ فهو مجنون، هذا مذهب الكوفيين ومن وافقهم.
قال البصريون: كل هذا شاذ لا يُعوَّل عليه، فلا نُشوش به القواعد،

ويجب الاقتصارُ منه على المسموع، قال الكوفيون: كثرة هذا في كلامهم نثراً ونظماً يمنع حمله على الشذوذ، لأن الشاذ ما خالف استعمالهم ومطَّرِدَ كلامهم، وهذا غير مخالف لذلك، قالوا: وأما تقديركم لزوم الفعل ونقله إلى فَعُلَ، فتحكم لا دليل عليه، وما تمسكتم به من التعدية بالهمزة إلى آخره، فليس الأمر فيها كما ذهبتم إليه، والهمزة في هذا البناء ليست للتعدية، وإنما هي للدلالة على معنى التعجب والتفضيل فقط، كألف "فاعل"، وميم "مفعول" وواوه، وتاء الافتعال، والمطاوعة، ونحوها من الزوائد التي تلحق الفعل الثلاثي لبيان ما لحقه من الزيادة على مجرده،فهذا هو السبب الجالب لهذه الهمزة، لا تعدية الفعل.
قالوا: والذي يدل على هذا أن الفعل الذي يُعدَّى بالهمزة يجوز أن يُعدَّى بحرف الجرّ وبالتضعيف، نحو: جلست به، وأجلسته، وقمت به، وأقمته، ونظائره، وهنا لا يقوم مقامَ الهمزة غيرها، فعلم أنها ليست للتعدية المجردة أيضاً، فإنها تجامع باء التعدية، نحو: أكْرِمْ بِهِ، وأَحسِنْ بِهِ، ولا يجمع على الفعل بين تعديتين.
وأيضاً فإنهم يقولون: ما أعطاه للدراهم، وأكساه للثياب، وهذا مِن أعطى وكسا المتعدي، ولا يصح تقديرُ نقله إلى "عطو": إذا تناول، ثم أدخلت عليه همزة التعدية، لفساد المعنى، فإن التعجب إنما وقع من إعطائه، لا من عطوه، وهو تناوله، والهمزة التي فيه همزة التعجب والتفضيل، وحذفت همزته التي فى فعله، فلا يصح أن يقال: هي للتعدية.
قالوا: وأما قولكم: إنه عُدِّي باللام في نحو: ما أضربه لزيد... إلى آخره، فالإِتيان باللام هاهنا ليس لما ذكرتم من لزوم الفعل، وإنما أتي بها تقوية له لما ضعف بمنعه من التصرُّفِ، وأُلزِمَ طريقة واحدة خرج بها عن سَنن الأفعال، فضعف عن اقتضائه وعمله، فقوي باللام كما يقوى بها عند تقدم معموله عليه، وعند فرعيته، وهذا المذهب هو الراجح كما تراه.

فلنرجع إلى المقصود فنقول: تقديرُ أحمد على قول الأولين: أحمد الناس لربه، وعلى قول هؤلاء: أحق الناس وأولاهم بأن يُحمد، فيكون كمحمد في المعنى، إلا أن الفرق بينهما أن "محمداً" هو كثير الخصال التي يحمد عليها، وأحمد هو الذي يُحمد أفضل ممّا يُحْمَدُ غيره، فمحمد في الكثرة والكمية، وأحمد في الصفة والكيفية، فيستحق من الحمد أكثر ممّا يستحق غيره، وأفضلُ ممّا يستحِق غيره، فيُحمَدُ أكثرَ حمد، وأفضلَ حمد حَمِدَه البشر. فالاسمان واقعان على المفعول، وهذا أبلغ في مدحه، وأكمل معنى. ولو أريد معنى الفاعل لسمي الحماد، أي: كثير الحمد، فإنه بها،كان أكثر الخلق حمداً لربه، فلو كان اسمه أحمد باعتبار حمده لربه، لكان الأولى به الحمَّاد، كما سميت بذلك أمَتُه.
وأيضاً: فإن هذين الاسمين، إنما اشتقا من أخلاقه، وخصائصه المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمى محمداً؟صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأحمد وهو الذي يحمدُه أهل السماء وأهلُ الأرض وأهلُ الدنيا وأهلُ الآخرة، لكثرة خصائصه المحمودة التي تفوق عَدَّ العادِّين وإحصاء المحصين، وقد أشبعنا هذا المعنى في كتاب "الصلاة والسلام" عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما ذكرنا هاهنا كلمات يسيرة اقتضتها حالُ المسافر، وتشتتُ قلبه وتفرق همته، وبالله المستعان وعليه التكلان.
وأما اسمه المتوكل، ففي "صحيح البخاري" عن عبد الله بن عمرو قال: "قرأت في التوراة صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُحَمَّد رسولُ الله، عبدي وَرَسُولي، سمَّيتُه المُتَوَكِّل، ليس بِفَظٍّ، ولا غَليظٍ، ولا سَخَّابٍ في الأسواق، ولا يجزي بالسَّيئةِ السَّيئة، بل يعفو ويصفح، ولن أَقْبِضَهُ حَتَّى أُقيمَ بِهِ المِلَّة الْعَوْجَاءَ، بأن يقولوا: لا إله إلا الله" وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحقّ الناس بهذا الاسم، لأنه توكَّل

على الله في إقامة الدين توكلاً لم يَشْركْه فيه غيره.
وأما الماحي، والحاشر، والمقفِّي، والعاقب، فقد فسرت في حديث جبير بن مطعم، فالماحي: هو الذي محا الله به الكفر، ولم يُمحَ الكفر بأحد من الخلق ما مُحي بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه بُعِثَ وأهل الأرض كلهم كفار، إلا بقايا من أهل الكتاب، وهم ما بين عُبَّاد أوثان، ويهود مغضوب عليهم، ونصارى ضالين، وصابئة دَهرية، لا يعرفون رباً ولا معاداً، وبين عُبَّاد الكواكب، وعُبّاد النار، وفلاسفة لا يعرفون شرائع الأنبياء، ولا يُقرون بها، فمحا الله سبحانه برسوله ذلك حتى ظهر دينُ الله على كل دين، وبلغ دينُه ما بلغ الليل والنهار، وسارت دعوته مسيرَ الشمس في الأقطار.
وأما الحاشر، فالحشر هو الضم والجمع، فهو الذي يُحشر الناسُ على قدمه، فكأنه بعث لحشر الناس.
والعاقب: الذي جاء عَقِبَ الأنبياء، فليس بعده نبي، فإن العاقب هو الآخر، فهو بمنزلة الخاتم، ولهذا سمي العاقب على الإِطلاق، أي: عقب الأنبياء جاء بعقبهم.
وأما المقفِّي، فكذلك، وهو الذي قفَّى على آثار من تقدمه، فقفى اللهُ به على آثار من سبقه من الرسل، وهذه اللفظة مشتقة من القفو، يقال: قفاه يقفوه: إذا تأخر عنه، ومنه قافية الرأس، وقافية البيت، فالمقفِّي: الذي قفى من قبله من الرسل، فكان خاتمهم وآخرهم.

وأما نبي التوبة، فهو الذي فتح الله به بابَ التوبة على أهل الأرض، فتاب الله عليهم توبة لم يحصل مثلها لأهل الأرض قبله. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر الناس استغفاراً وتوبة، حتى كانوا يَعُدُّون لَهُ في المَجْلِس الوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ: "رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الغَفُور".
وكان يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللهِ رَبَكُم، فَإِني أَتُوبُ إِلى اللهِ في الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ" وكذلك توبةُ أمته أكملُ مِن توبة سائر الأمم، وأسرع قبولاً، وأسهل تناولاً، وكانت توبة من قبلهم مِن أصعب الأشياء، حتى كان من توبة بني إسرائيلَ مِن عبادة العجل قتلُ أنفسهم، وأمّا هذه الأمّة، فلكرامتها على الله تعالى جعل توبتها الندمَ والإِقلاع.
وأمّا نبي الملحمة، فهو الذي بعث بجهاد أعداء الله، فلم يجاهد نبي وأمته قطُّ ما جاهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمّته، والملاحم الكبار التي وقعت وتقع بين أمته وبين الكفار لم يُعهد مثلُها قبله، فإن أمته يقتلون الكفار في أقطار الأرض على تعاقب الأعصار،وقد أوقعوا بهم من الملاحم ما لم تفعله أمّة سواهم.
وأما نبيُّ الرحمة، فهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين، فرحم به أهلَ

الأرض كلَّهم مؤمنَهم وكافرَهم،أمّا المؤمنون، فنالوا النصيبَ الأوفر مِن الرحمة، وأمّا الكفار، فأهل الكتاب منهم عاشوا في ظله، وتحت حبله وعهده، وأما من قتله منهم هو وأمتُه، فإنهم عجلوا به إلى النَّار، وأراحوه من الحياة الطويلة التي لا يزداد بها إلا شدَّةَ العذاب في الآخرة.
وأما الفاتح، فهو الذي فتح الله به باب الهدى بعد أن كان مُرْتَجاً، وفتح به الأعين العمي، والآذان الصُّم، والقلوب الغُلف،وفتح الله به أمصار الكفار، وفتح به أبوابَ الجنَّة، وفتح به طرق العلم النافع والعمل الصالح، ففتح به الدنيا والآخرة، والقلوب والأسماع والأبصار والأمصار.
وأمّا الأمين، فهو أحق العالمين بهذا الاسم، فهو أمين الله على وحيه ودينه، وهو أمينُ مَنْ في السماء، وأمينُ مَنْ في الأرض، ولهذا كانوا يُسمونه قبل النبوة: الأمين.
وأمّا الضحوك القتَّال، فاسمان مزدوجان، لا يُفرد أحدهما عن الآخر، فإنه ضحوك في وجوه المؤمنين، غيرُ عابس، ولا مقطِّب، ولا غضوب، ولا فظّ، قتَال لأعداء الله، لا تأخذه فيهم لومة لائم.
وأمّا البشير، فهو المبشَر لمن أطاعه بالثواب، والنذير المنذر لمن عصاه بالعقاب، وقد سماه الله عبدَه في مواضع من كتابه، منها قوله: {وَأَنّهُ لّمَا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19] وقوله: { تَبَارَكَ الّذِي نَزّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىَ عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] وقوله: {فَأَوْحَىَ إِلَىَ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىَ} [النجم: 10] وقوله: { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا} [البقرة: 23] وثبت عنه في "الصحيح" أنه قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر"

وسمّاه الله سِراجاً منيراً، وسمى الشمس سراجاً وهاجاً.
والمنير هو الذي ينير من غير إحراق بخلاف الوهاج، فإن فيه نوعَ إحراق وَتَوَهُج.

فصل: في ذكرى الهجرتين الأولى والثانية
لما كثر المسلمون، وخاف منهم الكفارُ، اشتد أذاهم له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفتنتهم إياهم، فأَذِن لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الهجرة إلى الحبشة وقال: "إن بها مَلكاً لا يُظلَمُ النَّاسُ عنده"، فهاجر من المسلمين اثنا عشر رجلاً وأربع نسوة، منهم عثمان بن عفان، وهو أول من خرج، ومعه زوجته رُقَيَّةُ بنتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأقاموا في الحبشة في أحسن جوار، فبلغهم أنَّ قريشاً أسلمتْ، وكان هذا الخبرُ كذباً، فرجعوا إلى مكة، فلما بلغهم أن الأمر أشدُّ ممّا كان، رجع منهم مَنْ رجع، ودخل جماعة، فَلَقُوا مِنْ قُريش أذى شديداً، وكان ممن دخل عبدُ الله بنُ مسعود.

ثم أذن لهم في الهجرة ثانياً إلى الحبشة، فهاجر مِن الرجال ثلاثةٌ وثمانون رجلاً، إن كان فيهم عمار، فإنه يُشك فيه، ومن النساء ثمان عشرة امرأة، فأقاموا عند النجاشي على أحسن حال، فبلغ ذلك قريشاً، فأرسلوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة في جماعة، ليكيدوهم عند النجاشي، فرد الله كيدهم في نحورهم.
فاشتد أذاهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحصروه وأهل بيته في الشِّعب شِعَبِ أبي طالب ثلاث سنين، وقيل: سنتين، وخرج من الحصر وله تسع وأربعون سنة، وقيل: ثمان وأربعون سنة، وبعد ذلك بأَشهر مات عمُّه أبو طالب وله سبع وثمانون سنة، وفي الشِّعب وُلد عبدُ الله بن عباس، فنال الكفارُ منه أذى شديداً، ثم ماتت خديجةُ بعد ذلك بيسير، فاشتدَّ أذى الكفار له، فخرج إلى الطائف هو وزيد بن حارثة يدعو إلى الله تعالى، وأقام به أياماً فلم يجيبوه، وآذَوه، وأخرجوه، وقاموا له سِماطين، فرجموه بالحجارة حتى أدموا كعبيه، فانصرف عنهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راجعاً إلى مكّة، وفي طريقه لقي عَدَّاساً النصرانيَّ، فآمن به وصدَّقه.
وفي طريقه أيضاً بنخلة صُرف إليه نفر من الجن سبعةٌ مِنْ أهل نَصِيبين، فاستمعوا القرآن وأسلموا، وفي طريقه تلك أرسل الله إليه مَلَكَ الجبال يأمره بِطاعته، وأن يُطبق على قومه أخشبي مكّة، وهما جبلاها إن أراد، فقال: "لاَ بَلْ أَسْتأنِي بِهِم، لَعَلَّ اللهَ يُخرِجُ مِنْ أَصْلاَبِهِم مَنْ يَعْبُدُه لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً". وفي طريقه دعا بذلك الدعاء المشهور: "اللهم إليك أشكو

ضعف قُوَّتي، وقلة حيلتي..." الحديث، ثم دخل مكّة في جوار المطعم بن عدي.
ثم أسري بروحه وجسده إلى المسجد الأقصى، ثم عُرِجَ به إلى فوق السماوات بجسده وروحه إلى الله عزَّ وجل، فخاطبه، وفرض عليه الصلوات، وكان ذلك مرة واحدة، هذا أصح الأقوال. وقيل: كان ذلك مناماً، وقيل: بل يقال: أسري به، ولا يقال: يقظة ولا مناماً. وقيل: كان الإِسراء إلى بيت المقدس يقظة، وإلى السماء مناماً. وقيل: كان الإِسراء مرتين: مرة يقظة، ومرة مناماً. وقيل: بل أسري به ثلاثَ مرات، وكان ذلك بعد المبعث بالاتفاق.
وأمّا ما وقع في حديث شريك أن ذلك كان قبل أن يُوحى إليه

فهذا ممّا عُدَّ من أغلاط شريك الثمانية، وسوء حفظه، لحديث الإِسراء وقيل: إن هذا كان إسراء المنام قبل الوحي. وأمّا إسراء اليقظة، فبعد النبوة، وقيل: بل الوحي هاهنا مقيد، وليس بالوحي المطلق الذي هو مبدأ النبوة، والمراد: قبل أن يوحى إليه في شأن الإِسرار، فأسري به فجأة من غير تقدم إعلام، والله أعلم.
فأقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكّة ما أقام، يدعو القبائل إلى الله تعالى، وَيَعْرِضُ نفسه عليهم في كل موسم أن يؤووه، حتى يبلِّغَ رسالة ربه ولهم الجنَّة، فلم تَسْتَجِيبْ له قبيلة، وادَّخر الله ذلك كرامة للأنصار، فلما أراد الله تعالى إظهار دينه، وإنجاز وعده، ونصر نبيه، وإعلاء كلمته، والانتقام من أعدائه، ساقه إلى الأنصار، لما أراد بهم من الكرامة، فانتهى إلى نفر منهم ستة، وقيل: ثمانية، وهم يحلِقُون رؤوسهم عند عقبةِ مِنى في الموسم، فجلس إليهم، ودعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فاستجابوا للّه ورسوله، ورجعوا إلى المدينة، فَدَعَوْا قومهم إلى الإِسلام، حتى فشا فيهم، ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ مِنْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأولُ مسجد قُرىء فيه القرآنُ بالمدينة مسجد بني زُريق،ثم قدِم مكة في العام القابل اثنا عشر رجلاً من الأنصار، منهم خمسة من الستة الأولين، فبايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بيعة النساء عند العقبة، ثم انصرفوا إلى المدينة، فقَدِم عليه في العام القابل منهم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، وهم أهلُ العقبة الأخيرة، فبايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن يمنعوه ممّا يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأنفسهم، فترحل هو وأصحابُه إليهم،

واختار رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم اثني عشر نقيباً، وأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه في الهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرْسالاً متسللين، أولهم فيما قيل: أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وقيل: مصعب بن عمير فقدموا على الأنصار في دورهم، فآوَوهم، ونصروهم، وفشا الإِسلامُ بالمدينة، ثم أَذِنَ الله لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الهجرة، فخرج من مكة يوم الاثنين في شهر ربيع الأوّل وقيل: في صفر، وله إذ ذاك ثلاث وخمسون سنة، ومعه أبو بكر الصديق، وعَامرُ بن فُهَيْرَةَ مولى أبي بكر، ودليلهم عبد الله بن الأُرَيْقِط الليثي، فدخل غَار ثَور هو وأبو بكر، فأقاما فيه ثلاثاً، ثم أخذا على طريق الساحل، فلما انتهَوْا إلى المدينة، وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خَلَتْ مِن شهر ربيع الأوّل، وقيل غير ذلك، نزل بقُبَاء في أعلى المدينة على بني عمرو بن عوف. وقيل: نزل على كلثوم بن الهِدْم. وقيل: على سعدِ بن خيثمة، والأول أشهر، فأقام عندهم أربعة عشر يوماً، وأسس مسجد قُباء، ثم خرج يوم الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم، فجمع بهم بمن كان معه من المسلمين، وهم مائة، ثم ركب ناقته وسار، وجعل الناس يكلمونه في النزول عليهم، ويأخذون بخطام الناقة، فيقول: "خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإنّهَا مَأْمُورَةٌ" فبركت

عند مسجده اليوم، وكان مِربدا لسهل وسهيل غلامين من بني النجار، فنزل عنها على أبي أيوب الأنصاري، ثم بنى مسجده موضع المربد بيده هو وأصحابه بالجريد واللَّبِنِ، ثم بنى مسكنه ومساكن أزواجه إلى جنبه، وأقربُها إليه مسكن عائشة، ثم تحول بعد سبعة أشهر من دار أبي أيوب إليها، وبلغ أصحابَه بالحبشة هجرَتُه إلى المدينة، فرجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً، فَحُبِسَ منهم بمكة سبْعَةٌ، وانتهى بقيتهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة، ثم هاجر بقيتهم في السفينة عام خيبر سنة سبع.

فصل: في أولاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أولهم القاسم، وبه كان يُكنى، مات طفلاً، وقيل: عاش إلى أن ركب الدابة، وسار على النجيبة.
ثم زينب، وقيل: هي أسن من القاسم، ثم رُقَيَّة، وأم كلثوم، وفاطمة، وقد قيل في كل واحدة منهن: إنها أسنُّ من أختها، وقد ذُكِرَ عن ابن عباس أن رقيّة أسن الثلاث، وأم كلثوم أصغرُهن.
ثم ولد له عبد الله، وهل ولد بعد النبوة، أو قبلها؟ فيه اختلاف، وصحح بعضهم أنه ولد بعد النبوة، وهل هو الطيب والطاهر، أو هما غيرُه؟ على قولين. والصحيح: أنهما لقبان له، والله أعلم. وهؤلاء كلهم من خديجة، ولم يُولد له من زوجة غيرها.
ثم ولد له إبراهيم بالمدينة من سُرِّيَّتِهِ "مارية القبطية" سنة ثمان من الهجرة،

وبشَّره به أبو رافع مولاه، فوهب له عبداً، ومات طفلاً قبل الفطام، واختلف هل صلى عليه، أم لا؟ على قولين. وكل أولاده توفي قبلَه إلا فاطمة، فإنها تأخرت بعده بستة أشهر فرفع الله لها بصبرها واحتسابها من الدرجات ما فُضِّلَتْ به على نساء العالمين. وفاطمة أفضلُ بناته على الإِطلاق، وقيل: إنها أفضل نساء العالمين، وقيل: بل أمها خديجة، وقيل: بل عائشة، وقيل: بل بالوقف في ذلك.
فصل: في أعمامه وعمّاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فمنهم أسدُ اللهِ وأسدُ رسوله سيدُ الشهداء حمزةُ بن عبد المطلب، والعبّاسُ، وأبو طالب واسمه عبدُ مناف، وأبو لهب واسمه عبد العزى، والزبير، وعبد الكعبة، والمقوِّم، وضرار، وَقُثَم، والمغيرة ولقبه حَجل، والغيداق واسمه مصعب، وقيل: نوفل، وزاد بعضهم: العوام، ولم يُسلم منهم إلا حمزة والعبّاس. وأمّا عمّاته، فصفية أم الزبير بن العوام، وعاتكة، وبَرَّة، وأروى، وأميمة، وأم حكيم البيضاء. أسلم منهن صفية، واختلف في إسلام عاتكة

وأروى، وصحح بعضهم إسلام أروى. وأسن أعمامه: الحارث، وأصغرهم سناً: العباس، وعَقَب منه حتى ملأ أولادُه الأرض. وقيل: أحصوا في زمن المأمون، فبلغوا ستمائة ألف، وفي ذلك بُعْدٌ لا يخفى، وكذلك أعقب أبو طالب وأكثر، والحارث، وأبو لهب، وجعل بعضهم الحارث والمقوّم واحدا، وبعضهم الغيداق [رجلاً] واحداً.
فصل: في أزواجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أولاهن خديجة بنت خُويلد القرشية الأسدية، تزوجها قبل النبوة، ولها أربعون سنة، ولم يتزوجْ عليها حتى ماتت، وأولاده كلُّهم منها إلاَّ إبراهيمَ، وهي التي آزرته على النبوة، وجاهدت معه، وواسته بنفسها ومالها، وأرسل الله إليها السلامَ مع جبريل، وهذه خاصة لا تُعرف لامرأة سواها، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين.
ثم تزوج بعد موتها بأيام سَوْدة بنت زَمْعَة القُرشية، وهي التي وهبت يومها لعائشة.
ثم تزوج بعدها أمَّ عبد الله عائشة الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، المبرَّأة من فوق سبع سماوات، حبيبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عائشة بنت أبي بكر الصِّدِّيق، وعرضها عليه المَلَكُ قبل نكاحها في سَرَقَةٍ من حرير وقال: "هذه زوجتك" تزوج

بها في شوال وعمرها ست سنين، وبنى بها في شوال في السنة الأولى من الهِجرة وعمرها تسع سنين، ولم يتزوج بكراً غيرها، وما نزل عليه الوحي في لِحاف امرأة غيرها، وكانت أحبَّ الخلق إليه، ونزل عذرُهَا مِن السماء، واتفقت الأمة على كفر قَاذِفها، وهي أفقه نسائه وأعلمُهن، بل أفقهُ نساءِ الأمّة وأعلمهُنَّ على الإِطلاق، وكان الأكابرُ مِنْ أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرجعون إلى قولها ويستفتونها. وقيل: إنها أسقطت من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِقْطاً، ولم يثبت.
ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذكر أبو داود أنه طلقها، ثم راجعها.
ثم تزوج زينب بنت خزيمة بن الحارث القيسية، من بني هلال بن عامر، وتوفيت عنده بعد ضمه لها بشهرين.
ثم تزوج أمَّ سلمة هند بنت أبي أمية القرشية المخزومية، واسم أبي أمية حذيفة بن المغيرة، وهي آخر نسائه موتاً. وقيل: آخرهن موتاً صفية.
واختلف فيمن ولي تزويجها منه؟ فقال ابن سعد في "الطبقات": ولي تزويجها منه سلمة بن أبي سلمة دون غيره من أهل بيتها، ولما زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سلمة بن أبي سلمة أمامة بنت حمزة التي اختصم فيها علي وجعفر وزيد قال: "هل جزيتُ سلمة" يقول ذلك، لأن سلمة هو الذي تولى تزويجه دون غيره من

أهلها، ذكر هذا في ترجمة سلمة، ثم ذكر في ترجمة أم سلمة عن الواقدي: حدثني مجمع بن يعقوب، عن أبي بكر بن محمد بن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب أم سلمة إلى ابنها عمر بن أبي سلمة، فزوَّجهَا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يومئذٍ غلام صغير.
وقال الإِمام أحمد في "المسند": حدثنا عفان، حدثنا حمّاد بن أبي سلمة، حدثنا ثابت قال: حدثني ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أم سلمة أنها لما انقضت عِدَّتُهَا مِنْ أبي سلمة، بعث إليها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: مَرْحَبَاً برسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إني امرأة غَيرى، وإني مُصْبِيَةٌ، وَلَيْسَ أحدٌ من أوليائي حاضراً... الحديث، وفيه فقالت لابنها عمر: قم فزوج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فزوجه، وفي هذا نظر، فإن عمر هذا كان سنُّه لما توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسع سنين، ذكره ابن سعد، وتزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شوال سنة أربع، فيكون له من العمر حينئذٍ ثلاث سنين، ومثل هذا لا يزوِّج قال ذلك ابن سعد وغيره، ولما قيل ذلك للإِمام أحمد، قال: من يقول: إن عمر كان صغيراً؟! قال أبو الفرج بن الجوزي: ولعل أحمد قال هذا قبل أن يقف على مقدار سِنِّه، وقد ذكر مقدار سِنِّه جماعةٌ من المؤرّخين، ابن سعد وغيره. وقد قيل: إن الذي زوجها من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن عمّها

عمر بن الخطاب، والحديث "قم يا عمر فزوج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ونسب عمر، ونسب أم سلمة يلتقيان في كعب، فإنه عمر بن الخطاب بن نفيل، بن عبد العزى، بن رياح، بن عبد الله بن قُرط، بن رزاح بن عدي بن كعب، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب، فوافق اسمُ ابنها عمر اسمَه، فقالت: قم يا عمر، فزوج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فظن بعض الرواة أنه ابنها، فرواه بالمعنى وقال: فقالت لابنها، وذهل عن تعذر ذلك عليه لصغر سنه، ونظير هذا وَهْم بعض الفقهاء في هذا الحديث، وروايتهم له، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قم يا غلام فزوج أمك" قال أبو الفرج بن الجوزي: وما عرفنا هذا في هذا الحديث، قال: وإن ثبت، فيحتَمِلُ أن يكون قاله على وجه المداعبة للصغير، إذ كان له من العمر يومئذٍ ثلاث سنين، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوجها في سنة أربع، ومات ولعمر تسعُ سنين، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يفتَقِرُ نِكاحُه إلى ولي. وقال ابن عقيل: ظاهر كلام أحمد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُشترط في نكاحه الوليُّ، وأن ذلك من خصائصه.
ثم تزوج زينب بنت جحش من بني أسد بن خزيمة وهي ابنة عمته أميمة، وفيها نزل قوله تعالى: {فَلَمّا قَضَىَ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] وبذلك كانت تفتخِر على نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقول زوجكُنَّ أهاليكُن، وزوجني الله مِن فوق سبع سماوات.
ومن خواصها أن الله سبحانه وتعالى كان هو وليَّها الذي زوجها لرسوله

مِن فوق سماواته، وتوفيت في أول خلافة عمر بن الخطاب، وكانت أولاً عند زيد بن حارثة، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبنَّاه، فلما طلقها زيد، زوَّجه الله تعالى إيَاها لتتأسَّى به أُمَّته في نكاح أزواج من تبنَّوْه.
وتزوج في صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُويْريَة بنت الحارث بن أبي ضرار المُصْطَلِقِيَّةَ، وكانت من سبايا بني المُصْطَلِقِ، فجاءته تستعينُ به على كِتابتها، فأدى عنها كتابتَها وتزوجها.
ثم تزوج أمَّ حبيبة، واسمها رملة بنت أبي سفيان صخرِ بن حرب القرشية الأموية. وقيل: اسمها هند، تزوجها وهي ببلاد الحبشة مهاجرة، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار، وسيقت إليه من هناك، وماتت في أيام أخيها معاوية. هذا هو المعروف المتواتر عند أهل السِّير والتواريخ، وهو عندهم بمنزلة نكاحه لخديجة بمكّة، ولحفصة بالمدينة، ولصفية بعد خيبر.
وأمّا حديث عكرمة بن عمّار، عن أبي زُميل، عن ابن عباس أن أبا سفيان قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَسْأَلُكَ ثَلاَثَاً، فَأعْطَاهُ إيَّاهُنْ، مِنْهَا: وَعِنْدِي أَجْمَلُ العَرَبِ أُمُّ حَبِيبَةَ أُزَوِّجكَ إِيَّاهَا".

فهذا الحديث غلط لا خفاء به، قال أبو محمد بن حزم: وهو موضوع بلا شك، كَذَبَهُ عكرمة بن عمار، وقال ابن الجوزي في هذا الحديث: هو وهم من بعض الرواة، لا شك فيه ولا تردد، وقد اتهموا به عكرمة بن عمار، لأن أهل التاريخ أجمعوا على أن أم حبيبة كانت تحت عبد الله بن جحش، وولدت له، وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة، ثم تنصَّر، وثبتت أم حبيبة على إسلامها، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى النجاشي يخطبها عليه، فزوجه إيَاها، وأصدقها عنه صداقاً، وذلك في سنة سبع من الهجرة، وجاء أبو سفيان في زمن الهُدنة فدخل عليها، فثنت فِراش رسولى الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى لا يجلسَ عليه، ولا خلاف أن أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكة سنة ثمان.
وأيضاً ففي هذا الحديث أنه قال له: وتؤمِّرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم. ولا يعرف أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّرَ أبا سفيان البتة.
وقد أكثر النَّاسُ الكلام في هذا الحديث، وتعددت طرقهم في وجهه، فمنهم من قال: الصحيح أنه تزوجها بعد الفتح لهذا الحديث، قال: ولا يُرد هذا بنقل المؤرِّخين، وهذه الطريقة باطلة عند من له أدنى علم بالسّيرة وتواريخ ما قد كان.
وقالت طائفة: بل سأله أن يجدد له العقد تطييباً لقلبه، فإنه كان قد تزوجها بغير اختياره، وهذا باطل، لا يُظن بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يليق بعقل أبي سفيان، ولم يكن من ذلك شيء.
وقالت طائفة منهم البيهقي والمنذري: يحتمِل أن تكون هذه المسألة من أبي سفيان وقعت في بعض خرجاته إلى المدينة، وهو كافر حين سمع نعي زوج أم حبيبة بالحبشة، فلما ورد على هؤلاء ما لا حِيلة لهم في دفعه مِن سؤاله أن يؤمره حتى يقاتل الكفار، وأن يتخذ ابنه كاتباً، قالوا: لعلّ هاتين المسألتين وقعتا منه بعد الفتح،

فجمع الراوي ذلك كله في حديث واحد، والتعسُّفُ والتكلف الشديد الذي في هذا الكلام يُغني عن رده.
وقالت طائفة: للحديث محمل آخر صحيح، وهو أن يكون المعنى: أرضى أن تكون زوجتَك الآن، فإني قبل لم أكن راضياً، والآن فإني قد رضيت، فأسألك أن تكون زوجتَك، وهذا وأمثاله لو لم يكن قد سُوِّدَتْ به الأوراق، وصنفت فيه الكُتب، وحمله الناس، لكان الأولى بنا الرغبةَ عنه، لضيق الزمان عن كتابته وسماعه والاشتغال به، فإنه من رُبْدِ الصدور لا من زُبْدها.
وقالت طائفة: لما سمع أبو سفيان أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلق نساءه لما آلى منهن، أقبل إلى المدينة، وقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قال، ظناً منه أنه قد طلقها فيمن طلق، وهذا من جنس ما قبله.
وقالت طائفة: بل الحديث صحيح، ولكن وقع الغلط والوهم من أحد الرواة في تسمية أم حبيبة، وإنما سأل أن يزوجه أختها رملة، ولا يبعد خفاء التحريم للجمع عليه، فقد خفي ذلك على ابنته، وهي أفقه منه وأعلم حين قالت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل لك في أختي بنت أبي سفيان؟ فقال: "أفعل ماذا؟" قالت: تَنكِحُها. قال: "أو تحبين ذلك؟" قالت: لست لك بمُخْلِيةٍ، وأَحَبُ مَنْ شَرِكَني في الخير أُختي، قال: "فإنَّها لاَ تَحِلُّ لي". فهذه

هي التي عرضها أبو سفيان على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسماها الراوي من عنده أم حبيبة. وقيل: بل كانت كنيتها أيضاً أم حبيبة، وهذا الجواب حسن لولا قوله في الحديث: فأعطاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما سأل، فيقال حينئذٍ: هذه اللفظة وهم من الراوي، فإنه أعطاه بعض ما سأل، فقال الراوي: أعطاه ما سأل، أو أطلقها اتكالاً على فهم المخاطب أنه أعطاه ما يجوز إعطاؤه ممّا سأل، والله أعلم.
وتزوج صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفيَّة بنتَ حُيي بن أَخْطَبَ سيد بني النضير من ولد هارون بن عمران أخي موسى، فهي ابنة نبي، وزوجة نبي، وكانت مِنْ أَجمل نساءِ العالمين.
وكانت قد صارت له من الصَّفيِّ أمة فأعتقها، وجعل عِتقها صداقَها، فصار ذلك سُنَّةً للأمّة إلى يوم القيامة، أن يَعْتِقَ الرجل أمَته، ويجعل عتقها صداقها، فتصير زوجته بذلك، فإذا قال: أعتقت أمتي، وجعلت عِتقها صَدَاقها، أو قال: جعلت عِتق أمتي صداقها، صح العتق والنكاح، وصارت زوجتَه من غير احتياج إلى تجديد عقد ولا ولي، وهو ظاهر مذهب أحمد وكثيرٍ من أهل الحديث.
وقالت طائفة: هذا خاص بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مما خصه الله به في النكاح دون الأمة، وهذا قول الأئمة الثلاثة ومن وافقهم، والصحيح القول الأول، لأن الأصل عدم الاختصاص حتى يقوم عليه دليل، والله سبحانه لما خصه بنكاح الموهوبة له، قال فيها: {خَالِصَةً لّكَ مِن دُونِ} [الأحزاب: 50] ولم يقل هذا في المعتقة، ولا قاله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقطع تأسي الأمة به في ذلك، فالله سبحانه أباح له نكاح امرأة مَن تبنّاه، لئلا يكون على الأمة حرجٌ في نكاح أزواج من تبنَّوه، فدلَ على أنه إذا نكح نِكاحاً، فلأمَّتِه التأسي به فيه، ما لم يأتِ عن الله ورسوله نصٌ بالاختصاص وقطع التأسي، وهذا ظاهر.

ولتقرير هذه المسألة وبسط الحجاج فيها - وتقرير أن جواز مثل هذا هو مقتضى الأصولِ والقياس - موضعٌ آخر، وإنما نبهنا عليه تنبيهاً.
ثم تزوج ميمونةَ بنت الحارث الهِلالية، وهي آخر من تزوج بها، تزوجها بمكة في عمرة القضاء بعد أن حل منها على الصحيح. وقيل: قبل إحلاله، هذا قول ابن عباس، ووهم رضي الله عنه، فإن السفير بينهما بالنكاح أعلم الخلق بالقِصة، وهو أبو رافع، وقد أخبر أنه تزوجها حلالاً، وقال: كنت أنا السفير بينهما، وابن عباس إذ ذاك له نحو العشر سنين أو فوقها، وكان غائباً عن القصة لم يحضرها، وأبو رافع رجل بالغ، وعلى يده دارت القصة، وهو أعلم بها، ولا يخفى أن مثل هذا الترجيح موجب للتقديم وماتت في أيام معاوية، وقبرها ب"سَرِفَ".
قيل: ومن أزواجه ريحانة بنت زيد النضرية. وقيل: القرظية، سبيت يوم بني قريظة، فكانت صفيَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعتقها وتزوجها، ثم طلقها تطليقة، ثم راجعها.
وقالت طائفة: بل كانت أمتَه، وكان يطؤها بملك اليمين حتى توفي عنها، فهي معدودة في السراري، لا في الزوجات، والقول الأول اختيارُ الواقدي، ووافقه عليه شرف الدين الدمياطي. وقال: هو الأثبت عند أهل العلم. وفيما قاله نظر، فإن المعروف أنها من سراريه، وإمائه، والله أعلم.
فهؤلاء نساؤه المعروفات اللاتي دخل بهن، وأما من خطبها ولم يتزوجها، ومن وهبت نفسَها له، ولم يتزوجها، فنحو أربع أو خمس، وقال بعضهم: هن ثلاثون امرأة، وأهل العلم بسيرته وأحواله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعرفون هذا، بل ينكرونه، والمعروف عندهم أنه بعث إلى الجونية ليتزوجها، فدخل عليها

ليخطبها، فاستعاذت منه، فأعاذها ولم يتزوجها، وكذلك الكلبية، وكذلك التي رأى بكشحها بياضاً، فلم يدخل بها، والتي وهبت نفسها له فزوجها غيره على سور من القرآن، هذا هو المحفوظ، والله اعلم.
ولا خلاف أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفي عن تسع، وكان يقسم منهن لثمان: عائشة، وحفصة، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، وصفية، وأم حبيبة، وميمونة، وسودة، وجويرية.
وأول نسائه لحوقاً به بعد وفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينبُ بنت جحش سنة عشرين، وآخِرهن موتاً أم سلمة، سنة اثنتين وستين في خلافة يزيد، والله أعلم.
فصل: في سراريه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال أبو عبيدة: كان له أربع: مارية وهي أم ولده إبراهيم، وريحانة وجارية أخرى جميلة أصابها في بعض السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش.
فصل: في مواليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فمنهم زيد بن حارثة بن شراحِيل، حب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعتقه وزوجه مولاته أمَّ أيمن، فولدت له أسامة.
ومنهم أسلم، وأبو رافع، وثوبان، وأبو كَبشَة سُلَيْم، وشُقران واسمه

صابح، ورباح نُوبي، ويسار نوبي أيضاً، وهو قتيل العُرَنيين، وَمدْعَم، وَكرْكرَةَ، نوبي أيضاً، وكان على ثَقَله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يُمسك راحَلته عند القَتالَ يوم خيبر. وفي "صحيح البخاري" أنَه الذي غلَّ الشملة ذلك اليوم فَقُتل، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إنَّهَا لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَاراً" وفي "الموطأ" أن الذي غلًّها مِدْعَم، وكلاهما قتل بخيبر، والله أعلم.
ومنهم أنْجَشَةُ الحادي، وسَفينة بن فروخ، واسمه مهران، وسماه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سفينة" لأنهم كانوا يُحَمِّلُونه في السفر متاعَهم، فقال:

"أنْتَ سَفِينَةٌ". قال أبو حاتم: أعتقه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال غيره: أعتقته أمُّ سلمة. ومنهم أَنَسة، ويكنى أبا مِشرح، وأفلح، وعُبيد، وطهمان، وهو كيسان، وذكوان، ومهران، ومروان، وقيل: هذا خلاف في اسم طهمان، والله أعلم.
ومنهم حُنين، وسندر، وفضالة يماني، ومابور خصي، وواقد، وأبو واقد، وقسام، وأبو عسيب، وأبو مُويهبة.
ومن النساء سلمى أم رافع، وميمونة بنت سعد، وخضرة، ورضوى، ورزينة، وأم ضُميرة، وميمونة بنت أبي عسيب، ومارية، وريحانة.
فصل: في خُدَّامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فمنهم أنسُ بن مالك، وكان على حوائجه، وعبدُ الله بن مسعود

صاحبُ نعله، وسواكه، وعُقبة بن عامر الجهني صاحب بغلته، يقود به في الأسفار، وأسلع بن شريك، وكان صاحب راحلته، وبلال بن رباح المؤذن، وسعد، موليا أبي بكر الصديق، وأبو ذر الغفاري، وأيمن بن عبيد، وأمه أم أيمن موليا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أيمن على مطهرته وحاجته.
فصل: في كتَّابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وعامر بن فُهيرة، وعمرو بن العاص، وأُبَيّ بن كعب، وعبدُ الله بن الأرقم، وثابتُ بنُ قيس بن شماس، وحنظلةُ بن الربيع الأُسَيْدِيُّ، والمغيرةُ بن شعبة، وعبد الله بن رواحة، وخالد بن الوليد، وخالد بن سعيد بن العاص. وقيل: إنه أول من كتب له ومعاوية بن أبي سفيان، وزيد بن ثابت وكان ألزَمهم لهذا الشأن وأخصّهم به.

فصل: في كتبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي كتبها إلى أهل الإِسلام في الشرائع
فمنها كتابُه في الصدقات الذي كان عند أبي بكر، وكتبه أبو بكر لأنس

بن مالك لما وجهه إلى البحرين وعليه عمل الجمهور.
ومنها كتابُه إلى أهل اليمن وهو الكتاب الذي رواه أبو بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، وكذلك رواه الحاكم في "مستدركه"، والنسائي، وغيرهما مسنداً متصلاً، ورواه أبو داود وغيره مرسلاً، وهو كتاب عظيم، فيه أنواعٌ كثيرة من الفقه، في الزكاة، والديات، والأحكام، وذكر الكبائر، والطلاق، والعتاق، وأحكام الصلاة في الثوب الواحد، والاحتباء

فيه، ومس المصحف، وغير ذلك.
قال الإِمام أحمد: لا شك أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَه، واحتج الفقهاءُ كلُهم بما فيه من مقادير الديات.
ومنها كتابه إلى بني زهير.
ومنها كتابُه الذي كان عند عمر بن الخطاب في نصب الزكاة، وغيرها.
فصل: في كتبه ورسله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الملوك
لما رجع من الحُدَيْبِيَةِ، كتب إلى ملوك الأرض، وأرسل إليهم رسله، فكتب إلى ملك الرُّوم، فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا إذا كان مختوماً،

فاتخذ خاتماً من فضة، ونقش عليه ثلاثة أسطر: محمَّد سطر، ورسول سطر، والله سطر، وختم به الكتب إلى الملوك، وبعث ستة نفر في يوم واحد في المحرم سنة سبع.
فأولهم عمرو بن أمية الضَّمْري، بعثه إلى النجاشي، واسمه أَصْحمة بن أَبجر، وتفسير "أصحمة" بالعربية: عطية، فعظَّم كتابَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أَسلم، وشهد شهادة الحق، وكان مِنْ أعلم الناس بالإِنجيل، وصلى عليه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم مات بالمدينة وهو بالحبشة، هكذا قال جماعة، منهم الواقدي وغيره، وليس كما قال هؤلاء، فإن أصحمة النجاشي الذي صلى عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس هو الذي كتب إليه، هذا الثاني لا يعرف إسلامه، بخلاف الأول، فإنه مات مسلماً. وقد روى مسلم في "صحيحه" من حديث قتادة عن أنس قال: كتَبَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى كِسْرَى، وإلى قَيْصَر، وإلى النَّجَاشِي، وَإلَى كُلِّ جَبَّارٍ يَدْعُوهُم إِلَى اللهِ تَعَالَى، ولَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال أبو محمد بن حزم: إن هذا النجاشي الذي بَعَثَ إليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرو بن أمية الضَّمْرِي، لم يُسلم، والأول هو اختيار ابن سعد وغيره، والظاهر قول ابن حزم.
وبعث دِحية بن خليفة الكَلْبي إلى قيصر ملِك الروم، واسمه هِرَقْل، وهَمَّ

بالإِسلام وكاد، ولم يفعل، وقيل: بل أسلم، وليس بشيء.
وقد روى أبو حاتم ابنُ حبان في "صحيحه" عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ يَنْطَلِقُ بِصحِيفَتِي هذِهِ إِلَى قَيْصَرَ وَلَهُ الجَنَّة؟" فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وإنْ لَمْ يَقْبَلْ؟ قَالَ: "وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ" فَوَافَقَ قَيْصَرَ وَهُوَ يأتِي بَيْتَ المَقْدِس قَدْ جُعِلَ عَلَيْهِ بِسَاطٌ لاَ يَمْشِي عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَرَمَى بِالْكِتَابِ عَلَى البِسَاطِ، وَتَنَحَّى، فَلَمَّا أنْتَهَى قَيْصَرُ إِلَى الكِتَابِ، أَخَذَهُ، فَنَادَى قَيْصَرُ: مَنْ صاحِبُ الكِتَابِ؟ فَهُوَ آمِنٌ، فَجَاءَ الرّجُل؟ فَقَالَ: أَنَا. قَالَ: فَإذَا قَدِمْتَ فَأْتِنِي، فَلَمَّا قَدِمَ، أَتاهُ، فَأَمَرَ قَيْصَرُ بِأَبْوَابِ قَصْرِهِ فَغُلِّقَتْ، ثمَّ أَمَرَ مُنَادِياً يُنَادي: أَلاَ إنَّ قَيْصَرَ قَدِ اتَّبَعَ مُحَمَّداً، وَتَرَكَ النَّصْرَانِيَّةَ، فَأَقْبَلَ جُنْدُهُ وَقَدْ تَسَلَّحُوا حَتَّى أَطَافوا به، فَقَالَ لِرَسُولِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وَسلمَ: قَدْ تَرَى أَنيِّ خَائِفٌ عَلَى مَمْلَكَتِي، ثُمَّ أَمَر مُنَادِيَه فَنَادى: أَلاَ إنَّ قَيْصَرَ قَدْ رَضِيَ عَنْكُمْ، وإنَّما اخْتَبَرَكُمْ لينْظُرَ كَيْفَ صَبْرُكُمْ عَلَى دِينكُمْ، فَارجِعُوا فَانصَرِفُوا، وَكَتَبَ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنِّي مُسْلِمٌ، وَبَعَثَ إليهِ بدَنانِيرَ، فقًالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كذبَ عَدُوُّ اللهِ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَهُوَ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ" وَقَسَمَ الدَّنَانِيرَ.
وبعث عبد الله بن حُذافة السَّهمي إلى كسرى، واسمه أبرويز بن هُرمز ابن أنوشروان، فمزق كتابَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهمَّ مَزِّق مُلْكَه" فمزق الله ملكه، وملك قومه.

وبعث حاطب بن أبي بَلتعة إلى المُقَوْقِس، واسمه خريج بن ميناء ملك الإِسكندرية عظيم القبط، فقال خيراً، وقارب الأمر ولم يُسلم، وأهدى للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مارية، وأختيها سيرين وقيسرى، فتسرى مارية، ووهب سيرين لحسان بن ثابت، وأهدى له جارية أخرى، وألفَ مثقال ذهباً، وعشرين ثوباً من قباطي مصر وبغلة شهباء وهي دُلْدل، وحماراً أشهب، وهو عفير، وغلاماً خصياً يقال له: مابور. وقيل: هو ابن عم مارية، وفرساً وهو اللزاز، وقدحاً من زجاج، وعسلاً، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ضَنَّ الْخَبِيثُ بِملْكِهِ وَلاَ بقَاءَ لِمُلْكِهِ".
وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شَمِر الغساني ملك البلقاء، قاله ابن إسحاق والواقدي. قيل: إنما توجه لِجَبَلَةَ بنِ الأيْهَمِ. وقيل: توجه لهما معاً. وقيل: توجه لهرقل مع دِحية بن خليفة، والله أعلم.
وبعث سَلِيطَ بن عمرو إلى هَوذَةَ بن علي الحنفي باليمامة، فأكرمه. وقيل: بعثه إلى هوذة وإلى ثُمامَة بنِ أثال الحنفي، فلم يسْلِمْ هَوذة، وأسلم ثمامة بعد ذلك، فهؤلاء الستة قيل: هم الذين بعثهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يوم واحد.
وبعث عمرو بن العاص في ذي القعدة سنة ثمان إلى جعفر وعبد الله ابني الجُلَنْدَى الأزديين بعُمان، فأسلما، وصدقا، وخلَّيا بين عمرو وبين

الصدقة والحكم فيما بينهم، فلم يزل فيما بينهم حتى بلغته وفاةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وبعث العلاء بن الحَضْرمي إلى المنذر بن سَاوَى العبدي ملك البحرين قبل منصرفه من "الجِعْرَانَةِ" وقيل: قبل الفتح فأسلم وصدق.وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال الحِميري باليمن، فقال: سأنظر في أمري.وبعث أبا موسى الأشعري، ومعاذَ بن جبل إلى اليمن عند انصرافه من تبوك. وقيل: بل سنة عشر من ربيع الأول داعيين إلى الإِسلام، فأسلم عامة أهلها طوعاً من غير قتال.
ثم بعث بعد ذلك علي بن أبي طالب إليهم، ووافاه بمكة في حجة الوداع.
وبعث جرير بن عبد الله البَجَلي إلى ذي الكَلاع الحِميري، وذي عمرو، يدعوهما إلى الإِسلام، فأسلما، وتوفي رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجرير عندهم.
وبعث عمرو بن أمية الضَّمْري إلى مسيلمَة الكذاب بكتاب، وكتب إليه بكتاب آخر مع السائب بن العوام أخي الزبير فلم يُسلم. وبعث إلى فروة بن عمرو الجُذَامي يدعوه إلى الإِسلام. وقيل: لم يبعث إليه، وكان فروة عاملاً لقيصر بمعان، فأسلم، وكتب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسلامه، وبعث إليه هدية مع مسعود بن سعد، وهي بغلة شهباء يقال لها:

فضة، وفرس يقال لها: الظَّرب، وحمار يقال له: يعفور، كذا قاله جماعة، والظاهر - والله أعلم - أن عفيراً ويعفور واحد، عفير تصغير يعفور تصغير الترخيم.
وبعث أثواباً وقَبَاءً مِنْ سندس مُخَوَّصٍ بالذهب، فقبل هديته، ووهب لمسعود بن سعد اثنتي عشرة أوقية ونشاً. وبعث عياش بن أبي ربيعة المخزومي بكتاب إلى الحارث، ومسروح، ونعيم بني عبد كُلال من حمير.
فصل: في مؤذنيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وكانوا أربعة: اثنان بالمدينة: بلالُ بن رباح، وهو أول من أذن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعمرُو بن أم مكتوم القرشي العامري الأعمى، وبقباء سعد القرظ مولى عمار بن ياسر، وبمكّة أبو محذورة واسمه أوس بن مغيرة الجمحي، وكان أبو محذورة منهم يرجِّع الأذان، ويثنِّي الإِقامة، وبلال

لا يرجِّع، ويفرد الإِقامة، فأخذ الشافعي رحمه الله وأهلُ مكّة بأذان أبي محذورة، وإقامةِ بلال، وأخذ أبو حنيفة رحمه الله وأهلُ العراق بأذان بلال، وإقامة أبي محذورة، وأخذ الإِمام أحمد رحمه الله وأهلُ الحديث وأهلُ المدينة بأذان بلال وإقامته، وخالف مالك رحمه الله في الموضعين: إعادة التكبير، وتثنية لفظ الإِقامة، فإنه لا يكررها.
فصل: في أمرائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
منهم باذان بن ساسان، من ولد بهرام جور، أمَّره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أهل اليمن كلِّها بعد موت كسرى، فهو أولُ أمير في الإِسلام على اليمن، وأولُ مَنْ أسلم من ملوك العجم. ثم أمَّر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد موت باذان ابنه شهر بن باذان على صنعاء وأعمالها. ثمّ قُتِلَ شهر، فأمَّر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صنعاء خالد بن سعيد بن العاص.
وولَّى رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجِرَ بن أبي أمية المخزومي كِندَة والصَّدِف، فتوفي رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يَسِرْ إليها، فبعثه أبو بكر إلى قتال أناس من المرتدين.
وولَّى زيادَ بن أمية الأنصاري حضرموت. وولَّى أبا موسى الأشعري زبيدَ وعدن والساحل. وولَّى معاذ بن جبل الجَنَد. وولَّى أبا سفيان صخر بن حرب نَجْرَان.

وولَّى ابنه يزيد تيماء. وولَّى عَتَّابَ بنَ أَسِيد مكَّة، وإقامة الموسم بالحج بالمسلمين سنة ثمان وله دون العشرين سنة. وولَّى علي بن أبي طالب الأخماس باليمن والقضاء بها. وولَّى عمرو بن العاص عُمَان وأعمالها.
وولَّى الصدقاتِ جماعة كثيرة، لأنه كان لكل قبيلة والٍ يقبض صدقاتها، فمن هنا كثر عمالُ الصدقات.
وولَّى أبا بكر إقامةَ الحج سنة تسع، وبعث في أَثَرِهِ علياً يقرأ على الناس سورة (براءة) فقيل: لأن أولها نزل بعد خروج أبي بكر إلى الحج. وقيل: بل لأن عادة العرب كانت أنه لا يَحِلُّ العقودَ ويعقدها إلا المطاعُ، أو رجلٌ مِنْ أهل بيته. وقيل: أردفه به عوناً له ومساعداً. ولهذا قال له الصديق: أمير أو مأمور؟ قال: بل مأمور.
وأمّا أعداء الله الرافضة، فيقولون: عزله بعلي، وليس هذا ببدع من بهتهم وافترائهم، واختلف الناس، هل كانت هذه الحجةُ قد وقعت في شهر ذي الحجة، أو كانت في ذي القَعدة من أجل النسيء؟ على قولين، والله أعلم.

فصل: في حرسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فمنهم سعدُ بن معاذ، حرسه يومَ بدر حين نام في العريش، ومحمد بن مسلمة حرسه يوم أُحد، والزبير بن العوام حرسه يوم الخندق. ومنهم عبَّاد بن بشر، وهو الذي كان على حرسه، وحرسه جماعة آخرون غير هؤلاء، فلما نزل قوله تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ} [المائدة: 67] خرج على الناس فأخبرهم بها، وصرف الحرس.
فصل: فيمن كان يضرب الأعناق بين يديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، ومحمد بن مسلمة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، والضحاك بن سفيان الكِلابي، وكان قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنزلة صاحب الشًّرَطَةِ من الأمير ووقف المغيرةُ بن شعبة على رأسه بالسيف يوم الحُديبيَةِ.

فصل: فيمن كان على نفقاته وخاتمه ونعله وسواكه ومن كان يأذن عليه
كان بلال على نفقاته، ومعيقيب بن أبي فاطمة الدَّوسي على خاتمه، وابنُ مسعود على سواكه ونعله، وأذن عليه رباح الأسود وأنسة مولياه، وأنس بن مالك، وأبو موسى الأشعري.
فصل: في شعرائه وخطبائه
كان من شعرائه الذين يَذبُّون عن الإِسلام: كعبُ بن مالك، وعبدُ الله بن رواحة، وحسَّان بن ثابت، وكان أشدَّهم على الكفار حسانُ بن ثابت وكعبُ بن مالك يُعيِّرهم بالكفر والشرك، وكان خطيبَه ثابت بن قيس بن شمَّاس.
فصل: في حُداته الذين كانوا يحدون بين يديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفر
منهم عبدُ الله بن رواحة، وأنجشة، وعامر بن الأكوع وعمه سلمة بن الأكوع. وفي "صحيح مسلم": كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَادٍ حَسَنُ

الصَّوْتِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُوَيْداً يَا أنْجشَةُ، لاَ تكْسِرِ القَوَارِيرَ ". يعني ضعفة النساء

فصل في غزواته وبعوثه وسرايه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
...
فصل: في غزواته وبعوثه وسراياه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
غزواتُه كلها وبعوثه وسراياه كانت بعد الهجرة في مدة عشر سنين، فالغزواتُ سبع وعشرون، وقيل: خمس وعشرون، وقيل: تسع وعشرون وقيل غير ذلك، قاتل منها في تسع: بدر، وأُحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف. وقيل: قاتل في بني النضير والغابة ووادي القُرى من أعمال خيبر.
وأمّا سراياه وبعوثه، فقريب من ستين، والغزوات الكبار الأمهات سبع: بدر، وأُحد، والخندق، وخيبر، والفتح، وحنين، وتبوك. وفي شأن هذه الغزوات نزل القران، فسورة (الأنفال ) سورة بدر، وفي أُحُد آخر سورة (آل عمران ) من قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] إلى قبيل آخرها بيسير، وفي قصة الخندق، وقريظة، وخيبر صدر (سورة الأحزاب)، وسورة (الحشر) في بني النضير، وفي قصة الحديبية وخيبر سورة (الفتح ) وأشير فيها إلى الفتح، وذكر الفتح صريحاً في سورة (النصر).

وجرح منها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة واحدة وهي أحد، وقاتلت معه الملائكة منها في بدر وحنين، ونزلت الملائكة يوم الخندق، فزلزلتِ المشركين وهزمتهم، ورمى فيها الحصباءَ في وجوه المشركين فهربوا، وكان الفتحُ في غزوتين: بدر، وحنين. وقاتل بالمنجنيق منها في غزوة واحدة، وهي الطائف، وتحصَّن في الخندق في واحدة، وهي الأحزاب أشار به عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه.
فصل: في ذكر سلاحه وأثاثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كان له تسعة أسياف :
مأثور، وهو أول سيف ملكه، ورثه من أبيه.
والعضْب، وذو الفِقار، بكسر الفاء، وبفتح الفاء، وكان لا يكادُ يُفارقه، وكانت قائمته وقبيعتُه وحلقتُه وذؤابته وبكراتُه ونعلُه مِنْ فضة. والقلعي، والبتار، والحتف، والرَّسوب، والمِخْذَم، والقضيب، وكان نعلُ سيفه فضةً، وما بين ذلك حلق فضة.
وكان سيفه ذو الفِقار تنفَّله يوم بدر، وهو الذي أُري فيها الرؤيا، ودخل. يوم الفتح مكة وعلى سيفه ذهب وفضة.
وكان له سبعة أدرع:
ذات الفضول: وهي التي رهنها عند أبي الشحم اليهودي على شعير لعياله، وكان ثلاثين صاعاً، وكان الدَّيْن إلى سنة، وكانت الدِّرعُ مِن حديد.وذات الوِشاح، وذات الحواشي، والسعدية، وفضة، والبتراء والخِرْنق

وكانت له ستُّ قِسيٍّ: ا لزوراء، والرَّوحاء، والصفراء، والبيضاء، والكَتوم، كُسِرَتْ يوم أحد، فأخذها قتادة بن النعمان، والسَّداد.
وكانت له جَعْبَة تدعى: الكافور، وَمِنْطَقَة من أديم منشور فيها ثلاث حلق من فضة، والإِبزيم من فضة، والطرف من فضة، وكذا قال بعضهم، وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: لم يبلغنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شدَّ على وسطه منطقة.
وكان له ترس يقال له : الزَّنوق، وترس يقال له: الفتَق. قيل وترس أهدى إليه، فيه صورةُ تمثال، فوضع يده عليه، فأذهب الله ذلك التمثال.
وكانت له خمسة أرماح، يقال لأحدهم: المُثْوِي، والآخر: المُثْنِي، وحربة يقال لها: النبعة، وأخرى كبيرة تدعى: البيضاء، وأخرى صغيرة شبه العكاز يقال لها: العَنَزَة يمشي بها بين يديه في الأعياد، تركز أمامَه، فيتخذها سترة يُصلي إليها، وكان يمشى بها أحياناً.
وكان له مِغْفَر من حديد يقال له : الموشَّح، وشح بِشَبَهٍ وَمِغفَر آخر يقال له: السبوغ، أو: ذو السبوغ.
وكان له ثلاث جِباب يلبسها في الحرب. قيل فيها: جبة سندسٍ أخضر، والمعروف أن عروة بن الزبير كان له يلمق من ديباج، بطانته سندس أخضر يلبسه في الحرب، والإِمام أحمد في إحدى روايتيه يُجَوِّزُ لبس الحرير في الحرب.
وكانت له راية سوداء يقال لها: العُقاب. وفي "سنن أبي داود" عن

رجل من الصحابة قال: رأيتُ راية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفراء، وكانت له ألوية بيضاء، وربما جعل فجها الأسود.
وكان له فُسطاط يسمى: الكن، ومِحجَن قدر ذراع أو أطول يمشي به ويركب به، ويُعلقه بين يديه على بعيره، وَمِخْصَرة تسمى: العرجون، وقضيب من الشوحط يسمى: الممشوق. قيل: وهو الذي كان يتداوله الخلفاء.
وكان له قدح يسمى: الرَّيان، ويسمى مغنياً، وقدح آخر مضبب بسلسلة من فضة.
وكان له قدح من قوارير، وقدح مِن عِيدان يوضع تحت سريره يبول فيه بالليل، ورَكوة تسمى: الصادر، قيل: وتَوْر من حجارة يتوضأ منه، ومِخْضب من شبَهٍ، وقعب يسمى: السعة، ومغتسل من صُفْر، ومُدهُن، ورَبْعة يجعل فيه المراَة والمشط. قيل: وكان المُشط من عاج، وهو الذَّبْلُ، ومكحلة يكتحِل منها عند النوم ثلاثاً في كل عين بالإِثمد، وكان في الربعة المقراضان والسواك.
وكانت له قصعة تُسمى : الغراء، لها أربع حلق، يحملها أربعة رجال بينهم، وصاع، ومد، وقطيفة، وسرير قوائمه من ساج، أهداه له أسعد بن زرارة، وفراش من أدَمٍ حشوه ليف.
وهذه الجملة قد رويت متفرقة في أحاديث.
وقد روى الطبراني في "معجمه" حديثاً جامعاً في الآنية من حديث ابن عباس قال: كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيفٌ قائمته من فضة، وقبيعتُه من فضة، وكان يسمى: ذا الفِقار، وكانت له قوس تسمى: السداد، وكانت

له كِنانة تسمى : الجمع، وكانت له درع موشحة بالنحاس تسمى: ذات الفُضول، وكانت له حربه تسمى: النبعاء، وكان له مِحجن يسمى : الدقن، وكان له ترس أبيض يسمى: الموجز، وكان له فرس أدهم يسمى: السَّكْب، وكان له سرج يسمى : الداج، وكانت له بغلة شهباء تسمى: دُلدُل، وكانت له ناقة تسمى: القصواء، وكان حمار يسمى: يعفور، وكان له بساط يسمى. الكن، وكانت له عنزة تسمى: القمرة، وكانت له رَكوة تسمى: الصادرة، وكان له مقراض اسمه: الجامع، ومرآة وقضيب شوحط يسمى: الموت.
فصل: في دوابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فمن الخيل: السَّكْب. قيل: وهو أول فرس ملكه، وكان اسمه عند الأعرابي الذي اشتراه منه بعشر أواقٍ: الضرس، وكان أغرَّ محجَّلاً، طلَقَ اليمين كُميتاً. وقيل: كان أدهم.
والمُرْتَجز، وكان أشهب، وهو الذي شهد فيه خزيمة بن ثابت.
وَاللُّحَيْفُ، وَاللِّزَازُ، وَالظَّرِب، وَسَبْحَة، وَالوَرْدُ. فهذه سبعة متفق عليها جمعها الإِمام أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن جماعة الشافعي في بيت فقال:
والخَيْلُ سَكْبٌ لُحَيْفٌ سَبْحَة ظَرِبٌ ... لِزَازُ مُرْتَجَزٌ وَرْدٌ لهَا أسْرَارُ

أخبرني بذلك عنه ولده الإِمام عز الدين عبد العزيز أبو عمرو، أعزه الله بطاعته.
وقيل: كانت له أفراس أخر خمسة عشر، ولكن مختلف فيها، وكان دفتا سرجه من ليف.
وكان له من البغال دُلْدُل، وكانت شهباء، أهداها له المقوقِس. وبغلة أخرى. يقال لها: "فضة". أهداها له فروة الجذامي، وبغلة شهباء أهداها له صاحبُ أيلة، وأخرى أهداها له صاحب دومة الجندل، وقد قيل: إن النَجاشى أهدى له بغلة فكان يركبها.
ومن الحمير غفير، وكان أشهب، أهداه له المقوقِس ملك القبط، وحمار آخر أهداه له فروة الجذامي. وذكر أن سعد بن عبادة أعطى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حماراً فركبه.
ومن الإِبل القصواء، قيل: وهي التي هاجر عليها، والعضباء، والجدعاء، ولم يكن بهما عضب ولا جدع، وإنما سُمِّيتا بذلك، وقيل: كان بأذنها عضب، فسميت به، وهل العضباء والجدعاء واحدة، أو اثنتان؟ فيه خلاف، والعضباء هى التي كانت لا تُسبق، ثم جاء أعرابي على قَعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ حَقًّا عَلَى اللهِ أَلا يَرْفَعَ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئاً إلاَّ وَضعَهُ" وغنِم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر جملاً

مَهْرِيّاً لأبي جهل في أنفه بُرَةّ مِنْ فضة، فأهداه يوم الحديبية ليغيظ به المشركين
وكانت له خمسٌ وأربعون لِقحَة، وكانت له مَهْرِيَّةٌ أرسل بها إليه سعد بن عبادة من نَعَم بني عقيل.
وكانت له مائة شاة وكان لا يُريد أن تزيد، كلما ولَّد له الراعي بهمة، ذبح مكانها شاة، وكانت له سبعُ أعنز منَائحَ ترعاهن أمُّ أيمن.

فصل: في ملابسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كانت له عمامة تُسمى: السحاب، كساها علياً، وكان يلبَسُها ويلْبَسُ تحتها القَلَنسُوة. وكان يلبَس القلنسُوة بغير عمامة، ويلبَسُ العِمامة بغير قلنسُوة. وكان إذا اعتم، أرخى عِمامته بين كتفيه، كما رواه مسلم في "صحيحه" عن عمرو بن حريث قال: "رأيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبرِ وَعَلَيهِ عِمَامَة سَوْدَاءُ قَدْ أرخَى طَرفَيهَا بينَ كَتِفَيْهِ".وفي مسلم أيضاً، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "دَخَلَ مَكَّة

وَعَلَيْهِ عمَامَةٌ سَودَاء". ولم يذكر في حديث جابر: ذؤابة، فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائماً بين كتفيه. وقد يقال: إنه دخل مكة وعليه أهبةُ القتال والمِغفَرُ على رأسه، فلبسَ في كل مَوطِنٍ ما يُناسبه.
وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدَّس الله روحه في الجنَّة، يذكر في سبب الذُّؤابة شيئاً بديعاً، وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما اتخذها صبيحة المنام الذي رآه في المدينة، لما رأى ربَّ العزَّة تبارك وتعالى، فقال: "يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأُ الأَعلَى؟ قُلْتُ: لاَ أَدْرِي، فَوضع يَدَهُ بَيْن كَتِفَيَّ فَعَلِمْت مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض الحديث" ، وهو في الترمذي، وسئل عنه

البخاري، فقال صحيح. قال: فمن تلك الحال أرخى الذؤابة بين كتفيه، وهذا مِن العلم الذي تنكره ألسنةُ الجهال وقلوبُهم، ولم أرَ هذه الفائدة في إثبات الذؤابة لغيره. ولبس القميص وكان أحبَّ الثياب إليه، وكان كُمُّه إلى الرُّسُغ، ولبس الجُبَّةَ والفَروج وهو شبه القَباء، والفرجية، ولبس القَباء أيضاً، ولبس في السفر جُبة ضَيِّقَةَ الكُمَّين، ولبس الإِزار والرداء. قال الواقدي: كان رداؤه وبرده طولَ ستة أذرع في ثلاثة وشبر، وإزاره من نسج عُمان طول أربعة أذرع وشبر في عرض ذراعين وشبر.
ولبس حُلة حمراء، والحلة: إزار ورداء، ولا تكون الحُلة إلا اسماً للثوبين معاً، وغلط من ظن أنها كانت حمراء بحتاً لا يُخالطها غيره، وإنما الحلةُ الحمراء: بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود، كسائر البرود اليمنية، وهي معروفة بهذا الاسم باعتبار ما فيها من الخطوط الحمر، وإلا فالأحمر البحتُ منهي عنه أشد النهي، ففي "صحيح البخاري" أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن المياثر الحمر وفي " سنن أبي داود" عن عبد الله

بن عمرو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى عليه رَيْطَةً مُضَرَّجَة بالعُصْفُرِ، فَقَالَ: "مَا هذِهِ الرَّيْطَةُ الَّتي عَليْكَ؟" فعَرَفت مَا كَرِه فَأَتَيْتُ أهْلي وَهُمْ يَسْجُرُونَ تَنُّوراً لَهم، فقذفتها فيه، ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنَ الغَدِ، فَقَالَ: "يَا عَبْدَ اللهِ مَا فَعَلتِ الرَّيْطَةُ؟" فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: "هَلاَّ كَسَوْتَهَا بَعْضَ أَهْلِكَ، فَإِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهَا لِلنِّسَاءِ". وفي "صحيح مسلم" عنه أيضاً، قال: رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثوبين معصفرين. فقال : "إنَّ هذِهِ مِنْ لِبَاسِ الكُفَارِ فَلاَ تلبَسْهَا" وفي "صحيحه" أيضاً عَنْ علي رضي الله عنه قال: " نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ لِبَاسِ المُعَصْفَرِ ". ومعلوم أن ذلك إنما يصبغ صبغاً أحمر. وفي بعض "السنن" أنهم كانوا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر، فرأى على رواحلهم أكسيةً فيها خطوطٌ حمراء، فقال: " آلاَ أَرى هذِهِ الحُمْرَةَ قَدْ عَلَتْكُمْ، فَقُمْنَا سِرَاعاً لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى نَفَرَ بَعْضُ إِبِلنَا، فَأَخَذْنَا الأَكْسِتً فَنَزَعْنَاهَا عَنْهَا ". رواه أبو داود.

وفي جواز لبس الأحمر من الثياب والجوخ وغيرها نظر. وأما كراهته، فشديدة جداً، فكيف يُظن بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لبس الأحمر القاني، كلا لقد أعاذه اللهُ منه، وإنما وقعت الشبهةُ مِن لفظ الحلة الحمراء، والله أعلم.
ولبس الخميصة المُعْلَمَةَ والساذَجَة، ولبس ثوباً أسود، ولبس الفَروة المكفوفة بالسندس.
وروى الإِمام أحمد، وأبو داود بإسنادهما عن أنس بن مالك "أن ملك الروم أهدى للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَقَةً مِنْ سُنْدُسٍ، فلبسها، فَكأَنِّي أنظرُ إلى يَدَيْه تَذَبْذَبانِ". قال الأصمعي: المساتق فراء طوال الأكمام. قال الخطابي: يشبه أن تكون هذه المستقة مكففة بالسندس، لأن نفس الفروة لا تكون سندسا.
فصل
واشترى سراويل والظاهر أنه إنما اشتراها ليلبَسها، وقد روي في غير حديث أنه لبس السراويل، وكانوا يلبسون السراويلات بإذنه.ولبس الخفين، ولبس النعل الذي يسمى التَّاسُومة.ولبس الخاتم، واختلفت الأحاديث هل كان في يمناه أو يُسراه، وكلها صحيحة السند.

ولبس البيضة التي تسمى: الخوذة، ولبس الدرع التي تسمى: الزردية، وظاهر يومَ أُحد بين الدرعين.
وفي "صحيح مسلم" عن أسماء بنت أبي بكر قالت: هذه جبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخرجت جبةَ طيالِسة كَسِروانية لها لبنةُ دِيباج. وفرجاها مكفوفان بالديباج، فقالت: هذِهِ كانت عند عائشة حتى قُبِضَت، فلما قبضت قبضتُها، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبَسُها، فنحنُ نَغْسلهَا للمرضى تسْتَشفى بها.
وكان له بردان أخضران، وكِساء أسود، وكساء أحمر ملبد، وكساء من شعر.
وكان قميصه من قطن، وكان قصيرَ الطول، قصيرَ الكُمَّين، وأما هذه الأكمام الواسعة الطِّوال التي هي كالأخراج، فلم يلبسها هو ولا أحد من أصحابه البتة، وهي مخالفة لسنته، وفي جوازها نظر، فإنها من جنس الخيلاء.
وكان أحبَّ الثياب إليه القميصُ والحِبَرَةُ، وهي ضرب من البرود فيه حمرة.
وكان أحبَّ الألوان إليه البياضُ، وقال: "هي مِنْ خَيْرِ ثِيَابكُمْ، فَالبسوها، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكمْ " وفي "الصحيح" عن عائشة أنها أخرجت كِساءً ملبَّدا

وإزاراَ غليظاً فقالت: قُبِضَ روح رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذين.
ولبس خاتماً من ذهب، ثم رمى به، ونهى عن التختم بالذهب، ثم اتخذ خاتماً من فضة، ولم ينه عنه. وأما حديث أبي دَاود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن أشياء، وذكر منها: ونهى عن لبوس الخاتم إلا لذي سلطان، فلا أدري ما حال الحديث، ولا وجهه، والله أعلم.
وكان يجعل فص خاتمه مما يلي باطن كفه. وذكر الترمذي أنه كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه، وصححه، وأنكره أبو داود.

وأما الطيلسان، فلم ينقل عنه أنه لبسه، ولا أحدٌ من أصحابه، بل قد ثبت في "صحيح مسلم" من حديث أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ذكر الدَّجَّال فقال: "يخْرُجُ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفاً مِنْ يَهُودِ أَصْبِهَانَ عَلَيْهِمُ الطَّيالِسَةُ ". ورأى أنس جماعة عليهم الطيالسة، فقال: ما أشبَههُم بيهود خيبر. ومن ها هنا كره لبسها جماعة من السلف والخلف، لما روى أبو داود، والحاكم في "المستدرك" عن ابن عمر، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ". وفي الترمذي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ غَيْرِنَا " وأما ما جاء في حديث الهجرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء إلى أبي بكر مُتَقَنِّعاً بالهَاجِرَة، فَإنما فعله النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك الساعة ليختفي بذلك، ففعلهُ للحاجة، ولم تكن عادتُه التقنعَ، وقد ذكر أنس عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يُكثر القِنَاعَ، وهذا إنما كان يفعله- والله أعلم- للحاجة من الحر ونحوه، وأيضاً ليس التقنع من التطيلس.
فصل
وكان غالبُ ما يلبس هو وأصحابُه ما نُسِجَ مِن القطن، وربما لبسوا

ما نُسِجَ من الصوف والكتَّان، وذكر الشيخ أبو إسحاق الأصبهاني بإسناد صحيح عن جابر بن أيوب قال: دخل الصَّلْتُ بن راشد على محمد بن سيرين وعليه جُبة صوف، وإزارُ صوف، وعِمامة صوف، فاشمأزَّ منه محمد، وقال: أظن أن أقواماً يلبسون الصوف ويقولون: قد لبسه عيسى بن مريم، وقد حدثني من لا أتهم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد لبس الكتان والصوف والقطن، وسُنَّةُ نبينا أحقُّ أن تُتَّبَعَ. ومقصود ابن سيرين بهذا أن أقواماً يرون أن لبس الصوف دائماً أفضلُ من غيره، فيتحرَّونه ويمنعون أنفسهم من غيره، وكذلك يتحرَون زِياً واحداً من الملابس، ويتحرَّون رسوماً وأوضاعاً وهيئات يرون الخروج عنها منكراً، وليس المنكرُ إلا التقيد بها، والمحافظة عليها، وترك الخروج عنها.
والصواب أن أفضل الطرق طريقُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي سنها، وأمر بِها، ورغَّب فيها، وداوم عليها، وهي أن هديَه في اللباس: أن يلبس ما تيسر مِنَ اللباس، من الصوف تارة، والقطن تارة، والكتان تارة.
ولبس البرود اليمانية، والبردَ الأخضر، ولَبسَ الجبة، والقَباء، والقميص، وا لسراويل، والإِزار، والرداء، والخف، والنعل، وأرخى الذؤابة من خَلْفِه تارة، وتركها تارة.وكان يتلحى بالعمامة تحت الحنك.
وكان إذا استجدَّ ثوباً، سماه باسمه، وقال: "اللهمَّ أَنتَ كَسَوتَنِي هذا

القَمِيصَ أَو الرِّدَاءِ أَوِ العِمَامَةَ، أَسْألُكَ خَيرَهُ وَخَيرَ مَا صنعَ لَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ ما صنعَ لَهُ ".
وكان إذا لبس قميصه، بدأ بميامِنه. ولبس الشعر الأسود، كما روى مسلم في "صحيحه" عن عائشة قالت: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّل مِنْ شَعَر أَسْوَدَ.
وفي "الصحيحين" عن قتادة قلنا لأنس: أيُّ اللباسِ كان أحبَّ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: "الحِبَرَة". والحبرة: برد من برود اليمن فإن غالب لباسهم كان مِن نسج اليمن، لأنها قريبة منهم، وربما لبسوا ما يُجلب مِن الشَّام ومصر، كالقباطي المنسوجة من الكتان التي كانت تنسجها القبطُ. وفي "صحيح النسائي" عن عائشة أنها جعلت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُردة من صوف، فلبسها، فلما عَرِق، فوجد رِيحَ الصوف، طرحها، وكان يُحبُ الرّيحَ الطَّيِّب. وفي "سنن أبي داود" عن

عبد الله بن عباس قال: لَقَدْ رأيتُ عَلَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الحُلَلِ. وفي "سنن النسائي" عن أبي رِمْثَةَ قال: رأيتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخطُبُ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخضَرَانِ. والْبُرد الأخضر: هو الذي فيه خطوط خضر، وهو كالحلة الحمراء سواء، فمن فهم مِن الحُلة الحمراء الأحمر البحت، فينبغي أن يقول: إِنَّ البرد الأخضر كان أخضرَ بحتاً، وهذا لا يقولُه أحد.
وكانت مِخَدَّتُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أَدَمٍ حَشوُهَا لِيف، فالذين يمتنعون عما أباح اللهُ مِن الملابس والمطاعم والمناكح تزهُّداً وتعبُّداً، بإزائهم طائفةٌ قابلوهم، فلا يلبَسُون إلا أشرفَ الثياب، ولا يأكلون إلا ألينَ الطعام، فلا يرون لَبِسَ الخَشنِ ولا أكله تكبُّراً وتجبُّراً، وكلا الطائفتين هديُه مخالِفٌ لهدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولهذا قال بعض السلف: كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب: العالي، والمنخفضِ.
وفي "السنن" عن ابن عمر يرفعه إلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ، أَلْبَسَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ، ثُمَّ تَلَهَّبُ فيه النَّارُ " وهذا لأنه قصد

به الاختيال والفخر، فعاقبه الله بنقيضِ ذلك، فأَذَلَّه، كما عاقب من أطال ثيابه خُيلاء بأَن خسف به الأرض، فهو يتجلجلُ فيها إلى يوم القيامة. وفي "الصحيحين" عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ، لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ" وفي "السنن" عنه أيضاً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الإِسْبَالُ في الإِزَار، وَالقَمِيصِ وَالعِمَامَةِ، مَنْ جَرَ شَيْئَاً مِنْهَا خُيَلاَءَ، لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ " وفي "السنن" عن ابن عمر أيضاً قال: مَا قَال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإِزَارِ، فَهُوَ فِي القَمِيصِ، وكذلك لُبس الدنيء من الثياب يُذَمُّ في موضع، ويُحمد في موضع، فيُذم إذا كان شُهرةً وخُيلاء ويمدح إذا كان تواضعاً واستكانة، كما أن لبس الرفيع من الثياب يُذم إذا كان تكبُّراً وفخراً وخيلاء، ويُمدح إذا كان تجملاً وإظهاراً لنعمة الله، ففي "صحيح مسلم" عن ابن مسعود قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يَدْخُلُ الجَنَةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كبْرِ، وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ في

قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي أُحِبُّ أَن يَكُونَ ثَوْبِي حَسَنَاً، وَنَعْلِي حَسَنَةً، أفَمِنَ الكِبْرِ ذَاكَ؟ فَقَالَ: "لا، إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ، الكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ ا لنَاسِ ".
فصل
وكذلك كان هديُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسيرتُه في الطعام، لا يردُّ موجوداً، ولا يتكلف مفقوداً، فما قُرِّبَ إليه شيءٌ من الطيبات إلا أكله، إلا أن تعافَه نفسُه، فيتركَه من غير تحريم، وما عاب طعاماً قطُّ، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه، كما ترك أكل الضَّبِّ لمَّا لَمْ يَعْتَدْهُ ولم يحرمه على الأمة، بل أُكِلَ على مائدته وهو ينظر.
وأكل الحلوى والعسل، وكان يُحبهما، وأكل لحم الجزور، والضأن، والدجاج، ولحم الحُبارى، ولحم حِمار الوحش، والأرنب، وطعام البحر، وأكل الشواء، وأكل الرُّطبَ والتمرَ، وشرب اللبنَ خالصاً ومشوباً، والسويق، والعسل بالماء، وشرب نقيع التمر، وأكل الخَزِيرَة، وهي

حَسَاء يتخذ من اللبن والدقيق، وأكل القِثَّاء بالرُّطَبِ، وأكل الأَقِطَ، وأكل التمر بالخبز، وأكل الخبز بالخل، وأكل الثريد، وهو الخبز باللحم، وأكل الخبز بالإِهالة، وهى الودك، وهو الشحم المذاب، وأكل من الكَبِدِ المَشوِيَّةِ، وأكل القَدِيد، وأكلَ الدُّبَّاء المطبوخةَ، وكان يُحبُّها وأكلَ المسلُوقةَ، وأكلَ الثريدَ بالسَّمْن، وأكلَ الجُبنَ، وأكلَ الخبز بالزيت، وأكل البطيخ بالرُّطَبِ، وأكل التمر بِالزُّبْدِ، وكان يُحبه، ولم يكن يردُّ طَيِّباً، ولا يتكلفه.
بل كان هديه أكلَ ما تيسر، فإن أعوزه، صَبَرَ حتى إنه ليربِطُ على بطنه الحجر من الجوع، ويُرى الهلالُ والهلالُ والهلالُ، ولا يُوقد في بيته نارٌ. وكان معظمُ مطعمه يوضع على الأرض في السُّفرة، وهي كانت مائدَته، وكان يأكل بأصابعه الثلاث، ويلعَقُها إذا فرغ، وهو أشرفُ ما يكون من الأكلة، فإن المتكبِّرَ يأكل بأصبع واحدة، والجَشِعُ الحريصُ يأكل بالخمس، ويدفع بالراحة.
وكان لا يأكل مُتكِئاً، والاتكاء على ثلاثة أنواع، أحدها: الاتكاء على الجنب، والثاني: التربُّع، والثالث: الاتكاء على إحدى يديه، وأكله بالأخرى، والثلاث مذمومة.
وكان يسمى الله تعالى على أول طعامه، ويحمده في آخره فيقول عند انقضائه: "الْحَمْدُ للهِ حَمداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلاَ مُوَدَّع وَلاَ مُسْتَغْنَىَ عَنْه رَبُّنَا". وربما قال: "الْحَمْدُ للهِ

الَّذِي يُطْعِمُ وَلاَ يُطعَمُ، مَنَّ عَلَينَا فَهَدَانَا، وَأَطعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكلَّ بَلاَءٍ حَسَنٍ أَبْلاَنا، الحَمد للهِ الَّذِي أَطْعَمَ مِنَ الطًعَام، وَسَقَى مِنَ الشَّرابِ، وَكَسَا مِنَ الْعُريَ، وَهَدَى، منَ الضَّلاَلَةِ، وَبَصَّرَ مِنَ العَمَى، وَفضَّلَ عَلَى كَثِير مِمَّن خَلَقَ تَفْضِيلاً، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ".
وربما قال: " الْحَمد للَّهِ الَّذِي أَطعَمَ وَسَقَى، وَسَوَّغَهُ".
وكان إذا فرغ مِن طعامه لَعِقَ أصابعه، ولم يكن لهم مناديلُ يمسحون بها أيديهم، ولم يكن عادتهم غسلَ أيديهم كلما أكلوا.
وكان أكثرُ شربه قاعداً، بل زجر عن الشرب قائماً "وشرب مرَّة قائماً". فقيل: هذا نسخ لنهيه، وقيل: بل فعله لبيان جواز الأمرين، والذي يظهر فيه - والله أعلم - أنها واقعة عين شرب فيها قائماً لعذر، وسياق القصة يدل عليه، فإنه أتى زمزم وهم يستقون منها، فأخذ الدَّلو، وشرب قائماً.
والصحيح في هذه المسألة: النهى عن الشرب قائماً، وجوازه لعذر يمنع من القعود، وبهذا تجمع أحاديث الباب، والله أعلم.وكان إذا شرب، ناول مَنْ على يمينه، وإن كان مَنْ على يساره أكبرَ منه.

فصل: في هديه في النكاح ومعاشرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهله

صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث أنس رضي الله عنه، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : "حُبِّبَ إليَّ، مِن دُنْيَاكُم: النِّسَاءُ، والطِّيْبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاَةِ" هذا لفظُ الحديث،

ومن رواه "حبب إليَّ من دنياكم ثلاث"، فقد وهم، ولم يقل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثلاث" والصلاة ليست من أمور الدنيا التي تُضاف إليها. وكان النساء والطيب أحبَّ شيء إليه، وكان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وكان قد أعطي قوة ثلاثين في الجماع وغيره، وأباح الله له من ذلك ما لم يُبحه لأحد من أمته.
وكان يقسم بينهن في المبيت والإِيواء والنفقة، وأما المحبة فكان يقول: " اللهُمَ هذا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا لاَ أَمْلِكُ" فقيل: هو الحب والجماع، ولا تجب التسوية في ذلك، لأنه مما لا يُملك.
وهل كان القَسْمُ واجباً عليه، أو كان له معاشرتهن من غير قسم؟ على قولين للفقهاء.
فهو أكثر الأمة نساءً، قال ابن عباس: تزوجوا، فَإنّ خيرَ هذه الاُمةِ أكثرها نساء.
وطلق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وراجع، والى إيلاءً مؤقتاً بشهر، ولم يظاهر أبداً، وأخطأ من قال: إنه ظاهر خطأً عظيماً، وإنما ذكرته هنا تنبيهاً على قبح خطئه ونسبته إلى ما برَّأه الله منه.
وكانت سيرته مع أزواجه حسنَ المعاشرة، وحسنَ الخلق.
وكان يُسَرِّبُ إلى عائشة بناتِ الأنصار يلعبن معها. وكان إذا هويت

شيئاً لا محذورَ فيه تابعها عليه، وكانت إذا شربت من الإِناء أخذه، فوضع فمه في موضع فمها وشرب، وكان إذا تعرقت عَرقاً - وهو العَظْمُ الذي عليه لحم - أخذه فوضع فمه موضع فمها، وكان يتكئ في حَجْرِها، ويقرأ القرآن ورأسه في حَجرِها، وربما كانت حائضاً، وكان يأمرها وهي حائض فَتَتَّزِرُ ثم يُباشرها، وكان يقبلها وهو صائم، وكان من لطفه وحسن خُلُقه مع أهله أنه يمكِّنها من اللعب، ويريها الحبشة وهم يلعبون في مسجده، وهي متكئة على منكبيه تنظر، وسابقها في السفر على الأقدام مرتين، وتدافعا في خروجهما من المنزل مرة.
وكان إذا أراد سفراً، أقرع بين نسائه، فأيتهنّ خرج سهمها، خرج بها معه، ولم يقضِ للبواقي شيئاً، وإلى هذا ذهب الجمهور.
وكان يقول: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيرُكُم لأهلي".
وربما مد يده إلى بعض نسائه في حضرة باقيهن.
وكان إذا صلى العصر، دار على نسائه، فدنا منهن واستقرأ أحوالهن، فإذا جاء الليل، انقلب إلى بيت صاحبة النَّوبة، فخصها بالليل. وقالت عائشة: كان لا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعضٍ في مُكْثِهِ عِنْدَهُنَّ في القَسمِ، وقلَّ يومٌ إلا كان يطوف علينا جميعاً، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى

يبلغَ التي هو في نوبتها، فيبيت عندها.
وكان يقسم لثمان منهن دون التاسعة، ووقع في "صحيح مسلم" من قول عطاء أن التي لم يكن يقسم لها هي صفية بنت حيَيٍّ، وهو غلط مِن عطاء رحمه الله، وإنما هي سودة، فإنها لما كَبِرَت وهبت نوبتها لعائشة.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسِم لعائشة يومها ويومَ سودة، وسبب هذا الوهم -والله أعلم- أنه كان قد وَجَدَ على صفيَّة في شيء، فقالت لعائشة: هل لَكِ أن تُرضي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَهبَ لَكِ يومي؟ قالت: نعم، فقعدت عائشةُ إلى جنب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يوم صفية، فقال: "إلَيْكِ عَنِّي يَا عَائِشَةُ، فَإنَّه لَيسَ يَومَكِ" فقالَت: ذَلِكَ فَضل اللهِ يُؤتيه من يَشاء وأخبرته بالخبرِ، فرضيَ عنها. وإنما كانت وهبتها ذلك اليومَ وتلك النَّوبَة الخاصة، ويتعين ذلك، وإلا كان يكون القسم لسبع منهن، وهو خلاف الحديث الصحيح الذي لا ريب فيه أن القسم كان لثمانٍ، والله أعلم. ولو اتفقت مثل هذه الواقعة لمن له أكثر من زوجتين، فوهبت إحداهن يومها للأخرى، فهل للزوج أن يُوالِيَ بين ليلة الموهوبة وليلتها الأصلية وإن لم تكن ليلة الواهبة تليها، أو يجب عليه أن يجعل ليلَتها هي الليلة التي كانت تستحقها الواهبة بعينها؟

على قولين في مذهب أحمد وغيره.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي أهلَه آخرَ الليل، وأوله، فَكَانَ إذا جامع أول الليل، ربما اغتسل ونام، وربما توضأ ونام. وذكر أبو إسحاق السَّبيعي عن الأسود عن عائشة أنه كان ربما نام، ولم يمس ماء وهو غلط عند أئمة الحديث، وقد أشبعنا الكلام عليه في كتاب "تهذيب سنن أبي داود" وإيضاح علله ومشكلاته.
وكان يطوف على نسائه بغسل واحد، وربما اغتسل عند كل واحدة، فعل هذا وهذا.
وكان إذا سافر وَقَدِمَ، لم يطرُقْ أهله ليلاً، وكان ينهى عن ذلك.

فصل: في هديه وسيرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نومه وانتباهه
كان ينامُ على الفراش تارة، وعلى النِّطع تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة بين رِمَالهِ، وتارة على كِساء أسود. قال عبَّاد بن تميم عن عمه: رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رِجليه على الأخرى.
وكان فراشه أَدَماً حشوُه لِيف. وكان له مِسْحٌ ينام عليه يثنى بثَنيتين، وثُني له يوماً أربع ثنيات، فنهاهم عن ذلك وقال: " رُدُّوه إلَى حَالِهِ الأَوَلِ، فَإنَّه مَنَعَنِي صَلاَتِي اللَّيْلَة ". والمقصود أنه نام على الفراش، وتغطى باللحاف، وقال لنسائه: "مَا أَتَانِي جِبْريلُ وَأَنَا في لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرَ عَائِشَة".
وكانت وسادتُه أَدَماً حشوها ليف.وكان إذا أوى إلى فراشه للنوم قال: "بِاسمِك اللهُمَّ أَحْيَا وَأَموتُ".

وكان يجمع كفَّيْهِ ثم ينفُث فيهما، وكان يقرأ فيهما: { قُلْ هُو اللهُ أَحَدٌ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأُ بهما على رأسه، ووجهه، وما أقبلَ مِنْ جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. وكان ينام على شِقه الأيمن، ويضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، ثم يقول: " اللهُمَّ قِني عَذَابَكَ يَوْمَ تَبعَثُ عِبَادَكَ ". وكان يقول إذا أوى إلى فراشه: "الحمدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لاَ كَافِيَ له وَلاَ مُؤْويَ" ذكره مسلم. وذكر أيضاً أنه كان يقول إذا أوى الى فراشه: " اللهم رب السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، وَرَب العَرْشِ العَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كلِّ شَيءٍ، فَالِقَ الحَبَ وَالنَّوى، منزلَ التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ، وَالفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ أَنتَ آخِذ بِنَاصِيتِهِ، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيسَ قَبْلَكَ شَيءٌ، وَأَنتَ الآخِرُ، فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ، وَأَنتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ

فَوْقَكَ شيءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ، فَلَيْسَ دُونَكَ شَيءٌ، اقضِ عَنَّا الدَّينَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الفقْرِ".
وكان إذا استيقظ من منامه في الليل قال: "لاَ إلَه إِلاَّ أَنْتَ سبحَانَكَ، اللهمَ إنِّي أستغْفِركَ لِذَنبِي، وَأَسْأَلُكَ رَحمَتَكَ، اللهُمَّ زِدْني عِلماً، وَلاَ تُزِغ قَلبي بَعْدَ إِذ هَدَيتَني، وَهَبْ لي مِن لَدنكَ رَحْمَةَ، إِنَّكَ أَنتَ الْوَهاب ".
وكان إذا انتبه من نومه قال: "الْحَمْدُ لله الَّذِيَ أَحيَانَا بَعدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النّشُور ". ثم يتسوَّك، وربما قرأَ العشر الآيات من آخر (آل عمران ) من قوله: {إنَ في خَلْقِ السَّموَاتِ والأَرْضِ...} إِلى آخرها [آل عمران:190-200] وقال: "اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاواتِ والأَرْض وَمَنْ فِيهنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيَمُ السَّمَاوَاتِ والأَرضِ وَمَنْ

فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْد، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقُّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبيّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللهُمَّ لَكَ أَسلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لي مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهي، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ".
وكان ينام أول الليل، ويقوم آخره، وربما سهر أول الليل في مصالح المسلمين، وكان تنامُ عيناه، ولا ينامُ قلبُه. وكان إذا نام، لم يُوقظوه حتى يكونَ هو الذي يستقيظ. وكان إذا عرَّس بليل، اضطجع على شقه الأيمن، وإذا عرَّس قبيل الصبح، نصب ذراعه، ووضع رأسه على كفه، هكذا قال الترمذي. وقال أبو حاتم في "صحيحه": كان إذا عرَّس بالليل، توسد يمينه، وإذا عرَس قبيل الصبح، نصب ساعده، وأظن هذا وهماً، والصواب حديث الترمذي.
وقال أبو حاتم: والتعريس إنما يكون قُبيل الصبح.

وكان نومه أعدلَ النوم، وهو أنفع ما يكون من النوم، والأطباء يقولون: هو ثلث الليل والنهار، ثمان ساعات.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الركوب
ركب الخيلَ والإِبل والبغال والحمير، وركب الفرس مُسْرَجَةً تارة، وَعَرِيَّا أخرى، وكان يُجريها في بعض الأحيان، وكان يركب وحده، وهو الأكثر، وربما أردف خلفه على البعير، وربما أردف خلفه، وأركب أمامه، وكانوا ثلاثة على بعير، وأردف الرجال، وأردف بعضَ نسائه، وكان أكثرَ مراكبه الخيل والإِبل. وأمّا البغال، فالمعروف أنه كان عنده منها بغلة واحدة أهداها له بعضُ الملوك، ولم تكن البغال مشهورة بأرض العرب، بل لما أهديت له البغلة قيل: ألا نُنزي الخيل على الحمر؟ فقال: "إِنَّمَا يَفْعَلُ ذِلِكَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ".
فصل
واتخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغنم. وكان له مائة شاة، وكان لا يُحب أن تزيد

على مائة، فإذا زادت بهمة، ذبح مكانها أخرى، واتخذ الرقيق من الإِماء والعبيد، وكان مواليه وعتقاؤه من العبيد أكثر من الإِماء. وقد روى الترمذي في "جامعه" من حديث أبي أمامة وغيره، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أيما امْرىءٍ أَعْتَقَ امرءَاً مسلِماَ، كَانَ فِكَاكَه مِنَ النَّار، كلُّ عضوِ مِنهُ عضواً مِنهُ، وَأَيّمَا امْرىءٍ مسلِم أَعتَقَ امْرَأَتين مسْلِمَتَين، كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِئُ كل عضوين مِنهُمَا عُضواً منِهُ " وقال هذا حديث صحيح.
وهذا يدل على أن عتق العبد أفضل، وأن عتق العبد يَعْدِل عتق أمتين، فكان أكثر عتقائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العبيد، وهذا أحد المواضع الخمسة التي تكون فيها الأنثى على النصف من الذكر، والثاني: العقيقة، فإنه عن الأنثى شاة، وعن الذكر شاتان عند الجمهور، وفيه عدة أحاديث صحاح وحسان. والثالث: الشهادة، فإن شهادة امرأتين بشهادة رجل. والرابع: الميراث والخامس: الدية.
فصل
وباع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واشترى
وكان شراؤه بعد أن أكرمه الله تعالى برسالته أكثَر من بيعه، وكذلك بعد الهجرة لا يكاد يُحفظ عنه البيع إلا في قضايا يسيرة أكثرها لغيره، كبيعه القدح والحلس فيمن يزيد، وبيعه يعقوب المدبَّر غلام أبي مذكورة، وبيعه عبداً أسود بعبدين.
وأمّا شراؤه، فكثير، وآجر، واستأجر، واستئجاره أكثر من إيجاره، وإنما

يُحفظ عنه أنه أجر نفسه قبل النبوة في رعاية الغنم، وأجر نفسه من خديجة في سفره بمالها إلى الشام.
وإن كان العقد مضاربة، فالمضارب أمين، وأجير، ووكيل، وشريك، فأمين إذا قبض المال، ووكيل إذا تصرف فيه، وأجير فيما يُباشره بنفسه من العمل، وشريك إذا ظهر فيه الربح. وقد أخرج الحاكم في "مستدركه" من حديث الربيع بن بدر، عن أبي الزبير، عن جابر قال: آجرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه مِن خديجة بنت خويلد سفرتين إلى جَرَشَ كل سَفرَةٍ بِقَلُوصٍ، وقال: صحيح الإِسناد.
قال في "النهاية": جُرَش، بضم الجيم وفتح الراء مِن مخاليف اليمن، وهو بفتحهما بلد بالشام.
قلت: إن صح الحديث، فإنما هو المفتوح الذي بالشام، ولا يَصِحُّ، فإن الربيع بن بدر هذا هو عُلَيْلَة، ضعفه أئمة الحديث. قال النسائي والدارقطني والأزدي: متروك، وكأن الحاكم ظنه الربيع بن بدر مولى طلحة بن عبيد الله.
وشارك رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما قدم عليه شريكهُ قال: أما تَعرِفُني؟ قال: "أما كُنْتَ شَرِيكي؟ فَنِعْمَ الشَّرِيكُ كُنْتَ لا تدَارِي ولا تُمَارِي ".

وتدارئ بالهمزة من المدارأة، وهي مدافعة الحق، فإن ترك همزها صارت من المداراة، وهي المدافعة بالتي هي أحسن. ووكَّلَ وتَوَكَّل، وكان توكيلُه أكثرَ من توكّلِه.
وأهدى، وَقَبِلَ الهدية، وأثاب عليها، ووهب، واتّهَبَ، فقال لسلمة بن الأكوع، وقد وقع في سهمه جارية: "هَبْهَا لِي" فوهَبَها له، فَفَادَى بها مِنْ أهْلِ مكّة أُسَارَى مِنَ المُسلمين.
واستدان برهن، وبِغير رهن، واستعار، واشترى بالثمن الحالِّ والمؤجَّلِ.
وضمن ضماناً خاصاً على ربِّه على أعمالٍ مَنْ عَمِلَها كان مضموناً له بالجنَة، وضمانا عاماً لديون من تُوفيَّ مِن المسلمين، ولم يدع وفاءً أنها عليه وهو يُوفيها وقد قيل: إن هذا الحكمَ عام للأئمة بعده، فالسلطان ضامن لديون المسلمين إذا لم يُخلفوا وفاءً، فإنها عليه يُوفيها من بيت المال، وقالوا: كما يرثه إذا مات، ولم يَدَعْ وارثاً، فكذلك يقضي عنه دينَه إذا مات ولم

يَدَعْ وفاءً، وكذلك يُنْفِقُ عليه في حياته إذا لم يكن له مَنْ يُنْفِقُ عليه. ووقفَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرضاً كانت له، جعلها صدقةً في سبيل الله، وتشفَّع، وَشُفِّع إليه، وردَت بريرةُ شفاعتَه في مراجعتها مُغيثاً، فلم يغضب عليها، ولا عَتِبَ، وهو الأسوة والقدوة، وحلف في أكثرَ من ثمانين موضعاً، وأمره اللهُ سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع، فقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبّيَ إِنّهُ لَحَقّ} [يونس: 53] قال تعالى:{ وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلَىَ وَرَبّي لَتَأْتِيَنّكُمْ} [سبأ: 3] وقال تعالى: {زَعَمَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَن لّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىَ وَرَبّي لَتُبْعَثُنّ ثُمّ لَتُنَبّؤُنّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذاكِر أبا بكر محمد بن داود الظاهري، ولا يُسميه بالفقيه، فتحاكم إليه يوماً هو وخصمٌ له، فتوجهت اليمينُ على أبي بكر بن داود، فتهيأ للحلف، فقال له القاضي إسماعيل: أو تحلِفُ ومثلُك يحلف يا أبا بكر؟! فقال: وما يمنعني من الحلِف وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلِف في ثلاثة مواضع من كتابه، قال: أين ذلك؟ فسردها له أبو بكر، فاستحسن ذلك منه جداً، ودعاه بالفقيه مِن ذلك اليوم. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَستثني في يمينه تارة، ويكفِّرها تارةً، ويمضي فيها تارةً، والاستثناء يمنع عقد اليمين، والكفارة تَحُلهَا بعد عقدها، ولهذا سماها الله تَحِلَّة.
وكان يُمازح، ويقول في مُزاحِه الحق، ويُوَرِّي، ولا يقول في توريته إلا بحق، مثل أن يُريد جهة يقصِدها فيسأل عن غيرها كيف طريقُها؟ وكيف مياهُها ومسلكها؟ أو نحو ذلك. وكان يُشير ويستشير. وكان يعود المريض ويشهدُ الجِنازة، ويُجيب الدَّعْوَة، ويمشي مع الأرملة والمسكين والضعيف في حوائجهم، وسمع مديحَ الشعر، وأثاب عليه

ولكن ما قيل فيه من المديح، فهو جزء يسير جداً مِن محامده، وأَثاب على الحق. وأما مدحُ غيره من الناس، فأكثرُ ما يكون بالكذب، فلذلك أَمَرَ أن يُحثَى في وجُوه المداحينَ التُّرابُ
فصل
وسابق رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه على الأقدام، وصارعَ، وخَصَفَ نعله بيده، ورقَعَ ثوبه بيده، ورقَعَ دلوه، وحلب شاته، وَفَلَى ثوبَه، وخدم أهله ونفسه، وحمل معهم اللَّبِنَ في بناء المسجد، وربط على بطنه الحجر من الجوع تارة، وشبع تارة، واضافَ وأضيفَ، وأحتجم في وَسَط رأسه، وعلى ظهر قدمه، واحتجم في الأخدعين والكاهل وهو ما بين الكتفين، وتداوى، وكوىَ ولم يكتَوِ،ورقى ولم يَسْتَرْقِ، وحمى المريض ممَّا يؤذيه.
وأصول الطب ثلاثة: الحِمية، وحفظ الصحة، واستفراغ المادة المضرة، قد جمعها الله تعالى له ولأمته في ثلاثةَ مواضع من كتابه، فحمى المريض مِن استعمال الماء خشيةَ من الضرر، فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مّرْضَىَ أَوْ عَلَىَ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمّمُواْ صَعِيداً طَيّباً} [ النساء: 43] [المائدة: 6] فأباح

التيمم للمريض حمية له، كما أباحه للعادم، وقال في حفظ الصحة: {فَمَن كَانَ مِنكُم مّرِيضاً أَوْ عَلَىَ سَفَرٍ فَعِدّةٌ مّنْ أَيّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فَأبَاحَ للمسافر الفطرَ في رمضان حفظاً لصحته، لئلا يجتمع على قوته الصوم ومشقةُ السفر، فَيضعَفُ القوة والصحة. وقال في الاستفراغ في حلق الرأس للمحرم: {فَمَن كَانَ مِنكُم مّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مّن رّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] فَأبَاح للمريض وَمَن به أذى من رأسه وهو مُحرِم أن يحلق رأسه، ويستفرِغ المواد الفاسدة، والأبخرة الرديئة التي تولد عليه القَملَ، كما حصَل لكعب بنْ عُجْرَةَ، أو تُولد عليه المرض، وهذه الثلاثة هي قواعد الطب وأصوله، فذكر من كل جنس منها شيئاً، وصورة، تنبيهاً بها على نعمته على عباده في أمثالها من حِميتهم، وحِفظِ صِحَّتهم، واستفراغ مواد أذاهم، رخصةً لعباده، ولطفاً بهم، ورأفة بهم. وهو الرّؤوف الرحيم.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في معاملته
كان أحسنَ النَّاسِ مُعاملةً. وكان إذا استلف سلفاً قضى خيراً منه. وكان إذا اسْتَسْلَفَ من رجل سَلَفاً، قضاه إياه، ودعا له، فقال: "بَارَكَ اللهُ لَكَ في أَهلِكَ وَمَالِكَ، إنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الحَمْدُ والأداءُ".

واستسلف من رجل أربعين صاعاً، فاحتاج الأنصاريُّ، فأتاه، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا جَاءَنَا مِنْ شَيءٍ بَعد" فقال الرجل: وأَرَادَ أن يتكلم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تَقُلْ إلا خَيراً، فَأَنَا خَيرُ مَن تَسَلَّفَ " فأعطاه أربعين فضلاً، وأربعين سُلفة، فأعطاه ثمانين. ذكره البزار. واقترض بعيراً، فجاء صاحبه يتقاضاه، فأغلظ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهمَ به أصحابُه، فقال: "دَعُوهُ فَإنَّ لِصَاحِبِ الحَق مَقَالاً" واشترى مرة شيئاً وليس عنده ثمنُه فأُرْبِحَ فيه، فباعه، وتصدَّق بالربح على أرامل بني عبد المطلب، وقال: "لاَ أَشْتَرِى بَعْدَ هَذَا شيْئاً إلاَّ وَعِنْدِي ثمنُه" ذكره أبو داود، وهذا لا يُناقض الشراء في الذمة إلى أجل، فهذا شيء، وهذا شيء. وتقاضاه غريم له ديناً، فأغلظ عليه، فهمَّ به عمرُ بن الخطاب فقال: "مَهْ يَا عُمَرُ كُنْتُ أَحْوَجَ إَلى أَنْ تَأْمرني بِالْوَفَاءِ. وَكَانَ أَحْوَج إلَى أَنْ تَأْمُرَهُ بِالصَّبْرِ"، وباعه يهودي بيعاً إلى أجل، فجاءه قبل الأجل يتقاضاه ثمنَه، فقال: لم يَحِلَّ الأجلُ،

فقال اليهوديُّ: إنكم لَمطْل يَا بنَي عبدِ المطلب، فهمَّ به أصحابُه، فنهاهم، فلم يَزِدْه ذلك إلا حِلماً، فقال اليهودي: كُلُّ شيء منه قد عرفته من علامات النبوة، وبقيت واحدةٌ، وهي أنه لا تزيدُه شدةُ الجهل عليه إلا حلماً، فأردتُ أن أعْرِفَها، فأسلم اليهودي.
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مشيه وحده ومع أصحابه
كان إذا مشى، تكفَّأ تكفُّؤاً، وكان أسرَعَ الناس مِشيةً، وأحسنَها وأسكنها قال أبو هريرة: ما رأيتُ شيئاً أحسنَ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كأن الشمسَ تجري في وجهه، وما رأيتُ أحداً أسرع في مِشيته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كأنما الأرضُ تُطوى له، وإنا لَنجْهَدُ أنفسَنا وإنه لغيرُ مُكْتَرِث. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مشى تكفَّأ تكفؤاً كأنما ينحطُّ مِنْ صَبَبٍ، وقال مرة: إذا مشى، تقلّع قلتُ: والتقلُع: الارتفاعُ من الأرض بجملته، كحال المنحط من الصبب، وهي مِشية أولي العزم والهِمة والشجاعة، وهي أعدلُ المِشيات وأرواحُها للأعضاء، وأبعدُها من مِشية الهَوَجِ والمهانة

والتماوت، فإن الماشيَ، إمَّا أن يتماوت في مشيه ويمشي قطعة واحدة، كأنه خشبة محمولة، وهي مِشية مذمومة قبيحة، وإمّا أن يمشي بانزعاج واضطراب مشي الجمل الأهوج، وهي مِشيةٌ مذمومة أيضاً، وهي دالة على خِفَّة عقل صاحبها، ولا سيما إن كان يُكثرُ الالتفات حال مشيه يميناً وشمالاً، وإمّا أن يمشي هَوْناً، وهي مِشية عبادِ الرحمن، كما وصفهم بها في كتابه، فقال: {وَعِبَادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىَ الأرْضِ هَوْناً} [ الفرقان: 63] قال غيرُ واحد من السلف: بسكينة ووقار من غير تكبُّر ولا تماوت، وهي مِشية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه مع هذه المِشية كان كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرضُ تُطوى له، حتى كان الماشي معه يُجْهِدُ نفسَه ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيرُ مُكْتَرِثٍ، وهذا يدل على أمرين: أن مِشيته لم تكن مِشية بتماوت ولا بمهانة، بل مشية أعدل المشيات.والمشيات عشرة أنواع، هذه الثلاثة منها، والرابع: السعي. والخامس: الرَّمَلَ، وهو أسرعُ المشي مع تقارب الخُطَا، ويسمى: الخَبب، وفي الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَّ في طَوافِهِ ثلاثاً، ومشى أربعاً.السادس: النَّسَلان، وهو العَدْو الخفيف الذي لا يُزعج الماشي، ولا يَكْرِثُهُ. وفي بعض المسانيد أن المشاة شَكَوْا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المشي في حجة الوداع، فقال: "اسْتَعِينُوا بالنَّسَلاَنِ".

والسابع: الخَوْزَلى، وهي مِشية التمايل، وهي مِشية، يقال: إن فيها تكسرا وتخنثاً.
والثامن: القهقرى، وهي المشية إلى وراء.
والتاسع: الجَمَزَى، وهي مِشية يَثِبُ فيها الماشي وثباً.
والعاشر: مِشية التبختر، وهي مِشية أُولي العجب والتكبُّر، وهي التي خَسَفَ اللهُ سبحانه بصاحبها لما نظر في عِطْفَيْهِ وأعجبته نفسُه، فهو يتجلجلُ في الأرض إلى يوم القيامة.
وأعدلُ هذه المِشيات مِشية الهَوْنِ والتكفُّؤ.
وأما مشيه مع أصحابه، فكانوا يمشون بين يديه وهو خلفهم، ويقول: "دعوا ظهري للملائكة" ولهذا جاء في الحديث: وكان يسوق أصحابه. وكان يمشي حافيا ومتنعلا، وكان يماشي أصحابه فرادى وجماعة، مشى في بعض غزواته مرة فدميت أصبعه، وسال منها الدم، فقال:
هل أنت أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
وكان في السفر ساقة أصحابه: يزجي الضعيف، ويردفه، ويدعو لهم، ذكره أبو داود

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جلوسه واتكائه
كان يجلِس على الأرض، وعلى الحصير، والبِساط، وقالت قَيْلَةُ بنت مَخْرَمَة: أتيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو قاعد القُرفصاء، قالت: فلما رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالمتخشِّع في الجلِسة، أُرعِدتُ من الفَرَق. ولما قدم عليه عديُّ بنُ حاتِم، دعاُه إلى منزله، فألقت إليه الجاريةُ وِسادة يجلِس عليها، فجعلها بينه وبين عدي، وجلس على الأرض. قال عدي: فعرفتُ أنه ليس بمَلِك. وكان يستلقي أحياناً، ورب وضع إحدى رجليه على الأخرى، وكان يتكىء على الوِسادة، وربما اتكأ على يساره، وربما اتكأ على يمينه. وكان إذا احتاج في خروجه، توكأ على بعض أصحابه من الضعف.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند قضاء الحاجة
كان إذا دخل الخلاء قال: "اللهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ والخَبَائِثِ"

"الرِّجْسِ النَّجِسِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ".
وكان إذا خرج يقول: "غُفْرَانَكَ".
وكان يستنجي بالماء تارة، ويستجمِر بالأحجار تارة، ويجمع بينهما تارة.
وكان إذا ذهب في سفره للحاجة، انطلق حتى يتوارَى عن أصحابه، وربما كان يبعُد نحو الميلين.
وكان يستتِر للحاجة بالهدف تارة، وَبِحَائِشِ النَّخل تارة، وبشجر الوادي تارة.
وكان إذا أراد أن يبول في عزَازٍ من الأرض - وهو الموضع الصلب - أخذ عوداً من الأرض، فنكت به حتى يُثَرَّى، ثم يبول.
وكان يرتاد لبوله الموضع الدَّمِثَ - وهو اللين الرخو من الأرض - وأكثر ما كان يبول وهو قاعد، حتى قالت عائشة: "مَنْ حدَّثَكم أنه كان يُبول قائماً، فلا تُصدِّقوه، ما كان يبولُ إلا قاعدا" وقد روى مسلم في "صحيحه" من حديث حذيفة أَنّهُ بَالَ قَائِماً. فقيل: هذا بيان للجواز

وقيل: إنما فعله مِن وجع كان بِمَأْبِضَيْهِ. وقيل: فعله استشفاءً. قال الشافعي رحمه الله: والعرب تستشفي منِ وجع الصلب بالبول قائماً، والصحيح أنه إنما فعل ذلك تنزهاً وبُعداً من إصابة البول، فإنه إنما فعل هذا لما أتى سُباطة قوم وهو ملقى الكُناسة، وتسمى المزبلة، وهي تكون مرتفعة، فلو بال فيها الرجل قاعداً، لارتد عليه بولُه، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استتر بها، وجعلها بينه وبين الحائط، فلم يكن بدٌ من بوله قائماً، والله أعلم.
وقد ذكر الترمذي عن عمر بن الخطاب قال: رآني النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أبول قائماً، فقال: "يا عمر لا تَبُلْ قائماً"، قال، فما بلت قائماً بعدُ. قال الترمذي: وإنما رفعه عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو ضعيف عند أهل الحديث.
وفي "مسند البزار" وغيره، من حديث عبد الله بن بُريدة عن أبيه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ثَلاَثٌ مِنَ الجَفَاءِ: أَنْ يَبُولَ الرَّجُلُ قَائِماً، أَوْ يَمْسَحَ جَبْهَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلاَتِهِ، أَوْ يَنْفُخَ في سُجُودِهِ". ورواه

الترمذي وقال: هو غير محفوظ، وقال البزار: لا نعلم من رواه عن عبد الله بن بريدة إلا سعيد بن عبيد الله، ولم يجرحه بشيء. وقال ابن أبي حاتِم: هو بصري ثقة مشهور.
وكان يخرج من الخلاء، فيقرأ القرآن، وكان يستنجي، ويستجمِر بشماله، ولم يكن يصنع شيئاً مما يصنعه المبتلون بالوسواس من نَتْر الذَّكَرِ، والنحنحة، والقفز، ومسك الحبل، وطلوع الدرج، وحشو القطن في الإِحليل، وصب الماء فيه، وتفقده الفينة بعد الفينة، ونحوِ ذلك مِن بِدَعِ أهلِ الوسواس. وقد روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا بَالعَ، نَتَرَ ذَكَره ثلاثاً. وروي أنه أمر به، ولكن لا يصح من فعله ولا أمره. قاله أبو جعفر العُقيلي.
وكان إذا سلم عليه أحد وهو يبُول، لم يردَّ عليه، ذكره مسلم في "صحيحه" عن ابن عمر.
وروى البزار في "مسنده" في هذه القصة أنه ردَ عليه، ثم قال "إنَّما رَدَدْتُ عَلَيْكَ خَشْيَةَ أَنْ تَقُولَ: سلَّمتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ سَلاَماً، فَإذَا رَأَيْتَنِي هكذا، فَلاَ تُسَلِّمْ عَلَيَّ، فَإنِّي لاَ أَرُدُّ عَلَيْكَ السَّلاَمَ". وقد قيل: لعل هذا كان مرتين، وقيل: حديث مسلم أصح، لأنه من حديث الضحاك بن عثمان، عن نافع، عن ابن عمر، وحديث البزار من رواية أبي بكر رجل من أولاد عبد الله بن عمر، عن نافع، عنه. قيل: وأبو بكر هذا: هو أبو بكر بنُ

عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، روى عنه مالك وغيره، والضحاك أوثق منه.
وكان إذا استنجى بالماء، ضرب يده بعد ذلِكَ على الأرض، وكان إذا جلس لحاجته، لم يرفع ثوبَه حتَّى يدنو مِن الأرض.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الفطرة وتوابعها
قد سبق الخلاف هل وُلد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مختوناً، أو خَتنته الملائكة يومَ شُقَّ صدرهُ لأول مرة، أو ختنه جدُه عبد المطلب؟
وكان يُعجبه التيمن في تنعُّلِه وترجُّلِه وطهوره وأخذِه وعطائه، وكانت يمينُه لِطعامه وشرابه وطهوره، ويَسارُه لِخَلائه ونحوه من إزالة الأذى.وكان هديُه في حلق الرأس تركَه كلَّه، أو أخذَه كلَّه، ولم يكن يحلِق بعضه، ويدعُ بعضه، ولم يُحفظ عنه حلقُه إلا في نُسك. وكان يُحب السِّواكَ، وكان يستاك مفطراً وصائماً، ويستاك عند الانتباه من النوم، وعند الوضوء، وعند الصلاة، وعند دخول المنزل، وكان يستاك بِعُود الأرائك. وكان يُكثر التطيبَ، ويحب الطِّيب، وذُكِرَ عنه أنه كان يَطَّلِي

بالنُّوَرة.وكان أولاً يَسْدُلُ شعره، ثم فرقه، والفرق أن يجعل شعره فِرقتين، كل فرقة ذؤابة، والسدل أن يسدُلَه من ورائه ولا يجعله فِرقتين. ولم يدخل حماماً قط، ولعله ما رآه بعينه، ولم يصح في الحمام حديث.

وكان له مُكحُلة يكتحِل منها كلَّ ليلة ثلاثاً عند النوم في كل عين. واختلف الصحابة في خِضابه، فقال أنس لم يخضِبْ وقال أبو هريرة خضب، وقد روى حماد بن سلمة عن حُميد، عن أنس قال رأيتُ شعر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخضوباً، قال حماد: وأخبرني عبد الله بن محمد بن عقيل قال: رأيت شعر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند أنس بن مالك مخضوباً، وقالت طائفة: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يُكْثِرُ الطيبَ قد احمَرَّ شعره، فكان يُظن مخضوباً. ولم يخضِب وقال أبو رِمْثة: أتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع ابن لي، فقال: "أهذا ابنُكَ؟" قُلتُ: نعم أشهد به، فقال: "لا تَجْني عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْنِي عَلَيْكَ"، قال: ورأيت الشيب أحمر، قال الترمذي: هذا أحسن شيء روي في هذا الباب وأفسرهُ، لأن الروايات الصحيحة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يبلغ الشيب. قال حماد بن سلمة عن سِماك بن حرب قيل لجابر بن سمرة: أكان في رأس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيب؟ قال: لم يكن في رأسه شيبٌ إلا شعراتٍ في مَفْرِقِ رأسهِ إذا ادَّهن وأراهُنَّ الدُّهن: قال أنس: وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ دُهنَ رأسه ولحيته، ويُكثر القِنَاعَ كأن ثوبه ثوبُ زيات وكان يُحبُّ الترجُلَ، وكان يرجِّل نفسه تارة، وترجِّله عائشة

تارة. وكان شعره فوق الجُمَّة ودُون الوَفْرَةِ، وكانت جُمَّتُه تضرِب شحمةَ أذنيه، وإذا طال، جعله غَدَائِرَ أربعاً، قالت أمُّ هانئ: قدم علينا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة قَدْمَةً، وله أربع غدائر، والغدائر: الضفائر، وهذا حديث صحيح وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يردُّ الطيب، وثبت عنه في حديثِ "صحيح مسلم" أنه قال: " مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلاَ يَرُدَّه، فَإنَّهُ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، خَفِيفُ المَحْمِل" ، هذا لفظ الحديث، وبعضهم يرويه: "مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلاَ يَرُدَّه" وليس بمعناه، فإن الريحان لا تكثُر المِنَّةُ بأخذه، وقد جرت العادةُ بالتسامح في بذله، بخلاف المسك والعنبر والغَالِية ونحوها، ولكن الذي ثبت عنه من حديث عَزْرة بن ثابت، عن ثُمامة، قال أنس: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَرُدُّ الطِّيبَ وأمّا حديثُ ابن عمر يرفعه " ثَلاَثٌ لا تُرد: الوَسَائِدُ، والدُّهْنُ، واللَبَ نُ" فحديث معلول، رواه الترمذي وذكر علته، ولا أحفظ الآن ما قيل

فيه، إلا أنه من رواية عبد الله بن مسلم بن جندب، عن أبيه، عن ابن عمر. ومن مراسيل أبي عثمان النَّهدي قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أُعْطِيَ أَحَدُكُمُ الرَّيْحَانَ، فَلاَ يَرُدَّهُ، فَإنَّهُ خَرَجَ مِنَ الجَنَّةِ". وكان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُكَّة يتطَّيبُ منها، وكان أحبَّ الطيب إليه المِسك، وكان يُعجبه الفاغية قيل: وهي نَوْر الحِنَّاءِ.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قص الشارب
قال أبو عمر بن عبد البر: روى الحسن بن صالح، عن سِماك، عن عِكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقصُّ شاربه، ويذكر أن إبراهيمَ كان يَقصّ شارِبَه، ووقفه طائفة على ابن عباس وروى الترمذي من حديث زيد بن أرقم قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ، فَلَيْسَ مِنَّا" وقال: حديث صحيح، وفي "صحيح

مسلم" عن أبي هريرة قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُصُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا المَجُوسَ " وفي "الصحيحين" عن ابنِ عمر، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَالِفُوا المُشْرِكِينَ، ووفِّرُوا اللِّحى، وأَحفوا الشواربَ " وفي "صحيح مسلم" عن أنس قال: وَقَّتَ لَنَا النَّبيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قص الشوارب وَتَقْلِيمِ الأَظْفَار، أَلاَّ نَتْرُكَ أَكْثَر مِنْ أَرْبعِين يَوْماً وَلَيْلةً.
واختلف السلفُ في قصِّ الشارب وحلقِه أيهما أفضل؟ فقال مالك في "موطئه": يُؤخذ من الشارب حتى تجدوَ أطرافُ الشفة وهو الإِطار، ولا يجزُّه فَيُمَثِّلَ بنفسه. وذكر ابن عبد الحكم عن مالك قال: يُحفي الشارب، ويُعفي اللِّحى، وليس إحفاءُ الشارب حلقَه، وأرى أن يُؤدَّبَ من حلق شاربه، وقال ابن القاسم عنه: إحفاءُ الشارب وحلقه عندي مُثلَةٌ، قال مالك: وتفسير حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحفاء الشارب، إنما هو الإِطار، وكان يكره أن يُؤخذ من أعلاه، وقال: أشهد في حلق الشارب أنه بدعة، وأرى أن يُوجَعَ ضرباَ مَنْ فعله، قال مالك: وكان عمر بن الخطاب إذا كَرَبَهُ أمر، نفخ،

فجعل رجله بردائه وهو يفتل شاربه. وقال عمر بن عبد العزيز: السنة في الشارب الإِطار. وقال الطحاوي: ولم أجد عن الشافعي شيئاً منصوصاً في هذا، وأصحابهُ الَّذينَ رأينا المزنيُّ والربيعُ كانا يُحفيان شواربهما، ويدل ذلك على أنهما أخذاه عن الشافعي رحمه الله، قال: وأمّا أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد، فكان مذهبُهم في شعر الرأس والشوارب أن الإِحفاءَ أفضلُ من التقصير، وذكر ابن خُويز منداد المالكي عن الشافعي أن مذهبه في حلق الشارب كمذهب أبي حنيفة، وهذا قول أبي عمر. وأمّا الإِمام أحمد، فقال الأثرم: رأيتُ الإِمام أحمد بن حنبل يُحفي شاربه شديداً، وسمعته يُسأل عن السنة في إحفاء الشارب؟ فقال: يُحفي كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أحْفُوا الشَّوَارِبَ" وقال حنبل: قيل لأبي عبد الله: ترى الرجُلَ يأخذ شاربه، أو يُحفيه؟ أم كيف يأخذه؟ قال: إن أحفاه، فلا بأس، وإن أخذه قصاً فلا بأس. وقال أبو محمد بن قدامة المقدسي في "المغني": وهو مخير بين أن يُحفيه، وبين أن يقصه من غير إحفاء. قال الطحاوي: وروى المغيرةُ بن شعبة أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ من شاربه على سِوَاك وهذا لا يكون معه إحفاء. واحتج من لم يرَ إحفاءه بحديثي عائشة وأبي هريرة المرفوعين "عشر من الفطرة"... فذكر منها قَصَّ الشَّارِبِ وفي حديث أبي هريرة المتفق

عليه: "الفِطْرَة خَمْسٌ" وذكر منها قص الشارب.
واحتج المحفون بأحاديث الأمر بالإحفاء، وهي صحيحة، وبحديث ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَجُزُّ شَارِبَهُ، قال الطحاوي: وهذا الأغلب فيه الإِحفاء، وهو يحتمل الوجهين. وروى العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة يرفعه "جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى" قال وهذا يحتمل الإِحفاء أيضاً، وذكر بإسناده عن أبي سعيد، وأبي أُسَيْد، ورافع بن خديج، وسهل بن سعد، وعبد الله بن عمر، وجابر، وأبي هريرة أنهم كانوا يُحفون شواربهم. وقال إبراهيم بن محمد بن حاطب: رأيت ابن عمر يُحفي شاربه كأنه يَنْتِفُه وقال بعضهم: حتى يُرى بياضُ الجلد. قال الطحاوي: ولما كان التقصير مسنوناً عند الجميع، كان الحلق فيه أفضلَ قياساً على الرأس، وقد دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين واحدة، فجعل حلقرر

الرأس أفضلَ مِن تقصيره، فكذلك الشارب.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كلامه وسكوته وضحكه وبكائه
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفصحَ خلق الله، وأعذبَهم كلاماً، وأسرعَهم أداءً، وأحلاهم مَنْطِقاً، حتى إن كلامه لَيَأْخُذُ بمجامع القلوب، ويَسبي الأرواح، ويشهدُ له بذلك أعداؤه. وكان إذا تكلم تكلَّم بكلام مُفصَّلِ مُبَيَّنٍ يعدُّه العادُّ، ليس بِهَذٍّ مُسرِعِ لا يُحفظ، ولا منقَطع تخلَّلُه السكتات بين أفراد الكلام، بل هديُه فيه أكملُ الهدي، قالت عائشة: ما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْرُدُ سردَكم هذا، ولكن كان يتكلَّم بكلام بيِّنٍ فَصْلٍ يحفظه من جلس إليه. وكان كثيراً ما يُعيد الكلام ثلاثاً لِيُعقلَ عنه، وكان إذا سلَّم سلَّم ثلاثاً. وكان طويلَ السكوت لا يتكلم شي غيرِ حاجة، يفتتحُ الكلام ويختتمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلام، فَصلٍ لا فضول ولا تقصير، وكان لا يتكلم فيما لا يَعنيه، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وإذا كرِه الشيء: عُرِفَ في وجهه، ولم يكن فاحشاً، ولا متفحِّشاً، ولا صخَّاباً. وكان جُلُّ ضحكه التبسم، بل كلُّه التبسم، فكان نهايةُ ضحكِه أن تبدوَ نواجِذُه. وكان يضحكُ مما يُضحك منه، وهو مما يُتعجب من مثله ويُستغرب

وقوعُه ويُستندر.
وللضحك أسباب عديدة، هذا أحدها والثاني: ضحِك الفرح، وهو أن يرى ما يسرُّه أو يُباشره والثالث: ضحِكُ الغضب، وهو كثيراً ما يعتري الغضبان إذا اشتد غضبه، وسببه تعجب الغضبان مما أورد عليه الغضبُ، وشعورُ نفسه بالقدرة على خصمه، وأنه في قبضته، وقد يكون ضحكُه لِمُلكه نفسه عند الغضب، وإعراضِه عمن أغضبه، وعدم اكتراثه به.
وأمَّا بكاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان مِن جنس ضحكه، لم يكن بشهيقٍ ورفع صوت كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن كانت تدمَعُ عيناه حتى تَهْمُلا، ويُسمع لِصدره أزيزٌ. وكان بكاؤه تارة رحمة للميت، وتارة خوفاً على أمته وشفقة عليها، وتارة مِن خشية الله، وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال، مصاحبٌ للخوف والخشية. ولما مات ابنُه إبراهيم، دمعت عيناه وبكى رحمة له، وقال: "تَدْمَعُ العَيْنُ، وَيَحْزَنُ القَلْبُ، ولا نَقُولُ إلا مَا يُرْضِي رَبَّنا، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ". وبكى لما شاهد إحدى بناتِه وَنَفْسُها تَفِيضُ، وبكى لما قرأ عليه ابنُ مسعود سورة (النساء) وانتهى فيها إلى قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىَ هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء: 41] وبكى لما مات عثمان بن مظعون، وبكى لما كَسَفت الشَّمْسُ، وصلى صلاة الكُسوف، وجعل يبكي في صلاته، وجعل ينفخ، ويقول: "رَبِّ أَلَمْ تَعِدْني أَلاَّ تُعَذِّبَهُم وَأَنَا فِيهِمْر

وهُمْ يَسْتغْفِرُونَ، وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُك" وبكى لما جلس على قبر إحدى بناته وكَانَ يَبكي أحياناً في صلاة اللَّيلِ.
والبكاء أنواع . أحدها: بكاء الرحمة، والرقة . والثاني : بكاء الخوف والخشية والثالث: بكاءُ المحبة والشوق والرابع: بكاءُ الفرح والسرور والخامس : بكاء الجَزَع مِن ورود المؤلِم وعدم احتماله. والسادس : بكاءُ الحزن.
والفرق بينه وبين بكاء الخوف، أن بكاء الحزن يكون على ما مضى من حصول مكروه، أو فوات محبوب، وبكاء الخوف يكون لِمَا يتوقع في المستقبل مِن ذلك، والفرق بين بكاء السرور والفرح، وبكاء الحزن، أن دمعة السرور باردة، والقلب فرحان، ودمعة الحُزن حارة، والقلب حزين، ولهذا يقال لما يُفرح به: هو قُرَّةُ عَيْنٍ، وأقرَّ اللهُ به عينَه، ولما يُحزن: هو

سخينةُ العين، وأسخن اللهُ عينَه بِه.
والسابع : بكاء الخور والضعف.
والثامن: بكاء النفاق، وهو أن تدمعَ العين والقلب قاس، فيظهر صاحبُه الخشوع، وهو من أقسى الناس قلباً.
والتاسع: البكاء المستعار والمستأجر عليه، كبكاء النائحة بالأجرة، فإنها كما قال عمر بن الخطاب: تَبِيعُ عَبْرتَها، وَتَبْكي شَجْوَ غَيرها.
والعاشر : بكاء الموافقة، وهو أن يرى الرجُلُ الناسَ يبكون لأمر ورد عليهم، فيبكي معهم، ولا يدري لأي شيء يبكون، ولكن يراهم يبكون، فيبكي.
وما كان من ذلك دمعاً بلا صوت، فهو بكى، مقصور، وما كان معه صوت، فهو بكاء، ممدود على بناء الأصوات، وقال الشاعر:
بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لهَا بُكَاهَا ... وَمَا يُغْنِي الْبكَاءُ وَلاَ الْعَوِيلُ
وما كان منه مستدعىً متكلفاً، فهو التباكي، وهو نوعان: محمود، ومذموم، فالمحمود، أن يُستجلَب لِرقة القلب، ولخشية الله، لا للرياء والسُّمعة والمذموم: أن يُجتلب لأجل الخلق، وقد قال عمر بن الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسارى بدر: أخبرني ما يُبكيك يا رسولْ الله؟ فإن وجدتُ بكاءً بكيتُ، وإن لم أجد تباكَيتُ، لبكائكما ولم ينكر عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد قال بعض السلف: ابكوا مِن خشية الله، فإن لم تبكوا، فتباكوا.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبته
خطب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأرض، وعلى المِنْبَرِ، وعلى البعير، وعلى النَّاقة. وكان إذا خطب، احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنَّهُ مُنذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: "صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ" ويقول: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَة كَهَاتَيْنِ" وَيَقْرُنُ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَيَقُولُ: "أَمّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتابُ اللَهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضلاَلَةٌ".
وكان لا يخطُب خُطبة إلا افتتحها بحمد الله. وأما قولُ كثير من الفقهاء: إنه يفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار، وخطبةَ العيدين بالتكبير، فليس معهم فيه سنة عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البتةَ، وسنته تقتضي خلافَه، وهو افتتاحُ جميع الخطب ب "الْحَمْد للَّهِ"، وهو أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب أحمد، وهو اختيار شيخنا قدَّس اللهُ سِرَّه.
وكان يخطُب قائماً، وفي مراسيل عطاء وغيره أنه كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صَعِدَ المِنَبرَ أقبل بوجهه على الناس، ثم قال: "السَّلاَمُ عَلَيْكُم" قال الشعبي: وكان

أبو بكر وعمر يفعلان ذلك وكان يختِم خُطبته بالاستغفار، وكان كثيراً يخطب بالقرآن وفي "صحيح مسلم" عن أمِّ هشام بنت حارثة قالت: "ما أخذتُ {ق وَالْقُرآنِ المَجِيدِ} [ق: 1]، إلا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى المِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النَّاسَ"، وذكر أبو داود عن ابن مسعود أَنَّ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا تشهَّد قال: "الحَمْدُ للَهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ، فَلاَ مُضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ، فلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لاَ إِله إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْحَق بَشِيراً وَنَذِيراً بَيْن يَدَي السَّاعَةِ، مَنْ يُطعِ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ رشَدَ وَمَنْ يَعْصهِمَا، فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ إِلاَّ نَفْسَهُ، وَلاَ يَضرُّ اللهُ شيئاً" وقال أبو داود

عن يونس أنه سأل ابنَ شهاب عن تشهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ الجمعة، فذكر نحو هذا إلا أنه قال: "وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى".
قال ابن شهاب: وبلغنا أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول إذا خطب: "كُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَريبٌ، لاَ بُعْدَ لِمَا هُوَ آتٍ، وَلاَ يُعَجِّلُ اللَهُ لِعَجَلَةِ أَحَدٍ، وَلاَ يُخِفُّ لأَمْرِ النَّاسِ، مَا شَاءَ اللهُ، لاَ مَا شَاءَ الناسُ، يُرِيدُ اللهُ شَيْئاً وَيُريدُ النَّاسُ شَيئاً، مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَلَوْ كَرِهَ النَّاسُ، وَلاَ مُبْعِدَ لِمَا قرَّبَ اللهُ، ولاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَعَّدَ اللهُ، ولاَ يَكُونُ شَيءٌ إلاَّ بِإِذْنِ اللهِ".
وكان مدارُ خُطبه على حمد الله، والثناء عليه بآلائه، وأوصافِ كماله ومحامده، وتعليمِ قواعدِ الإِسلام، وذكرِ الجنَّة والنَّار والمعاد، والأمرِ بتقوى الله، وتبيينِ موارد غضبه، ومواقعِ رضاه فعلى هذا كان مدار خطبه.
وكان يقول في خطبه: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَكُمْ لَنْ تُطِيقُوا - أَوْ لَنْ تَفْعَلُوا –

كُلَ مَا أُمِرْتُمْ بهِ، وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا".
وكان يخطُب في كل وقت بما تقتضيه حاجةُ المخاطَبين ومصلحتهم، ولم يَكُنْ يخطب خُطبة إلا افتتحها بحمد الله، ويتشهَّد فيها بكلمتي الشهادة، ويذكر فيها نفسه باسمه العلم.
وثبت عنه أنه قال: " كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ، فَهِيَ كَالْيَدِ الجَذْمَاءِ ".
ولم يكن له شاويش يخرُج بين يديه إذا خرج من حُجرته، ولم يكن يَلْبَسُ لِبَاسَ الخطباء اليوم لا طُرحة، ولا زِيقاً وَاسعاً.
وكان منبرُه ثلاثَ درجات، فإذا استوى عليه، واستقبل الناس، أخذ المؤذن في الأذان فقط، ولم يَقُلْ شيئاً قبلَه ولا بعدَه، فإذا أخذ في الخطبة، لم يرفع أحدٌ صوته بشيء البتة، لا مؤذنٌ ولا غيرُه.
وكان إذا قام يخطب، أخذ عصاً، فتوكَّأ عليها وهو على المنبر، كذا ذكره عنه أبو داود عن ابن شهاب، وكان الخلفاءُ الثلاثةُ بعده يفعلون

ذلك، وكان أحياناً يتوكأْ على قوس، ولم يُحفظ عنه أنه توكأ على سيف، وكثيرٌ من الجهلة يظن أنه كان يُمْسِكُ السيفَ على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف، وهذا جهل قبيح من وجهين، أحدهما: أن المحفوظَ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توكأ على العصا وعلى القوس. الثاني: أن الدين إنما قام بالوحي، وأمّا السيف، فَلِمَحْقِ أهل الضلال والشرك، ومدينةُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي كان يخطب فيها إنما فُتِحَت بالقُرآن، ولم تُفتح بالسيف.
وكان إذا عرض له في خطبته عارض، اشتغل به، ثم رجع إلى خطبته، وكان يخطُب، فجاء الحسن والحسين يعثُران في قميصين أحمرين، فقطع كلامه، فنزل، فحملهما، ثم عاد إلى منبره، ثم قال: "صَدَقَ اللهُ العَظِيمُ {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] رَأَيْتُ هذَيْنِ يعثُران في قَمِيصَيْهِمَا، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ كَلاَمِي فَحَمَلْتُهُمَا".
وَجَاءَ سُلَيْكٌ، الغَطَفَاني وهو يخطُب، فجلس، فقال له: "قُمْ يَا سُلَيْكُ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْن وَتَجَوَّزْ فِيِهِما"، ثم قال وهو على المنبر: "إذَا جَاءَ أَحَدُكمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ والإِمام يَخْطُبُ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا".

وكان يُقصر خطبته أحياناً، ويُطيلها أحياناً بحسب حاجة الناس وكانت خطبتُه العارِضة أطولَ من خطبته الراتِبة. وكان يخطُب النِّساء على حِدة في الأعياد، ويحرِّضُهُنَّ على الصدقة، والله أعلم.

فصول في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العبادات
فصل في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوضوء
...
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوضوء
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضأ لكل صلاة في غالب أحيانه، وربما صلى الصلواتِ بوضوء واحد وكان يتوضأ بالمُد تارة، وبثلثيه تارة، وبأزيَد منه تارة، وذلك نحو أربع أواق بالدمشقي إلى أوقيتين وثلاث وكان مِنْ أيسر النَّاس صبًّا لماء الوضوء، وكان يُحَذِّرُ أمته من الإِسراف فيه، وأخبر أنه يكون في أمته مَنْ يعتدي في الطهور، وقال: " إنَّ لِلْوُضُوءِ شَيْطَاناً يُقَالُ لَهُ الوَلهَان

فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ المَاء " ومر على سعد، وهو يتوضأ فقال له: "لاَ تُسْرِفْ في المَاء " فقال: وهل فَي الماء من إسراف؟ قال: " نعم وإن كْنْتَ عَلَى نَهرٍ جَارٍ".
وصح عنه أنه توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، وفي بعض الأعضاء مرتين، وبعضها ثلاثاً.
وكان يتمضمض ويستنشق تارة بغَرفة، وتارة بغَرفتين، وتارة بثلاث. وكان يصل بين المضمضة والاستنشاق، فيأخُذ نصف الغرفة لفمه، ونصفها لأنفه، ولا يُمَكن في الغرفة إلا هذا، وأما الغرفتان والثلاث، فيمكن فيهما الفصلُ والوصلُ، إلا أن هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان الوصلَ بينهما، كما في "الصحيحين" من حديث عبد الله بن زيد أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تمضمض واستنشق منْ كَفٍّ واحدة، فعل ذلك ثلاثاً " وفي لفظ: " تمضمض واستنثر بثَلاَث غَرفَات " فهذا أصحً ما رُوي في المضمضة والاستنشاق، ولم يجىء الَفصلُ بين المًضمضة

والاستنشاق في حديث صحيح البتة، لكن في حديث طلحة بن مصرف، عن أبيه، عن جدِّه: رأيتُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْصلُ بين المضمضة والاستنشاق، ولكن لا يُروى إلا عن طلحة عن أبيه عن جدَّه، ولا يعرف لجده صحبة.
وكان يستنشق بيده اليمنى، ويستنثِر باليُسرى، وكان يمسحُ رأسه كلَّه، وتارة يُقْبِلُ بيديه وَيُدْبرُ، وعليه يُحملُ حديث من قال: مسح برأسه مرتين والصحيح أنه لم يكررَ مسح رأسه، بل كان إذا كررَ غَسْلَ الأعضاء، أفرد مسحَ الرأس، هكذا جاء عنه صريحاً، ولم يصحَّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. خلافه البتة، بل ما عدا هذا، إمّا صحيح غير صريح، كقول الصحابي: توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وكقوله: مسح برأسه مرتين، وإما صريح غير صحيح، كحديث ابن البيلماني، عن أبيه، عن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ تَوَضَّأُ فَغَسَلَ كَفَّيْه ثلاثاً" ثم قال: "وَمَسَحَ بِرَأسه ثَلاثَاً" وهذا لا يحتج به، وابن البيلماني وأبوهَ مضعَفان، وإن كان الأب أحَسَن حالاً وكحديث عثمان الذي رواه أبو داود أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَسَحَ رَأسَهُ ثَلاثاً " وقال أبو داود: أحاديثُ عثمان الصحاحُ كلُّها تدل على أن مسح الرأس مرة، ولم يصحَّ عنه في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعضِ رأسه البتة، ولكن كان إذا مسح

بناصيته كمل على العمامة، فأمّا حديثُ أنس الذي رواه أبو داود: "رأيتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضأ وعليه عمَامة قطْرِيَّةٌ، فَأدْخَلَ يَدَه مِنْ تحت العمَامَة، فمسح مُقدَّمَ رأسه، ولم يَنْقُضِ العِمًامَة". فهذا مقصود أنس به أن اَلنبيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينقُض عِمامته حتى يستوعِبَ مسحَ الشعر كلّه، ولم ينفِ التكميلَ على العِمامة، وقد أثبته المغيرةُ بن شعبة وغيره، فسكوتُ أنس عنه لا يدل على نفيه ولم يتوضأ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا تمضمض واستنشق، ولم يُحفظ عنه أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به مرة واحدة، وكذلك كان وضوءه مرتباً متوالياً، لم يُخِلَ به مرة واحدة البتة، وكان يمسح على رأسه تارة، وعلى العِمامة تارة، وعلى الناصية والعمامة تارة.
وأما اقتصارُه على الناصية مجردة، فلم يُحفظ عنه كما تقدم وكان يغسل رجليه إذا لم يكونا في خُفين ولا جوربين، ويمسح عليهما إذا كانا في الخفين أو الجوربين وكان يمسح أذنيه مع رأسه، وكان يمسح ظاهرهما وباطنهما،

ولم يثبت عنه أنه أخذ لهما ماءً جديداً، وإنما صح ذلك عن ابن عمر ولم يَصح عنه في مسح العُنق حديث البتة، ولم يحفظ عنه أنه كان يقول على وضوئه شيئاً غيرَ التسمية، وَكُلُّ حديث في أذكار الوضوء الذي يقال عليه، فَكَذِبٌ مُخْتَلَق، لم يقُلْ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً منه، ولا عَلَّمه لأمته، ولا ثبت عنه غير التسمية في أوله وقوله: "أَشْهَدُ أَن لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، واجْعَلْنِي مِنَ

المُتَطَهِّرينَ" في آخرِه وفي حديث آخر في "سنن النسائي" ممّا يقال بعد الوضوء أيضاً: "سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ،أشهد أن لا إله إلا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ".
وَلَمْ يَكُنْ يقول في أوله: نويت رفعَ الحدث، ولا استباحةَ الصلاة، لا هو، ولا أحدٌ من أصحابه البتة، ولم يُرو عنه في ذلك حرف واحد، لا بإِسناد صحيح، ولا ضعيف، ولم يتجاوز الثلاث قطُّ، وكذلك لم يُثبت عنه أنه تجاوز المِرفقين والكعبين، ولكن أبو هريرة كان يفعلُ ذلك ويتأوَّل حديث إطالة الغرة، وأما حديثُ أبي هريرة في صفة وضوء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه غسل يديه حتى أشرع في العضُدين، ورجليه حتى أشرع في الساقين فهو إنما يدل على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء، ولا يدل

على مسألة الإِطالة.
ولم يكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتاد تنشيفَ أعضائه بعد الوضوء، ولا صح عنه في ذلك حديث البتة، بل الذي صح عنه خلافه، وأما حديث عائشة كان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِرقَةٌ يُنَشِّفُ بِهَا بَعدَ الوُضوءِ، وحديث معاذ بن جبل: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا توضأ مسح على وجهه بِطَرَفِ ثوبه، فضعيفان لا يحتج بمثلهما، في الأول سليمان بن أرقم متروك، وفي الثاني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي ضعيف، قال الترمذي: ولا يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الباب شيء.
ولم يَكُنْ من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُصبَّ عليه الماءُ كلما توضأ، ولكن تارة يصبُّ على نفسه، وربما عاونه مَنْ يصبُّ عليه أحياناً لحاجة كما في "الصحيحين" عن المغيرة بن شعبة أنه صبَّ عليه في السفر لما توضأ.
وكان يخلل لحيته أحياناً، ولم يكن يُواظبُ على ذلك. وقد اختلف أئمة

الحديث فيه، فصحح الترمذي وغيره أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُخَلِّلُ لحيته، وقال أحمد وأبو زرعة: لا يثبت في تخليل اللحية حديث.
وكذلك تخليلُ الأصابع لم يكن يُحافظ عليه، وفي "السنن" عن المُسْتَوْرِدِ بنِ شداد: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا توضأ يُدلكُ أصابعَ رجليه بخنصره، وهذا إن ثبت عنه، فإنما كان يفعله أحياناً، ولهذا لم يروه الذين اعتنوا بضبط وضوئه، كعثمان، وعلي، وعبد الله بن زيد، والرُّبيِّعِ، وغيرهم، على أن في إسناده عبد الله بنَ لهيعة.
وأمّا تحريكُ خاتمه، فقد رُوي فيه حديث ضعيف من رواية معمر بن محمَّد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جدّه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كان إذا توضأ حرَّك خَاتَمه "، ومعمر وأبوه ضعيفان، ذكر ذلك الدارقطني.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسح على الخفين
صح عنه أنه مسح في الحضر والسفر، ولم يُنسخْ ذلك حتى تُوفي، ووقَّت للمقيم يوماً وليلة، وللمسافِر ثلاثَة أيام ولياليهن في عدة أحاديث حسان وصحاح، وكان يمسح ظاهر الخفين، ولم يصح عنه مسحُ أسفلهما إلا في حديث منقطع والأحاديث الصحيحة على خلافه، ومسح على الجوربين والنعلين، ومسح على العِمامة مقتصِراً عليها، ومع الناصية، وثبت عنه ذلك فعلاً وأمراً في عدة أحاديث، لكن في قضايا أعيان يُحتمل أن تكون خاصة بحال الحاجة والضرورة، ويُحتمل العموم كالخفين، وهو أظهر والله أعلم.
ولم يكن يتكلف ضِدَّ حاله التي عليها قدماه، بل إن كانتا في الخف مسح عليهما ولم يَنْزِعْهُمَا، وإن كانتا مكشوفتين، غسل القدمين، ولم يلبَسِ الخف لِيمسح عليه، وهذا أعدلُ الأقوال في مسألة الأفضل من المسح والغسل، قاله، شيخنا، والله أعلم.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التيمم
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتيمم بضربة واحدة للوجه والكفين، ولم يَصِحَّ عنه أنه

تيمم بضربتين، ولا إلى المرفقين. قال الإِمام أحمد: من قال: إن التيمم إلى، المرفقين، فإنما هو شيء زاده مِن عنده وكذلك كان يتيمم بالأرض التي يصلي عليها، تراباً كانت أَوْ سَبِخَةً أو رملاً. وصح عنه أنه قال: "حَيْثُماَ أَدْرَكَتْ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي الصَّلاَةُ، فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ"، وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل، فالرمل له طهور. ولما سافر هو وأصحابُه في غزوة تبوك، قطعوا تلك الرمال في طريقهم، وماؤهم في غاية القِلة، ولم يُرو عنه أنه حمل معه التراب، ولا أمر به، ولا فعله أحد من أصحابه، مع القطع بأن في المفاوز الرمالَ أكثر من التراب، وكذلك أرضُ الحجاز وغيره، ومن تدبر هذا، قطع بأنه كان يتيمم بالرمل، والله أعلم وهذا قول الجمهور.
وأمّا ما ذكر في صفة التيمم من وضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور اليمنى، ثم إمرارها إلى المرفق، ثم إدارة بطن كفه على بطن الذراع، وإقامة إبهامه اليسرى كالمؤذن، إلى أن يصل إلى إبهامه اليمنى، فَيُطبِقها عليها، فهذا مما يُعلم قطعاً أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفعله، ولا علَّمه أحداً من أصحابه، ولا أمر به، ولا استحسنه، وهذا هديُه، إليه التحاكُم، وكذلك لم يَصِحَّ عنه التيمُّمُ لكِل صلاة، ولا أمر به، بل أطلق التيمم، وجعله قائماً مقام الوضوء

وهذا يقتضي أن يكون حكمُه حكمَه، إلا فيما اقتضى الدليل خلافه.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة قال: "اللهُ أَكْبَرُ" ولم يقل شيئاً قبلها ولا تلفَّظ بالنية البتة، ولا قال: أصلي للَّهِ صلاة كذا مُستقبِلَ القبلة أربعَ ركعات إماماً أو مأموماً، ولا قال: أداءً ولا قضاءً، ولا فرض الوقت، وهذه عشرُ بدع لم يَنْقُلْ عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل لفظةً واحدةً منها البتة، بل ولا عن أحد من أصحابه، ولا استحسنه أحدٌ من التابعين، ولا الأئمةُ الأربعة، وإنما غَرَّ بعضَ المتأخرين قولُ الشافعي رضي الله عنه في الصلاة: إنها ليست كالصيام، ولا يدخل فيها أحد إلا بذكر، فظن أن الذكر تلفُّظُ المصلي بالنية، وإنما أراد الشافعي رحمه الله بالذكر: تكبيرةَ الإِحرام ليس إلا، وكيف يستحِبُّ الشافعيُّ أمراً لم يفعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة واحدة، ولا أحدٌ مِن خلفائه وأصحابِه، وهذا هديُهم وسيرتُهم، فإن أَوْجَدَنَا أحدٌ حرفاً واحداً عنهم في ذلك، قبلناه، وقابلناه بالتسليم والقبول، ولا هديَ أكملُ من هديهم، ولا سنةَ إلا ما تلقَّوه عن صاحب الشرع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان دأبُه في إحرامه لفظةَ: "اللهُ أَكْبَرُ " لا غيرَها، ولم ينقل أحدٌ

عنه سواها.
وكان يرفع يديه معها ممدودةَ الأصابع، مستقبلاً بها القبلةَ إلى فروع أُذنيه، ورُوي إلى منكبيه، فأبو حميد السَّاعديُّ وَمَنْ معه قالوا: حتى يُحاذيَ بهما المَنكِبيْنِ، وكذلك قال ابن عمر. وقال وائل بن حُجر: إلى حِيال أُذنيه. وقال البراء: قريباً من أُذنيه. وقيل: هو من العمل المخيَّر فيه، وقيل: كان أعلاها إلى فروع أُذنيه، وكفَّاه إلى منكبيه، فلا يكون اختلافاً، ولم يختلف عنه في محل هذا الرفع، ثم يضعُ اليُمنى على ظهرِ اليُسرى.
وكان يستفتح تارة ب "اللهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالمَاءِ وَالثَّلْج وَالبَرَدِ، اللهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ".
وتارة يقول: "وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً مُسلِماً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ، إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَماتِي للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَبِذلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ، اللهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ، لاَ إلهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاغتَرَفتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِر لِي ذُنُوبِي جَمِيعَهَا، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، وَاهدِنِي لأَحْسَنِ الأَخلاَق لاَ يَهْدِي لأِحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّىءَ الأَخْلاَقِ، لاَ يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَها إِلاَّ أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلٌ بِيَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ "، ولكن

المحفوظ أن هذا الاستفتاح إنما كان يقوله في قيام الليل.
وتارة يقول: " اللهُمَّ رَبَّ جبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السماوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِني لِمَا اخْتُلِفَ فِيه مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صرَاطٍ مُسْتَقِيم".
وتارة يقول: "اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ ..." الحديث. وسيأتي في بعض طرقه الصحيحة عن ابن

عباس رضي الله عنهما أنه كبر، ثم قال ذلك.
وتارة يقول: "اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ للَّهِ كَثِيراً، الْحَمْدُ للَّهِ كَثِيراً، الْحَمْدُ للَّهِ كَثِيراً، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، سُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، سُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ".
وتارة يقول: "اللهُ أَكْبَرُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يُسَبِّحُ عَشْرَ مرَاتٍ، ثُمَّ يَحْمَدُ عَشْراً، ثُمَّ يُهَلِّلُ عَشْرَاً، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ عَشْراً، ثُمَّ يَقول: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاهْدِني وَارْزُقْنِي وَعَافِنِي عَشْرَاً"، ثُمَّ يقول: "اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ ضِيقِ المُقَامِ يَوْمَ القِيَامَةِ عَشْرَاً"
فكل هذه الأنواع صحت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروي عنه أنه كان يستفتح ب "سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ،

وتَعَالَى جَدُّكَ، وَلاَ إِلهِ غَيْرُكَ" ذكر ذلك أهلُ السنن من حديث علي بن علي الرفاعي، عن أبي المتوكل النَّاجي، عن أبي سعيد على أنه ربما أرسل، وقد رُوي مثله من حديث عائشة رضي الله عنها، والأحاديث التي قبله أثبتُ منه، ولكن صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستفتح به في مقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويجهر به، ويعلِّمه الناس وقال الإِمام أحمد: أمّا أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر، ولو أن رجلاً استفتح ببعض ما رُوي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الاستفتاح كان حسناً.
وإنما اختار الإمام أحمد هذا لعشرة أوجه قد ذكرتُها في مواضع أخرى. منها جهرُ عمر به يعلًّمه الصحابة.
ومنها اشتمالُه على أفضل الكلام بعد القرآَن، فإن أفضل الكلام بعد القرآَن سبحان اللهِ، والحمد للّه، ولا إِله إِلا الله والله أكبر، وقد تضمنها هذا الاستفتاحُ مع تكبيرة الإِحرام.

ومنها أنه استفتاح أخلصُ للثناء على الله، وغيره متضمن للدعاء، والثناء أفضل من الدعاء، ولهذا كانت سورة الإِخلاص تَعدِلُ ثلث القرآن، لأنها أخلصت لوصف الرحمن تبارك وتعالى، والثناء عليه، ولهذا كان "سبحان الله، والحمد للَّه، ولا إِله إِلا الله، والله أكبر" أفضل الكلام بعد القرآن، فيلزم أن ما تضمنها من الاستفتاحات أفضل من غيره من الاستفتاحات.
ومنها أن غيرَه من الاستفتاحات عامتُها إنما هي في قيام الليل في النافلة، وهذا كان عمرُ يفعله، ويعلِّمه الناس في الفرض.
ومنها أن هذا الاستفتاح إنشاء للثناء على الرّب تعالى، متضمن للإِخبار عن صفات كماله، ونعوت جلاله، والاستفتاح ب "وجهت وجهي " إخبار عن عبودية العبد، وبينهما من الفرق ما بينهما.
ومنها أن من اختار الاستفتاح ب "وجهت وجهي" لا يكمله، وإنما يأخذ بقطعة من الحديث، ويذَرُ باقيه، بخلاف الاستفتاح ب "سبحانك اللهم وبحمدك" فإن من ذهب إليه يقوله كله إلى آخره.
وكان يقول بعد ذلك: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ثم يقرأ الفاتحة، يجهر ب "بسم الله الرَّحمن الرَّحيم " تارة، ويخفيها أكثر مما يجهر بها.

ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائماً في كل يوم وليلة خمس مرات أبداً، حضراً وسفراً، ويخفي ذلك على خلفائه الرَّاشدين، وعلى جُمهور أصحابه، وأهل بلده في الأعصار الفاضلة، هذا مِن أمحل المحال حتى يحتاج إلى التشبُّث فيه بألفاظ مجملة، وأحاديث واهية، فصحيح تلك الأحاديث غيرُ صريح، وصريحُها غير صحيح، وهذا موضع يستدعي مجلَّداً ضخما. وكانت قراءته مداً، يقِف عند كل آية، ويمدُّ بها صوته.
فإذا فرغ من قراءة الفاتحة، قال: "آمين"، فإن كان يجهر بالقراءة رفع بها صوته وقالها من خلفه. وكان له سكتتانِ، سكتة بين التكبير والقراءة، وعنها سأله أبو هريرة،

واختلف في الثانية، فروي أنها بعد الفاتحة. وقيل: إنها بعد القراءة وقبل الركوع. وقيل: هي سكتتان غير الأولى، فتكون ثلاثاً، والظاهر إنما هي اثنتان فقط، وأمّا الثالثة، فلطيفة جداً لأجل ترادِّ النَّفَس، ولم يكن يَصِل القراءة بالركوع، بخلاف السكتة الأولى، فإنه كان يجعلها بقدر الاستفتاح، والثانية قد قيل: إنها لأجل قراءة المأموم، فعلى هذا: ينبغي تطويلها بقدر قراءة الفاتحة، وأمّا الثالثة، فللراحة والنفس فقط، وهي سكتة لطيفة، فمن لم يذكرها، فلقصرها، ومن اعتبرها، جَعَلها سكتةً ثالثة، فلا اختلاف بين الروايتين، وهذا أظهر ما يقال في هذا الحديث وقد صح حديث السكتتين، من رواية سمرة، وأبي بن كعب، وعمران بن حصين، ذكر ذلك أبو حاتم في "صحيحه" وسمرة هو ابن جندب، وقد تبين بذلك أن أحد من روى حديث السكتتين سمرة بن جندب وقد قال: حفظتُ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سكتتين: سكتةً إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 7]. وفي بعض طرق الحديث: فإذا فرغ من القراءة، سكت وهذا كالمجمل، واللفظ الأول مفسِّر مبين، ولهذا قال أبو سَلمة بن عبد الرحمَن: للإمام سكتتان، فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكِتاب إذا افتتح الصلاة، وإذا قال: {ولا الضالين} [الفاتحة: 7] على أن تعيين محل السكتتين، إنما هو من تفسير قتادة، فإنه روى الحديث عن الحسن، عن سمرة قال: سكتتان حفظتهما عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في، فأنكر ذلك عمران، فقال:

حفظناها سكتة، فكتبنا إلى أبيِّ بن كعب بالمدينة، فكتب أُبي أن قد حفظ سمرة، قال سعيد؟ فقلنا لقتادة: ما هاتان السكتتان قال: إذا دخل في الصلاة، وإذا فرغ من القراءة، ثم قال بعد ذلك: وإذا قال: ولا الضالين قال: وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يترادَّ إليه نَفَسُه ومن يحتج بالحسن عن سمرة يحتج بهذا.
فإذا فرغ من الفاتحة، أخذ في سورة غيرِها، وَيُخَفِّفُهَا لعارض مِن سفر أو غيره، ويتوسط فيها غالباً.
قراءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة
وكان يقرأ في الفجر بنحو ستين آية إلى مائة آية، وصلاها بسورة (ق)، وصلاها ب (الروم) وصلاها ب (إذَا الشَّمسُ كُوِّرَت) وصلاها ب (إِذَا زُلْزِلَتْ) في الركعتين كليهما، وصلاها ب (المعوِّذَتَيْنِ) وكان في السفر وصلاها، فافتتح ب (سورة المؤْمِنِين) حتى إذا بلغ ذكر موسى وهارون في الركعة الأولى، أخذته سَعْلَةٌ فركع.
وكان يُصليها يومَ الجمعة ب (ألم تنزيلا السَّجدة) وسورة (هل أتى على الإِنسان ) كاملتين، ولم يفعل ما يفعلُه كثيرٌ منِ النَّاس اليوم من قراءة بعض هذه وبعض هذه في الركعتين، وقراءة السجدة وحدَها في الركعتين، وهو خلاف السنة. وأما ما يظنه كثيرٌ مِن الجهال أن صبحَ يوم الجمعة فُضِّلَ بسجدة، فجهل عظيم، ولهذا كره بعضُ الأئمة قراءةَ سورة السجدة لأجل

هذا الظن، وإنما كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ هاتين السورتين لما اشتملتا عليه من ذكر المبدإِ والمعاد، وخلقِ آدم، ودخولِ الجنَّة والنَّار، وذلك ممّا كان ويكونُ في يومِ الجمعة، فكان يقرأ في فجرها ما كان ويكون في ذلك اليوم، تذكيراً للأمة بحوادث هذا اليوم، كما كان يقرأ في المجامع العظام كالأعياد والجمعة بسورة (ق) و(واقتربت) و(سبِّح) و(الغاشية).
فصل
وأما الظهر، فكان يُطيل قراءتَها أحياناً، حتى قال أبو سعيد: "كانت صلاةُ الظهر تُقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يأتي أهله، فيتوضأ، ويدرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الركعة الأولى ممّا يطيلُها" رواه مسلم. وكان يقرأ فيها تارة بقدر (ألم تنزيل) وتارة ب (سبح اسم ربك الأعلى) و(الليل إذا يغشى) وتارة ب (السماء ذات البروج) و(السماء والطارق).
وأما العصر، فعلى النصف مِن قراءة صلاة الظهر إذا طالت، وبقدرها إذا قصُرت.
وأما المغرب، فكان هديُه فيها خلافَ عمل الناس اليوم، فإنه صلاها مرة ب(الأعراف) فرَّقها في الركعتين، ومرة ب (الطور) ومرة ب (المرسلات).
قال أبو عمر بن عبد البر: روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قرأ في المغرب ب (المص) وأنه قرأ فيها ب (الصافات) وأنه قرأ فيها ب (حم الدخان) وأنه قرأ فيها ب(سبح اسم ربك الأعلى) وأنه قرأ فيها ب (التين والزيتون) وأنه قرأ فيها ب (المعوِّذتين) وأنه

قرأ فيها ب (المرسلات) وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل قال: وهي كلها آثار صحاح مشهورة. انتهى. وأما المداومة فيها على قراءة قِصار المفصل دائماً، فهو فعلُ مروان بن الحكم، ولهذا أنكر عليه زيدُ بن ثابت، وقال: مَالَكَ تقرأ في المغرب بقصار المفصَّل؟! وقد رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في المغرب بطولى الطُوليين. قال: قلت: وما طُولى الطوليين؟ قال: (الأعراف) وهذا حديث صحيح رواه أهل السنن.
وذكر النَّسائي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قرأ في المغرب بسورة (الأعراف) فرقها في الركعتين.
فالمحافظة فيها على الآية القصيرة، والسورةِ من قِصار المفُصَّل خلافُ السنة، وهو فعل مروان بن الحكم.
وأما العشاء الآخرة، فقرأ فيها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ب (التين والزيتون) ووقَّت لمعاذ فيها ب (الشمس وضحاها) و(سبِّح اسم ربك الأعلى) و(الليل إذا يغشى) ونحوها، وأنكر عليه قراءتَه فيها ب (البقرة) بعدما صلَّى معه، ثم ذهب إلى

بني عمرو بن عوف، فأعادها لهم بعدما مضى من الليل ما شاء الله، وقرأ بهم ب (البقرة) ولهذا قال له: "أفتان أنت يا معاذ" فتعلق النَّقَّارون بهذه الكلمة، ولم يلتفِتوا إلى ما قبلها ولا ما بعدها.
وأما الجمعةُ، فكان يقرأ فيها بسورتي (الجمعة) و(المنافقين ) كَامِلَتَينِ و(سورة سبِّح) و(الغاشية).
وأما الاقتصار على قراءة أواخر السورتين من (يا أيها الذين آمنوا) إلى آخرها، فلم يفعله قطُّ، وهو مخالف لهديه الذي كان يُحافظ عليه.
وأما قراءته في الأعياد، فتارة كان يقرأ سورتي (ق) و(اقتربت) كاملتين، وتارة سورتي (سبِّح) و(الغاشية) وهذا هو الهدي الذي استمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أن لقي اللهَ عز وجل، لم ينسخه شيء.
ولهذا أخذ به خلفاؤه الراشدون من بعده، فقرأ أبو بكر رضي الله عنه في الفجر بسورة (البقرة) حتى سلَّم منها قريباً من طلوع الشمس، فقالوا: يا خليفَة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ كادت الشمسُ تطلعُ، فقال: لو طلَعت لم تجدنا غافلين.
وكان عمر رضي الله عنه يقرأ فيها ب (يوسف) و(النحل) وب (هود) و(بني إسرائيل) ونحوها من السور، ولو كان تطويلُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منسوخاً لم يخفَ على خلفائه الراشدين، وَيَطَّلعْ عليه النَّقَّارون.

وأما الحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه" عن جابر بن سَمُرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في الفجر {ق والقرآنِ المجيد} [ق: 1] وكانت صلاته بعد تخفيفاً فالمراد بقوله "بعدُ" أي: بعد الفجر، أي: إنه كان يطيل قراءة الفجر أكثر من غيرها، وصلاته بعدها تخفيفاً. ويدل على ذلك قولُ أم الفضل وقد سمعت ابن عباس يقرأ و(المرسلات عرفاً) فقالت: يا بني لقد ذَكَّرْتَنِي بقراءة هذه السورة، إنها لآخِرُ ما سمعتُ من رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بها في المغرب فهذا في آخر الأمر.
وأيضاً فإن قوله: وكانت صلاته"بعدُ" غايةٌ قد حذف ما هي مضافة إليه، فلا يجوز إضمارُ ما لا يدل عليه السياقُ، وترك إضمار ما يقتضيه السياقُ، والسياقُ إنما يقتضي أن صلاته بعد الفجر كانت تخفيفاً، ولا يقتضي أن صلاتَه كلَّها بعد ذلك اليوم كانت تخفيفاً، هذا ما لا يدل عليه اللفظ، ولو كان هو المرادَ، لم يخف على خلفائه الراشدين، فيتمسكون بالمنسوخ، ويدعون الناسخ.
وأمّا قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّكُم أَمَّ النَّاسَ، فَلْيُخَفِّفْ" وقول أنس رضي الله عنه: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخَفَّ النَّاسِ صَلاَةً في تَمامٍ فالتخفيف

أمر نسبي يَرْجِحُ إلى ما فعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وواظب عليه، لا إلى شهوة المأمومين، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يأمرهم بأمر، ثم يُخالفه، وقد عَلمَ أن من ورائه الكبيرَ والضعيفَ وذَا الحاجة، فالذي فعله هو التخفيفُ الذي أمرَ به، فإَنه كان يُمكن أن تكون صلاتُه أطولَ منِ ذلك بأضعاف مضاعفة، فهي خفيفةٌ بالنسبة إلى أطول منها، وهديُه الذي كان واظب عليه هو الحاكمُ على كل ما تنازع فيه المتنازعون، ويدل عليه ما رواه النسائي وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسولُ الله يأمرنا بالتخفيف ويؤمُّنا ب (الصافات) فالقراءة ب (الصافات) من التخفيف الذي كان يأمر به، والله أعلم.
فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعين سورة في الصلاة بعينها لا يقرأ إلا بها إلا في الجمعة والعيدين، وأمّا في سائر الصلوات، فقد ذكر أبو داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه أنه قال: مَا منَ المفصَّلِ سورةٌ صغيرةٌ ولا كبيرةٌ إلا وقد سمِعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤمُّ الناسَ بها في اَلصَّلاةِ المَكْتُوبةِ.
وكان من هديه قراءةَ السورة كاملة، وربما قرأها في الركعتين، وربما

قرأ أول السورة. وأما قراءة أواخر السور وأوساطِها، فلم يُحفظ عنه. وأما قراءةُ السورتين في ركعة، فكان يفعله في النافلة، وأما في الفرض، فلم يُحفظ عنه. وأما حديثُ ابن مسعود رضي الله عنه: إني لأعرف النظائِرَ التي كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرُن بينهن السورتين في الركعة (الرحمن) و(النجم) في ركعة و(اقتربت) و(الحاقة) في ركعة و(الطور) و(الذاريات) في ركعة و(إذا وقعت) و(ن) في ركعة الحديث فهذا حكاية فعل لم يُعين محلَّه هل كان في الفرض أو في النفل؟ وهو محتمِل. وأما قراءةُ سورة واحدة في ركعتين معاً، فقلما كان يفعله. وقد ذكر أبو داود عن رجل من جُهينة أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الصبح (إذا زلزلت) في الركعتين كلتيهما، قال: فلا أدري أنسيَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أم قرأ ذلك عمداً.
فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطيلُ الركعة الأولى على الثانية مِن صلاة الصُّبح ومِن كل صلاة، وربما كان يُطيلها حتى لا يسمَعَ وقْعَ قدمٍ، وكان يُطيل صلاة الصبح أكثرَ مِن سائر الصلوات، وهذا لأن قرآن الفجر مشهود، يشهده اللهُ تعالى

وملائكتُه، وقيل: يشهدُه ملائكةُ الليلِ والنهارِ، والقولان مبنيان على أن النزولَ الإِلهي هل يدومُ إلى انقضاء صلاة الصبح، أو إلى طلوع الفجر؟ وقد ورد فيه هذا وهذا.
وأيضاً فإنها لما نقص عددُ ركعاتها، جُعِلَ تطويلُها عوضاً عما نقصته من العدد.
وأيضاً فإنها تكون عقيبَ النوم، والناس مستريحون.
وأيضاً فإنهم لم يأخذوا بَعْدُ في استقبال المعاش، وأسباب الدنيا.
وأيضاً فإنها تكون في وقت تواطأ فيه السمعُ واللِّسان والقلبُ لفراغه وعدمِ تمكن الاشتغال فيه، فَيفهمُ القُرآنَ ويتدبره.
وأيضاً فإنها أساس العمل وأولُه، فأُعطيت فضلاً من الاهتمام بها وتطويلها، وهذه أسرار إنما يعرفها من له التفات إلى أسرار الشريعة ومقاصدها وَحِكَمِهَا، والله المستعان.
فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فرغ من القراءة، سكت بقدر ما يترادُّ إليه نفسُه، ثم رفع يديه كما تقدَّم، وكبَّر راكعاً، ووضع كفَّيه على رُكبتيه كالقابض عليهما، ووتَر يديه، فنحاهما عن جنبيه، وبسط ظهره ومدَّه، واعتدل، ولم يَنْصِبْ رأسه، ولم يَخفِضْه، بل يجعلُه حيالَ ظهره معادِلاً له.
وكان يقول: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ"وتارة يقول مع ذلك، أو

مقتصِراً عليه: "سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي " وكان ركوعُه المعتادُ مقدارَ عشرِ تسبيحات، وسجودُه كذلك. وأما حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: رَمَقْتُ الصلاةَ خَلْفَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان قيامُه فركوعُه فاعتدالُه فسجدتُه، فجلستُه ما بين السجدتين قريباً من السواء. فهذا قد فَهِمَ منه بعضُهم أنه كان يركع بقدر قيامه، ويسجُد بقدره، ويعتدِل كذلك. وفي هذا الفهم شيء، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في الصبح بالمائة آية أو نحوها، وقد تقدم أنه قرأ في المغرب ب (الأعراف) و(الطور) و(المرسلات) ومعلوم أن ركوعه وسجوده لم يكن قدر هذه القراءة، ويدل عليه حديثُ أنس الذي رواه أهل السنن أنه قال: ما صليتُ وراءَ أحد بعدَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشبهَ صلاة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إلا هذا الفتى يعني عمرَ بن عبد العزيز، قال:

فحزرْنَا في ركوعه عشرَ تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات هذا مع قول أنس أنه كان يؤمهم ب (الصافات) فمرادُ البراء - والله أعلم - أن صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت معتدِلة، فكان إذا أطال القيام، أطال الركوع والسجود، وإذا خفف القيام، خفف الركوعَ والسجود، وتارة يجعلُ الركوع والسجود بقدر القيام، ولكن كان يفعَلُ ذلك أحياناً في صلاة الليل وحدها، وفعله أيضاً قريباً من ذلك في صلاة الكسوف، وهديه الغالبُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعديلُ الصلاة وتناسبها.
وكان يقول أيضاً في ركوعه " سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلاَئِكَةِ والرُّوح ". وتارة يقول: " اللهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِك آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِى وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي". وهذا إنما حُفظ عنه في قيام الليل.
ثم كان يرفع رأسه بعد ذلك قائلاً: "سَمعَ اللهُ لِمنْ حَمِدَه" وَيَرْفَع يديه كما تقدم، وروى رفعَ اليدين عنه في هذه المواطن الثلاثة نحوٌ من

ثلاثين نفساً، واتفق على روايتها العشرةُ، ولم يثبت عنه خِلافُ ذلك البتة، بل كان ذلك هديَه دائماً إلى أن فارق الدنيا، ولم يصح عنه حديثُ البراء: ثم لا يعود بل هي من زيادة يزيد بن زياد. فليس تركُ ابنِ مسعود الرفعَ ممّا يُقدَّم على هديه المعلوم، فقد تُركَ من فعل ابن مسعود في الصلاة أشياء ليس مُعَارِضُها مقارباً ولا مدانياً للرفع، فقد ترك مِنْ فعله التطبيق والافتراش في السجود، ووقوفه إماماً بين الاثنين في وسطهما دون التقدُّم عليهما، وصلاته الفرض في البيت بأصحابه بغير أذان ولا إقامة لأجل تأخير الأمراء، وأين الأحاديثُ في خلاف ذلك من الأحاديث التي في الرفع كثرةً وصحة وصراحةً وعملاً، وبالله التوفيق.
وكان دائماً يُقيم صُلبه إذا رفع من الركوع، وبينَ السجدتين، ويقول "لاَ تُجْزِىء صلاةٌ لاَ يُقِيمُ فِيهَا الرَّجُلُ صُلْبَهُ في الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ" ذكره ابن خزيمة في "صحيحه".
وكان إذا استوى قائماً، قال: "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ" وربما قال: "رَبَّنَا

لَكَ الْحَمْدُ"وربما قال: "اللهُمَّ رَبَّنَا لك الْحَمْد"صح ذلك عنه. وأما الجمع بين "اللهُمَّ" و"الواو " فلم يصح.
وكان من هديه إطالةُ هذا الركن بقدر الركوعِ والسجود، فصح عنه أنه كان يقول: "سَمعَ اللهُ لِمن حَمِدَهُ، اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الأَرْض، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُنَا لَكَ عَبْدٌ لاَ مَانعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ".
وصح عنه أنه كان يقول فيه: "اللهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ، وَنَقِّنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِد بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ".

وصح عنه أنه كرر فيه قوله: "لِرَبِّيَ الْحَمْدُ، لِرَبِّيَ الْحَمْدُ" حتى كان بقدر الركوع.
وصحَّ عنه أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع يمكُث حتى يقول القائل: قد نسِيَ من إطَالَتِه لهذا الرُّكن. وذكر مسلم عن أنس رضيَ اللهُ عنه: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قال سَمعَ اللهُ لِمنْ حَمِدَه، قام حتى نقول: قَدْ أَوهَمَ، ُثمَّ يسجُدُ، ثم يَقْعُدُ بين السجدتين حتى نقولَ: قد أوهم.
وصح عنه في صلاة الكُسوف أنه أطال هذا الركنَ بعد الركوع حتى كان قريباً من ركوعه، وكان ركوعُه قريباً من قيامه.
فهدا هديُه المعلوم الذي لا مُعارِض له بوجه.
وأما حديثُ البراء بن عازب: كان ركوعُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسجودُه وبينَ السجدتين، وإذا رَفَعَ رأسه من الركوع - ما خلا القيامَ والقعُودَ - قريباً مِنَ السواء . رواه البخاري فقد تشبَّث به مَن ظن تقصيرَ هذين الركنين، ولا متعلق له، فإن الحديث مصرّح فيه بالتسوية بين هذين الركنين وبين

سائر الأركان، فلو كان القيامُ والقعود المستَثْنَيَيْنِ هو القيامَ بعد الركوع والقعودَ بين السجدتين، لناقض الحديثُ الواحد بعضَه بعضاً، فتعيَّن قطعاً أن يكون المرادُ بالقيام والقعود قيامَ القراءة، وقعود التشهد، ولهذا كان هديُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيهما إطالَتهما على سائر الأركان كما تقدم بيانُه، وهذا بحمد الله واضح، وهُو مما خفي من هدي رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاته على من شاء الله أن يخفى عليه.
قال شيخنا: وتقصيرُ هذين الركنين مما تصرَّف فيه أمراءُ بني أمية في الصلاة، وأحدثُوه فيها، كما أحدثوا فيها تركَ إتمام التكبير، وكما أحدثوا التأخيرَ الشديد، وكما أحدثوا غيرَ ذلك مما يُخالف هديَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورُبِّيَ في ذلك مَنْ رُبَيّ حتى ظن أنه من السنة.
فصل
ثم كان يُكبِّر وَيخِرُّ ساجداً، ولا يرفع يديه وقد روي عنه أنه كان يرفعهما أيضاً، وصححه بعضُ الحفاظ كأبي محمد بن حزم رحمه الله،

وهو وهم، فلا يَصِحُّ ذلك عنه البتة، والذي غرَّه أن الراويَ غلط من قوله: كان يُكبر في كل خفض ورفع إلى قوله: كان يرفع يديه عند كل خفض ورفع، وهو ثقة ولم يفطن لسبب غلط الراوي ووهمه، فصححه. والله أعلم.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُ رُكبتيه قبل يديه، ثمَّ يديه بعدهما، ثم جبهتَه وأنفَه، هذا هو الصحيح الذي رواه شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حُجر: رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد، وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض، رفع يديه قبل ركبتيه، ولم يُرو في فعله ما يُخَالِفُ ذلك.
وأما حديثُ أبي هريرة يرفعه : "إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ، فَلاَ يَبْرُك كَمَا يَبْرُكُ البَعِيرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ ركْبَتَيْهِ" فالحديث - والله أعلم - قد وقع فيه وهم من

بعض الرواة، فإن أوَّله يُخالف آخره، فإنه إذا وَضَع يديه قبل ركبتيه، فقد بَرَكَ كما يبرَك البعير، فإن البعير إنما يضع يديه أولاً، ولما علم أصحابُ هذا القول ذلك، قالوا: ركبتا البعير في يديه، لا في رجليه، فهو إذا برك، وضع ركبتيه أولاً، فهذا هو المنهي عنه، وهو فاسد لوجوه.
أحدها: أن البعير إذا برك، فإنه يضع يديه أولاً، وتبقى رجلاه قائمتين، فإذا نهض، فإنه ينهض برجليه أولاً، وتبقى يداه على الأرض، وهذا هو الذي نهى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،وفعل خلافه. وكان أول ما يقع منه على الأرض الأقربُ منها فالأقربُ، وأول ما يرتفع عن الأرض منها الأعلى فالأعلى.
وكان يضع ركبتيه أولاً، ثم يديه، ثم جبهتَه. وإذا رفع، رفع رأسه أولاً، ثم يديه، ثم ركبتيه، وهذا عكسُ فعل البعير، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى في الصلاة عن التشبه بالحيوانات، فنهى عن بُروك كبُروكِ البعير، والتفات كالتفات الثعلب، وافتراش كافتراش السَّبُع، وإقعاء كإقعاء الكلب،

ونقر كنقر الغراب ورفعِ الأيدي وقت السلام كأذناب الخيل الشُّمْسِ، فهدْيُ المصلي مخالفٌ لهدي الحيوانات.
الثاني: أن قولهم: رُكبتا البعير في يديه كلام لا يُعقل، ولا يعرفه أهل اللغة وإنما الركبة في الرجلين، وإن أطلق على اللتين في يديه اسم الركبة، فعلى سبيل التغليب.

الثالث: أنه لو كان كما قالوه، لقال: فليبرُك كما يبرك البعير، وإن أول ما يمسُّ الأرضَ من البعير يداه. وسِرُ المسألة أنَّ من تأمل بُروك البعير، وعلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بُروك كبروك البعير، علم أن حديث وائل بن حُجر هو الصواب، والله أعلم.
وكان يقع لي أن حديث أبي هريرة كما ذكرنا ممّا انقلب على بعض الرواة متنُه وأصلُه، ولعله: "وليضع ركبتيه قبل يديه" كما انقلب على بعضهم حديثُ ابن عمر "إِنَ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بليل، فكُلُوا واشْرَبُوا حتَّى يُؤَذِّنَ ابنُ أُمِّ مكتوم". فقال: "ابنُ أُمِّ مكتوم يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يُؤذِّن بِلال". وكما انقلب على بعضهم حديثُ "لاَ يَزَالُ يلقى في النَّارِ، فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ... إلى أن قال: وَأَمَّا الجَنَةُ فَيُنْشِىءُ اللهُ لهَا خَلْقاً يُسْكِنُهُم إيَّاهَا" فقال: "وَأَمَّا النَّار فينشىءُ الله لها خلقاً يُسكنهم إِيَّاها" حتى رأيتُ أبا بكر بن أبي شيبة قد رواه كذلك، فقال ابن أبي شيبة: حدثنا محمد بن فضيل،عن عبد الله بن سعيد، عن جدِّه، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَأْ بِرُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيهِ، وَلاَ يَبْرُكْ كَبُرُوكِ الفَحْلِ"

ورواه الأثرم في "سننه" أيضاً عن أبي بكر كذلك. وقد روي عن أبي هريرة عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يُصدِّق ذلك، ويُوافق حديثَ وائل بن حُجر. قال ابن أبي داود: حدثنا يُوسُف بن عدي، حدثنا ابن فضيل هو محمد، عن عبد الله بن سعيد، عن جدِّه، عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه.
وقد روى ابن خزيمة في "صحيحه" من حديث مُصعب بن سعد، عن أبيه قال: كنا نضعُ اليدين قبل الركبتين، فَأُمرنا بالرُّكبتين قبل اليدين وعلى هذا فإن كان حديثُ أبي هريرة محفوظاً، فإنه منسوخ، وهذه طريقةُ صاحب "المغنى" وغيره، ولكنْ للحديث علتان:
إحداهما: أنه من رواية يحيى بن سلمة بن كهيل، وليس ممن يُحتج به، قال النَّسائي: متروك. وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً لا يُحتج به، وقال ابن معين: ليس بشيء.
الثانية: أن المحفوظ من رواية مصعب بن سعد عن أبيه هذا إنما هو قصةُ التطبيق، وقول سعد: كنا نصنع هذا، فأمرنا أن نضع أيدينا على الركب.
وأما قول صاحب "المغني" عن أبي سعيد قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فَأُمِرْنَا أن نضع الركبتين قبل اليدين، فهذا - والله أعلم - وهم في الاسم، وإنما هو عن سعد، وهو أيضاً وهم في المتن كما تقدم، وإنما هو في قصة التطبيق، والله أعلم.

وأما حديث أبي هريرة المتقدم، فقد علله البخاري، والترمذي، والدارقطني. قال البخاري: محمد بن عبد الله بن حسن لا يُتابع عليه، وقال: لا أدري أَسَمعَ من أبي الزناد، أم لا.
وقال الترمذي: غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا ا لوجه.
وقال الدارقطني: تفرد به عبد العزيز الدراوردي، عن محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي، عن أبي الزناد، وقد ذكر النسائي عن قتيبة، حدثنا عبد الله بن نافع، عن محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي، عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يَعْمِدُ أَحَدُكُم في صلاته، فَيَبْرُكُ كما يَبْرُكُ الجَمَلُ " ولم يزد. قال أبو بكر بن أبي داود: وهذه سنة تفرد بها أهلُ المدينة، ولهم فيها إسنادان، هذا أحدهما، والآخر عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قلت: أراد الحديثَ الذي رواه أصبغ بن الفرج، عن الدراوردي، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يضَع يَدَيهِ قَبْلَ رُكبتيه، ويقول:كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل ذلك. رواه الحاكم في "المستدرَك" من طريق محرز بن سلمة عن الدراوردي وقال: على شرط مسلم وقد رواه الحاكمُ مِنْ حديث حفص بن غياث، عن عاصم الأحول، عن أنس قال: رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انحطَّ بالتكبير حتى سَبَقَتْ رُكبتاه يَدَيْهِ قال الحاكم:

على شرطهما، ولا أعلم له علة.
قلت: قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألتُ أبي عن هذا الحديث، فقال: هذا الحديث منكر. انتهى. وإنما أنكره - والله أعلم - لأنه من رواية العلاء بن إسماعيل العطار، عن حفص بن غياث، والعلاء هذا مجهول لا ذكر له في الكتب الستة. فهذه الأحاديث المرفوعة من الجانبين كما ترى.
وأما الآثار المحفوظة عن الصحابة، فالمحفوظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يضع ركبتيه قبل يديه، ذكره عنه عبد الرزاق وابن المنذر، وغيرهما، وهو المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه، ذكره الطحاوى عن فهد عن عمر بن حفص، عن ابيه، عن الأعمش، عن إبراهيمِ، عن أصحاب عبد الله علقمة والأسود قالا: حفظنا عن عمر في صلاته أنه خرَّ بعد ركوعه على ركبتيه كما يَخِرُّ البعير، ووضع ركبتيه قبل يديه، ثم ساق من طريق الحجاج بن أرطاة قال: قال إبراهيم النخعي: حفظ عن عبد الله بن مسعود أن ركبتيه كانتا تقعان على الأرض قبل يديه، وذكر عن أبي مرزوق عن وهب، عن شعبة، عن مغيرة قال: سألت إبراهيم عن الرجل يبدأ بيديه قبل ركبتيه إذا سجد؟ قال: أو يصنع ذلك إلا أحمق أو مجنون!
قال ابن المنذر: وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فممن رأى أن

يضع ركبتيه قبل يديه عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، وبه قال النخعيُّ، ومسلمُ بن يسار، والثوريّ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاق، وأبو حنيفة وأصحابُه، وأهلُ الكوفة.
وقالت طائفة: يضع يديه قبل ركبتيه، أدركنا النَّاس يضعون أيديَهم قبل رُكبهم: قال ابنُ أبي داود: وهو قول أصحاب الحديث.
قلت: وقد روي حديثُ أبي هريرة بلفظ آخر ذكره البيهقي، وهو:"إذا سجد أحدكم، فلا يبرُك كما يبرُك البعيرُ، وليضع يديه على ركبتيه" قال البيهقي: فإن كان محفوظاً، كان دليلاً على أنه يضع يديه قبل ركبتيه عند الإِهواء إلى السجود.
وحديث وائل بن حُجر أولى لوجوه.
أحدها : أنه أثبت من حديث أبي هريرة، قاله الخطابي، وغيره.
الثاني: أن حديث أبي هريرة مضطرب المتن كما تقدم، فمنهم من يقول فيه: وليضع يديه قبل ركبتيه، ومنهم من يقول بالعكس، ومنهم من يقول: وليضع يديه على ركبتيه، ومنهم من يحذف هذه الجملة رأساً.
الثالث : ما تقدم من تعليل البخاري والدارقطني وغيرهما.
الرابع: أنه على تقدير ثبوته قد ادعى فيه جماعة من أهل العلم النسخَ قال ابن المنذر: وقد زعم بعضُ أصحابنا أن وضع اليدين قبل الركبتين

منسوخ، وقد تقدم ذلك.
الخامس: أنه الموافق لنهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بروك كبروك الجمل في الصلاة، بخلاف حديث أبي هريرة.
السادس: أنه الموافق للمنقول عن الصحابة، كعمر بن الخطاب، وابنه، وعبد الله بن مسعود، ولم ينقل عن أحد منهم ما يُوافق حديثَ أبي هريرة إلا عن عمر رضي الله عنه على اختلاف عنه.
السابع: أن له شواهد من حديث ابن عمر وأنس كما تقدم، وليس لحديث أبي هريرة شاهد، فلو تقاوما، لَقُدِّم حديثُ وائل بن حُجر من أجل شواهده، فكيف وحديثُ وائل أقوى كما تقدم.
الثامن: أن أكثر الناس عليه، والقول الآخر إنما يُحفظ عن الأوزاعي ومالك، وأمّا قول ابن أبي داود: إنه قول أهل الحديث، فإنما أراد به بعضهم، وإلا فأحمد والشافعي وإسحاق على خلافه.
التاسع: أنه حديث فيه قصة مَحكية سيقت لحكاية فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو أولى أن يكون محفوظاً، لأن الحديث إذا كان فيه قصة محكية، دلَّ على أنه حفظ.
العاشر: أن الأفعال المحكية فيه كلها ثابتة صحيحة من رواية غيره، فهي أفعال معروفة صحيحة، وهذا واحد منها، فله حكمها، ومعارضُه ليس مقاوماً له، فيتعين ترجيحه، والله أعلم.
وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجُد على جبهته وأنفه دون كُور العِمامة، ولم يثُبت عنه السجودُ على كُور العِمَامَةِ من حديث صحيح ولا حسن، ولكن روى عبد الرزاق في "المصنف" من حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يسجُد على كُور عِمامته، وهو من رواية عبد الله بن مُحَرَّرٍ، وهو متروك وذكره أبو أحمد الزبيري من حديث جابر، ولكنه من رواية عمر بن شَمر عن جابر الجعفي، متروك عن متروك، وقد ذكر أبو داود في المراسيل أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلاً يُصلي في المسجد، فسجد بجبينه، وقد اعتم على جبهته، فحسر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جبهته.
وكان رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجدُ على الأرض كثيراً، وعلى الماء والطين، وعلى الخُمْرَةِ المتَّخذة من خُوص النخل، وعلى الحصير المتَّخذ منه، والفروة المدبوغة. كان إذا سجد، مكَّن جبهته وأنفه من الأرض، ونحَّى يديه عن جنبيه، وجافى بهما حتى يُرى بياضُ إبطيه، ولو شاءت بَهْمَة - وهي الشاة الصغيرة - أن تمُرَّ تحتهما لمرت.
وكان يضع يديه حَذو منكبيه وأُذنيه، وفي "صحيح مسلم" عن البراء أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إِذَا سَجَدْتَ، فَضَعْ كَفَّيْكَ وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ". كان يعتدِل في سجوده، ويستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة.
وكان يبسُط كفيه وأصابعَه، ولا يُفرِّج بينها ولا يقبضها، وفي "صحيح ابن حبان": "كان إذا ركع، فرج أصابعه، فإذا سَجَدَ، ضمَّ أصابعه"

وكان يقول: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى" وأمر به.
وكان يقول: " سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللهُمَّ اغْفِرْ لي ".
وكان يقول: "سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلاَئِكةَ والرُّوحِ".
وكان يقول " سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ".
وكان يقول: "اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لاَ أُحْصي ثَنَاءً عَلَيكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ".
وكان يقول: " اللهُمَّ لَكَ سَجَدتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سجد وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ،تَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقينَ".

وكان يقول: " اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّه وَجِلَّه، وَأَوَّلَه وَآخِرَهُ،وَعَلانِيَتَهُ وَسِرَهُ".
وكان يقول: "اللهُمَّ اغْفِر لِي خَطِيئَتي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي في أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلي، وَخَطَئِي وَعَمدِي، وَكلُّ ذلِكَ عنْدِي، اللهُمَّ اغْفِر لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ إٍلهِي، لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ".
وكان يقول: " اللهُمَّ اجْعَلْ في قَلْبِي نُوراً، وَفِي سَمْعِي نُوراً، وَفِي بَصَرِي نُوراً، وَعَنْ يَمِينِي نوراً، وَعَنْ شِمَالِي نُوراً، وَأَمَامِي نُوراً، وَخَلْفِي نُوراً، وَفَوْقِي نُوراً، وَتَحْتِي نُوراً، وَاجْعَلْ لِي نُوراً".
وأمر بالاجتهاد في الدعاء في السجود وقال: "إِنَّهُ قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ". وهل هذا أمر بأن يُكثر الدعاء في السجود، أو أمر بأن الداعيَ إِذا دعا في محل، فليكن في السجود؟ وفرق بين الأمرين، وأحسنُ ما يحملُ

عليه الحديثُ أن الدعاء نوعان: دعاء ثناءٍ، ودعاءُ مسألة، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُكثر في سجوده من النوعين، والدعاءُ الذي أَمَرَ به في السجود يتناول النوعين.
والاستجابة أيضاً نوعان: استجابةُ دعاءِ الطالب بإعطائه سؤالَه، واستجابةُ دعاء المُثني بالثواب، وبكل واحد من النوعين فُسِّرَ قوله تعالى: {أجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 187] والصحيح أنه يعم النوعين.
فصل
وقد اختلف الناس في القيام والسجود أيُهُمَا أفضلُ؟ فرجحت طائفة القيام لوجوه.
أحدُها: أن ذِكْره أفضلُ الأذكار، فكان ركنُه أفضلَ الأركان.
والثاني: قوله تعالى: {قُومُوا للهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. الثالث: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَفْضَلُ الصَّلاَةِ طُولُ القُنُوتِ".
وقالت طائفة: السجودُ أفضلُ، واحتجت بقولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجدٌ" وبحديث مَعدان بنِ أبي طلحة

قال: لقيتُ ثوبانَ مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلتُ: حدّثني بحديثٍ عسى اللهُ أن ينفعَني به؟ فقال: "عَلَيْكَ بِالسُّجُودِ" فإني سَمِعْتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْجُدُ للَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَ اللهُ لَهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً" قال معدان: ثم لقِيتُ أبا الدرداء، فسألتُه، فقال لِي مثلَ ذلك.وقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِربيعة بنِ كعبٍ الأسلمي وقد سأله مرافقتَه في الجنَّة "أَعنِيِّ عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ".
وأولُ سورة أُنزِلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سورةُ (اقْرَأْ) على الأصح، وختمها بقوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].
وبأن السجود للّه يقع مِن المخلوقات كلِّها علويِّها وسُفليِّها، وبأن الساجد أذلُّ ما يكون لربه وأخضعُ له، وذلك أشرفُ حالات العبد، فلهذا كان أقرب ما يكون من ربِّه في هذه الحالة، وبأن السجودَ هو سرُّ العبودية، فإن العبودية هي الذُّلُّ والخُضوعُ، يقال: طريق معبَّد، أي ذللته الأقدام، ووطأته، وأذلُّ ما يكون العبد وأخضع إذا كان ساجداً.
وقالت طائفة: طولُ القيامِ بالليل أفضلُ، وكثرةُ الركوع والسجود بالنهار أفضلُ، واحتجت هذه الطائفةُ بأن صلاة الليل قد خُصَّت باسم القيام، لقوله تعالى: {قُمِ اللَيْلَ} [المزمل: ا] وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَامَ

رَمَضانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً"، ولهذا يُقال: قيامُ الليل، ولا يقال: قيامُ النهار، قالوا: وهذا كان هديَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،فإنه ما زاد في الليل على إحدى عشرة ركعة، أو ثلاثَ عشرة ركعة.
وكان يُصلي الركعة في بعض الليالي بالبقرة وآل عمران والنساء وأما بالنهار، فلم يُحفظ عنه شيء من ذلك، بل كان يخفف السنن.
وقال شيخنا: الصواب أنهما سواء، والقيامُ أفضلُ بذكره وهو القراءة، والسجودُ أفضلُ بهيئَته، فهيئَةُ السجود أفضلُ مِن هيئَة القيام، وذكرُ القيام أفضلُ من ذكر السجود، وهكذا كان هَدْيُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه كان إذا أطال القيام، أطال الركوعَ والسجود، كما فعل في صلاة الكسوف، وفي صلاة الليل، وكان إذا خَفَفَ القيام، خَفَّفَ الركوعَ والسجود، وكذلك كان يفعلُ في الفرض، كما قاله البراء بن عازب: كان قيامُه وركوعُه وسجُودُه واعتدالُه قريباً من السواء. والله أعلم.

فصل
ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع رأسه مكبِّراً غيرَ رافعٍ يديه، ويرفع من السجود رأسه قبل يديه، ثم يجلِس مفترِشاً، يفرِشُ رجلَه اليُسرى، ويجلس عليها، وَيَنْصِبُ اليمنى. وذكر النَّسائي عن ابن عمر قال: مِن سنة الصلاة أن ينصِب القدم اليمنى، واستقبالُه بأصابعها القبلة، والجلوسُ على اليسرى ولم يحفظ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الموضع جلسة غير هذه.
وكان يضع يديه على فخذيه، ويجعل مِرفقه على فخذه، وطرف يده على رُكبته، ويقبض ثنتين من أصابعه، ويحلِّق حلقة، ثم يرفع أصبعه يدعو بها ويُحرِّكها، هكذا قال وائل بن حُجر عنه.
وأما حديث أبي داود عَنْ عبد الله بن الزبير أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُشير بأصبعه إذا دعا ولا يُحركها فهذه الزيادة في صحتها نظر، وقد ذكر مسلم الحديث بطوله في "صحيحه"عنه، ولم يذكر هذه الزيادة، بل قال: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قَعَدَ في الصلاة، جعل قدمَه اليسرى بين فخذه

وساقه، وفرش قدمه اليُمْنى، ووضع يَدَه اليُسرى على رُكبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بأصبعه.
وأيضاً فليس في حديث أبي داود عنه أن هذا كان في الصلاة.
وأيضاً لو كان في الصلاة، لكان نافياً، وحديث وائل بن حُجر مثبتاً،وهو مقدَّم، وهو حديث صحيح، ذكره أبو حاتم في "صحيحه".
ثم كان يقول: [بين السجدتين]: "اللهُمَّ اغفِرْ لِي وَارْحَمْنِي واجْبُرني وَاهْدِني، وَارْزُقْنِي" هكذا ذكره ابن عباس رضي الله عنهما عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكر حذيفة أنه كان يقول: "رَبِّ اغْفِرْ لي، رَبِّ اغفِرْ لِي".
وكان هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إطالةَ هذا الركن بقدر السجود، وهكذا الثابتُ عنه في جميع الأحاديث، وفي "الصحيح" عن أنس رضي الله عنه: كانَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقعُد بين السجدتين حتى نقول: قَدْ أَوْهَمَ وهذه السنةُ تركها أكثرُ الناس مِن بعد انقراض عصر الصحابة، ولهذا قال ثابت: وكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، يمكُث بين السجدتين حتى نقول: قد

نسي، أوقد أوهم.
وأما من حكَّم السنة ولم يلتفت إلى ما خالفها، فإنه لا يعبأ بما خالف هذا الهديَ.
فصل
ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهض على صدور قدميه وركبتيه معتمِداً على فخذيه كما ذكر عنه: وائل وأبو هريرة، ولا يعتمِد على الأرض بيديه وقد ذكر عنه مالك بن الحُويرث أنه كان لا ينهضُ حتى يستوي جالسا. وهذه هي التي تُسمى جلسة الاستراحة.

واختلف الفقهاء فيها هل هي من سنن الصلاة، فيستحب لكل أحد أن يفعلها، أو ليست من السنن، وإنما يفعلُها من احتاج إليها؟ على قولين هما روايتان عن أحمد رحمه الله. قال الخلال: رجع أحمد إلى حديث مالك بن الحويرث في جلسة الاستراحة، وقال: أخبرني يُوسف بن موسى، أن أبا أُمامة سئلَ عن النهوض، فقال: على صُدور القدمين على حديث رفاعة. وفي حديث ابن عجلان ما يدلُّ على أنه كان ينهض على صدور قدميه، وقد روي عن عدة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسائر من وصف صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يذكر هذه الجلسة، وإنما ذكرت في حديث أبي حُميد، ومالك بن الحويرث. ولو كان هديُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلَها دائماً، لذكرها كلُّ من وصف صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومجردُ فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها لا يدلُّ على أنها من سنن الصلاة، إلا إذا علِمَ أنه فعلها على أنها سنَّة يُقتدى به فيها، وأما إذا قُدِّر أنه فعلها للحاجة، لم يدل على كونها سنة من سنن الصلاة، فهذا من تحقيق المَنَاط في هذه المسألة.
وكان إذا نهض، افتتح القراءة، ولم يسكت كما كان يسكُت عند افتتاح الصلاة، فاختلف الفقهاء: هل هذا موضع استعاذة أم لا بعد اتفاقهم على أنه ليس موضعَ استفتاح؟ وفي ذلك قولان هما روايتان عن أحمد،

وقد بناهما بعض أصحابه على أن قراءة الصلاة هل هي قراءة واحدة؟ فيكفي فيها استعاذة واحدة، أو قراءةُ كلِّ ركعة مستقلة برأسها. ولا نزاع بينهم أن الاستفتاح لمجموع الصلاة، والاكتفاء باستعاذة واحدة أظهر، للحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين) ولم يسكت وإنما يكفي استعاذة واحدة، لأنه لم يتخلل القراءتين سكوتٌ، بل تخللهما ذكر، فهي كالقراءة الواحدة إذا تخللها حمدُ اللهِ، أو تسبيح، أو تهليل، أو صلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحو ذلك.
وكان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يصلي الثانية كالأولى سواء، إلا في أربعة أشياء: السكوت، والاستفتاح، وتكبيرة الإِحرام، وتطويلها كالأولى، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يستفتحُ، ولا يسكتُ، ولا يُكبر للإِحرام فيها، ويقصرها عن الأولى، فتكون الأولى أطولَ منها في كل صلاة كما تقدم.
فإذا جلس للتشهد، وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بأصبعه السبابة، وكان لا ينصِبُها نصباً، ولا يُنيمها،بل يَحنيها شيئاً، ويحركها شيئاً، كما تقدم في حديث وائل بن حُجر، وكان يقبِض أصبعين وهما الخِنصر والبِنصر، ويُحلِّق حلقة وهي الوسطى مع الإِبهام ويرفع السبابة يدعو بها، ويرمي ببصره إليها، ويبسُط الكف اليسرى على الفخذ اليسرى، ويتحامل عليها.
وأما صفة جلوسه، فكما تقدم بين السجدتين سواء، يجلس على رجله اليُسرى، وينصِب اليمنى. ولم يُرو عنه في هذه الجلسة غير هذه الصفة.

وأما حديثُ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه الذي رواه مسلم "صحيحه" أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان إذا قَعَد في الصلاة، جعل قَدَمَه اليُسرى بين فخذه وساقه، وفرش قدمه اليمنى فهذا في التَّشهد الأخير كما يأتي، وهو أحدُ الصفتين اللتين رُويتا عنه، ففي "الصحيحين" مِن حديث أبي حُميد في صفة صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فإذَا جلس في الركعتين، جَلَس على رِجله اليُسرى، ونصَب الأخرى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة، قدَّم رجله اليسرى، وَنصبَ اليمنى، وَقَعَد على مقعدته" فذكر أبو حُميد أنه كان ينصِب اليمنى. وذكر ابن الزبير أنه كان يفرشها، ولم يقل أحد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن هذه صفة جلوسه في التشهد الأول، ولا أعلم أحداً قال به، بل مِن الناس من قال: يتورَّك في التشهدين، وهذا مذهب مالك رحمه الله،ومِنهم من قال: يفترش فيهما، فينصب اليمنى، ويفترش اليُسرى، ويجلس عليها، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، ومنهم من قال يتورَّك في كل تشهد يليه السلام، ويفترش في غيره، وهو قول الشافعي رحمه الله، ومنهم من قال يتورَّك في كلِّ صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما، فرقاً بين الجلوسين، وهو قول الإِمام أحمد رحمه الله. ومعنى حديث ابن الزبير رضي الله عنه أنه فرش قدمه اليمنى: أنه كان يجلس في هذا الجلوس على مقعدته، فتكون قدمه اليمنى مفروشةً، وقدمُه اليُسرى بين فخذه وساقه، ومقعدته على الأرض، فوقع الاختلاف في قدمه اليمنى في هذا الجلوس: هل كانت مفروشة أو منصوبة؟ وهذا - والله أعلم - ليس اختلافاً في الحقيقة، فإنه كان لا يجلس على قدمه، بل يخرجها عن يمينه، فتكون بين المنصوبة والمفروشة، فإنها تكون

على باطنها الأيمن، فهي مفروشة بمعنى أنه ليس ناصباً لها، جالساً على عقبه، ومنصوبة بمعنى أنه ليس جالساً على باطنها وظهرها إلى الأرض، فصح قول أبي حُميد ومن معه، وقول عبد الله بن الزبير، أو يقال: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَفْعَلُ هذا وهذا، فكان ينصِبُ قدمَه، وربما فرشها أحياناً، وهذا أروحُ لها. والله أعلم.
ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتشهد دائماً في هذه الجلسة، وَيُعَلِّم أصحابه أن يقولوا: "التَّحِيَّاتُ للَّهِ وَالصلَواتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَد أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه". وقد ذكر النسائي من حديث أبي الزبير عن جابر قال: كان رسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعلِّمنا التشهد، كما يُعلمنا السورةَ من القرآن: "بِسْمِ اللهِ، وَبِاللهِ، التَّحِيَّاتُ لِلهِ، وَالصلَواتُ، وَالطَّيِّبَاتُ، السلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبَّيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِيْنَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِله إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه، أَسْأَلُ اللهَ الجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِاللهِ مِنْ النَّار".
ولم تجىء التسميةُ في أول التشهد إلا في هذا الحديث، وله علة غيرُ

عنعنة أبي الزبير.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخفِّف هذا التشهد جداً حتى كأنه على الرَّضْفِ -وهي الحجارة المحماة- ولم يُنقل عنه في حديث قطُّ أنه صلى عليه وعلى آله في هذا التشهد، ولا كان أيضاً يستعيذُ فيه مِن عذاب القبر وعذابِ النَّار، وفِتنة المحيا والممات، وفِتنةِ المسيح الدَّجال، ومن استحبَّ ذلك، فإنما فهمه من عمومات وإطلاقات قد صح تبيينُ موضعها، وتقييدُها بالتشهد الأخير.
ثم كان ينهض مكبِّراً على صدور قدميه وعلى ركبتيه معتمداً على فخذه كما تقدم، وقد ذكر مسلم في "صحيحه" من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرفَع يديه في هذا الموضع، وهي في بعض طرق البخاري أيضاً، على أنَّ هذه الزيادة ليست متفقاً عليها في حديث عبد الله بن عمر، فأكثر رواته لا يذكُرونها، وقد جاءَ ذِكرها مصرحاً به في حديث أبي حُميد الساعدي قال: كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة، كبَّر، ثُمَّ رفع يَدَيْهِ حتى يُحاذِيَ بهما مَنْكِبَيْهِ، وَيُقِيمُ كُلَّ عُضوٍ في موضعه، ثم يَقْرَأ، ثم يرفع يديه حتى يُحاذِيَ بهما مَنْكِبَيْهِ، ثم يركعُ ويضَعُ راحتيه على رُكبتيه معتدِلاً لا يُصوِّبُ رأسه ولا يُقْنعُ به، ثُمَّ يقولُ:

سَمعَ اللهُ لِمنْ حَمِدَهُ، وَيَرفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بهما مَنْكِبَيْهِ، حتَّى يَقَرَّ كُلُّ عَظمٍ إلى مَوْضِعِه، ثم يَهْوي إلى الأرْض، وَيُجَافي يَدَيْهِ عَنْ جَنْبيْهِ ثم يَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَيَثْنِي رِجْلَه، فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا، ويَفتَحُ أَصَابع رِجْلَيْهِ إذا سَجَد، ثم يُكَبِّرُ، وَيَجْلِسُ عَلَى رِجْلِهِ اليُسرى حتى. يَريِحَ كُلُّ عظمٍ إلى مَوضِعِه، ثُمَّ يقُومُ فيصنَعُ في الأخرى مِثْلَ ذَلِكَ، ثم إذَا قَامَ مِنَ الرَّكَعَتيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ كما يَصْنَعُ عِنْدَ افتتاحِ الصلاة، ثم يُصَلِّي بَقيةَ صَلاَتِه هَكَذَا، حتى إذا كَانَتِ السَّجْدَةُ التي فيها التسليمُ، أخرج رِجليه، وَجَلَسَ عَلَى شِقِّه الأيْسَرِ مُتَورِّك اً. هذا سياق أبي حاتم في "صحيحه" وهو في "صحيح مسلم" أيضاً، وقد ذكره الترمذي مصححاً له من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كانَ يرفع يديه في هذه المواطن أيضاً.
ثم كان يقرأ الفاتحة وحدها، ولم يثبت عنه أنه قرأ في الركعتين الأخريين بعد الفاتحة شيئاً، وقد ذهب الشافعي في أحد قوليه وغيره إلى استحباب القراءة بما زاد على الفاتحة في الأخريين، واحتج لهذا القولِ بحديث أبي سعيد الذي في "الصحيح": حزرْنَا قيامَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظهر في الركعتين الأوليين قَدْر قِراءة (ألم تنزيلَ السَّجدة)، وحزرنا قيامَه في الركعتين الأخريين قَدْرَ النصف مِن ذلك، وحزرنا قيامَه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الركعتين الأُخْرَيَيْنِ من الظهر، وفي الأُخريين من العصر على النصف من ذلك.

وحديث أبي قتادة المتفق عليه ظاهرٌ في الاقتصار على فاتحة الكتاب في الركعتين الأُخريين.
قال أبو قتادة رضي الله عنه: وكانَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي بنا، فيقرأ في الظُّهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسُورتين، ويُسمعنا الآية أحياناً. زاد مسلم: ويقرأُ في الأُخريين بفاتحة الكتاب، والحديثان غير صريحين في محل النزاع. وأما حديث أبي سعيد، فإنما هو حَزر منهم وتخمين، ليس إخباراً عن تفسير نفسِ فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأما حديث أبي قتادة، فيمكن أن يُراد به أنه كان يقتصر على الفاتحة، وأن يُراد به أنه لم يكن يُخِلُّ بها في الركعتين الأُخريين، بل كان يقرؤها فيهما، كما كان يقرؤها في الأوليين، فكان يقرأ الفاتحة في كل ركعة، وإن كان حديث أبي قتادة في الاقتصار أظهر، فإنه في معرض التقسيم، فإذا قال: كان يقرأ في الأوليين بالفاتحة والسورة، وفي الأُخريين بالفاتحة، كان كالتصريح في اختصاص كل قسم بما ذكر فيه، وعلى هذا، فيمكن أن يُقال: إن هذا أكثر فعله، وربما قرأ في الركعتين الأُخريين بشيء فوق الفاتحة، كما دل عليه حديثُ أبي سعيد، وهذا كما أن هديَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان تطويلَ القراءة في الفجر، وكان يخففها أحياناً، وتخفيف القراءة في المغرب، وكان يُطيلها أحياناً، وترك القنوت في الفجر، وكان يقنت فيها أحياناً، والإِسرار في الظهر والعصر بالقراءة، وكان يُسمع

الصحابة الآية فيها أحياناً،وترك الجهر بالبسملة، وكان يجهر بها أحياناً.
والمقصود أنه كان يفعل في الصلاة شيئاً أحياناً لِعارض لم يكن من فعله الراتب، ومن هذا لما بعث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فارساً طليعة، ثم قام إلى الصلاة، وجعل يلتفِتُ في الصلاة إلى الشِّعْب الذي يجيء منه الطليعة، ولم يكن من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الالتفاتُ في الصلاة، وفي "صحيح البخاريَ" عن عائشة رضي الله عنها قالت سألتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الالتفاتِ في الصلاة؟ فقال: "هُوَ اخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صلاَةِ الْعَبْدِ".
وفي الترمذي من حديث سعيد بن المسيب عن أنس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالالْتِفَاتَ في الصَّلاَة، فَإِنَّ الالتفاتَ في الصَّلاةِ هَلَكَةٌ، فإن كان وَلا بُدَّ ففي التطوُّعِ، لا في الفرض " ولكن

للحديث علتان:
إحداهما: إن رواية سعيد عن أنس لا تعرف.
الثانية: إن في طريقه علي بن زيد بن جدعان، وقد ذكر البزار في مسنده من حديث يُوسف بن عبد الله بن سلام عن أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا صَلاة لِلملتفت". فأما حديث ابن عباس: "إن رسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يلحظ في الصلاة يميناً وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهره" فهذا حديث لا يثبُت قال الترمذي فيه: حديث غريب. ولم يزد.
وقال الخلال: أخبرني الميموني أن أبا عبد الله قيل له: إن بعض الناس أسند أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كان يلاحظ في الصلاة. فأنكر ذلك إنكاراً شديداً، حتى تغير وجهُه، وتغير لونُه، وتحرك بدنُه، ورأيتُه في حال ما رأيتُه في حالٍ قطُّ أسوأ منها، وقال. النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كان يُلاحظ في الصلاة؟! يعني أنه أنكر ذلك، وأحسبه قال: ليس له إسناد، وقال: من روى هذا؟! إنما هذا من سعيد بن المسيب، ثم قال لي بعض أصحابنا: إن

أبا عبد الله وَهَّنَ حديثَ سعيد هذا، وضعف إسناده، وقال: إنما هو عن رجل عن سعيد، وقال عبد الله بن أحمد: حدثت أبي بحديث حسان بن إبراهيم عن عبد الملك الكوفي قال: سمعت العلاء قال: سمعت مكحولاً يحدِّث عن أبي أمامة وواثلة: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا قام إلى الصلاة لم يلتفت يميناً ولا شمالاً، ورَمَى ببصره في موضع سجوده، فأنكره جداً، وقال: اضِرب عليه. فأحمد رحمه الله أنكر هذا وهذا، وكان إنكارُه للأول أشد، لأنه باطل سنداً ومتناً.
والثاني: إنما أنكر سنده، وإلا فمتنه غير منكر، والله أعلم.
ولو ثبت الأول، لكان حكاية فعل فَعَلَهُ، لعله كان لمصلحة تتعلق بالصلاة ككلامه عليه السلام هو وأبو بكر وعمر، وذو اليدين في الصلاة لمصلحتها، أو لمصلحة المسلمين، كالحديث الذي رواه أبو داود عن أبي كبشة السَّلُولي عن سَهْلِ بن الحنظلية قال: ثُوبَ بالصلاة يعني صلاةَ الصبح، فجعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يصلي وهو يلتفِتُ إلى الشِّعبِ. قال أبو داود: يعني وكان أرسل فارساً إلى الشِّعب من الليل يَحْرُسُ فهذا الالتفات من الاشتغال بالجهاد في الصلاة وهو يدخل في مداخل العبادات، كصلاة الخوف، وقريبٌ منه قولُ عمر: إني لأجهِّز جيشي وأنا في الصلاة. فهذا جمع بين الجهاد والصلاة. ونظيره التفكر في معاني القرآن، واستخراجُ كنوز العلم منه في الصلاة، فهذا جمعٌ بين الصلاة والعلم، فهذا لون، والتفاتُ الغافلين الَّلاهين وأفكارهم لون آَخر، وبالله التوفيق.
فهديه الراتب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إطالةُ الركعتين الأوليين من الرُّباعية على الأُخريين،

وإطالة الأولى من الأوليين على الثانية، ولهذا قال سعد لعمر: أما أنا فأطيلُ في الأوليين، وأحذف في الأُخريين، ولا آلُو أن أقتديَ بصلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكذلك كان هديُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إطالَة صلاة الفجر على سائر الصلوات، كما تقدم. قالت عائشة رضي الله عنها: فرض اللهُ الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،زِيد في صلاة الحضر، إلا الفجر، فإنها أُقِرَّت على حالها من أجل طول القراءة، والمغرب، لأنها وتر النهار. رواه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" وأصله في "صحيح البخاري"، وهذا كان هديَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سائر صلاته إطالةُ أولها على آخرها، كما فعل في الكسوف، وفي قيام الليل لما صلَّى ركعتين طويلتين، ثم ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، حتى أتم صلاته. ولا يُناقض هذا افتتاحَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الليل بركعتين خفيفتين، وأمره بذلك، لأن هاتين الركعتين مفتاحُ قيام الليل، فهما بمنزلة سنة الفجر وغيرها.
وكذلك الركعتان اللتان كان يُصليهما أحياناً بعد وتره، تارة جالِساً، وتارة قائماً، مع قوله:

"اجْعَلُوا آخرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْراً" فإن هاتين الركعتين لا تُنافيان هذا الأمر، كما أن المغرب وترُ للنهار، وصلاةُ السنة شفعاً بعدها لا يُخرجها عن كونها وتراً للنهار، وكذلك الوترُ لمَا كان عبادة مستقلة، وهو وتر الليل، كانت الركعتان بعده جاريتين مجرى سنة المغرب، من المغرب، ولما كان المغرب فرضاً، كانت محافظته عليه السلام على سنتها أكثر من محافظته على سنة الوتر، وهذا على أصل من يقول بوجوب الوتر ظاهرٌ جداً، وسيأتي مزيد كلام في هاتين الركعتين إن شاء الله تعالى، وهي مسألة شريفة لعلك لا تراها في مصنف، وبالله التوفيق.
فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جلس في التشهد الأخيرِ، جلس متورِّكاً، وكان يُفضي بوركه إلى الأرض، ويُخرج قدمه من ناحية واحدة.
فهذا أحد الوجوه الثلاثة التي رُويت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التورُّكِ. ذكره أبو داود في حديث أبي حُميد الساعدي من طريق عبد الله بن لهيعة وقد ذكر أبو حاتم في "صحيحه" هذه الصفة من حديث أبي حميد الساعدي من

غير طريق ابن لهيعة، وقد تقدم حديثه.
الوجه الثاني: ذكره البخاري في "صحيحه" من حديث أبي حميد أيضاً قال: وإذا جلس في الرَّكعة الآخرة، قَدَّم رجله اليُسرى ونصب اليمنى، وقعد على مقعدته فهذا هو الموافق الأول في الجلوس على الوَرِك، وفيه زيادة وصف في هيئة القَدَمَين لم تتعرض الرواية الأولى لها.
الوجه الثالث: ما ذكره مسلم في "صحيحه" من حديث عبد الله بن الزبير: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجعل قدمه اليُسرى بين فخذه وساقه، ويفرشُ قدمه اليمنى، وهذه هي الصفة التي اختارها أبو القاسم الخِرَقِي في "مختصره" وهذا مخالف للصفتين الأوليين في إخراج اليسرى من جانبه الأيمن، وفي نصب اليُمنى، ولعله كان يفعل هذا تارة، وهذا تارة، وهذا أظهر.

ويحتمِل أن يكون من اختلاف الرواة، ولم يُذكر عنه عليه السلام هذا التوركُ إلا في التشهد الذي يليه السلام. قال الإِمام أحمد ومن وافقه: هذا مخصوصٌ بالصلاة التي فيها تشهدان، وهذا التورك فيها جُعِل فرقاً بين الجلوس في التشهد الأول الذي يُسن تخفيفه، فيكون الجالس فيه متهيئاً للقيام، وبين الجلوس في التشهد الثاني الذي يكون الجالس فيه مُطمئناً.
وأيضاً فتكونُ هيئة الجلوسين فارقة بين التشهدين،مذكرة للمصلي حاله. فيهما.
وأيضاً فإن أبا حُميد إنما ذكر هذه الصفة عنه في الجلسة التي في التشهد الثاني، فإنه ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول، وأنه كان يجلس مفترشاً، ثم قال: "وإذا جلس في الركعة الآخرة" وفي لفظ: "فإذا جلس في الركعة الرابعة".
وأما قوله في بعض ألفاظه: حتى إذا كانت الجلسة التي فيها التسليمُ، أخرج رجله اليُسرى، وجلس على شقه متورِّكاً، فهذا قد يحتج به من يرى التورك يُشرع في كل تشهد يليه السلام، فيتورك في الثانية، وهو قول الشافعي رحمه الله، وليس بصريح في الدِّلالة، بل سياقُ الحديث يدل على أن ذلك إنما كان في التشهد،الذي يليه السلام من الرباعية والثلاثية، فإنه ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول وقيامه منه، ثم قال: "حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليمُ، جلس متورِّكاً" فهذا السياق ظاهر في اختصاص هذا الجلوس بالتشهد الثاني.

فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جَلَس في التشهُد، وضع يدَه اليمنى على فخذِه اليمنى، وضمَ أصابعه الثلاث، ونصَب السبابة. وفي لفظ: وقبض أصابعه الثلاث، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى. ذكره مسلم عن ابن عمر.
وقال وائِل بن حُجر: "جعل حَدَّ مِرْفَقِه الأيمن على فَخذِه اليمنى، ثم قبض ثنتين من أصابعه، وحلَّق حلقة، ثم رفع أصبعه فرأيته يُحركها يدعُو بها" وهو في "السنن".
وفي حديث ابن عمر في "صحيح مسلم" "عَقَدَ ثَلاثَةَ وَخَمسِينَ".
وهذه الرواياتُ كلُّها واحدة، فإن من قال: قبض أصابعه الثلاث، أراد به: أن الوسطى كانت مضمومة لم تكن منشورة كالسبابة، ومن قال: قبض ثنتين من أصابعه، أراد: أن الوسطى لم تكن مقبوضة مع البنصر، بل الخنصر والبنصر متساويتان في القبض دون الوسطى، وقد صرَّح بذلك من قال: وعقد ثلاثة وخمسين، فإن الوسطى في هذا العقد تكونُ مضمومة، ولا تكون مقبوضة مع البنصر.

وقد استشكل كثير من الفضلاء هذا، إذ عقدُ ثلاث وخمسين لا يُلائِم واحدة من الصفتين المذكورتين، فإن الخنصر لا بد أن تركب البنصر في هذا العقد.
وقد أجاب عن هذا بعضُ الفضلاء، بأن الثلاثة لها صفتان في هذا العقد: قديمة، وهي التي ذكرت في حديث ابن عمر: تكون فيها الأصابع الثلاث مضمومة مع تحليق الإِبهام مع الوسطى، وحديثة، وهي المعروفة اليوم بين أهل الحساب، والله أعلم.
وكان يبسُط ذراعه على فخذه ولا يجافيها، فيكون حد مرفقه عند آخر فخذه، وأما اليُسرى، فممدودة الأصابع على الفخذ اليُسرى.
وكان يستقبل بأصابعه القبلة في رفع يديه، في ركوعه، وفي سجوده، وفي تشهده، ويستقبل أيضاً بأصابع رجليه القبلة في سجوده. وكان يقول في كل ركعتين: التحيات.
وأما المواضع التي كان يدعو فيها في الصلاة، فسبعة مواطن.
أحدُها: بعد تكبيرة الإِحرام في محل الاستفتاح.
الثاني: قبل الركوع وبعد الفراغ من القراءة في الوتر والقنوت العارض في الصبح قبل الركوع إن صح ذلك، فإن فيه نظراً. الثالث: بعد الاعتدال من الركوع، كما ثبت ذلك في "صحيح مسلم" من حديث عبد الله بن أبي أوفى: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رفع رأسه من الركوع قال: "سَمعَ الله لمِنْ حَمِدَهُ، اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ،

وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيءٍ بَعْدُ، اللهُمَّ طَهِّرنِي بِالثَّلجِ وَالبَرَدِ، وَالمَاءِ البَارِدِ، اللهُمَّ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الْوَسَخِ".
الرَّابع : في ركوعه كان يقول: "سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللهمَّ اغْفِرْ لِي".
الخامس : في سجوده، وكان فيه غالب دعائه.
السادس: بين السجدتين.
السابع: بعد التشهد وقبل السلام، وبذلك أمر في حديث أبي هريرة، وحديث فَضَالة بن عبيد وأمر أيضاً بالدعاء في السجود.
وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين، فلم يكن ذلك مِن هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصلاً، ولا روي عنه بإسناد صحيح، ولا حسن.
وأما تخصيص ذلك بصلاتي الفجر والعصر، فلم يفعل ذلك هو ولا أحدٌ من خلفائه، ولا أرشد إليه أُمّته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضاً من السنَّة بعدهما، والله أعلم. وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلَها فيها،

وأمر بها فيها، وهذا هو اللائق بحال المصلي، فإنه مقبل على ربه، يناجيه ما دام في الصلاة، فإذا سلَّم منها، انقطعت تلك المناجاة، وزال ذلك الموقف بين يديه والقرب منه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه، والإِقبال عليه، ثم يسأله إذا انصرف عنه؟! ولا ريب أن عكس هذا الحال هو الأولى بالمصلي، إلا أن ها هنا نكتة لطيفة، وهو أن المصلي إذا فرغ من صلاته، وذكر الله وهلَّله وسبَّحه وَحَمِدَه وكبَّره بالأذكار المشروعة عقيب الصلاة، استحب له أن يُصلي على النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك، ويدعو بما شاء، ويكون دعاؤه عقيبَ هذه العبادة الثانية، لا لكونه دبر الصلاة، فإن كل من ذكر الله، وَحَمِدَه، وأثنى عليه، وصلى على، رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استحب له الدعاءُ عقيبَ ذلك، كما في حديث فَضالة بن عبيد "إِذا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبدأْ بِحَمْدِ اللهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيصلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لِيَدْعُ بِمَا شَاءَ" قال الترمذي: حديث صحيح.
فصل
ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسلم عن يمينه: السلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ الله، وَعَنْ يساره كذلك. هذا كَانَ فِعله الراتب رواه عنه خمسةَ عشر صحابياً، وهم: عبد الله بن مسعود، وسعدُ بن أبي وقاص، وسهلُ بن سعد الساعدي، ووائل بن حُجر، وأبو موسى الأشعري، وحُذيفة بن اليمان، وعمَّار بن ياسر، وعبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأبو مالك الأشعري، وطلق بن علي، وأوس بن أوس،وأبو رمثة، وعدي بن عميرة،رضي

الله عنهم.
وقد روى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يُسلِّم تسليمة واحدة تلقاء وجهه ولكن لم يثبت عنه ذلك مِن وجه صحيح، وأجودُ ما فيه حديثُ عائشة رضي الله عنها أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كان يُسلم تسليمةً واحدة: السلامُ عليكم يرفع بها صوته حتى يُوقِظَنا، هو حديث معلول، وهو في السنن، لكنه كان في قيام الليل والذين رَوَوا عنه التسليمتين رَوَوْا ما شاهدوه في الفرض والنفل،على أن حديثَ عائشة ليس صريحاً في الاقتصار على التسليمة الواحدة، بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة يُوقظهم بها، ولم تنف الأخرى، بل سكتت عنها، وليس سكوتُها عنها مقدماً على رواية من حفظها وضبطها، وهم أكثر عدداً، وأحاديثهم أصحُّ، وكثير من أحاديثهم صحيح، والباقي حسان.
قال أبو عمر بن عبد البر: روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يُسلم تسليمة واحدة مِن حديث سعد بن أبي وقاص، ومن حديث عائشة، ومن حديث أنس، إلا أنها معلولة، ولا يصححها أهلُ العلم بالحديث، ثم ذكر علة حديث سعد: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُسلم في الصلاة تسليمة واحدة. قال:

وهذا وهم وغلط، وإنما الحديث: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسلم عن يمينه وعنْ يساره،ثم ساق الحديثَ مِن طريق ابن المبارك، عن مصعب بن ثابت، عن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: رأيتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسلم عن يمينه وعن شِماله حتى كأَنِّي أنظر إلى صفحة خده، فقال الزهريُّ: ما سمِعنا هذا من حديثِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له إسماعيل بن محمد: أكُلَّ حديثِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سمعتَه؟ قال: لا، قال: فنِصفَه؟ قال: لا، قال: فاجْعَلَ هذا مِن النصف الذي لم تَسْمَعْ. قال: وأما حديثُ عائشة رضي الله عنها: عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: كانِّ يسلم تسليمةً واحدة، فلم يرفعه أحد إلا زهير بن محمد وحده عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رواه عنه عمرو بن أبي سلمة وغيره، وزهير بن محمد عند الجميع، كثير الخطأ لا يحتج به، وذكر ليحيى بن معين هذا الحديث، فقال: حديث عمرو بن أبي سلمة وزهير ضعيفان، لا حجة فيهما قال: وأما حديث أنس، فلم يأت إلا من طريق أيوب السختياني عن أنس، ولم يسمع أيوب من أنس عندهم شيئاً، قال: وقد روي مرسلاً عن الحسن أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر

رضي الله عنهما كانوا يُسلمون تسلمية واحدة، وليس مع القائلين بالتسليمة غير عمل أهل المدينة، قالوا: وهو عمل قد توارثوه كابراً عن كابر، ومثله يصح الاحتجاجُ به، لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مراراً، وهذه طريقةٌ قد خالفهم فيها سائرُ الفقهاءِ، والصوابُ معهم، والسننُ الثابتة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تُدفع ولا تُرد بعمل أهل بلد كائناً من كان، وقد أحدث الأُمراءُ بالمدينة وغيرِها في الصلاة أموراً استمر عليها العملُ، ولم يُلْتَفَتْ إلى استمراره وعملُ أهل المدينة الذي يحتج به مَا كان في زمن الخلفاء الراشدين، وأما عملُهم بعد موتهم، وبعد انقراض عصر مَنْ كان بها في الصحابة، فلا فرق بينهم وبين عمل غيرهم، والسنة تحكُم بين الناسِ، لا عملُ أحد بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفائه، وبالله التوفيق.
فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو في صلاته فيقول: "اللهُمَّ إنِّي أَعوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَأَعُوذُ بكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْةَ المَحْيَا

وَالمَمَاتِ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ ".
وكان يقول في صلاتِه أيضاً: "اللهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبي، وَوَسِّعْ لِي فِي دَارِي، وَبَارِكْ لِي فِيمَا رَزَقْتَنِي".
وكان يقول: "اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمرِ، وَالعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْباً سَلِيماً، وَلِسَاناً صَادِقاً، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ ".

وكان يقول في سجوده "رَبِّ أعْطِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا ".وقد تقدم ذِكر بعض ما كان يقول في ركوعه وسجوده وجلوسه واعتداله في الركوع.
فصل
والمحفوظ في أدعيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة كلِّها بلفظ الإِفراد، كقوله: "رَبِّ اغْفِر لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي"، وسائر الأدعية المحفوظة عنه، ومنها

قولُه في دعاء الاستفتاح: "اللهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالماءِ وَالبَرَدِ، اللهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ" الحديث.
وروى الإِمام أحمد رحمه الله وأهل "السنن" من حديث ثوبان عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ يَؤُمُّ عَبْدٌ قَوْماً فَيَخُصُّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دونهم، فَإِنْ فَعَل، فَقَدْ خَانَهُم" قال ابن خزيمة في "صحيحه": وقد ذكر حديث "اللهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبين. خَطَايَايَ"... الحديث قال: في هذا دليلٌ على رد الحديث الموضوع "لاَ يؤم عَبْدٌ قَوْماً فَيَخصُّ نَفْسَه بِدَعْوَةٍ دُونَهُم، فَإنْ فَعَلَ فَقَد خَانَهُمْ" وسمعتُ شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديثُ عندي في الدعاء الذي يدعو به الإِمامُ وللمأمومين، ويشترِكون فيه كدعاء القنوت ونحوه والله أعلم.

فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام في الصلاة، طأطأ رأسَه، ذكره الإِمام أحمد رحمه الله وكان في التشهد لا يُجاوز بَصَرُهُ إشارتَه، وقد تقدم. وكان قد جعل الله تعالى عينه ونعيمَه وسرورَه وروحَه في الصلاة. وكان يقول: "يا بِلاَلُ أرحناِْ بِالصلاَةِ". وكان يقول: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ ". ومع هذا لم يكن يشغَلُه ما هو فيه من ذلك عن مراعاة أحوال المأمومين وغيرهم مع كمال إقباله. وقربه من الله تعالى وحضورِ قلبه بين يديه واجتماعِه عليه.
وكان يدخل في الصلاة وهو يُريد إطالتها، فيسمع بكاءَ الصبي، فيخففها مخافةَ أن يَشُقَّ على أمِّه، وأرسل مرة فارساً طَليعةً له، فقام يصلي، وجعل يلتفِت إلى الشِّعب الذي يجيء منه الفارس، ولم يشْغَلْه ما هو فيه عن مراعاة حال فارسه. كذلك كان يُصلي الفرض وهو حاملٌ أمامة بنت أبي العاص بن الربيع ابنةَ بنته زينب على عاتقه، إذا قام، حملها، وإذا ركع وسجد، وضعها.

وكان يصلي فيجيء الحسنُ أو الحسين فيركبُ ظهره فيُطيل السجدة، كَراهية أن يُلقيَه عن ظهره.وكان يُصلي، فتجيء عائشةُ مِن حاجتها والبابُ مُغلَق، فيمشي، فيفتح لها البابَ، ثمَّ يرجِعُ إلى الصلاة.
وكان يَرُدُ السلام بالإِشارة على من يُسلم عليه وهو في الصلاة وقال جابر: بعثني رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحاجة، ثم أدركتُهُ وهو يصلي، فسلمتُ عليه، فأشار إليَّ. ذكره مسلم في "صحيحه". وقال أنس رضي الله عنه: كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشير في الصلاة، ذكره

الإِمام أحمد رحمه الله.
وقال صُهيب: مررتُ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يُصلي، فسلمتُ عليه، فرد إشارة، قال الراوي: لا أعلمه، قال: إلا إشارة بأصبعه، وهو في "السنن" و"المسند".
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: خرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قُباء يُصلي فيه، قال: فجاءته الأنصارُ، فسلَّموا عليه وهو في الصلاة، فقلتُ لبلال: كيف رأيتَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يردُّ عليهم حين كانوا يُسلِّمون عليه وهو يصلِّي؟ قال: يقول: هكذا، وبسط جعفر بن عون كفه، وجعل بطنه أسفل، وجعل ظهره إلى فوق"، وهو في "السنن" و"المسند" وصححه الترمذي،ولفظه: كان يشير بيده.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لما قَدِمتُ من الحبشة أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصلي، فسلَّمت عليه، فأومأ برأسه، ذكره البيهقي.
وأما حديث أبي غطفان عن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَشَارَ فِي صَلاَتِهِ إِشَارَةً تُفْهَمُ عَنهُ، فَلْيُعِدْ صَلاته" فحديث باطل،

ذكره الدارقطني وقال: قال لنا ابن أبي داود: أبو غطفان هذا رجل مجهول، والصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يُشير في صلاته رواه أنس وجابر وغيرهما.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي وعائشة معترِضَةً بينَه وبين القبلة، فإذا سجد، غَمَزَهَا بيده، فقبضت رجليها، وإذا قام بسطتهما. كان يُصلي، فجاءه الشيطانُ ليقطع عليه صلاتَه، فأخذه، فخنقه حتى سَالَ لُعابُه عَلَى يَدِه.

وكان يُصلي على المنبر ويركع عليه، فإذا جاءت السجدة، نزل القَهْقَرى، فَسَجَدَ على الأرض ثم صَعِدَ عليه.
وكان يُصلي إلى جِدار، فجاءت بَهْمَةٌ تمرُّ من بين يديه، فما زال يُدارئها،حتى لَصقَ بطنُه بالجدار، ومرت من ورائه.
يدارئها: يفاعلها من المدارأة وهي المدافعة.
وكان يُصلي، فجاءته جاريتانِ من بني عبد المطلب قد اقتتلتا، فأخذهما بيديه، فَنَزَعَ إحداهما من الأخرى وهو في الصلاة ولفظ أحمد فيه: فأخذتا بركبتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزع بينهما، أو فرَّق بينهما، ولم يَنْصَرِفْ.
وكان يُصلي، فمرَّ بين يديه غلام، فقال بيده هكذا، فرجع، ومرت بين يديه جاريةٌ فقال بيده هكذا، فمضت، فلما صلَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:

"هُنَّ أَغْلَبُ" ذكره الإِمام أحمد، وهو في "السنن".
وكان ينفُخ في صلاته، ذكره الإِمام أحمد، وهو في "السنن".
وأمّا حديث: " النَّفْخُ فِي الصَّلاَةِ كَلاَمٌ " فلا أصل له عن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما رواه سعيد في "سننه" عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله إن صح
وكان يبكي في صلاته، وكان يَتَنَحْنَحُ في صلاته قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان لي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساعةٌ آتيه فيها، فإذا أتيتُه استأذنتُ،فإن وجدتُه يُصلي فتنحنح، دخلتُ، وإن وجدته فارغاً، أذن لي، ذكره النسائي. وأحمد، ولفظ أحمد: كان لي مِن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدخلانِ بالليل والنهار، وكنت إذا دخلتُ عليه وهو يصلي، تنحنح. رواه أحمد، وعمل به، فكان يتنحنحُ في صلاته ولا يرى النحنحة مبطلة للصلاة.
وكان يُصلي حافياً تارةً، ومنتعلاً أخرى، كذلك قال عبد الله بن عمرو

عنه: وَأَمَرَ بالصلاة بالنعل مُخالفة لليهود.
وكان يُصلي في الثوب الواحد تارة، وفي الثوبين تارة، وهو أكثر.
وقنت في الفجر بعد الركوع شهراً، ثم ترك القنوت ولم يكن مِن هديه القنوتُ فيها دائماً، ومِنْ المحال أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في كل غداة بعد اعتداله من الركوع يقول: "اللهُمَ اهْدِني فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ وَلَّيْتَ..." الخ ويرفعُ بذلك صوته، ويؤمِّن عليه أصحابُه دائماً إلى أن فارق الدنيا، ثم لا يكون ذلك معلوماً عند الأمة، بل يُضيعه أكثرُ أمته، وجمهورُ أصحابه، بل كلُهم، حتى يقولَ من يقول منهم: إنه مُحْدَثٌ، كما قال سعد بن طارق الأشجعي: قلتُ لأبي: يا أبتِ إنَّك قد صليتَ خلفَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان،وعلي، رضي الله عنهم ها هنا، وبالكُوفة منذ خمس سنين، فكانوا يقنتون في الفجر.؟ فقال: أَيْ بُنَيَّ مُحْدَثٌ رواه أهل السنن وأحمد وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وذكر الدارقطني عن سعيد بن جبير قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: إن القنوتَ في صلاة الفجر بِدعة،

وذكر البيهقي عن أبي مِجلز قال: صليتُ مع ابن عمر صلاة الصبح، فلم يقنُت، فقلت له لا أراك تقنُت، فقال: لا أحفظُه عن أحد من أصحابنا.
ومن المعلوم بالضرورة أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو كان يقنت كلَّ غداة، ويدعو بهذا الدعاء، ويؤمِّن الصحابة، لكان نقلُ الأمة لذلك كُلِّهم كنقلهم لجهره بالقراءة فيها وعددها ووقتها، وإن جاز عليهم تضييعُ أمر القنوت منها، جاز عليهم تضييعُ ذلك، ولا فرق، وبهذا الطريق علمنا أنه لم يكن هديُه الجهرَ بالبسملة كلَّ يوم وليلةٍ خَمسَ مرات دائماً مستمراً ثم يُضَيِّعُ أكثر الأمة ذلك، ويخفى عليها، وهذا مِن أمحلِ المحال بل لو كان ذلك واقعاً، لكان نقلُه كنقل عدد الصلوات، وعدد الركعات، والجهر والإِخفات، وعدد السجدات، ومواضع الأركان وترتيبها، والله الموفق.
والإِنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهر، وأسر، وقنت، وترك، وكان إسرارُه أكثَر من جهره، وتركه القنوتَ أكثر من فعله، فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، وللدعاء على آخرين،ثم تركه لما قَدِمَ من دعا لهم، وتخلَّصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم وجاءوا تائبين، فكان قنوتُه لعارض، فلما زال تَرَك القنوت، ولم يختصَّ بالفجر، بل كان يقنُت في صلاة الفجر والمغرب، ذكره البخاري في "صحيحه" عن أنس

وقد ذكره مسلم عن البراء وذكر الإِمام أحمد عن ابن عباس قال: قنت رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً متتابعاً في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصُّبح في دُبُرِ كل صلاة إذا قال: سَمعَ اللهُ لِمنْ حَمِدَه من الركعة الأخيرة، يدعو على حيٍّ من بني سليم على رِعل وذَكوان وعُصية، ويؤمِّن من خلفه، ورواه أبو داود.
وكان هديُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القنوت في النوازل خاصة، وتركَه عند عدمها، ولم يكن يخصه بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيها لأجل ما شرع فيها من التطويل، ولاتصالها بصلاة الليل، وقربِها من السَّحَر، وساعةِ الإِجابة، وللتنزل الإِلهى، ولأنها الصلاةُ، المشهودة التي يشهدها الله وملائكتُه، أو ملائكةُ الليل والنهار، كما رُوي هذا، وهذا، في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [ الإسراء: 78]. وأما حديثُ ابن أبي فُديك، عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبُري، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَة قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رفع رأسَه مِنَ الرُّكُوعِ من صلاة الصُّبح في الرَكعة الثانية، يرفع يديه فيها، فيدعو بهذا الدعاء: "اللهمَّ اهْدِني فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِني فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِك لي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِني شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ

رَبَّنَا وَتعالَيْتَ" فما أبين الاحتجاج به لو كان صحيحاً أو حسناً، ولكن لا يحتج بعبد الله هذا وإن كان الحاكم صحح حديثه في القنوت عن أحمد بن عبد الله المزني: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن أبي فديك فذكره نعم صحَّ عن أبي هُرَيرَة أنه قال: والله لأنا أقربُكم صلاةً برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان أبو هريرة يقنُت في الركعة الأخيرة مِن صلاة الصبح بعدما يقول: سَمعَ اللهُ لِمَنْ حَمِده، فيدعو للمؤمنين، ويلعنُ الكُفَّار ولا ريب أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك، ثمَّ تركه، فأحبَّ أبو هريرة أن يُعلِّمهم أن مِثلَ هذا القنوتِ سنة، وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعله، وهذا رد على أهل الكوفة الذين يكرهون القنوت في الفجر مطلقاً عند النوازل وغيرها
ويقولون: هو منسوخ، وفعله بدعة، فأهلُ الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه عند النوازل وغيرها، وهم أسعدُ بالحديث من الطائفتين، فإنهم يقنُتون حيثُ قنت رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتركُونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله وتركه،ويقولون: فِعله سنة، وتركُه لسنة، ومع هذا

فلا يُنكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعِلَه مخالفاً للسنة، كما لا يُنكِرون على من أنكره عند النوازل، ولا يرون تركه بدعة، ولا تارِكه مخالفاً للسنة، بل من قنت، فقد أحسن، ومن تركه فقد أحسن، وركن الاعتدال محل الدعاء والثناء، وقد جمعهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه، ودعاء القنوت دعاء وثناء، فهو أولى بهذا المحل، وإذا جهر به الإِمام أحياناً لِيعلِّم المأمومين، فلا بأس بذلك، فقد جهر عمر بالاستفتاح ليعلم المأمومين، وجهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلمهم أنها سنة، ومن هذا أيضاً جهر الإِمام بالتأمين، وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يُعنَّف فيه من فعله، ولا مَنْ تَركه، وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه، وكالخلاف في أنواع التشهدات، وأنواع الأذان والإِقامة، وأنواع النسك من الإِفراد والقِران والتمتع، وليس مقصودُنا إلا ذكر هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كان يفعله هو، فإنه قِبلَةُ القصد، وإليه التوجُّه في هذا الكتاب، وعليه مدارُ التفتيش والطلب، وهذا شيء، والجائز الذي لا يُنكر فعلُه وتركُه شيء، فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز، ولما لا يجوز، وإنما مقصودُنا فيه هديُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كان يختاره لنفسه، فإنه أكملُ الهدي وأفضلُه، فإذا قلنا: لم يكن مِن هديه المداومةُ على القنوت في الفجر، ولا الجهرُ بالبسملة، لم يدلَّ ذلك على كراهية غيره، ولا أنه بدعة، ولكن هديُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكملُ الهدي وأفضلُه، والله المستعان.
وأما حديث أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أنس قال: ما زالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا وهو في "المسند" والترمذي وغيرهما، فأبو جعفر قد ضعفه أحمد وغيره وقال ابن المديني:

كان يخلط وقال أبو زرعة: كان يهم كثيراً. وقال ابن حبان: كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير.
وقال لي شيخنا ابن تيمية قدَّس الله روحه: وهذا الإِسناد نفسه هو إسناد حديث {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَم مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف: 172]. حديث أبي بن كعب الطويل، وفيه: وكان روحُ عيسى عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهدَ والميثاقَ في زمن آدم، فأَرسلَ تلك الروحَ إلى مريم عليها السلام حين انتبذت من أهلها مكاناً شرقيا، فأرسله الله في صورة بشر فتمثل لها بشراً سوياً، قال: فحملت الذي يخاطبها، فدخل مِن فيها، وهذا غلط محض، فإن الذي أرسل إليها الملك الذي قال لها؟ {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِياً} [مريم: 19] ولم يكن الذي خاطبها بهذا هو عيسى بن مريم، هذا محال.
والمقصود أن أبا جعفر الرازي صاحبُ مناكير،لا يَحتج بما تفرد به أحدٌ من أهل الحديث البتة، ولو صح، لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة، فإنه ليس فيه أن القنوتَ هذا الدعاءُ، فإن القنوتَ يُطلق على القيا م، والسكوت، ودوام العبادة، والدعاء، والتسبيح، والخشوع، كما قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلُّ لَهُ قَانِتُون} [الروم: 26]، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحمَةَ رَبِّه}[ الزمر: 9]، وقال تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ

رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ } [التحريم: 12] وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَفْضَلُ الصلاةِ طُولُ القُنُوت ". وقال زيد بن أرقم: لما نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] أمرنا بالسُّكُوتِ، ونُهينا عَنِ الكَلامِ. وأنس رضي الله عنه لم يقل: لم يزل يقنُت بعد الركوع رافعاً صوته "اللهُمَّ اهدني فيمن هديت.." إلى آخره ويؤمِّن من خلفه، ولا ريب أن قوله: ربَّنا ولكَ الحمدُ، مِلءَ السماواتِ، وَمِلءَ الأرضِ، ومِلءَ ما شئت من شيء بعدُ، أهلَ الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبدُ... إلى آخر الدعاء والثناء الذي كان يقوله، قنوتٌ، وتطويلُ هذا الركن قنوتٌ، وتطويلُ القراءة قنوت، وهذا الدعاءُ المعيَّن قنوت، فمن أين لكم أن أنساً إِنما أراد هذا الدعاء المعين دون سائر أقسام القنوت؟!
ولا يقال: تخصيصُه القنوتَ بالفجر دونَ غيرها مِن الصلواتِ دليل على إرادة الدعاء المعين، إذ سائر ما ذكرتم من أقسام القنوت مشترَك بين الفجر وغيرها، وأنس خصَّ الفجر دون سائر الصلوات بالقنوت، ولا يمكن أن يُقال: إنه الدعاء على الكفار، ولا الدعاء للمستضعفين من المؤمنين، لأن أنساً قد أخبر أنه كان قنت شهراً ثم تركَه، فتعيَّن أن يكون هذا الدعاء الذي داوم عليه هو القنوتَ المعروف، وقد قنت أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والبراء بن عازب، وأبو هريرة، وعبد الله بن عباس، وأبو موسى الأشعري،

وأنس بن مالك وغيرهم.
والجواب من وجوه. أحدُها: أن أنساً قد أخبر أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقنُت في الفجر والمغرب كما ذكره البخاري، فلم يخصص القنوت بالفجر، وكذلك ذكر البراء بن عازب سواء، فما بالُ القنوت أخص بالفجر؟!
فإن قلتم: قنوتُ المغرب منسوخ، قال لكم منازعوكم من أهل الكوفة: وكذلك قنوتُ الفجر سواء، ولا تأتون بحجة على نسخ قنوت المغرب إلا كانت دليلاً على نسخ قنوت الفجر سواء، ولا يُمكنكم أبداً أن تُقيموا دليلاً على نسخ قنوت المغرب وإحكام قنوتِ الفجر. فإن قلتم: قُنوتُ المغرب كان قنوتاً للنوازل، لا قنوتاً راتباً، قال منازعوكم من أهل الحديث: نعم كذلك هو، وكذلك قنوتُ الفجر سواء، وما الفرق؟ قالوا: ويدل على أن قنوت الفجر كان قنوتَ نازلة، لا قنوتاً راتباً أن أنساً نفسه أخبر بذلك، وَعُمدَتكم في القنوت الراتب إنما هو أنس، وأنس أخبر أنه كان قنوتَ نازلة ثم تركه، ففي"الصحيحين"عن أنس قال: قنَتَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً يدعو على حي مِن أحياءِ العرب، ثم تركه.
الثاني: أن شَبابة روى عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن سليمان قال: قلنا لأنس بن مالك: إن قوماً يزعمُون أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يزل يقنُت بالفجر، قال: كذبوا، وإنما قَنتَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً واحداً يدعو على حيٍّ من أحياء العرب، وقيس بن الربيع وإن كان يحيى بن معين ضعفه، فقد وثقه غيره، وليس بدون أبي جعفر الرازي، فكيف يكون أبو جعفر حجة في قوله: لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا وقيس ليس بحجة في هذا الحديث، وهو أوثقُ منه أو مثلُه، والذين ضعفوا أبا جعفر أكثرُ من الذين ضعفوا قيساً، فإنما

يعرف تضعيفُ قيس عن يحيى، وذكر سببَ تضعيفه، فقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم: سألت يحيى عن قيس بن الربيع، فقال: ضعيف لا يُكتب حديثه، كان يحدِّث بالحديث عن عبيدة،وهو عنده عن منصور، ومثل هذا لا يوجب رد حديث الراوي، لأن غاية ذلك أن يكون غلط ووهم في ذكر عبيدة بدل منصور، ومن الذي يسلم من هذا من المحدثين؟
الثالث: أن أنساً أخبر أنهم لم يكونوا يقنُتون، وأن بدء القنوت هو قنوتُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو على رِعل وذَكوان، ففي "الصحيحين" من حديث عبد العزيز بن صهيب،عن أنس قال: بعثَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعين رجلاً لحاجة، يقال لهم: القُرَّاءُ، فعرض لهم حَيَّانِ من بني سليم رِعل وذَكوان عند بئر يقال له: بئر مَعونة، فقال القوم: والله ما إياكم أردنا، وإنما نحن مجتازون في حاجة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقتلوهم، فدعا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم شهراً في صلاة الغداة، فذلك بدءُ القنوت، وما كنا نقنُت.
فهذا يدل على أنه لم يكن من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القنوت دائماً، وقول أنس: فذلك بدءُ القنوتُ، مع قوله: قنت شهراً، ثم تركه، دليل على أنه أراد بما أثبته من القنوت قنوتَ النوازل، وهو الذي وقَّته بشهر، وهذا كما قنت في صلاة العتمة شهراً، كما في "الصحيحين" عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قنت في صلاة العَتَمَة شهراً يقول في قنوته: "اللهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَام، اللهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضعفِينَ مِنْ المُؤْمِنِينَ، اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضرَ، اللهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِني يُوسُف" . قال أبو هريرة: وأصبح ذاتَ يوم فلم يدعُ لهم، فذكرتُ ذلك له، فقال:

أو ما تراهم قد قَدِمُوا، فقنوتُه في الفجر كان هكذا سواء لأجل أمر عارض ونازلة، ولذلك وقَّته أنس بشهر.
وقد روي عن أبي هريرة أنه قنت لهم أيضاً في الفجر شهرا، وكلاهما صحيح، وقد تقدم ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس: قنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شهراً متتابعاً في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح، ورواه أبو داود وغيره، وهو حديث صحيح.
وقد ذكر الطبراني في "معجمه" من حديث محمد بن أنس: حدثنا مُطرِّف بن طريف، عن أبي الجهم، عن البراء بن عازب، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يُصليِّ صلاةً مكتوبة إلا قنت فيها.
قال الطبراني: لم يروه عن مطرِّف إلا محمد بن أنس. انتهى. هذا الإِسناد وإن كان لا تقوم به حُجة، فالحديث صحيح من جهة المعنى، لأن القنوت هو الدعاء، ومعلوم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُصل صلاة

مكتوبة إلا دعا فيها، كما تقدم، وهذا هو الذي أراده أنس في حديث أبي جعفر الرازي إن صح أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، ونحن لا نشك ولا نرتاب في صحة ذلك، وأن دعاءه استمر في الفجر إلى أن فارق الدنيا.
الوجه الرابع: أن طرق أحاديث أنس تُبين المراد، ويصدق بعضها بعضاً، ولا تتناقض. وفي "الصحيحين" من حديث عاصم الأحول قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة؟ فقال: قد كان القنوت، فقلت: كان قبلَ الركوع أو بعده؟ قال: قبله؟ قلتُ: وإن فلاناً أخبرني عنك أنك قلت: قنت بعدَه. قال: كذب، إنما قلت: قنتَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الركوع شهراً. وقد ظن طائفة أن هذا الحديث معلول تفرد به عاصم، وسائر الرواة. عن أنس خالفوه، فقالوا: عاصم ثقة جداً، غيرَ أنه خالف أصحابَ أنس موضع القنوتين، والحافظ قد يهم، والجواد قد يعثُر، وحكوا عن الإِمام أحمد تعليله، فقال الأثرم: قلتُ لأبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل -: أيقول أحد في حديث أنس: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قنت قبل الركوع غيرَ عاصم الأحول؟ فقال: ما علمتُ أحداً يقوله غيرُه. قال أبو عبد الله: خالفهم عاصم كُلَّهم، هشام عن قتادة عن أنس، والتيمي، عن أبي مجلز، عن أنس، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قنت بعد الركوع، وأيوبُ عن محمد بن سيرين قال: سألت أنسا. وحنظلة السدوسي عن أنس أربعة وجوه. وأما عاصم فقال: قلت له؟ فقال: كذبوا، إنما قنتَ بعد الركوع شهراً. قيل له: من ذكره عن عاصم؟ قال: أبو معاوية وغيره، قيل لأبي عبد الله: وسائر الأحاديث أليس إنما هي الركوع؟ فقال: بلى كلها عن خُفاف

بن إيماء بنِ رَحْضَة، وأبي هريرة.
قلت لأبي عبد الله: فلم ترخص إذاً في القنوت قبل الركوع، وإنما صح الحديثُ بعد الركوع؟ فقال: القنوت في الفجر بعد الركوع، وفي الوتر يُختار بعد الركوع، ومن قنت قبل الركوع، فلا بأس، لفعل أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واختلافهم، فأما في الفجر، فبعد الركوع.
فيقال: من العجب تعليلُ هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته، ورواه أئمة ثقات أثبات حفاظ، والاحتجاج بمثل حديث أبي جعفر الرازي، وقيس بن الربيع، وعمرو بن أيوب، وعمرو بن عبيد، ودينار، وجابر الجعفي، وقل من تحمَّل مذهباً، وانتصر له في كل شيء إلا اضطر إلى هذا المسلك.
فنقول وبالله التوفيق: أحاديث أنس كلها صحاح، يُصدِّق بعضُها بعضاً، ولا تتناقضُ، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غيرُ القنوت الذي ذكره بعده، والذي وقته غير الذي أطلقه، فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالةُ القيام للقراءة، وهو الذي قال فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْضلُ الصَّلاَةِ طُولُ القنُوتِ " والذي ذكره بعده، هو إطالةُ القيام للدعاء، فعله شهراً يدعو على قوم، ويدعو لقوم، ثم استمرَّ يُطيل هذا الركنَ للدعاء والثناء، إلى أن فارق الدنيا، كما في "الصحيحين" عن ثابت، عن أنس قال: إني لا أزال أُصلي بكم كما كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي بنا، قال: وكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً، حتى يقول القائلُ: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة يمكُث، حتى يقول القائلُ: قد نسي. فهذا هو القنوتُ الذي ما زال عليه حتى فارق الدنيا.

ومعلوم أنه لم يكن يسكُت في مثل هذا الوقوف الطويل، بلَ كان يثني على ربه، ويُمجِّده، ويدعوه، وهذا غيرُ القنوتِ الموقَّت بشهر، فإن ذلك دعاء على رِعل وذَكوان وعُصيَّة وبني لِحيان، ودُعاء للمستضعفين الذين كانوا بمكة. وأما تخصيصُ هذا بالفجر، فبحسب سؤال السائل، فإنما سأله عن قنوت الفجر، فأجابه عما سأله عنه. وأيضاً، فإنه كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات، ويقرأ فيها بالستين إلى المائة، وكان كما قال البراء بن عازب: ركُوعُه، واعتداله، وسجودُه، وقيامُه متقارباً. وكان يظهرُ مِن تطويله بعد الركوع في صلاة الفجر ما لا يظهر في سائر الصلوات بذلك. ومعلوم أنه كان يدعو ربه، ويثني عليه، ويمجده في هذا الاعتدال، كما تقدمت الأحاديث بذلك، وهذا قنوتٌ منه لا ريبَ، فنحن لا نشكُّ ولا نرتابُ أنه يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا.
ولما صار القنوتُ في لِسان الفقهاء وأكثرِ الناس، هو هذا الدعاء المعروف: اللهم اهدني فيمن هديت... إلى آخره، وسمعوا أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، وكذلك الخلفاءُ الراشدون وغيرهم من الصحابة، حملوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم، ونشأ مَن لا يعرف غيرَ ذلك، فلم يشك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابَه كانوا مداومين عليه كلَّ غداة، وهذا هو الذي نازعهم فيه جمهورُ العلماء، وقالوا: لم يكن هذا من فِعله الراتب، بل ولا يثبُت عنه أنه فعله.
وغاية ما رُوي عنه في هذا القنوت، أنه علمه للحسن بن علي، كما في "المسند" و"السنن" الأربع عنه قال: علَّمني رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلماتٍ أقولهن في قُنوت الوترِ: "اللهُمّ اهْدِني فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِك لِي فِيمَا أَعْطيْتَ، وَقِني شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإنَكَ

تَقْضِي، وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّه لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ ") قال الترمذي: حديث حسن، ولا نعرف في القنوت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً أحسنَ من هذا، وزاد البيهقي بعد "وَلاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ"، "وَلاَ يَعِزُّ مَن عَادَيْتَ".
وممّا يدل على أن مراد أنس بالقنوت بعد الركوع هو القيامُ للدعاء والثناء ما رواه سليمان بن حرب: حدثنا أبو هلال، حدثنا حنظلة إمامُ مسجد قتادة، قلت: هو السدوسي، قال: اختلفت أنا وقتادة في القنوت في صلاة الصبح، فقال قتادة: قبل الركوع، وقلت، أنا: بعد الركوع، فأتينا أنس بن مالك، فذكرنا له ذلك، فقال: أتيتُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الفجر، فكبر، وركع، ورفع رأسه، ثم سجد، ثم قام في الثانية، فكبر، وركع، ثم رفع رأسه، فقام ساعة ثم وقع ساجداً. وهذا مثل حديث ثابت عنه سواء، وهو يُبين

مراد أنس بالقنوت، فإنه ذكره دليلاً لمن قال: إنه قنت بعد الركوع، فهذا القيام والتطويل هو كان مرادَ أنس، فاتفقت أحاديثُه كلُها، وبالله التوفيق. وأما المروي عن الصحابة، فنوعان:
أحدُهما: قنوت عند النوازل، كقنوتِ الصديق رضي الله عنه في محاربه الصحابة لمسيلِمة، وعِند محاربة أهل الكتاب، وكذلك قنوتُ عمر، وقنوت علي عند محاربته لمعاوية وأهل الشام.
الثاني: مطلَق، مرادُ من حكاه عنهم به تطويلُ هذا الركن للدعاء والثناء، والله أعلم.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سجود السهو
ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُوني".

وكان سهوه في الصلاة من تمام نعمة الله على أمته، وإكمالِ دينهم، ليقتدوا به فيما يشرعُه لهم عند السهو، وهذا معنى الحديث المنقطع الذي في "الموَطأ": "إِنَّمَا أنْسَى أوْ أنَسَّى لأَسُنَ".
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينسى، فيترتب على سهوه أحكامٌ شرعية تجري على سهو أمته إلى يوم القيامة، فقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اثنتين في الرُّباعية، ولم يجلس بينهما، فلما قض صلاته، سجد سجدتين قبل السلام، ثم سلم، فأخذَ من هَذا قاعدة: أن من ترك شيئاً من أجزاء الصلاة التي ليست بأركان سهواً، سَجد له قبل السلام، وأخذَ من بعض طرقه أنه: إذا ترك ذلك وشرع في ركن، لم يرجع إلى المتروك، لأَنه لما قام، سَبَّحُوا، فأشار إليهم: أن قوموا.
واختلف عنه في محل هذا السجود، ففي "الصحيحين" من حديث عبد الله بن بُحَيْنَة، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام من اثْنَتَيْنِ من الظهر، ولم يَجْلس بينهما، فلما قضى صلاته، سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثم سلًّم بعد ذلكَ.
وفي رواية متفق عليها: يكَبِّر في كل سجدة وهو جالِس قبل أن يُسَلِّمَ.

وفي "المسند" من حديث يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن زياد بن عِلاقة قال: صلَّى بنا المغيرةُ بن شعبة، فلما صلى ركعتين، قام ولم يجلِس، فسبَّح به مَن خلفه، فَأشار إليهم: أن قوموا، فلما فَرَغَ من صلاته، سلَّم، ثم سجد سجدتين، وسلَّم، ثم قال: هكذا صنع بنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصححه الترمذي
وذكر البيهقي من حديث عبد الرحمن بن شمَاسَة المَضري قال: صلَّى بنا عقبة بن عامر الجُهني، فقام وعليه جلوسٌ، فقالَ الناس: سُبحانَ اللهِ، سبحان الله، فلم يجلس، ومضى على قيامه، فلما كان في آخر صلاته، سجد سجدتي السَهو وهو جاَلس، فلما سلَّم، قال: إني سمعتكم آنفاً تقولون: سبحانَ اللهِ لكيما أجلس، لكِنَّ الَسُّنَّةَ الَّذِي صنَعْت وحديث عبد الله بن بُحينة أولى لثلاثة وجوه.
أحدها: أنه أصحُّ من حديث المغيرة.
الثاني: أنه أصرح منه، فإن قول المغيرة: وهكذا صنع بنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يجوز أن يرجع إلى جميع ما فعل المغيرة، ويكون قد سجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا،السهو مرة قبل السلام، ومرة بعده، فحكى ابن بُحينة ما شاهده، وحكى

المغيرةُ ما شاهده، فيكون كِلا الأمرين جائزاً، ويجوز أن يُريد المغيرة أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام ولم يرجع، ثم سجد للسهو.
الثالث: أن المغيرة لعله نسي السجود قبل السلام وسجده بعده، وهذه صفة السهو، وهذا لا يمكن أن يقال في السجود قبل السلام، والله أعلم.
فصل
وسلّم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ركعتين في إحدى صلاتي العَشِيِّ، إما الظُّهرِ، وإما العَصْرِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ، ثُمَّ أتَمَّهَا، ثُمَّ سلَّم، ثمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بعد السَّلامِ والكلام، يُكبِّر حِين يسجدُ، ثمَّ يُكبِّر حين يرفع.
وذكر أبو داود والترمذي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى بهم، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلَّم، وقال الترمذي: حسن غريب.

وصلى يوماً فسلَّم وانصرف، وقد بقي مِن الصلاة ركعة، فأدركه طلحةُ بن عبيد الله، فقال: نسيتَ من الصلاة ركعة، فرجع فدخل المسجد، وأمر بلالاً فأقام الصلاة، فصلى للناس رَكْعَةً ذكره الإِمام أحمد رحمه الله.
وصلى الظهر خمساً، فقيل له: زِيدَ في الصلاة؟ قال: وما ذاكَ؟ قالوا: صليتَ خمساً، فسجَدَ سجدتين بعدما سلم. متفق عليه.
وصلى العصر ثلاثاً، ثم دخل منزله، فذكَّره الناس، فخرج فصلى بهم ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم.
فهذا مجموعُ مَا حُفِظَ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سهوه في الصلاة، وهو خمسة مواضع، وقد تضمن سجودهُ في بعضه قبلَ السلام، وفي بعضه بعدَه.
فقال الشافعي رحمه الله: كُلُّه قبل السلام.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: كُلُه بعد السلام.
وقال مالك رحمه الله: كُلُّ سهو كان نقصاناً في الصلاة، فإن سجوده قبل السلام، وكُلُّ سهو كان زيادة في الصلاة، فإن سجوده

بعد السلام، وإذا اجتمع سهوانِ: زيادة ونقصان، فالسجودُ لهما قبل السلام.
قال أبو عمر بن عبد البر: هذا مذهبُه لا خلاف عنه فيه، ولو سجد أحد عنده لسهوه بخلاف ذلك، فجعل السجود كلَّه بعد السلام، أو كلَّه قبل السلام، لم يكن عليه شيء، لأنه عنده من باب قضاء القاضي باجتهاده، لاختلاف الآثار المرفوعةِ، والسلفِ من هذه الأمة في ذلك.
وأما الإِمام أحمد رحمه الله، فقال الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يُسأل عن سجود السهو: قبل السلام، أم بعده؟ فقال: في مواضع قبل السلام، وفي مواضع بعده، كما صنع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سلَّم من اثنتين، ثم سجد بعد السلام، على حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين.
ومن سلم من ثلاث سجد أيضاً بعد السلام على حديث عمران بن حصين وفي التحري يسجد بعد السلام على حديث ابن مسعود، وفي القيام من اثنتين يسجد قبل السلام على حديث ابن بُحينة وفي الشك يَبني على اليقين، ويسجدُ قبل السلام على حديثِ أبي سعيد الخدرى وحديثِ عبد الرحمن بن عوف.
قال الأثرم: فقلتُ لأحمد بن حنبل: فما كان سِوى هذه المواضع؟ قال يسجدُ فيها كلِّها قبل السلام، لأنه يتم ما نقص من صلاته، قال: ولولا ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لرأيتُ السجودَ كلَّه قبل السلام، لأنه من

شأن الصلاة، فيقضيه فى السلام، ولكن أقولُ: كل ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سجد فيه بعد السلام، يسجد فيه بعد السلام، وسائر السهو يسجد فيه قبل السلام.
وقال داود بن علي: لا يسجد أحد للسهو إلا في الخمسة المواضع سجد فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انتهى.
وأما الشكُّ، فلم يَعرِض له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل أمر فيه بالبناء على اليقين، وإسقاط الشك، والسجود قبل السلام. فقال الإِمامُ أحمد: الشكُّ على وجهين: اليقين والتحري، فمن رجع إلى اليقين، ألغى الشك، وسجَد سجدتي السهو قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري، وإذا رجع إلى التحرِّي وهو أكثرُ الوهم، سجدتي السهو بعد السلام على حديث ابن مسعود الذي يرويه منصور. انتهى.
وأما حديث أبي سعيد، فهو "إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ، فلَمْ يَدْرِ كَمَْ صلى أَثَلاَثاً أَمْ أَرْبَعَاً، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَليَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أن يُسَلِّمَ "
وأما حديثُ ابن مسعود، فهو "إِذَا شَكَّ أَحَدُكُم فِي صَلاَتِهِ، فليتحر الصَّوَابَ، ثُمَّ لِيَسجُد سَجدَتَينِ" متفق عليهما. وفي لفظ "الصحيحين ": "ثم يُسَلِّم، ثمَّ يَسْجدَ سَجدَتَينِ" وهذا هو الذي قال الإِمامُ أحمد، وإذا رجع إلى التحري، سجد بعد السلام.
والفرق عنده بين التحري واليقين، أن المصلي إذا كان إماماً بنى على غالب ظنِّه وأكثرِ وهمه، وهذا هو التحري، فسجد له بعد السلام على حديثِ ابن مسعود، وإن كان منفرداً، بنى على اليقين، وسجد قبل

السَّلام على حديثِ أبى سعيد، وهذه طريقةُ أكثر أصحابه في تحصيل ظاهر مذهبه. وعنه: روايتان.أخريان: إحداهما: أنه يبني على اليقين مطلقاً، وهو مذهبُ الشافعي ومالك، والأخرى: على غالب ظنه مطلقاً، وظاهر نصوصه إنما يدل على الفرق بين الشك، وبين الظن الغالب القوي، فمع الشكِّ يبني على اليقين، ومع أكثرِ الوهم أو الظنِّ الغالب يتحرَّى، وعلى هذا مدارُ أجوبته. وعلى الحالين حملُ الحديثين، والله أعلم. وقال أبو حنيفة رحمه الله في الشك: إذا كان أوّلَ مَا عَرَضَ له، استأنفَ الصلاة، فإن عرض له كثيراً، فإن كان له ظنٌّ غالب، بنى عليه، وإن لم يكن له ظن، بنى على اليقين.

فصل
ولم يكن من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تغميضُ عينيه في الصلاة، وقد تقدم أنه كان في التشهد يُومىء ببصره إلى أصبعه في الدعاء، ولا تجَاوِزُ بَصرهُ إشارتَه
وذكر البخاري في "صحيحه" عن أنس رضي الله عنه قال: كان قِرَامٌ لعائشة، سترت به جانِبَ بيتها، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمِيطِي عَنِّي قِرَامَكِ هَذَا، فَإِنَة لاَ تَزَالَ تصاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي في صَلاَتِي " ولو كان يُغمض عينيه في صلاته، لما عَرَضَتْ له في صلاته. وفي الاستدلال بهذا الحديث نظرٌ، لأن الذي كان يعرِض له في صلاته: هل تذكُّر تلك التصاوير بعد رؤيتها، أو نفس رؤيتها؟ هذا محتمل، وهذا محتمل، وأبينُ دلالةَ منه حديثُ عائشة رضي الله عنها، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى في خَمِيصَةٍ لها أعلامٌ، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: "اذْهَبُوا بِخَمِيصَتي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وأْتُونِي بِانْبِجانِيَّةِ أَبِي جَهمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنى آنفاً صَلاَتِي".وفي الاستدلال بهذا أيضا

ما فيه، إذ غايتُه أنه حانت منه التفاتة إليها فشغلته تلك الالتفاتةُ ولا يدُلُ حديثُ التفاته إلى الشِّعب لما أرسل إليه إليه الفارس طليعة، لأن ذلك النظرَ والالتفاتَ منه كان لِلحاجة، لاهتمامه بأمورِ الجيش، يدُلُ على ذلك مَدُّ يده في صلاة الكسوف ليتناولَ العُنقود لما رأى الجنة، وكذلك رؤيتهُ النَّارَ وصاحبةَ الهرة فيها، وصاحِبَ المِحْجَنِ وكذلك حديثُ مدافعته للبهيمة التي أرادت أن تمر بين يديه، وردُّه الغلامَ والجارية، وحجزُه الجاريتين، وكذلك أحاديثُ ردِّ السلام بالإِشارة على من سلم عليه والصلاة، فإنه إنما كان يُشير إلى من يراه، وكذلك حديثُ تعرُّضِ الشيطان له فأخذه فخنفه، وكان ذلك رؤيةَ عين، فهذه الأحاديثُ وغيرُها يُستفاد مِن مجموعها العلم بأنه لم يكن يُغْمِضُ عينيه في الصلاة.
وقد اختلف الفقهاء في كراهته، فكرِهه الإِمامُ أحمد وغيرُه، وقالوا:هو فعلُ اليهود، وأباحه جماعة ولم يكرهوه، وقالوا: قد يكونُ أقربَ إلى تحصيل الخشوع الذي هو روحُ الصلاة وسرُّها ومقصودها. والصواب أن يُقال: إن كان تفتيحُ العين لا يُخِلُ بالخشوع، فهو أفضل، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يُشوش عليه قلبه، فهنالك لا يُكره التغميضُ قطعاً، والقولُ باستحبابه في هذا الحال أقربُ إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة، والله أعلم.

فصل: فيما كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوله بعد انصرافه من الصلاة، وجلوسِه بعدَها، وسرعةِ الانتقال منها، وما شرعه لأمته من الأذكار والقراءة بعدها

كان إذا سلم، استغفر ثلاثاً، وقال: "اللهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ، ومنكَ السلاَمُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ"
ولم يمكث مستقبِلَ القِبلة إلا مقدارَ ما يقولُ ذلك، بل يُسرع الانتقالَ إلى المأمومين.
وكان ينفتِل عن يمينه وعن يساره، وقال ابن مسعود: رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيراً ينصرِف عن يساره.
وقال أنس: أكثرُ ما رأيتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينصرف عن يمينه، والأول فى "الصحيحين" والثاني في "مسلم"

وقال عبد الله بن عمرو: رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينفتِلُ عن يمينه وعن يساره في الصلاة.
ثم كان يُقبِل على المأمومين بوجهه، ولا يخصُّ ناحيةً منهم دون ناحية.
وكان إذا صلى الفجرَ، جلس في مصلاه حتى تَطْلُعَ الشمسُ.
وكان يقولُ في دُبُر كلِّ صلاة مكتوبة: " لاَ إله إِلاَّ الله وَحْدَه لاَ شَرِيكَ لَهُ،له المُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ، اللهُمَّ لاَ مَانعَ لِمَا أَعْطَيْتَ،وَلا معْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ"

وكان يقول: " لاَ إله إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلهُ الْحَمدُ، وَهوَ عَلَى كُلِّ شَيء قَديرٌ، وَلاَ حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بالله، لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ، وَلا نَعْبُدُ إلاَ إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ، وَلًهُ الَفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لاَ إله إِلاًّ اللًّهُ، مُخْلصينَ لَهُ الدًّينَ وَلَو كَرِه الْكَافِرُونَ"
وذكر أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سلَّم من الصلاة قال: " اللهُمَّ اغْفرْ لي مَا قَدًّمْتُ، وَمَا أخَّرْت، وَمَا أسْرَرْتُ، وَمَا أعْلَنْتُ، وَمَا أسْرَفتُ، وَمَا أنْتَ أَعْلَمُ به منِّي، أنْتَ المُقَدِّمُ، وَأنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إلهَ إِلا اْنْتَ".
هذه قطعة من حديث علي الطويل الذي رواه مسلم في استفتاح الصلاة والسلام، وما كان يقوله في ركوعه سجوده. ولمسلم فيه لفظان
أحدُهما: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقوله بين التشهد والتسليم، وهذا هو الصواب
والثاني: كان يقوله بعد السلام، ولعله كان يقوله في الموضعين، والله أعلم.

وذكر الإمام أحمد عن زيد بن أرقم قال: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ كُلِّ صلاة: "اللًّهُمَّ رَبّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيءٍ وَمَلِيكَهُ، أَنا شَهيدٌ أَنّكَ الرَّبُّ وحدك لا شَرِيكَ لَكَ، اللهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كلِّ شَيءٍ، أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ مُحَمَداً عَبْدُكَ وَرسولك اللهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيءٍ، أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ العِبَادَ كُلَّهُم إِخْوَةٌ، اللهُمَّ رَبَّنَا وَرب كل شَيءٍ، اجْعَلْني مخْلِصاً لَكَ وَأَهْلِي في كلِّ ساعَة مِنَ الدّنْيَا وَالآخِرَةِ يَا ذَا الجلال وَالإِكرَامِ، اسْمَعْ وَاسْتَجِبْ، اللهُ أكْبَرُ الأَكبْرُ اللهُ نُور السَّمَاواتِ وَالأَرض. الله أَكْبَرُ الأَكْبَرُ، حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، اللهُ أَكْبَرُ اللأَكْبَرُ" ورواه أبو داود.
وندب أمته إلى أن يقولُوا في دُبر كل صلاة: سُبحانَ اللهِ ثلاثاً والحمدُ للَّهِ كذلك، واللهُ أكبرُ كذلك، وتمام المائة: لا إلهَ إلا الله وَحْدَه لا شريك له، لَهُ المُلْك وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَعلى كُلِّ شيءٍ قدير.
وفي صفة أخرى: التكبيرُ أربعاً وثلاثين فتتم به المائه

وفي صفة أخرى: "خمساً وعشرين تسبيحة، ومثلها تحميدة، ومثلها تكبيرة، ومثلها لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شَرِيكَ له، له الملكُ وله الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِير"
وفي صفةٍ أخرى: "عشر تسبيحات، وعشر تحميدات، وعشر تكبيرات"
وفي صفة أخرى "إحدى عشرة" كما في "صحيح مسلم" في بعضِ روايات حديث أبي هريرة "وَيُسَبِّحُونَ، وَيَحْمَدُونَ، وَيُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثين إحدى عشرة، وإحدى عشرة، وإحدى عشرة، فذلك ثلاثة

وثلاثون" والذى يظهر في هذه الصفة، أنها مِن تصرف بعض الرواة وتفسيره، لأَن لفظ الحديث "يُسَبِّحُونَ وَيَحْمَدُونَ، وَيُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثين" وإنما مُرَادُه بهذا أن يكون الثلاث والثلاثون في كل واحدة من كلماتِ التسبيح والتحميد والتكبير، اى "قولوا: "سُبحانَ اللهِ، والحَمْدُ للَّه، والله أكبر، ثلاثاً وثلاثين" لأن راوي الحديث سُمي عن أبي صالح السمان، وبذلك فسره أبو صالح قال: قولوا: "سُبحانَ الله والحمدُ للَّهِ، واللهُ أكبر، حتى يكون منهن كُلِّهن ثلاث وثلاثون".
وأما تخصيصُه بإحدى عشرة، فلا نظير له في شيء من الأذكار بخلاف المائة، فإن لها نظائر، والعشر لها نظائرُ أيضاً، كما في السنن من حديث أبي ذر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ قَالَ فِي دُبُرِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَهُوَ ثَانٍ رِجْلَيْهِ قَبْلَ أن يَتكَلَّمَ، لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ يُحيِي وَيُمِيتُ وهو عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مَرَّات، كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهَُ عشر سَيِّئَاتٍ، وَرُفعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ يَوْمَهُ ذلِكَ كُلَّهُ في حِرْزٍ مِنْ كُلِّ مَكْرُوه وَحُرِسَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَنْبَغِ لِذَنْبٍ أَنْ يُدْرِكَهُ فِي ذلِكَ الْيَوْم إِلاَّ الشِّرْكَ بالله " قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وفي "مسند الإِمام أحمد" من حديث أم سلمة، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَّم ابنته فاطمة لما جاءت تسأله الخادم، فأمرها: أن تسبِّحَ الله عند النوم ثلاثاً وثلاثين، وتحمدَه ثلاثاً وثلاثين، وتكبِّره ثلاثاً وثلاثين، وإذا صلَّت الصبحَ أن تقول: "لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَبَعْدَ صَلاَةِ المَغْربِ، عَشْرَ مَرَّات ".
وفي "صحيح ابن حبان" عن أبي أيوب الأنصاري يرفعه: "مَنْ قَالَ إِذا أَصْبَحَ: لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الْحَمْد وَهُوَ عَلَى كُلَ شىء قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، كُتِبَ لَهُ بِهِنَّ عَشرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ بِهِنَّ عَشْرُ سَيئَاتٍ، وَ لَهُ بهنَّ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكُنَّ لَهُ عِدْلَ عَتَاقَةِ أَرْبَع رِقَابٍ، وَكُنَّ لَهُ حَرَساً مِنَ الشيطان حَتَى يُمْسِى، وَمَنْ قَالَهُنَّ إِذَا صَلَّى المَغْرِبَ دُبُرَ صَلاتِهِ فَمِثْلُ ذلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ " وقد تقدم قولُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في

الاستفتاح "اللهُ أكبرُ عشراً، والحمدُ للَّهِ عشراً وسبحانَ اللَهِ عشراً، وَلاَ إلهَ إِلاَّ اللَهُ عَشْراً، ويستغفِرُ الله عشرا، ويقول: اللهم، اغفر لي، وَاهْدِني وارزقني عشراً، ويتعوذ مِن ضِيق المقام يوم القيامة عشراً" فالعشر في الأَذكار والدعوات كثيرة. وأما الإِحدى عشرة، فلم يجىء ذكرُها شيء من ذلك البتة إلا في بعض طُرق حديث أبي هريرة المتقدم والله أعلم.
وقد ذكر أبو حاتم في "صحيحه"، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقولُ عند انصرافه من صلاته: "اللهُمَّ أصْلحْ لِي دِينِي الَّذي جَعَلْتَهُ عِصْمَةَ أَمْرِي، وَأَصْلحْ لي دُنْيايَ،التى جَعَلْتَ فِيهَا مَعَاشِي، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِعَفْوِكَ من نِقْمَتِكَ، وأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لاَ مَانعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ".
وذكر الحاكم في "مستدركه" عن أبي أيوب أنه قال: ما صليتُ وراء نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا سمعتُه حِين ينصرِفُ مِن صلاته يقول: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِي خطَايَايَ وَذُنُوبِي كُلَّهَا، اللهُمَّ أَنْعِمْنِي وَأَحْينِي وَارْزُقنِي، وَاهْدِنِي لِصَالِح الأعْمَالِ والأَخلاَقِ، إِنَّهُ لاَ يَهْدِي لِصَالِحِهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَلاَ يَصْرِفُ عَنْ سَيئِهَا إِلاَّ أَنْتَ".

وذكر ابن حبان في "صحيحه" عن الحارث بن مسلم التميمي قالَ: قال لي النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا صَلَّيتَ الصُّبْحَ، فَقُلْ قَبْلَ أَنت تتكَلَّم: اللهُمَّ أَجِرْني مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ مِنْ يَوْمِكَ، كَتَبَ اللهُ لَكَ جَواراً مِنَ النَّار، وَإِذَا صَلَيْتَ المَغْرِبَ، فَقُلْ قَبْلَ أَنْ تتكَلَّمَ: اللهُمَّ أَجِرْني مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَإِنَّكَ إِنْ مُتَ مِنْ لَيْلَتِكَ كَتَبَ اللهُ لَكَ جِوَاراً مِنَ النَّارِ"
وقد ذكر النسائي في "السنن الكبير" من حديث أبي أمامة قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِي في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبة، لَم يَمْنعهُ من دُخُولِ الجَنَّةِ إِلاَّ أَنْ يَموتَ ". وهذا الحديثُ تفرد به محمد بن حمير، عن محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أمامة، ورواه النسائي عن الحسين بن بشر، عن محمد بن حمير. وهذا الحديثُ مِن الناس مَن يصححه، ويقول: الحسين بن بشر قد قال فيه النسائي: لا بأس به، وفي موضع اَخر: ثقة. وأما المحمدان، فاحتج بهما البخاري في "صحيحه" قالوا: فالحديث على رسمه، ومنهم من يقول: هو موضوع، وأدخله أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه في الموضوعات، وتعلق على محمد بن حمير، وأن أبا حاتم الرازي قال: لا يُحتج به، وقال يعقوب بن سفيان: ليس بقوي، وأنكر ذلك عليه بعضُ الحفاظ، ووثقوا محمداً، وقال: هُو أجلُّ من أن يكون له حديثٌ موضوع، وقد احتج به أجلُّ من صنف في

الحديث الصحيح، وهو البخاري، ووثقه أشدُّ الناس مقالة في الرجال يحيى بن معين، وقد رواه الطبراني في "معجمه" أيضاً من حديث عبد الله بن حسن عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ في دُبُرِ الصَّلاَةِ المَكْتُوبَةِ، كَانَ في ذِمَّةِ اللهِ إِلَى الصَّلاَةِ الأُخْرَى " وقد رُوي هَذَا الحديثُ مِن حديث أبي أمامة، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وفيها كُلِّها ضعف، ولكن إذا انضم بعضها إلى بعض مع تبايُن طرقها واختلافِ مَخَارِجها، دلت على أن الحديث له أصل وليس بموضوع. وبلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية قدَّس الله روحَه أنه قال: ما تركتُها عقيبَ كُلِّ صلاة. وفي المسند والسُّنن، عن عُقبة بن عامر قال: "أمرني رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن أقرأ بالمُعَوِّذَاتِ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ" ورواه أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "المستدرك"، وقال: صحيح على شرط مسلم. ولفظ الترمذي "بالمعوذتين".
وفي "معجم الطبراني"، و"مسند أبي يعلى المَوْصِلي" من حديث عمر بن نبهان، وقد تُكلِّم فيه عن جابر يرفعه: "ثَلاثٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ الإِيمَانِ، دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الجَنَّةِ شَاءَ، وَزُوِّجَ مِنَ الحُورِ العِينِ حَيْثُ شَاءَ، مَنْ عَفَا عَنْ قَاتِلِه، وَأَدَّى دَيْناً خَفِيَّاً، وَقَرَأَ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ،

قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ" فقال أبو بَكرٍ رضي الله عنه: "أَوْ إِحْدَاهُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ": قَالَ: "أَوْ إحْدَاهُنَّ".
وأوصى معاذاً أن يقول في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ: "اللهمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"
وَدُبُرُ الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا يُرجِّح أن يكون قبل السلام، فراجعته فيه، فقال: دُبُرُ كُلِّ شيء منه، كدُبُرِ الحيوان.
فصل
وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى إلى الجِدار، جعل بينه وبينه قدر ممرِّ الشاة، ولم يكن يتباعَدُ منه، بل أمر بالقُرب من السُّترة، وكان إذا صلَّى إلى عُود أو عَمود أو شَجرة، جعله على حاجبه الأيمنِ أو الأيسر، ولم يَصْمُد له صمداً، وكان يَرْكُزُ الحَربة في السفر والبرِّيَّة، فيُصلي إليها، فتكون سترتَه، وكان يُعَرِّض راحلته، فيُصلي إليها، وكان يأخذُ الرحل فيَعْدِلُه فيصلي إلى آخِرتِه، وأمر المصلي أن يستترِ ولو بِسهم أو عصا، فإن لم يجد فليخطَّ خطاً في الارض، قال أبو داود سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: الخطُّ

عرضاً مثلُ الهلال.وقال عبد الله: الخط بالطول، وأما العصا، فتُنصب نصباً، فإن لم يكن سُترة، فإنه صح عنه أنه يقطع صلاتَه، "المرأةُ والحِمارُ والكلبُ الأسودُ". وثبت ذلك عنه من رواية أبي ذر وأبي هُرَيْرَة، وابن عباس، وعبد الله بن مُغَفَّل. ومعارِض هذه الأحاديث قسمان: صحيح غير صريح، وصريح غير صحيح، فلا يترك العمل بها لمعارض هذا شأنه. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي وعائشةُ رضي الله عنها نائمة في قبلته

وكأنَّ ذلك ليس كالمَارِّ، فإن الرجل محرَّم عليه المرورُ بين يدي المصلي، ولا يُكره له أن يكون لابثاً بين يديه، وهكذا المرأةُ يقطع مرورُها الصلاةَ دون لُبثها، والله أعلم.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنن الرواتب
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحافظ على عشر ركعات في الحضر دائماً، وهى التي قال فيها ابن عمر: "حَفِظْتُ مِن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرَ ركعات: ركعتين قبل الظُّهرِ، وركعتين بعدَها وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتينِ بعد العشاء في بيته،

وركعتينِ قبلَ الصُّبح". فهذه لم يكن يدعُها في الحضر أبداً، ولما فاتته الركعتانِ بعد الظهر قضاهما بعد العصر، وداوم عليهما، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا عَمِلَ عَملاً أثبته، وقضاء. السنن الرواتب في أوقات النهى عام له ولأمته، وأما المداومة على تلك الركعتين في وقت النهي، فمختص به كما سيأتي تقريرُ ذلك في ذكر خصائصه إن شاء الله تعالى. وكان يُصلِّي أحياناً قبلَ الظهر أربعاً، كما في "صحيح البخاري" عن عائشة رضي الله عنها أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ لاَ يَدَعُ أَرْبَعاً قَبْلَ الظُّهْر، وركعتين قبل الغداة "، فَإِمَّا أن يُقال: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا صلَّى في بيته صَلّى أربعاً، وإذا صلَّى في المسجد صلَّى ركعتين، وهذا أظهر، وإِمَّا أن يُقال: كان يفعلُ هذا، ويفعل هذا، فحكى كلٌّ عن عائشة وابن عمر ما شاهده، والحديثان صحيحان لا مطعن في واحد منهما. وقد يُقال: إن هذه الأربعَ لم تكن سنةَ الظهر، بل هي صلاةٌ مستقِلة كان يصليها بعد الزوال، كما ذكره الإِمام أحمد عن عبد الله بن السائب، أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصلي أربعاً بعد أن تزولَ الشمس، وقال: " إنَّهَا سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالح".

وفي السنن أيضاً عن عائشةَ رضي الله عنها: "أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان إذا لم يُصلِّ أربعاً قبل الظهر، صلاهُنَّ بعدها" وقال ابن ماجه: "كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فاتته الأربعُ قبل الظهر، صلاَّها بعد الركعتين بعد الظهر" وفي التِّرمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي أربعاً قبل الظهر، وبعدها ركعتين". وذكر ابن ماجه أيضاً عن عائشة: كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يصلي أربعاً قبل الظهر، يطيل فِيهِنَّ القِيام، ويحسن فيهن الركوعَ والسجود" فهذه- والله أعلم - هي الأربع التي أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن وأما سنةُ الظهر، فالركعتان اللتانِ قال عبدُ الله بن عمر، يُوضح ذلك أن سائرَ الصلواتِ سنتُها ركعتانِ ركعتانِ، والفجرِ جمع كونها ركعتين، والناس في وقتها أفرغُ ما يكونون، ومع هذا سنتُها ركعتانِ، وعلى هذا، فتكونُ هذه الأربعُ التي قبل الظهر وِرداً مُستقِلاً سببُه انتصافُ النهار وزوالُ الشمس وكان عبدُ اللهِ بنُ مسعود يُصلي بعد الزوال ثمانَ ركعات، ويقول: إنَّهنَّ يَعْدِلْنَ بمثلهن مِن قيامِ الليل وسِرُّ هذا - والله أعلم - أن انتصافَ النهار مقابِل لانتصاف الليل، وأبوابُ السماء تُفتح بعد زوال الشمس، ويحصلُ النزول الإلهِي بعد انتصاف الليل، فهما وقتا قرب ورحمة، هذا تُفتح فيه أبوابُ السماء، وهذا ينزِل فيه الربُّ

تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا. وقد روى مسلم في "صحيحه" من حديث أمِّ حبيبة قالت: سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "مَنْ صَلَّى في يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثِنتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَة، بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْت في الجَنَةِ " وزاد النسائي والترمذي فيه: "أَرْبَعاً قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بعدها، وركعتينِ بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر" قال النسائي: "وركعتين قبل العصر" (بدل) "وركعتين بعد العشاء" وصححه الترمذي وذكر ابن ماجه عن عائشة ترفعه: "مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةَ مِنْ السُّنَّةِ، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ: أَرْبعاً قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَها، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ". وذكر أيضاً عن أبي هُرَيْرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحوه وقال: "ركعتينِ قبل الفجر، وركعتينِ قبل الظهر، وركعتينِ بعدها، وركعتينِ أظنه قال: قبل العصر، وركعتينِ بعد المغرب أظنه قال: وركعتينِ بعد العشاء الآخرة" وهذا التفسير، يحتَمِل أن يكونَ مِن كلام بعض الرواة مُدْرَجاً في الحديث، ويحتَمِلُ أن يكون من كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرفوعاً، والله أعلم.

وأما الأربع قبل العصر، فلم يصحَّ عنه عليه السلام في فعلها شيء إلا حديثُ عاصم بن ضمرة عن علي الحديث الطويل، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كان يُصلي في النهار ست عشرة ركعة، يُصلي إذا كانت الشمس من هاهنا كَهَيْئَتِهَا من هاهنا لصلاة الظهر أربعَ ركعات، وكان يُصلِّي قبل الظهر أربعَ ركعات، وبعد الظهر ركعتين، وقبل العصر أربعَ ركعات" وفي لفظ: كان إذا زالتِ الشمس مِن هاهنا كَهَيْئَتِهَا من هاهنا عند العصر، صلَّى ركعتين، وإذا كانت الشمسُ من هاهنا كَهَيْئَتِهَا من هاهنا عند الظهر، صلَّى أربعاً، ويُصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها ركعتين، وقبل العصر أربعاً، ويفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين". وسمعتُ شيخ الإِسلام ابن تيمية يُنكر هذا الحديث ويدفعه جداً، ويقول: إنه موضوع. ويذكر عن أبي إسحاق الجُوزجاني إنكاره. وقد روى أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "رَحِمَ اللهُ امرءاً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعاً". وقد اختلف في هذا الحديث، فصححه ابن حبان، وعلله غيرُه، قال ابنُ أبي حاتم: سمعت أبي يقول: سألت أبا الوليد الطيالسي عن حديث محمد بن مسلم بن المثنى عن أبيه عن ابن عمر، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَحِمَ اللهُ امرءاً صَلًى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبعاً". فقال: دع هذا. فقلت: إن أبا داود قد رواه، فقال: قال أبو الوليد: كان ابن عمر يقول:

"حفظتُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرَ ركعاتٍ في اليوم والليلة"، فلو كان هذا لعدَّه. قال أبي: كان يقول: "حَفِظَتُ ثنتي عشرةَ ركعةَ". وهذا ليس بعلة أصلاً فإن ابن عمر إنما أخبر بما حفظه من فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يُخبر عن غير ذلك،. تنافي بين الحديثين البتة.
وأما الركعتان قبل المغرب، فإنه لم يُنقل عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يُصليهما، وعنه أنه أَقرَّ أصحابه عليهما، وكان يراهم يصلونهما، فلم يأمرهم ولم ينههم، وفى "الصحيحين" عن عبد الله المُزني، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "صلُوا قَبْلَ المَغْرِبِ صلُّوا قَبلَ المَغْرِبِ " قال في الثَّالِثَةِ : "لِمَنْ شَاءَ كَرَاهَةَ أن يتخذها الناسُ سنة " وهذا هو الصوابُ في هاتين الركعتين، أنهما مُسْتَحبَّتَانِ مندوبٌ إليهما، وليستا راتبة كسائر السنن الرواتب.
وكان يُصلي عامةَ السنن، والتطوع الذي لا سبب له في بيته، لا سيما المغرب، فإنه لم يُنقل عنه أنه فعلها في المسجد البتة.
وقال الإِمام أحمد في رواية حنبل: السنة أن يُصليَ الرجلُ الركعتينِ. المغرب في بيته، كذا رُويَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. قال السائب بن يزيد: رأيتُ الناس في زمن عمر بن الخطاب، إذا انصرفوا من المغرب، انصرفوا. حتى لا يَبقى في المسجد أحد، كأنهم لا يُصلون بعد المغرب

حتى يصيروا إلى أهليهم انتهى كلامه. فإن صلَّى الركعتين في المسجد، فهل يجزئ عنه، وتقع موقعها؟ اختلف قولُه، فروى عنه ابنُه عبد الله أنه قال: بلغني عن رجل سماه أنه قال: لو أن رجلاً صلَّى الركعتين بعد المغرب في المسجد ما أجزأه؟ فقال: ما أحسنَ ما قال هذا الرجلُ، وما أجودَ ما انتزع، قال أبو حفص: ووجهه أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الصلاة في البيوت. وقال المروزي: من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد يكون عاصياً، قال: ما أعرف هذا، قلتُ له: يُحكى عن أبي ثور أنه قال: هو عاص. قال: لعله ذهب إلى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اجْعَلُوهَا فِي بُيُوتِكُمْ". قال أبو حفص: ووجهُه أنه لو صَلَّى الفرضَ في البيت، وترك المسجد، أجزأه، فكذلك السنة انتهى كلامه وليس هذا وجهَه عند أحمد رحمه الله، وانما وجهُه أن السنن لا يُشترط لها مكان معين، ولا جماعة، فيجوزُ فعلها في البيت والمسجد، والله أعلم. وفي سنة المغرب سنتان، إحداهما: أنه لا يُفصل بينها وبين المغرب بكلام، قال أحمد رحمه الله في رواية الميموني والمروزي: يستحب ألا يكون قبل الركعتين بعد المغرب إلى أن يُصَلِّيَهما كلامٌ وقال الحسن بن محمد: رأيت أحمد إذا سلم من صلاة المغرب، قام ولم يتكلم، ولم يركع في المسجد قبل أن يدخل الدار، قال أبو حفص: ووجهه قول مكحول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ قَبلَ أَنْ يَتكَلَّمَ، رُفِعَتْ صَلاته فِي

عِلِّيِّينَ"، ولأنه يتصل النفل بالفرض، انتهى كلامه.
والسنة الثانية: أن تفعل في البيت، فقد روى النسائي، وأبو داود، والتِّرمذي من حديث كعب بن عُجرة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى مسجدَ بني عبد الأشهل، فصلَّى فيه المغربَ، فلما قَضَوْا صَلاتهم رآهم يُسَبِّحُونَ بعدها فقال: "هَذِهِ صَلاة الْبُيُوتِ". ورواه ابن ماجه من حديث رافع بن خديج، وقال فيها: "ارْكَعُوا هَاتَيْنِ الرَكْعَتَيْنِ فِي بُيُوتِكُم".
والمقصود، أن هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعل عامة السنن والتطوع في بيته كما في الصحيح عن ابن عمر: حَفِظْتُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرَ ركعات: ركعتين قبلَ الظُّهر، وركعتينِ بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح.
وفي "صحيح مسلم" عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي في بيتي أربعاً قبل الظهر، ثم يخرج فيُصلي بالناس، ثم يدخُل فيُصلي ركعتين، وكان يُصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيُصلي ركعتين، ويُصلي، بالناس

العشاء، ثم يدخل بيتي فيُصلي ركعتين. وكذلك المحفوظ عنه في سنة الفجر، إنما كان يُصليها في بيته كما قالت حفصة وفي "الصحيحين" عن ابن عمر، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصلي ركعتينِ بعد الجُمُعة في بيته وسيأتي الكلام على ذكر سنة الجمعة بعدها والصلاة قبلَها، عند ذكر هديه في الجمعة إن شاء الله تعالى، وهو مُوافِق لقوله في: "أَيُّهَا النَّاسُ صَلُّوا في بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلاَةِ المَرْءِ في بَيْتِه إِلاَّ المَكْتُوبَةَ ". وكان هديُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعلَ السنن، والتطوع في البيت إِلا لِعارض، كما أن هديَه كان فِعلَ الفرائض في المسجد إِلا لِعارض من سفر، أو مرض، أو غيره مما يمنعُه من المسجد، وكان تعاهده ومحافظته على سنة الفجر أشدَّ مِن جميع النوافل.
ولذلك لم يكن يدعُها هي والوترَ سفراً وحضراً، وكان في السفر يُواظب على سنة الفجر والوتر أشدَّ مِن جميع النوافل دون سائر السنن، ولم يُنقل عنه في السفر أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى سنة راتبة غيرَهما، ولذلك كان ابن عمر لا يزيد على ركعتين ويقول: سافرتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، فكانوا لا يزيدون في السفر على ركعتين، وهذا وإن احتمل أنهم لم يكونوا يربِّعون، إلا أنهم لم يُصلوا السنة، لكن قد ثبت

عن ابن عمر أنه سئل عن سنة الظهر في السفر، فقال: لو كنتُ مُسَبِّحا لأتممتُ، وهذا من فقهه رضي الله عنه، فإن الله سُبحانه وتعالى خفَّف عن المسافر في الرباعية شطرَها، فلو شرع له الركعتانِ قبلها أو بعدها، لكان الإِتمام أولى به.
وقد اختلف الفقهاءُ: أيُّ الصلاتين آكدُ، سنة الفجر أو الوتر؟ قولين: ولا يمكن الترجيحُ باختلاف الفقهاء في وجوب الوتر، فقد اختلفوا أيضاً في وجوب سنة الفجر، وسمعت شيخَ الإِسلام ابن تيمية يقول: سنة الفجر تجري مجرى بداية العمل، والوتر خاتمته. ولذلك كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلى سنة الفجر والوتر بسورتي الإِخلاص، وهما الجامعتان لتوحيدِ العلم والعمل، وتوحيدِ المعرفة والإِرادة، وتوحيدِ الاعتقادِ والقصد، انتهى.
فسورة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد}: متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرَب تعالى من الأَحَدِيَّةِ المنافية لمطلق المشاركة بوجه من الوجوه، والصمديَّة المثبتة له جميع صفات الكمال التي لا يلحقها نقصّ بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد الذي هو من لوزام الصمدية، وغناه وَأَحَديَّته ونفي الكفء المتضمِّن لخفي التشبيه والتمثيل والتنظير، فتضمنت هذه السورة إثباتَ كل كمال له، ونفي كل نقص عنه، ونفيَ إثبات شبيه أو مثيل له في كماله، ونفي مطلق الشريك عنه، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقاد في الذي يُباين صاحبُه جميعَ فرق الضلال والشرك، ولذلك كانت تَعْدِل ثلثَ القرآن، فإن القرآن مدارُه على الخبر والإِنشاء، والإِنشاء ثلاثة: أمر، ونهي، وإباحة. والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه. فأخلصت سورة {قل هو الله أحد} الخبرَ عنه، وعن أسمائه، وِصفاته، فعدلت ثلثَ القرآن، وخلَّصت قارئها المؤمنَ بها من الشرك

العلمى، كما خلَّصت سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون} من الشرك العملي الإِرادي القصدي. ولما كان العلم قبل العمل وهو إمامُه وقائدُه وسائقُه، والحاكُم عليه ومنزله منازِله، كانت سورة {قُل هُوَ اللهُ أَحَد} تعدِل ثلثَ القران. والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر، و{قل يا أيها الكافرون}، تعدِل ربع القرآن، والحديث بذلك في الترمذي من رواية ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: "إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ القُرآنِ، وَقُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ، تَعدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ". رواه الحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح الإِسناد.
ولما كان الشرك العملي الإِرادي اغلبَ على النفوس لأجل متابعتها هواها، وكثيرٌ منها ترتكبه مع علمها بمضرَّته وبطلانِه، لِمَا لهَا فيه من نيل الأغراض، وإزالتُه، وقلعُه منها أصعبُ، وأشدّ من قلع الشرك العلمي وإزالته، لأن هذا يزول بالعلم والحُجَّة، ولا يمكن صاحبُه أن يعلم الشىء على غير ما هو عليه، بخلاف شرك الإِرادة والقصد، فإن صاحبه يرتكِب ما يدله العلم على بطلانه وضرره لأجل غلبة هواه، واستيلاء سُلطان الشهوة والغضب على نفسه، فجاء من التأكيد والتكرار في سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون} المتضمنة لإِزالة الشرك العملي، ما لم يجىء مثلُه في سورة {قُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، ولما كان القرآن شطرين: شطراً في الدنيا وأحكامِها، ومتعلقاتِها، والأمورِ الواقعة

فيها من أفعال المكلفين وغيرها، وشطراً في الآخرة وما يقع فيها، وكانت سورة {إِذَا زُلْزِلَتْ} قد أُخْلِصت من أولها وآخرها لهذا الشطر، فلم يذكر فيها إلا الآخرة. وما يكون فيها من أحوال الأرض وسُكَّانها، كانت تَعدِلُ نصفَ القرآن، فأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحاً - والله أعلم - ولهذا كان يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي الطواف، ولأنهما سورتا الإِخلاص والتوحيد، كان يفتتح بهما عمل النهار، ويختمها بهما، ويقرأ بهما في الحج الذي هو شعار التوحيد.
فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضطجع بعد سنة الفجر على شِقه الأيمن، هذا الذي ثبت عنه فى "الصحيحين" من حديث عائشة رضي الله عنها وذكر الترمذي من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبحِ، فَلْيَضْطَجعْ عَلَى جَنْبِهِ الأَيْمَنِ " قال الترمذي:

حديث حسن غريب. وسمعت ابن تيمية يقول: هذا باطل، وليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمرُ بها، والأمر تفرد به عبد الواحد بن زياد وغلط فيه، وأما ابن حزم ومن تابعه، فإنهم يوجبون هذه الضجعة، ويُبطل ابن حزم صلاةَ من لم يضجعها بهذا الحديثِ، وهذا مما تفرد به عن الأمة، ورأيت مجلداً لبعض أصحابه قد نصر فيه هذا المذهب. وقد ذكر عبد الرزَّاق في "المصنف" عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، أن أبا موسى، ورافعَ بن خَديج، وأنسَ بن مالك رضي الله عنهم، كانوا يضطجعون بعد ركعتي الفجر، ويأمرون بذلك، وذكر عن معمر، عن أيوب، عن نافع، أن ابن عمر كان لا يفعله، ويقول: كفانا بالتسليم. وذكر عن ابن جريج: أخبرني من أصدق أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: "إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يضطجع لسنة، ولكنه كان يدأَبُ ليله فيستريح". قال: وكان ابنُ عمر يَحصِبُهم إذا رآهم يضطجعون على أيمانهم. وذكر ابن أبي شيبة عن أبي الصِّدِّيق الناجي، أن ابن عمر رأى قوماً اضطجعوا بعد ركعتي الفجر، فأرسل إليهم فنهاهم، فقالوا: نريد بذلك السنة، فقال ابنُ عمر: ارجع إليهم وأخبرهم أنها بدعة. وقال أبو مِجلز: سألتُ ابن عمر عنها فقال: يلعبُ بكم الشَّيطانُ. قال ابنُ عمر رضي الله عنه: ما بالُ الرجل إذا صَلَّى الركعتين يفعل كما يفعل الحمار إذا تمعَّك.
وقد غلا في هذه الضجعة طائفتان، وتوسط فيها طائفةّ ثالثة، فأوجبها جماعة من أهل الظاهر، وأبطلوا الصلاةَ بتركها كابن حزم ومن وافقه، وكرهها جماعة من الفقهاء، وسموها بدعة، وتوسط فيها مالك وغيره،

فلم يروا بها بأساً لمن فعلها راحة، وكرهوها لمن فعلها استناناً، واستحبها طائفة على الإِطلاق، سواء استراح بها أم لا، واحتجوا بحديث أبي هريرة. والذين كرهوها، مِنهم مَن احتج بآثار الصحابة كابن عمر وغيره، حيث كان يحصبُ مَن فعلها، ومنهم من أنكر فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها، وقال: الصحيح أن اضطجاعه كان بعد الوتر، وقبل ركعتي الفجر، كما هو مصرح به في حديث ابن عباس قال: وأما حديثُ عائشة، فاختلف على ابن شهاب فيه، فقال مالك عنه: فإذا فرغ يعني من الليل، اضطجع على شِقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فصلي ركعتين خفيفتين وهذا صريح أن الضجعة قبل سنة الفجر، وقال غيرُه عن ابن شهاب: فإذا سكت المؤذن من أذان الفجر، وتبين له الفجرُ، وجاءه المؤذن، قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن. قالوا: وإذا اختلف أصحاب ابن شهاب فالقول ما قاله مالك، لأنه أثبتُهم فيه وأحفظُهم. وقال الآخرون:بل الصواب هذا مع من خالف مالكاً، وقال أبو بكر الخطيب: روى مالك عن الزهري، عروة، عن عائشة: كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها، اضطجع على شِقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن، "ركعتين خفيفتين". وخالف مالكاً، عقيلٌ، ويونس، وشعيب، وابنُ أبي ذئب. والأوزاعي، وغيرهم، فرووا

عن الزهري، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يركع الركعتين للفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن، فيخرج معه فذكر ما أن اضطجاعه كان قبل ركعتي الفجر وفي حديث الجماعة، أنه اضطجع بعد فحكم العلماء أن مالكاً أخطأ وأصاب غيره، انتهى كلامه.
وقال أبو طالب: قلتُ لأحمد: حدثنا أبو الصلت، عن أبي كُدَينة،عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه اضطجع بعد ركعتي الفجر، قال: شعبة لا يرفعه، قلتُ: فإن لم يضطجع عليه شيء؟ قال: لا، عائشة ترويه وابن عمر ينكره. قال الخلال: وأنبأنا المروزي أن أبا عبد الله قال: حديثُ أبي هريرة ليس بذاك. قلت: إن الأعمش يُحدث به عن أبي صالح، عن أبي هريرة. قال: عبد الواحد وحده يُحدث به. وقال إبراهيم بن الحارث: إن أبا عبد الله سئل عن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر قال: ما أفعلُه، وإن فعله رجل، فحسن. انتهى. فلو كان حديث عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن أبي صالح صحيحاً عنده، لكان أقلُّ درجاته عنده الاستحبابَ، وقد تقال: إن عائشة رضي الله عنها روت هذا، وروت هذا، فكان يفعلُ هذا تارة، وهذا تارة، فليس في ذلك خلاف، فإنه من المباح، والله أعلم.
وفي اضطجاعه على شِقه الأيمن سر، وهو أن القلب معلَّق في الجانب الأيسر، فإذا نام الرجل على الجنب الأيسر، استثقل نوماً، لأنه يكون في دَعة واستراحة، فيثقل نومه، فإذا نام على شِقه الأيمن، فإنه يقلق ولا يستغرق في النوم، لقلق القلب، وطلبه مستقره، وميله إليه، ولهذا استحب الأطباء

النوم على الجانب الأيسر لكمال الراحة وطيب المنام، وصاحب الشرع يستحب النوم على الجانب الأيمن، لئلا يثقل نومه فينام عن قيام الليل، فالنوم على الجانب الأيمن أنفعُ للقلب، وعلى الجانب الأيسر أنفع للبدن، والله أعلم.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قيام الليل
قد اختلف السلفُ والخلف في أنه: هل كان فرضاً عليه أم لا؟ والطائفتان احتجوا بقوله تعالى: { وَمِنَ الْلَيْلِ فَتَهَجَّد بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإِسراء: 79] قالوا: فهذا صريح في عدم الوجوب، قال الآخرون. أمره بالتهجد في هذه السورة، كما أمره في قوله تعالى: {يَأَيُّهَا المزَّمِّلُ قُمِ الْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل:1] ولم يجىء ما ينسخُه عنه، وأما قولُه تعالى: {نَافِلَةً لَكَ} فلو كان المرادُ به التطوعَ، لم يخصه بكونه نافلة له، وإنما المراد بالنافلة الزيادة، ومطلقُ الزيادة لا يدل على التطوع، قال تعالى: {وَوَهَبنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72]، أى زيادة على الولد، وكذلك النافلة في تهجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيادة في درجاته، وفي أجره ولهذا خصه بها، فإن قيامَ الليل في حق غيره مباحٌ، ومكفِّر للسيئات، وأما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد غَفَرَ اللهُ له ما تقدم مِن ذنبه وما تأخر، فهو يعمل في زيادة الدرجات وعلو المراتب، وغيره يعمل في التكفير. قال مجاهد: إنما كان نافلةً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكانت طاعته نافلة، أي: وزيادة في الثواب، ولغيره كفارة لذنوبه، قال ابن المنذر في تفسيره: حدثنا يعلى بن أبي عبيد، حدثنا الحجاج، عن ابن

جريج، عن عبد الله بن كثير، عن، مجاهد قال: ما سوى المكتوبة، فهو نافلة مِن أجل أنه لا يعمل في كفارة الذنوب، وليست للناس نوافل، إنما هي للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، والناس جميعاً يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها.
حدثنا محمد بنُ نصر، حدثنا عبد الله، حدثنا عمرو، عن سعيد وقبيصة، عن سفيان، عن أبي عثمان، عن الحسن في قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة لَكَ} [الإسراء: 79]، قال: لا تكون نافلة الليل إلا للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذكر عن الضحاك، قال: نافلة للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة.
وذكر سُليم بن حيان، حدثنا أبو غالب، حدثنا أبو أمامة، قال: إذا وضعتَ الطهورَ مواضعه، قمتَ مغفوراً لك، فإن قمتَ تصلي، كانت لك فضيلةً وأجراً، فقال رجل: يا أبا أمامة، أرأيت إن قام يصلي تكون له نافلة؟ قال: لا، إنما النافلةُ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف يكون له نافلة، وهو يسعى في الذنوب والخطايا؟! تكون له فضيلة وأجراً قلتُ: والمقصودُ أن النافلة في الآية، لم يُرد بها ما يجوز فعلُه وتركه، كالمستحب، والمندوب، وإنما المراد بها الزيادة في الدرجات، وهذا قدر مشترك بين الفرض والمستحب، فلا يكون قوله: {نافلة لك} نافياً لما دلَّ عليه الأمر من الوجوب، وسيأتي مزيدُ بيان لهذه المسألة إن شاء الله تعالى، عند ذكر خصائص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ولم يكن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدع قيامَ الليل حضراً ولا سفراً، وكان إذا غلبه نوم أو وجع، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. فسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: في هذا دليل على أن الوتر لا يُقض لفوات محله، فهو كتحية المسجد، وصلاةِ الكسوف والاستسقاءِ ونحوها، لأن المقصودَ به أن يكون آخرُ صلاة الليل وتراً، كما أن المغرب آخر صلاة النهار، فإذا انقضى الليل وصليت الصبح، لم يقع الوتر موقعَه. هذا معنى كلامه. وقد روى أبو داود، وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخُدري، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ نَامَ عَنِ الوِتْرِ أَوْ نَسِيه، فَلْيُصَلِّه إذا أصبَحَ أَو ذَكَرَ " ولكن لهذا الحديث عدة علل.
أحدُها: أنه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.
الثاني: أن الصحيح فيه أنه مرسل له عن أبيه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الترمذي. هذا أصح، يعني المرسل.
الثالث : أن ابن ماجه حكى عن محمد بن يحيى بعد أن روى حديث أبى سعيد: الصحيح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَوْتِرُوا قَبْلَ أَن تصْبِحُوا" . قال: فهذا الحديث دليل على أن حديث عبد الرحمن واهٍ

وكان قيامُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل إحدى عشرة ركعة، أو ثلاثَ عشرة، كما قال ابن عباس وعائشة، فإنه ثبت عنهما هذا وهذا، ففي "الصحيحين" عنها: ما كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة. وفى "الصحيحين" عنها أيضاً، كان رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي من الليل ثلاثَ عشر. ركعة، يُوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلا في آخِرِهِن والصحيح عن عائشة الأول: والركعتان فوق الإِحدى عشرة هما ركعتا الفجر، جاء ذلك مبيناً عنها في هذا الحديث بعينه، كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر، ذكره مسلم في "صحيحه". وقال البخاري: في هذا الحديث: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي بالليل ثلاثَ عشرة ركعة، ثم يُصلي إذا سمع النداء بالفجر ركعتين خفيفتين وفي "الصحيحين" عن القاسم بن محمد قال: سمعتُ عائشة رضي الله عنها تقول: كانت صلاةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الليل عشرَ ركعات، ويُوتر بسجدة،

ويركع ركعتي الفجر، وذلك ثلاثَ عشرة ركعة، فهذا مفسر مبين.
وأما ابنُ عباس، فقد اختلف عليه، ففي "الصحيحين" عن أبي جمرة عنه: كانت صلاةُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثَ عشرة ركعةً يعني بالليل لكن قد جاء عنه هذا مفسراً أنها بركعتي الفجر. قال الشعبي: سألتُ عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن صلاةِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل، فقالا: ثلاثَ ركعات ركعة، منها ثمان، ويُوتر بثلاث، وركعتين قبل صلاة الفجر. وفي "الصحيحين" عن كُريب عنه، في قصة مبيته عند خالته ميمونة بنت الحارث، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى ثلاث عشرة ركعة، ثم نام حتى نفخ، فلما تبيَّن له الفجرُ، صلَّى ركعتين خفيفتينِ وفي لفظ: فصلَّى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذِّنُ. فقام فصلَّى ركعتين خفيفتين، ثم خرج يُصلي الصبح. فقد حصل الاتفاقُ على إحدى عشرة ركعة

واختلف في الركعتين الأخيرتين هل هما ركعتا الفجر أو هما غيرهما. فإذا انضاف ذلك إلى عدد ركعات الفرض والسنن الراتبة التي كان يُحافظ عليها، جاء مجموعُ ورده الراتب بالليل والنهار أربعين ركعة، كان يُحافظ عليها دائماً سبعة عشر فرضاً، وعشر ركعات، أو ثنتا عشرة سنة راتبة، وإحدى عشرة، أو ثلاث عشرة ركعة قيامه بالليل، والمجموع أربعون ركعة، وما زاد على ذلك، فعارض غيرُ راتب، كصلاة الفتح ثمان ركعات، وصلاة الضحى إذا قَدِمَ من سفر، وصلاته عند من يزوره، وتحية المسجد ونحو ذلك، فينبغي للعبد أن يُواظب على هذا الورد دائماً إلى الممات، فما أسرع الإِجابة وأعجل فتح الباب لمن يقرعُه كلَّ يوم وليلة أربعين مرة. والله المستعان.

فصل: في سياق صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل ووتره وذكر صلاة أول الليل.

قالت عائشةُ رضي الله عنها: ما صلَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العِشاء قطُّ فدخل علي، إلا صلَّى أربع ركعات، أو ست ركعات، ثم يأوي إلى فراشه.

وقال ابن عباس لما بات عنده: صلَّى العِشاء، ثم جَاء، ثُمَّ صلَى، ثم نام ذكرهما أبو داود. وكان إذا استيقظ، بدأ بالسواك، ثم يذكُر الله تعالى، وقد تقدم ذكرهما كان يقوله عند استيقاظه، ثم يتطهر، ثم يُصلى ركعتين خفيفتين، كما في "صحيح مسلم"، عن عائشة قالت: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من الليل، افتتح صلاتَه بركعتينِ خفيفتين وأمر بذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إذا قام أحدُكم مِن الليل، فليفتَتح صلاتَه بركعتين خفيفتين" "رواه مسلم" وكان يقومُ تارة إذا انتصف الليلُ، أو قبله بقليل، أو بعدَه بقليل، وربما كان يقوم إذا سمع الصارِخَ وهو الدِّيكُ وهو إنما يصيح في النصف الثاني، وكان يقطع ورده تارة، ويصله تارة وهو الأكثر، ويقطعه كما قال ابن عباس في حديث مبيته عنده، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استيقظ، فتسوَّك، وتوضأ، وهو يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ، والأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الألبَاب} [آل عمران: 190] فقرأ هؤلاء الآيات حتى ختم السورة، ثم قام فصلَّى ركعتين أطال فيهما القيامَ والركوع والسجودَ، ثم انصرف، فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاثَ مرات بست ركعات كل ذلك يَستاك ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث، فأَذن المؤذِّن؟ فخرج إلى الصلاة وهو يقول: "اللهُمَّ اجْعَلْ في قَلبي نُوراً، وَفِي لِسَانِي. وَاجْعَلْ في سَمْعِي نُوراً، وَاجعَل في بَصَرِي نُوراً، وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُوراَ، ومن أَمَامِي نُوراً، وَاجْعَل مِنْ فَوْقِي نُوراً،

وَمِنْ تَحْتِي نُوراُ، اللهُمَّ أَعْطِني نوراً " رواه مسلم. ولم يذكر ابنُ عباس افتتاحَه بركعتين خفيفتين كما ذكرته عائشة، أنه كان يفعل هذا تارة، وهذا تارة، وَإِمَّا أن تكون عائشةُ حفظت ما لم يحفظ بن عباس، وهو الأظهر لملازمتها له، ولمراعاتها ذلك، ولكونها أعلمَ الخلق. بقيامه بالليل، وابنُ عباس إنما شاهده ليلة المبيت عند خالته، وإذا اختلف ابنُ عباس وعائشة في شيء من أمر قيامِه بالليل، فالقولُ ما قالت عائشة.
وكان قيامُه بالليل ووِترُه أنواعاً، فمِنها هذا الذي ذكره ابن عباس.
النوع الثاني : الذي ذكرته عائشة، أنه كان يفتتح صلاته بركعتين. ثم يُتمم ورده إحدى عشرة ركعة، يُسلم من كل ركعتين ويوتر بركعة.
النوع الثالث : ثلاث عشرة ركعة كذلك.
النوع الرابع: يُصلي ثمانَ ركعات، يُسلم من كل ركعتين، ثم يُوتر. سرداً متوالية، لا يجلس في شيء إلا في آخرهن.
النوع الخامس: تسع ركعات، يسرُد منهن ثمانياً لا يجلِس في شيء إلا في الثامنة، يجلِس يذكر الله تعالى ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يُصلي التاسعة، يسلم ثم يقعد، ويتشهد، ويُسلِّم، ثم يُصلي ركعتين جالساً بعدما يسلم.
النوع السادس: يُصلي سبعاً كالتسع لمذكورة، ثم يُصلي بعدها ركعتين جالساً.

النوع السابع: أنه كان يُصلي مَثنى مَثنى، ثم يُوتر بثلاث لا يفصِل بينهن فهذا رواه الإِمام أحمد رحمه الله عن عائشة، أنه كان يُوتِر بثلاث لا فصل فيهن وروى النسائي عنها: كان لا يُسلم في ركعتي الوتر وهذه الصفة فيها نظر، فقد روى أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" عن أبي هريرة، النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تُوتِرُوا بِثَلاَثٍ، أَوْتِرُوا بِخَمسٍ أَوْ سَبْعٍ، وَلاَ تَشَبَّهُوا بِصَلاةِ المَغرِبِ". قال الدارقطني: رواته كلهم ثقات، قال مهنا: سألتُ أبا عبد الله: إلى أي شيء تذهب في الوتر، تُسلم في الركعتين؟ قال: نعم. قلتُ: لأَي شيء؟ قال: لأن الأحاديث فيه أقوى وأكثر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الركعتين. الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سلم من الركعتين وقال حرب: سئل أحمد عن الوتر؟ قال: في الركعتين. وإن لم يسلم، رجوت ألا يضرَّه، إلا أن التسليم أثبتُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

وقال أبو طالب: سألتُ أبا عبد الله: إلى أي حديث تذهب في، الوتر؟ قال: أذهب إليها كلِّها: مَنْ صلَّى خمساً لا يجلس إلا في آخرهن، ومن صلَّى سبعاً لا يجلس إلا في آخرهن، وقد روي فَي حديث زرارة عن عائشة: يُوتر بتسع يجلَس في الثامنة قال: ولكن أكثر الحديث وأقواه ركعة، فأنا أذهبُ إليهاَ. قلت: ابن مسعود يقول: ثلاث، قال: نعم، قد عاب على سعد ركعة، فقال له سعد أيضاً شيئاً يرد عليه.
النوع الثامن: ما رواه النسائي، عن حُذيفة، أنه صلَّى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رمضان، فركع، فقال في ركوعه: "سُبْحَانَ رَبيَ الْعَظيمِ" مثل ما كان قائماً، ثم جلس يقول: "رَبِّ اغفرْ لي، رَبِّ اغْفِرْ لي " مثلَ مَا كان قائماً. ثم سجد، فقال: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلًى" مثلَ ما كان قائماً، فما صلَّى إلا أربع ركعات حتى جاء بلال يدعوه إلى الغداة، وأوتر أوّل الليل، ووسطه، وآخرَه. وقام ليلة تامة بآية يتلوها ويردِّدُها حتى الصباح وهي: {إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادُكَ} [المائدة: 118].
وكانت صلاته بالليل ثلاثةَ أنواع
أحدها - وهو أكثرها: صلاته قائماً
الثاني : أنه كان يُصلي قاعداً، ويركع قاعداً
الثالث : أنه كان يقرأ قاعداً، فإذا بقي يسيرٌ مِن قراءته، قام فركع

قائماً، والأنواع الثلاثة صحت عنه.
وأما صفة جلوسه في محل القيام، ففي "سنن النسائي"، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة قالت: رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي متربِّعاً قال النسائي: لا أعلم أحداً روى هذا الحديثَ غيرَ أبي داود، يعني الحفري، وأبو داود ثقة، ولا أحسب إلا أن هذا الحديث خطأ والله أعلم.
فصل
وقد ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين جالساً تارة، وتارة يقرأ فيهما جالساً، فإذا أراد أن يركع، قام فركع، وفي "صحيح مسلم" عن أبي سَلَمة قال: سألتُ عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: كان يُصلي ثلاثَ عشرة ركعةً، يُصلي ثمانَ ركعات، ثم يُوتِر، ثم يُصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع، قام فركع، ثم يُصلي ركعتين بين النداءِ والإِقامةِ مِن صلاة الصبح وفي "المسند" عن أم

سلمة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يُصلي بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس وقال الترمذي: روي نحوُ هذا عن عائشة، وأبي أمامة، وغيرِ واحدٍ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي "المسند" عن أبي أمامة، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يُصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس، يقرأ فيهما ب{إِذَا زُلزِلَت} و{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}.
وروى الدارقطني نحوَه من حديث أنس رضي الله عنه.
وقد أشكل هذا على كثير من الناس، فظنوه معارضاً، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُم بِالْلَّيْلِ وِتْراً". وأنكر مالك رحمه الله هاتين الركعتين، وقال أحمد: لا أفعله ولا أمنعُ مَنْ فعله، قال: وأنكره مالك وقالت طائفة: إنما فعل هاتين الركعتين، ليبين جوازَ الصلاة بعد الوتر، وأن فعله لا يقطع التنفُّل، وحملوا قولُه: "اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُم بِالْلَّيْلِ وِتْراً " على الاستحباب، وصلاة الركعتين بعده على الجواز.
والصواب: أن يقال: إن هاتين الركعتين تجريان مجرى السنة، وتكميل الوتر، فإن الوترَ عبادة مستقلة، ولا سيما إن قيل بوجوبه، فتجري الركعتان بعده. مجرى سنة المغربِ مِن المغرب، فإنها وِتر النهار، والركعتان بعدها تكميل لها، فكذلك الركعتان بعد وتر الليل، والله أعلم.

فصل
ولم يُحفظ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قنت في الوتر، إلا في حديث رواه ابن ماجه، عن علي بن ميمون الرَّقي، حدثنا مخلد بن يزيد، عن سفيان، عن زُبيد اليامي، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبي بن كعب، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُوتر فيقنُت قبل الركوع وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله: أختار القنوت بعد الركوع، إنَّ كُلَّ شيء ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القنوت، إنما هو في الفجر لمَا رفع رأسه من الركوع، وقنوت الوتر أختارُه بعد الركوع، ولم يصحَّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قنوت الوتر قبلُ أو بعدُ شيء. وقال الخلاَّل: أخبرني محمد بن يحيى الكحال، أنه قال لأبي عبد الله في القنوت في الوتر؟ فقال: ليس يُروى فيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء، ولكن كان عمر يقنُت من السنة إلى السنة.
وقد روى أحمد وأهل "السنن" من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علَّمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلماتٍ أقولهن في الوتر: "اللهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِني فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَولَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِك لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَاَليْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ " زاد

البيهقي والنسائي: "وَلاَ يَعِزُّ من عَادَيْتَ".
وزاد النسائي في روايته: "وَصَلَّى الله عَلَى النَبيّ"
وزاد الحاكم في "المستدرك" وقال: "علَّمني رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود". ورواه ابن حبان في "صحيحه" ولفظه سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو.
قال الترمذي: وفي الباب عن علي رضي الله عنه، وهذا حديث لا نعرِفُه إلا مِن هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي، واسمه ربيعة بن شيبان، ولا نعرف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القنوت في الوتر شيئاً أحسنَ مِن هذا انتهى.
والقنوت في الوتر محفوظ عن عمر، وابن مسعود، والرواية عنهم أصح من القنوت في الفجر، والروايةُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قنوت الفجر، أصح الرواية في قنوت الوتر. والله أعلم.
وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في آخر وتره: "اللهُمَّ إنّي أعوذ بِرِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنكَ

لاَ أُحْصِي ثَناءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ". وهذا يحتمِل، أنه قبل فراغه منه وبعده، وفي إحدى الروايات عن النسائي: كان يقولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلاته، وتبوَّأَ مضجعه، وفي هذه الرواية: "لاَ أُحْصِي ثنَاءً عَلَيْكَ وَلَوْ حَرَصْتُ" وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال ذلك في السجود، فلعله قاله في الصلاة وبعدها. وذكر الحاكم في "المستدرك" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، في صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووتره: ثم أوتر، فلما قضى صلاته، سمعته يقول: " اللهُمَّ اجعَلْ في قَلْبي نُوّراً، وَفي بَصَرِي نُوراً، وفي سَمْعِي نُوراً، وَعَنْ يَمِينِي نُوراً، وَعَنْ شِمَالِي نُوراً، وَفَوقِي نُوراً، وَتَحْتِي نُوراً، وَأَمَامِي نُوراً، وَخَلْفِي نُورا، وَاجْعَل لِي يَوْمَ لِقَائِكَ نُوراً". قال كُريب: وسبع في القنوت، فلقيتُ رجلاً مِن ولد العباس، فحدثني بهن، فذكر: "لَحْمِي وَدَمِي، وَعَصَبي وَشَعْرِي وَبَشَرِي"، وذكر خصلتين، وفي رواية النسائي في هذا الحديث، وكان يقولُ في سجوده وفي رواية لمسلم في هذا الحديث: فخرج إلى الصلاة يعني صلاة الصبح، وهو يقول... فذكر هذا الدعاء، وفي رواية له أيضاً، "وفي لِسَاني نُوراً وَاجْعَلْ في نَفْسِي نُوراً، وَأَعْظِمْ لِي نُوراً"، وفي رواية له، "وَاجْعَلْني نُورا".

وذكر أبو داود، والنسائي من حديث أبي بن كعب، قال: "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الوتر، {سبح اسم ربك الأعلى} و{قل يا أيها الكافرون} و{قل هو اللهُ أحد}، فإذا سلم قال: "سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُوس ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، يَمدُّ بها صَوْتَهُ في الثَّالِثَةِ ويرفع". وهذا لفظ النسائي. زاد الدارقطني "رَبِّ المَلاَئِكَةِ وَالرُّوح".
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقَطِّعُ قراءتَه، ويقِفُ عِندَ كُلِّ آيَةٍ فيقول: "الحَمْدُ للِه رَبِّ العَالَمِين، ويقِف: الرَّحمنِ الرَّحِيم، ويقِفُ: مَالِك يَوْمِ الدِّين".
وذكر الزهري أن قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت آية آية، وهذا هو الأفضل، الوقوفُ على رؤوس الآيات وإن تعلقت بما بعدها، وذهب بعضُ القراء إلى تتبع الأغراض والمقاصد، والوقوف عند انتهائها، واتباعُ هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته أولى. وممّن ذكر ذلك البيهقى في "شعب الإِيمان" وغيره، ورجح الوقوف على رؤوس الآي وإن تعلقت بما بعدها. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرتِّل السورة حتى تكون أطولَ مِنْ أَطْوَلِ منها، وقام بآَية يُرَدِّدُهَا حتى الصباح. وقد اختلف الناسُ في الأفضل من الترتيل وقلة القراءة، أو السرعة

مع كثرة القراءة: أيهما أفضل؟ على قولين.
فذهب ابنُ مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وغيرُهما إلى أن الترتيلَ والتدبر مع قلة القراءة أفضلُ مِن سرعة القراءة مع كثرتها. واحتج أربابُ هذا القول بأن المقصود من القراءة فهمُه وتدبُّره، والفقهُ فيه والعملُ به، وتلاوتُه وحفظُه وسيلة إلى معانيه، كما قال بعض السلف: نزل القرآن لِيعمَل به، فاتخذوا تلاوته عملاً، ولهذا كان أهلُ القرآن هم العالِمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه، فليس مِن أهله وإن أقام حروفه إقامةَ السهم.
قالوا: ولأن الإِيمان أفضلُ الأعمال، وفهم القرآن وتدبُّره هو الذي يُثمر الإِيمان، وأما مجردُ التلاوة من غير فهم ولا تدبر، فيفعلها البرُّ والفاجرُ، والمؤمن والمنافق، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي يَقرَأُ الْقُرْانَ، كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ، وَطَعْمُهَا مُرٌّ".
والناس في هذا أربع طبقات: أهلُ القرآن والإِيمان، وهم أفضل الناس. والثانية: من عَدِم القرآن والإِيمان. الثالثة: من أوتي قرآناً، ولم يُؤت إيماناً، الرابعة: من أوتي إيماناً ولم يُؤت قرآناً.
قالوا: فكما أن من أوتي إيماناً بلا قرآن أفضلُ ممن أوتي قرآناً بلا إيمان، فكذلك من أوتي تدبراً، وفهماً في التلاوة أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها

بلا تدبر. قالوا: وهذا هديُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه كان يرتِّل السورة حتى تكون أطولَ من أطول منها، وقام بآية حتى الصباح.
وقال أصحابُ الشافعي رحمه الله: كثرة القراءة أفضلُ، واحتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنْ كِتَابِ اللهِ، فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ الم حَرْف، وَلَكِنْ أَلِف حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ ". رواه الترمذي. وصححه.
قالوا: ولأن عثمان بن عفان قرأَ القرآن في ركعة، وذكروا آثاراً عن كثير من السلف في كثرة القراءة.
والصواب في المسألة أن يُقال: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجلُّ وأرفعُ قدراً، وثوابَ كثرة القراءة أكثرُ عدداً، فالأول: كمن تصدَّق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبداً قيمتُه نفيسة جداً، والثاني: كمن تصدَّق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عدداً من العبيد قيمتُهم رخيصة، وفي "صحيح البخاري" عن قتادة قال: سألت أنساً عن قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "كان يمدُّ مدًّا".
وقال شعبة: حدثنا أبو جمرة، قال: قلت لابن عباس: إني رجل سريعُ القِراءة، وربما قرأتُ القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابنُ عباس: لأن أقرأ سورةَ واحدة أعجبُ إِلَيَّ من أن أفعل ذَلِكَ الذي تفعل، فإن كنت فاعلاً ولا بد، فاقرأ قِراءَةً تُسْمعُ أُذُنَيْك، وَيعيها قلبُك.

وقال إبراهيم: قرأ علقمةُ على ابن مسعود، وكان حسنَ الصوت، فقال: رتِّل فِداك أبي وأمي، فإنه زينُ القرآن.
وقال ابن مسعود: لاَ تَهُذُّوا القُرْآنَ هَذَّ الشِّعْرِ، وَلاَ تَنْثُرُوه نَثْرَ الدَّقَل، وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ القُلُوبَ، وَلاَ يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ.
وقال عبد الله أيضاً: إذا سمعتَ الله يقول: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأصغِ لها سمعك، فإنه خيرٌ تُؤمر به، أو شرٌّ تُصرف عنه. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: دخلت عليَّ امرأة وأنا أقرأُ (سورةَ هُود) فقالت: يا عبد الرحمن: هكذا تقرأ سورة هود؟! والله إني فيها منذ ستةِ أشهر وما فرغتُ مِن قراءتها.
وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسرُ بالقراءة في صلاة الليل تارة، ويجهر بها تارة، ويُطيل القيام تارة، ويخفِّفه تارة، ويُوتر آخر الليل - وهو الأكثر - وأوَّله تارة، وأوسطَه تارة.
وكان يُصلي التطوع بالليل والنهار على راحلته في السفر قِبَلَ أي جهة توجهت به، فيركع ويسجد عليها إيماءً، ويجعل سجودَه أخفضَ مِن ركوعه، وقد روى أحمد وأبو داود عن أنس بن مالك، قال: "كانَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن يُصلي على راحلته تطوعاً، استقبل القبلة، فكبر للصلاة، ثم خلّى عن راحلته، ثم صلَّى أينما توجهت به" فاختلف الرواة عن أحمد: هل يلزمه أن يفعل ذلك إذا قدر عليه؟ على روايتين: فإن أمكنه الاستدارةُ إلى القبلة في صلاته كلِّها مِثلَ أن يكون في مَحْمِل أو عمارية ونحوها، فهل

يلزمه، أو يجوز له أن يُصلِّيَ حيث توجهت به الراحلةُ؟ فروى محمد بن الحكم عن أحمد فيمن صلَّى في مَحْمِلٍ: أنه لا يُجزئُه إلا أن يستقبل القبلة، لأنه يمكنه أن يدور، وصاحب الراحلة والدابة لا يُمكنه. وروى عنه أبو طالب أنه قال: الاستدارةُ في المَحْمِلِ شديدة يُصلي حيث كان وجهه. واختلفت الرواية عنه في السجود في المَحْمِلِ، فروى عنه ابنه عبد الله أنه قال: وإن كان مَحْمِلاً فقدر أن يسجد في المَحْمِل، فيسجد. وروى عنه الميموني، إذا صلَّى في المَحْمِلِ أحبُّ إليَّ أن يسجد، لأنه يمُكنه. وروى عنه الفضل بن زياد: يسجد في المَحْمِلِ إذا أمكنه وروى عنه جعفر بن محمد: السجود على المِرْفَقَةِ إذا كان في المَحْمِلِ، وربما أسند على البعير، ولكن يُومىء ويجعل السجودَ أخفضَ مِن الركوع، وكذا روى عنه أبو داود.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى صلاة الضحى
روى البخاري في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ما رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي سُبْحةَ الضحى، وإني لأُسبِّحُها. وروى أيضاً من حديث مُوَرِّقٍ العِجلي، قلتُ لابن عمر: أتُصلي الضحى؟ قال

لا، قلتُ: فَعُمَر؟ قال: لا، قلتْ: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت: فالنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لا إخاله.
وذكر عن ابن أبي ليلى قال: ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي الضحى غيرَ أم هانىء، فإنها قالت: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل بيتَها يومَ فتح مكة، فاغتسل، وصلَّى ثمانَ ركعات، فلم أرَّ صلاةً قطُّ أخفَ مِنها، غير أنهُ يُتم الركوعَ والسجود.
وفي "صحيح مسلم"، عن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة هل كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي الضحى؟ قالت: لا إلا أن يَجيءَ مِن مغيبه.
قلتُ: هل كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرُنُ بين السور؟ قالت: مِن المفصل.
وفي "صحيح مسلم" عن عائشة، قالت: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله وفي "الصحيحين" عن أم هانئ، أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى يوم الفتح ثمان ركعات وذلك ضحى.
وقال الحاكم في "المستدرك": حدثنا الأصم، حدثنا الصغاني،

حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا بكر بن مضر، حدثنا عمرو بن الحارث، عن بكر بن الأشج، عن الضحاك بن عبد الله، عن أنس رضي الله عنه قال: رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى في سفر سُبْحةَ الضُّحى، صلَّى ثمانَ ركعات، فلما انصرف، قال: "إِنِّي صَلَّيْتُ صلاَةَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، فَسَأَلْتُ رَبِّي ثَلاَثاً، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُهُ أَلاَ يَقْتُلَ أُمَّتِي بِالسِّنِينَ فَفَعَلَ، وسألتُه أَلاَّ يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّاً، فَفَعَلَ، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُلبسَهُمْ شِيَعاً فَأَبَى عَلَيَّ". قال الحاكم صحيح قلت: الضحاك بن عبد الله هذا يُنظر من هو وما حاله؟
وقال الحاكم: في كتاب "فضل الضحى": حدثنا أبو بكر الفقيه، أخبرنا بشر بن يحيى، حدثنا محمد بن صالح الدولابي، حدثنا خالد بن عبد الله بن الحصين، عن هلال بن يساف، عن زاذان، عن عائشة رضي الله عنها قالت: صلَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضحى، ثم قال: "اللهُمَّ اغْفِرْ لي، وَارحَمْني، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ الغَفُورُ" حتى قالها مائة مرة.
حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أسد بن عاصم، حدثنا الحصين بن حفص، عن سُفيان، عن عمر بن ذر، عن مجاهد، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صلَّى الضحى ركعتين، وأربعاً، وستاً وثمانياً
وقال الإِمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عثمان بن عبد الملك العمري، حدثتنا عائشة بنت سعد، عن أم ذرة، قالت: رأيتُ

عائشة رضي الله عنها تُصلي الضُّحى وتقول: ما رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي إلا أربعَ ركعات.
وقال الحاكم أيضاً: أخبرنا أبو أحمد بكر بن محمد المروزي، حدثنا أبو قِلابة، حدثنا أبو الوليد، حدثنا أبو عَوانة، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن مرة، عن عمارة بن عمير، عن ابن جبير بن مطعم، عن أبيه أنه رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي صلاة الضحى.
قال الحاكم أيضاً: حدثنا إسماعيل بن محمد، حدثنا محمد بن عدي بن كامل، حدثنا وهب بن بقية الواسطي، حدثنا خالد بن عبد الله، عن محمد بن قيس، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى الضُّحى ستَّ ركعات.
ثم روى الحاكم عن إسحاق بن بشير المحاملي، حدثنا عيسى بن موسى، عن جابر، عن عمر بن صبح، عن مقاتل بن حيان، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، قالتا: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي صلاة الضحى ثنتي عشرة ركعة، وذكر حديثاً طويلاً.
وقال الحاكم: أخبرنا أبو أحمد بن محمد الصيرفي، حدثنا أبو قِلابة الرقاشي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عاصم

بن ضُمرة، عن علي رضي الله عنه: "أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصلي الضحى".
وبه إلى أبي الوليد. حدثنا أبو عَوانة، عن حُصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن مرة، عن عِمارة بن عمير العبدي، عن ابن جبير بن مُطعم، عن أبيه، أنه رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي الضحى. قال الحاكم: وفي الباب عن أبي سعيد الخُدري، وأبي ذر الغِفاري، وزيد بن أرقم، وأبي هريرة، وبُريدة الأسلمي، وأبي الدرداء، وعبد الله بن أبي أوفى، وعِتبان بن مالك، وأنس بن مالك، وعُتبة بن عبد الله السلمي، ونعيم بن همَّار الغطفاني، وأبي أمامة الباهلي رضي الله عنهم، ومن النساء، عائشة بنت أبي بكر، وأم هانىء، وأم سلمة رضى الله عنهن، كلهم شهدوا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصليها. وذكر الطبراني من حديث علي، وأنس، وعائشة، وجابر، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصلي الضحى ست ركعات. فاختلف الناس في هذه الأحاديث على طرق، منهم من رجح رواية الفعل على الترك بأنها مثبتة تتضمن زيادةَ علم خفيت على النافي. قالوا: وقد يجوز أن يذهب علمُ مثل هذا على كثير من الناس، ويُوجد عند الأقل.

قالوا: وقد أخبرت عائشة، وأنس، وجابر، وأم هانىء، وعليُّ بنُ أبي طالب، أنه صلاها. قالوا: ويؤيد هذا الأحاديثُ الصحيحة المتضمنةُ للوصية بها، والمحافظةِ عليها، ومدحِ فاعلها، والثناءِ عليه، ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي محمد بصيامِ ثلاثَةِ أيام مِن كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أُوتِرَ قبل أن أنام.
وفي "صحيح مسلم" نحوه عن أبي الدرداء.
وفي "صحيح مسلم"، عن أبي ذر يرفعه، قال: "يُصبِحُ عَلَى كُلِّ سُلاَمىَ مِن أَحَدِكُم صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسبِيْحَةٍ صدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحمِيْدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وتجْزِىءُ مِن ذَلِكَ رَكْعَتانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضحَى".
وفي "مسند الإِمام أحمد"، عن مُعاذ بن أنس الجُهَني، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: "مَن قَعَدَ في مُصَلاَّهُ حينَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ حَتَّى يُسَبِّحَ رَكعتَي الضُّحى لا يقول إِلاَّ خَيراً، غَفَرَ الله خَطَايَاهُ وإِن كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البحْرِ".
وفي الترمذى، و"سنن ابن ماجه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:

قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَن حَافَظَ على سُبْحَةِ الضُّحَى، غفِرَ لَهُ ذُنُوبُه وإِن كانَت مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ ".
وفي "المسند" والسنن، عن نعيم بن همَّار قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول "قال الله عز وجل: يا ابْنَ آدَمَ لاَ تَعْجزَنَّ عَنْ أَرْبعِ رَكَعاتٍ في أوَّلِ النَّهار أكفك آخِرَه" رواه الترمذي من حديث أبي الدرداء، وأبي ذر.
وفي "جامع الترمذي" و"سنن ابن ماجه"، عن أنس مرفوعاً: "مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، بَنَى اللهُ لَهُ قَصْراً مِن ذَهَبٍ في الجنة".
وفي "صحيح مسلم"، عن زيد بن أرقم أنه رأى قوماً يُصلون من الضحى في مسجد قُباء، فقال: أما لقد عَلِموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضلُ إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "صلاَةُ الأوَّابين حينَ تَرْمَض الفِصَالُ".
وقوله: ترمَضُ الفِصال، أي: يشتد حر النهار، فتجد الفِصال حرارةَ الرمضاء. وفي "الصحيح" أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى الضُّحى في بيت عِتبان بن

مالك ركعتين.
وفي "مستدرك" الحاكم من حديث خالد بن عبد الله الواسطي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا يُحافِظُ عَلى صَلاةِ الضُّحَى إلا أَوَاب " وقال: "هذا إسناد قد احتج بمثله مسلمُ بن الحجاج، وأنه حدث عن شيوخه، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا أَذِنَ الله لِشَيء ما أَذِنَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالقُرْآنِ " قال: ولعل قائلاً يقول: قد أرسله حماد بن سلمة، وعبد العزيز بن محمد الدَّرَاوردي، عن محمد بن عمرو، فيقال له: خالد بن عبد الله ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة.
ثم روى الحاكم: حدثنا عبدان بن يزيد، حدثنا محمد بن المغيرة السكري، حدثنا القاسم بن الحكم العرَني، حدثنا سليمان بن داود اليمامي، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَ لِلْجَنَّةِ باباً يُقالُ لَهُ بابُ الضُّحَى، فَإِذَا كَانَ يَوْم القِيَامَة نادَى مُنَادٍ: أَيْنَ الَّذِينَ كانوا يُداوِمونَ عَلى صلاة الضحَى، هذا بابكم، فادْخُلُوه

بِرَحْمَةِ اللهِ ".
وقال الترمذي في "الجامع": حدثنا أبو كُريبٍ محمد بن العلاء، حدثنا يُونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني موسى بن فلان، عن عمه ثُمامة بن أنس بن مالك، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَن صَلَّى الضّحَى ثِنْتَيْ عَشرَةَ رَكْعَةً، بَنَى اللهُ لَهُ قَصْراً مِنْ ذَهَبٍ في الجَنَّة"،. قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وكان أحمد يرى أصحَّ شيء في هذا الباب حديثَ أم هانئ. قلت: وموسى ابن فلان هذا، هو موسى بن عبد الله بن المثنى بن أنس بن مالك.
وفي "جامعه" أيضاً مِن حديث عَطية العَوْفي، عن أبي سعيد الخُدري، قال: كانَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الضُّحَى حتى نقولَ: لا يدعُها، ويدعُها حتى نقولَ: لا يصليها. قال: هذا حديث حسن غريب.
وقال الإِمام أحمد في "مسنده" حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن الحارث الذِّمَاريَ، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "مَنْ مَشى إلى صَلاةٍ مكَتوبَةٍ وَهوَ مُتَطَهِّر، كانَ لَه كَأَجْرِ الحاجِّ المُحرِم، ومَنْ مَشى إلى سُبحَة الضُّحَى

كَانَ لَهُ كَأَجْرِ المُعتَمِرِ، وَصَلاة عَلى إِثرِ صَلاة لاَ لَغْوَ بَيْنَهمَا كِتَابٌ في عِلِّيِين " قال أبو أمامة: الغدو والرواح إلى هذِهِ المَساجِدِ مِنَ الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ عزّ وَجَلّ.
وقال الحاكم: حدثنا أبو العباس، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا أبو المورِّع محاضر بن المورِّع، حدثنا الأحوصُ بن حكيم، حدثني عبد الله بن عامر الألهاني، عن منيب بن عيينة بن عبد الله السّلمي، عن أبي أمامة، عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول: "مَن صَلَّى الصبحَ في مَسجِدِ جَمَاعَةٍ، ثمَّ ثبتَ فيهِ حَتَّى الضُّحَى، ثمَّ يُصلِّي سُبحَةَ الضُّحَى، كانَ لَهُ كَأَجرِ حاجٍّ أَوْ مُعْتَمِرٍ تَام لَهُ حَجَّتُه وَعُمرَتُه".
وقال ابن أبي شيبة: حدثني حاتم بن إسماعيل، عن حميد بن صخر، عن المقبُري، عن الأعرج، عن أبي هُريرة رضي الله عنه، قال: بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيشاً، فأعظموا الغنيمةَ، وأسرعوا الكَرَّة. فقال رجل: يا رسول الله ! ما رأينا بعثاً قطُّ أسرعَ كرةً ولا أعظَمَ غنيمة من هذا البَعثِ، فقال: "أَلا أُخبِركُمْ بِأَسرَعَ كَرَّةً، وَأَعْظَمَ غَنيمَةً: رَجُلٌ توضأَ في بَيتِهِ فَأَحْسَنَ وُضوءَه، ثَمَّ عَمَدَ إلى المَسجِد، فَصَلَّى فيهِ صَلاَةَ الغَداةِ، ثُمَّ أَعقَبَ بِصلاةِ الضّحَى، فَقَد أَرَعَ الكَرَةَ وَأعْظَمَ الغَنِيمَة".

وفي الباب أحاديث سوى هذه، لكم هذه أمثلها قال الحاكم: صحبتُ جماعةً من أئمة الحديث، فوجدتهم يختارون هذا العددَ، يعني أربعَ ركعات، ويُصلون هذه الصلاة أربعاً، لتواتر الأخبار الصحيحة فيه، وإليه أذهب، وإليه أدعو اتِّباعاَ للأخبار المأثورة، واقتداء بمشايخ الحديث فيه.
قال ابن جرير الطبري وقد ذكر الأخبارَ المرفوعةَ في صلاة الضحى، واختلاف عددها: وليس في هذه الأحاديث حديثّ يدفع صاحبه، وذلك أن من حكى أنه صلى الضحى أربعاً جائز أن يكون رآه في حال فعلِه ذلك، ورآه غيرُه في حالٍ أخرى صلى ركعتين، ورآه آخرُ في حال أخرى صلاها ثمانياً، وسمعه آخر يحثّ على أن يُصلي ستاً، وآخر يحثُّ على أن يُصلي ركعتين، وآخر على عشر، وآخر على ثنتي عشرة، فأخبر كلُّ واحد منهم عما رأى وسمع. قال: والدليل على صحة قولنا، ما روِيَ عن زيد بن أسلم قال. سمعتُ عبد الله بن عمر يقول لأبي ذر: أوصني يا عم، قال: سألتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما سألتني، فقال؟ " مَنْ صَلَّى الضّحَى رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يكْتَبْ مِن الغَافِلِينَ، وَمَنْ صَلًى أربَعاً، كتِبَ مِنَ العَابِدين، ومَن صَلَّى سِتّاً، لَمْ يَلْحَقْةُ ذَلِكَ اليَوْمَ ذَنْبٌ، وَمَنْ صَلَّى ثَمانِياَ، كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ، ومَنْ صَلَّى عَشْراً بَنى الله لَهُ بَيْتا في الجَنَّة".
وقال مجاهد: صلَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً الضحى ركعتين، ثم يوماً أربعاً، ثم يوماً سِتّاً، ثم يوماً ثمانياً ثم تركَ. فأبان هذا الخبر عن صحة

ما قلنا من احتمال خبر كل مُخْبِرٍ ممن تقدم أن يكون إخبارُه لِما أخبر عنه في صلاة الضُّحى على قدر ما شاهده وعاينه.
والصواب: إذا كان الأمر كذلك: أن يُصلّيها من أراد على ما شاء من العدد. وقد روِيَ هذا عن قوم من السلف حدثنا ابنُ حميد، حدثنا جرير، عن إبراهيم، سأل رجل الأسود، كم أصلي الضحى؟ قال: كم شئت.
وطائفة ثانية، ذهبت إلى أحاديث الترك، ورجَّحتها من جهة صحة إسنادها، وعمل الصحابة بموجبها، فروى البخاري عن ابن عمر، أنه لم يكن يُصليها، ولا أبو بكر، ولا عمر. قلت: فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا إخاله. وقال وكيع: حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم بن كُليب، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: ما رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى صلاة الضحى إلا يوماً واحداً. وقال علي بن المديني: حدثنا معاذ بن معاذ، حدثنا شعبة، حدثنا فضيل بن فَضالة، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: رأى أبو بكرة ناساً يُصلون الضحى، قال: إنكم لتصلون صلاة ما صلاها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عامَةُ أصحابه.
وفي "الموطأ": عن مالك، عن ابن شهاب، عن عُروة، عن عائشة قالت: ما سبَّح رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبحةَ الضّحى قطُّ، وإني لأسبِّحُها، وإن كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليَدَعُ العمل وهو يحب أن يعمل به خشيةَ أن يعمل به الناس، فَيُفرض عليهم.

وقال أبو الحسن علي بن بطَّال: فأخذ قوم من السَّلف بحديث عائشة، ولم يَرَوا صلاةَ الضحى، وقال قوم: إنها بدعة، روى الشعبي، عن قيس بن عُبيد، قال: كنت أختلِف إلى ابن مسعود السَّنَةَ كلَّها، فما رأيتُه مصلياً الضحى. وروى شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه أن عبد الرحمن بن عوف، كان لا يصلي الضحى. وعن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجدَ، فإذا ابنُ عمر جالس عند حُجرة عائشة، وإذا الناس في المسجد يُصلون صلاة الضحى، فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة،. وقال مرة: ونِعمَتِ البِدْعةُ.
وقال الشعبي: سمعتُ ابن عمر يقول: ما ابتدع المسلمون أفضل صلاة مِن الضحى، وسئل أنس بن مالك عن صلاة الضحى، فقال: الصلوات خمس.
وذهبت طائفة ثالثة إلى استحباب فعلها غِبّاً، فتُصلى في بعض الأيام دون بعض، وهذا أحدُ الروايتين عن أحمد، وحكاه الطبري عن جماعة، قال: واحتجوا بما روى الجُريري، عن عبد الله بن شَقيق، قال: قلتُ لعائشة أكانَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي الضحى؟ قالت: لا إلا أن يَجيءَ مِن مغيبه ثم ذكر حديث أبي سعيد: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي الضحى، حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول: لا يصليها، وقد تقدم. ثم قال كذا ذكر من كان يفعل ذلك مِن السلف وروى شعبة، عن حبيب بن الشهيد، عن عكرمة قال: كان ابنُ عباس يُصليها يوماً، ويدعها عشرة

أيام يعني صلاةَ الضحى وروى شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أنه كان لا يُصلي الضحى. فإذا أتى مسجد قُباء، صلَّى، وكان يأتيه كلَّ سبت. وروى سفيان، عن منصور، قال كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة، ويُصلون ويدعون يعني صلاة الضحى. وعن سعيد بن جبير: إني لأدع صلاة الضحى وأنا أشتهيها، مخافة أن أراها حتماً علي وقال مسروق: كنا نقرأ في المسجد، فنبقى بعد قيام ابن مسعود، ثم نقوم، فنصلي الضحى، فبلغ ابن مسعود ذلك فقال: لِم تُحمِّلون عبادَ الله ما لم يُحمِّلهم الله؟! إن كنتم لا بُدَّ فاعلين، ففي بيوتكم وكان أبو مِجْلَز يصلي الضحى في منزله.قال هؤلاء: وهذا أولى لئلا يتوهم متوهمٌ وجوبَها بالمحافظة عليها، أو كونَها سنةَ راتبةً ولهذا قالت عائشة: لو نُشِرَ لي أَبَواي ما تَرَكتها. فإنها كانت تُصليها في البيت حتى لا يراها الناس.
وذهبت طائفة رابعة إلى أنها تُفعل بسبب من الأسباب، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما فعلها بسبب، قالوا: وصلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ الفتح ثمان ركعات ضحى، إنما كانت مِن أجل الفتح، وأن سنة الفتح أن تصلى عنده ثمان ركعات، وكان الأمراء يُسمونها صلاة الفتح وذكر الطبريَ في "تاريخه" عن الشعبي قال: لما فتح خالد بن الوليد الحِجرة، صلَى صلاة الفتح ثمانَ ركعات لم يُسلم فيهن، ثم انصرف. قالوا: وقول أم هانىء: "وذلك ضحى". تريد أن فعله لهذه الصلاة كان ضحى، لا أن الضحى اسم لتلك الصلاة. قالوا: وأما صلاته في بيت عِتبان بن مالك، فإنما كانت لسبب أيضاَ، فإن عِتْبان قال له: إنِّي أنكرتَ بصري، وإنَّ السيول تحولُ بيني وبين مسجد قومي، فَودِدتُ أنك جئت، فصليتَ في بيتي مكاناً أتخذه مسجداَ، فقال: "أفعل إن شاء

الله تعالى" قال: فغدا عليَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر معه بعدما أشتدَّ النهارُ فاستأذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأذنت له، فلم يجلِس حتى قال: "أين تحِبّ أَن أصَلِّيَ مِن بَيتِكَ"،؟ فأشرت إليه من المكان الذي أُحب أن يصلي فيه، فقام وصففنا خلفه، وصلى، ثم سلم، وسلمنا حين سلم. متفق عليه.
فهذا أصل هذه الصلاة وقصتها، ولفظ البخاري فيها، فاختصره بعض الرواة عن عِتبان، فقال: إن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى في بيتي سُبحة الضحى، فقاموا وراءه فصلَّوْا.
وأما قولُ عائشة: لم يكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي الضحى إلا أن يَقْدَمَ مِنْ مغيبه، فهذا من أبين الأمور أن صلاته لها إنما كانت لسبب، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا. قَدِمَ من سفر، بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين.
فهذا كان هديَه، وعائشةُ أخبرت بهذا وهذا، وهي القائلةُ: "ما صلَّى

رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاةَ الضحى قطّ".
فالذي أثبتته فعلها بسبب، كقدومه من سفر، وفتحه، وزيارتِه لقوم ونحوه، وكذلك إتيانُه مسجد قباء للصلاة فيه، وكذلك ما رواه يوسف بن يعقوب، حدَّثنا محمد بن أبي بكر، حدَّثنا سلمة بن رجاء، حدَّثتنا الشعثاء، قالت: رأيتُ ابنَ أبي أوفى صلى الضُّحى ركعتين يوم بُشِّر برأس أبي جهل. فهذا إن صحَّ فهي صلاة شكر وقعت وقت الضحى، كشُكر الفتح والذيَ نفته، هو ما كان يفعله الناس، تصلونها لغير سبب، وهي لم تقل: إن ذلك مكروه، ولا مخالفٌ لسنته، ولكن لم يكن مِن هديه فعلُها لغير سبب. وقد أوصى بها وندب إليها، وحضَّ عليها، وكان يَستغني عنها بقيام الليل، فإن فيه غُنية عنها وهي كالبدل منه، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذي جَعَلَ اللَيْلَ والنَّهارَ خِلْفَةً لِمَن أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أوْ أرادَ شُكورَاً} [الفرقان: 62] قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: عوضاً وخلفاً يقوم أحدُهما مقامَ صاحبه، فمن فاته عمل في أحدهما، قضاه في الآخر.
قال قتادة: فأدوا للّه من أعمالكم خيراً في هذا الليل والنهار، فإنهما مطيَّتان يُقحِمَان الناسَ إلى آجالهم، ويُقرِّبان كلَّ بعيد، ويبليان كلَّ جديد، ويَجيئان بكلَّ موعود إلى يوم القيامة.
وقال شقيق: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: فاتتني الصلاةُ الليلة، فقال: أدرك ما فاتك مِن ليلتك في نهارك، فإن الله عزّ وجل جعل الليلَ والنهار خِلفة لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شُكورا.
قالوا: وفِعل الصحابة رضي الله عنهم يدل على هذا، فإن ابن عباس كان يُصليها يوماً، ويدعها عشرة، وكان ابنُ عمر لا يصليها، فإذا أتى مسجد قُباء، صلاها، وكان يأتيه كلَّ سبت وقال سفيان، عن منصور: كانوا يكرهون

أن يُحافظوا عليها، كالمكتوبة، ويصلون ويَدعون، قالوا: ومِن هذا الحديثُ الصحيح عن أنس، أن رجلاً من الأنصار كان ضخماً، فقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني لا أستطيع أن أُصليَ معك، فصنع للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاماً، ودعاه إلى بيته، ونضح له طرفَ حصير بماء، فصلى عليه ركعتين قال أنس ما رأيته صلى الضحى غير ذلك اليوم رواه البخاري.
ومن تأمل الأحاديث المرفوعة وآثارَ الصحابة، وجدها لا تدل إلا على هذا القول، وأما أحاديثُ الترغيب فيها، والوصيةُ بها، فالصحيح منها كحديث أبي هريرة وأبي ذر لايدل على أنها سنة راتبة لكل أحد، وإنما أوصى أبا هريرة بذلك، لأنه قد روي أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة، فأمره بالضحى بدلاً من قيام الليل، ولهذا أمره ألا ينام حتى يوتر، ولم يأمر بذلك أبا بكر وعمر وسائر الصحابة.
وعامة أحاديث الباب في أسانيدها مقال، وبعضها منقطع، وبعضها موضوع لا يحل الاحتجاج به، كحديث يروى عن أنس مرفوعاً "مَنْ دَاوَمَ على صَلاَةِ الضُّحَى ولمْ يَقطَعْهَا إلا عَنْ عِلّة، كنتُ أَنَا وَهُو في زَوْرَقٍ مِنْ نُورٍ في بَحرٍ مِنْ نورٍ" وضعه زكريا بن دُويد الكِندي، عن حميد.
وأما حديث يعلى بن أشدق، عن عبد الله بن جراد، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "من صَلَّى مِنْكُم صلاَةَ الضُحى، فَلْيصلها مُتَعَبِّداً، فإنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّيها السَّنَةَِ من

الدَّهْرِ ثمَّ يَنسَاهَا وَيَدَعهَا، فَتَحِنُّ إليهِ كَمَا تَحِنُّ النَّاقَة إلى وَلَدِهَا إذا فَقَدَته" فيا عجباً للحاكم كيف يحتج بهذا وأمثاله، فإنه يروي هذا الحديثُ في كتاب أفرده للضحى، وهذه نسخة موضوعة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعنى نسخة يعلى بن الأشدق. وقال ابن عدى: روى يعلى بن الأشدق، عن عمه عبد الله بن جراد، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحاديث كثيرة منكرة، وهو وعمُّه غيرُ معروفين، وبلغي عن أبي مسهر، قال: قلت ليعلى بن الأشدق: ما سمع عمُّك من حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: جامعَ سفيان، وموطأ مالك، وشيئاً من الفوائد. وقال أبو حاتم بن حبان: لقي يعلى عبد الله بن جراد، فلما كَبِر، اجتمع عليه من لا دِين له، فوضعوا له شهباً بمائتي حديث، فجعل يحدِّث بها وهو لا يدري، وهو الذي قال له بعضُ مشايخ أصحابنا: أيُّ شيء سمعته من عبد الله بن جراد؟ فقال: هذه النسخة، وجامعُ سفيان لا تحِلُ الرواية عنه بحال.
وكذلك حديثُ عمر بن صُبح عن مقاتل بن حيان حديث عائشة المتقدم: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي الضحى ثنتي عشرة ركعة، وهو حديث طويل ذكره الحاكم في "صلاة الضحى" وهو حديث موضوع، المتهم به عمر بن صبح قال البخاري: حدَثني يحيى، عن علي بن جرير، قال سمعت عمر بن صبح يقول: أنا وضعت خطبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال ابن عدى منكر الحديث. وقال ابن حبان: يضع الحديث على الثقات، لا يَحِلّ كتب حديثه إلا على جهة التعجب منه، وقال الدارقطني: متروك، وقال الأزدي كذاب.
وكذلك حديثُ عبد العزيز بن أبان، عن الثوري، عن حجاج بن فُرَافِصة، عن مكحول، عن أبي هريرة مرفوعاً "مَن حافظ على سبحة الضحى غفرت ذنوبه وإن كانت بعدد الجراد وأكثر من زبد البحر"

ذكره الحاكم أيضاً. وعبد العزيز هذا، قال ابن نمير: هو كذّاب، وقال يحيى: ليس بشيء، كذاب خبيث يضع الحديث، وقال البخاري، والنسائي، والدارقطني: متروكُ الحديث.
وكذلك حديث النهاس بن قهم، عن شداد، عن أبي هريرة يرفعه "من حَافَظَ عَلَى شُفْعَةِ الضُحَى، غُفِرَتْ ذُنُوبُه وَإنْ كَانَتْ أَكْثَر مِن زَبَدِ البحر". والنهاس، قال يحيى: ليس بشيء ضعيف كان يروي عن عطاء، عن ابن عباس أشياء منكرة، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن عدي: لايساوى شيئاً، وقال ابن حبان: كان يروي المناكير عن المشاهير، ويخالف الثقات، لا يجوز الاحتجاج به، وقال الدارقطني: مضطرب الحديث، تركه يحيى القطان.
وأما حديث حُميد بن صخر، عن المقبري، عن أبي هريرة: بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعثاً الحديثَ، وقد تقدم. فحميد هذا ضعفه النسائي، ويحيى بن معين، ووثقه آخرون، وأُنكِرَ عليه بعض حديثه، وهو ممن لا يحتج به إذا انفرد والله أعلم.
وأما حديث محمد بن إسحاق، عن موسى، عن عبد الله بن المثنى، عن أنس، عن عمه ثُمامة، عن أنس يرفعه "مَنْ صَلَّى الضُّحَى، بنى الله له قَصْراً في الجَنَّةِ مِنْ ذَهَبٍ"، فمن الأحاديث الغرائب، وقال الترمذيَ: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وأما حديث نعيم بن همَّار: "ابن آدَمَ لاَ تَعْجِزْ لي عَنْ أرْبَعِ ركَعَات فى أوَّلِ النَّهَارِ، أَكْفِكَ آخِرَهُ"، وكذلك حديث أبي الدرداء، وأبي ذر،

فسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: هذه الأربع عندي هي الفجر وسنتها.
فصل
وكان مِن هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهدي أصحابه سجودُ الشكر عند تجدُّد نِعمة تسُرُ أو اندفاع نِقمة، كما في "المسند" عن أبي بكرة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أتاه أمرٌ يَسُرُّه، خرَّ لله سَاجِداً شُكْراً لله تَعَالى.
وذكر ابنُ ماجه، عن أنس، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُشِّرَ بحَاجَةٍ، فخَرَّ للّه سَاجِداً.
وذكر البيهقي بإسناد على شرط البخاري، أن علياً رضي الله عنه، لما كتب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسلام همْدَان، خرَّ ساجداً ثم رفع رأسه، فقال: "السَّلاَم عَلَى هَمْدَانَ، السَّلاَمَ عَلى هَمْدان" وصدر الحديث في صحيح البخاري وهذا تمامه بإسناده عند البيهقي.

وفي "المسند" من حديث عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سجد شكراً لما جاءته البُشرى من ربه، أنه من صلَّى عليك، صلَّيْت عليه، ومن سلَّم عليك، سلمتُ عليه.
وفي سنن أبي داود من حديث سعد بن أبي وقاص، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رفع يديه فسأل الله ساعة، ثم خرّ ساجداً ثلاثَ مرات، ثم قال: " إنِّي سَأَلْتُ رَبي وشَفَعْتُ لأمَّتي، فَأَعْطَاني ثلُثَ أُمَّتي، فَخرَرْت سَاجِداً شُكْرَاً لِرَبِّي، ثُمَّ رَفعت رأسْي، فَسَألتُ رَبِّي لأمَّتي، فَأَعْطَاني الثُّلثَ الثاني، فَخَرَرَت سَاجداً شكْراً لِرَبي ثمّ رَفَعت رَأسي، فَسَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتي، فأعطَاني الثُّلثَ الآخَرَ، فَخَررَتُ ساجداً لربِّي".
وسجد كعب بن مالك لما جاءته البشرى بتوبة الله عليه، ذكره البخاري.

وذكر أحمد عن علي رضي الله عنه، أنه سجد حين وجد ذا الثُّدَيَّة في قتلى الخوارج.
وذكر سعيد بن منصور، أن أبا بكر الصِّديق رضي الله عنه، سجد حين جاءه قتلُ مسيلِمة.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سجود القرآن
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا مرَّ بسجدة، كبَّر وسجد، وربما قال في سجوده " سَجَدَ وَجهي لِلّذي خَلَقَهُ وَصوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصرَهُ بِحَولِهِ وَقُوَّتِهِ".
وربما قال: " اللهم احطط عَنِّي بها وِزرا، واكْتُب لي بها أَجْرَاً، واجْعَلْهَا لي عِنْدَكَ ذُخْرَاً، وَتَقبَّلها مِنِّي كَمَا تَقَبَّلتَها مِن عَبْدِكَ داودَ". ذكرهما أهل السنن.
ولم يُذكر عنه أنه كان يكبر للرفع من هذا السجود، ولذلك لم يذكره الخِرقي ومتقدمو الأصحاب، ولا نُقِلَ فيه عنه تشهد ولا سلام البتة وأنكر أحمد والشافعي السلامَ فيه، فالمنصوص عن الشافعي: إنه لا تشهدَ فيه

ولا تسليم، وقال أحمد: أما التسليمُ، فلا أدري ما هو، وهذا هو الصواب الذي لا ينبغي غيره.
وصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سجد في (الم تنزيل)، وفي (ص)، وفي (النجم) وفي؟ (إذا السَماء انشقَّت)، وفي (اقرأ باسْم رَبِّكَ الذي خَلَق).
وذكر أبو داود عن عمرو بن العاص، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أقرأه خمسَ عشرة، سجدة، منها ثلاث في المفصّل، وفي سورة الحج سجدتان.
وأما حديث أبي الدرداء، سجدت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحدى عشرة سجدة، ليس فيها من المفصَّل شيء: (الأعراف)، و(الرعد)، و(النحل)، و(بني إسرائيل)، و(مريم)، و(الحج)، و(سجدة الفرقان)، و(النمل)، و(السجدة)، وصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، و(سجدة الحواميم)، فقال أبو داود: روى أبو الدرداء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحدى عشرة سجدة، وإسناده واهٍ.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة. رواه أبو داود فهو حديث ضعيف، في إسناده أبو قدامة الحارث بن عبيد، لا يحتج بحديثه. قال الإِمام أحمد: أبو قدامة مضطرِب الحديث. وقال يحيى بن معين: ضعيف، وقال النسائي: صدوق عنده مناكير، وقال أبو حاتم البستي: كان شيخاً صالحاً ممن كثر

وهمه وعلَّله ابن القطان بمطر الوراق، وقال: كان يشبهه في سوء الحفظ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعيب على مسلم إخراجُ حديثه انتهى كلامه.
ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه، لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلِط فيه، فغلِط في هذا المقام من استدرك عليه إخراجَ جميع حديث الثقة، ومن ضعَّف جميع حديث سيىء الحفظ، فالأولى: طريقة الحاكم وأمثاله، والثانية: طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن والله المستعان.
وقد صح عن أبي هريرة أنه سجد مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في (اقرأ باسْم رَبِّكَ الَذي خَلَق)، وفي (إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّت)، وهو إنما أسلم بعد مَقدَم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدَينة بست سنين أو سبع، فلو تعارض الحديثان من كل وجه، وتقاوما في الصحة، لتعين تقديمُ حديث أبي هريرة، لأنه مثبت معه زيادة علم خفيت على ابن عباس، فكيف وحديثُ أبي هريرة في غاية الصحَة متفق على صحته، وحديث ابن عباس فيه من الضعف ما فيه. والله أعلم.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجمعة وذكر خصائص يومها
ثبت في "الصحيحين" عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "نَحْنُ الآخرُون

الأَوّلُونَ السَّابِقونَ يَوْمَ القِيامَة، بَيْدَ أنَّهم أوتُوا الكتاب مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرضَ اللهُ عَلَيْهِم، فاخْتَلَفوا فِيهِ، فهَدانَا اللهُ له، والنَّاسُ لَنا فيه تَبَع، اليَهُودُ غداً، والنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ".
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة، وحُذيفة رضي الله عنهما قال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَضَلَّ اللهُ عَن الجُمُعة مَنْ كان قَبْلَنا، فَكانَ لِلْيَهُودِ السَّبْتِ، وكَانَ لِلنَّصارى يَوْمُ الأَحَدِ، فجاء اللهُ بِنَا، فَهَدَانَا ليومِ الجمعة فَجَعَلَ الجُمُعَةَ والسّبْتَ والأَحَدَ، وكَذلِكَ هُم تَبَعٌ لَنَا يَومَ القِيَامَةِ، نحن الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنيا، والأَوَّلونَ يَوْمَ القِيامَةِ، المَقْضيُّ لهم قبل الخلائِق".
وفي "المسند" والسنن، من حديث أوس بن أوس، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضل أَيَّامِكُم يَومُ الجمعَةِ، فيه خَلَقَ اللهُ آدَمَ، وفيه قُبضَ، وفيه النَّفخَةُ، الصعْقَةُ، فأكثِرُوا عليَّ مِنَ الصَّلاةِ فيه، فإِنَّ صَلاَتَكُم مَعرُوضةٌ عليَّ" قالوا: يا رسولَ الله وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاتنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ؟ (يعني: قدْ بَلِيتَ). "إنَّ الله حَرَّمَ على الأَرضِ أَنْ تأْكُلَ أَجْسَادَ الأنبياءِ". ورواه الحاكم، في"المستدرك" وابن حبان في "صحيحه".

وفي "جامع الترمذي"، من حديث أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فيه الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فيه خَلَقَ اللهُ آدَمَ، وفيه أدْخِلَ الجَنَّةَ، وفيه أُخرِجَ منها، ولا تَقومُ السَّاعَةُ إِلاَّ في يَوْمِ الجُمُعَةِ ". قال: حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم.
وفي "المستدرك" أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً "سَيِّدُ الأيَّام يَوْمُ الجُمُعةِ، فيه خُلِقَ آدَمُ، وفيه أُدْخِلَ الجَنَّة، وفيه أُخْرِجَ مِنْهَا، ولا تَقومُ السَّاعَةُ إِلاَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ".
وروى مالك في "الموطأ"، عن أبي هريرة مرفوعاً "خيْر يَوْمٍ طَلَعَت عليه الشَّمْس يومُ الجُمُعةِ، فيه خُلِقَ آدمُ، وفيه أُهْبِطَ، وفيه تِيبَ عَليه، وفيه مَاتَ، وفيه تقومُ السَّاعةُ، وما منْ دابَّةٍ إلا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الجُمُعةِ مِنْ حِينَ تصبِحُ حتَّى تَطْلعَ الشّمْسُ شَفَقاً مِنَ السَّاعَةِ إِلاَّ الجِنَّ والإِنسَ، وفِيهِ سَاعَةٌ لا يُصادِفُهَا عَبدٌ مُسْلِمِّ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ الله شَيْئاً إِلاَّ أَعْطَاهُ إيَّاه". قال كعب: ذلك في كلِّ سنَةٍ يَوْمٌ، فقلتُ: بَلْ في كُلِّ جُمُعَةٍ، فَقَرأَ كَعْبّ التَّوْراةَ، فَقَال: صدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، ثُمَّ لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلاَمٍ، فحَدَّثْتهُ بِمَجْلِسي مَعَ كَعبٍ، قَالَ: قَدْ عَلِمتُ أَيَّة سَاعَةٍ هي، قُلت: فأَخبِرْنِي بِهَا، قال: هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ في يَوْمِ الجُمُعَةِ، فَقُلتُ: كَيفَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يصَادِفُهَا عَبدٌ مسلِمّ وَهوَ يصَلِّي

وَتِلْكَ السَّاعَةُ لاَ يُصَلَّى فيها؟ فَقَالَ ابن سلام: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ الله "مَن جَلَسَ مَجلِساً يَنْتَظِرُ الصلاَةَ، فَهُوَ في صًلاةٍ حَتَّى يُصلِّيَ"؟
وفي "صحيح ابن حبان" مرفوعاً: "لا تطلع الشمس على يوم خير من يَوْمِ الجُمُعة".
وفي "مسند الشافعي" من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه، قال: أتى جبريلُ عليه السلام رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بمرْآة بَيْضَاءَ، فِيها نُكتةٌ، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما هذِهِ؟ فقال : "هذِهِ يَومُ الجُمُعةِ، فُضِّلْتَ بِهَا أَنْتَ وَأُمَّتُكَ، والنَّاسُ لَكُمْ فيها تَبَعٌ، اليهودُ والنَّصارى، ولكم فيها خَيْرٌ، وفيها سَاعَةٌ لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يدعو الله بِخَيْرٍ إلا اسْتُجِيبَ لَهُ وهُوَ عِنْدَنَا يَوْمُ المزيد، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا جِبْريلُ ! ما يومُ المزيدِ؟ قال: إِنَّ رَبَّكَ اتَّخَذَ فِي الفِرْدَوْسِ وَادِياً أفيحَ فِيهِ كُثُبٌ مِنْ مِسْكٍ، فإذا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ أنزلَ الله سُبحَانَهُ ما شَاءَ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ، وَحَوْلَهُ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ عَليها مَقَاعِدُ النَّبيِّينَ، وحَفَّ تِلكَ المنابِرَ بِمنَابِرَ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ بالياقوت وَالزَّبَرجَدِ، عليها الشُّهَداءُ والصِّدِّيقُونَ، فجلسوا مِنْ وَرَائهم على تِلْكَ الكُثُبِ"، فيقولُ اللهُ عزّ وجَلَّ: "أَنا رَبّكم قَدْ صَدَقتكم وعدي، فسَلُوني أُعْطِكُم، فيقولون: ربَّنا نسألك رضوانَك، فيقول: قَدْ رَضِيتُ عنْكُم وَلَكُم مَا تَمَنيْتُم وَلَدَيَّ

مَزيد، فهم يُحِبُّونَ يَوْمَ الجُمُعةِ لِما يُعطيهم فيه ربُّهم مِنَ الخَيْرِ، وهُوَ اليومُ الَّذي اسْتوى فيه ربُّك تَبَارَكَ وتَعالى على العرش، وفيه خَلَقَ آدم، وفيه تقوم السَّاعة".
رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد، حدثني موسى بن عُبيدة، قال: حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة، عن عبد الله بن عبيد، عن عمير بن أنس.
ثم قال: وأخبرنا إبراهيم قال: حدثني أبو عمران إبراهيم بن الجعد، عن أنس شبيهاً به.
وكان الشافعي حسنَ الرأي في شيخه إبراهيم هذا، لكن قال فيه الإِمام أحمد رحمه للّه: معتزلي جهمي قدري كُلُّ بلاء فيه.
ورواه أبو اليمان الحكم بن نافع، حدثنا صفوان: قال: قال أنس: قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أتاني جِبْريلُ فذكره" ورواه محمد بن شعيب، عن عمر مولى غُفرة، عن أنس ورواهُ أبو ظبية، عن عثمان بن عُمير، عن أنس. وجمع أبو بكر بن أبي داود طرقه.
وفي "مسند أحمد" من حديث علي بن أبي طلحة، عن أبي هريرة، قال: قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأي شيء سُمِّيَ يَوْم الجمعة؟ قال " لأَنَّ فيه طُبِعَت طِينَةُ أَبيكَ آدَمَ، وفيه الصَّعْقَةُ، والبعْثَةُ، وفيه البَطْشَةُ، وفي آخِرِهِ ثَلاثُ سَاعاتٍ،

منها سَاعَةٌ مَنْ دعا الله فيها اسْتُجِيبَ له ".
وقال الحسن بن سفيان النَّسوي في "مسنده" حدثنا أبومروان هشام بن خالد الأزرق، حدثنا الحسن بن يحيى الخُشني، حدثنا عمر بن عبد الله مولى غُفرة، حدثني أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أتاني جِبريلُ وفي يَده كَهَيْئَة المِرْآة البيضاء، فيها نكْتَةٌ سَوْداءُ، فقلت: ما هذه يا جِبريلُ؟ فقال: هذه الجُمُعَة بُعِثْتُ بها إِلَيْكَ تكُونُ عيداً لكَ وَلأُمَّتِكَ مِنْ بعدِك. فقلت: وما لَنا فيها يا جِبْريل؟ قال: لَكمْ فيها خَيْرٌ كَثير، أَنْتُمُ الآخِرُون السَابقونَ يَوْمَ القِيَامَة، وفيها سَاعَةٌ لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ يصلِّي يَسْألُ اللهَ شَيئاً إِلاَّ أَعْطاه. قلتُ: فما هذه النّكْتَةُ السَّوداء يا جِبرِيلُ؟ قال: هذه السَّاعة تكون في يوم الجُمُعة وهو سَيِّد الأَيَّام، ونحنُ نسميه عندنا يومَ المَزيد. قلت: وما يومُ المَزيد يا جِبْريل؟ قال: ذلك بِأَنَّ رَبَّكَ اتَّخَذَ في الجَنَّة وادياً أفيحَ مِنْ مِسْكٍ أبْيض، فإذا كان يَوْمُ الجُمُعة مِنْ أَيَّام الآَخرة، هَبَطَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ مِن عَرْشِهِ إِلى كُرسِيِّه، ويُحَفُّ الكُرْسيّ بِمنابِرَ مِنَ النُّورِ فيجلسُ عليها النَّبِيُّونَ وتُحَفُّ المنابِرُ بِكَراسِي مِنْ ذَهَب، فيجلِسُ عليها الصِّدِّيقون والشُّهداء، ويَهْبِطُ أهلُ الغُرَفِ من غُرَفهم، فيجلسون على كُثبانِ المِسكِ لا يرون لأهلِ المنابِر والكراسي فَضلاً في المجلِس، ثمَّ يَتَبدَّى لهم ذو الجَلال والإِكرام تبارك وتعالى، فيقول: سلوني، فيقولون بِأَجْمَعِهم: نَسْأَلُك الرِّضى يا ربُّ، فيَشْهَدُ لَهم عَلى الرِّضى، ثم يقول: سَلوني، فيسألونَه حَتَّى تَنتَهِيَ نَهْمَةُ كُلِّ عَبْدٍ مِنْهُم، قال: ثُمَّ يُسْعى عَلَيْهِم بِما لا عَيْنٌ رَأت، ولا

أُذنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَر على قَلب بَشَر، ثُمَّ يَرتَفع الجَبَّار مِنْ كُرْسيِّه إِلى عَرشِهِ، وَيَرْتَفعُ أهْلُ الغُرَف إلى غُرَفِهم، وهي غُرفَةٌ مِنْ لُؤلُؤَةٍ بَيْضاء، أو ياقُوتَةٍ حَمراء، أو زُمرُّدةٍ خضراء، ليس فيها فَصْمٌ وَلاَ وَصمٌ مُنَوَّرة، فيها أنهارُها، أو قال: مُطَّرِدةٌ مُتَدَليَةٌ فيها ثِمَارُها، فيها أزواجُها وَخَدمُها وَمَساكِنُها قال: فأهلُ الجَنَّة يَتباشَرون في الجنَّة بِيَومِ الجُمُعة، كما يَتبَاشَرُ أهل الدُّنيا في الدُّنيا بالمطر".
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب "صفة الجنة": حدثني أزهر بن مروان الرقاشي، حدثني عبد الله بن عَرَادة الشيباني، حدثنا القاسم بن مُطيِّب، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حُذيفة، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتاني جِبْرِيل وفي كَفّه مِرْآةٌ كأحْسَنِ المرَائي وأضْوَئِها، وإذا في وَسَطِها لَمْعَةٌ سوداءُ، فقلت: ما هذه اللَّمْعَةُ التي أرى فيها؟ قال: هذه الجُمُعَةُ، قلت: وما الجُمعَةُ؟ قال: يَوْمٌ مِنْ أَيَّام رَبِّكَ عظيم، وَسَأخْبِرُكَ بِشَرَفِهِ وفَضْلِهِ في الدّنيا، وما يرجى فيه لأهله، وأُخْبِرُك باسْمه في الآخِرة، فأما شَرَفه وَفَضْلُهُ في الدنيا، فإن الله عزَّ وجَلَّ جَمَعَ فيه أمر الخلق، وأمَّا ما يُرجَى فيه لأهله، فإنَّ فيه سَاعَةً لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ أَوْ أَمَةٌ مُسْلِمَةٌ يَسْأَلانِ الله تعالى فيها خَيْراً إلا أعطاهما إياه، وأمَّا شَرَفُهُ وَفضْلُهُ في الآخِرَة واسْمه، فإنَّ الله تباركَ وتَعَالى إذا صَيَّرَ أهْلَ الجنَة إلى الجَنَّة، وأهْل النار إلى الناَّر، جَرَتْ عليهم هذه الأّيَام وهذه اللَّيالي، ليس فيها لَيلٌ وَلاَ نَهَارّ إِلاَّ قَدْ علم اللهُ عزَ وَجَلَّ مِقدَارَ ذَلِكَ وَسَاعَاتِه، فإذا كان يَوْمُ الجمُعَة حين يخرج أهل الجُمُعَةِ إلى جُمُعَتِهم، نادى أَهْلَ الجنَّة مُنَادٍ، يا أهْل الجَنَّة اخرجوا إلى وادي المَزيد، ووَادي المَزيد لا يعلم سعَة طوله وعرضه إلاَّ اللهُ، فيه كُثبَانُ المِسك، رؤوسها في السَّمَاء

قال: فَيخْرُج غِلْمَانُ الأنْبِياء بمنابرَ مِنْ نور، ويخرج غِلْمَانُ المؤمنين بِكَراسي مِنْ يَاقوتٍ، فإذا وُضِعَتْ لَهم، وَأَخَذَ القَوْمُ مَجَالِسَهم، بَعَثَ اللهُ عليهم ريحاً تدعى المُثيرة، تُثيرُ ذلك المِسكَ، وتُدْخِله مِن تَحتِ ثِيابِهِم، وتُخْرِجهُ في وجوهِهِم وأشْعارِهِم، تِلْك الرِّيح أَعْلَم كَيفَ تَصْنَع بِذلِكَ المِسكِ مِن امرأةِ أحَدِكُم، لو دُفعَ إليها كُلُّ طِيب على وَجْه الأرض. قال: ُثم يُوحي الله تبارك وتعالى إلى حَمَلَة عَرْشِهِ: ضَعُوه بَين أَظهُرِهِم، فيكون أوّلَ ما يَسمَعونَهُ منه: إليَّ يا عبادي الذين أطاعُوني بِالغَيب وَلم يَروني، وصَدَّقوا رُسُلِي، واتَّبَعوا أمْري، سَلُوني فهذا يَومُ المَزيد، فيجَتَمِعُونَ على كَلِمَةٍ واحِدَةٍ: رضِيْنا عَنْك فَارْضَ عَنَّا، فيرْجِعُ اللهُ إلَيهم: أَنْ يَا أَهلَ الجَنَّة إِنِّي لَوْ لم أَرْضَ عَنْكُم لم أُسْكِنْكُم داري، فَسَلُوني فهذا يَوْمُ المَزيد، فَيَجْتَمِعُونَ على كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ: يا رَبَّنَا وَجْهَكَ نَنْظُرْ إليه، فيَكْشِفُ تلْكَ الحُجُبَ، فَيَتجَلَّى لهم عَزَّ وجَلَّ، فَيَغْشَاهُم مِنْ نُوره شَيءٌ لَوْلا أَنّه قَضَى ألا يَحْتَرِقُوا، لاحْترَقوا لِما يَغْشَاهُم مِنْ نُورِهِ، ثُمَّ يُقالُ لَهُم: ارْجعوا إلى مَنازِلِكم، فيَرْجِعون إلى مَنَازِلِهِم وَقَدْ أَعْطَى. كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ الضِّعْفَ عَلَى مَا كانوا فيه، فَيَرْجِعُون إلى أَزْوَاجِهِم وقد خَفُوا عَلَيْهِنَّ وَخَفِينَ عليهم ممَّا غَشِيَهمْ مِن نُورِهِ، فإذا رَجعُوا تَرادَّ النُّورُ حَتَّى يَرْجِعُوا إلى صُوَرِهم الّتي كانوا عَلَيْها، فَتَقول لَهُم أَزْوَاجُهُم: لَقَدْ خَرَجْتُم مِنْ عِنْدِنَا على صورة ورَجَعْتُم عَلى غَيْرِها، فيقولون: ذلك لأنَّ اللهَ عَزّ وجَلُّ تَجَلَّى لنا، فَنَظَرْنا مِنْه قال: وإِنَّهُ وَاللهِ ما أحاطَ به خَلْقٌ، وَلكنَّهُ قَد أراهم مِنْ، عظَمَتِهِ وَجَلالِهِ ما شَاءَ أَنْ يُرِيَهُم قال: فَذلِكَ قولهم فَنَظَرْنا مِنْه، قال: فَهُم يَتَقَلَّبُون في مِسْكِ الجَنَّة ونَعيمِها في كلِّ سَبعَةِ أَيَّام الضعفَ عَلى مَا كَانوا فيه . قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَلِكَ قَوْلُه تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم مِنْ قُرَةِ أَعْينٍ جَزاءً بِمَا كَانوا يَعمَلون} [السجدة: 17].

ورواه أبو نُعيم في "صفة الجنة" من حديث عِصمة بن محمد حدثنا، موسى بن عقبة، عن أبي صالح، عن أنس شبيهاً به.
وذكر أبو نعيم في "صفة الجنة" من حديث المسعودي، عن المِنهال، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: سارعوا إلى الجُمُعة في الدنيا، فإن الله تبَارك وتعالى يَبْرُزُ لأهل الجنة في كل جمعة على كثيب من كافور أبيض، فيكونون منه سبحانه بالقرب على قدر سُرعتهم إلى الجمعة، ويُحدِثُ لهم من الكرامة شيئاً لم يكونوا رأوه قبل ذلك، فيرجِعون إلى أهليهم وقد أحدث لهم.
فصل: في مبدإ الجمعة
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، قال: حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كنت قائدَ أبي حين كُفَّ بصرُه، فإذا خرجتُ به إلى الجمعة، فسمع الأذانَ بها، استغفر لأبي أمامة أسعد بنِ زُرارة، فمكث حيناً على ذلك فقلت: إن هذا لعجز ألا أسأله عَنْ هذا، فخرجتُ به كما كنتُ أخرج، فلما سمع الأذان للجمعة، استغفرَ له، فقلت: يا أبتاه ! أرأيتَ استغفارَك لأسعد بنِ زُرارة كلما سمعتَ الأذان يومَ الجمعة؟ قال: أي بُنَيَّ ! كان أسعدُ أولَ من جمَّع بنا بالمدينة قبل مَقْدَمِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هَزْم النَّبيتِ مِن حَرَّة بني بَياضة في نقيع يُقال

له: نقيع الخَضَماتِ. قلتُ: فكم كُنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلاً.
قال البيهقي، ومحمد بن إسحاق إذا ذكر سماعه من الراوي، وكان الراوي ثقة، استقام الإِسنادُ، وهذا حديث حسن صحيح الإِسناد انتهى.
قلت: وهذا كان مبدأ الجمعة. ثم قَدم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فأقام بقُباء في بني عمرو بن عوف، كما قاله ابنُ إسحاَق يوم الاثنين، ويومَ الثلاثاء، ويومَ الأربعاء، ويومَ الخميس، وأسسَّ مسجدَهم، ثم خرج يومَ الجمعة، فأدركته الجمعةُ في بني سالم بن عوف، فصلاَّها في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانت أوَّل جمعة صلاها بالمدينة، وذلك قبل تأسيسِ مسجده.
قال ابن إسحاق: وكانت أوَّل خطبة خطبها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما بلغني عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن -ونعوذ بالله أن نقول على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لم يقُلْ - أنه قام فِيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أمَّا بَعْدُ أيُها النَّاسُ، فَقَدِّموا لأَنْفُسكمَ تَعْلَمُنَّ وَالله لَيُصْعَقَنَّ أحَدُكم، ثُمَّ لَيَدَعَنَّ غَنَمَه لَيس لها رَاع، ثُمَّ ليقولَنَّ لَهُ ربُّه ولَيْس لَة تُرْجُمان، ولا حاجبٌ يَحْجبُه دُونه اْلَمْ يَاْتكَ رَسولي، فَبَلَّغَك، وآتَيْتك مَالاً، وأفْضَلْتُ عَلَيْكَ، فَمَا قَدَّمْتَ لِنَفسِك، فَلَيَنْظرنَّ يَميناً وشِمالاً، فلا يَرى شَيئاً، ثُمَّ لَيَنْظرَنَّ قدَّامَه فَلاَ يَرَى غَيْرَ

جَهنَّم، فَمَنِ اسْتَطاعَ أنْ يَقِيَ وَجْهَهُ منَ النَّارِ ولو بشقٍّ منْ تَمْرة، فَلْيَفْعَل، ومن لَمْ يَجد، فَبكَلمَةٍ طيِّبةٍ، فَإنَّ بِهَا تُجْزى اَلحَسنةُ بعَشْرَ أَمْثَالهَا إلى سًبعمائة ضعف، والسلام علَيكَم ورحمة الله وبركاته".
قال ابن إسحاق: ثم خطب رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرة أخرى، فقال: "إن الحمد للّه أَحمَدُهُ وأَسْتَعِينُه، نَعوذُ بالله مِنْ شرور أنْفُسِنا، وسَيِّئاتِ أعْمالِنا مَنْ يَهْدِه الله، فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِل، فلا هادِيَ له، وأشْهَدُ أن لا إله إلاَّ اللهُ وَحْدَه لا شَريكَ له، إنَّ أحسَن الحَديث كِتابُ الله، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَيَّنَه الله في قلبه، وأدخله في الإِسلام بعد الكفر، فاختارَه على ما سواه مِنْ أحاديث النَّاس، إنَّه أَحْسَنُ الحديثِ وأبْلغُه، أَحِبُّوا ما أَحَبَّ اللهُ، أَحِبُّوا اللهَ مِنْ كُلِّ قُلوبِكُم، ولا تَمَلوا كَلامَ اللهِ وذِكْرَه، ولا تَقسُ قُلوبُكم، فإنَّه مِنْ كُلِّ مَا يَخْلُقُ الله يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي، قد سمَّاه الله خِيرَته مِنَ الأعمال، ومُصطفَاهُ من العِبَادِ والصَّالح مِنَ الحديث، ومِنْ كُلِّ مَا أُوتيَ النَّاسُ من الحَلالِ وَالحَرَامِ، فاعْبُدوا الله ولا تُشْرِكوا به شَيْئاً، واتَّقوه حَقَّ تُقَاتِه، واصْدُقُوا اللهَ صالحَ ما تقولون بأفْواهِكم، وَتَحابُّوا بِرُوح اللهِ بَيْنكم، إنَّ اللهَ يَغْضَبُ أَنْ يُنكَثَ عَهْدُه، والسَّلامُ عَلَيكم وَرَحْمَة الله وبركاته".
وقد تقدم طرف من خطبته عليه السلام عند ذكر هديه في الخطب

فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعظيمُ هذا اليوم وتشريفه، وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره. وقد اختلف العلماء: هل هو أفضلُ، أم يومُ عرفة؟ على قولين: هما وجهان لأصحاب الشافعي.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في فجره بسورتي (الم تنزيل) و(هل أتى على الإِنسان). ويظن كثير ممن لا علم عنده أن المراد تخصيصُ هذه الصلاة بسجدة زائدة، ويسمونها سجدة الجمعة، وإذا لم يقرأ أحدُهم هذه السورة، استحبَّ قراءة سورة أخرى فيها سجدة، ولهذا كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة، دفعاً لتوهم الجاهلين، وسمعت شيخَ الإِسلام ابن تيمية يقول: إنما كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة، لأنهما تضمنتا ما كان ويكون في يَومِها، فإنهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذِكر المعاد، وحشر العباد، وذلك يكون يومَ الجمعة، وكان في قراءتهما في هذا اليوم تذكيرٌ للأمة بما كان فيه ويكون، والسجدة جاءت تبعاً ليست مقصودة حتى يقصدَ المصلي قراءتها حيثُ اتفقت. فهذه خاصة من خواص يوم الجمعة.

الخاصة الثانية: استحبابُ كثرة الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه وفي ليلته، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أكثِروا مِنَ الصلاة عَلَّي يوم الجُمُعة وَلَيْلَة الجُمُعة". ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيدُ الأنام، ويوم الجمعة سيدُ الأيام، فللصلاةِ عليه في هذا اليوم مزيةٌ ليست لغيره مع حكمة أخرى، وهي أن كل خير نالته أمتُه في الدنيا والآخرة، فإنما نالته على يده، فجمع الله لأمته به بين خيري الدنيا والآخرة، فأعظمُ كرامة تحصل لهم، فإنما تحصل يوم الجمعة، فإن فيه بعثَهم إلى منازلهم وقصورِهم في الجنَّة، وهو يومُ المزيد لهم إذا دخلوا الجنَّة، وهو يوم عيد لهم في الدنيا، ويوم فيه يُسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم، ولا يَرُدُّ سائلهم، وهذا كلُ إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده، فمن شكرِه وحمده، وأداءِ القليل من حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نكثر الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته.
الخاصة الثالثة: صلاة الجمعة التي هي من آكد فروض الإِسلام، ومِن أعظم مجامع المسلمين، وهي أعظمُ مِن كل مجمع يجتمعون فيه وأفرضُه سوى مجمع عرفة، ومن تركها تهاوناً بها، طبع اللهُ على قلبه، وقُربُ أهل الجنة يومَ القيامة، وسبقُهم إلى الزيارة يومَ المزيد بحسب قُربهم من الإِمام يومَ الجمعة وتبكيرهم.
الخاصة الرابعة: الأمر بالاغتسال في يومها، وهو أمرٌ مؤكد جداً، ووجوبه أقوى مِن وجوب الوتر، وقراءة البسملة في الصلاة، ووجوب الوضوءِ من مس النساء، ووجوب الوضوءِ مِن مرِّ الذكر، ووجوب الوضوءِ من القهقهة في الصلاة، ووجوب الوضوءِ من الرُّعاف، والحِجامة، والقيء، ووجوب الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد الأخير، ووجوب القراءة على المأموم.

وللناس في وجوبه ثلاثةُ أقوال: النفيُ والإِثبات، والتفصيلُ بين من به رائحة يحتاج إلى إزالتها، فيجب عليه، ومن هو مستغن عنه، فيستحب له، والثلاثة لأصحاب أحمد.
الخاصة الخامسة: التطيب فيه، وهو أفضل من التطيب في غيره من أيام الأسبوع.
الخاصة السادسة: السِّواك فيه، وله مزية على السواك في غيره.
الخاصة السابعة: التبكير للصلاة.
الخاصة الثامنة: أن يشتغل بالصلاة، والذكر، والقراءة حتى يخرج الإِمام.
الخاصة التاسعة: الإِنصات للخطبة إذا سمعها وجوباً في أصح القولين، فإن تركه، كان لاغياً، ومن لغا، فلا جمعة له، وفي "المسند"، مرفوعاً "والذي يقول لِصاحِبِه أنصِتْ، فَلا جُمُعَةَ لَهُ".
الخاصة العاشرة: قراءة سورة الكهف في يومها، فقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرأَ سُورَةَ الكَهْفِ يَوْمَ الجمُعَةِ، سَطَعَ لَهُ نُورٌ مِن تَحتِ قَدَمِهِ إلى عَنَانِ السَّمَاء يُضىء بِه يَوْمَ القِيامَةِ، وغُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الجُمُعَتَيْنِ".

وذكره سعيد بن منصور مِن قول أبي سعيد الخُدري وهو أشبه.
الحادية عشرة: إنه لا يُكره فعلُ الصلاة فيه وقتَ الزوال عند الشافعى رحمه الله ومن وافقه، وهو اختيار شيخنا أبي العباس بن تيمية، وَلَم يكن اعتمادُه. على حديث ليث، عن مجاهد، عن أبي الخليل، عن أبي قتادة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كره الصلاة نِصف النهار إلا يومَ الجمعة. وقال: إنَّ جَهَنَّمَ تُسَجَّرُ إلاَّ يَوْمَ الجُمُعَة وإنما كان اعتمادُه على أن من جاء إلى الجمعة يُستحب له أن يُصلِّيَ حتى يخرج الإِمام، وفي الحديث الصحيح "لا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِن دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِن طِيبِ بَيتِه، ثُمَّ يَخرُجُ، فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْن، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ ينْصِتُ إذا تَكَلَّمَ الإِمَامُ إلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَينةُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأخْرَى". رواه البخاري فندبه إلى الصلاة ما كتِب له، ولم يمنعه عنها إلا في وقت خروج الإِمام، ولهذا قال غيرُ واحد من السلف، منهم عمر

بن الخطاب رضي الله عنه، وتبعه عليه الإِمام أحمد بن حنبل: خروجُ الإِمام يمنع الصلاة، وخطبتُه تمنع الكلام، فجعلوا المانع من الصلاة خروجَ الإِمام، لا انتصافَ النهار.
وأيضاً، فإن الناس يكونون في المسجد تحت السقوف، ولا يشعرُون بوقت الزوال، والرجلُ يكون متشاغِلاً بالصلاة لا يدرى بوقت الزوال، ولا يُمكنه أن يخرج، ويتخطَّى رقاب الناس، وينظُر إلى الشمس ويرجِعَ، ولا يشرع له ذلك.
وحديث أبي قتادة هذا، قال أبو داود: هو مرسل لأن أبا الخليل لم يسمع من أبي قتادة، والمرسل إذا اتصل به عمل، وَعَضَدَهُ قياسٌ، أو قولُ صحابي، أو كان مرسله معروفاً باختيار الشيوخ ورغبتهِ عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين ونحو ذلك مما يقتضي قوته، عُمِلَ به.
وأيضاً، فقد عضده شواهد أخر، منها ما ذكره الشافعي في كتابه فقال: روي عن إسحاق بن عبد الله، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهى عَنِ الصَّلاةِ نِصفَ النهار حتى تزول الشمسُ إلا يومَ الجمعة. هكذا رواه رحمه الله في كتاب "اختلاف الحديث" ورواه في "كتاب الجمعة" حدثنا إبراهيم بن محمد، عن إسحاق، ورواه أبو خالد الأحمر، عن شيخ من أهل المدينة، يقال له: عبد الله بن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد رواه البيهقي في "المعرفة" من حديث عطاء بن عجلان، عن أبي نضرة، عن أبى سعيد وأبي هريرة قالا: كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن الصلاة نِصفَ النهار، إلا يوم الجمعة ولكن

إسناده فيه من لا يحتج به، قاله البيهقي، قال: ولكن إذا انضمت هذه الأحاديث إلى حديث أبي قتادة أحدثت بعض القوة. قال الشافعي: من شأن الناس التهجير إلى الجمعة، والصلاةُ إلى خروج الإِمام، قال البيهقى: الذي أشار إليه الشافعي موجود في الأحاديث الصحيحة وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رغَّب في التبكير إلى الجمعة، وفي الصلاة إلى خروج الإِمام من غير استثناء، وذلك يُوافِق هذه الأحاديث التي أُبيحت فيها الصلاة نصف النهار يوم الجمعة، وروينا الرُّخصة في ذلك عن عطاء، وطاووس، والحسن، ومكحول. قلت: اختلف الناسُ في كراهة الصلاةِ نِصفَ النهار على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ليس وقت كراهة بحال، وهو مذهب مالك.
الثاني : أنه وقت كراهة في يوم الجمعة وغيرها، وهو مذهب أبي حنيفة، والمشهور من مذهب أحمد.
والثالث : أنه وقت كراهة إلا يومَ الجمعة، فليس بوقت كراهة، وهذا مذهب الشافعي.
الثانية عشرة: قراءة (سورة الجمعة) و(المنافقين)، أو (سبح) و(الغاشية) في صلاة الجمعة، فقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بهن في الجمعة، ذكره مسلم في "صحيحه".
وفيه أيضاً: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يقرأ فيها ب (الجُمُعةِ) و(هَلْ أتاك حديثُ الغاشية) ثبت عنه ذلك كلُّه.

ولا يُستحب أن يقرأ مِن كل سورة بعضها، أو يقرأ إحداهما في الركعتين، فإنه خلافُ السنة، وجُهَّال الأمة يُداومون على ذلك.
الثالثة عشرة،: أنه يومُ عيد متكرِّر في الأسبوع، وقد روى أبو عبد الله بن ماجه في "سننه" من حديث أبي لُبابة بنِ عبدِ المُنذر قال: قال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن يَومَ الجُمُعَةِ سَيِّد الأيام، وأَعْظَمُها عنِد الله، وهُوَ أَعْظَم عِنْدَ الله مِنْ يَوْمِ الأضْحَى، وَيَوْمِ الفِطْر، فيه خَمسُ خِلالٍ: خَلَقَ الله فيه آدم، وأَهْبَطَ فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفَّى الله آدم، وفيه ساعَةٌ لا يَسْأَلُ الله العَبدُ فيها شيئاً إلا أعطاه، ما لم يسأل حراماً، وفيه تقومُ السَّاعَةُ، ما مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، ولا سماءٍ، ولا أرضٍ، وَلا رِيَاحٍ، ولا جِبالٍ، ولا شَجَرٍ إلا وهنّ يُشْفِقن مِنْ يَوْمِ الجمعة".
الرابعة عشرة: إنه يُستحب أن يلبَس فيه أحسَنَ الثياب التي يقدِرُ عليها، فقد روى الإِمام أحمد في "مسنده" من حديث أبي أيوب قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "مَنِ اغْتَسَلَ يوم الجمُعةِ وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إنْ كانَ له، ولَبِسَ مِن أَحسَنِ ثيابِهِ، ثمَّ خَرَجَ وعليه السَّكِينةُ حتَّى يَأْتيَ المسجدَ، ثُمَّ يَرْكَعَ إنْ بَدا له، ولمْ يُؤْذِ أحداً ثُمَّ أَنصَتَ إذا خَرَج إمامُه حتَّى صَلِّيَ، كانت كَفَّارَةً لما بينهما.
وفي "سنن أبي داود"، عن عبد الله بن سلام، أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول على المِنبَر في يَوْمِ الجمعة: "ما على أحَدِكم لو اشتَرى ثَوبين لِيَومِ

الجُمعة سِوى ثَوْبَيْ مِهْنَتِه".
وفي "سنن ابن ماجه"، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب الناسَ يومَ الجمعة، فرأى عليهم ثِيابَ النِّمار، فقال: "ما على أَحَدِكُمْ إن وَجَدَ سَعَةً أَنْ يَتَخِّذَ ثَوبَيْن لِجُمُعَتِهِ سِوَى ثَوبَيْ مِهنَتِه".
الخامسة عشرة: أنه يستحب فيه تجميرُ المسجد، فقد ذكر سعيدُ بن منصور، عن نعيم بن عبد الله المُجمِر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أن يجمَّرَ مسجدُ المدينة كُلَّ جمعة حين ينتصِف النهار.
قلت: ولذلك سمي نعيم المجْمِر.
السادسة عشرة: أنه لا يجوز السفرُ في يومها لمن تلزمه الجمعة قبل فعلها بعد دخول وقتها، وأما قبله، فللعلماء ثلاثةُ أقوال، وهي روايات منصوصات عن أحمد، أحدها: لا يجوز، والثاني: يجوز، والثالث: يجوز للجهاد خاصة.
وأما مذهب الشافعي رحمه الله، فيحرم عنده السفر يومَ الجمعة بعد الزوال، ولهم في سفر الطاعة وجهان، أحدهما: تحريمه، وهو اختيار النووي، والثاني: جوازه وهو اختيار الرافعي.
وأما السفر قبل الزوال، فللشافعي فيه قولان: القديم: جوازه، والجديد: أنه كالسفر بعد زوال.

وأما مذهب مالك، فقال صاحب "التفريع": ولا يسافر أحدٌ يوم الجمعة بعد الزوال حتى يُصليَ الجمعة، ولا بأس أن يسافر قبل الزوال، والاختيار: أن لا يسافر إذا طلع الفجر وهو حاضر حتى يُصليَ الجمعة.
وذهب أبو حنيفة إلى جواز السفر مطلقاً، وقد روى الدارقطني في "الأفراد"، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول أللّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَن سَافرَ مِنْ دارِ إقامَته يومَ الجمعةِ، دَعَتْ عَلَيهِ المَلائِكةُ الا يصحَب في سَفَرِه". وهو من حديث ابن لهيعة.
وفي "مسند الإِمام أحمد" من حديث الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس قال: بعثَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن رواحة في سرية، فوافق ذلِكَ يَومَ الجمعة، قال: فغدا أصحابُه، وقال: أتخلَّف وأصلي مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ألحقهم، فلما صلَّى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رآه، فقال: ما مَنَعَك أَنْ تَغْدُوَ مَع أصحَابِك؟ فقال: أردت أن أصلّيَ معك، ثم ألحقَهم، فقال: (لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الأَرضِ ما أدْرَكتَ فَضلَ غَدْوَتِهم".
وأُعِلَّ هذا الحديثُ، بأن الحكم لم يسمع من مقسم.
هذا إذا لم يَخَفِ المسافرُ فَوتَ رفقته، فإن خاف فوت رفقته وانقطاعَه بعدهم، جاز له السفرُ مطلقاً، لأن هذا عذر يُسقط الجمعة والجماعة.

ولعل ما روي عن الأوزاعي - أنه سئل عن مسافر سمع أذان الجمعة وقد أسرج دابته، فقال: لِيمضِ على سفرهِ - محمولٌ على هذا، وكذلك قولُ ابن عمر رضي الله عنه: الجمعة لا تحبِسُ عن السفر. وإن كان مرادهم جواز السفر مطلقاً، فهي مسألة نزاع. والدليل: هو الفاصل، على أن عبد الرزاق قد روى في "مصنفه" عن معمر، عن خالد الحذاء، عن ابن سيرين أو غيره، أن عمر بن الخطاب رأى رجلاً عليه ثيابُ سَفَر بعد ما قضى الجمعة، فقال: ما شأنُك؟ قال: أردتُ سفراً، فكرِهْتُ أن أخرُجَُ حتى أصلي، فقال عمر: إن الجمعة لا تمنعُك السفرَ ما لم يحضُرْ وقتُها فهذا قول من يمنع السفر بعد الزوال، ولا يمنع منه قبله.
وذكره. عبد الرزاق أيضاً عن الثوري، عن الأسود بن قيس، عن أبيه قال: أبصرَ عمرُ بن الخطاب رجلاً عليه هيْئَةُ السَّفرِ، وقال الرجلُ: إن اليومَ يوم جمعة ولولا ذلك، لخرجتُ، فقال عمر: إن الجمعة لا تحبسُ مسافرا، فاخرُج ما لم يَحِنِ الرواح.
وذكر أيضاً عن الثوري، عن ابن أبي ذئب، عن صالح بن كثير، عن الزهري قال: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسافراً يوم الجمعة ضُحى قبل الصلاة.
وذكر عن معمَر قال: سألت يحيى بن أبي كثير: هل يخرج الرجل يومَ الجمعة؟ فكرهه، فجعلت أحدِّثه بالرخصة فيه، فقال لي: قلما يخرج رجل في يوم الجمعة إلا رأى ما يكرهه، لو نظرت في ذلك، وجدتَه كذلك.

وذكر ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن حسان بن أبي عطية، قال: إذا سافر الرجُلُ يوم الجمعة، دعا عليه النهارُ أن لا يُعَانَ على حاجته، ولا يُصاحب في سفره.
وذكر الأوزاعي، عن ابن المسيَب، أنه قال: السفر يومَ الجمعة بعد الصلاة. قال ابن جُريج: قلت لعطاء: أبلغك أنه كان يُقال: إذا أمسى في قرية جامعة مِن ليلة الجمعة، فلا يذهب حتى يُجمِّعَ؟ قال: إن ذلك ليكره. قلت: فمِن يوم الخميس؟ قال: لا، ذلك النهار فلا يضره.
السابعة عشرة: أن للماشي إلى الجمعة بكل خُطوة أجرَ سنة صيامَها وقيامَها، قال عبد الرزاق: عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من غسَّل واغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وبَكَّرَ وابتكَرَ، ودنا مِنَ الإمام، فأَنْصَتَ، كانَ لَه بِكُلِّ خطْوَةٍ يَخْطُوها صِيامُ سَنَةٍ وقيامها، وذلِكَ على اللًّهِ يسير" . ورواه الإِمام أحمد في "مسنده".
وقال الإِمام أحمد: غَسَّلَ بالتشديد: جامع أهله، وكذلك فسَّره وكيع.
الثامنة عشرة: أنه يوم تكفير السيِّئات، فقد روى الإِمام أحمد في. "مسنده" عن سلمان قال: لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَتَدريَ ما يَومُ الجُمعة؟" قلت: هُوَ اليوم الذي جَمعَ اللّة فيه أَباكم آدم قال: "ولكنِّي أَدْري ما يَومُ الجُمُعة، لا يَتَطَهَّر الرَّجُلُ فَيحسِن طهُورَة، ثمَ يأتي الجُمُعة،

فَيُنْصت حَتَّى يَقضِيَ الإمام صَلاتَه إلا كانت كَفَّارَةَ لما بَيْنَه وبَين الجمعةِ المقبلَة ما اجْتُنِبَتِ المَقْتَلة".
وفي "المسند" أيضاً من حديث عطاء الخراساني، عن نُبيشة الهُذلي، أنه كان يُحدِّث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّ المسلِمَ إذا اغتَسَلَ يَومَ الجُمُعَةِ، ثُمَّ أَقبَلَ إِلَى المَسجِد لا يؤذي أحَداَ، فَإن لَمْ يَجِدِ الإِمام خَرَج، صَلّى مَا بَدَا لَهُ، وَإِن وَجَدَ الإِمَامَ قد خَرَجَ، جَلَسَ، فَاسْتَمَع وَأَنصَتَ حَتّى يَقضِيَ الإِمَامُ جُمُعَتَهُ وكَلامَهُ، إن لَمْ يُغْفَرْ لَه في جُمعَتِه تِلْك ذُنوبُه كلُّها، أن تكُون كَفَارَةً لِلْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيها".
وفي "صحيح البخاري"، عن سلمان قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لا يَغْتَسِل رَجُلٌ يَومَ الجُمُعَةِ وَيَتَطهَّرُ ما استطَاعَ مِن طُهْر، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهنِهِ أَوْ يَصرَّ مِن طيبِ بَيْتِه، ثُمَّ يَخْرج، فلايفرِّقُ بَينَ اثنينِ، ثُمَّ يُصَلي مَاكتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنصتُ إذَا تَكَلَّمَ الإِمَام، إلا غفِرَ لَهُ مَا بيْنهُ وبَينَ الجُمعةِ الأُخرَى".
وفي "مسند أحمد"، من حديث أبي الدرداء قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعة، ثمَّ لَبِسَ ثِيابَه، وَمَسَّ طيباً إن كان عنده، ثُمَّ مَشى إلى الجمُعة وعَلَيْه السَّكِينَةُ، ولم يَتَخَطَّ أَحَداً، ولم يُؤذِه، وركَعَ ما قُضِي له،

ثُمَّ انتظرَ حتَّى يَنْصَرِفَ الإِمام، غُفِرَ لَه ما بَين الجمُعَتَين".
التاسعة عشرة: أن جهنم تسَجَّر كُلَّ يومٍ إلا يومَ الجمعة. وقد تقدم حديثُ أبي قتادة في ذلك، وسر ذلك - والله أعلم - أنه أفضل الأيام عِند الله، ويقعُ فيه من الطاعات، والعبادات، والدعوات، والابتهال إلى الله سبحانه وتعالى، ما يمنع من تسجير جهنم فيه. ولذلك تكُون معاصي أهل الإِيمان فيه أقلَّ مِن معاصيهم في غيره، حتى إن أهلَ الفجور ليمتنِعون فيه مما لا يمتنِعون منه في يوم السبت وغيره.
وهذا الحديث الظاهر منه أن المراد سَجْر جهنمِ في الدنيا، وأنها توقد كلَّ يوم إلا يومَ الجمعة، وأما يوم القيامة، فإنه لا يفتَّر عَذَابُها، ولا يخَفَّف عن أهلها الذين هم أهلها يوماً من الأيام، ولذلك يَدعون الخزنةَ أن يدعوا ربَّهم ليخفف عنهم يوماً من العذاب، فلا يُجيبونهم إلى ذلك.
العشرون: أن فيه ساعةَ الإِجابة، وهي الساعة التي لا يسأل اللهَ عبدٌ مسلم فيها شيئاً إلا أعطاه، ففي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إنَّ في الجُمُعَةِ لَساعَةً لا يوافِقها عبدّ مُسلم وهو قائم يصلِّي يسألُ الله شَيئاً إِلاَّ أعْطَاهُ إِيَّاهُ، وقال: بِيدِه يقَلِّلها"

وفي المسند من حديث أبي لُبابة بن عبد المنذر، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "سيِّدُ الأيَّام يومُ الجُمُعَة، وأَعْظَمُها عِندَ الله، وأعظم غِد الله مِنْ يومِ الفِطْرِ، وَيَوْمِ الأضْحى، وفيهِ خَمسُ خِصَالٍ: خَلَقَ اللهُ فِيهِ آدَمَ، وأَهبَطَ اللهُ فِيهِ آدَمَ إلى الأرْضِ، وفيه تَوَفَّى الله عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ، وفيه ساعةٌ لا يَسْأَلُ اللهَ العبد فيهَا شَيْئاً إِلاَّ أَتاهُ الله إِيَّاهُ ما لم يَسْأَل حَرَاماً، وفيهِ تَقُومُ الساعَةُ، ما مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، ولا أرْضٍ، ولا رِياحٍ، ولا بَحْرٍ، ولا جِبالٍ، ولا شَجَرٍ، إلا وهنَّ يُشْفِقْنَ مِن يَوْمِ الجُمُعَة".
فصل
وقد اختلف الناس في هذه الساعة: هل هي باقية أو قد رُفِعت؟ على قولين، حكاهما ابن عبد البَر وغيرُه، والذين قالوا: هي باقية ولم تُرفع، اختلفوا، هل هي في وقت من اليوم بعينه، أم هي غير معينة؟ على قولين. ثم اختلف من قال بعدم تعيينها: هل هي تنتقل في ساعات اليوم، أو لا؟ على قولين أيضاً، والذين قالوا بتعيينها، اختلفوا على أحد عشر قولاً.
قال ابن المنذر: روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: هي مِن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وبعدَ صلاة العصر إلى غروبِ الشمس.
الثاني: أنها عند الزوالِ، ذكره ابن المنذر عن الحسن البَصري، وأبي العالية.
الثالث: أنها إذا أذن المؤذِّن بصلاة الجمعة، قال ابن المنذر: روينا ذلك عن عائشة رضي الله عنها.

الرابع: أنها إذا جلس الإمامُ على المنبر يخطُب حتى يفرُغ قال ابن المنذر: رويناه عن الحسن البصري.
الخامس: قاله أبو بردة: هي الساعة التي اختار الله وقتها للصلاة.
السادس: قاله أبو السوار العدوي، وقال: كانوا يرون أن الدعاء مستجاب ما بين زوال الشمس إلى أن تدخل الصلاة.
السابع: قاله أبو ذر: إنها ما بين أن ترتفع الشمس شبراً إلى ذراع.
الثامن: أنها ما بين العصر إلى غروب الشمس، قاله أبو هريرة، وعطاء، وعبد الله بن سلام، وطاووس، حكى ذلك كله ابن المنذر.
التاسع: أنها آخرُ ساعة بعد العصر، وهو قول أحمد، وجمهور الصحابة، والتابعين.
العاشر: أنها من حين خروج الإِمام إلى فراغ الصلاة، حكاه النووي وغيره.
الحادي عشر: أنها الساعة الثالثةُ من النهار، حكاه صاحب "المغني" فيه. وقال كعب: لو قسم الإِنسان جمعة في جمع، أتى على تلك الساعة. وقال عمر: إن طلبَ حاجة في يوم ليسير.
وأرجح هذه الأقوال: قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة، وأحدهما أرجح من الآخر.
الأول: أنها من جلوس الإِمام إلى انقضاء الصلاة، وحجة هذا القول ما روى مسلم في "صحيحه" من حديث أبي بُردة بن أبي موسى، أن عبد الله بن عمر قال له: أسمعتَ أباك يحدِّث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شأن ساعة الجمعة شيئاً؟ قال: نعم سمعتُه يقول: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:

" هِيَ مَا بَيْنَ أَن يَجْلِسَ الإِمَامُ إلى أن تُقْضَى الصَّلاَةُ".
وروى ابن ماجه، والترمذي، من حديث عمرو بن عوف المزني، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنَّ في الجمُعة سَاعةً لا يسألُ اللهَ العبد فيها شيئاً إلاَّ آتاه اللهُ إيَاه" قالوا: يا رسول الله ! أَيَّةُ سَاعَةٍ هِيَ؟ قال: "حِينَ تُقام الصَّلاة إلى الانصراف منها".
والقول الثاني: أنها بعد العصر، وهذا أرجح القولين، وهو قول عبد الله بن سلام، وأبي هريرة، والإِمام أحمد، وخلق. وحجة هذا القول ما رواه أحمد في "مسنده" من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قال: "إنَ في الجمعة ساعةً لا يُوافِقها عَبْدٌ مسلم يَسأَلُ الله فيهَا خَيْراً إِلاَّ أعْطاه إيَّاهُ وهِيَ بَعْدَ العَصرِ".
وروى أبو داود والنسائي، عن جابر، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يوم الجمعةِ اثنَا عَشَرَ سَاعَةً، فِيهَا سَاعَةٌ لاَ يُوجَدُ مُسلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ فِيهَا شَيْئاً إلاَّ أعطَاه، فالتَمِسُوها آخِرَ سَاعَةٍ بَعدَ العَصر".
وروى سعيد بن منصور في "سننه" عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن ناساً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجتمعوا، فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة، فتفرَّقوا ولم يختلِفوا أنها آخرُ ساعة من يوم الجمعة.
وفي "سنن ابن ماجه": عن عبد الله بن سلام، قال: قلت ورسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالِس: إنَّا لَنَجِدُ في كِتَابِ الله (يعني التوراة) في يَومِ الجمُعَة سَاعَة لا يُوافِقُها عَبدٌ مُؤمِنٌ يُصلي يسألُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئاً إِلاِّ قَضَى الله لَهُ حَاجَتَهُ قَالَ عَبدُ اللهِ: فأشارَ إلي رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بَعْضَ سَاعَةٍ. قلت: صدقتَ يا رسُولَ الله، أو بَعضَ سَاعة. قلت: أَيُّ ساعةٍ هي؟ قال: "هي آخرُ ساعةٍ من سَاعات النَّهار". قلت: إنها ليست ساعةَ صلاة، قال: بلى إن العبدَ المؤمنَ إذا صلَّى، ثم جَلَسَ لا يجلِسُه إلاً الصلاَة، فهو في صَلاةٍ".

وفي "مسند أحمد" من حديث أبي هريرة، قال: قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأي شيء سُمِّيَ يوم الجمعة؟ قال: "لأنّ فيها طُبِعَتْ طينَةُ أبيك آدَمَ، وفيها الصَّعْقَةُ والبَعْثَةُ، وفيها البَطْشَةُ، وفي آخِر ثَلاثِ سَاعَاتٍ مِنْها سَاعَةٌ مَنْ دَعَا الله فِيهَا استُجيبَ لَهُ".
وفي "سنن أبي داود"، والترمذي، والنسائي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: قالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمس يَوْمُ الجُمُعَة، فيه خُلِقَ آدَمُ، وفيه أهْبِطَ، وفيه تِيبَ عليه، وفيه مات، وفيه تقومُ الساعة، وما مِن دابَّةِ إلا وهي مُصيخَةٌ يَومَ الجُمُعَة، من حين تُصبِحُ حتيَ تَطْلُعَ الشَّمْسُ شَفَقاً من السَّاعَة، إلا الجنَّ والإنسَ، وفيه ساعةٌ لا يُصادفها عَبْد مُسْلِمٌ وهو يُصَلِّي يَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حاجةً إلا أعطاهُ إيَّاها" قال كعب: ذلك في كلِّ سنةٍ يوم؟ فقلتُ: بل في كل جمُعَةٍ قال: فقرأ كعبٌ التوراة، فقال: صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال أبو هريرة: ثمَّ لَقِيْت عبدَ الله بنَ سلام، فحدثته بمجلِسي مَعَ كَعْب، فَقالَ عَبْدُ الله بنُ سلام: وقد علمتُ أيَّة سَاعَةٍ هِيَ. قال أبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: أَخْبِرني بِهَا، فَقَالَ عَبْدُ الله بنُ سَلاَم: هي آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ، فقلت: كَيْفَ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِم وَهُوَ يُصَلِّي" وتِلْكَ السَّاعَةُ لا يُصَلَّى فِيهَا؟ فقال عبدُ الله بن سلام: ألَم يَقُل رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من جَلَسَ مَجْلِساً يَنْتَظِرُ الصلاَةَ، فَهُوَ في صَلاَةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ"؟ قال: فقلت: بلى. فقال: هُوَ ذَاكَ

قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي "الصحيحين" بعضه.
وأما من قال إنَّها من حين يفتتح الإِمامُ الخطبة إلى فراغه من الصلاة، فاحتج بما رواه مسلم في "صحيحه"، عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، قال: قال عبد الله بن عمر: أسمعتَ أباك يُحدِّث عن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى شأن ساعة الجمعة؟ قال: قُلت: نعم سمعتُه يقول: سمعتُ رسول الله يقول: "هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجلِس الإِمامُ إلى أن يقضِيَ الإِمام الصلاة".
وأما من قال: هي ساعة الصلاة، فاحتج بما رواه الترمذي، وابن ماجه، من حديث عمرو بن عوف المزني، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إنَّ في الجُمُعَة لَسَاعَةً لا يَسْأَلُ اللهَ العَبْدُ فِيهَا شَيْئاً إِلاَّ آتاهُ اللهُ إِيَّاهُ". قالوا: يا رسولَ الله أيةُ ساعة هِيَ؟ قال: " حِينَ تُقامُ الصَّلاة إلى الانصِرَافِ مِنْهَا ". ولكن هذا الحديث ضعيف، قال أبو عمر بن عبد البر: هو حديث لم يروه فيما علمت إلا كثيرُ بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده، وليس هو ممن يُحتجُّ بحديثه. وقد روى روحُ بن عبادة، عن عوف، عن معاوية بن قرة، عن أبي بردة عن أبي موسى، أنه قال لعبد الله بن عمر: هي الساعة التي يخرج فيها الإِمام إلى أن تقضَى الصلاةُ. فقال ابن عمر: أصابَ اللهُ بك.
وروى عبد الرحمن بن حُجَيْرَةَ، عن أبي ذر، أن امرأته سألته عن الساعة التي يُستجابُ فيها يومَ الجمعة للعبد المؤمن، فقال لها: هي مع رفع الشمس بيسير، فإن سألتنِي بعدها، فأنت طالق.

واحتج هؤلاء أيضاً بقوله في حديث أبي هريرة "وهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي" وبعد العصر لا صلاة في ذلك الوقت، والأخذ بظاهر الحديث أولى. قال أبو عمر يحتج أيضاً من ذهب إلى هذا بحديث علي، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إذا زالت الشَّمْسُ، وفاءت الأَفياءُ، ورَاحَتِ الأَرْواح، فاطلبوا إلى الله حوائجكم، فإنَّها ساعة الأوابين، ثم تلا: {فَإِنَّهُ كَانَ للأَوَّابِينَ غَفُوراً} [الإِسراء: 25]".
وروى سعيدُ بن جُبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: الساعة التي تُذكر يومَ الجمعة: ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. وكان سعيد بن جُبير، إذا صلى العصر، لم يُكلّم أحدا حتى تغرب الشمس، وهذا هو قول أكثر السلف، وعليه أكثر الأحاديث. ويليه القول: بأنها ساعة الصلاة، وبقية الأقوال لا دليل عليها.
وعنديَ أن ساعة الصلاة ساعةٌ ترجى فيها الإِجابةُ أيضاً، فكلاهما ساعةُ إجابة، وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخِرُ ساعة بعد العصر، فهي ساعة معينة من اليوم لا تتقدم ولا تتأخر، وأما ساعةُ الصلاة، فتابعة للصلاة تقدمت أو تأخرت، لأن لاجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرُّعهم وابتهالِهم إلى الله تعالى تأثيراً في الإِجابة، فساعة اجتماعهم ساعةٌ تُرجي في الإجاِبةُ، وعلى هذا تتفق الأحاديث كلها، ويكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حضَّ أمته على الدعاء والابتهال إلى الله تعالى في هاتين الساعتين.

ونظير هذا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد سئل عن المسجد الذي أسّسَ على التقوى، فقال: "هُوَ مَسجِدُكم هذا" وأَشارَ إلى مَسْجِدِ المَدِينَة. وهذا لا ينفي أن يكون مسجد قباء الذى نزلت فيه الآية مؤسساً على التقوى، بل كلٌّ منهما مؤسس على التقوى.
وكذلك قولُه في ساعة الجمعة "هي ما بَيْنَ أن يجلس الإمامُ إلى أن تنقضي الصلاة" لا يُنافي قوله في الحديث الآخر "فالتَمسُوها آخرَ سَاعَة بَعْدَ العَصْرِ".
ويشبه هذا في الأسماء قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما تَعُدُّون الرَّقوبَ فيكم"؟ قالوا: مَن لَمْ يُولَد له، قال: "الرَّقوبُ مَنْ لَمْ يُقَدِّم مِنْ وَلَدِه شَيْئاً".
فأخبر أن هذا هو الرَّقوب، إذ لم يحصل له من ولده من الأجر ما حصل لمن قَدَّم منهم فرطاً، وهذا لا ينافي أن يُسمى من لم يولد له رقوباً.
ومثله قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ما تعُدُّونَ المُفْلسَ فيكم"؟ قالوا: من لا درْهَمَ له ولا مَتَاع. قال: "المُفْلسُ من يَأتي يَومَ القيامَة بحًسَنات أمْثَال الجبال، ويأَتي وقد لَطمَ هذا، وضَرَبَ هذَا، وسَفَكَ دَمَ هذَا،َ فَيَأخُذ هذا من حَسًناتَه، وَهَذَا منْ حَسَنَاته" الحديث

ومثلُه قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس المسكينُ بهذا الطَوَّاف الَّذي تَرُدّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمتَان، والتَّمْرةُ والتَّمْرتَانِ، وَلكِنَّ المسْكينَ الَّذي لا يَسْاُلُ النَّاسَ، ولا يُتَفَطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عليه".
وهذه الساعة هي آخِر ساعة بعد العصر، يعظِّمها جميع أهل الملل. وعند أهل الكتاب هي ساعة الإِجابة، وهذا مما لا غرض لهم في تبديله وتحريفه، وقد اعترف به مؤمنُهم.
وأما من قال بتنقلها، فرام الجمع بذلك بين الأحاديث، كما قيل ذلك في ليلة القدر، وهذا ليس بقوي، فإن ليلةَ القدر قد قال فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فالتَمِسُوها في خَامِسَةٍ تَبْقَى، في سَابِعَةٍ تَبقَى، في تَاسِعَةٍ تَبْقَى". ولم يجىء مثلُ ذلك في ساعة الجمعة.
وأيضاً فالأحاديث التي في ليلة القدر، ليس فيها حديثّ صريح بأنها ليلة كذا وكذا، بخلاف أحاديث ساعة الجمعة، فظهر الفرق بينهما.
وأما قول من قال: إنَها رُفعت، فهو نظيرُ قول مَن قال: إن ليلة القدر رُفِعَت، وهذا القائل، إنْ أراد أنَّها كانت معلومة، فرفع علمُها عن الأمة، فيقال له: لم يُرفع علمها عن كُلِّ الأمة، وإن رُفعَ عن بعضهم، وإن أراد أن حقيقتها وكونَها ساعة إجابة رفِعَتْ، فقولٌ باطل مخالف

للأحاديث الصحيحة الصريحة، فلا يعول عليه. والله أعلم.

الحادية والعشرون: أن فيه صلاةَ الجمعة التي خُصَّت من بين سائر الصلوات المفروضات بخصائص لا توجد في غيرها من الاجتماع، والعدد المخصوص، واشتراط الإِقامة، والاستيطان، والجهر بالقراءة. وقد جاء من التشديد فيها ما لم يأتِ نظيرُه إلا في صلاة العصر، ففي السنن الأربعة، من حديث أبي الجَعْدِ الضَّمْرِي - وكانت له صحبة - إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَن تَرَكَ ثَلاثَ جُمَع تَهاوُناً، طَبعَ اللهُ عَلى قَلْبِهِ ". قال الترمذي: حديث حسن، وسألت محمد بن إسماعيل عن اسم أبي الجعد الضمري، فقال: لم يُعرف اسمه، وقال: لا أعرِفُ له عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا هذا الحديث. وقد جاء في السنن عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمرُ لمن تركها أن يتصدَّق بدينار، فإن لم يجد، فنصف دينار. رواه أبو داود، والنسائي من رواية قدامة بن وبرة، عن سمرة بن جندب. ولكن قال أحمد: قدامة بن وبرة لا يعرف. وقال يحيى بن معين: ثقة، وحُكي عن البخاري، أنه لا يصح سماعه من سمرة

وأجمع المسلمون على أن الجمعة فرض عين ، إلا قولاً يحكى عن الشافعي ، أنها فرض كفاية ، وهذا غلط عليه منشؤه أنه قال : وأما صلاة العيد .
فتجب على كل من تجب عليه صلاة الجمعة ، فظن هذا القائل أن العيد لما كانت فرض كفاية ، كانت الجمعة كذلك .
وهذا فاسد ، بل هذا نص من الشافعي أن العيد واجب على الجميع ، وهذا يحتمل أمرين ، أحدهما : أن يكون فرض عين كالجمعة ، وأن يكون فرض كفاية ، فإن فرض الكفاية على الجميع ، كفرض الأعيان سواء ، وإنما يختلفان بسقوطه عن البعض بعد وجوبه بفعل الآخرين .

الثانية والعشرون : أن فيه الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده ، والشهادة له بالوحدانية ، ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة ، وتذكير العباد بأيامه ، وتحذيرهم من بأسه ونقمته ، ووصيتهم بما يقربهم إليه ، وإلى جنانه ، ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره ، فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها .

الثالثة والعشرون : أنه اليوم الذي يستحب أن يتفرغ فيه للعبادة ، وله على سائر الأيام مزية بأنواع من العبادات واجبة ومستحبة ، فالله سبحانه جعل لأهل كل ملة يوماً يتفرغون فيه للعبادة ، ويتخلون فيه عن أشغال الدنيا ، فيوم الجمعة يوم عبادة ، وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور ، وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان .
ولهذا من صح له يوم جمعته وسلم ، سلمت له سائر جمعته ، ومن صح له رمضان وسلم ، سلمت له سائر سنته ، ومن صحت له حجته وسلمت له ، صح له سائر عمره ، فيوم الجمعة ميزان الأسبوع ، ورمضان ميزان العام ، والحج ميزان العمر ، وبالله التوفيق .

الرابعة والعشرون : أنه لما كان في الأسبوع كالعيد في العام ، وكان العيد مشتملاً على صلاة وقربان ، وكان يوم الجمعة يوم صلاة ، جعل الله سبحانه

التعجيلَ فيه إلى المسجد بدلاً من القربان، وقائماً مقامه، فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاةُ، والقربان، كما في "الصحيحين" عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: "مَن رَاحَ في السَّاعَةِ الأُولى، فَكَأنما قَرَّبَ بَدَنَةً، ومَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأنَّما قَرَّبَ بَقَرَةً، ومَنْ رَاحَ في السَّاعة الثَّالِثَةِ، فَكأنَّما قَرَّبَ كَبْشَاً أَقرَنَ ".
وقد اختلف الفقهاء في هذه الساعة على قولين:
أحدهما : أنها من أول النهار، وهذا هو المعروف في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.
والثاني : أنها أجزاء من الساعة السادسة بعد الزوال، وهذا هو المعروف في مذهب مالك، واختاره بعضُ الشافعية، واحتجوا عليه بحجتين:
إحداهما: أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال، وهو مقابلُ الغُدوِّ الذي لا يكون إلا قبل الزوال، قال تعالى: {غُدُوّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12]. قال الجوهري: ولا يكون إلا بعد الزوال.
الحجة الثانية: أن السلف كانوا أحرصَ شيء على الخير، ولم يكونوا يَغْدون إلى الجمعة من وقت طلوع الشمس، وأنكر مالك التبكيرَ إليها في أول النهار، وقال: لم نُدرك عليه أهل المدينة.

واحتج أصحابُ القول الأول، بحديث جابر رضي اللله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَوْمُ الجُمُعَةِ ثِنْتَا عشرَة سَاعَةً ". قالوا: والساعات المعهودة، هي الساعات التي هي ثنتا عشرة ساعة، وهي نوعان: ساعات تعديلية، وساعات زمانية، قالوا: ويدل على هذا القول، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما بَلَغَ بالساعات إلى ست، ولم يزد عليها، ولو كانت الساعة أجزاء صغاراً مثل الساعة التي تُفعل فيها الجمعة، لم تنحصر في ستة أجزاء، بخلاف ما إذا كان المُرادُ بها الساعات المعهودة، فإن الساعة السادسة متى خرجت، ودخلت السابعة، خرج الإِمامُ، وطُويتِ الصحف، ولم يكتب لأحد قربان بعد ذلك، كما جاء مصرحاً به في "سنن أبي داود" من حديث علي رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ، غَدَتِ الشَّياطِينُ بِرَايَاتِهَا إلى الأَسْوَاق، فَيَرْمُونَ النَّاسَ بالترابيثِ أَو الرَّبَائِثِ وَيُثَبِّطُونَهُم عَنِ الجُمُعَةِ، وَتَغْدُو المَلاَئِكَةُ، تَجْلِسُ عَلَى أبْوَاب المَسَاجِدِ، فَيَكتُبونَ الرَّجُلَ مِن سَاعَةٍ، والرَّجُلَ مِنْ سَاعَتَيْن حتَّى يَخْرُجَ الإِمَام".
قال أبو عمر بن عبد البر: أختلف أهلُ العلم في تلك الساعات، فقالت طائفة منهم: أراد الساعاتِ مِن طلوع الشمس وصفائِها، والأفضلُ عندهم التبكيرُ في ذلك الوقت إلى الجمعة، وهو قول الثوري، وأبي حنيفة والشافعي، وأكثر العلماء، بل كلهم يستحب البكور إليها.
قال الشافعي رحمه الله: ولو بكر إليها بعد الفجر، وقبل طلوع الشمس،

كان حسناً. وذكر الأثرم، قال: قيل لأحمد بن حنبل: كان مالك بن أنس يقول: لا ينبغي التهجير يومَ الجمعة باكراً، فقال: هذا خلاف حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال: سبحان الله إلى أي شيء ذهب في هذا، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "كالمُهْدِي جَزُوراً ". قال: وأما مالك فذكر يحيى بن عمر، عن حرملة، أنه سأل ابن وهب عن تفسير هذه الساعات: أهو الغدُّو من أول ساعات النهار، أو إنما أراد بهذا القولِ ساعاتِ الرواح؟ فقال ابنُ وهب: سألتُ مالكاً عن هذا، فقال: أما الذي يقع بقلبي، فإنه إنما أراد ساعة واحدة تكونُ فيها هذه الساعاتُ، من راح من أول تلك الساعة، أو الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، أو الخامسة، أو السادسة. ولو لم يكن كذلك، ما صُلِّيتِ الجُمُعَةُ حتَّى يكون النهارُ تسعَ ساعات في وقت العصر، أو قريباً من ذلك. وكان ابنُ حبيب، يُنكر مالك هذا، ويميل إلى القول الأول، وقال: قول مالك هذا تحريف في تأويل الحديث، ومحال من وجوه. وقال: يدلُك أنه لا يجوز ساعات في ساعة واحدة: أن الشمس إنما تزول في الساعة السادسة من النهار، وهو وقت الأذان، وخروجِ الإِمام إلى الخطبة، فدل ذلك على أن الساعات في هذا الحديث هي ساعات النهار المعروفات، فبدأ بأول ساعات النهار، فقال: من راح في الساعة الأولى، فكأنَّما قرب بدنة، ثم قال: في الساعة الخامسة بيضة، ثم انقطع التهجير، وحان وقت الأذان، فشرحُ الحديث بيِّن في لفظه، ولكنه حُرِّفَ عن موضعه، وشُرِحَ بالخُلْفِ مِن القول، وما لا يكون، وزهَّد شارحُه الناسَ فيما رغبهم فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التهجير من أول النهار، وزعم أن ذلك كلَّه إنما يجتمع في ساعة واحدة قربَ زوالا الشمس، قال: وقد جاءت الآثارُ بالتهجير إلى الجمعة في أول النهار، وقد سُقنا ذلك في موضعه من كتاب واضح السنن بما فيه بيان وكفاية.

هذا كله قول عبد الملك بن حبيب، ثم رد عليه أبو عمر، وقال: هذا تحامل منه على مالك رحمه الله تعالى، فهو الذي قال القول الذىِ أنكره وجعله خُلفاً وتحريفاً من التأويل، والذي قاله مالك تشهد له الآثار الصحاح من رواية الأئمة، ويشهد له أيضاً العملُ بالمدينة عنده، وهذا مما يصحُ فيه الاحتجاجُ بالعمل، لأنه أمر يتردَّد كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء. فمن الآثار التي يحتج بها مالك ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ، قَامَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوابِ المَسْجِدِ مَلاَئِكةٌ، يَكتُبُونَ النَّاسَ، الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ، فالمُهَجِّرُ إلَى الجُمُعَةِ كَالمُهْدي بَدَنَةً، ثُمَ الَّذِي يَليهِ كالمُهْدِي بَقَرةً، ثُمَّ الَّذِي يَليهِ كَالمُهدِي كَبْشَاً، حَتَّى ذكَرَ الدَّجَاجَة وَالبَيْضةَ، فإذَا جَلَسَ الإِمَامُ، طُويَتِ الصّحُفُ، واسْتَمَعُوا الخُطْبَة ". قال: ألا ترى إلى ما في هذا الحديث، فإنه قال: يكتبونَ الناس الأول فالأول، فالمهجِّرُ إلى الجمعة كالمهدي بدنة، ثم الذي يليه فجعل الأول مهجراً، وهذه اللفظة إنما هي مأخوذة من الهاجرة والتهجير، وذلك وقت النهوض إلى الجمعة، وليس ذلك وقتَ طلوع الشمس، لأن ذلك الوقت ليس بهاجرة ولا تهجير، وفي الحديث: "ثمَّ الذي يليه، ثمَّ الذي يليه". ولم يذكر الساعة. قال: والطرق بهذا اللفظ كثيرة، مذكورة في "التمهيد"، وفي بعضها "المتعجِّلُ إلى الجُمُعَةِ كالمُهْدِي بَدَنَةً". وفي أكثرها: "المهجِّرُ كالمُهْدِي جَزُورَا" الحديث. وفي بعضها، ما يدل على أنه جعل الرائح إلى الجمعة في أول الساعة كالمُهدي بدنة، وفي آخرها كذلك، وفي أول الساعة الثانية كالمهدي بقرة، وفي آخرها كذلك. وقال بعض أصحاب

الشافعي: لم يُرد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "المهجِّرُ إلى الجُمُعَةِ كالمُهْدِيَ بَدَنَةً"، الناهض إليها في الهجير والهاجرة، وإنما أراد التارك لأشغاله وأعماله من أغراض أهل الدنيا للنهوض إلى الجمعة، كالمُهدي بدنة، وذلك مأخوذ من الهجرة وهو تركُ الوطن، والنهوضُ إلى غيره، ومنه سمِّي المهاجرون. وقال الشافعي رحمه الله: أحبُّ التبكير إلى الجمعة، ولا تُؤتى إلا مشياً. هذا كله كلامُ أبي عمر.
قلت: ومدار إنكار التبكير أول النهار على ثلاثة أمور ، أحدها: على لفظة الرواح، وإنها لا تكون إلا بعد الزوال، والثاني: لفظة التهجير، وهي إنما تكون بالهاجرة وقت شدة الحر، والثالث: عمل أهل المدينة، فإنهم لم يكونوا يأتون من أول النهار. فأما لفظة الرواح، فلا ريب أنها تُطلق على المضى بعد الزوال، وهذا إنما يكون في الأكثر إذا قُرنت بالغُدوِّ، كقوله تعالى: {غُدُوّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12]، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ غَدا إلى المَسجِد وَرَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ نُزُلاً في الجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ ". وقول الشاعر:
نَرُوحُ وَنَغْدُو لِحَاجَاتِنَا ... وَحَاجَةُ مَنْ عَاشَ لا تَنْقَضِي

وقد يُطلق الرواح بمعنى الذهاب والمضي، وهذا إنما يجيء، إذا كانت مجردة عن الاقتران بالغدو.
وقال الأزهري في "التهذيب": سمعت بعضَ العرب يستعمِلُ الرواح في السير في كل وقت، يقال: راح القوم: إذا سارُوا، وغدَوْا كذلك، ويقول أحدهم لصاحبه: تروَّح، ويخاطب أصحابه، فيقول: رُوحوا أي: سيروا، ويقول الآخر: ألا تروحُونَ؟ ومِنْ ذلك ما جاء في الأخبار الصحيحة الثابتة، وهو بمعنى المضي إلى الجمعة والخِفَّةِ إليها، لا بمعنى الرواح بالعشي.
وأما لفظ التهجير والمهجِّر، فمن الهجير، والهاجرة، قال الجوهري: هي نصف النهار عند اشتداد الحر، تقول منه: هجَّر النهارُ، قال امرؤ القيس:
فَدَعْها وَسَلِّ الهَمَّ عنهابجَسْرةٍ إذَا صَامَ النَّهارُ وهَجَّرا
ويقال: أتينا أهلنا مهجِّرين، أي: في وقت الهاجرة، والتهجير والتهجّر: السير في الهاجرة، فهذا ما يقرِّر به قولُ أهل المدينة.
قال الآخرون: الكلام في لفظ التهجير، كالكلام في لفظ الرواح، فإنه يطلق ويُراد به التبكير.
قال الأزهري في "التهذيب": روى مالك، عن سُمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو يَعْلَمُ النَّاسُ ما في التَهجير، لاستَبقوا إليه".

وفي حديث آخر مرفوع: "المهجِّرُ إلى الجُمُعة كالمُهْدِي بَدَنة". قال: ويذهب كثيرٌ من الناس إلى أن التهجير في هذه الأحاديث تفعيل من الهاجرة وقتَ الزوال وهو غلط، والصواب فيه ما روى أبو داود المصاحفي، عن النَّضر بن شُميل، أنه قال: التهجير إلى الجمعة وغيرها: التبكير والمبادرة إلى كل شيء قال: سمعتُ الخليلَ يقول ذلك، قاله في تفسير هذا الحديث.
قال الأزهري: وهذا صحيح، وهي لغة أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس، قال لبيد:
رَاحَ القَطينُ بِهَجْرٍ بَعْدَما ابْتكَرُوا ... فَمَا تُواصلهُ سَلْمَى وَمَا تَذَرُ
فقرن الهَجر بالابتكار، والرواحُ عندهم: الذهاب والمضي، يقال: راح القوم: إذا خفُّوا ومَرُّوا أيَّ وقت كان. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ يَعلَمُ النَّاس مَا في التَّهجِيرِ، لاستبَقُوا إِلَيهِ" أراد به التبكيرَ إلى جميع الصَّلوات، وهو المضي إليها في أول أوقاتها، قال الأزهري: وسائر العرب يقولون: هجَّر الرجل: إذا خرج وقت الهاجرة، وروى أبو عبيد عن أبي زيد: هجَّر الرجل: إذا خرج بالهاجرة. قال: وهي نصف النهار. ثم قال الأزهري: أنشدني المنذري فيما روى ثعلب، عن ابن الأعرابي في "نوادره"، قال: قال جِعْثنَة بنُ جوَّاس الرَّبعِي في ناقته:
هَلْ تَذْكُرِينَ قَسَمِي ونَذْرِي ... أَزْمَانَ أَنْتِ بِعُرُوضِ الجَفْرِ
إذْ أَنْتِ مِضْرَارٌ جوادُ الحُضْرِ ... عَلَيَّ إنْ لَمْ تَنْهَضِي بِوِقْري

بِأَرْبَعِينَ قدِّرَتْ بِقَدْرِ ... بِالخَالِدِيِّ لا بِصَاعِ حَجرِ
وتَصْحَبي أَيانِقاً في سَفرِ ... يُهَجِّرُونَ بِهَجِيرِ الفَجْرِ
ثمَّتَ تَمْشِي لَيلَهُم فَتَسرِي ... يَطْوُونَ أَغرَاضَ الفِجَاجِ الغُبرِ
طَيَّ أَخِي التَّجْرِ بُرُودَ التَّجْرِ
قال الأزهري: يُهجِّرون بهجير الفجر، أي: يبكرون بوقت السَّحَرِ.
وأما كون أهل المدينة لم يكونوا يَرُوحون إلى الجمعة أوَّل النهار، فهذا غايةُ عملهم في زمان مالك رحمه الله، وهذا ليس بحجة، ولا عند مَن يقول: إجماعُ أهل المدينة حجة، فإن هذا ليس فيه إلا تركُ الرواح إلى الجمعة من أول النهار، وهذا جائز بالضرورة. وقد يكون اشتغالُ الرجل بمصالحه ومصالح أهله ومعاشِه وغيرِ ذلك من أمور دينه ودنياه أفضلَ مِن رَوَاحه إلى الجمعة من أوَل النهار، ولا ريبَ أن انتظارَ الصلاة بعد الصلاة، وجلوسَ الرجل في مصلاه حتى يُصليَ الصلاة الأخرى، أفضلُ من ذهابه وعوده في وقت آخر للثانية، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والَّذِي يَنْتَظِر الصَلاَةَ، ثُمَّ يُصَلِّيهَا مَعَ الإِمام أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يُصَلِّي، ثُمَّ يَرُوح إِلى أَهْلِه " وأخبر: "أن الملائِكَة لم تَزَلْ تُصلي عليه ما دامَ في مُصلاه" وأخبر: "أن انتظار الصلاة بعد

الصلاة، مما يمحُو اللهُ به الخَطايا ويَرْفَعُ بِهِ الدرجات، وأنه الرَباط " وأخبر: "أن الله يُبَاهِي مَلاَئِكَتَه بمَن قَضَى فَرِيضَة وجَلَسَ يَنتَظِرُ أُخْرَى" وهذا يدل على أن من صلَّى الصبح، ثم جلس ينتظِر الجمعة، فهو أفضلُ ممن يذهب، ثم يجيء في وقتها، وكون أهل المدينة وغيرهم لا يفعلون ذلك، لا يدل على أنه مكروه، فهكذا المجيء إليها والتبكيرُ في أول النهار، والله أعلم.
الخامسة والعشرون: أن للصدقة فيه مزيةً عليها في سائر الأيام، والصدقةُ فيه بالنسبة إلى سائر أيام الأسبوع، كالصدقةِ في شهر رمضان بالنسبة إلى سائر الشهور. وشاهدتُ شيخَ الإِسلام ابن تيمية قدس الله روحه، إذا خرج إلى الجمعة يأخذُ ما وجد في البيت من خبز أو غيره، فيتصدق به في طريقه سراً، وسمعته يقول: إذا كان الله قد أمرنا بالصدقة بين يدي مناجاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالصدقة بين يدي مناجاته تعالى أفضلُ وأولى بالفضيلة. وقال أحمد بن زهير بن حرب: حدثنا أبي، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: اجتمع أبو هريرة، وكعب، فقال أبو هريرة: إن في الجمعة لساعةً لا يُوافِقها رجلٌ مسلم في صلاة يسألُ الله عز وجل شيئاً إلا آتاه إيَّاه، فقال كعب: أنا أحدِّثُكم عن يوم الجمعة، إنه إذا كان يومُ الجمعة فَزِعت له السماواتُ والأرضُ، والبرُّ، والبحرُ، والجبال، والشجرُ، والخلائقُ كلُها، إلا ابنَ آدم والشياطين، وحفَّت الملائكة بأبواب المسجد، فيكتُبون من جاء الأول فالأول حتى يخرج الإِمام، فإذا خرج الإمام، طَوَوا صحُفَهم، فمن جاء بعد، جاء لحق الله، لما كُتب عليه، وحقّ

على كُلًّ حالِم أن يغتسِل يومئذ كاغتساله من الجنابة، والصدقةُ فيه أعظمُ من الصدقة في سائر الأَيَّامِ، ولم تطلُعِ الشمس ولم تغرُب على مثل يوم الجمعة. فقال ابن عباس: هذا حديث كعب وأَبي هريرة، وأنا أرى إن كان لأهله طيبٌ يمس منه.
السادسة والعشرون: أنه يوم يتجلَّى الله عزَّ وجلَّ فيه لأوليائه المؤمنين في الجنة، وزيارتهم له، فيكون أقربُهم منهم أقربَهم من الإِمام، وأسبقهم إلى الزيارة أسبقَهم إلى الجمعة. وروى يحيى بن يمان، عن شريك، عن أبي اليقظان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، في قوله عز وجل: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] قال: يتجلَّى لهم في كلِّ جمعة.
وذكر الطبراني في "معجمه"، من حديث أبي نعيم المسعودي، عن المِنهال بن عمرو، عن أبي عُبيدة قال: قال عبد الله: سارعوا إلى الجمُعةِ، فإن الله عز وجل يَبْرُز لأهلِ الجنة في كل جُمعَة في كَثِيبٍ مِنْ كافور فيكونون منه في القُرب على قدر تسارعهم إلى الجمعة، فيُحدِثُ اللهُ سُبحانه لهم مِن الكرامة شيئاً لم يكُونوا قد رأوْه قبل ذلك، ثم يَرجعُون إلى أهليهم، فيُحدِّثونهم بما أحدث الله لهم. قال: ثم دخل عبدُ الله المسجَد، فإذا هو برجلين، فقال عبدُ الله: رجلان وأنا الثالث، إن يشأِ اللهُ يُبارك في الثالث.
وذكر البيهقى في "الشُّعَبِ" عن علقمة بن قيس قال: رُحت مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى جمعة، فوجد ثلاثة قد سبقوه، فقال: رابع أربعة، وما رابعُ

أربعة ببعيد. ثم قال: إني سمعت رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول " إنَّ النَّاسَ يَجلِسُونَ يَومَ القِيَامَةِ مِنَ اللهِ عَلَى قَدْرِ رَوَاحِهِمْ إلى الجمُعَةَ، الأول، ثُمَّ الثاني، ثمَّ الثالث، ثُمَّ الرابع". ثم قَالَ: "وَمَا راْبَع أَرْبَعَةٍ بِبَعِيدٍ".
قال الدارقطني في كتاب "الرؤية": حدثنا أحمد بن سلمان بن الحسن، حدثنا محمد بن عثمان بن محمد، حدثنها مروان بن جعفر، حدثنا نافع أبو الحسن مولى بني هاشم، حدثنا عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ، رَأَى المُؤْمِنُونَ رَبَّهم، فأَحْدَثُهُم عَهْداً بِالنَّظَرِ إلَيهِ مَنْ بَكَّرَ في كُلِّ جُمعَةِ، وَتَرَاهُ المُؤْمنَاتُ يَوْمَ الفطر وَيَوْمَ النَّحْرِ ".
حدثنا محمد بن نوح، حدثنا محمد بن موسى بن سفيان السكري، حدثنا عبد الله بن الجهم الرازي، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن أبي طيبة، عن عاصم، عن عثمان بن عمير أبي اليقظان، عن أنس بن مالك رضي اللهِ عنه، عن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال : "أَتَانِي جِبْرِيْلُ وَفِي يَدِهِ كَالمِرْآَةِ البَيْضاءِ فِيهَا كَالنكْتَةِ السوْدَاءِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هذِهِ الجمُعَة يَعْرِضهَا اللَهُ عَلَيْكَ لِتكُونَ لَكَ عِيداً ولِقَوْمِكَ مِنْ بَعْدِكَ، قُلْتُ: وَمَا لَنَا فيها؟ قَالَ: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ، أَنْتَ فِيهَا الأَوَّلُ، واليَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ بَعْدِكَ، وَلَكَ فِيهَا سَاعَةٌ لاَ يَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدٌ فِيهَا شَيْئاً هُوَ لَهُ قَسْمٌ إِلاَّ أَعْطَاهُ، أَوْ لَيْسَ لَهُ قَسْمٌ إِلاَّ أَعطَاهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَأَعَاذُه اللهُ مِنْ شَرِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ، وإِلاَّ دَفَعَ عَنْهُ مَا هُوَ أَعظَمُ مِنْ ذلِك. قال: قُلْتُ: وَمَا هذِهِ النّكتَةُ السَّوْدَاءُ؟ قَالَ: هِيَ السَّاعَةُ تَقُومُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَهُوَ عِنْدَنَا سَيِّدُ الأَيَّامِ، وَيَدْعُوهُ أَهْلُ الآخِرَةِ يَوْمَ المَزيدِ.

قَالَ: قُلْتُ: يَا جِبرِيلُ ! وَمَا يَوْمُ المَزِيدِ؟ قال: ذلِكَ أَنَّ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ اتَّخَذَ في الجَنَّةِ وَادِياً أَفْيَحَ مِنْ مِسْكٍ أَبْيَضَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ، نَزَلَ عَلَى كُرْسِيِّه، ثُمَّ حُفَّ الكُرْسِيُّ بِمَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، فَيَجِيءُ النَّبِيُونَ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ حُفَّ المَنَابِرُ بِمَنَابِرَ مِنْ ذَهَبٍ، فَيَجِيءُ الصِّدِّيقونَ والشُهدَاءُ حَتَى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا، وَيَجيءُ أَهْلُ الغُرفِ حَتَّى يَجلِسُوا عَلَى الكُثُبِ، قَالَ: ثمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلًّ، قال: فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي صدَقْتكُمْ وَعدِي، وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِي، وهَذَا مَحَلّ كَرَامَتِي فَسَلُونِي، فَيَسأَلُونَهُ الرِّضى. قَالَ: رِضَايَ أنزِلَكُمْ دَارِي، وأَنالَكُمْ كَرَامَتِي، فَسَلُوني، فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضى. قَالَ: فَشْهَدُ لَهُمْ بِالرِضى، ثُمَّ يَسْأَلُونَهُ، حَتَّى تَنْتَهِيَ رَغْبَتُهمْ، ثمَّ يُفْتَحُ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ مَا لاَ عَينّ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ: ثمَّ يَرْتَفعُ رَبُّ العِزَّةِ، وَيَرْتَفعُ مَعَهُ النَّبِيُّونَ والشُّهَدَاء، ويَجِيءُ أَهْلُ الغُرَفِ إِلى غُرَفِهِم. قَال: كُلُّ غُرْفَةٍ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ لا وَصْلَ فِيهَا وَلاَ فَصْمَ، يَاقُوتَة حَمْرَاءُ، وغُرْفَةٌ مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْراء، أَبوابها وعَلاَلِيهَا وسقَائِفُهَا وأَغْلافُها مِنها أنهارُها مُطَّرِدَة متدلِّية فِيهَا أَثْمَارُهَا، فِيها أَزْواجُهَا وخَدَمُها. قال: فلَيْسُوا إِلى شَيء أَحوجَ مِنْهُمْ إِلى يَوْمِ الجُمُعَةِ لِيزْدَادُوا منْ كَرَامَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ والنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الكَرِيمِ، فَذلِكَ يَوْمُ المَزِيدِ".
ولهذا الحديثِ عدةُ طرق، ذكرها أبو الحسن الدارقطني في كتاب "الرؤية".

السابعة والعشرون: أنه قد فُسِّرَ الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه بيوم الجمعة، قال حُميد بن زنجويه: حدثنا عبد الله بن موسى، أنبأنا موسى بن عُبيدة، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اليَوْمُ المَوْعُودُ: يَوْمُ القِيَامَةِ، والْيَوْمُ المَشْهود: هو يَومُ عَرَفَة، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ، وَلاَ غَرَبَتْ عَلَى أَفْضَلَ مِن يَومِ الجُمُعَةِ، فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنِّ يَدْعُو اللهَ فيهَا بخَير إلاَّ اسْتَجَابَ لَهُ، أَوْ يَسْتَعِيذُهُ منْ شَرٍّ إِلاَّ أعَاذَ مِنْهُ".
ورواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده"، عن روح، عن موسى بن عبيدة.
وفي "معجم الطبراني"، من حديث محمد بن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثني ضَمضم بن زرعة، عن شُريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْيَوْمُ المَوْعُودُ: يَوْمُ القِيَامَةِ، والشَّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، والمَشهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ الجُمُعَةِ ذَخَرَهُ اللهُ لَنَا، وَصَلاةُ الوُسْطَى صَلاَةُ العَصْرِ" وقد رُوي من حديث جُبير بن مطعم.

قلت: والظاهر - والله أعلم -: أنه من تفسير أبي هريرة، فقد قال الإِمام أحمد: حدثنا
محمد بن جعفر، حدثنا شعبة سمعت علي بن زيد ويونس بن عبيد يحدثان عن عمارٍ مولى بني هاشم، عن أبي هريرة، أما علي بن زيد، فرفعه إلى النبي، وأما يونس، فلم يَعْدُ أبا هريرة أنه قال: في هذه الآية: {وشَاهِدٍ وَمَشْهُود} قال: الشاهِد: يوم الجمعة، والمشهود يومُ عرفة، والموعود: يوم القيامة.
الثامنة والعشرون: أنه اليوم الذي تفزع منه السماواتُ والأرضُ، والجبالُ والبحارُ، والخلائقُ كلها إلا الإِنسَ والجِنَّ، فروى أبو الجوَّاب، عن عمّار بن رزيق، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: اجتمع كعب وأبو هريرة، فقال أبو هريرة: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ في الجمُعَةِ لَسَاعَةً لا يُوافِقُهَا عَبْدٌ مُسلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ فِيهَا خَيرَ الدُنيَا والآخِرَة إلاّ أعطاه إياه". فَقَالَ كَعْبٌ: ألا أُحَدِّثكم عَنْ يَومِ الجُمُعَةِ، إنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فزِعَتْ لَهُ السَّماواتُ والأَرْض، والجبال، والبحار، والخلائق كلُّها إلا ابنَ آدم والشياطين، وحفَّتِ الملائكةُ بأبَواب المساجد، فيكتُبُونَ الأَوَلَ فالأَوَّل حتى يخرجَ الإِمامُ، فَإِذَا خَرَجَ الإِمامُ، طَوَوْا صُحفَهُم، ومَنْ جَاءَ بَعْدُ جَاءَ لِحَقِّ اللهِ، ولِمَا كُتِبَ عَلَيْهِ، ويَحِقُّ عَلَى كُلِّ حالِم أَن يَغْتَسِلَ فيه، كاغتِسالِه مِنَ الجَنَابَة، والصَّدَقَةُ فِيهِ أَفضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ في سَائِرِ الأيَّامِ، وَلَم تَطْلُعِ الشَّمس وَلَمْ تَغْرُب عَلَى يَوْم كَيَوْمِ الجُمُعةِ. قال ابن عباس: هذا حديث كعب وأبي هريرة، وأنا أرى، من كان لأهله طِيب أن يصرَّفه يومئذ.
وفي حديث أبي هُريرة: عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لا تطلع الشمس ولا تغرب على

يوم أفضلَ مِن يوم الجمعة، وما من دابة إلا وهي تفزَعُ ليوم الجمعة إلا هذين الثَّقلين مِن الجن والإِنس"، وهذا حديث صحيح وذلك أنه اليوم الذي تقومُ فيه الساعة، ويُطوى العالم، وتَخْرَب فيه الدنيا، ويُبعث فيه الناس إلى منازلهم من الجنة والنار.
التاسعة والعشرون: أنه اليومُ الذي ادَّخره الله لهده الأمة، وأضلَّ عنه أهلَ الكِتاب قبلهم، كما في "الصحيح"، من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ما طلعتِ الشَّمْسُ، ولا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ خَيِر مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ، هَدَانا اللهُ لَهُ، وَضَلَّ الناَّسُ عنَه، فالنَّاس لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، هوَ لَنَا، وَلليَهودِ يَوْمُ السَّبْت، وللنَّصَارَى يَومُ الأحد". وفي حديث آخر "ذخره اللهُ لَنَا".
وقال الإِمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمر بن قيس، عن محمد بن الأشعث، عن عائشة قالت: "بينما أنا عنِد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ استأذن رجلٌ من اليهود، فأذِن له، فقال: السَّامُ عَلَيْكَ، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وعَلَيْكَ. قالت: فَهَمِمْت أن أَتكلَّم، قالت: ثم دخل الثانية، فقال مِثلَ ذلك، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَلَيكَ، قالت. فهممتُ أن أتكلَّم، ثم دخل الثالثة، فقال: السَّامُ عليكم، قالت، فقلتُ: بل السَّامُ عَلَيْكُم، وغَضَبُ الله، إخوانَ القردة والخنازير، أتُحَيُون رسولَ الله بما لم يُحيِّه به اللهُ عَزَّ وجَلَّ. قالت: فنظر إليَّ فقال: مَهْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفُحْشَ وَلاَ التَّفَحُّشَ، قَالُوا قَوْلاً فَرَدَدْنَاه عَلَيْهِم، فَلَم يَضُرَّنَا شيئاً، وَلَزِمَهُم إلى يَومِ القِيَامَةِ،إِنّهُم لا يَحْسُدُونناَ عَلَى شيء كَمَا يَحْسُدُوننَا عَلَى الجُمُعَةِ التي هَدَانَا اللهُ لَها، وضَلّوا عَنْهَا، وَعَلى القِبْلَةِ الَّتي هَدَانَا اللهُ لهَا، وضَلوا عَنْها، وعَلَى قَوْلِنَا خلف الإِمام: آمين"

وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "نَحنُ الآخِرونَ السَّابِقونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، بَيْدَ أَنّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِنَا، وأُوتِينَاهُ مِن بَعدِهمْ، فَهَذا يَوْمُهُمُ الَذِي فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيه، فَهَدانَا اللهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فيه تَبَعٌ، اليَهُودُ غَداً، والنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ".
وفي "بيد" لغتان بالباء، وهي المشهورة، ومَيْدَ بالميم، حكاها أبو عبيد.
وفي هذه الكلمة قولان، أحدهما: أنها بمعنى "غير" وهو أشهر معنييها، والثاني: بمعى "على" وأنشد أبو عبيد شاهداً له:
عَمْداً فَعلت ذَاكَ بيدَ أَنِّي ... إخَالُ لَو هَلَكْتُ لَمْ ترِنِّي
: ترِنِّي: تَفعلي مِن الرنين.
الثلاثون: أنه خِيرة الله من أيام الأسبوع، كما أن شهر رمضان خيرتُه من شهور العام، وليلة القدر خيرتُه من الليالي، ومكةُ خيرتُه مِن الأرض، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِيرتُه مِن خلقه. قال آدم بن أبي إياس: حدثنا شيبان أبو معاوية، عن عاصم بن أبي النّجود، عن أبي صالح، عن كعب الأحبار. قال: إن الله عزَّ وجَلَ اختار الشهورَ، واختار شهرَ رمضان، واختار الأيامَ، واختار يومَ الجمعة، واختار الليالي، واحتار ليلةَ القدر، واختار الساعاتِ، واختار ساعةَ الصلاة، والجمعةُ تكفِّر ما بينها وبين الجمعة الأخرى، وتزيد ثلاثاً، ورمضانُ يُكفِّرُ ما بينه وبين رمضان، والحجُّ يكفر ما بينه وبين الحج، والعُمْرَة تكفِّر ما بينها

وبين العمرة، ويموت الرجل بين حسنتين: حسنةٍ قضاها، وحسنةٍ ينتظرها يعني صلاتين، وتُصفَّد الشياطين في رمضان، وتُغْلَقُ أبواب النار، وتُفتحُ فيه أبوابُ الجنة، ويقال فيه: يا بَاغِيَ الخير؟ هلُم. رمضان أجمع، وما مِن ليالٍ أحب إلى الله العملُ فيهنَّ من ليالي العشر.
الحادية والثلاثون: إن الموتى تدنو أرواحُهم مِن قبورهم، وتُوافيها في يوم الجمعة، فيعرفون زُوَّارهم ومَن يَمُرُّ بهم، ويُسلم عليهم، ويلقاهم في ذلك اليوم أكثر من معرفتهم بهم في غيره من الأيام، فهو يوم تلتقي فيه الأحياء والأموات، فإذا قامت فيه الساعةُ، التقى الأولون والآخِرون، وأهلُ الأرض وأهلُ السماء، والربُّ والعبدُ، والعاملُ وعمله، والمظلومُ وظالِمُه والشمسُ والقمرُ، ولم تلتقيا قبل ذلك قطُّ، وهو يومُ الجمع واللقاء، ولهذا يلتقي الناسُ فيه في الدنيا أكثَر من التقائهم في غيره، فهو يومُ التلاق. قال ابو التياح يزيد بن حميد: كان مطرِّف بن عبد الله يبادر فيدخل كل جمعة، فأدلج حتى إذا كان عند المقابر يوم الجمعة، قال: فرأيت صاحبَ كلِّ قبر جالساً على قبره، فقالوا: هذا مطرِّف يأتي الجمعة، قال فقلت لهم: وتعلمون عن عندكم الجمعة؟ قالوا: نعم، ونعلم ما تقولُ فيه الطير، قلت: وما تقول فيه الطير؟ قالوا: تقول: ربي سلِّم سلِّم يوم صالح.
وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب "المنامات" وغيره، عن بعض أهل عاصم الجَحدري، قال: رأيت عاصماً الجحدريَّ في منامي بعد موته لسنتين، فقلتُ: أليس قد مِتَّ؟ قال: بلى، قلتُ: فأينَ أنت؟ قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفرٌ مِن أصحابي، نجتمعُ كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني، فنتلقى أخباركم. قلت: أجسامُكم أم

أرواحكم؟ قال: هيهاتَ بَلِيت الأجسام، وإنما تتلاقى الأرواحُ، قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا لكم؟ قال: نعلم بها عشيَة الجمعة، ويومَ الجمعة كله، وليلةَ السبت إلى طلوع الشمس. قال: قلتُ: فكيف ذلك دونَ الأيام كلِّها؟ قال: لفضل يوم الجمعة وعظمته.
وذكر ابن أبي الدنيا أيضاً، عن محمد بن واسع، أنه كان يذهب كل غَداةِ سبت حتى يأتي الجبَّانة، فيقِف على القبور، فيُسلم عليهم، ويدعو لهم، ثم ينصرف. فقيل له: لو صيّرَت هذا اليومَ يوم الاثنين. قال: بلغني أن الموتى يعلمون بزوَّارِهم يومَ الجمعة، ويوماً قبله، ويوماً بعده.
وذكر عن سفيان الثوريَ قال بلغني عن الضحاك،أنه قال: من زار قبراًَ يومَ السبت قبل طلوع الشمس، علم الميت بزيارته فقيل له: كيف:ذلك؟ قال لِمكان يوم الجمعة.
الثانية والثلاثون: أنه يكره إفرادُ يوم الجمعة بالصوم، هذا منصوصُ أحمد، قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: صيام يوم الجمعة؟ فذكر حديثَ النهي عن أن يُفرد، ثم قال: إلا أن يكون في صيام كان يصومه، وأما أن يفردَ، فلا. قلت: رجل كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً، فوقع فطره يومَ الخميس، وصومه يوم الجمعة، وفِطره يومَ السبت، فصار الجمعة مفرداً؟ قال: هذا إلا أن يتعمَّد صومَه خاصة، إنما كُرِه أن يتعمد الجمعة.
وأباح مالك، وأبو حنيفة صومَه كسائر الأيام، قال مالك: لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه ومن يُقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيتُ بعض أهل العلم يصومُه، وأراه كان يتحراه. قال ابن عبد البر: اختلفت الآثارُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صيام يوم الجمعة،
v

فروى ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصوم ثلاثة أيام مِن كل شهر، وقال: قلَّمَا رأيته مفطِراً يومَ الجمعة وهذا حديث صحيح. وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: ما رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفطر يومَ الجمعة قطُ. ذكره ابن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، عن ليث بن أبي سليم، عن عمير بن أبي عمير، عن ابن عمر.
وروى ابنُ عباس، أنه كان يصومُه ويُواظب عليه. وأما الذي ذكره مالك، فيقولون: إنه محمد بن المنكدر. وقيل: صفوان بن سليم.
وروى الدراوردي، عن صفوان بن سليم، عن رجل من بني جشم، أنه سمع أبا هُريرة يقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صامَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، كُتِبَ لَهُ عَشْرَةُ أيَّامٍ غُرَرٌ زُهْرٌ مِن أيَّامِ الآخِرَة لا يُشاكِلهُنَّ أيامُ الدُّنيا".
والأصل في صوم يوم الجمعة أنه عمل بر لايمنع منه إلا بدليل لا معارِض له. قُلتُ: قد صح المعارِض صحةً لامطعن فيها البتة، ففي "الصحيحين"، عن محمد بن عباد، قال: سألت جابراً: أنهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صيام يوم الجمعة؟ قال: نعم.

وفي "صحيح مسلم"، عن محمد بن عباد، قال: سألتُ جابر بن عبد الله، وهو يطوفُ بالبيت: أنهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صيام يوم الجمعة؟ قال: نعم وربِّ هذه البَنِيَّةِ.
وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة، قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لا يَصُومَنَّ أحدُكُم يَوْمَ الجُمُعَةِ إلا أنْ يَصُومَ يَوْمَاً قبلَهُ، أَو يَوَمَاًَ بَعْدَه". واللفظ للبخاري.
وفي "صحيح مسلم"، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "لا تَخصوا لَيْلَةَ الجُمُعَةِ بِقِيامِ من بين الليالي، ولا تَخُصُّوا يَومَ الجُمُعَةِ بصِيَام منْ بَيْن سَائِرِ الأَيَّامِ، إلا أَنْ يَكُونَ في صَوْمِ يَصُومُهُ أَحَدُكُم ".
وفي "صحيح البخاري"، عن جُويرية بنت الحارث، " أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل عليها يومَ الجمعة وهي صائمة، فقال: أصُمت أَمْسِ؟ قَالَتْ: لا. قَالَ: فَتُرِيدِينَ أن تَصُومي غداً؟ قالت: لا. قَالَ: فأَفطِري ".
وفي "مسند أحمد" عن ابن عباس، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تَصُومُوا يَومَ الجُمُعَةِ وَحْدَهُ".
وفي "مسنده" أيضاً عن جنادة الأزدي قال: دخلتُ على رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

يومَ جمعة في سبعة من الأزد، أنا ثامنهم وهو يتغدَّى، فقال: "هلموا إلى الغداء" فقلنا: يا رسولَ الله ! إنا صيام. فقال: أصُمتم أمسِ؟ قلنا: لا. قال: فتصومُون غداً؟ قلنا: لا. قال: فأَفْطِروا. قال: فأكلنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال.: فلما خرج وجَلَس على المنبر، دعا بإناء ماء، فشرب وهو على المنبر، والناسُ ينظرون إليه، يُريهم أنه لا يَصومُ يَومَ الجمعة".
وفي "مسنده" أيضاً، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَوْمُ الجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ، فَلاَ تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكم يَوْمَ صِيَامِكُم إلاَّ أَنْ تَصُومُوا قَبلَهُ أَوْ بَعْدَه".
وذكر ابن أبي شيبة، عن سفيان بن عُيينة، عن عمران بن ظبيان، عن حُكيم بن سعد، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: من كان منكم متطوعاً مِن الشهر أياماً، فليكن في صومه يوم الخميس، ولا يصمْ يومَ الجمعة، فإنه يومُ طعام وشراب، وذكر، فيجمع الله له يومين صالحين: يوم صيامه، ويوم نسكه مع المسلمين.
وذكر ابن جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: إنهم كرهوا صوم الجمعة لِيقْوَوْا على الصلاة.
قلتُ: المأخذ في كراهته: ثلاثة أمور، هذا أحدها، ولكن يُشكل عليه زوال الكراهية بضم يوم قبله، أو بعده إليه.
والثاني: أنه يوم عيد، وهو الذي أشار إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أُورِدَ على هذا

التعليل إشكالان. أحدهما: أن صومه ليسر بحرام، وصوم يوم العيد حرام. والثاني: إن الكراهة تزول بعدم إفراده، وأجيب عن الإِشكالين، بأنه ليس عيد العامٍ، بل عيد الأسبوع، والتحريمُ إنما هو لصوم عيد العام. وأما إذا صام يوماً قبله، أو يوماً بعده، فلا يكون قد صامه لأجل كونه جمعة وعيداً، فتزول المفسدة الناشئة من تخصيصه، بل يكون داخلاً في صيامه تبعاً، وعلى هذا يحمل ما رواه الإِمام أحمد رحمه الله في "مسنده" والنسائي، والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود إن صح قال: قَلَّمَا رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفطر يَوْمَ جمُعَةٍ. فإن صحّ هذا، تعين حمله على أنه كان يدخل في صيامه تبعاً، لا أنه كان يُفرده لصحة النهي عنه. وأين أحاديثُ النهي الثابتة في "الصحيحين"، من حديث الجواز الذي لم يروه أحد من أهل الصحيح، وقد حكم الترمذي بغرابته، فكيف تعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة، ثم يُقدم عليها؟!
والمأخذ الثالث: سد الذريعة من أن يُلحق بالدِّين ما ليس فيه، ويُوجب التشبه بأهل الكتاب في تخصيص بعض الأيام بالتجرد عن الأعمال الدنيوية، وينضم إلى هذا المعنى: أن هذا اليوم لما كان ظاهرَ الفضل على الأيام، كان الداعي إلى صومه قوياَ، فهو في مَظِنّةِ تتابع الناس في صومه، واحتفالِهم به ما لا يحتفلون بصوم يومٍ غيره، وفي ذلك إلحاق بالشرع ما ليس منه. ولهذا المعنى -والله أعلم - نهي عن تخصيص ليلةِ الجمعة بالقيام من بين الليالي، لأنها من أفضل الليالي، حتى فضَّلها بعضهم على ليلة القدر، وحكيت رواية عن أحمد، فهى في مَظِنَّةِ تخصيصها بالعبادة، فحسم الشارعُ الذريعة، وسدَّها بالنهي عن تخصيصها بالقيام. والله أعلم.
فإن قيل: ما تقولون في تخصيص يوم غيره بالصيام؟ قيل: أما تخصيص

ما خصصه الشارع، كيوم الاثنين، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، فسُنَّةٌ، وأما تخصيصُ غيره، كيوم السبت، والثلاثاء، والأحد، والأربعاء، فمكروه. وما كان منها أقربَ إلى التشبه بالكفار لتخصيص أيام أعيادهم بالتعظيم والصيام، فأشد كراهةً، وأقربُ إلى التحريم.
الثالثة الثلاثون: إنه يوم اجتماع الناس وتذكيرهم بالمبدأ والمعاد، وقد شرع الله سبحانه وتعالى لكل أمة في الأسبوع يوماً يتفرَّغون فيه للعبادة، ويجتمعون فيه لتذكُّر المبدإ والمعاد، والثواب والعقاب، ويتذَّكرون به اجتماعهم يوم الجمع الأكبر قياماً بينهن يدي رب العالمين، وكان أحق الأيام بهذا العرض المطلوب اليوم الذي يجمع الله فيه الخلائق، وذلك يوم الجمعة، فادَّخره الله لهذه الأمة لفضلها وشرفها، فشرع اجتماعهم في هذا اليومٍ لطاعته، وقدَّر اجتماعهم فيه مع الأمم لنيل كرامته، فهو يوم الاجتماع شرعا في الدنيا، وقدراً في الآخرة، وفي مقدار انتصافه وقت الخطبة والصلاة يكون أهل الجنة في منازلهم، وأهل النار في منازلهم، كما ثبت عن ابن مسعود من غير وجه أنه قال: لا ينتصف النهارُ يوم القيامة حتى يَقِيلَ أهلُ الجنة في منازلهم، وأهل النارِ في منازلهم، وقرأ: {أصحابُ الجَنَّةِ يومئذٍ خير مستقراً وأحسنُ مَقيلاً} [الفرقان:24] وقرأ: {ثُمَّ إنَّ مَقِيلَهْم لإِلى الجَحِيم} ، وكذلك هي في قراءته. ولهذا كون الأيام سبعة إنما تعرِفُه الأمم التي لها كتاب، فأما أمة لا كتاب لها، فلا تعرف ذلك إلا من تلقَّاه منهم عن أمم الأنبياء، فإنه ليس هنا علامة حِسِّية يُعرف بها كونُ الأيام سبعة، بخلاف الشهر والسنة، وفصولها، ولما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام.
وتعرَّف بذلك إلى عباده على ألسنة رسله وأنبيائه، شرع لهم في

الأسبوع يوماً يُذكِّرهم فيه بذلك، وحكمةِ الخلق وما خلقوا له، وبأجَل العالمِ، وطيِّ السماوات والأرض، وعَودِ الأمر كما بدأه سبحانه وعداً عليه حقاً، وقولاً صدقاً، ولهذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في فجر يوم الجمعة سورتي (الم تنزيل)؟ (هل أتى على الإِنسان) لما اشتملت عليه هاتان السورتان مما كان ويكون من المبدأ والمعاد، وحشر الخلائق، وبعثِهم من القبور إلى الجنة والنار، لا لأجل السجدة كما يظنه من نقص علمه ومعرفته، فيأتي بسجدة من سورة أخرى، ويعتقد أن فجر يوم الجمعة فضِّل بسجدة، وينكر على من لم يفعلها. وهكذا كانت قراءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المجامع الكبار، كالأعياد ونحوها، بالسورة المشتملة على التوحيد، والمبدإ والمعاد، وقصصِ الأنبياء مع أممهم، وما عامل الله به من كذَّبهم وكفر بهم من الهلاك والشقاء، ومن آمن منهم وصدَّقهم من النجاة والعافية. كما كان يقرأ في العيدين بسورتي (ق والقرآن المجيد)، و(اقتربت الساعةُ وانشقَّ القمرُ)؟ تارة: ب (سبح اسم ربك الأعلى)، و(هل أتاك حديث الغاشية)، وتارة يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة لما تضمَّنت

من الأمر بهذه الصلاة، وإيجابِ السَّعي إليها، وتركِ العلم العائق عنها، والأمر بإكثار ذكر الله ليحصُل لهم الفلاحُ في الدارين، فإن في نسيان ذكره تعالى العطبَ والهلاكَ في الدارين، ويقرأ في الثانية بسورة (إذا جاءك المنافقون) تحذيراً للأمة من النفاق المردي، وتحذيراً لهم أن تشغلَهَم أموالهُم وأولادهم عن صلاة الجمعة، وعن ذِكر الله، وأنهم إن فعلوا ذلك خسروا ولا بد، وحضاً لههم على الإِنفاق الذي هو من أكبر أسباب سعادتهم، وتحذيراً لهم من هجوم الموت وهم على حالة يطلبون الإِقالة، ويتمنَون الرجعة، ولا يُجابون إليها، وكذلك كان: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل عند قدوم وفد يريد أن يُسمعهم القرآن، وكان يُطيل قراءة الصلاة الجهرية لذلك، كما صلَّى المغرب ب (الأعراف) وب (الطور)، و(ق). وكان يُصلي الفجر بنحو مائة آية.
وكذلك كانت خطبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما هي تقرير لأصول الإِيمان من الإِيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائِه، وذكرِ الجنة، والنار، وما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعدَّ لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب مِن خُطبته إيماناًَ وتوحيداً، ومعرفة بالله وأيامه، لا كخُطب غيره التي إنما تُفيد أموراً مشتركة بين الخلائق، وهي النَّوح على الحياة، والتخويف بالموت، فإن هذا أمر لا يُحصِّلُ في القلب إيماناً بالله، ولا توحيداً له، ولا معرفة خاصة به، ولا تذكيراً بأيامه، ولا بعثاً للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة، غير أنهم يموتون، وتُقسم أموالهم، ويُبلي الترابُ أجسامهم، فيا ليت شعري أيّ إيمان حصل بهذا؟! وأيِّ توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟!.
ومن تأمل خطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخطب أصحابه، وجدها كفيلة ببيان

الهدى والتوحيد، وذِكر صفات الربِّ جل جلاله، وأصولِ الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذِكر آلائه تعالى التي تُحبِّبه إلى خلقه وأيامِه التي تخوِّفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يُحبِّبهم إليه، فيذكرون مِن عظمة الله وصفاته وأسمائه، ما يُحبِّبه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره، وذِكره ما يُحبِّبهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم، ثم طال العهد، وخفي نور النبوة، وصارت الشرائعُ والأوامرُ رسوماً تُقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطَوْها صورها، وزيّنوها بما زينوها به فجعلوا الرسوم والأوضاع سنناً لا ينبغي الإخلالُ بها، وأخلُّوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإِخلال بها، فرصعوا الخُطب بالتسَجيع والفِقر، وعلم البديع، فَنقَص بل عَدمَ حظُ القلوب منها، وفات المقصود بها.
فمما حفظ من خطبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يكثر أن يخطُب بالقرآن وسورة (ق). قالت أم هشام بنت الحارث بن النعمان: ما حفظت (ق) إلا منْ في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يخطب بها على المنبر.
وحُفظ من خطبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من رواية علي بن زيد بن جدعان وفيها ضعف، "يا أيُّها الناسُ توبوا إلى الله عز وجل قبل أن تَموتوا، وبادِرُوا بالأعمال الصالحة قَبل أَن تُشغَلوا، وصِلوا الَّذي بينكم وبين ربَكم بكثرة ذِكركم له، وكثرةِ الصدقة في السرِّ والعلانية تُؤجروا، وتحمَدوا، وتُرزقوا. واعلموا أن الله عز وجل، قد فرض عليكم الجمعةَ فريضةَ مكتوبةَ في مقامي هذا، في شهري هذا، في عَامي هَذَا، إِلى يَوْمِ القِيامَةِ، مَنْ وَجَدَ إليها سَبِيلاً، فَمَن تَركَهَا في حياتي، أو بعد مماتي جحوداً بها، أو استخفافاً بها، وله إمامٌ جائر أو

عادِل، فلا جمع الله شملَه، ولا بارَك له في أمره، ألا ولا صَلاة له، ألا ولا وضوءَ له، ألا ولا صَومَ له، ألا ولا زَكَاةَ له، ألا ولا حجَ له، ألا ولا بَرَكَة له حتى يتوبَ، فإن تابَ، تابَ اللهُ عليه، ألا ولا تَؤُمَنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً، ألا ولا يَؤُمَنَّ أعرابي مُهاجِراً، ألا ولا يَؤمَنَّ فَاجرٌ مُؤمنَاً، إلا أن يَقهَرَهُ سلطَانٌ فَيخَافَ سَيْفَه وسَوطَه".
وحفظ مِن خطبته أيضاً: "الحمدُ لِله نستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله مِنْ شُرورِ أنفسنا، مَنْ يَهْدِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلِل فَلا هادي له، وأشهدُ أَلاَّ إله إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ لَهُ، وأشهدُ أن مُحمداً عبده ورسولُه، أرسله بالحقِّ بشيراً ونذيراً بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ، مَنْ يُطعِ اللهَ وَرَسُولَه، فَقَد رَشَدَ ومن يَعْصِهِمَا، فإنه لا يَضُرُّ إلا نَفْسَة، ولا يَضُرُّ الله شيئا ". رواه أبو داود وسيأتي إن شاء الله تعالى ذِكر خطبه في الحج.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبه
كان إذا خطب، احمرَّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتد غضبُه حتى كأنه منذرُ جيش، يقول: "صَبَّحَكُمْ ومساكم" ويقول: "بُعِثتُ أَنَا والسَّاعَة كَهَاتَينِ، وَيَقْرُنُ بَيْنَ أصبُعَيهِ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى". ويقول: "أَمَّا بَعْدُ، فإنَّ خَيْرَ الحَديثِ كِتَابُ الله، وَخَيْرَ الهدْي هَدْي مُحَمَّدِ، وَشَرَّ الأُمورِ مُحْدَثَاتُها، وَكُلَّ بِدعَةٍ ضَلاَلَة ". ثم يقول: "أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، مَن ترَكَ مَالاً، فَلأَهلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنَاً أَو ضَيَاعاً، فإليَّ وعليَّ" رواه مسلم.
وفي لفظ: كانت خُطبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الجمعَةِ، يَحْمَدُ الله ويُثْنِي عَلَيهِ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى أثَرِ ذلِكَ وَقَدْ عَلاَ صَوْتُه فَذَكَرُه. في لفظ: يَحْمَدُ الله وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُه، ثُمَّ يَقُولُ: "مَنْ يَهْدِ اللهُ، فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ، فلاَ هَادِيَ لَهُ، وَخَيْر الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ".
وفي لفظ للنسائي، "وكُلُ بِدْعةٍ ضلاَلَةٌ، وَكُلّ ضلاَلَةٍ في النَّارِ".
وكان يقول في خطبته بعد التحميدِ والثناءِ والتشهد "أَمَّا بَعْدُ".
وكان يُقصِّرُ الخُطبة، ويطيل الصلاة، ويكثر الذِّكر، ويَقْصدُ الكلماتِ

الجوامع، وكان يقول: "إنَّ طُولَ صَلاَةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِه، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهٌ"
وكان يُعَلِّمُ أصحابَه في خُطبته قواعِدَ الإِسلام، وشرائعَه، ويأمرهم، وينهاهم في خطبته إذا عَرَض له أمر، أو نهى، كما أمر الداخل وهو يخطب أن يُصلي ركعتين.
ونهى المتخطِّي رِقابَ الناس عن ذلك، وأمره بالجلوس. وكان يقطعُ خطبته للحاجة تعْرِضُ، أو السؤالِ مِنْ أَحَدٍ من أصحابه، فيُجيبه، ثم يعود إلى خُطبته، فيتمُّها.
وكان ربما نزل عن المنبر للحاجة، ثم يعودُ فَيُتِمُّها، كما نزل لأخذ الحسن والحسين رضي الله عنهما، فأخذهما، ثم رَقِيَ بهما المنبر، فأتم خطبته.

وكان يدعو الرجل في خطبته: تعالَ يا فلان، اجلِسْ يا فلان، صلِّ يا فُلان.
وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته، فإذا رأىَ منهم ذا فاقة وحاجة، أمرهم بالصدقة، وحضهم عليها.
وكان يُشير بأصبعه السَّبَّابَة في خطبته عند ذكر الله تعالى ودعائه.
وكان يستسقي بهم إذا قَحَطَ المطر في خطبته.

وكان يمهل يوم الجمعة حتى يجتمعَ الناسُ، فإذا اجتمعوا، خرج إليهم وحدَه من غير شاويش يصيح بين يديه، ولا لبس طيلسان، ولا طرحة، ولا سواد، فإذا دخل المسجد، سلَّم عليهم، فإذا صَعِد المنبر، استقبل الناسَ بوجهه، وسلَّم عليهم، ولم يدع مستقبلَ القبلة، ثم يجلِس، ويأخذ بلالٌ في الأذان، فإذا فرغ. منه، قام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخطب من غير فَصلٍ بين الأذان والخطبة، لا بإيراد خبر ولا غيره.
ولم يكن يأخذ بيده سيفاً ولا غيرَه، وإنما كان يعتَمِد على قوس أو عصاً قبل أن يتَّخذ المنبر، وكان في الحرب يَعتمد على قوس، وفي الجمعة يعتمِد على عصا. ولم يُحفظ عنه أنه اعتمد على سيف، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائماً، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف، فَمِن فَرطِ جهله، فإنه لا يُحفظ عنه بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه بسيف، ولا قوس، ولا غيره، ولا قبل اتخاذه أنه أخذ بيده سيفاً البتة، وإنما كان يعتمِد على عصا أو قوس.
وكان منبره ثلاثَ درجات، وكان قبلِ اتخاذه يخطُب إلى جِذع يستند إليه، فلما تحوَّل إلى المنبر، حنَّ الجِذْعُ حنيناً سمعه أهل المسجد، فنزل إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضمَّه قال أنس: حنَّ لما فقد ما كان يسمع من الوحي، وفقده التصاق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ولم يُوضع المنبر في وسط المسجد، وإنما وضع في جانبه الغربي قريباً من الحائط، وكان بينه وبين الحائط قدر ممر الشاة.
وكان إذا جلس عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير الجمعة، أو خطب قائماً في الجمعة، استدار أصحابُه إليه بوجوههم، وكان وجهه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبلَهم في وقت الخطبة.
وكان يقوم فيخطب، ثم يجلِس جلسة خفيفة، ثم يقوم، فيخطب الثانية، فإذا فرغ منها، أخذ بلال في الإِقامة. وكان يأمر الناس بالدنِّو منه، ويأمرهم بالإِنصات، وتخبرهم أن الرجل إذا قَالَ لِصاحبه: أَنْصِت فَقَدْ لَغَا. ويقول: "مَنْ لَغَا فَلاَ جمُعَة لَهُ". وكان يقول: "مَن تَكَلَّمَ يَوْمَ الجمُعَة

والإِمامُ يَخْطُبُ، فَهُوَ كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسفَاراً، والَذِي يَقُولَ لَه: أنْصت لَيْسَت لَهُ جُمُعَة ". رواه الإِمام أحمد.
وقال أبي بن كعب: قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الجمعة (تبارك) وهو قائم، فذكَّرنا بأيَّام الله، وأبو الدرداء أو أبو ذر يَغمِزُني، فقال: متى أُنزِلَتْ هذه السورة؟ فإني لم أسمعها إلى الآَن، فأشار إليه أن اسكت، فلما انصرفوا، قال: سألتُك متى أُنزلت هذه السورة فلم تخبرني، فقال: إنّه ليحسن لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوتَ، فذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر له ذلك، وأخبره بالذي قال له أُبي، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "صَدَق أبيُّ ". ذكره ابن ماجه، وسعيد بن منصور، وأصله في "مسند أحمد ".
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَحْضُر الجُمُعَة ثَلاثَةُ نَفَر: رَجُلٌ حَضرَها يَلغُو وَهُوَ حَظُه منها، ورَجُلٌ حَضَرَها يَدْعو، فَهُوَ رَجُلُ دَعا الله عَزَّ وَجَلَّ إن شَاءَ أَعْطَاهُ، وإنْ شَاءَ مَنَعَهْ، وَرَجلٌ حَضَرهَا بإنْصاتٍ وَسُكُوتٍ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُؤْذِ أحداً، فَهي كَفَّارَةٌ له إلى يَوْمِ الجُمُعَةِ التي تَليها، وَزيادَة ثَلاثَةَ أيْامٍ، وَذَلِكَ أن الله عزَّ وجَلَ يقول: {مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثَالِها} [الأنعام: 160]"، ذكره أحمد وأبو داود.
وكان إذا فرغ بلال من الأذان، أخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخطبة، ولم يقم أحدٌ يركع ركعتين البتة، ولم يكن الأذانُ إلا واحداً، وهذا يدل على أن الجمعة

كالعيد، لا سُنَّة لها قبلها، وهذا أصحُّ قولي العلماء، وعليه تدلُّ السُّنَّة، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخرج مِن بيته، فإذا رَقِي المنبر، أخذ بلالٌ في أذان الجمعة، فإذا أكمله، أخذ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخطبة من غير فصل، وهذا كان رأَيَ عين، فمتى كانوا يُصلون السُّنَّة؟! ومن ظن أنهم كانوا إذا فرغ بلال رضي الله عنه من الأذان، قاموا كلُّهم، فركعوا ركعتن، فهو أجهلُ الناس بالسُّنَّة، وهذا الذي ذكرناه من أنه لا سُنَّة قبلها، هو مذهب مالك، وأحمد في المشهور عنه، وأحدُ الوجهين لأصحاب الشافعي.
والذين قالوا: إن لها سُنَّة، منهم من احتج أنها ظهرٌ مقصورة، فيثبت لها أحكامُ الظهر، وهذه حجة ضعيفة جداً، فإن الجمعة صلاةٌ مستقِلة بنفسها تُخالف الظهر في الجهر، والعدد، والخطبة، والشروط المعتبرة لها، وتُوافقها في الوقت، وليس إلحاقُ مسألة النزاع بموارد الاتفاق أولى من إلحاقها بموارد الافتراق، بل إلحاقها بموارد الافتراق أولى، لأنها أكثر مما اتفقا فيه.
ومنهم من أثبت السُّنَّة لها بالقياس على الظهر، وهو أيضاً قياس فاسد، فإن السُنَّة ما كان ثابتاً عن النبي من قول أو فعل، أو سُنة خلفائه الراشدين، وليس في مسألتنا شيء من ذلك، ولا يجوز إثباتُ السنن في مثل هذا بالقياس، وأن هذا مما انعقد سببُ فعله في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا لم يفعله ولم يشرعه، كان تركُه هو السُنَّة، ونظيرُ هذا، أن يُشرع لصلاة العيد سنة قبلها أو بعدها بالقياس، فلذلك كان الصحيحُ أنه لا يسن الغسل للمبيت بمزدلفة، ولا لِرمي الجمار، ولا للطواف، ولا للكسوف، ولا للاستسقاء، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابَه لم يغتسلوا لذلك مع فعلهم لهذه العبادات.
ومنهم من احتج بما ذكره البخاري في "صحيحه" فقال: باب الصلاة قبل الجمعة وبعدها: حدثنا عبد الله بن يُوسف، أنبأنا مالك، عن نافع،

عن ابن عمر، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يُصلي قبلَ الظُّهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وقبل العشاء ركعتين، وكان لا يُصلي بعد الجمعة حتى ينصَرِف، فيُصلي ركعتين وهذا لا حُجة فيه، ولم يُرد به البخاري إثباتَ السنة قبل الجمعة، وإنما مرادُه أنه هل ورد في الصلاة قبلها أو بعدها شيء؟ ثم ذكر هذا الحديث، أي: أنه لم يُرو عنه فعلُ السنة إلا بعدها، ولم يرد قبلها شيء.
وهذا نظير ما فعل في كتاب العيدين، فإنه قال: باب الصلاة قبل العيد وبعدها، وقال أبو المعلَّى: سمعت سعيداً عن ابن عباس، أنه كره الصلاة قبل العيد. ثم ذكر حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يوم الفطر، فصلَّى ركعتين، لم يصل قبلَهما ولا بعدَهما ومعه بلال الحديث.
فترجم للعيد مثلَ ما ترجم للجمعة، وذكر للعيد

حديثاً دالاً على أنه لا تشرع الصلاةُ قبلَها ولا بعدَها، فدل على أن مراده من الجمعة كذلك.
وقد ظن بعضُهم أن الجمعة لما كانت بدلاً عن الظهر- وقد ذكر في الحديث السنة قبل الظهر وبعدها - دلَّ على أن الجمعة كذلك، وإنما قال: "وكان لا يُصلي بعد الجمعة حتى ينصرِفَ" بياناً لموضع صلاة السنة بعد الجمعة، وأنه بعد الانصراف، وهذا الظن غلط منه، لأن البخاري قد ذكر في باب التطوع بعد المكتوبة حديثَ ابن عمر رضي الله عنه: صليتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدتينِ قبل الظهر، وسجدتين بعدَ الظهر، وسجدتين بعدَ المغرب، وسجدتينِ بعد العشاء، وسجدتينِ بعد الجمعة. فهذا صريح في أن الجمعة عند الصحابة صلاةٌ مستقِلَة بنفسها غير الظهر، وإلا لم يحتج إلى ذِكرها لِدخولها تحتَ اسم الظهر، فلما لم يذكر لها سنةً إلا بعدها، عُلِمَ أنه لا سنة لها قبلها.
ومنهم من احتج بما رواه ابن ماجه في "سننه" عن أبي هريرة وجابر، قال: جاء سُلَيك الغَطفاني ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطبُ فقال له: "أَصَلَّيْتَ ركْعَتَيْن قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ؟" قال: لا. قال: "فَصلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّز فيهما ". وإسناده ثقات.
قال أبو البركات ابن تيمية: وقوله: "قبل أن تجيء" يدل عن أن هاتين الركعتين سنة الجمعة، وليست تحية المسجد. قال: شيخنا حفيدُه أبو العباس: وهذا غلط، والحديث المعروف في "الصحيحين" عن جابر، قال: دخل رجال يومَ الجمعة ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، فقال "أَصلَّيْتَ" قال: لا.

قال: فَصّل رَكْعَتَيْن. وقال: "إذا جاء أَحَدُكُم الجُمُعَةَ والإِمَامُ يَخْطُبُ، فَليَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيتَجَوَّزْ فيهما ". فهذا هو المحفوظ في هذا الحديث، وأفراد ابن ماجه في الغالب غيرُ صحيحة، هذا معنى كلامه.
وقال شيخنا أبو الحجَّاج الحافظ المزي: هذا تصحيف من الرواة، إنما هو "أصليتَ قبل أن تجلس" فغلط فيه الناسخُ. وقال: وكتابُ ابنِ ماجه إنما تداولته شيوخ لم يعتنوا به، بخلاف صحيحي البخاري ومسلم، فإن الحفاظ تداولوهما، واعتَنَوْا بضبطهما وتصحيحهما، قال: ولذلك وقع فيه أغلاطٌ وتصحيف.
قلت: ويدل على صحة هذا أن الذين اعتَنَوْا بضبط سنن الصلاة قبلها وبعدها، وصنفوا في ذلك من أهل الأحكام والسنن وغيرها، لم يذكر واحدٌ منهم هذا الحديثَ في سنة الجمعة قبلها، وإنما ذكروه في استحباب فعل تحية المسجد والإِمام على المنبر، واحتجوا به على من منع مِن فعلها في هذه الحال، فلو كانت هي سنةَ الجمعة، لكان ذكرها هناك، والترجمةُ عليها، وحفظُها، وشهرتُها أولى من تحية المسجد. ويدل عليه أيضاً أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يأمر بهاتين الركعتين إلا الداخل لأجل أنها تحيةُ المسجد. ولو كانت سنة الجمعة، لأمر بها القاعدين أيضاً، ولم يخص بها الداخل وحده.
ومنهم من احتج بما رواه أبو داود في "سننه"، قال: حدثنا مسدَّد، قال: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر يُطيل الصلاة قبل الجمعة، ويُصلي بعدها ركعتين في بيته، وحدث أن رسول

الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل ذلك. وهذا لا حجة فيه على أن للجمعة سنةً قبلها، وإنما أراد بقوله: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل ذلك: أنه كان يُصلي الركعتين بعد الجمعة في بيته لا يُصليهما في المسجد، وهذا هو الأفضل فيهما، كما ثبت في "الصحيحين" عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته. وفي "السنن" عن ابن عمر، أنه إذا كان بمكة، فصلى الجمعة، تقدم، فصلّى ركعتين، ثم تقدم فصلَّى أربعاً، وإذا كان بالمدينة، صلى الجمعة، ثم رجع إلى بيته، فصلَّى ركعتين، ولم يُصل بالمسجد، فقيل له، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك. وأما إطالة ابن عمر الصلاة قبل الجمعة، فإنه تطوعٌ مطلق، وهذا هو الأولى لمن جاء إلى الجمعة أن يشتغِل بالصلاة حتى يخرج الإِمام، كما تقدم من حديث أبي هريرة، ونُبيشة الهذلي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من اغتسل يوم الجمعة، ثم أتى المسجدَ، فصلَّى ما قُدِّرَ له، ثم أنصتَ حتى يَفرُغَ الإمامُ من خُطبته، ثم يُصلي معه، غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيَّامٍ". وفي حديث نُبيشة الهذلي: "إن المسلمَ إذا اغتسل يومَ الجمعة، ثم أقبلَ إلى المسجد لا يُؤذي أحداً، فإن لم يجد الإِمام خَرج، صلَّى ما بدا له، وإن وجد الإمامَ خرج، جلس، فاستمع وأنصت حتى يقضيَ الإمامُ جمعته وكلامَه، إن لمَ يُغفر له في جُمعته تلك ذنوبه كلُّها أَنْ تكون كَفَّارَةً للجمعة التي تليها" هكذا كان هديُ الصحابة

رضي الله عنهم.
قال ابن المنذر: روينا عن ابن عمر: أنه كان يُصلي قبل الجمعة ثِنتي عشرة ركعة.
وعن ابن عباس، أنه كان يصلي ثمان ركعات. وهذا دليل على أن ذلك كان منهم من باب التطوع المطلق، ولذلك اختلف في العدد المرويَ عنهم في ذلك، وقال الترمذي في "الجامع": ورُوي عن ابن مسعود، أنه كان يُصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً. وإليه ذهب ابنُ المبارك والثوريُّ.
وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء النيسابوري: رأيتُ أبا عبد الله، إذا كان يوم الجمعة يُصلي إلى أن يعلمَ أن الشمس قد قاربت أن تزول، فإذا قاربت، أمسك عن الصلاة حتى يُؤذِّنَ المؤذِّن، فإذا أخذ في الأذان، قام فصلى ركعتين أو أربعاً، يَفصِل بينهما بالسلام، فإذا صلى الفريضة، انتظر في المسجد، ثم يخرج منه، فيأتي بعض المساجد التي بحضرة الجامع، فيُصلي فيه ركعتين، ثم يجلس، وربما صلَّى أربعاً، ثم يجلس، ثم يقوم، فيصلي ركعتين أخريين، فتلك ست ركعات على حديث علي، وربما صلى بعد الست ستاً أخر، أو أقل، أو أكثر. وقد أخذ من هذا بعضُ أصحابه رواية: أن للجمعة قبلها سنة ركعتين أو أربعاً، وليس هذا بصريح، بل ولا ظاهر، فإن أحمد

كان يُمسك عن الصلاة في وقت النهي، فإذا زال وقت النهي، قام فأتم تطوعه إلى خروج الإِمام، فربما أدرك أربعاً، وربما لم يُدرك إلا ركعتين.
ومنهم من احتج على ثبوت السنة قبلها، بما رواه ابن ماجه في "سننه" حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا يزيد بن عبد ربِّه، حدثنا بقية، عن مبشر بن عبيد، عن حجاج بن أرطاة، عن عطية العَوْفي، عن ابن عباس، قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يركع قبل الجُمعة أربعاً، لا يفصِل بينها في شيء منها. قال ابن ماجه: باب الصلاة قبل الجمعة، فذكره.
وهذا الحديث فيه عدة بلايا، إحداها: بقية بن الوليد: إمام المدلسين وقد عنعنه، ولم يصرح بالسماع.
الثانية : مبشر بن عُبيد، المنكر الحديث. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: شيخ كان يقال له: مبشر بن عبيد كان بحمص، أظنه كوفياً، روى عنه بقية، وأبو المغيرة، أحاديثُه أحاديث موضوعة كذب. وقال الدارقطني: مبشر بن عبيد متروك الحديث، أحاديثه لا يتابع عليها.
الثالثة: الحجاج بن أرطاة الضعيف المدلس.
الرابعة :.عطية العوفي، قال البخاري: كان هشيم يتكلم فيه، وضعفه أحمد وغيره.
وقال البيهقي: عطية العَوْفي لا يحتج به، ومبشر بن عبيد الحمصي منسوب إلى وضع الحديث، والحجاج بن أرطاة، لا يحتج به. قال بعضهم: ولعل الحديث انقلب على بعضِ هؤلاء الثلاثة الضعفاء، لعدم ضبطهم

وإتقانهم، فقال: قَبْلَ الجُمُعة أربعاً، وإنما هو بعد الجمعة، فيكون موافقاً لما ثبت في "الصحيح" ونظير هذا: قول الشافعي في رواية عبد الله بن عمر العمري: "للفارس سهمان، وللراجل سهم". قال الشافعي: كأنه سمع نافعاً يقول: للفرس سهمان، وللراجل سهم، فقال: للفارس سهمان، وللراجل سهم. حتى يكون موافقاً لحديث أخيه عبيد الله، قال: وليس يشك أحد من أهل العلم في تقديم عبيد الله بن عمر على أخيه عبد الله في الحفظ.
قلت: ونظير هذا ما قاله شيخُ الإِسلام ابن تيمية في حديث أبي هريرة "لا تَزَالُ جَهَنم يُلقى فيهَا، وهي تَقُول: هَل مِن مَزيد؟ حتى يَضَعَ ربُّ العِزَّةِ فيها قدمَه، فَيَرْوِي بَعضُها إلى بَعْض، وتقول: قَط، قَط. وأما الجنةُ: فيُنشىء الله لها خلقاً" فانقلب على بعض الرواة فقال أما النار: فينشىء الله لها خلقاً.
قلت: ونظيرُ هذا حديثُ عائشة "إن بلالاً يؤذِّن بلَيل، فكُلُوا واشرَبُوا حتى يُؤذِّن ابنُ أم مكتوم" وهو في "الصحيحين" فانقلب على بعض الرواة، فقال: ابنُ أم مكتوم يؤذِّن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذِّن بلال.
ونظيره أيضاً عندي حديث أبي هريرة "إذا صَلَى أَحَدُكُم فَلاَ يَبْرُك كمَا يَبْرُكُ البَعيرُ وليضَعْ يَدَه قَبْلَ رُكبَتَيْهِ" وأظنه وَهِمَ - والله أعلم - فيما قاله رسولُه

الصادق المصدوق، "وليضع ركبتيه قبل يديه". كما قال وائل بن حُجر: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إذا سجد، وضع رُكبتيه قبل يديه". وقال الخطابي وغيره: وحديثُ وائل بن حجر، أصح من حديث أبي هريرة. وقد سبقت المسألة مستوفاة في هذا الكتاب والحمد لله.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى الجمعة، دخل إلى منزله، فصلى ركعتين سُنَّتَها، وأمر مَنْ صلاها أن يُصليَ بعدها أربعاً. قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية: إن صلى في المسجد، صلى أربعاً، وإن صلى في بيته، صلى ركعتين. قلتُ: وعلى هذا تدل الأحاديث، وقد ذكر أبو داود عن ابن عمر أنه كان إذا صلَّى في المسجد، صلى أربعاً، وإذا صلى في بيته، صلى ركعتين.
وفي "الصحيحين": عن ابن عمر، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته. وفي "صحيح مسلم"، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الجُمُعَة، فَلْيصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ". والله أعلم.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في العيدين
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي العيدين في المُصَلَّى، وهو المصلَّى الذي على باب المدينة الشرقي، وهو المصلَّى الذي يُوضع فيه مَحْمِلُ الحاج، ولم يُصلِّ العيدَ بمسجده إلا مرةً واحدة أصابهم مطر، فصلَّى بهم العيدَ في المسجد إن ثبت الحديث، وهو في سنن أبي داود وابن ماجة وهديُه كان فِعلهما في المصلَّى دائماً.
وكان يلبَس للخروج إليهما أجملَ ثيابه، فكان له حُلَّة يلبَسُها للعيدين والجمعة، ومرة كان يَلبَس بُردَين أخضرين، ومرة برداً أحمر، وليس هو أحمرَ مُصمَتاً كما يظنه بعضُ الناس، فإنه لو كان كذلك، لم يكن بُرداً، وإنما فيه خطوط حمر كالبرود اليمنية، فسمي أحمر باعتبار ما فيه من ذلك. وقد صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن غير معارضٍ النهيُ عن لُبس المعصفر والأحمر، وأمر عبد الله بن عمرو لما رأى عليه ثوبين أحمرين أن يَحرِقَهما فلم يكن ليكره الأحمر هذه الكراهة الشديدة ثم يلبَسُه، والذي يقُوم عليه الدليل تحريمُ لِباس الأحمر، أو كراهيتُه كراهية شديدة.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكُل قبلَ خروجه في عيد الفطر تمرات، ويأكلهن وتراً، وأما في عيد الأضحى، فكان لا يَطعَمُ حتى يَرجِعَ مِن المصلَّى، فيأكل من أضحيته.
وكان يغتسل للعيدين، صح الحديث فيه، وفيه حديثان ضعيفان:

حديث ابن عباس، من رواية جبارة بن مُغَلِّس، وحديث الفاكِه بن سعد، من رواية يوسف بن خالد السمتي. ولكن ثبت عن ابن عمر مع شِدة اتِّباعه للسُنَّة، أنه كان يغتسل يوم العيد قبل خروجه.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرج ماشياً، والعَنَزَةُ تحمل بين يديه، فإذا وصل إلى المصلَّى، نُصِبت بين يديه ليصليَ إليها، فإن المصلَّى كان إذ ذاك فضاءً لم يكن فيه بناءٌ ولا حائط، وكانت الحربةُ سُترتَه.
وكان يُؤَخِّر صلاة عيد الفطر، ويُعجِّل الأضحى، وكان ابنُ عمر مع شدة اتباعه للسنة، لا يخرُج حتى تطلُع الشمسُ، ويكبِّر مِن بيته إلى المصلى. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا انتهى إلى المصلَّى، أخذ في الصلاة من غير أذان ولا إقامة ولا قول: الصلاة جامعة، والسنة: أنه لا يُفعل شيء من ذلك.

ولم يكن هو ولا أصحابُه يُصلون إذا انتهوا إلى المصلَّى شيئاً قبل الصلاة ولا بعدها.
وكان يبدأ بالصلاة قبلَ الخُطبة، فيُصلِّي ركعتين، يكبِّر في الأولى سبعَ تكبيراتِ مُتوالية بتكبيرة الافتتاح، يسكُت بين كُل تكبيرتين سكتةً يسيرة، ولم يُحفَظ عَنه ذكرٌ معين بين التكبيرات، ولكن ذُكرَ عن ابن مسعود أنه قال: يَحمَدُ اللهَ، ويُثنيَ عليه، ويصلِّي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكرهَ الخلال. وكان ابنُ عمر مع تحريه للاتباع، يرفع يديه مع كُلِّ تكبيرة.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتم التكبير، أخذ في القراءة، فقرأ فاتِحة الكتاب، ثم قرأ بعدها (ق والقرآن المجيد) في إحدى الركعتين، وفي الأخرى، (اقتربَت الساعَةُ وانشقَّ القَمَرُ).
وربما قرأ فيهما (سبحِّ اسمَ ربِّك الأعلى)، و(هل أتاك حديثُ الغَاشية) صح عنه هذا وهذا، ولم يَصِح عنه غيرُ ذلك.
فإذا فرغ من القراءة، كبَّر وركع، ثم إذا أكمل الركعة، وقام من السجود،

كبَّر خمساً متوالية، فإذا أكمل التكبيرَ، أخذ في القراءةِ، فيكون التكبيرُ أَوَّل ما يبدأ به في الركعتين، والقراءة يليها الركوع، وقد رُوي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه والى بين القراءتين، فكبر أولاً، ثم قرأ وركع، فلما قام في الثانية، قرأ وجعل التكبير بعد القراءة، ولكن لم يثبت هذا عنه، فإنه من رواية محمد بن معاوية النيسابوري. قال البيهقي: رماه غيرُ واحد بالكذب.
وقد روى الترمذي من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.كبَّر في العيدين في الأولى سبعاً قَبل القِرَاءَة، وفي الآخِرَة خمساً قَبلَ القراءة. قال الترمذي: سألت محمداً يعني البخاريَّ عن هذا الحديث، قال: ليس في الباب شيء أصحَّ مِن هذا، وبه أقول، وقال: وحديث عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده في هذا الباب، هو صحيح أيضاً.
قلت: يُريد حديثه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كبَّر في عيد ثِنتي عشرة تكبيرة، سبعاً في الأُولى، وخمساً في الآخرة، ولم يُصل قبلها ولا بعدها. قال أحمد: وأنا أذهب إلى هذا. قلت: وكثير بن عبد الله بن عمرو هذا ضرب أحمد على حديثه في "المسند" وقال: لا يُساوي حديثُه شيئاً، والترمذي تارة يُصحح

حديثه، وتارة يُحسنه، وقد صرح البخاريُّ بأنه أصح شيء في الباب، مع حكمه بصحة حديث عمرو بن شعيب، وأخبر أنه يذهب إليه. والله أعلم.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أكمل الصلاةَ، انصرف، فقام مُقابِل الناس، والناسُ جلوس على صفوفهم، فيعِظهم ويُوصيهم، ويأمرهم وينهاهم، وإن كان يُريد أن يقطع بعثاً قطعه، أو يأمر بشيء أمر به. ولم يكن هُنالك مِنبر يرقى عليه، ولم يكن يخْرِجُ منبر المدينة، وإنما كان يخطبهم قائماً على الأرض، قال جابر: شهِدتُ مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة يومَ العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال، فامر بتقوى الله، وحثَّ على طاعته، ووعظ الناَّس، وذكَّرهم، ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكَّرهُن، متفق عليه. وقال أبو سعيد الخُدري: كانَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرُج يوم الفِطر والأضحى إلى المُصلَّى، فأول ما يَبدأ به الصَّلاةُ، ثم ينصرِفُ، فيقُوم مقابِلَ الناس، والناسُ جلوس على صفوفهم... الحديث. رواه مسلم.
وذكر أبو سعيد الخُدري: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كان يخرج يوم العيد، فيُصلي بالناس ركعتين، ثم يُسَلِّم، فيقِف على راحلته مستقبِلَ الناس وهم صفوف جلوسٌ، فيقول: "تَصَدَّقوا" ، فأكثرُ من يتصدق النساء، بالقُرط والخاتم والشيء. فإن كانت له حاجة يُريد أن يبعث بعثاً يذكره لهم، وإلا انصرف.
وقد كان يقع لي أن هذا وهم، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما كان يخرج إلى

العيد ماشياً، والعنزة بين يديه، وإنما خطب على راحلته يومَ النحر بمِنى، إلى أن رأيتُ بَقِي بنَ مَخْلَد الحافظ قد ذكر هذا الحديث في "مسنده" عن أبي بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا عبد الله بن نُمير، حدَّثنا داود بن قيس، حدَّثنا عِياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخُدري، قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرُج يَوْمَ العِيد مِن يَومِ الفِطر، فيُصلي بالناس تَيْنِكَ الركعتين، ثم يُسلم، فيستقبل الناس، فيقول: "تَصَدَّقُوا". وكان أكثرُ من يتصدق النساء وذكر الحديث.
ثم قال: حدَّثنا أبو بكر بن خلاَّد، حدَّثنا أبو عامر، حدَّثنا داود، عن عِياض، عن أبي سعيد: كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرُج في يوم الفطر، فيُصلي بالناس، فيبدأ بالركعتين، ثم يستقبِلُهم وهم جلوس، فيقول: "تَصدَّقُوا" فذكر مثله وهذا إسنادُ أبن ماجه إلا أنه رواه عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن داود. ولعله: ثم يقوم على رجليه، كما قال جابر: قام متوكئاً على بلال، فتصحَّف على الكاتب: براحلته. والله أعلم.
فإن قيل: فقد أخرجا في "الصحيحين" عن ابن عباس، قال شهِدتُ صلاةَ الفِطر مع نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبي بكر، وعمر، وعثمانَ رضي الله عنهم، فكلُّهم يُصَلِّيها قبل الخطبة، ثم يخطُب، قال: فنزل نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كأني أنظر إليه حين يُجَلِّسُ الرِّجالَ بيده، ثم أقبل يشقُّهم حتى جاء إلى النساء ومعه بلال، فقال: {يَأَيُّها النَّبيُّ إذا جَاءكَ المُؤمِناتُ يُبايِعْنَكَ على أَنْ لا

يُشْرِكْنَ بِالله شَيْئاً} [الممتحنة: 12] فتلا الآية حتى فرغ منها، الحديثَ.
وفي "الصحيحين" أيضاً، عن جابر، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام، فبدأ بالصلاة، ثم خطب النَّاسَ بَعْدُ، فلما فرغ نبيُّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل فأتى النساء فذكَّرهن، الحديث. وهو يدل على أنه كان يخطب على منبر، أو على، راحلته، ولعله كان قد بُني له منبر من لَبِنٍ أو طين أو نحوه؟
قيل: لا ريب في صحة هذين الحديثين، ولا ريب أن المِنبر لم يكن يُخرَج من المسجد، وأول من أخرجه مروانُ بن الحكم، فأُنكِرَ عليه، وأما منبر اللَّبن والطين، فأول من بناه كثير بن الصلت في إمارة مروان على المدينة، كما هو في "الصحيحين" فلعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يقوم في المصلَى على مكان مرتفع، أو دُكان وهي التي تسمى مِصطَبة، ثم ينحدر منه إلى النساء، فيقِف عليهن، فيخطبهُن، فيعِظهن، ويذكِّرُهن. والله أعلم.
وكان يفتتح خُطَبه كلَّها بالحمد الله، ولم يُحفظ عنه في حديث واحد، أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير، وإنما روى ابن ماجه في "سننه"

عن سعد القرظ مؤذِّن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه كان يُكثر التكبير بَيْنَ أضعافِ الخطبة، ويكثر التكبير في خطبتي العيدين. وهذا لايدل على أنه كان يفتتحها به. وقد اختلف الناسُ في افتتاح خُطبة العيدين والاستسقاء، فقيل: يُفتتحان بالتكبير، وقيل تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار، وقيل: يُفتتحان بالحمد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو الصواب، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال "كلُّ أَمْرٍ ذي بالٍ لاَ يُبْدَأ فيهِ بِحَمْدِ الله، فَهُوَ أَجْذَمُ".
وكان يفتتح خطبَه كلَّها بالحمد لله.
ورخص صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن شهد العيد: أن يجلس للخطبة، وأن يذهب، ورخَّص لهم إذا وقع العيدُ يومَ الجمعة أن يجتزئوا بصلاة العيد عن حضور الجمعة وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخالف الطريقَ يوم العيد، فيذهب في طريق، ويرجعُ

في آخر فقيل: ليسلِّمَ على أهل الطريقين، وقيل: لينال بركتَه الفريقان، وقيل: ليقضيَ حاجة من له حاجة منهما، وقيل: ليظهر شعائِرَ الإِسلام في سائر الفِجاج والطرق، وقيل: ليغيظ المنافقين برؤيتهم عِزَّة الإسلام وأهله، وقيام شعائره، وقيل: لتكثر شهادةُ البِقاع، فإن الذاهب إلىَ المسجد والمصلَّى إحدى خطوتيه ترفعُ درجة، والأخرى تحطُّ خطيئة حتى يرجع إلى منزله، وقيل وهو الأصح: إنه لذلك كُلِّه، ولغيره من الحِكَم التي لا يخلو فعلُه عنها.
وروي عنه، أنه كان يُكبِّر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكبَر، وَللَّهِ الحَمْدُ.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الكسوف
لما كَسَفَتِ الشَّمسُ، خرجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المسجد مُسرِعاً فزِعاً يجُرُّ رداءه، وكان كسُوفُها في أوَّل النهار على مقدار رُمحين أو ثلاثة مِن طلوعها، فتقدَم، فصلى ركعتين، قرأ في الأولى بفاتحة الكتاب، وسورة طويلة، جهر بالقراءة، ثم ركع، فأطال الركوع، ثم رفع رأسه من الركوع، فأطال القيام وهو دون القيام الأول، وقال لما رفع رأسه: "سَمعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الحَمْد" ، ثم أخذ في القراءة، ثم ركع، فأطال الركوع وهو دون الركوع الأولِ، ثم رفع رأسه من الركوع، ثم سجد سجدة طويلة فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الأخرى مِثلَ ما فعل في الأولى، فكان في كُلِّ ركعة رُكوعان وسجودان، فاستكمل في الركعتين أربعَ ركعات وأربعَ سجدات، ورأى في صلاته تلك الجنة والنار، وهمَّ أن يأخذ عُنقوداً من الجنة، فيُريَهم إياه، ورأى أهل العذاب في النار، فرأى امرأة تخدِشُها هِرَّةٌ ربطتها حتى ماتت جُوعاً وعطشاً، ورأى عمرو بن مالك يجر أمعاءَه في النار، وكان أولَ من غيَّر دين إبراهيم، ورأى فيها سارِقَ الحاج يُعذَب، ثم انصرف، فخطب بهم خطبة بليغة، حُفِظَ منها قوله: "إنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَر آَيَتَانِ مِن آياتِ الله لا يَخْسِفَانِ بمَوْتِ أَحَدٍ، وَلا لِحَياتِهِ، فإذا رَأيْتُم ذَلِكَ، فادعوا الله وكَبروا، وصَلُوا، وتَصدَقوا يا أُمَّةَ مُحَمَّد، والله مَا أَحَدٌ أَغيَرَ مِنَ الله أَنْ يزنيَ عَبدُهُ، أَوْ تَزْنيَ أَمَته، يا أمَّة محَمَّد، والله لَو تَعلَمون ما أَعلَم لَضحِكتم قَليلاً، وَلَبَكَيْتمْ كَثِيراً ".
وقال: " لَقَدْ رَأيتُ في مَقَامِي هذا كُلَّ شَيءٍ وُعِدتُم به، حَتَّى لَقَدْ رأيتُني أريد أن آخذَ قِطفاً مِن الجنة حِينَ رأيتُمُوني أَتَقدَمُ، وَلَقَد رأيتُ جَهَنَّم يَحطِم بَعْضُها بَعْضَاً حِينَ رأيْتمُوني تَأَخَّرتُ".
وفي لفظ: وَرَأيت الناَّرَ فلم أرَ كاليوم مَنْظراَ قَطّ أَفْظَعَ منها، ورَأيْت

أكثَر أهلِ ألنار النِّسَاءَ. قالُوا: وَبِمَ يا رسول الله؟ قال: بِكُفرِهنَّ. قيل: أيكفُرنَ بالله؟ قال: يَكْفرنَ العَشيرَ، وَيَكفرنَ الإِحسَان، لو أَحسَنتَ إلى إحْداهنَّ الدَّهْرَ كُلَّه، ثُمَّ رأت مِنكَ شَيئاً، قالت: مَا رَأيْتُ مِنكَ خَيراً قطُّ.
ومنها: "ولَقَدْ أُوحِي إليَّ أنَكُم تُفتَنون في القُبورِ مِثلَ، أو قَريباً مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَال، يُؤْتى أَحَدُكُم فَيُقال له: ما عِلْمُك بِهَذا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا المُؤمِن أو قال: المُوقِن، فيقول: مُحَمَّد رَسُول الله، جاءنَا بالبيِّنَاتِ وَالهُدَى، فَأَجَبنا، وآمنَاَّ، واتَّبَعنَا، فيُقال لَهُ: نم صَالِحاً فَقَدْ عَلِمنَا إن كنتَ لمؤمنا، وأمَّا المُنافِق أَوْ قَالَ: المُرْتابُ، فيَقُول: لا أدْرِي، سمِعْت النَّاسَ يَقولُون شَيئاً، فقلتُه".
وفي طريق أخرى لأحمد بن حنبل رحمه الله، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سَلَّمَ، حَمِدَ الله وأثنى عليه، وشَهد أن لا إلَه إلاَّ الله، وأنَّه عبدُه ورسولُه، ثم قال: "أَيُّهَا الناَّسُ، أُنُشِدُكُم باللهِ هَلْ تَعْلَمونَ أنِّي قَصرْتُ في شيء مِنْ تَبْلِيغ رِسَالاتِ ربِّي لمَا أخْبَرتُموني بِذَلِك؟ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: نَشْهَدُ أَّنكَ قَدْ بَلَّغْتَ رِسَالاَتِ رَبِّكَ، وَنَصَحْتَ لأُمَّتِكَ، وقَضيْتَ الَّذي عَلَيْكَ". ثُمَّ قَال: "أمَّا بَعدُ فإنَّ رِجَالاً يَزعَمُونَ أَنَّ كُسُوفَ هذِهِ الشَّمْس، وكُسُوفَ هَذا القَمَر، وَزَوَالَ هذه

النُّجُومِ عَن مَطالِعها لِموتِ رِجَالٍ عُظَمَاءَ مِنْ أَهْل الأرْضِ، وإنَّهُم قَدْ كَذَبُوا، وَلَكِنَّهَا آيات مِن آياتِ الله تَبارَكَ وَتَعَالى يَعْتَبِرُ بِهَا عِبادُهُ، فَيَنظُرُ منْ يُحْدِثُ مِنهُم تَوْبَةً، وايْمُ اللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ منُذ قُمْتُ أُصَلِّي ما أَنْتُم لاقُوه مِنْ أمْرِ دُنيَاكُمْ وآخِرَتِكُم، وإنَّهُ - واللهُ أَعْلَمُ - لا تَقوم السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلاثَون كَذَّاباً آخرُهُم الأعْوَرُ الدَّجَّالُ، مَمْسُوح العَيْنِ اليسْرى، كَأَنَّها عَيْنُ أَبي تحيى لِشيْخٍ حِينَئذٍ مَن الأَنْصَارِ، بَينَه وبَيْنَ حُجرَة عائشة، وإنَّه مَتَى يَخْرُجْ، فسَوْفَ يَزْعُمُ أنَّه اللهُ، فَمَن آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ واتّبَعَه، لَم يَنفَعْه صَالح مِن عَمَلِه سَلَفَ، وَمن كَفَر به وكَذَّبه، لَم يُعاقَب بشيءٍ مِنْ عَمَلِهِ سَلَفاً، وإنَّه سَيَظهَرُ عَلَى الأَرْضِ كُلِّهَا إلاَّ الحَرَمَ وَبَيْتَ المَقدِس، وإنه يَحْصُر المُؤمنين في بَيْت المَقْدِس، فَيُزَلْزَلونَ زِلزَالاً شَدِيدَاً، ثُمَّ يُهلِكُه الله عزَّ وجَلَّ وَجنودَه، حتى إنَّ جِذْمَ الحَائِطِ أَوْ قَال: أَصْلَ الحَائِطِ، وأصْلَ الشَّجَرَةِ ليُنَادي: يا مُسْلمُ، يا مُؤْمِن، هذَا يَهُودِيٌ، أَوْ قَالَ: هَذَا كَافِرٌ، فَتَعَالَ فاقْتُلْهُ قَالَ: وَلَنْ يَكُونَ ذلِكَ حَتَى تَرَوْا أُمُوراً يَتَفَاقَمُ بَيْنكم شَأْنُهَا في أَنْفُسِكم، وتساءلونَ بَيْنكم: هَلْ كَانَ نَبيّكُمْ ذَكَر لَكُمْ مِنْهَا ذِكْراَ: وحتَّى تَزُولَ جِبَالٌ عَنْ مَراتِبها، ثمَّ على أثَر ذَلِكَ القَبْضُ".
فهذا الذي صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صفة صلاة الكسوف وخطبتها. وقد رُوي عنه أنه صلاَّها على صفات أخر.
منها: كُلّ ركعة بثلاث ركوعات.

ومنها: كل ركعة بأربع ركوعات.
ومنها: إنها كإحدى صلاة صُلِّيت كل ركعة بركوع واحد، ولكن كِبار الأئمة، لا يُصححون ذلك، كالإِمام أحمد، والبخاري، والشافعي، ويرونه غلطاً. قال الشافعي وقد سأله سائل، فقال: روى بعضُهم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بثَلاث ركعاتٍ في كل ركعة، قال الشافعي: فقلتُ له: أتقول به أنت؟ قال: لا، ولكن لِم لم تقل به أنت وهو زيادةٌ على حديثكم؟ يعني حديثَ الركوعين في الركعة، فقلتُ: هو من وجه منقطع، ونحن لا نثبت المنقطع على الانفراد، ووجهٍ نراه -والله أعلم - غلطاً، قال البيهقي: أراد بالمنقطع قولَ عبيد بن عمير: حدثني من أصدِّق، قال عطاء: حسبته يُريد عائشة الحديث، وفيه: فركع في كلِّ ركعة ثلاثَ رُكوعات وأربعَ سجدات. وقال قتادة: عن عطاء، عن عُبيد بن عمير، عنها: ست ركعات في أربع سجدات فعطاء، إنما أسنده عن عائشة بالظن والحسبان، لا باليقين، وكيف يكون ذلك محفوظاً عن عائشة، وقد ثبت عن عُروة، وعَمرة، عن عائشة خلافه وعروة وعمرة أخصُّ بعائشة وألزمُ لها من عُبيد بن عمير وهما اثنان، فروايتُهما أولى أن تكون هي المحفوظة. قال: وأما الذي يراه الشافعي غلطاً، فأحسبه حديثَ عطاء عن جابر: "انكسفتِ الشمسُ في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ ماتَ إبراهيمُ بن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.، فقال الناسُ إنما انكسفت الشَّمسُ لموت إبراهيم، فقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلّى بالنَّاس ستِ

ركعات في أربع سجدات" الحديث.
قال البيهقي: من نظر في قصة هذا الحديث، وقصة حديث أبي الزبير، علم أنهما قصة واحدة، وأن الصلاة التي أخبر عنها إنما فعلها مرة واحدة، وذلك في يوم توفي ابنه إبراهيم عليه السلام.
قال: ثم وقع الخلافُ بين عبد الملك يعني ابن أبي سُليمان، عن عطاء، عن جابر، وبين هشام الدستوائي، عن أبي الزُّبير، عن جابر في عدد الركوع في كل ركعة، فوجدنا رواية هشام أولى، يعني أن في كل ركعة ركوعين فقط، لكونه مع أبي الزبير أحفظ من عبد الملك، ولموافقة روايته في عدد الركوع رواية عَمرة وعروة عن عائشة، ورواية كثير بن عباس، وعطاء بن يسار، عن ابن عباس، ورواية أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو، ثم رواية يحيى بن سليم وغيره، وقد خولف عبدُ الملك في روايته عن عطاء، فرواه ابن جريج وقتادة، عن عطاء، عن عُبيد بن عمير: ست ركعات في أربع سجدات، فرواية هشام عن أبي الزبير عن جابر التي لم يقع فيها الخلافُ ويُوافقها عدد كثيرٌ أولى من روايتي عطاء اللتين إنما إسناد أحدِهما بالتوهم، والأخرى يتفرد بها عنه عبد الملك بن أبي سليمان، الذي قد أُخذَ عليه الغلطُ في غير حديث.
قال: وأما حديثُ حبيب بن أبي ثابت، عن طاووس، عن ابن عباس، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه صلى في كسوف، فقرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم سجد قال والأخرى مثلها، فرواه مسلم في "صحيحه" وهو مما تفرد به حبيب بن أبي ثابت، وحبيب وإن كان ثقة، فكان يُدلس، ولم يُبين فيه سماعَه مِن طاووس، فيشبه أن يكون حمله

عن غير موثوق به، وقد خالفه في رفعه ومتنه سليمان المكي الأحول، فرواه عن طاووس، عن ابن عباس مِن فعله ثلاثَ ركعات في ركعة. وقد خولف سليمان أيضاً في عدد الركوع، فرواه جماعة عن ابن عباس مِن فعله، كما رواه عطاء بن يسار وغيره عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعني في كل ركعة ركوعان. قال: وقد أعرض محمد بن إسماعيل البخاريَ عن هذه الروايات الثلاث، فلم يخرِّج شيئاً منها في "الصحيح" لمخالفتهن ما هو أصح إسناداً، وأكثر عدداً، وأوثق رجالاً، وقال البخاري في رواية أبي عيسى الترمذي عنه: أصحُّ الروايات عندي في صلاة الكسوف أربعُ ركعات في أربع سجداتٍ قال البيهقي: وروي عن حذيفة مرفوعاً "أربع ركعات في كل ركعة"، وإسناده ضعيف.
ورُوي عن أبيِّ بنِ كعب مرفوعاً "خمس ركوعات في كل ركعة" وصاحبا الصحيح لم يحتجا بمثل إسناد حديثه.
قال: وذهب جماعة من أهل الحديث إلى تصحيح الروايات في عدد الركعات، وحملوها على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلها مراراً، وأن الجميع جائز، فممن ذهب إليه إسحاقُ بن راهويه، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبو بكر بن إسحاق الضبعي، وأبو سليمان الخطابي، واستحسنه ابن المنذر. والذي ذهب إليه البخاري والشافعي من ترجيح الأخبار أولى لما ذكرنا من رجوع الأخبار إلى حكاية صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يومَ توفي ابنه.

قلت: والمنصوصُ عن أحمد أيضاًَ أخذه بحديث عائشة وحده في كل ركعة ركوعان وسجودان. قال في رواية المروزي: وأذهب إلى أن صلاة الكسوف أربعُ ركعات، وأربعُ سجدات، في كل ركعة ركعتان وسجدتان، وأذهب إلى حديث عائشة، أكثرُ الأحاديث على هذا. وهذا اختيارُ أبي بكر وقدماء الأصحاب، وهو اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية.؟كان يضعف كُلَّ ما خالفه من الأحاديث، ويقول: هي غلط، وإنما صلَّى النبي:صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكسوفَ مرة واحدة يومَ مات ابنه ابراهيم. والله أعلم.
وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكسوف بذكرِ الله، والصلاةِ، والدعاء، والاستغفار والصدقة، والعتاقة، والله أعلم.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الاستسقاء
ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه استسقى على وجوه.
أحدها: يومَ الجمعة على المنبر في أثناء خطبته، وقال : "اللهم أَغِثنا، اللهُم أَغِثنَا، اللهُمَّ أَغِثْنَا، اللهم اسقِنا، اللهُم اسقِنَا، اللهُمَّ اسقِنَا".
الوجه الثاني: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعد الناسَ يوماً يخرجُون فيه إلى المصلى، فخرج لما طلعت الشمسُ متواضعاً، متبذِّلاً، متخشِّعاً، مترسِّلاً، متضِّرعاً، فلما

وافى المصلَّى، صَعِدَ المنبر - إن صحِ، وإلا ففي القلب منه شيء - فحمد الله وأثنى عليه وكبَّره، وكان مما حُفِظ من خطبته ودعائه: " الحَمْدُ لِله رَبِّ العالَمين، الرَّحْمن الرَّحيم، مالِكِ يَوْمِ الذَين، لا إله إلا اللهُ، يَفْعَلُ ما يُريد، اللهُم أَنتَ الله لا إله إلا أنت، تَفْعَل ما تُريدُ، اللهُم لا إلا إله إلا أَنْتَ، أَنْتَ الغَنيُ وَنَحْن الفُقَراءُ، أَنْزِل عَلَينَا الغَيْثَ، واجعَل ما أَنْزَلْتَه علينا قُوَّةً لَنَا، وَبلاغَاً إلى حين" ث م رفع يديه، وأخذ في التضرُّع، والابتهال، والدعاء، وبالغ في الرفع حتى بدا بياضُ إبطيه، ثم حوَّل إلى الناس ظهَره، واستقبل القبلة، وحول إذ ذاك رداءَه وهو مستقبل القبلة، فجعل الأيمنَ على الأيسر، والأيسر على الأيمن، وظهرَ الرداء لبطنه، وبطنه لظهره، وكان الرداء خميصةً سوداء، وأخذ في الدعاء مستقبلَ القِبلة، والناسُ كذلك، ثم نزل فصلَّى بهم ركعتين كصلاة العيد من غير أذان ولا إقامة ولا نداءٍ البتة، جهر فيهما بالقراءة، وقرأ في الأولى بعد فاتحة الكتاب:.{سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1]، وفي الثانية: {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية: 1].
الوجه الثالث:أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استسقى على منبر المدينة استسقاء مجرداً في غير يوم جمعة، ولم يُحفظ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الاستسقاء صلاة.
الوجه الرابع: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استسقى وهو جالس في المسجد، فرفعٍ يديه،

ودعا اللهَ عز وجل، فحُفِظَ مِن دعائه حينئذ: "اللهُم اسْقِنا غَيْثاً مُغيثا مَرِيعاً طَبَقاً عَاجِلاً غَيْرَ رائِثٍ، نافِعاً غَيْرَ ضَارٍّ"
الوجه الخامس: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استسقى عند أحجار الزيت قريباَ من الزَّوراء، وهي خارج باب المسجد الذي يُدعى اليوم باب السلام نحو قذفةِ حجر، ينعطفُ عن يمين الخارج من المسجد.
الوجه السادس: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمينَ العطشُ، فشَكَوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال بعضُ المنافقين: لو كان نبياً، لاستسقى لقومه، كما استسقى موسى لقومه، فبلغ ذلك النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: "أَوَقَدْ قَالُوها؟ عَسَىَ رَبّكم أَنْ يَسْقِيَكم، ثُمَ بَسَطَ يَدَيه، ودعا، فما ردَّ يديه من دعائه، حتى أظلَّهُمُ السَّحابُ، وأُمطِروا، فأفعمَ السيلُ الوادي، فشرب الناس، فارتَوَوْا".
وحُفظ من دعائه في الاستسقاء: " اللهُم اسقِ عِبَادَكَ وَبَهَائِمَكَ، وانْشُرِ رَحْمَتَك، وأَحْي بَلَدَكَ المَيِّتَ"، "اللَهُم اسْقِنا غَيثاً مُغِيثاً مَريئاً، مريعاً، نافِعاً غير

ضارٍّ، عاجِلاً غَيْرَ اَجِل ". وأُغيث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل مرة استسقى فيها.
واستسقى مرة، فقام إليه أبو لُبابة فقال: يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن التمر في المَرابد، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم اسقِنَا حَتَّى يَقومَ أبو لُبَابة عُرياناً، فَيَسدَّ ثَعلَبَ مِرْبَدِه بإزاره"، فأمطرت، فاجتمعوا إلى أبي لُبابة، فقالوا: إنها لن تُقلعَ حتى تقوم عُرياناً، فتسُدَّ ثعلبَ مربدك بإزارك كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففعل، فاستهلت السماء.
ولما كثر المطر، سألوه الاستصحاء، فاستصحى لهم وقال: "اللهم حَوَالَيْنَا ولا عَلَينَا، اللهُم على الآكام والجِبال، وَالظِّراب، وبُطونِ الأودية وَمَنَابِت الشَّجَر".
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا رأى مطر قال: "الَّلهم صيِّبَاً نَافِعاً"
وكان يحسر ثوبَه حتى يصيبه من المطر، فسئل عن ذلك،فقال: "لأنه حَديثُ عَهْدٍ بِرَبِّه".
قال الشافعي رحمه الله: أخبرني من لا أتهم عن يزيد بن الهاد،

أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سال السيل قال: "اخرُجُوا بِنَا إلى هَذَا الَذِي جَعَلَهُ الله طَهُوراً، فَنَتَطَهَّرَ منه، ونَحْمَدَ اللهَ عَلَيْهِ".
وأخبرني من لا أتَّهم، عن إسحاق بن عبد الله أن عمر كان إذا سال السيلُ ذهب بأصحابه إليه، وقال: ما كان لِيجيء منْ مجيئه أحدٌ إلا تمسَّحنا به.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رأى الغيمَ والريح، عُرِفَ ذلك في وجهه، فأقبل وأدبر، فإذا أمطرت، سُرِّيَ عنه، وذهب عنه ذلك، وكان يخشى أن يكون فيه العذاب. قال الشافعي: وروي عن سالم بنِ عبد الله عن أبيه مرفوعاً أنه كان إذا استسقى قال: "اللهُم اسقِنَا غيثاً مُغيثاً هَنِيئاً مَرِيئاً غَدَقاً مُجلِّلاً عَامَّاً طَبَقاً سَحَّاً دائماً، اللهُم اسقِنَا الغَيْثَ، ولا تجعلنا من القَانِطين، اللهم إن بِالعبادِ والبِلادِ والبهائِم والخلق مِن اللأواءِ والجهد والضَّنْكِ ما لا نشكوه إلاَّ إليك، اللهم أَنْبِتْ لنا الزَّرَعَ، وأَدِرَّ لنا الضَّرْعَ، واسقِنا مِن بركات السماء، وأنبِتْ لنا مِن بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجَهْدَ والجُوعَ والعُريَ، واكشفْ عنا مِن البلاء ما لا يكشِفُه غيرُك، اللهم إنا نستغفِرك، إنك كنتَ غفَّاراً، فأرسل السماء علينا مِدراراً".
قال الشافعي رحمه الله: وأحبُّ أن يدعوَ الإِمام بهذا، قال: وبلغني أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا دعا في الاستسقاء رفع يديه وبلغنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتمطَّر في أول مطرة حتى يصيبَ جسده. قال: وبلغني أن بعض أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أصبح وقد مُطِرَ الناس، قال: مُطِرنا بنَوءِ الفَتح، ثم يقرأ:

{ما يَفتحَ اللهُ لِلنَّاس من رَحْمَةٍ فلا ممسِكَ لَهَا} [فاطر: 2].
قال: وأخبرني من لا أتهم عن عبد العزيز بن عمر،عن مكحول عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "اطلبُوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش وإقامة الصلاة، ونزول الغيث ".
وقد حَفظْتُ عن غير واحد طلبَ الإِجابة غد: نزول الغيث، وإقامة الصلاة. قال البيهقى: وقد روينا في حديث موصول عن سهل بن سعد، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الدعاء لا يُرَدُّ عنِدَ النداءِ، وَعِنْدَ البَأس، وتَحْتَ المَطَرِ". وروينا عن أبي أمامة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "تُفتَحُ أبوابُ السماء، ويُستجابُ الدعاء في أربعة مواطن: عند التقاء الصُّفوف، وعِندَ نُزُول الغَيْث، وعندَ إقَامَة الصَّلاةِ، وَعِنْدَ رُؤْيَةِ الكَعْبَةِ".

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفره وعبادته فيه
كانت أسفاره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائرةَ بين أربعة أسفار: سفرِه لهجرته، وسفره للجهاد وهو أكثرها، وسفرِه للعمرة، وسفرِه للحج.
وكان إذا أراد سفراً، أقرع بين نسائه، فأيَّتُهُن خرج سهمُها، سافر بها معه، ولما حجّ، سافر بهن جميعاً.
وكان إذا سافر، خرج مِن أول النهار، وكان يستحِبُّ الخروجَ يوم الخميس، ودعا الله تبارك وتعالى أن يُبارك لأُمَّتِهِ في بُكورها.وكان إذا بعث سرية أو جيشاً، بعثهم من أول النهار، وأمرَ المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمِّروا أحدهم. ونهى أن يُسافر الرجل وحدَه، وأخبر أن الراكِبَ شَيْطَانٌ، والرَّاكِبانِ شَيْطَانَانِ، وَالثَّلاثَةُ رَكْب.

وذُكِرَ عنه أنه كان يقول حين ينهض للسفر "اللَهُم إلَيْك تَوَجَهْتُ، وبِكَ اعْتَصَمْت، اللهُم اكْفِني مَا أَهمَّني وَمَا لاَ أَهْتَم بهِ، اللهُمَّ زَوِّدْني التَّقْوَى، وَاغْفِرْ لي ذَنْبِي، وَوَجِّهْنِي لِلخَيْرِ أَيَنَمَا تَوَجَّهْتُ".
وكان إذا قُدِّمتَ إليه دابتُه ليركبها، يقول: "بسم الله حين يضع رجله في الرِّكاب، وإذا استوى على ظهرها، قال: الحمدُ لله الَذي سَخَّرَ لَنَا هَذا وَمَا كُنَّا لَهُ بمقْرِنينَ وَإنَّا إِلَى رَبِّنَا لمنْقَلِبونَ، ثُمَّ يَقُولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ، الحَمد لِلَّهِ، الحَمْدُ لِلَّهِ، ثم يقول:. الله أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكبر، ثم يقولٌ: سُبْحَانَكَ إِنَيّ ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغفِرِ لِي إِنَّه لاَ يَغْفر الذُنُوبَ إِلاَّ أَنتَ " وكان يقول: " اللهم إنَّا نَسْألُكَ في سَفَرِنَا هَذَا البِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ العَمَلِ مَا تَرْضَى، اللهُم هَوِّن عَلَيْنَا سَفَرَنَا هذا، وَاطْوِ عَنَّا بُغدَهُ، اللهم أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، وَالخَلِيفَةُ في الأَهْلِ، اللَهُمَّ إنيِّ أَعُوذُ بِكَ مِن وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ المنقَلَبِ، وَسوءِ المَنْظَرِ في الأَهلِ وَالمَالِ" وإذا رجع، قالهن، وزاد فيهن: "آيبون تَائِبُونَ عَابِدُون لِرَبِّنَا حَامِدُون".
وكان هو وأصحابُه إذا عَلوا الثنايا، كبَّروا، وإذا هبطوا الأودية،سبَحوا.

وكان إذا أشرف على قرية يُريد دخولَها يقولُ "اللهُمًّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وما أظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأَرضين السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وما أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَما ذَرَيْنَ، أَسْأَلُكَ خَيْرَ هذِه القَرْيَةِ وَخَيْرَ أهْلِهَا، وأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا"
وذكر عنه أنه كان يقول: "اللهُمَّ إِنِّي أسأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هذِهِ القَرْيَة وَخَيْرِ مَا جَمَعْتَ فِيهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشرِّ مَا جَمَعْتَ فِيهَا، اللهُمّ ارزُقْنَا جَنَاهَا، وَأَعِذْنَا مِنْ وَبَاهَا، وَحَبِّبْنَا إِلَى أَهْلِهَا، وَحَبِّب صَالِحِي أَهْلِهَا إِلَيْنَا".
وكان يَقصُر الرُّبَاعية، فيصليها ركعتين مِن حين يخرُج مسافراً إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبُت عنه أنه أتمَّ الرُّباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقصُرُ في السفر ويتِمُّ، ويُفْطِرُ ويَصُومُ، فلا يَصحّ. وسمعتُ شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول

الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتهى، وقد روي: كان يقصرُ وتتم، الأول بالياء آخر الحروف، والثاني بالتاء المثناة من فوق، وكذلك يُفطر ويَصوم، أي: تأخذ هى بالعزيمة في. الموضعين، قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لِتُخالف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجميعَ أصحابه، فتصليَ خلاف صلاتهم، كيف والصحيح عنها أنها قالت: إن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، زِيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر فكيف يُظن بها مع ذلك أن تُصليَ بخلاف صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين معه.
قلت: وقد أتمَّت عائشةُ بعد موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال ابن عباس وغيره: إنها تأوَّلت كما تأوَّل عثمان وإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقصر دائماً، فركب

بعضُ الرواة من الحديثين حديثاً، وقال: فكان رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقصر وتُتم هي، فغلط بعضُ الرواة، فقال: كان يقصُرُ ويُتِمُّ، أي: هو.
والتأويل الذي تأولته قد اختُلِف فيه، فقيل: ظنت أن القصر مشروط بالخوف في السفر، فإذا زال الخوف، زال سكبُ القصر، وهذا التأويل غيرُ صحيح، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سافر آمِناً وكان يقصرُ الصلاة، والآية قد أشكلت على عُمر وعلى غيره، فسأل عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأجابه بالشِّفاء وأن هذا صَدَقَة مِنَ اللهِ وشرع شرعه للأمة، وكان هذا بيانَ أن حكم المفهوم غيرُ مراد، وأن الجناح مرتفعٌ في قصر الصلاة عن الآمِن والخائف، وغايتُه أنه نوع تخصيص للمفهوم، أو رفع له، وقد يقال: إن الآية اقتضت قصراً يتناول قصرَ الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنُقصان ركعتين، وقُيِّدَ ذلك بأمرين: الضرب في الأرض، والخوفِ، فإذا وُجدَ الأمرانِ، أبيحَ القصران، فيُصلُون صلاةَ الخوف مقصورة عددُها وأركانُها، وإن انتفى الأمرانِ، فكانوا آمنين مقيمين، انتفى القصران، فتصلُّون صلاة تامة كاملة، وإن وُجِدَ أحدُ السببين، ترتب عليه قصرُه وحدَه، فإذا وُجِدَ الخوف والإِقامة، قُصرت الأركان، واستوفي العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، فإن وجد السفرُ والأمن، قُصِرَ العدد واستوفي الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قَصْرٍ، وليس بالقصر المطلق، وقد تُسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تُسمى تامة باعتبار إتمام أركانها، وأنها لم تدخل في

قصر الآية، والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني يدل عليه كلام الصحابة، كعائشة وابن عباس وغيرهما، قالت عائشة: فُرِضَتِ الصلاةُ ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، زيد في صلاة الحضر، وأُقِرَّتْ صلاة السفر. فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غيرُ مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك، وأن فرض المسافر ركعتان. وقال ابن عباس: فرضَ اللهُ الصَّلاَة على لِسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة متفق على حديث عائشة، وانفرد مسلم بحديث ابن عباس وقال عمر رضى الله عنه: صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان،والعيد ركعتان، تمامٌ غيرُ قصرٍ على لسان محمد، وقد خاب من افترى. وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه، وهو الذي سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما بالُنا نقصُر وقد أمِنَّا؟ فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صدَقَةٌ تَصَدَّقَ بهَا اللهُ عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلوا صَدَقَتَهُ".
ولا تناقضَ بين حديثيه، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أجابه بأن هذه صدقةُ الله عليكم، ودِينُه اليسر السمح، علم عمرُ أنه ليس المرادُ من الآية قصرَ العدد كما فهمه كثير من الناس، فقال: صلاة السفر ركعتان، تمامٌ غير قصر. وعلى هذا، فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي، فعله، وإن شاء أتم.

وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين، ولم يُربِّع قطُّ إلا شيئاً فعله في بعض صلاة الخوف، كما سنذكره هناك، ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى.
وقال أنس: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة إلى مكة، فكان يُصلي ركعتين ركعتين حتى رجَعْنَا إلى المدينة. متفق عليه.
ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمانَ بن عفان صلَّى بمِنى أربعَ ركعات قال: إنَّا لله وإنَّا إليه راجِعون، صليتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمِنى ركعتين وصليتُ مع أبي بكر بمِنى ركعتين، وصليتُ مع عمر بن الخطاب بِمنى ركعتين، فليت حظي مِن أربع رَكعاتٍ ركْعَتَانِ متقبَّلتَانِ. متفق عليه. ولم يكن ابنُ مسعود لِيسترجع مِن فعل عثمان أحد الجائزين المخيَّرِ بينهما، بل الأولى على قول، وإنما استرجع لما شاهده مِن مداومة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخُلفائه على صلاة ركعتين في السفر.
وفي "صحيح البخاري" عن ابن عمر رضي الله عنه قال: صحبتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان في السفر لا يَزيد على ركعتين، وأبا بكر وعُمَر وعُثمان يعني في صدر خلافة عثمان، وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته، وكان

ذلك أحدَ الأسباب التي أُنكِرت عليه. وقد خرج لفعله تأويلات:
أحدها: أن الأعراب كانوا قد حجُوا تلك السنة، فأراد أن يُعلِّمَهم أن فرضَ الصلاة أربع، لئلا يتوهَّموا أنها ركعتان في الحضر والسفر، ورُدَّ هذا التأويلُ بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانوا حديثي عهد بالإِسلام، والعهدُ بالصلاة قريبٌ، ومع هذا، فلم يُربِّعْ بهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
التأويل الثاني : أنه كان إماماً للناس، والإِمام حيث نزل، فهو عمله ومحل ولايته، فكأنه وطنه، ورُدَّ هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإِطلاق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان هو أولى بذلك، وكان هو الإِمامَ المطلق، ولم يُربِّع.
التأويل الثالث أن مِنى كانت قد بُنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده، ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل كانت فضاءً، ولهذا قيل له: يا رسول الله ألا نبني لك بمِنى بيتاً يُظِلُكَ مِن الحر؟ فقال: "لا منى مُنَاخُ مَنْ سَبَق". فتأوَّل عثمانُ أن القصر إنما يكون في حال السفر. هذا التأويلُ بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقام بمكة عشراً يقصُر الصلاة.
التأويل الرابع : أنه أقام بها ثلاثاً، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُقيمُ المُهَاجر بَعْدَ قَضَاءِ نسُكِهِ ثَلاثاً" فسماه مقيماً، والمقيم غيرُ مسافر، ورُدَّ هذا التأويلُ بأن هذه

إقامة مقيدة في أثناء السفر ليست بالإِقامة التي هي قسيم السفر، وقد أقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة عشراً يقصُر الصلاة، وأقام بمِنى بعد نسُكه أيامَ الجمار الثلاث يقصُرُ الصَّلاة.
التأويل الخامس : أنه كان قد عزم على الإِقامة والاستيطان بمِنى، واتخاذِها دارَ الخلافة، فلهذا أتم، ثم بدا له أن يَرجع إلى المدينة، وهذا التأويل أيضاً مما لا يقوى، فإن عثمانَ رضي الله عنه من المهاجرين الأولين، وقد مَنع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجرين من الإِقامة بمكة بعد نسكهم، ورخَّص لهم فيها ثلاثة أيام فقط، فلم يكن عُثمانُ لِيقيم بها، وقد منع النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك، وإنما رخَص فيها ثلاثاً وذلك لأنهم تركوها للّه، وما تُرِكَ للّه، فإنه لا يُعاد فيه، ولا يُسترجع، ولهذا منع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن شراء المتصدِّق لصدقته، وقال لعمر: "لا تَشتَرِهَا، ولا تَعُدْ في صَدَقَتِكَ". فجعله عائداً في صدقته مع أخذها بالثمن.
التأويل السادس : أنه كان قد تأهَّل بمنى والمسافر إذا أقام في موضع، وتزوج فيه، أو كان له به زوجة، أتم، ويُروى في ذلك حديث مرفوع، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فروى عكرمة بن إبراهيم الأزدي، عن ابن أبي ذُباب، عن أبيه قال: صلى عثمان بأهل مِنى أربعاً وقال: يا أيُّها الناسُ! لما قَدِمتُ تأهَّلت بها، وإني سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إذا تَأهَّل الرَّجُل بِبَلْدَةٍ، فإنَّه يُصَلِّي بها صلاةَ مُقيم ". رواه الإِمام أحمد رحمه الله في "مسنده"

وعبد الله بن الزبير الحُميدي في "مسنده" أيضاً، وقد أعله البيهقي بانقطاعه، وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم. قال أبو البركات ابن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاري ذكره في "تاريخه" ولم يطعن فيه، وعادتُه ذكر الجرح والمجروحين، وقد نص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج، لزمه الإِتمام، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك، وأصحابهما، وهذا أحسن ما اعتُذِر به عن عثمان.
وقد اعتُذِرَ عن عائشة أنها كانت أمَّ المؤمنين، فحيث نزلت كان وطنها، وهو أيضاً اعتذار ضعيف، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو المؤمنين أيضاً، وأمومة أزواجه فرع عن أبوته، ولم يكن يُتم لهذا السبب. وقد روى هشام بن عُروة، عن أبيه، أنها كانت تُصلي في السفر أربعاً، فقلت لها: لو صليتِ ركعتين، فقالت: يا ابن أختي! إنه لا يشق عليَّ.
قال الشافعي رحمه الله: لو كان فرضُ المسافر ركعتين، لما أتمها عثمان، ولا عائشة، ولا ابنُ مسعود، ولم يَجُزْ أن يُتمها مسافر مع مقيم، وقد قالت عائشة: كلُّ ذلك قد فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أتم وقصر، ثم روى عن إبراهيم بن محمد، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة قالت: كُلّ ذلك فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قصر الصلاة في السفر وأتم.
قال البيهقى: وكذلك رواه المغيرة بن زياد، عن عطاء، وأصح إسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحارثي، عن الدارقطني، عن المحاملي، حدثنا سعيد بن محمد بن ثواب، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عمر بن سعيد، عن عطاء،

عن عائشة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يقصرُ في الصلاةِ ويتم، ويُفطر، ويصوم.
قال الدارقطني: وهذا إسناد صحيح ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوري، عن عباس الدوري، أنبأنا أبو نعيم، حدثنا العلاء بن زهير، حدثني عبد الرحمن بن الأسود، عن عائشة، أنها اعتمرت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة إلى مكة، حتى إذا قَدِمت مكة، قالت: يا رسول الله بأبي أنتَ وأمي، قصرتَ وأتممت، وصمتَ وأفطرتُ. قال: "أحسنتِ يا عائشة".
وسمعتُ شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذبٌ على عائشة، ولم تكن عائشة لتُصلي بخلاف صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصُرون، ثم تتم هي وحدها بلا موجب. كيف وهي القائلة: فُرِضتِ الصلاةُ ركعتين ركعتين، فَزِيد في صلاة الحضر، وأُقِرَّت صلاةُ السفر. فكيف يُظن أنها تزيد على ما فرض الله، وتُخالف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.
قال الزهري لعروة لما حدثه عنها بذلك: فما شأنها كانت تُتم الصلاة؟ فقال: تأولت كما أول عثمان فإذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حسَّن فِعلها وأقرَّها عليه، فما للتأويل حينئذ وجه، ولا يصح أن يُضاف إتمامُها إلى التأويل على هذا التقدير، وقد أخبر ابن عمر، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يكن يَزيدُ في السفر على ركعتين، ولا أبو بكر، ولا عمر. أفيُظَنُّ بعائشة

أم المؤمنين مخالفتهم، وهي تراهم يقصُرون؟ وأما بعد موته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنها أتمت كما أتم عثمان، وكلاهما تأول تأويلاً، والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له والله أعلم. وقد قال أميةُ بن خالد لعبد الله بن عمر: إنا نجد صلاة الحضر، وصلاة الخوف في القرآن، ولا نجد صلاة السفر في القرآن؟ فقال له ابنُ عمر: يا أخي إن الله بعث محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نعلم شيئاً، فإنما نفعل كما رأينا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل.وقد قال أنس: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة، فكان يُصلي ركعتينِ ركعتينِ، حتى رجعنا إلى المدينة.وقال ابن عمر: صحبتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، وهذه كلّها أحاديثُ صحيحة.
فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفره الاقتصارُ على الفرض، ولم يُحفظ عنه أنه صلى سُنة الصلاة قبلَها ولا بعدَها، إلا ما كان من الوِتر وسنة الفجر، فإنه لم يكن ليدعهما حَضراً، ولا سفراً. قال ابنُ عمر وقد سئل عن ذلَك: فقال: صحبتُ اَلنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم أره يُسبِّح في السفر، وقال الله

عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، ومراده بالتسبيح: السنة الراتبة، وإلا فقد صحّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يُسبِّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه. وفي "الصحيحين"، عن ابن عمر، قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي في السفر على راحلته حيثُ توجهت، يُومئ إيماءً صلاةَ الليل، إلا الفرائضَ ويُوتر على راحلته.
قال الشافعي رحمه الله: وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يتنفل ليلاً، وهو يقصُر، وفي "الصحيحين": عن عامر بن ربيعة، أنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي السُّبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته فهذا قيام الليل.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله، عن التطوع في السفر؟ فقال: أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأسٌ، ورُوي عن الحسن قال: كان أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسافرون، فيتطوَّعون قبل المكتوبة وبعدها، وروي هذا عن عمر، وعلي، وابنِ مسعود، وجابرٍ، وأنس، وابنِ عباس، وأبي ذر.
وأما ابنُ عمر، فكان لا يتطوَّع قبلَ الفريضة ولا بعدَهَا، إلا مِن جوف الليل مع الوتر، وهذا هو الظاهر من هدي النبي بطلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان لا يُصلي قبل الفريضة المقصورة ولا بعدها شيئاً، ولكن لم يكن يمنعُ من التطوع قبلها ولا بعدها، فهو كالتطوع المطلق، لا أنه سنة راتِبة للصلاة، كسنة صلاة الإِقامة

ويؤيد هذا أن الرباعية قد خُففت إلى ركعتين تخفيفاً على المسافر، فكيف يجعل لها سنة راتبة يُحافظ عليها وقد خفف الفرض إلى ركعتين، فلولا قصد التخفيف على المسافر، وإلا كان الإِتمام أولى به، ولهذا قال عبد الله بن عمر: لو كنت مسبِّحاً، لأتممتُ، وقد ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه صلى يوم الفتح ثمان ركعات ضُحى، وهو إذ ذاك مسافر. وأما ما رواه أبو داود والترمذي في السنن، من حديث الليث، عن صفوان بن سليم، عن أبي بُسرة الغفاري، عن البراء بن عازب، قال: سافرتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمانيةَ عشر سفراً، فلم أره ترك ركعتين غد زَيْغِ الشمس قبل الظهر. قال الترمذي: هذا حديث غريب. قال: وسألت محمداً عنه، فلم يعرفه إلا من حديث الليث بن سعد، ولم يعرف اسم أبي بسرة ورآه حسناً. وبسرة: بالباء الموحدة المضمومة، وسكون السين المهملة.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يدعُ أربعاً قبل الظهر، وركعتينِ بعدها، فرواه البخاري في "صحيحه" ولكنه ليس بصريح في فعله ذلك في السفر، ولعلها أخبرت عن أكثر أحواله وهو الإِقامة، والرجال أعلم بسفره من النساء، وقد أخبر ابن عمر أنه لم يزد على ركعتين، ولم يكن ابن عمر يصلي قبلها ولا بعدها شيئاً. والله أعلم.
فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاةُ التطوع على راحلته حيث توجَّهت به،

وكان يُومئ إيماءً برأسه في ركوعه، وسجوده، وسجودُه أخفضُ مِن ركوعه، وروى أحمد وأبو داود عنه، مِن حديث أنس، أنه كان يستقبِل بناقته القِبلَة عند تكبيرة الافتتاح، ثم تصلي سائرَ الصلاة حيث توجَّهت به. وفي هذا الحديث نظر، وسائر من وصف صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على راحلته، أطلقوا أنه كان يُصلي عليها قِبَلَ أيِّ جهة توجَّهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإِحرام ولا غيرَها، كعامر بن ربيعة، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأحاديثُهم أصحُ مِن حديث أنس هذا، والله أعلم.وصلى على الراحلة، وعلى الحمار إن صح عنه، وقد رواه مسلم في "صحيحه" من حديث ابن عمر.
وصلى الفرضَ بهم على الرواحل لأجل المطر والطين إن صح الخبرُ بذلك، وقد رواه أحمد والترمذي والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام انتهى إلى مضيق هو وأصحابُه وهو على راحلته، والسَّماء مِن فوقهم، والبِلَّةُ من أسفلَ منهم، فحضرتُ الصلاةُ، فأمر المؤذِّن فأذن، وأقام، ثم تقدَم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على راحلته، فصلى بهم يُومى إيماءً، فجعل السجود أخفضَ من الركوع.

قال الترمذي: حديث غريب، تفرد به عمر بن الرماح، وثبت ذلك عن أنس من فعله.
فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه إذا ارتحل قبل أن تَزيغ الشمسُ، أخَّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل، فجمع بينهما، فإن زالت الشمسُ قبل أن يَرتَحِلَ، صلَّى الظهر، ثم ركب. وكان إذا أعجله السيرُ، أخَّر المغربَ حتى يجمع بينها وبين العشاء في وقت العشاء. وقد رُوي عنه في غزوة تبوك، أنه كان إذا زاغت الشمسُ قبل أن يرتحِل، جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخَّر الظهر حتى ينزل للعصر، فيصليهما جميعاً، وكذلك في المغرب والعشاء، لكن اختلف في هذا الحديث، فمن مصحح له، ومن محسن، ومن قادح فيه، وجعله موضوعاً كالحاكم، وإسناده على شرط الصحيح، لكن رُمي بعلّة عجيبة، قال الحاكم: حدثنا أبو بكر بن محمد بن أحمد بن بالويه، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا قُتيبة بن سعيد، حدثنا الليث بنُ سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطُفيل، عن معاذ بن جبل، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزِيغ الشمس، أخَّر الظهر حتى يجمعها إلى العصر، ويُصليَهما جميعاً، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس، صلى الظهر والعصر جميعاً، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب، أخَّر المغرب حتى يُصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب،

عجل العشاء فصلها مع المغرب. قال الحاكم: هذا الحديث رواته أئمة ثقات، وهو شاذ الإِسناد والمتن، ثم لا نعرِف له علة نُعله بها. فلو كان الحديث عن الليث، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، لعللنا به الحديث. ولو كان عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، لعللنا به، فلما لم نجد له العلتين، خرج عن أن يكون معلولاً، ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية، ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عن أحد من أصحاب أبي الطفيل، ولا عن أحد ممن روى عن معاذ بن جبل غير أبي الطفيل، فقلنا: الحديث شاذ. وقد حدثوا عن أبي العباس الثقفي قال: كان قُتيبة بن سعيد يقول لنا: على هذا الحديث علامةُ أحمد بن حنبل، وعليَ بن المديني، ويحيى بن معين، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي خيثمة، حتى عد قتيبة سبعة من أئمة الحديث كتبوا عنه هذا الحديث، وأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجُّباً من إسناده ومتنه، ثم لَمْ يَبلُغْنَا عن أحد منهم أنه ذكر للحديث عِلَّة، ثم قال: فنظرنا فإذا الحديث موضوع، وقتيبة ثقة مأمون، ثم ذكر بإسناده إلى البخاري. قال: قلت لقتيبة بن سعيد: مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل؟ قال: كتبته مع خالد بن القاسم أبي الهيثم المدائني. قال البخاري: وكان خالد المدائني يُدخل الأحاديث على الشيوخ.
قلت: وحكمه بالوضع على هذا الحديث غيرُ مسلَّم، فإن أبا داود رواه عن يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الرملي، حدثنا المفضل بن فضالة،

عن الليث بن سعد، عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ فذكره... فهذا المفضل قد تابع قتيبة، وإن كان قتيبة أجلَّ من المفضل وأحفظ، لكن زال تفرد قتيبة به، ثم إن قُتيبة صرح بالسماع فقال: حدثنا ولم يعنعن، فكيف يُقدح في سماعه، مع أنه بالمكان الذي جعله الله به من الأمانة، والحفظ، والثقة، والعدالة. وقد روى إسحاق بن راهويه: حدثنا شبابة، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كان إذا كان في سفر، فزالت الشمسُ، صلَّى الظهر والعصر، ثم ارتحل". وهذا إسناد كما ترى، وشبابة: هو شبابة بن سوار الثقة المتفق على الاحتجاج بحديثه، وقد روى له مسلم في "صحيحه" عن الليث بن سعد بهذا الإِسناد، على شرط الشيخين، وأقلُّ درجاته أن يكون مقوياً لحديث معاذ، وأصله في "الصحيحين" لكن ليس فيه جمعُ التقديم. ثم قال أبو داود: وروى هشام، عن عروة، عن حسين بن عبد للّه، عن كريب، عن ابن عباس، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نحو حديث المفضل، يعني حديث معاذ في الجمع والتقديم، ولفظه: عن حسين بن عبد الله بن عُبيد الله بن عباس، عن كريب، عن ابن عباس، أنه قال: ألا أخبركم عن صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفر؟ كان إذا زالتِ الشمس وهو في منزله، جمع بين الظهر والعصر

في الزوال، وإذا سافر قبل أن تزول الشمس، أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر، قال: وأحْسِبُه قال في المغرب والعشاء مثل ذلك، ورواه الشافعي من حديث ابن أبي يحيى، عن حسين، ومن حديث ابن عجلان بلاغاً عن حسين.
قال البيهقي: هكذا رواه الأكابر، هشام بن عروة وغيره، عن حسين بن عبد الله. ورواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن حسين، عن عكرمة، وعن كريب كلاهما عن ابن عباس، ورواه أيوب عن أبي قِلابة، عن ابن عباس، قال: ولا أعلمه إلا مرفوعاً.
وقال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا إسماعيل بن أبي إدريس، قال: حدثني أخي، عن سليمان بن مالك، عن هشام بن عروة، عن كريب عن ابن عباس، قال: كان رسولى الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جدَّ به السير، فراح قبل أن تَزيغ الشمسُ، ركِب فسار، ثم نزل، فجمع بين الظهر والعصر، وإذا لم يَرُحْ حتى تزِيغ الشمس، جمع بين الظهر والعصر، ثم ركب، وإذا أراد أن يركب ودخلت صلاةُ المغرب، جمع بين المغرب وبين صلاة العشاء.
قال أبو العباس بن سريج: روى يحيى بن عبد الحميد، عن أبي خالد الأحمر، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخض إذا لم يرتحِلْ حتى تزيغ الشمس، صلَّى الظهر والعصر جميعاً، فإذا لم تَزِغْ، أخَرها حتى يجمع بينهما في وقت العصر.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: ويدل على جمع التقديم جمعه بعرفة بين الظهر والعصر لمصلحة الوقوف، ليتصل وقت الدعاء، ولا يقطعُه بالنزول

لصلاة العصر مع إمكان ذلك بِلا مشقة، فالجمعُ كذلك لأجل المشقة والحاجة أولى.
قال الشافعي: وكان أرفقَ به يوم عرفة تقديمُ العصر لأن يتَّصِلَ له الدعاءُ، فلا يقطعه بصلاة العصر، وأرفق بالمزدلفة أن يتصلَ له المسير، ولا يقطعه بالنزول للمغرب، لما في ذلك من التضييق على الناس. والله أعلم.
فصل
ولم يكن مِن هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجمعُ راكباً في سفره، كما يفعله كثير من الناس، ولا الجمع حال نزوله أيضاً، وإنما كان يجمع إذا جدَّ به السير، وإذا سار عقيبَ الصلاة، كما ذكرنا في قصة تبوك، وأما جمعه وهو نازل غيرُ مسافر، فلم يُنقل ذلك عنه إلا بعرفة لأجل اتصال الوقوف، كما قال الشافعي رحمه الله وشيخنا، ولهذا خصه أبو حنيفة بعرفة، وجعله من تمام النسك، ولا تأثير للسفر عنده فيه. وأحمد، ومالك، والشافعي، جعلوا سببه السفر، ثم اختلفوا، فجعل الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه التأثير للسفر الطويل، ولم يجوزاه لأهل مكة، وجوز مالك وأحمد في الرواية الأخرى عنه لأهل مكة الجمعَ، والقصرَ بعرفة، واختارها شيخُنا وأبو الخطاب في عباداته، ثم طرَّد شيخنا هذا، وجعله أصلاً في جواز القصر والجمع في طويل السفر وقصيره، كما هو مذهبُ كثير من السلف، وجعله مالك وأبو الخطاب مخصوصاً بأهل مكة.
ولم يحدَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مُطلق السفر والضرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمم في كل سفر، وأما ما يُروى عنه من التحديد باليوم، أو اليومين، أو الثلاثة، فلم يصح عنه منها شيء البتة، والله أعلم.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قراءة القرآن، واستماعه، وخشوعه، وبكائه عند قراءته، واستماعه وتحسين صوته به وتوابع ذلك
كان له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِزب يقرؤه، ولا يُخِلُّ به، وكانت قراءتُه ترتيلاً لا هذَّا ولا عجلة، بل قِراءةً مفسَّرة حرفاً حرفاً. وكان يُقَطِّع قراءته آية آية، وكان يمدُّ عند حروف المد، فيمد (الرحمن) ويمد (الرحيم)، وكان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم فى أول قراءته، فيقول: "أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَجِيم"، ورُبَّما كان يقول: "اللهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم من هَمْزِهِ ونَفْخِهِ، ونَفثِهِ ". وكان تعوّذُه قبلَ القراءة.
وكان يُحبُّ أن يسمع القراَنَ مِن غيره، وأمر عبد الله بن مسعود، فقرأ عليه وهو يسمع. وخَشَع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسماع القران مِنه، حتى ذرفت عيناه.وكان يقرأ القراَن قائماً، وقاعداً، ومضطجعاً ومتوضئاً، ومُحْدِثاً،

ولم يكن يمنعه من قِراءته إلا الجنابة.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتغنَّى به، ويُرجِّع صوتَه به أحياناً كما رجَّع يوم الفتح في قراءته {إنَّا فتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً} [الفتح: 1]. وحكى عبد الله بن مغفَّل ترجِيعَه، آ ا آ ثلاث مرات، ذكره البخاري.
وإذا جمعت هذه الأحاديثَ إلى قوله: "زَيِّنُوا القُرآن بأصْواتِكُم". وقوله: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآن ". وقوله: "ما أَذِنَ اللهُ لِشَيء، كأَذَنِهِ لِنَبيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالقُرْان". علمت أن هذا الترجيعَ منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان اختياراً لا اضطراراً لهزِّ الناقة له، فإن هذا لو كان لأجل هزِّ الناقة، لما كان داخلاً تحت الاختيار، فلم يكن عبدُ الله بن مغفَّل يحكيه ويفعلُه اختياراً لِيُؤتسى به، وهو يرى هزَّ الراحلة له حتى ينقطع صوتُه، ثم يقول؟

كان يُرجِّعُ في قراءته، فنسب التَّرجيع إلى فعله. ولو كان مِن هزِّ الراحلة، لم يكن منه فعل يسمى ترجيعاً.
وقد استمع ليلةً لقراءة أبي موسى الأشعري، فلما أخبره بذلك، قال: لوْ كنتُ أعلم أنك تسمعه، لحبَّرْته لَكَ تَحْبِيراً. أي: حسَّنته وزيَّنته بصوتي تزييناً، وروى أبو داود في "سننه" عن عبد الجبار بن الورد، قال. سمعتُ ابنَ أبي مُليكة يقول: قال عبد الله بن أبي يزيد: مر بنا أبو لُبابة، فاتَّبعناه حتى دخل بيته، فإذا رجلٌ رثُّ الهيئة، فسمعتُه يقول: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بالقراَنِ". قال: فقلت لابن أبي مُليكة: يا أبا محمد! أرأيتَ إذا لم يكن حسنَ الصوت؟ قال: يُحسِّنُه ما استطاع.
قلت: لا بد من كشف هذه المسألة، وذكر اختلافِ الناس فيها، واحتجاج كلِّ فريق، وما لهم وعليهم في احتجاجهم، وذكر الصواب في ذلك بحول الله تبارك وتعالى ومعونته، فقالت طائفة: تكره قراءة الألحان، وممن نص على ذلك أحمد ومالكٌ وغيرهما، فقال أحمد في رواية علي

بن سعيد في قراءة الألحان: ما تعجبُني وهو محْدَث. وقال في رواية المروَزي: القراءةُ بالألحان بدعة لا تسمع، وقال في رواية عبد الرحمن المتطبب: قراءةُ الألحان بدعة، وقال في رواية ابنه عبد الله، ويوسف بن موسى، ويعقوب بن بختان، والأثرم، وإبراهيم بن الحارث: القراءةُ بالألحان لا تُعجبني إلا أن يكون ذلك حُزناً، فيقرأ بحزن مثلَ صوت أبي موسى، وقال في رواية صالح: "زَيِّنُوا القُرْاَنَ بِأصْوَاتِكُم "، معناه: أن يُحسِّنه، وقال في رواية المروَزي: "ما أذِن الله لشيء كأذَنِهِ لنبي حسن الصوت أن يتغنَّى بالقرآن" وفي رواية قوله: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ" ، فقال: كان ابنُ عيينة يقول: يستغني به. وقال الشافعي: يرفع صوته، وذكر له حديث معاوية بن قرة في قصة قراءة سورة الفتح والترجيع فيها، فأنكر أبو عبد الله أن يكون على معنى الألحان، وأنكر الأحاديثَ التي يُحتج بها في الرخصة في الألحان.
وروى ابن القاسم، عن مالك، أنه سئل عن الألحان في الصلاة، فقال: لا تُعجبني، وقال: إنما هو غناءٌ يتغنَّون به، ليأخذوا عليه الدراهم، وممن رُويت عنه الكراهةُ، أنس بن مالك، وسعيد بن المسيِّب، وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد، والحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي. وقال عبد الله بن يزيد العكبري: سمعت رجلاً يسأل أحمد، ما تقولُ في القراءة بالألحان؟ فقال ما اسمك؟ قال محمد: قال: أيسرك أن يقال لك: يا موحمد ممدوداً، قال القاضي أبو يعلى: هذه مبالغة في الكراهة. وقال الحسن بنُ عبد العزيز الجَرَوي: أوصى إليَّ رجل بوصية، وكان فيما خلَّف جارية تقرأ بالألحان، وكانت أكثَر تَرِكته أو عامتها، فسألتُ أحمد بن حنبل والحارث بن مسكين، وأبا عُبيد، كيف أبيعُها؟ فقالوا: بعها ساذجةً، فأخبرتُهم بما في بيعها من النقصان، فقالوا: بعها ساذَجة، قال القاضي: وإنما قالوا ذلك، لأن سماع ذلك منها مكروه، فلا يجوز أن يُعاوض عليه كالغناء.

قال ابن بطَّال: وقالت طائفة: التغنِّي بالقران، هو تحسينُ الصوت به، والترجعُ بقراءته، قال: والتغني بما شاء مِن الأصوات واللحون هو قول ابن المبارك، والنضرِ بن شُميل، قال: وممن أجاز الألحان في القرآن: ذكر الطبري، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كان يقول لأبي موسى: ذكِّرنا ربَّنا، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن، وقال: من استطاع أن يتغنى بالقرآن غِناء أبي موسى، فليفعل، وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتاً بالقراَن، فقال له عمر: اعرض عليَّ سورة كذا، فعَرض عليه، فبكى عمر، وقال: ما كنتُ أظن أنها نزلت، قال: وأجازه ابن عباس، وابن مسعود، وروي عن عطاء بن أبي رباح، قال: وكان عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد، يتتبَع الصوتَ الحسن في المساجد في شهر رمضان. وذكر الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه: أنهم كانوا يستمعون القران بالألحان. وقال محمد بن عبد الحكم: رأيت أبي والشافعي ويوسف بن عمر يستمعون القرآن بالألحان، وهذا اختيارُ ابن جرير الطبرى.
قال المجوِّزون - واللفظ لابن جرير-: الدليلُ: على أن معنى الحديث تحسينُ الصوت، والغناء المعقول الذي هو تحزين القارئ سامعَ قراءته، كما أن الغناء بالشعر هو الغناءُ المعقولُ الذي يُطرب سامعه -: ما روى سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "مَا أذنَ اللهُ لشيء مَا أذنَ لنبيٍّ حسن التَّرنُّم بالقُرْآن" ومعقول عند ذوي الحِجا، أنَ الترنُّم لاَ يكًون إلا بالَصوت إذا حسَّنه المترنم وطرَّب به. وروي في هذا الحديث "ما أذِنَ الله لشيء ما أذن لنبي حسنِ الصوت يتغنى بالقراَن يجهرُ به". قال الطبري: وهذا الحديث من أبين البيان أن ذلك كما قلنا، قال: ولو كان كما قال ابنُ عيينة، يعني: يستغني به عن غيره، لم يكن لذكر

حُسن الصوت والجهر به معنى، والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسنُ الصوت بالترجيع، قال الشاعر:
تَغَنَ بِالشِّعْرِ إمَّا كُنْتَ قَائِلَه ... إنَّ الغِنَاءَ لِهَذا الشِّعرِ مِضْمَارُ
قال: وأما ادعاء الزاعم، أن تغنّيتَ بمعنى استغنيت فاشٍ في كلام العرب، فلم نعلم أحداً قال به من أهل العلم بكلام العرب. وأما احتجاجُه لتصحيح قوله بقولِ الأعشى:
وكُنْتُ امْرَءاً زَمَناً بالعِرَاق ... عَفِيفَ المُنَاخِ طويلَ التَّغَنْ
وزعم أنه أراد بقوله: طويل التغني: طويل الاستغناء، فإنه غلط منه، وإنما عنى الأعشى بالتغني في هذا الموضع: الإِقامة من قول العرب: غني فلان بمكان كذا إذا أقام به، ومنه قوله تعالى: {كأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: 92] واستشهاده بقول الآخر:
كِلاَنا غَنِيُّ عَنْ أخِيهِ حَيَاتَهُ ... وَنَحْنُ إذا مِتْنا أَشَدُ تَغَانِيا
فإنه إغفال منه، وذلك لأن التغاني تفاعل من تغنَّى: إذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه، كما يقال: تضارب الرجلان، إذا ضرب كل واحد منهما

صاحبه، وتشاتما، وتقاتلا. ومن قال: هذا في فعل اثنين، لم يجز أن يقول مثله في فعل الواحد، فيقول: تغانى زيد، وتضارب عمرو، وذلك غيرُ جائز أن يقول: تغنى زيد بمعنى استغنى، إلا أن يريد به قائله أنه أظهر الاستغناء، وهو غير مستغن، كما يقال: تجلَّد فلان: إذا أظهر جَلَدا من نفسه، وهو غير جليد، وتشجَّع، وتكرَّم، فإن وجَّه موجِّه التغنِّي بالقرآن إلى هذا المعنى على بُعده من مفهوم كلام العرب، كانت المُصيبة في خطئه في ذلك أعظمَ، لأنه يُوجب على من تأوله أن يكون الله تعالى ذِكرُه لم يأذن لنبيه أن يستغني بالقرآن، وإنما أذِنَ له أن يُظهر من نفسه لنفسه خلافَ ما هو به من الحال، وهذا لا يخفى فسادُه. قال: ومما يُبين فسادَ تأويل ابن عُيينة أيضاً أن الاستغناء عن الناس بالقرآن مِن المحال أن يُوصف أحد به أنه تؤذن له فيه أو لا يؤذن، إلا أن يكون الأذن غد ابن عيينة بمعنى الإِذن الذي هو إطلاق وإباحة، وإن كان كذلك، فهو غلط من وجهين، أحدهما: من اللغة، والثاني: من إحالة المعنى عن وجهه. أما اللغة، فإن الأذن مصدر قوله: أذن فلان لكلام فلان، فهو يأذَن له: إذا استمع له وأنصت، كما قال تعالى: {وأَذِنَت لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق. 2]، بمعنى سمِعت لربها وحُقَّ لها ذلك، كما قال عدى بن زيد:
إنَّ هَمِّي فِي سَمَاعٍ وأذَن
بمعنى، في سماع واستماع. فمعنى قوله: ما أذن الله لشيء، إنما هو: ما استمع الله لشيء من كلام الناس ما استمع لنبي يتغنى بالقرآن. وأما الإِحالة في المعنى، فلأن الاستغناء بالقُرْآن عن الناس غيرُ جائز وصفه بأنه مسموع ومأذون له، انتهى كلام الطبري.

قال أبو الحسن بن بطال: وقد وقع الإِشكال في هذه المسألة أيضاً، بما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثني موسى بن عليّ بن رباح، عن أبيه، عن عُقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَعَلَّموا القُرْآنَ وتَغَنَّوا بِهِ، واكتبوه، فَوالذي نَفسي بِيَدِهِ، لَهوَ أَشَدُّ تَفَصِّياَ مِنَ المَخَاضِ مِنَ العقُلِ". قال: وذكر عمر بن شَبَّة، قال: ذكر لأبي عاصم النبيل تأويلُ ابن عيينة في قوله "يتغنّىَ بالقرآن" يستغني به، فقال: لم يصنع ابن عيينة شيئاً، حدثنا ابنُ جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عُمير، قال: كانت لداود نبيِّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِعزَفَةٌ يتغنَّى عليها يَبكي ويُبكي. وقال ابن عباس: إنه كان يقرأ الزبور بسبعين لحناً، تكون فيهن، ويقرأ قراءة يَطْرَبُ منها الجموعُ. وسئل الشافعي رحمه الله، عن تأويل ابن عيينة فقال: نحن أعلمُ بهذا، لو أراد به الاستغناء، لقال: "من لم يستغن بالقُرآن"، ولكن لما قال: "يتغنَّى بالقرآن"، علمنا أنه أراد به التغنِّي.
قالوا: ولأن تزيينه، وتحسين الصوت به، والتطريب بقراءته أوقعُ في النفوس، وأدعى إلى الاستماع والإِصغاء إليه، ففيه تنفيذ للفظه إلى الأسماع، ومعانيه إلى القلوب، وذلك عونٌ على المقصود، وهو بمنزلة الحلاوة التي تُجعل في الدواء لتنفذه إلى موضع الداء، وبمنزلة الأفاويه والطِّيب الذي يُجعل في الطعام، لتكون الطبيعة أدعى له قبولاً، وبمنزلة الطِّيب والتحكِّي، وتجمُّل المرأة لبعلها، ليكون أدعى إلى مقاصد النكاح. قالوا: ولا بد للنفس من طرب واشتياق إلى الغناء، فعُوِّضت عن طرب الغناء بطرب القرآن، كما عُوِّضت عن كل محرَّم ومكروه بما هو خيرٌ لها منه،

وكما عوِّضت عن الاستقسام بالأزلام بالاستخارة التي هي محضُ التوحيد والتوكل، وعن السِّفاح بالنكاح، وعن القِمار بالمُراهنة بالنِّصال وسباق الخيل، وعن السماع الشيطاني بالسماع الرحماني القرآني، ونظائره كثيرة جداً.
قالوا: والمحرَّم، لا بد أن يشتمِل على مفسدة راجحة، أو خالصة، وقراءة التطريب والألحان لا تتضمن شيئاً مِن ذلك، فإنها لا تُخرِجُ الكلام عن وضعه، ولا تَحولُ بين السامع وبين فهمه، ولو كانت متضمِّنة لزيادة الحروف كما ظن المانع منها، لأخرجت الكلمة عن موضعها، وحالت بين السامع وبين فهمها، ولم يدر ما معناها، والواقعُ بخلاف ذلك.
قالوا: وهذا التطريب والتلحين، أمر راجع إلى كيفية الأداء، وتارة يكون سليقة وطبيعة، وتارة يكون تكلُّفاً وتعقُلاً، وكيفيات الأداء لا تخرِجُ الكلام عن وضع مفرداته، بل هي صِفات لصوت المؤدِّي، جارية مجرى ترقيقه وتفخيمه وإمالته، وجارية مجرى مدود القرَّاء الطويلة والمتوسطة، لكن تلك الكيفيات متعلقة بالحروف، وكيفيات الألحان والتطريب، متعلقة بالأصوات، والآثار في هذه الكيفيات، لا يمكن نقلُها، بخلاف كيفيات أداء الحروف، فلهذا نُقلت تلك بألفاظها، ولم يمكن نقل هذه بألفاظها، بل نقل منها ما أمكن نقله، كترجيع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سورة الفتح بقوله: "آ آ آ". قالوا: والتطريب والتلحين راجع إلى أمرين: مدٍ وترجيع، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يمد صوته بالقراءة يمد "الرحمن" ويمد "الرَّحيم"، وثبت عنه الترجيع كما تقدم.
قال المانعون من ذلك: الحجة لنا من وجوه. أحدها: ما رواه حُذيفة بن اليمان، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إقرؤوا القُرْآن بِلحُونِ العَرَبِ وأصْوَاتِها، وإيَاكُم وَلُحُونَ أَهْلِ الكِتَابِ وَالفِسْق، فإنَّهُ سَيَجيء فى مِنْ بَعْدِي أَقوَامٌ يُرَجِّعُونَ

بِالقُرْآنِ تَرْجِيعَ الغِنَاءِ وَالنَّوْحِ، لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهم، مَفتُونَةً قُلُوبُهُم، وَقُلُوبُ الَذِينَ يُعْجِبُهُم شَأْنُهُم" رواه أبو الحسن رَزِينّ في "تجريد الصحاح" ورواه أبو عبد الله الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول". واحتج به القاضي أبو يعلى في "الجامع"، واحتج معه بحديث آخر، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر شرائطَ الساعة، وذكر أشياء، منها: "أن يُتخذ القرآنُ مَزاميرَ، يُقدِّمونَ أَحَدَهُم لَيْسَ بِأَقْرَئِهِم وَلا أَفْضَلِهِم ما يُقَدِّمُونَهُ إلا لِيُغَنِّيَهُم غِنَاءً".
قالوا: وقد جاء زياد النهدي إلى أنس رضي الله عنه مع القراء، فقيل له: إقرأ، فرفع صوته وطرَّب، وكان رفيعَ الصوت، فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خِرقة سوداء، وقال: يا هذا! ما هكذا كانوا يفعلون، وكان إذا رأى شيئاً يُنكره، رفع الخِرقة عن وجهه. قالوا: وقد منع النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المؤذِّن المُطَرِّبَ في أذانه من التطريب، كما روى ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤذِّن يطرِّب، فقال

النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الأذان سَهْلِّ سمح.، فإن كان أَذَانُكَ سَهْلا سَمْحاً، وإلاَّ فَلا تُؤذِّن" رواه الدارقطني وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث قتادة، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه، قال: كانت قراءةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدَّ، ليس فيها ترجيع. قالوا: والترجيع والتطريب يتضمن همزَ ما ليس بمهموز، ومدَّ ما ليس بممدود، وترجيعَ الألف الواحد ألفات، والواوَ واوات، والياء ياءاتٍ، فيؤدِّي ذلك إلى زيادة في القران، وذلك غير جائز، قالوا: ولا حدَّ لما يجوز من ذلك، وما لا يجوز منه، فإن حُدَّ بحدٍّ معيَّنٍ، كان تحكُّماً في كتاب الله تعالى ودِينه، وإن لم يُحَدَّ بحدٍّ، أفض إلى أن يُطلق لفاعله ترديدُ الأصوات، وكثرةُ الترجيعات، والتنويعُ في أصناف الإِيقاعات والألحان المشبِهة للغناء، كما يفعل أهلُ الغناء بالأبيات، وكما يفعله كثير من القُرَّاء أمام الجنائز، ويفعلُه كثيرٌ مِن قراء الأصوات، مما يتضمن تغييرَ كتاب الله والغِناء به على نحو ألحان الشعر والغناء، ويُوقعون الإِيقاعات عليه مثل الغناء سواء، اجتراءً على الله وكتابه، وتلاعباً بالقرآن، وركوناً إلى تزيين الشيطان، ولا يجيز ذلك أحدٌ من علماء الإِسلام، ومعلوم: أن التطريبَ والتلحين ذريعةٌ مُفضية إلى هذا إفضاءً قريباً، فالمنع منه، كالمنع من الذرائع الموصلة إلى الحرام، فهذا نهايةُ اقدام الفريقين، ومنتهى احتجاج الطائفتين.
وفصل النزاع، أن يقال: التطريب والتغنِّي على وجهين، أحدهما: ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم، بل إذا خُلّي وطبعه، واسترسلت طبيعته، جاءت بذلك التطريب والتلحين، فذلك جائز، وإن أعان طبيعتَه بفضلِ تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى

الأشعري للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَو علمتُ أنّكَ تَسمَع لَحَبَّرْتُه لَكَ تحبِيراً" والحزين ومَن هاجه الطرب، والحبُ والشوق لا يملك من نفسه دفعَ التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوسَ تقبلُه وتستحليه لموافقته الطبع، وعدم التكلف والتصنع فيه، فهو مطبوع لا متطبِّع، وكَلفٌ لا متكلَف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه، وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به التالي والسامعُ، وعلى هذا الوجه تُحمل أدلة أرباب هذا القول كلها.
الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعةً من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصُل إلا بتكلُّف وتصنُّع وتمرُّن، كما يتعلم أصوات الغِناء بأنواع الألحان البسيطة، والمركبة على إيقاعات مخصوصة، وأوزانٍ مخترعة، لا تحصل إلا بالتعلُم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلفُ، وعابوها، وذمّوها، ومنعوا القراءةَ بها، وأنكروا على من قرأ بها، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه، وبهذا التفصيل يزول الاشتباهُ، ويتبين الصوابُ من غيره، وكلُّ من له علم بأحوال السلف، يعلم قطعاً أنهم بُرآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة، التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى للّه من أن يقرؤوا بها، ويُسوّغوها، ويعلم قطعاً أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويحسِّنون أصواتَهم بالقرآن، ويقرؤونه بِشجىً تارة، وبِطَربِ تارة، وبِشوْق تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: "لَيْسَ مِنَّا مَن لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقرآنِ " وفيه وجهان: أحدهما: أنه إخبار بالواقع الذي كلُّنا نفعله، والثاني: أنه نفي لهدي من لم يفعله عن هديه وطريقته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عيادة المرضى
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعودُ مَنْ مَرِضَ من أصحابه، وعاد غلاماً كان يَخدِمه مِن أهل الكتاب، وعاد عمَّه وهو مشرك، وعرض عليهما الإِسلام، فأسلم اليهودي، ولم يسلم عمُّه.
وكان يدنو من المريض، ويجلِسُ عند رأسه، ويسألُه عن حاله، فيقول: كيف تجدُك؟
وذكر أنه كان يسأل المريضَ عما يشتهيه، فيقول: "هَل تَشْتَهِي شَيئاً"؟ فإن اشتهى شيئاً وعلِم أنه لا يضرّه، أمر له به.وكان يمسح بيده اليُمنى على المريض، ويقول: " اللهُمَّ رَبَّ النَّاس، أَذْهِبِ البأْسَ، واشْفِه أَنتَ الشَّافي، لا شِفَاءَ إلا شِفاؤكَ، شِفاءً لا يُغادر

سَقَماً".
وكان يقول: "امسَح البَأسَ رَبَّ النَاس، بيَدكَ الشِّفَاءُ، لا كَاشفَ له إلاَّ أنت".
وكان يدعو للمريض ثلاثاً كما قاله لسعد: "اللهم اشْفِ سَعْداً، اللهُمَّ اشْفِ سَعْداً اللهُمَّ اشْفِ سَعْداً".
وكان إذا دخل على المريض يقول له: " لا بَأسَ طَهُورٌ إنْ شَاءَ الله".
وربما كان يقول: " كَفَّارَةٌ وَطَهورٌ " وكان يَرْقِي مَن به قَرحة، أو جُرح، أو شكوى، فيضِع سبَابته بالأرض، ثم يرفعها ويقول: "بِسْمِ الله، تُرْبَةُ أرْضِنا، بِرِيقَةِ بَعضِنا يُشْفى سَقِيمُنَا، بإذْنِ رَبِّنا" هذا في "الصحيحين"، وهو يبطل اللفظة التي جاءت في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأنهم لا يرْقُونَ ولا يَسْتَرْقُونَ فقوله في الحديث: "لا يرقون" غلط من الراوي، سمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول ذلك. قال: وإنما الحديث "هم الذين لا يَسْتَرْقُونَ". قلت: وذلك لأن هؤلاء دخلوا الجنة

بغير حساب، لكمال توحيدهم، ولهذا نفى عنهم الاسترقاء، وهو سؤالُ الناس أن يرقوهم. ولهذا قال:." وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" ، فلكمال توكُّلهم على ربهم، وسُكونهم إليه، وثقتهم به، ورِضاهم عنه، وإنزال حوائجهم به، لا يسألون الناس شيئاً، لا رُقيةً ولا غيرها، ولا يحصُلُ لهم طِيرَةٌ تصدُّهم عما يقصِدونه، فإن الطِّيَرَةَ تَنْقُصُ التوحيد وتُضْعِفُه. قال: والراقي متصدِّق مُحسن، والمسترقي سائل، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَى، ولم يسترق، وقال : "مَنْ اسْتطاع منكم أَنْ يَنْفَعَ أَخاه فَلْيَنْفَعْه".
فإن قيل: فما تصنعون بالحديث الذي في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان إذا أوى إلى فراشه، جمع كفَّيه ثم نفَث فيهما، فقرأ {قل هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَق} [الفلق: 1]، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} [الناس: 1]، ويمسح بهما ما استطاع مِن جسده، ويبدأ بهما على رأسه ووجهه ماَ أقبل من جسده، يفعلُ ذلك ثلاث مرات قالت عائشة: فلما اشتكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يأمرني أن أفعل ذلك به.
فالجواب : أن هذا الحديث قد روي بثلاثة ألفاظ. أحدها: هذا. والثاني: أنه كان ينفُث على نفسه، والثالث : قالت: كنت أنفُث عليه بهن، وأمسح بيد نفسه لبركتها، وفي لفظ رابع: كان إذا اشتكى، يقرأ على نفسه بالمعوِّذات وينفُث، وهذه الألفاظ يُفسِّر بعضها بعضاً. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينفث على نفسه، وضعفه ووجعُه يمنعه من إمرار يده على جسده كله. فكان يأمر عائشة أن تُمر يده على جسده بعد نفثه هو، وليس ذلك من الاسترقاء في

شيء، وهي لم تقل: كان يأمرني أن أرقيه، وإنما ذكرت المسح بيده بعد النفث على جسده، ثم قالت: كان يأمرني أن أفعل ذلك به، أى: أن أمسح جسده بجده، كما كان هو يفعل.
ولم يكن مِن هديه عليه الصلاة والسلام أن يَخُصَّ يوماً من الأيام بعيادة المريض، ولا وقتاً من الأوقات، بل شرع لأمته عيادة المرضى ليلاً ونهاراً، وفي سائر الأوقات. وفي "المسند" عنه: "إذا عَادَ الرَّجُلُ أَخَاهُ المُسلِمَ مَشَى في خُرفَةِ الجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسَ، فَإِذَا جَلَسَ، غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ، فَإن كَانَ غُدوَةً، صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإن كَانَ مَسَاءً، صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ". وفي لفظ "ما مِنْ مُسْلِم يَعُودُ مُسْلِماً إلا بَعَثَ اللَهُ لَه سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يصَلّونَ عَلَيه أَيَّ ساعةٍ مِنَ النَّهار كانت حتَّى يُمْسِيَ، وأيَّ ساعَةٍ مِن الليلِ كانت حتَّى يُصْبِحَ ".
وكان يعود من الرمد وغيره، وكان أحياناً يضع يده على جبهة المريض، ثم يمسحُ صدره وبطنه ويقول: "اللهُمَّ اشْفِهِ" وكان يمسح وجهه أيضاً.وكان إذا يئس من المريض قال: "إنا للهِ وإنَّا إليه رَاجِعُون".

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنائز والصلاة عليها، واتباعها، ودفنها، وما كان يدعو به للميت في الصلاة الجنازة وبعد الدفن وتوابع ذلك
كان هديُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنائز أكملَ الهدي، مخالفاً لهدي سائر الأمم، مشتمِلاً على الإِحسان إلى الميت ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده، وعلى الإِحسان إلى أهله وأقاربه، وعلى إقامة عبودية الحي لِلَّه وحدَه فيما يُعامل به الميت. وكان مِن هديه في الجنائز إقامةُ العبوديةِ للربِّ تبارك وتعالى على أكمل الأحوال، والإِحسان إلى الميت، وتجهيزه إلى الله على أحسن أحواله وأفضلِها، ووقوفه ووقوف أصحابه صفوفاً يحمَدون الله ويستغفرون له، ويسألون له المغفرةَ والرحمةَ والتجاوزَ عنه، ثم المشي بين يديه إلى أن يُودِعُوهُ حفرته، ثم يقوم هو وأصحابه بين يديه على قبره سائلين له التثبيت أحوجَ ما كان إليه، ثم يتعاهدُه بالزيارة له في قبره، والسلام عليه، والدعاء له كما يتعاهدُالحيُّ صاحِبَه في دار الدنيا.
فأول ذلك: تعاهدُه في مرضه، وتذكيرُه الآخرة، وأمرُه بالوصية، والتوبة، وأمرُ مَنْ حضره بتلقينه شهادة أن لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه، ثم النهى عن عادة الأمم التي لا تؤمِنُ بالبعث والنُّشور، مِن لطم الخدُود، وشقِّ الثياب، وحلقِ الرؤوس، ورفع الصوت بالنَّدب، والنِّياحة وتوابع ذلك.

وسَنَّ الخشوعَ للميت، والبكاءَ الذي لا صوت معه، وحُزْنَ القلب، وكان يفعل ذلك ويقول: "تَدْمَعُ العينُ وَيَحْزَنُ القَلبُ وَلاَ نَقولُ إلا ما يُرضِي الرَّبَّ".
وسَنَّ لأمته الحمد والاسترجاعَ، والرضى عن الله، ولم يكن ذلك منافياً لدمع العين وحُزنِ القلب، ولذلك كان أرضى الخلقِ عن الله في قضائه، وأعظمهم له حَمداً، وبكى مع ذلك يوم موت ابنه إبراهيم رأفة به، ورحمة للولد، ورِقَّة عليه، والقلبُ ممتلئ بالرَضى عن الله عز وجل وشكره، واللسانُ مشتغل بذِكره وحمده.
ولما ضاق هذا المشهدُ والجمُع بين الأمرين على بعض العارفين يوم مات ولده، جعل يضحك، فقيل له: أتضحك في هذه الحالة؟ قال: إنَّ الله تَعالى قَضى بقَضَاءٍ، فأحْبَبتُ أن أرضى بِقَضَائِهِ، فأشكل هذا على جماعة من أهل العلم، فقالوا: كيف يبكي رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ مات ابنُه إبراهيم وهو أرضى الخلقِ عن الله، ويبلغ الرضى بهذا العارف إلى أن يضحك، فسمعتُ شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: هَدْيُ نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أكمَلَ من هدي هذا العارف، فإنه أعطى العبودية حقها فاتسع قلبه للرضى عن الله، ولرحمة الولد، والرقَّةِ عليه، فحمِد الله، ورَضيَ عنه في قضائه، وبكى رحمةَ ورأفة، فحملته الرأفة على البكاء، وعبوديتُه للّه، ومحبته له على الرضى والحمد، وهذا العارفُ ضاق قلبُه عن اجتماع الأمرين، ولم يتسع باطنُه لشهودهما والقيامِ بهما، فَشَغَلَتْهُ عبودية الرضى عن عبودية الرحمة والرأفة.

فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِسراعُ بتجهيز الميت إلى الله، وتطهيره، وتنظيفِه، وتطييبه، وتكفيِنه في الثياب البيض، ثم يؤتى به إليه، فيُصلِّي عليه بعد أن كان يُدعى إلى الميت عند احتضاره، فيُقيم عنده حتى يقضي، ثم يحضر تجهيزه، ثم يُصلِّي عليه، ويشيِّعه إلى قبره، ثم رأى الصحابةُ أن ذلك يشقُ عليه، فكانوا إذا قض الميتُ، دعوه، فحضر تجهيزه، وغسله، وتكفينَه. ثم رأوا أن ذلك يشقُّ عليه، فكانوا هم يُجهِّزون ميتهم، ويحملونه إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سريره، فيُصلي عليه خارِج المسجد.
ولم يكن من هديه الراتب الصلاةُ عليه في المسجد، وإنما كان يُصلي على الجنازة خارج المسجد، ورُبما كان يصلي أحياناً على الميت في المسجد، كما صلى على سهيل بن بيضاء وأخيه في المسجد ولكن لم يكن ذلك سنتَه وعادتَه،،، فقد روى أبو داود في "سننه" من حديث صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى على جَنَازَة في المَسْجِد فَلاَ شَيء له ". وقد اختلف في لفظ الحديث، فقال الخطيب في روايته لكتاب السنن: في الأصل "فلا شَيءَ عَلَيْهِ" وغيرُه يرويه "فَلاَ شَيءَ لَهُ" وقد رواه ابن ماجه في "سننه" ولفظه: "فَلَيْسَ لَهُ شَيء". ولكن قد ضعف الإِمام أحمد وغيره هذا الحديث، قال الإِمام أحمد: هو مما تفرد به صالح

مولى التوأمة، وقال البيهقي: هذا حديث يعدُّ في أفراد صالح، وحديث عائشة أصح منه، وصالح مختلَف في عدالته، كان مالك يجرحه، ثم ذكر عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أنه صُلِّي عليهما في المسجد.
قلت: وصالح ثقة في نفسه، كما قال عباس الدُّوري عن ابن معين: هو ثقة في نفسه. وقال ابن أبي مريم ويحيى: ثقة حجة، فقلت له: إن مالكاً تركه، فقال: إن مالكاً أدركه بعد أن خَرِفَ، والثوري إنما أدركه بعد أن خَرِفَ، فسمع منه، لكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يَخرَفَ. وقال علي بن المديني: هو ثقة إلا أنه خَرِفَ وكَبِرَ فسمع منه الثوري بعد الخرف وسماع ابن أبي ذئب منه قبل ذلك. وقال ابن حبان: تغير في سنة خمس وعشرين ومائة، وجعل يأتي بما يُشبه الموضوعات عن الثقات، فاختلط حديثه الأخير بحديثه القديم ولم يتميز، فاستحق الترك انتهى كلامه.
وهذا الحديث: حسن، فإنه من رواية ابن أبي ذئب عنه، وسماعه منه قديم قبل اختلاطه، فلا يكون اختلاطه موجباً لرد ما حدَّث به قبل الاختلاط. وقد سلك الطحاوي في حديث أبي هريرة هذا، وحديث عائشة مسلكاً آخر، فقال: صلاةُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سُهيل بن بيضاء في المسجد منسوخة، وترك ذلك آخر الفعلين من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدليل إنكار عامة الصحابة ذلك على عائشة، وما كانوا لِيفعلوه إلا لما علموا خلافَ ما نقلت. ورَد ذلك على الطحاوي جماعة، منهم: البيهقي وغيره. قال البيهقى: ولو كان عند أبي هريرة نسخُ ما روته عائشة، لذكره يوم صلِّيَ على أبي بكر الصديق في المسجد، ويوم صُلِّيَ على عمر بن الخطاب في المسجد، ولذكره من أنكر على عائشة أمرها بإدخاله المسجد، ولذكره أبو هريرة حين روت فيه الخبر، وإنما أنكره من لم يكن له معرفة بالجواز، فلما روت فيه الخبر، سكتوا ولم يُنكروه، ولا عارضوه بغيره.

قال الخطابي: وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صُلِّىَ عليهما في المسجد، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما، وفي تركهم الإِنكار الدليلُ على جوازه، قال: ويحتمِل أن يكون معنى حديث أبي هريرة إن ثبت، متأولاً على نقصان الأجر، وذلك أن من صلى عليها في المسجد، فالغالبُ أنه ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه، وأن من سعى إلى الجنازة، فصلى عليها بحضرة المقابر، شهد دفنه، وأحرز أجر القيراطين، وقد يؤجر أيضاً على كثرة خُطاه، وصار الذي يُصلي عليه في المسجد منقوصَ الأجر بالإِضافة إلى من صلي عليه خارج المسجد.
وتأولت طائفة معنى قوله: "فلا شيء له"، أي فلا شيء عليه، ليتحد معنى اللفظين، ولا يتناقضان كما قال تعالى: {وإن أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، أي: فعليها، فهذه طرق الناس في هذين الحديثين. والصواب ما ذكرناه أولاً، وأن سُنَّته وهديه الصلاةُ على الجنازة خارج المسجد إلا لعذر، وكلا الأمرين جائز، والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد. والله أعلم.
فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسجيةُ الميت إذا مات، وتغميضُ عينيه، وتغطيةُ وجهه وبدنه، وكان رُبما يُقبِّل الميت كما قبَّل عثمانَ بن مظعون وبكى وكذلك الصِّدِّيقُ أكبَّ عليه، فقبَّله بعد موته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وكان يأمر بغسل الميت ثلاثاً أو خمساً، أو أكثر بحسب ما يراه الغاسِل، ويأمر بالكافور في الغسلة الأخيرة، وكان لا يُغسَل الشهَداءَ قَتلَى المعركة، وذكر الإِمام أحمد، أنه نهى عن تغسيلهم، وكان ينزع عنهم الجلودَ والحديدَ ويَدفِنُهم في ثيابهم، ولم يُصلِّ عليهم.
وكان إذا مات المُحرِمُ، أمر أن يُغسل بماء وسِدْر، ويُكفن في ثوبيه وهما ثوبا إحرامه: إزاره ورداؤه، وينهى عن تطييبه وتغطية رأسه وكان يأمرمن ولي الميتَ أن يُحسن كفنه، ويُكفنه في البياض، وينهى عن المغالاة في الكفن، وكان إذا قصَّرَ الكفنُ عن سَتر جميع البدن، غطَّى رأسه، وجعل على رجليه من العُشب.
فصل
وكان إذا قُدِّم إليه ميت يُصلِّي عليه، سأل: هل عليه دَين، أم لا؟ فإن لم يكن عليه دَين، صلَّى عليه، وإن كان عليه دين، لم يصل عليه، وأذِن لأصحابه أن يُصلوا عليه، فإن صلاته شفاعة، وشفاعتُه موجبة، والعبد مرتَهَنٌ بدَينه، ولا يدخل الجنة حتى يُقضى عنه، فلما فتح الله عليه، كان يُصلي على المدِين، ويتحمَّل دينه، ويدع ماله لورثته
فإذا أخذ في الصلاة عليه، كبر وحَمِدَ الله وَأَثنَى عَليْهِ، وصلى ابن عباس على جنازة، فقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب جهراً، وقال: "لِتَعْلَمُوا أنها سُنَّة" وكذلك قال أبو أُمامة بنُ سهل: إنَّ قراءة الفاتحة في الأولى سنَّة. ويُذكر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه أمر أن يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب.

ولا يصح إسناده. قال شيخنا: لا تجب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، بل هى سنة، وذكر أبو أمامة بنُ سهل، عن جماعة من الصحابة، الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة على الجنازة وروى يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد المقبُري، عن أبي هريرة، أنه سأل عُبادَة بنَ الصامت عن الصلاة على الجنازة فقال: أنا واللهِ أُخبرُك: تبدأ فتكبِّر، ثُمَّ تُصلِّي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتَقُول: اللهُمَّ إنَّ عَبْدَكَ فَلاناً كَانَ لا يُشْرِكُ بِك وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، إنْ كَانَ مُحْسِناً، فَزِدْ في إحسَانِهِ، وإنْ كَانَ مُسِيئاً، فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، اللهُمً لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلاَ تُضِلَّنَا بَعَدَهُ .
فصل
ومقصودُ الصلاة على الجنازة: هو الدعاء للميت، لذلك حفظَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونُقِلَ عنه ما لم يُنقل مِنْ قراءة الفاتِحة والصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فحُفِظَ من دعائه: "اللهُمَّ اغفِرْ لَهُ، وارْحَمْهُ، وعَافِهِ، واعَفُ عَنهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَه، وَوَسِّعْ مَدْخَلَه، واغْسِلْهُ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ، ونَقِّهِ مَنَ الخطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وأَبْدِلْهُ دَارَاً خَيْراً مِنْ دَارِه، وَأَهْلاً خَيْراً مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوجاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ، وأَدْخِلْهُ الجَنةَ، وَأَعِذْهُ

مِن عَذَابِ القَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَارِ".
وحُفِظَ من دعائه: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا، وَصَغِيرِنَا، وكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا، وأُنْثَانَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبنَا، اللهُمَّ مَنْ أَحيَيْتَهُ مِنَّا، فأَحْيهِ عَلَى الإِسْلاَم، وَمَنْ تَوفَّيْتَهُ مِنَّا، فَتَوَفَّه عَلَى الإِيمَانِ، اللهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلاَ تَفتِنَّا بَعْدَهُ".
وحُفِظَ مِن دعائه: "اللهُمَّ إنَّ فُلانَ بْنَ فُلانٍ في ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ، فَقِهِ مَنْ فِتْنَةِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّار، فأَنْتَ أَهْلُ الوَفَاءِ وَالحَق، فَاغفِرْ لَهُ وَارْحَمهُ، إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ".
وحُفِظَ مِن دعائه أيضاً: "اللهُمَّ أَنْتَ رَبهَا، وَأَنْتَ خَلَقْتَهَا، وَأَنتَ رَزَقْتَهَا، وأَنْتَ هَدَيْتَهَا للإِسْلامِ، وَأَنْتَ قَبضْتَ رُوحَهَا، وتَعْلَمُ سِرَّهَا وَعَلانِيَتَهَا، جئْنَا شفَعَاءَ فَاغفِرْ لَهَا".

وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بإخلاص الدعاء للميت، وكان يُكبرِّ أربعَ تكبيرات، وصح عنه أنه كبَّر خمساً، وكان الصحابة بعده يُكبِّرون أربعاً، وخمساً، وستاً، فكبَّر زيد بن أرقم خمساً، وذكر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كبرها، ذكره مسلم.
وكبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه على سهل بن حُنيف ستاً،

وكان يُكبر على أهل بدر ستاً، وعلى غيرهم من الصحابة خمساً، وعلى سائر الناس أربعاً، ذكره الدارقطني.
وذكر سعيد بنُ منصور، عن الحكم بن عُتيبة أنه قال: كانوا يكبرون على أهل بدر خمساً، وستاً، وسبعاً. وهذه آثار صحيحة، فلا موجب للمنع منها، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يمنع مما زاد على الأربع، بل فعله هو وأصحابُه من بعده.
والذين منعوا من الزيادة على الأربع، مِنهم من احتج بحديث ابن عباس، أن آخر جنازة صلَّى عليها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كبَّرَ أربعاً قالوا: وهذا آخر الأمرين، وإنما يؤخذ بالآخِر، فالآخر مِن فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا. وهذا الحديثُ، قد قال الخلال في "العلل": أخبرني حرب: قال: سئل الإِمام أحمد عن حديث أبي المليح، عن ميمون، عن ابن عباس، فذكر الحديث. فقال أحمد: هذا كذب ليس له أصل، إنما رواه محمد بن زياد الطحان وكان يضع الحديث. واحتجوا بأن ميمون بن مهران روى عن ابن عباس، أن الملائكة لما صلَت على آدم عليه الصلاة والسلام، كبَّرت عليه أربعاً، وقالوا: تِلك سنتكم يا بني آدم. وهذا الحديث قد قال في الأثرم: جرى ذكر محمد بن معاوية النيسابوري الذي كان بمكة، فسمعتُ أبا عبد الله قال: رأيت أحاديثه موضوعة، فذكر منها عن أبي المليح، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، أن الملائكة لما صلَّت على آدم، كبَّرت عليه أربعاً، واستعظمه أبو عبد الله وقال: أبو المليح كان أصح حديثاً وأتقى لله من أن يَرويَ مثلَ هذا.

واحتجوا بما رواه البيهقي من حديث يحيى، عن أبيّ، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن الملائكة لما صلَّت على آدم، فكبرت عليه أربعاً، وقالت: هذه سنتكم يا بني آدم، وهذا لا يصح وقد روي مرفوعاً وموقوفاً.
وكان أصحاب معاذ يُكبِّرون خمساً، قال علقمة: قلتُ لعبد الله: إن ناساً من أصحاب معاذ قدموا من الشام، فكبَّروا على ميت لهم خمساً، فقال عبد الله: ليسَ على المِّيت في التكبير وقتٌ، كبِّر ما كبَّرَ الإِمام، فإذا انصرفَ الإمام فانصرِفْ.
فصل
وأما هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التسليم من صلاة الجنازة. فروي عنه: إنه كان يسلِّم واحدة. وروي عنه: أنه كان يسلم تسليمتين.
فروى البيهقي وغيره، من حديث المقبُري، عن أبي هريرة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على جنازة، فكبر أربعاَ، وسلم تسليمة واحدة لكن قال الإِمام أحمد في رواية الأثرم: هذا الحديث عندي موضوع، ذكره الخلال في "العلل"

وقال إبرهيم الهجري: حدَّثنا عبد الله بن أبي أوفى: إنه صلى على جنازة ابنته، فكبر أربعاً، فمكث ساعة حتى ظننا أنه يكبر خمساً، ثم سلم عن يمينه وعن شماله، فلما انصرف، قلنا له: ما هذا؟ فقال: إني لا أزيدكم على ما رأيت رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنعُ، أو هكذا صنع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن مسعود: ثلاثُ خِلال كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يفعلهن تركهُنَّ الناسُ، إحداهن: التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة، ذكرهما البيهقي. ولكن إبراهيم بن مسلم العبدي الهجري، ضعفه يحيى بن معين، والنسائي، وأبو حاتم، وحديثه هذا، قد رواه الشافعي في كتاب حرملة عن سفيان عنه وقال: كبّر عليها أربعاً، ثم قام ساعة، فسبَّح به القومُ فسلم، ثم قال: كنتم ترون أن أزيد على أربع، وقد رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كبر أربعاً، ولم يقل: ثم سلَم عن يمينه وشماله. ورواه ابن ماجه من حديث المحاربي عنه كذلك، ولم يقل: ثم سَلَّمَ عن يمينه وشماله.
وذِكر السلام عن يمينه وعن شماله انفرد بها شريك عنه. قال البيهقي: ثم عزاه للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التكبير فقط، أو في التكبير وغيره.
قلت: والمعروف عن ابن أبي أوفى خلاف ذلك، أنه كان يسلم واحدة، ذكره الإِمام أحمد عنه. قال أحمد بن القاسم، قيل لأبي عبد الله، أتعرف عن

أحد من الصحابة أنه كان يسلم على الجنازة تسليمتين؟ قال: لا، ولكن عن ستة من الصحابة أنهم كانوا يسلمون تسليمةً واحدة خفيفةً عن يمينه، فذكر ابنَ عمر، وابنَ عباس، وأبا هريرة، وواثِلة بن الأسقع، وابن أبي أوفى، وزيد بن ثابت. وزاد البيهقي: علي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وأبا أمامة بن سهل بن حنيف، فهؤلاء عشرة من الصحابة، وأبو أمامة أدرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسماه باسم جده لأمه أبي أمامة: أسعد بن زرارة، وهو معدود في الصحابة ومن كبار التابعين.
وأما رفع اليدين، فقال الشافعي: ترفع للأثر، والقياس على السنة في الصلاة، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرفع يديه في كل تكبيرة كبَّرها في الصلاة وهو قائم.
قلت: يريد بالأثر ما رواه عن ابن عمر، وأنس بن مالك، أنهما كانا يرفعان أيديهما كلما كبَّرا على الجنازة ويذكر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يرفع يديه في أول التكبير، ويضع اليمنى على اليسرى، ذكره البيهقي في السنن.
وفي الترمذي من حديث أبي هُريرة،"أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وضع يده اليمنى على يده اليسرى في صلاة الجنازة"، وهو ضعيف بيزيد بن سنان الرهاوى.

فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فاتته الصلاة على الجنازة، صلى على القبر، فصلى مرة على قبر بعد ليلة، ومرة بعد ثلاث، ومرة بعد شهر، ولم يُوقت في ذلك وقتاً.
قال أحمد رحمه الله: من يشكُّ في الصلاة على القبر؟! ويُروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان إذا فاتته الجنازةُ، صلى على القبر من ستة أوجه كُلُها حِسَان، فحدَّ الإِمام أحمد الصلاة على القبر بشهر، إذ هو أكثر ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه صلى بعده، وحدَّه الشافعي رحمه الله، بما إذا لم يَبْلَ الميت، ومنع منها مالكٌ وأبو حنيفة رحمهما الله إلا لِلوليِّ إذا كان غائباً.
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يقومُ عند رأس الرجل وَوَسْطِ المرأة.

فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاةُ على الطفل، فصح عنه أنه قال: "الطِّفْل يُصَلى عَلَيْهِ".
وفي "سنن ابن ماجه" مرفوعاً، "صلُوا على أَطْفَالِكُم، فإنَّهم مِنْ أَفْراطِكُم".
قال أحمد بن أبي عبدة: سألتُ أحمد: متى يَجِبُ أن يُصلى على السِّقط؟ قال: إذا أتى عليه أربعة أشهر، لأنه يُنفخ فيه الروح.
قلتُ: فحديث المغيرة بن شعبة "الطفل يُصلى عليه"؟ قال: صحيح مرفوع، قلتُ: ليس في هذا بيانُ الأربعة الأشهر ولا غيرها؟ قال: قد قاله سعيد بن المسيِّب.
فإن قيل: فهل صلى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ابنه إبراهيم يوم مات؟ قيل: قد اختلف في ذلك، فروى أبو داود في "سننه" عن عائشة رضي الله عنها قالت: مات إبراهيمُ بن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثمانية عشر شهراً، فلم يصلىِ عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الإِمام أحمد: حدَّثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدَّثني أبي عن ابن إسحاق حدَّثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن

عائشة... فذكره.
وقال أحمد في رواية حنبل: هذا حديث منكر جداً، ووهَّى ابنَ إسحاق.
وقال الخلال: وقرئ على عبد الله: حدَّثني أبي، حدَّثنا أسود بن عامر، حدَّثنا إسرائيل، قال: حدثنا جابر الجعفي، عن عامر، عن البراء بن عازب، قال: صلَّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ابنه إبراهيم ومات وهو ابنُ ستة عشر شهرا.
وذكر أبو داود عن البهي، قال: لما مات إبراهيمُ بن رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صلَّى عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المقاعد وهو مرسل، والبهي اسمه عبد الله بن يسار كوفي.
وذكر عن عطاء بن أبي رباح، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى على ابنه إبراهيم وهو ابنُ سبعين ليلة وهذا مرسل وهم فيه عطاء، فإنه قد كان تجاوز السنة.
فاختلف الناسُ في هذه الآثار، فمنهم من أثبت الصلاة عليه، ومنع صحةَ حديثِ عائشة، كما قال الإِمام أحمد وغيرُه: قالوا: وهذه المراسيلُ، مع حديث البراء، يشدُّ بعضُها بعضاً، ومنهم من ضعَّف حديثَ البراء بجابر الجعفي، وضعف هذه المراسيل وقال: حديث ابن إسحاق أصح منها.
ثم اختلف هؤلاء في السبب الذي لأجله لم يُصلِّ عليه، فقالت طائفةٌ: استغنى ببنوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قُرْبة الصلاة التي هي شفاعة له، كما استغنى الشهيد بشهادته عن الصلاة عليه.
وقالت طائفة أخرى: إنه مات يوم كسفت الشمس، فاشتغل بصلاة الكسوف عن الصلاة عليه.

وقالت طائفةٌ: لا تعارض بين هذه الآثار، فإنه أمر بالصلاة عليه، فقيل: صُلِّي عليه، ولم يُباشرها بنفسه لاشتغاله بصلاة الكسوف، وقيل: لم يُصل عليه، وقالت فرقة: رواية المثبت أولى، لأن معه زيادة علم، وإذا تعارض النفي والإِثبات، قُدَم الإِثبات.
فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّه لا يُصلِّي على مَن قتل نفسه، ولا على مَنْ غَلَّ من الغنيمةُ.
واختلف عنه في الصلاة على المقتُولِ حداً، كالزاني المرجوم، فصح عنه

أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على الجهنية التي رجمها، فقال عمر: تُصلِّي عليها يا رسولَ الله وقد زَنَتْ؟ فقال: " لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لو قُسِمَتْ بين سَبْعِينَ مِن أهْلِ المَدِينَةِ لَوَسِعَتْهم، وهَل وَجَدْتَ تَوْبَةً أفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لله تعالى ". ذكره مسلم.
وذكر البخاري في "صحيحه"، قصة ماعِز بنِ مالك وقال: فقالَ له النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْراً وَصَلَّى عَلَيْهِ وقد اختلِفَ على الزهري في ذكر الصلاة عليه، فأثبتها محمودُ بن غيلان، عن عبد الرزاق عنه، وخالفه ثمانية من أصحاب عبد الرزاق، فلم يذكروها، وهم: إسحاق بن راهويه، ومحمد بن يحيى الذُهلي، ونوح بن حبيب، والحسنُ بن علي، ومحمَّدُ بن المتوكل، وحُميد بن زنجويه، وأحمد بن منصور الرمادي.
قال البيهقي: وقول محمود بن غيلان: إنه صلى عليه، خطأ لإِجماع أصحاب عبد الرزاق على خلافه، ثم إجماع أصحاب الزهري على خلافه.
وقد اختلف في قصة ماعز بن مالك، فقال أبو سعيد الخدري: ما استغفر له ولا سَبَّه، وقال بُريدة بن الحصيب: إنه قال: "اسْتَغْفِروا لِمَاعِز بن مَالِك". فقالوا: غَفَرَ اللهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ. ذكرهما مسلم. وقال جابر: فصلَّى عليه، ذكره البخاري، وهو حديث عبد الرزاق المعلَّل،==

2.  زاد المعاد في هدي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى : 751هـ)

وقال أبو برزة الأسلمي: لم يُصلِّ عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم ينهَ عنِ الصلاة عليه، ذكره أبو داود.
قلتُ: حديث الغامدية، لم يختلف فيه أنه صلَّى عليها. وحديثُ ماعز، إما أن يقال: لا تعارض بين ألفاظه، فإن الصلاة فيه. هي دعاؤُه له بأن يَغفِرَ الله له، وتركَ الصلاة فيه هي تركه الصلاةَ على جنازته تأديباً وتحذيراً، وإما أن يُقال: إذا تعارضتْ ألفاظه، عدِلَ عنه إلى حديث الغامِدية.
فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلَّى على ميت، تبِعه إلى المقابر ماشياً أمامه.
وهذه كانت سنة خلفائه الراشدين مِن بعده، وسنَّ لمن تبعها إن كان راكباً أن يكون وراءها، وإن كان ماشياً أن يكون قريباً منها، إمَّا خلفها، أو أمامها، أو عن يمينها، أو عن شمالها. وكان يأمر بالإِسراع بها، حتى إن كانوا ليَرمُلُون بها رَمَلاً، وأما دبيب الناسِ اليومَ خُطوة خُطوة، فبدعة مكروهة مخالِفة للسنة، ومتضمِّنة للتشبُّه بأهل الكتاب اليهود. وكان أبو بكر يرفع السوطَ على من يفعل ذلك، ويقول: لقد رأيتنا ونحنُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَرْمُلُ رملاً.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: سألنا نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المشي مع الجنازة، فقال: "ما دُونَ الخَببِ" رواه أهل السنن وكان يمشي إذا تَبعَ الجنازة ويقول "لم أكُن لأَركَبَ والمَلائِكَةُ يَمْشون". فإذا انصرف عنها، فربَّما مشى، وربَما ركِب.
وكان إذا تَبِعها، لم يجلِسْ حتى تُوضع، وقال " إذا تَبِعتُم الجِنَازَة، فلا،: تَجْلِسُوا حتى توضعَ ".
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: والمراد: وضعُها بالأرض. قلت: قال أبو داود: روى هذا الحديث الثوريُّ، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة. قال: وفيه "حَتَّى تُوضَعَ بالأَرض" ورواه أبو معاوية، عن سهيل وقال: "حتَّى تُوضَعَ في اللَّحْدِ". قال: وسفيان أحفظُ من أبي معاوية، وقد روى أبو داود والترمذي، عن عبادة بن الصامت، قال: كانَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم في الجنازة حتى توضعَ في اللحد لكن في إسناده بِشرُ بن رافع،

قال الترمذي: ليس بالقويِّ في الحديث، وقال البخاري: لا يُتابع على حديثه، وقال أحمد: ضعيف، وقال ابن معين: حدث بمناكير، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال ابن حِبان: يروي أشياء موضوعة كأنه المتعمِّدُ لها.
فصل
ولم يكن مِن هديه وسنته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة على كُلِّ ميت غائب.
فقد مات خلق كثيرٌ من المسلمين وهم غُيَّب، فلم يُصلِّ عليهم، وصح عنه: أنه صلَّى على النجاشي صلاته على الميت، فاختلف الناس في ذلك على ثلاثة طرق، أحدها: أن هذا تشريعٌ منه، وسنةٌ للأمة الصلاة على كل غائب، وهذا قولُ الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وقال أبو حنيفة ومالك: هذا خاص به، وليسَ ذلك لغيره، قال أصحابُهما: ومِن الجائز أن يكون رُفعَ له سريرُه فصلَّى عليه وهو يرى صلاتَه على الحاضر المشاهَد،

وإن كان على مسافة من البعد، والصحابة وإن لم يروه، فهم تابعون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة. قالوا: ويدل على هذا، أنه لم يُنقَل عنه أنه كان يُصلي على كلِّ الغائبين غيرَه، وتركُه سنة، كما أن فِعله سُنَّةٌ، ولا سبيل لأحد بعده إلى أن يُعاين سرير الميت من المسافة البعيدة، ويُرفع له حتى يُصلِّيَ عليه، فَعُلِمَ أن ذلك مخصوص به. وقد روي عنه، أنه صلى على معاوية بن معاوية الليثي وهو غائب، ولكن لا يصح، فإن في إسناده العلاء بن زيد، ويقال: ابن زيد، قال علي بن المديني: كان يضع الحديث، ورواه محبوب بن هلال، عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس قال البخاريَ: لا يتابع عليه.
وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: الصواب: أن الغائبَ إن مات ببلد لم يُصلّ عليه فيه، صُلِّيَ عليه صلاة الغائب، كما صلَّى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النجاشي، لأنه مات بين الكفار ولم يُصلَّ عليه، وإن صلِّيَ عليه حيثُ مات، لم يُصلَّ عليه صلاة الغائب، لأن الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

صلى على الغائب، وتركه، وفِعلُه، وتركُه سنة، وهذا له موضع، وهذا له موضع، والله أعلم، والأقوال ثلاثة في مذهب أحمد، وأصحها: هذا التفصيلُ، والمشهور عند أصحابه: الصلاة عليه مطلقاً.
فصل
وصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قام للجنازة لما مرَّت به، وأمرَ بالقيامِ لها، وصح عنه أنه قعد، فاخْتُلِفَ في ذلك، فقيل: القيامُ منسوخ، والقعودُ آخر الأمرين، وقيل. بل الأمران جائزان، وفِعلُه بيان للاستحباب، وتركُه بيان للجواز، وهذا أولى من ادعاء النسخ.
فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ألاَّ يدفن الميت عند طلوع الشَّمس، ولا عند غروبِها، ولا حين يَقُوم قائمُ الظهيرة وكَانَ مِن هديه اللَّحدُ وتعميقُ

القبر وتوسيعُه مِن عِند رأس الميت ورجليه، ويُذكرُ عنه، أنه كان إذا وضع الميِّتَ في القبر قال "بسْمِ اللهِ، وَبِاللهِ، وَعَلى مِلَّةِ رَسُولِ الله". وفي رواية: "بِسْم اللَهِ، وَفي سَبِيلِ اللهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ"
ويُذكر عنه أيضاً أنه كان يحثُوا التراب على قبر الميت إذا دُفِنَ مِنْ قِبَلَ رأسِه ثلاثاً.
وكان إذا فرغ من دفن الميت قام على قبره هو وأصحابه، وسَأَلَ له التَّثبِيتَ، وأمَرَهُم أن يَسْأَلُوا لَهُ التَّثبِيتَ.
ولم يكن يجلِس يقرأ عند القبر، ولا يُلقِّن الميت كما يفعله الناس اليوم، وأما الحديث الذي رواه الطبراني في "معجمه" من حديث أبي أمامة، عن

النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ إِخْوَانِكُم فَسَوَّيْتمُ التُّرَابَ عَلَى قَبْرِهِ، فليقم أَحَدكم عَلَى رَأسِ قَبْرِهِ ثُمَّ لِيَقُلْ: يَا فُلان، فَإِنَّهُ يَسْمَعُهُ وَلاَ يجيب، ثَّم يَقُول: يا فلانَ بنَ فلانَة، فإنَّه يَسْتَوي قَاعِداً، ثُمَّ يَقُول: يَا فُلانَ بنَ فُلانَة، فإنَّه يَقولُ: أَرشِدنَا يَرْحَمكَ الله ولَكِنْ لاَ تَشْعُرونَ، ثُمَّ يَقُولُ: اذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيهِ مِنَ الدُّنْيَا: شَهَادَةَ أَنْ لاَ إِلهَ إلاَّ اللهُ، وأَنَ محَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسولُه، وَأَنّكَ رَضِيتَ بِاللهِ رَبَّاً، وبالإِسْلاَمِ دِيناً، وبِمُحَمَّد نَبِيّاً، وبِالْقُرْآنِ إمَاماً، فإنَّ مُنكَراً وَنَكِيراً يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ وَيَقُولُ: انْطَلِق بِنا مَا نَقْعُد عِنْدَ مَنْ لقِّنَ حُجَّتَهُ، فَيَكونُ اللهُ حَجِيجَهَ دُونَهُمَا. فَقَالَ رجلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! فَإِنْ لَمْ يَعرِفْ أُمَّه؟ قَال: فَيُنْسِبُه إلى حَوَّاء: يا فُلان بن حَوَّاء ". فهذا حديث لا يصح رفعُه، ولكن قال الأثرم: قلتُ لأبي عبد الله: فهذا الذي يصنعونه إذا دُفِنَ الميتُ يقِفُ الرجلُ ويقول: يا فلان بن فلانة، اذكر ما فارقت عليه الدنيا: شهادةِ أَن لا إله إلا الله. فقال: ما رأيتُ أحداً فعل هذا إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقالَ ذلك، وكان أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم، عن أشياخهم، أنهم كانوا يفعلونه، وكان ابن عياش يروي فيه.
قلت: يريد حديث إسماعيل بن عياش هذا الذي رواه الطبراني عن أبى أمامة.
وقد ذكر سعيد بن منصور في "سننه" عن راشد بن سعد، وضمرة بن حبيب، وحكيم بن عمير، قالوا: إذا سُوِّيَ على الميِّت قبرُه، وانصرف

الناسُ عنه، فكانوا يستحِبُّون أن يُقال للميت عند قبره: يا فلانُ! قل: لا إله إلاّ الله، أشهدُ أن لا إله إلا الله ثلاثَ مرات، يا فلانُ ! قل: ربي اللهُ وديني الإِسلامُ، نبيِّيَ محمد، ثم ينصرف.
فصل
ولم يكن من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تعليةُ القبور ولا بناؤها بآجر، ولا بحجَر ولَبِن، ولا تشييدُها، ولا تطيينُها، ولا بناءُ القباب عليها، فكُلُّ هذا بدعة مكروهة، مخالفةٌ لهديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد بَعثَ عليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه إلىَ اليمن، ألاَّ يَدَع تمْثًالاً إلا طمَسَه، وَلاَ قَبْرَاً مُشْرِفاً إلا سَوَّاه، فسنتُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسويةُ هذه القبور المُشرفة كلِّها، ونهى أن يُجصص القبرُ، وأن يُبنى عليه، وأن يكتبَ عليه.
وكانت قبور أصحابه لا مُشرِفة، ولا لاطئة، وهكذا كان قبرُه الكريمُ، وقبرُ صاحبيه، فقبرُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّم مَبْطوحٌ ببطحاء العرَصة الحمراء لا مبني ولا مطين، وهكذا كان قبر صاحبيه.

وكان يعلم قبرَ مَنْ يريدُ تعرَّفَ قَبرِه بصخرة.
فصل
ونهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن اتخاذ القبورِ مساجد، وإيقادِ السُّرج عليها،واشتد نهيه في ذلك حتى لعن فاعله، ونهى عن الصلاة إلى القُبور، ونهى أمته أن يتخِذوا قبرَه عيداً، ولعن زوَّراتِ القبور وكان هديُهُ أن لا تُهان القبورُ وتُوطأ، وألا يُجلَس عليها، ويُتكأ عليها ولا تُعظَّم بحيث تُتَّخذُ مساجِدَ فيُصلَّى عندها وإليها، وتُتخذ أعياداً وأوثاناً.

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زيارة القبور
كان إذا زار قبور أصحابه يزورُها للدعاء لهم، والترحُّم عليهم، والاستغفارِ لهم، وهذه هي الزيارةُ التي سنها لأمته، وشرعَها لهم، وأمرهم أن يقُولوا إذا زارُوها: "السَّلامُ عَليكُم أَهْلَ الدِّيار مِنَ المُؤمِنِينَ والمُسْلِمِينَ، وإنَّا إن شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُون، نَسْألُ اللهَ لَنَا وَلَكُم العَافِيَةَ".
وكان هديُه أن يقولَ ويفعلَ عند زيارتها، مِن جنس ما يقولُه عند

الصلاة على الميت، من الدِعاءِ والترحُّمِ، والاستغفار. فَأبَى المشركون إلا دعاءَ الميت والإِشراك به، والإِقسامَ على الله به، وسؤاله الحوائج، والاستعانة به، والتوجُّهَ إليه، بعكس هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه هدي توحيد وإحسان إلى الميت، وهديُ هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم، وإلى الميت، وهم ثلاثة أقسام: إما أن يدعوا الميت، أو يدعوا به، أو عنده، ويرون الدعاء عنده أوجبَ وأولى من الدعاء في المساجد، ومن تأمل هديَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابِه، تبيَّن له الفرقُ بين الأمرين وبالله التوفيق.
فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تعزية أهلِ الميت، ولم يكن مِن هديه أن يجتر للعَزاء، ويُقرأ له القرآن، لا عندَ قبره ولا غيره، وكُل هذا بدعة حادثة مكروهة.
وكان من هديه: السكونُ والرضى بقضاء الله، والحمد للّه، والاسترجاع، ويبرأ ممن خرق لأجل المُصيبة ثيابَه، أو رفع صوتَه بالندب والنياحة، أو حلق لها شعره.

وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أهل الميت لا يتكلَّفون الطعام للناس، بل أمر أن يصنع الناسُ لهم طعاماً يُرسلونه إليهم وهذا من أعظم مكارم الأخلاق والشِّيم، والحملِ عن أهل الميت، فإنهم في شغل بمصابهم عن إطعام الناس.
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تركُ نعي الميت، بل كان ينهى عنه، ويقول: هو مِن عمل الجاهلية، وقد كرِه حذيفةُ أن يُعلم به أهلُه الناسَ إذا مات وقال: أخاف أن يكون من النعي.

فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في صلاة الخوف، أن أباحَ اللهُ سبحانَه وتعالى قصرَ أركانِ الصلاة وعددِها إذا اجتمع الخوفُ والسفرُ، وقصرَ العدد وحدَه إذا كان سفرٌ لا خوف معه، وقصرَ الأركان وحدَها إذا كان خوفٌ لا سفرَ معه وهذا كان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبه تُعلم الحِكمة في تقييد القصر في الآية بالضرب في الأرض والخوف.
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الخوف، إذا كان العدوّ بينهَ وبين القبلة، أن يَصُفَّ المسلمين كلَّهم خلفَه، ويكبِّرُ ويكبرون جميعاً، ثم يركع فيركعون جميعاً، ثم يرفعُ ويرفعون جميعاً معه، ثم ينحدِرُ بالسجود والصفُّ الذي يليه خاصة، ويقوم الصفُّ المؤخَّر مواجِهَ العدُوِّ، فإذا فرغ من الركعة الأولى، ونهَض إلى الثانية، سجدَ الصفُّ المؤخَّر بعد قيامه سجدتين، ثم قاموا، فتقدَّموا إلى مكان الصفِّ الأول، وتأخَّر الصفُّ الأولُ مكانَهم لتحصُلَ فضيلةُ الصفِّ الأولِ للطائفتين، ولِيُدرِكَ الصفُّ الثاني مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السجدتين في الركعة الثانية، كما أدرك الأول معه السجدتين في الأولى، فتستوي الطائفتانِ فيما أدركوا معه، وفيما قَضَوْا لأنفسهم، وذلك غايةُ العدل، فإذا ركع، صنع الطائفتان كما صنعوا أوَّل مرة فإذا جلس للتشهد، سجد الصفُّ المؤخَّر سجدتين، ولحقوه في التشهد، فيسلِّم بهم جميعاً.

وإن كان العدُو في غير جهة القبلة، فإنَّه كان تارةً يجعلُهم فِرقتينِ: فِرقةً بإزاء العدوِّ، وفِرقةً تُصلي معه، فتُصلي معه إحدى الفرقتين ركعةً، ثم تنصرِف في صلاتها إلى مكان الفرقة الأخرى، وتجيءُ الأخرى إلى مكان هذه، فتُصلي معه الركعة الثانية، ثم تُسلم، وتقضي كلُّ طائفة ركعةً ركعةً بعد سلام الإِمام.
وتارة كان يُصلي بإحدى الطائفتين ركعة، ثم يقوم إلى الثانية، وتقضي هي ركعة وهو واقف، وتُسلم قبل ركوعه، وتأتي الطائفة الأخرى، فتصلي معه الركعة الثانية، فإذا جلس في التشهد، قامت، فقضت ركعةً وهو ينتظرها في التشهد، فإذا تشهدت، يُسلم بهم.
وتارة كان يُصلي بإحدى الطائفتين ركعتين، فتُسلم قبله، وتأتي الطائفة الأخرى، فيُصلي بهم الركعتين الأخيرتين، ويُسلم بهم، فتكون له أربعاً، ولهم ركعتين ركعتين.

وتارة كان يُصلي بإحدى الطائفتين ركعتين، ويسلم بهم، وتأتي الأخرى، فتصلي بهم ركعتين، ويُسلم فيكون قد صلى بهم بكلِّ طائفة صلاة.
وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعةَ، فتذهب ولا تقضي شيئاً، وتجيء الأخرى، فيُصلي بهم ركعة، ولا تقضي شيئاً، فيكون له ركعتان، ولهم ركعة ركعة، وهذه الأوجه كُلُها تجوز الصلاة بها.
قال الإِمام أحمد: كلُّ حديث يُروى في أبواب صلاة الخوف، فالعمل به جائز.
وقال: ستةُ أوجه أو سبعة، تُروى فيها، كُلُّها جائزة، وقال الأثرم: قلتُ لأبي عبد الله: تقولُ بالأحاديث كلِّها، كلّ حديثٍ في موضعه، أو

تختارُ واحداً منها؟ قال: أنا أقولُ: من ذهب إليها كلِّها، فحسن. وظاهر هذا، أنه جوَّز أن تُصليَ كلُّ طائفة معه ركعةً ركعةً، ولا تقضي شيئاً، وهذا مذهبُ ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وطاووس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والحكم، وإسحاق بن راهويه. قال صاحب "المغني": وعمومُ كلام أحمد يقتضي جوازَ ذلك، وأصحابنا ينكرونه.
وقد روى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الخوف صِفاتّ أُخَرُ، ترجع كلها إلى هذه وهذه أُصولُها، وربما اختلف بعض ألفاظِها، وقد ذكرها بعضُهم عشرَ صفات، وذكرها أبو محمد بن حزم نحو خمسَ عشرة صفة، والصحيح: ما ذكرناه أولاً، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة، جعلوا ذلك وجوهاً من فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما هو من اختلاف الرواة. والله أعلم.

بعونه تعالى وتوفيقه تم الجزء الأول من زاد المعاد في هدي خير العباد ويليه الجزء الثاني وأوله فصل في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصدقة والزكاة

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الصدقة والزكاة
هَدْيُه فى الزكاة، أكملُ هَدْى فى وقتها، وقدْرِها، ونِصابها، وَمَنْ تَجِبُ عليه، ومَصْرِفِها. وقد راعى فيها مصلحةَ أربابِ الأموال، ومصلحة المساكين، وجعلها الله سبحانه وتعالى طُهرةً للمال ولصاحبه، وقيَّد النعمة بها على الأغنياء، فما زالت النعمةُ بالمال على مَن أدَّى زكاتَه، بل يحفظُه عليه ويُنميه له، ويدفعُ عنه بها الآفاتِ، ويجعلُها سُوراً عليه، وحِصناً له، وحارساً له.
ثم إنه جعلها فى أربعة أصناف من المال: وهى أكثرُ الأموال دَوَراناً بين الخلق، وحاجتُهم إليها ضرورية.أحدها: الزرع والثمار.
الثانى: بهيمةُ الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم.
الثالث: الجوهران اللَّذان بهما قِوام العالم، وهما الذهب والفضة.
الرابع: أموالُ التجارة على اختلاف أنواعها.

ثم إنه أوجبها مَرَّةً كلَّ عام، وجعل حَوْل الزروع والثمار عند كمالِها واستوائها، وهذا أعدلُ ما يكون، إذ وجوبُها كلَّ شهر أو كُلَّ جمعة يضُرُّ بأرباب الأموال، ووجوبُها فى العمر مرة مما يضرُّ بالمساكين، فلم يكن أعدلَ مِن وجوبها كُلَّ عام مرة.
ثم إنه فاوَتَ بين مقادير الواجب بحسب سعى أرباب الأموال فى تحصيلها، وسهولةِ ذلك، ومشقته، فأوجب الخُمس فيما صادفه الإنسان مجموعاً محصَّلاً من الأموال، وهو الرِّكاز. ولم يعتبر له حَوْلاً، بل أوجب فيه الخُمسَ متى ظفر به.
وأوجب نصفه وهو العُشر فيما كانت مشقةُ تحصيله وتعبه وكُلفته فوقَ ذلك، وذلك فى الثمار والزروع التى يُباشر حرث أرضها وسقيها وبذرها، ويتولَّى الله سقيها مِن عنده بلا كُلفة من العبد، ولا شراء ماءٍ، ولا إثارة بئرٍ ودولابٍ.
وأوجب نِصف العُشر، فيما تولى العبد سقيَه بالكُلفة، والدَّوالى، والنواضِح

وغيرها.
وأوجب نِصف ذلك، وهو ربعُ العُشر، فيما كان النَّماء فيه موقوفاً على عمل متصلٍ مِن رب المال، بالضرب فى الأرض تارة، وبالإدارة تارة، وبالتربص تارة، ولا ريبَ أن كُلفة هذا أعظم من كُلفة الزرع والثمار، وأيضاً فإن نمو الزرع والثمار أظهرُ وأكثر من نمو التجارة، فكان واجبُها أكثرَ من واجب التجارة، وظهورُ النمو فيما يُسقى بالسماء والأنهار، أكثرُ مما يُسقى بالدوالى والنواضح، وظهورهُ فيما وجد محصلاً مجموعاً، كالكنز، أكثر وأظهر من الجميع.
ثم إنه لما كان لا يحتمل المواساةَ كلُّ مال وإن قلَّ، جعل للمال الذى تحتمله المواساة نُصُباً مقدَّرةً المواساة فيها، لا تُجْحِفُ بأرباب الأموال، وتقع موقِعها من المساكين، فجعل للوَرِقِ مائتى درهم، وللذهب عشرين مثقالاً، وللحبوبِ والثمار خمسةَ أوسق، وهى خمسة أحمال من

أحمال إبل العرب، وللغنم أربعين شاة، وللبقر ثلاثين بقرة، وللإبل خمساً، لكن لما كان نِصابها لا يحتمل المواساة من جنسها، أوجب فيها شاة. فإذا تكررت الخمس خمس مرات وصارت خمساً وعشرين، احتمل نصابُها واحداً منها، فكان هو الواجب
ثم إنه لما قَدَّرَ سِنَّ هذا الواجب فى الزيادة والنقصان، بحسب كثرة الإبل وقلَّتِها من ابن مَخاض، وبنت مَخاض، وفوقه ابنُ لَبُون، وبنت لَبون، وفوقه الحِقُّ والحِقَّة، وفوقَه الجَذَعُ والجَذَعَة، وكلما كثُرت الإبلُ، زاد السِّن إلى أن يصل السِّنُ إلى مُنتهاه، فحينئذٍ جعل زيادة عدد الواجب فى مقابلة زيادة عدد المال.
فاقتضت حكمته أن جعل فى الأموال قَدْراً يحتمل المواساة، ولا يُجحِفُ بها، ويكفى المساكين، ولا يحتاجُون معه إلى شئ، ففرض فى أموال الأغنياء ما يكفى الفقراء، فوقع الظلمُ من الطائفتين، الغنيُّ يمنعُ ما وجب عليه، والآخذ يأخذ ما لا يستحقه، فتولَّد من بين الطائفتين ضررٌ عظيم على المساكين

وفاقةٌ شديدة، أوجبت لهم أنواع الحيل والإلحاف فى المسألة.
والربُّ سبحانه تولَّى قَسْمَ الصدقة بنفسه، وجزَّأها ثمانيةَ أجزاء، يجمعُها صِنفانِ من الناس، أحدهما: مَن يأخذ لحاجة، فيأخذ بحسب شدة الحاجة، وضعفها، وكثرتِها، وقِلَّتها، وهم الفقراءُ والمساكين، وفى الرقاب، وابن السبيل. والثانى: مَن يأخذ لمنفعته وهم العاملون عليها، والمؤلَّفةُ قلوبُهم، والغارِمون لإصلاح ذاتِ البَيْن، والغُزاةُ فى سبيل الله، فإن لم يكن الآخِذُ محتاجاً، ولا فيه منفعة للمسلمين، فلا سهم له فى الزكاة.

فصل
[فى مَن هو أهل لأخذ الزكاة]
وكان من هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا علم من الرجل أنه مِن أهل الزكاة، أعطاه، وإن سأله أحدٌ من أهل الزكاة ولم يَعْرِفْ حاله، أعطاه بعد أن يخبره أنه لا حظَّ فيها لِغنى ولا لِقوى مكتسِب.

وكان يأخذها من أهلها، ويضعُها فى حقها.
وكان من هَدْيه، تفريقُ الزكاة على المستحقين الذين فى بلد المال، وما فضلَ عنهم حُمِلَت إليه، ففرَّقها هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك كان يبعث سُعاته إلى البوادى، ولم يكن يبعثُهم إلى القُرى، بل أمر معاذ بن جبل أن يأخذ الصدقة من أغنياء أهل اليمن، ويُعطيها فقراءهم، ولم يأمره بحملها إليه.
ولم يكن من هَدْيه أن يبعث سُعاته إلا إلى أهل الأموال الظاهرة مِن المواشى والزروع والثمار، وكان يبعثُ الخارِصَ فيخرُصُ على أرباب النخيل تمرَ نخيلهم، وينظر كم يجئ منه وَسْقاً، فَيحْسِبُ عليهم من الزكاة بقدره،

وكان يأمر الخاَرِصَ أن يدعَ لهم الثلثَ أو الرُّبعَ، فلا يخرصه عليهم لما يعرُو النخيلَ مِن النوائب، وكان هذا الخرصُ لكى تُحصى الزكاةُ قبل أن تؤكل الثمارُ وتُصْرَمَ، وليتصرَّف فيها أربابها بما شاؤوا، ويضمنوا قدرَ الزكاة، ولذلك كان يبعث الخارِصَ إلى مَن ساقاه من أهل خيبر وزارعه، فيخرُص عليهم الثمارَ والزروع، ويُضمِّنُهم شطرًها، وكان يبعثُ إليهم عبد الله بن رَواحة، فأرادوا أن يَرشُوه، فقال عبد الله: تُطعمونى السُّحتَ؟، واللهِ لقد جئتكم من عند أحبِّ الناس إلىَّ، ولأنتُم أبغضُ إلىَّ من عِدَّتِكم مِن القِردةِ والخنازير، ولا يحمِلُنى بُغضى لكم وحُبِّى إياه، أن لا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السمواتُ والأرض.
ولم يكن من هَدْيه أخذُ الزكاة من الخيل، والرقيق، ولا البغال، ولا الحمير، ولا الخضروات ولا المباطخ والمقاتى والفواكه التى لا تُكال ولا تُدَّخر إلا العنب والرُّطب فإنه كان يأخذ الزكاة منه جملة ولم يُفرِّق بين ما يبس منه وما لم ييبس.

فصل
واختلف عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العسل، فروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: جاء هلالٌ أحد بنى مُتْعان إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعشُور نحل له، وكان سأله أن يَحمىَ وادياً يُقال له "سَلَبَة"، فحمى له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك الوادى، فلما وَلِىَ عُمَرُ ابنُ الخطاب رضى الله عنه، كتب إليه سفيانُ ابن وهب يسألُه عن ذلك، فكتب عمر: إن أدَّى إليك ما كان يُؤدِّى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن عشُور نَحله، فاحمِ له "سَلَبَة"، وإلا فإنما هو ذُباب غيثٍ يأكلُه مَنْ يَشَاء.
وفى رواية فى هذا الحديث: "مِنْْ كُل عشر قِرَبٍ قِربة".
وروى ابن ماجه فى سننه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أنه أخَذَ مِن العَسَل العُشْرَ.
وفى مسند الإمام أحمد، عن أبى سيَّارة المتعى، قال: قلت: يا رسول الله ؛ إن لى نحلاً. قال: "أَدِّ العُشْرَ". قلتُ: يا رسول الله ؛ احْمِها لى، فحماها لي.
وروى عبد الرزاق، عن عبد الله بن مُحَرَّرٍ عن الزهرى، عن أبى سلمة،

عن أبى هريرة، قال: كتب رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهل اليمن، أن يُؤخَذَ مِنَ العَسَلِ العُشْرُ.
قال الشافعى: أخبرنا أنس بن عياض، عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبى ذباب، عن أبيه، عن سعد بن أبى ذُبابذ قال: قدِمتُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسلمتُ ثم قلتُ: يا رسول الله ؛ اجعل لقومى من أموالهم ما أسلموا عليه، ففعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستعملنى عليهم، ثم استعملنى أبو بكر، ثم عُمَرُ رضى الله عنهما. قال: وكان سعد من أهل السَّراةِ، قال: فكلَّمتُ قومى فى العسل. فقلت لهم: فيه زكاة، فإنه لا خير فى ثمرة لا تزكَّى. فقالوا: كم ترى؟ قلتُ: العُشرَ، فأخذت منهم العُشرَ، فلقيتُ عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فأخبرتُه بما كان. قال: فقبضَهُ عمر، ثم جعل ثمنه فى صدقات المسلمين. ورواه الإمام أحمد، ولفظه للشافعى.
واختلف أهلُ العلم فى هذه الأحاديث وحكمها، فقال البخارى: ليس فى زكاة العسل شئ يصح، وقال الترمذى: لا يَصِحُّ عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى هذا الباب كثيرُ شئ. وقال ابن المنذر: ليس فى وجوب صدقة العسل حديث يثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا إجماع، فلا زكاة فيه، وقال الشافعى: الحديثُ فى أن فى العسل العُشرَ ضعيف،

وفى أنه لا يؤخذ منه العُشر ضعيف إلا عن عمر ابن عبد العزيز.
قال هؤلاء: وأحاديثُ الوجوب كلُّها معلولة، أما حديث ابن عمر، فهو من رواية صدقة بن عبد الله بن موسى بن يسار، عن نافع عنه، وصدقة، ضعَّفه الإمام أحمد، ويحيى بن معين، وغيرهما، وقال البخارى: هو عن نافع، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرسل، وقال النسائى صدقة ليس بشىء، وهذا حديث منكر.
وأما حديث أبى سيَّارة المتعى، فهو من رواية سليمان بن موسى عنه، قال البخارى: سليمان بن موسى لم يدرك أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما حديث عمرو بن شعيب الآخر، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ من العسل العُشر، ففيه أسامة بن زيد بن أسلم يرويه عن عمرو، وهو ضعيف عندهم، قال ابن معين: بنو زيد ثلاثتُهم ليسوا بشىء، وقال الترمذى: ليس فى ولد زيد بن أسلم ثقة.
وأما حديث الزهرى، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة: فما أظهر دلالته لو سلم من عبد الله ابن محرَّر راويه عن الزهرى، قال البخارى فى حديثه هذا: عبد الله بن محرَّر متروك الحديث، وليس فى زكاة العسل شىء يصح.
وأما حديث الشافعى رحمه الله، فقال البيهقى: رواه الصلت بن محمد، عن أنس بن عياض، عن الحارث بن أبى ذباب، عن منير بن عبد الله، عن أبيه، عن سعد بن أبى ذباب، وكذلك رواه صفوان ابن عيسى، عن الحارث بن أبى ذباب. قال البخارى: عبد الله والد منير، عن سعد بن أبى ذباب، لم يصح حديثه، وقال على بن المدينى: منير هذا لا نعرفه إلا فى هذا الحديث، كذا قال لى. قال الشافعى: وسعد بن أبى ذباب، يحكى ما يدل على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمره بأخذ الصدقة من العسل،

وإنما هو شىء رآه فتطوع له به أهله. قال الشافعى: واختيارى أن لا يُؤخذ منه، لأن السُنَن والآثار ثابتة فيما يُؤخذ منه، وليست ثابتة فيه فكأنه عفو.
وقد روى يحيى بن آدم، حدثنا حُسين بن زيد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علىّ رضى الله عنه، قال: ليس فى العسل زكاةٌ.
قال يحيى: وسئل حسن بن صالح عن العسل؟ فلم ير فيه شيئاً. وذكر عن معاذ أنه لم يأخذ من العسل شيئاً. قال الحُميدى: حدثنا سفيان، حدثنا إبراهيم بن ميسرة، عن طاووس، عن معاذ بن جبل، أنه أتى بوقص البقر والعسل، فقال معاذ: كلاهما لم يأمرنى فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشىء.
وقال الشافعى: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن أبى بكر، قال: جاءنا كتابٌ من عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى أبى وهو بمِنَى، أن لا يأخذ من الخيل ولا من العسل صدقة. وإلى هذا ذهب مالك، والشافعى.
وذهب أحمد، وأبو حنيفة، وجماعة، إلى أن فى العسل زكاة، ورأوا أن هذه الآثار يُقَوِّى بعضُها بعضاً، وقد تعددت مخارجُها، واختلفت طُرقها، ومرسَلُها يُعضَدُ بمسندها. وقد سُئِل أبو حاتم الرازى، عن عبد الله والد منير، عن سعد بن أبى ذباب، يصح حديثه؟ قال: نعم. قال هؤلاء: ولأنه يتولد من نَوَر الشجر والزهر، ويُكال ويُدَّخر، فوجبت فيه الزكاة كالحبوب والثمار. قالوا: والكلفة فى أخذه دون الكلفة فى الزرع والثمار، ثم قال

أبو حنيفة: إنما يجب فيه العُشر إذا أُخِذ من أرض العُشر، فإن أُخِذ من أرض الخراج، لم يجب فيه شئ عنده، لأن أرض الخراج قد وجب على مالكها الخراجُ لأجل ثمارها وزرعها، فلم يجب فيها حق آخر لأجلها، وأرض العُشر لم يجب فى ذمته حق عنها، فلذلك وجب الحقُّ فيما يكون منها.
وسوَّى الإمام أحمد بين الأرضين فى ذلك، وأوجبه فيما أُخِذَ مِن ملكه أو موات، عُشرية كانت الأرض أو خراجية.
ثم اختلف الموجِبون له: هل له نصاب أم لا؟ على قولين. أحدهما: أنه يجب فى قليله وكثير، وهذا قول أبى حنيفة رحمه الله، والثانى: أن له نصاباً معيناً، ثم اختلف فى قدره، فقال أبو يوسف: هو عشرة أرطال
وقال محمد بن الحسن: هو خمسة أفراق، والفرق ستة وثلاثون رطلاً بالعراقى. وقال أحمد: نصابه عشرة أفراق، ثم اختلف أصحابه فى الفرق، على ثلاثة أقوال أحدها: أنه ستون رطلاً، والثانى: أنه ستة وثلاثون رطلاً.
والثالث ستة عشر رطلاً، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، والله أعلم.
فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جاءه الرجل بالزكاة، دعا له فتارة يقول: "اللهم بارك فيه وفى أبله ". وتارة يقول "اللهم صل عليه". ولم يكن من

هديه أخذ كرائم الأموال فى الزكاة بل وسط المال، ولهذا نهى معاذاُ عن ذلك.
فصل
[فى نهى المتصدق أن يشترى صدقته]
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى المتصدِّق أن يشترىَ صدقته، وكان يُبيح للغنى أن يأكل من الصدقة إذا أهداها إليه الفقير، وأكل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن لحم تُصُدِّقَ به على بَريرَةَ وقال: "هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ ولنا مِنْهَا هَدِية".
وكان أحياناً يستدين لمصالح المسلمين على الصدقة، كما جهّز جيشاً فَنَفِدَتِ الإبل، فأمر عبد الله بن عمرو أن يأخذ من قلائص الصدقة،

وكان يَسِمُ إبل الصَّدَقَةِ بيده، وكان يَسِمُها فى آذانها.
وكان إذا عراه أمر، استسلف الصدقة من أربابها، كما استسلف من العباس رضى الله عنه صدقة عامين.ر

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى زكاة الفطر
فرضها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المسلم، وعلى مَنْ يَمُونُهُ مِنْ صَغِيرٍ وكَبِيرِ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى، حُرٍّ وَعَبْدٍ، صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ زَبِيبٍ.
وروى عنه: أو صاعاً من دقيق، وروى عنه: نصف صاع من بُرٍّ.
والمعروف: أن عمر بن الخطاب جعل نصف صاع من بُرٍّ مكان الصاع من هذه الأشياء، ذكره أبو داود.
وفى "الصحيحين" أن معاوية هو الذى قَوَّم ذلك، وفيه عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آثار مرسلة، ومسندة، يُقوِّى بعضها بعضاً.
فمنها: حديث عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبى صُعير

عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صاعٌ مِنْ بُرٍّ أوْ قَمْح على كُلِّ اثْنَيْن" رواه الإمام أحمد وأبو داود.
وقال عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث منادياً فى فِجاج مَكَّة: "أَلاَ إنَّ صَدَقَة الفِطْرِ وَاجِبَةٌ على كُلِّ مُسْلِم، ذَكَرٍ أو أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ سِوَاهُ صَاعاً مِنْ طَعام " قال الترمذى: حديث حسن غريب.
وروى الدارقطنى من حديث ابن عمر رضى الله عنهما، أَن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمَرَ عَمْرو بْنَ حَزْمٍ فى زَكَاةِ الفِطْرِ بِنِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ. وفيه سليمان بن موسى، وثَّقه بعضهم وتكلم فيه بعضهم.
قال الحسنُ البَصرى: خطب ابنُ عباس فى آخر رمضانَ على منبر البصرة، فقال: أَخْرِجُوا صَدَقَةَ صَوْمِكُمْ، فكأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا. فَقَالَ: مَنْ هَهُنا مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ؟ قُومُوا إلَى إخْوَانِكُم فَعَلِّمُوهُم فإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ، فَرضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ صاعَاً مِن تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ، أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ، أو مملُوكٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، فلما قَدِمَ عَلىُّ رَضِىَ الله عَنْهُ رَأى رُخْصَ السِّعْرِ قَالَ: قَدْ أَوْسَعَ اللهُ عَلَيْكُم، فَلَوْ جَعَلْتُمُوهُ صَاعاً مِنْ كُلِّ شَىءٍ". رواه أبو داود وهذا لفظه، والنسائى

وعنده فقال عَلىُّ: أَمَا إذ أَوْسَعَ اللهُ عَلَيْكُم، فَأوْسِعُوا، اجْعَلُوها صَاعاً مِنْ بُرٍّ وَغَيْرِه. وكان شيخنا رحمه الله: يُقوِّى هذا المذهب ويقول: هو قياس قولِ أحمد فى الكفَّارات، أن الواجبَ فيها من البُرِّ نصفُ الواجب من غيره.
فصل
وكان من هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخراج هذه الصدقة قبلَ صلاة العيد، وفى السنن عنه: أنه قال: "مَنْ أدَّاها قَبْلَ الصَّلاة، فَهِى زَكَاةٌ مَقْبُولَة، ومَنْ أَدَّاها بَعْدَ الصَّلاة فَهِىَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقاتِ".
وفى "الصحيحين"، عن ابن عمر، قال: أمَرَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَكَاةِ الفِطْرِ أَنْ تُؤدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلى الصَّلاة.
ومقتضى هذين الحديثين: أنه لا يجوزُ تأخيرُها عن صلاة العيد،

وأنها تفوتُ بالفراغ مِن الصلاة، وهذا هو الصواب، فإنه لا مُعارِض لهذين الحديثين ولا ناسخ، ولا إجماع يدفع القولَ بهما، وكان شيخُنا يُقوِّى ذلك وينصرُه، ونظيرُه ترتيبُ الأُضحية على صلاة الإمام، لا على وقتها، وأن مَن ذبح قبلَ صلاة الإمام، لم تكن ذبيحته أُضحيةً بل شاة لحم. وهذا أيضاً هو الصواب فى المسألة الأخرى، وهذا هَدْىُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الموضعين.
فصل
وكان من هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تخصيصُ المساكين بهذه الصدقة، ولم يكن يقسِمها على الأصناف الثمانية قبضةً قبضةً، ولا أمر بذلك، ولا فعله أحدٌ من أصحابه، ولا مَنْ بعدهم، بل أحدُ القولين عندنا: أنه لا يجوزُ إخراجُها إلا على المساكين خاصة، وهذا القولُ أرجحُ من القول بوجوب قسمتها على الأصناف الثمانية.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى صدقة التطوع
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظمَ الناس صدقةً بما ملكت يدُه، وكان لا يستكثِر شيئاً أعطاه للَّهِ تعالى، ولا يستقِلُّه، وكان لا يسألُه أحدٌ شيئاً عنده إلا أعطاه، قليلاً كان أو كثيراً، وكان عطاؤه عطاء مَنْ لا يخافُ الفقر، وكان العطاءُ والصدقةُ أحبَّ شىءٍ إليه، وكان سُرورُه وفرحُه بما يعطيه أعظمَ من سرور الآخِذِ بما يأخذه، وكان أجودَ الناس بالخير، يمينه كالرِّيح المرسلة.
وكان إذا عرض له مُحتاج، آثره على نفسه، تارةً بطعامه، وتارةً بلباسه.
وكان يُنوِّع فى أصناف عطائه وصدقته، فتارةً بالهبة، وتارةً بالصدقة، وتارةً بالهدية، وتارةً بشراءِ الشىء ثم يُعطى البائع الثمن والسِّلعة جميعاً، كما

فعل ببعير جابر وتارة كان يقترض الشئ، فيرد أكثر منه، وأفضل وأكبر، ويشترى الشىء، فيعطى أكثر من ثمنه، ويقبل الهديَّة ويُكافىءُ عليها بأكثر منها أو بأضعافها، تلطفاً وتنوُّعاً فى ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن، وكانت صدقُته وإحسانُه بما يملكُه، وبحاله، وبقوله، فيُخْرِجُ ما عنده، ويأمُرُ بالصدقة، ويحضُّ عليها، ويدعو إليها بحاله وقوله، فإذا رآه البخيلُ الشحيح، دعاه حالُه إلى البذل والعطاء، وكان مَنْ خالطَه وصَحِبه، ورأى هَدْيَه لا يملِكُ نفسه من السماحة والنَّدى.
وكان هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو إلى الإحسان والصدقةِ والمعروف، ولذلك كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشرحَ الخلق صدراً، وأَطيَبهم نفساً، وأنعمَهم قلباً. فإن لِلصدقة وَفِعلِ المعروف تأثيراً عجيباً فى شرح الصدر، وانضاف ذلك إلى ما خصَّه الله بهِ من شرح صدره بالنبوة والرسالة، وخصائصها وتوابعها، وشرح صدره حساً وإخراج حظِّ الشيطان منه.
فصل: فى أسباب شرح الصدور وحصولها على الكمال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فأعظم أسباب شرح الصدر: التوحيدُ وعلى حسب كماله، وقوته، وزيادته يكونُ انشراحُ صدر صاحبه. قال الله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللهُ

صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّنْ رَبِّه} [الزمر: 22]. وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلاَمِ، وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
فالهُدى والتوحيدُ مِن أعظم أسبابِ شرح الصدر، والشِّركُ والضَّلال مِن أعظم أسبابِ ضيقِ الصَّدرِ وانحراجِه، ومنها: النورُ الذى يقذِفُه الله فى قلب العبد، وهو نورُ الإيمان، فإنه يشرَحُ الصدر ويُوسِّعه، ويُفْرِحُ القلبَ. فإذا فُقِدَ هذا النور من قلب العبد، ضاقَ وحَرِجَ، وصار فى أضيق سجنٍ وأصعبه.
وقد روى الترمذى فى جامعه عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: " إذا دَخَلَ النور القلبَ، انْفَسَحَ وانشرحَ ". قالوا: وما عَلاَمَةُ ذَلِكَ يَا رسُولَ اللهِ؟ قال: "الإنَابَةُ إلى دارِ الخُلُودِ، والتَجَافِى عَنْ دَارِ الغُرُورِ، والاسْتِعْدادُ للمَوْتِ قَبْلَ نُزوله". فيُصيب العبد من انشراح صدره بحسب نصيبه من هذا النور، وكذلك النورُ الحِسِّى، والظلمةُ الحِسِّية، هذه تشرحُ الصدر، وهذه تُضيِّقه.
ومنها: العلم، فإنه يشرح الصدر، ويوسِّعه حتى يكون أَوسعَ من الدنيا، والجهلُ يورثه الضِّيق والحَصْر والحبس، فكلما اتَّسع علمُ العبد، انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل عِلم، بل للعلم الموروث عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو العلمُ النافع، فأهلُه أشرحُ الناس صدراً، وأوسعهم قلوباً، وأحسُنهم أخلاقاً، وأطيبُهم عيشاً.

ومنها: الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، ومحبتُه بكلِّ القلب، والإقبالُ عليه، والتنعُّم بعبادته، فلا شىء أشرحُ لصدر العبد من ذلك. حتى إنه ليقولُ أحياناً: إن كنتُ فى الجنة فى مثل هذه الحالة، فإنى إذاً فى عيش طيب. وللمحبة تأثيرٌ عجيبٌ فى انشراح الصدر، وطيبِ النفس، ونعيم القلب، لا يعرفه إلا مَن له حِس به، وكلَّما كانت المحبَّة أقوى وأشدَّ، كان الصدرُ أفسحَ وأشرحَ، ولا يَضيق إلا عند رؤية البطَّالين الفارِغين من هذا الشأن، فرؤيتُهم قَذَى عينه، ومخالطتهم حُمَّى روحه.
ومِنْ أعظم أَسباب ضيق الصدر: الإعراضُ عن الله تعالى، وتعلُّقُ القلب بغيره، والغفلةُ عن ذِكره، ومحبةُ سواه، فإن مَن أحبَّ شيئاً غيرَ الله عُذِّبَ به، وسُجِنَ قلبُه فى محبة ذلك الغير، فما فى الأرض أشقى منه، ولا أكسف بالاً، ولا أنكد عيشاً، ولا أتعب قلباً، فهما محبتان: محبة هى جنة الدنيا، وسرور النفس، ولذةُ القلب، ونعيم الروح، وغِذاؤها، ودواؤُها، بل حياتُها وقُرَّةُ عينها، وهى محبةُ الله وحدَه بكُلِّ القلب، وانجذابُ قوى الميل، والإرادة، والمحبة كلِّها إليه.
ومحبةٌ هى عذاب الروح، وغمُّ النفس، وسِجْنُ القلب، وضِيقُ الصدر، وهى سببُ الألم والنكد والعناء، وهى محبة ما سواه سبحانه.
ومن أسباب شرح الصدر دوامُ ذِكره على كُلِّ حال، وفى كُلِّ موطن، فللذِكْر تأثير عجيب فى انشراح الصدر، ونعيم القلب، وللغفلة تأثيرٌ عجيب فى ضِيقه وحبسه وعذابه.
ومنها: الإحسانُ إلى الخَلْق ونفعُهم بما يمكنه من المال، والجاهِ، والنفع بالبدن، وأنواع الإحسان، فإن الكريم المحسنَ أشرحُ الناس صدراً، وأطيبُهم نفساً، وأنعمُهم قلباً، والبخيلُ الذى ليس فيه إحسان أضيقُ الناسِ

صدراً، وأنكدُهم عيشاً، وأعظمُهم همَّاً وغمَّاً. وقد ضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الصحيح مثلاً للبخيل والمتصدِّق، كمَثَل رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا هَمَّ المُتَصَدِّقُ بِصَدَقَةٍ، اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ وَانْبَسَطَتْ، حَتَّى يَجُرَّ ثِيَابِهُ وَيُعْفِىَ أثَرَهُ، وكُلَّمَا هَمَّ البَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ، لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، وَلَمْ تَتَّسِعْ عَلَيْهِ. فهذا مَثَلُ انشِراحِ صدر المؤمن المتصدِّق، وانفساح قلبه، ومثلُ ضِيقِ صدر البخيل وانحصارِ قلبه.
ومنها: الشجاعة، فإن الشجاع منشرح الصدر، واسع البطان، متَّسِعُ القلب، والجبانُ: أضيق الناس صدراً، وأحصرُهم قلباً، لا فرحة له ولا سرور، ولا لذَّة له، ولا نعيم إلا منْ جنس ما للحيوان البهيمى، وأما سرور الروح، ولذَّتُها، ونعيمُها، وابتهاجُها، فمحرَّمٌ على كل جبان، كما هو محرَّم علِى كل بخيلٍ، وعلى كُلِّ مُعرِض عن الله سبحانه، غافلٍ عن ذِكره، جاهلٍ به وبأسمائه تعالى وصفاته، ودِينه، متعلق القلبِ بغيره. وإن هذا النعيم والسرور، يصير فى القبر رياضاً وجنة، وذلك الضيقُ والحصر، ينقلبُ فى القبر عذاباً وسجناً. فحال العبد فى القبر. كحال القلب

فى الصدر، نعيماً وعذاباً وسجناً وانطلاقاً، ولا عبرةَ بانشراح صدر هذا لعارض، ولا بضيق صدرِ هذا لعارض، فإن العوارِضَ تزولُ بزوال أسبابها، وإنما المعوَّلُ على الصِّفة التى قامت بالقلب تُوجب انشراحه وحبسه، فهى الميزان.. والله المستعان.
ومنها بل من أعظمها: إخراجُ دَغَلِ القَلْبِ من الصفات المذمومة التى تُوجب ضيقه وعذابه، وتحولُ بينه وبين حصول البُرء، فإن الإنسان إذا أتى الأسباب التى تشرحُ صدره، ولم يُخرِجْ تلك الأوصافَ المذمومة من قلبه، لم يحظَ مِن انشراح صدره بطائل، وغايته أن يكون له مادتان تعتوِرَانِ على قلبه، وهو للمادة الغالبة عليه منهما.
ومنها: تركُ فضولِ النظر، والكلام، والاستماع، والمخالطةِ، والأكل، والنوم، فإن هذه الفضولَ تستحيلُ آلاماً وغموماً، وهموماً فى القلب، تحصُرُه، وتحبِسه، وتضيِّقهُ، ويتعذَّبُ بها، بل غالِبُ عذابِ الدنيا والآخرة منها، فلا إله إلا اللهُ ما أضيقُ صدَر مَن ضرب فى كل آفةٍ من هذه الآفات بسهم، وما أنكَدَ عيشَه، وما أسوأ حاله، وما أشدَّ حصرَ قلبه، ولا إله إلا الله، ما أنعمَ عيشَ مَنْ ضرب فى كل خَصلةٍ من تلك الخصال المحمودة بسهم، وكانت همتُّه دائرةً عليها، حائمةً حولها، فلهذا نصيب وافر مِنْ قوله تعالى: {إنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيم} [الانفطار: 13] ولذلك نصيب وافر من قوله تعالى: {وإنَّ الفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] وبينهما مراتبُ متفاوتة لا يُحصيها إلا الله تبارك وتعالى.
والمقصود: أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أكملَ الخلق فى كلِّ صفة يحصُل بها انشراحُ الصدر، واتِّساعُ القلب، وقُرَّةُ العين، وحياةُ الروح، فهو أكملُ الخلق فى هذا الشرح والحياة، وقُرَّةِ العين مع ما خُصَّ به من الشرح الحِسِّىِّ،

وأكملُ الخلق متابعة له، أكملُهم انشراحاً ولذَّة وقُرَّة عين، وعلى حسب متابعته ينالُ العبد من انشراح صدره وقُرَّة عينه، ولذَّة روحه ما ينال، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذُروة الكمال مِن شرح الصدر، ورفع الذِكْر، ووضع الوِزْر، ولأتباعه من ذلك بحسب نصيبهم من اتِّباعه.. والله المستعانُ.
وهكذا لأتباعه نصيبٌ من حفظ الله لهم، وعصمتِه إياهم، ودفاعِه عنهم، وإعزازه لهم، ونصرِه لهم، بحسب نصيبهم من المتابعة، فمستقِلُّ ومستكثِر، فمَن وجد خيراً، فليحمد الله. ومَن وجد غير ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الصيام
لما كان المقصودُ مِن الصيام حبسَ النفسِ عن الشهواتِ، وفِطامَها عن المألوفات، وتعديلَ قوتها الشهوانية، لتستعِدَّ لطلب ما فيه غايةُ سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتُها الأبدية، ويكسِر الجوعُ والظمأ مِن حِدَّتِها وسَوْرتِها، ويُذكِّرها بحال الأكبادِ الجائعةِ من المساكين، وتضيق مجارى الشيطانِ من العبد بتضييق مجارى الطعام والشراب، وتُحبس قُوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرُّها فى معاشها ومعادها، ويُسكِّنُ

كُلَّ عضوٍ منها وكُلَّ قوةٍ عن جماحه، وتُلجَمُ بلجامه، فهو لجامُ المتقين، وجُنَّةُ المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين، وهو لربِّ العالمين مِن بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعلُ شيئاً، وإنما يتركُ شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجل معبوده، فهو تركُ محبوبات النفس وتلذُّذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، وهو سِرٌّ بين العبد وربه لا يَطَّلِعُ عليهِ سواه، والعبادُ قد يَطَّلِعُونَ منه على تركِ المفطرات الظاهرة، وأما كونُه تركَ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يَطَّلِعُ عليه بَشرٌ، وذلك حقيقةُ الصوم.
وللصوم تأثيرٌ عجيب فى حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحِميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التى إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصومُ يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويُعيد إليها ما استلبته منها أيدى الشهوات، فهو من أكبر العونِ على التقوى كما قال تعالى: {يأَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصَّوْمُ جُنَّة". وأمَرَ مَنِ اشتدَّتْ عليه شَهوةُ النكاح، ولا قُدرة لَه عليه بالصِّيام، وجعله وجَاءَ هذه الشهوة.

والمقصود: أن مصالحَ الصومِ لمَّا كانت مشهودةً بالعقول السليمةِ، والفِطَرِ المستقيمة، شرعه اللهُ لعباده رحمة بهم، وإحساناً إليهم، وحِميةً لهم وجُنَّةً.
وكان هَدْى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه أكَملَ الهَدْى، وأعظمَ تحصيل للمقصود، وأسهلَه على النفوس.
ولما كان فَطْمُ النفوسِ عن مألوفاتِها وشهواتِها مِن أشق الأمور وأصعبها، تأخَّر فرضُه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لما توطَّنَتِ النفوسُ على التوحيد والصلاة، وأَلِفَت أوامِرَ القرآنِ، فَنُقِلَت إليه بالتدريج.
وكان فرضه فى السنة الثانية من الهجرة، فتوفِّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد صامَ تِسع رمضانات، وفُرِضَ أولاً على وجه التخيير بينه وبين أن يُطعِم عن كُلِّ يوم مسكيناً، ثم نُقِلَ مِن ذلك التخيير إلى تحتُّم الصومِ، وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة إذا لم يُطيقا الصيامَ، فإنهما يُفطِران ويُطعمان عن كُلِّ يوم مسكيناً، ورخَّص للمريض والمسافِر أن يُفطرا ويقضيا، ولِلحامِل والْمُرضِعِ إذا خافتا على أنفسهما كَذَلِكَ، فإن خافتا على ولديهما، زادتا

مع القضاء إطعام مِسكين لِكُلِّ يوم، فإن فطرهما لم يكن لِخوف مرض، وإنما كان مع الصِّحة، فجُبِر بإطعام المسكين كفطر الصحيح فى أوَّل الإسلام.
وكان للصوم رُتَبٌ ثلاث، إحداها: إيجابُه بوصف التخيير.
والثانية تحتُّمه، لكن كان الصائمُ إذا نام قبل أن يَطْعَمَ حَرُمَ عليه الطعامُ والشرابُ إلى الليلة القابلة، فنُسِخ ذلك بالرتبة الثالثة، وهى التى استقر عليها الشرعُ إلى يوم القيامة.

فصل
وكان من هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى شهر رمضان، الإكثارُ من أنواع العبادات، فكان جبريلُ عليه الصلاة والسلام يُدارسه القرآن فى رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجودَ بالخير من الريح المرسلة، وكان أجودَ الناس، وأجود ما يكون فى رمضان، يُكْثِرُ فيه مِن الصدقة والإحسان، وتلاوة القرآن، والصلاة، والذِّكرِ، والاعتكاف.
وكان يَخُصُّ رمضانَ من العبادة بما لا يَخُصُّ غيرَه به من الشهور، حتى إنه كان ليُواصل فيه أحياناً لِيُوَفِّرَ ساعات لَيلِهِ ونهارِه على العبادة، وكان ينهى أصحابَه عن الوصال، فيقولون له إنَّك تُواصل، فيقول: "لَسْتُ كَهَيْئَتِكُم إنِّى أَبِيتُ وفى رواية: إنِّى أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّى يُطْعِمُنى وَيَسْقِينى".
وقد اختلف الناسُ فى هذا الطعام والشراب المذكورَيْنِ على قولين:
أحدهما: أنه طعامٌ وشراب حِسِّى للفم، قالوا: وهذه حقيقةُ اللفظ، ولا مُوجِبَ للعدُول عنها.
الثانى : أن المرادَ به ما يُغذِّيه الله به من معارفه، وما يَفيضُ على قلبه مِن لذة مناجاته، وقُرةِ عينه بقُربه، وتنعُّمِه بحبه، والشوقِ إليه، وتوابع ذلك من الأحوالِ التى هى غذاءُ القلوب، ونعيمُ الأرواح، وقرةُ العين، وبهجةُ النفوسِ والرُّوح والقلب بما هو أعظمُ غذاء وأجودُه وأنفعه، وقد يقوى هذا الغذاء حتى يُغْنىَ عن غِذاء الأجسام مدةً من الزمان، كما قيل:

لَها أحَادِيثُ مِنْ ذِكْراكَ تَشْغَلُهَا ... عَنِ الشَّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنِ الزَّادِ
لَها بِوَجْهِكَ نُورٌ تَسْتَضِىءُ بِهِ ... وَمِنْ حَدِيثِك فى أعْقابِهَا حَادِى
إذا شَكَتْ مِن كَلالِ السَّيْرِ أوْعدَهَا ... رَوْحُ القُدومِ فَتَحْيا عِنْدَ ميعاد
ومَن له أدنى تجربةٍ وشوق، يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغِذاء الحيوانى، ولا سيما المسرورَ الفرحانَ الظافرَ بمطلوبه الذى قد قرَّت عينُه بمحبوبه، وتنعَّم بقربه، والرِّضى عنه، وألطاف محبوبه وهداياه، وتحفه تصل إليه كُلَّ وقت، ومحبوبُه حفى به، معتنٍ بأمره، مُكرِمٌ له غايةَ الإكرام مع المحبة التامة له، أفليسَ فى هذا أعظمُ غِذاء لهذا المحب فكيف بالحبيب الذى لا شئ أجلُّ منه، ولا أعظم، ولا أجملُ، ولا أكملُ، ولا أعظمُ إحساناً إذا امتلأ قلبُ المُحِبِّ بحبُه، ومَلَكَ حبُّه جميعَ أجزاء قلبه وجوارحه، وتمكَّن حبُّه منه أعظمَ تمكُّن، وهذا حالُه مع حبيبه، أفليس هذا المُحِبُّ عند حبيبه يُطعمُه ويَسقيه ليلاً ونهاراً؟ ولهذا قال: "إنِّى أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّى يُطْعِمُنى ويَسْقِينى". ولو كان ذلك طعاماً وشراباً للفم، لما كان صائماً فضلاً عن كونه مواصلاً، وأيضاً فلو كان ذلك فى الليل، لم يكن مُواصِلاً، ولقال لأصحابه إذ قَالُوا له: إنَّك تُواصِلُ: "لَسْتُ أواصلُ". ولم يقل: "لَسْتُ كَهَيْئَتِكُم"، بل أقرَّهم على نسبة الوصال إليه، وقطع الإلحاق بينه وبينهم فى ذلك، بما بيَّنه من الفارق، كما فى صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن عمر، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واصل فى رمضان، فواصلَ الناسُ، فنهاهم، فقيل له: أنت تُواصِلُ، فقال: "إنِّى لَسْتُ مِثْلَكُم إنِّى أُطْعَمُ وأُسْقَى".
وسياق البخارى لهذا الحديث: نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الوِصَال،

فقالوا: إنك تُواصِلُ. قال: "إنى لَسْتُ مِثْلَكُم إنِّى أُطْعَمُ وَأُسْقَى".
وفى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الوِصَال، فقال رجل من المسلمين: إنكَ يا رسولَ الله تُواصِل، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وأَيُّكُم مِثْلى، إنِّى أَبيتُ يُطْعِمُنى رَبِّى وَيَسْقِينى".
وأيضاً: فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نهاهم عن الوِصَال، فأبوا أن ينتهوا، واصلَ بهم يوماً، ثم يوماً، ثم رأوا الهلال فقال: "لو تَأَخَّرَ الهِلال، لزِدْتُّكم ". كالمُنكِّل لهم حينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الوِصَال.
وفى لفظ آخر: "لو مُدَّ لنا الشَّهْرُ لوَاصَلْنا وِصَالاً يَدَعُ المُتَعَمِّقُون تَعَمُّقَهم، إنِّى لَسْتَُ مِثْلَكُمْ أو قال: إنَّكُم لَسْتُم مِثْلى فإنِّى أَظَلُّ يُطْعِمُنى ربِّى ويَسْقِينى" فأخبر أنه يُطعَم ويُسقَى، مع كونه مُواصِلاً، وقد فعل فعلهم منكِّلاً بهم، معجِّزاً لهم فلو كان يأكل ويشرب، لما كان ذلك تنكيلاً، ولا تعجيزاً، بل ولا وِصَالاً، وهذا بحمد الله واضح.
وقد نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الوِصَال رحمة للأُمة، وأذِن فيه إلى السَّحَر، وفى صحيح البخارى، عن أبى سعيد الخدرى، أنه سَمِعَ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لا تُواصِلوا فَأَيُّكُم أراد أنْ يُواصِل فَلْيُوَاصِل إلى السَّحَر".

فإن قيل: فما حُكمُ هذه المسألة، وهل الوِصَال جائز أو محرَّم أو مكروه؟ قيل: اختلف الناسُ فى هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه جائز إن قَدَرَ عليه، وهو مروى عن عبد الله بن الزبير وغيره من السَلَف، وكان ابن الزبير يُواصِل الأيام، ومِنْ حُجةِ أرباب هذا القول، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واصل بالصحابة مع نهيه لهم عن الوِصَال، كما فى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة، أنه نهى عن الوِصَال وقال: "إنِّى لستُ كَهَيْئَتِكُم" فلما أَبَوْا أن يَنْتَهُوا، واصَلَ بِهِمْ يوماً، ثم يوماً، فهذا وِصاله بهم بعد نهيه عن الوِصال، ولو كان النهى للتحريم، لما أَبَوْا أن ينتهوا، ولما أقرَّهم عليه بعد ذلك. قالوا: فلما فعلُوه بعد نهيه وهو يعلَم ويُقِرُّهم، عُلِمَ أنه أراد الرحمة بهم، والتخفيفَ عنهم، وقد قالت عائشةُ: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الوِصال رحمة لهم متفق عليه.
وقالت طائفة أخرى: لا يجوز الوِصال، منهم: مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، والثورى، رحمهم الله، قال ابنُ عبد البر وقد حكاه عنهم: إنهم لم يُجيزوه لأحد.
قلت: الشافعى رحمه الله نصَّ على كراهته، واختلف أصحابُه، هل هى كراهة تحريم أو تنزيه؟ على وجهين، واحتج المحرِّمون بنهى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: والنهىُ يقتضى التحريم. قالوا: وقول عائشة: "رحمة لهم" لا يمنع أن يكون للتحريم، بل يُؤكده، فإن مِن رحمته بهم أن حرَّمه عليهم، بل سائرُ مناهيه للأمة رحمةٌ وحِمْيةٌ وصيانةٌ. قالوا: وأما مُواصلتُه بهم بعد نهيه، فلم يكن تقريراً لهم، كيف وقد نهاهم، ولكن

تقريعاً وتنكيلاً، فاحتمل منهم الوِصال بعد نهيه لأجل مصلحة النهى فى تأكيد زجرهم، وبيانِ الحِكمة فى نهيهم عنه بظهور المفسدة التى نهاهم لأجلها، فإذا ظهرت لهم مفسدةُ الوِصال، وظهرت حِكمةُ النهى عنه، كان ذلك أدعى إلى قبولهم، وتركِهم له، فإنهم إذا ظهر لهم ما فى الوِصال، وأحسُّوا منه الملل فى العبادة والتقصير فيما هو أهمُّ وأرجحُ مِن وظائف الدِّين من القوةِ فى أمر الله، والخشوع فى فرائضه، والإتيانِ بحقوقها الظاهرة والباطنة، والجوعُ الشديدُ يُنافى ذلك، ويحولُ بين العبد وبينه، تبيَّن لهم حِكمةُ النهى عن الوِصال والمفسدةُ التى فيه لهم دُونَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالوا: وليس إقرارُه لهم على الوِصال لهذه المصلحة الراجحة بأعظمَ مِن إقرار الأعرابى على البول فى المسجد لمصلحة التأليف، ولئلا يُنَفَّرَ عن الإسلام، ولا بأعظم من إقراره المسئ فى صلاته على الصلاة التى أخبرهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها ليست بصلاة، وأن فاعلها غيرُ مصلٍّ، بل هى صلاةٌ باطلة فى دِينه فأقرَّه عليها لمصلحة تعليمه وقبوله بعد الفراغ، فإنه أبلغُ فى التعليم والتعلُّم، قالوا: وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أمَرْتُكم بأَمْرٍ، فأْتوا مِنْه ما اسْتَطَعْتُم، وإذا نَهَيْتُكم عن شئ فاجْتَنِبُوه"

قالوا: وقد ذُكِرَ فى الحديث ما يَدُلُّ على أن الوِصال مِن خصائصه. فقال: "إنِّى لَسْتُ كَهَيْئَتِكُم" ولو كان مباحاً لهم، لم يكن من خصائصه.
قالوا: وفى "الصحيحين" من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنا، وأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنا، وَغَرَبت الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَر الصَّائِم".
وفى "الصحيحين" نحوه من حديث عبد الله بن أبى أَوفى. قالوا: فجعله مفطراً حكماً بدخول وقت الفطر وإن لم يفطر، وذلك يُحيل الوِصال شرعاً.
قالوا: وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تَزالُ أُمَّتى على الفِطْرة أو لا تَزالُ أُمَّتى بَخَيْر ما عَجَّلُوا الفِطْر".
وفى السنن عن أبى هريرة عنه: "لا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِراً مَا عَجَّلَ النَّاسُ الفِطْرَ، إنَّ اليَهُودَ والنَّصَارَى يُؤخِّرُونَ".
وفى السنن عنه، قال: قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: "أَحَبُّ عِبَادِى إلىَّ أَعْجَلُهُمْ

فِطْراً". وهذا يقتضى كراهة تأخير الفِطر، فكيف تركُه، وإذا كان مكروهاً، لم يكن عبادة، فإن أقلَّ درجاتِ العبادة أن تكونَ مُستحَبة.
والقول الثالث وهوأعدلُ الأقوال: أن الوِصال يجوز من سَّحَر إلى سَّحَر، وهذا هو المحفوظ عن أحمد، وإسحاق، لحديث أبى سعيد الخُدرى، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لا تُواصلوا فأَيُّكم أراد أنْ يُواصِل فليواصل إلى السَّحَر". رواه البخاري وهو أعدلُ الوِصال وأسهلُه علِى الصائم، وهو فى الحقيقة بمنزلة عشائه إلا أنه تأخَّر، فالصائم له فى اليوم والليلة أكلة، فإذا أكلها فى السَّحَر، كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره.. والله أعلم.
فصل
[فى أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يدخل فى صوم رمضان إلا برؤية محققة أو بشهادة شاهد واحد]
وكان من هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا يدخُل فى صوم رمضان إلا بُرؤيةٍ محقَّقة، أو بشهادة شاهدٍ واحد، كما صام بشهادة ابن عمر، وصام مرة بشهادة أعرابى، واعتمد على خبرهما، ولم يُكلِّفْهما لفظَ الشهادة. فإن كان ذلك

إخباراً، فقد اكتفى فى رمضان بخبر الواحد، وإن كان شهادة، فلم يُكلِّف الشاهدَ لفظَ الشهادة، فإن لم تكن رؤيةٌ، ولا شهادةٌ، أكمل عِدَة شعبان ثلاثين يوماً.
وكان إذا حال ليلةَ الثلاثين دون منظره غيمٌ أو سحاب، أكمل عِدَّة شعبان ثلاثين يوماًً، ثم صامه. ولم يكن يصوم يومَ الإغمام، ولا أمرَ به، بل أمر بأن تُكمَّل عِدة شعبان ثلاثين إذا غُمَّ، وكان يفعل كذلك، فهذا فعله، وهذا أمرُه، ولا يُنَاقِضُ هذا قوله: "فإنْ غُمَّ عَلَيْكُم فاقْدُرُوا له"، فإن القدر: هو الحِسابُ المقدَّر، والمراد به الإكمال كما قال: "فأَكْمِلُوا العِدَّة" والمراد بالإكمال، إكمالُ عِدَّة الشهر الذى غُمَّ، كما قال فى الحديث الصحيح الذى رواه البخارى: "فأَكْمِلُوا عِدَّة شَعبان". وقال: "لا تَصُوموا حَتَّى تَروهُ، ولا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْه، فإن غُمَّ عليكم فأكْمِلوا العِدَّة" والذى أمر بإكمال عِدَّته، هو الشهرُ الذى يغم، وهو عند صيامه وعند الفطر منه، وأصرحُ من هذا قوله: "الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وعِشْرون، فلا تَصُومُوا حَتَّْى تَرَوه، فإنْ غُمَّ عليكم فأَكْمِلُوا العِدَّة"، وهذا راجع إلى أول الشهر بلفظه وإلى آخره بمعناه، فلا يجوز إلغاء ما دلَّ عليه لفظُه، واعتبارُ ما دلَّ عليه من جهة المعنى. وقال: "الشَّهْرُ ثَلاثون، والشَّهْرُ تِسْعَةٌ وعِشْرون، فإنْ غُمَّ عليكم فَعُدُّوا ثَلاثين".

وقال: "لا تَصُومُوا قَبْلَ رَمَضَانَ، صُومُوا لِرٌوْيَتِهِ، وأَفْطِروا لِرُؤيتِهِ، فإن حَالَتْ دَونَه غَمَامَةٌ فأكْمِلُوا ثلاثين".
وقال: "لا تَقدَّموا الشَّهْرَ حَتَّى ترَوُا الهِلال، أوْ تُكْمِلوا العِدَّة، ثُمَّ صُومُوا حَتَّى تَرَوُا الهِلاَلَ، أَوْ تُكْمِلوا العِدَّة".
وقالت عائشة رضى الله عنها:
"كانَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحفَّظُ مِنْ هِلالِ شَعْبَانِ مَا لاَ يَتَحَفَّظُ مِنْ غيره، ثم يَصُومُ لِرُؤيَتِهِ، فإن غُمَّ عَلَيْهِ، عَدَّ شَعْبَانَ ثَلاثينَ يَوْماً، ثُمَّ صَام" صححه الدارقطنى وابن حبان.
وقال: "صُومُوا لرُؤْيتِه، وأَفْطِروا لِرُؤْيتِه، فإنْ غُمَّ عَلَيْكُم، فاقْدُرُوا ثَلاثين".
وقال: "لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْه، ولا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْه، فإنْ أُغْمى عَلَيْكُم، فاقْدُرُوا لَهُ".
وقال: "لا تَقَدَّمُوا رَمَضَان". وفى لفظ: "لا تَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَىْ رَمَضَان

بِيَومٍ، أَوْ يَوْمَيْن، إلاَّ رَجُلاً كان يَصُومَ صِيَاماً فَلْيَصُمْهُ".
والدليل على أن يومَ الإغمام داخلٌ فى هذا النهى، حديثُ ابن عباس يرفعه: "لا تَصُومُوا قَبْلَ رَمَضان، صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فإن حَالَتْ دُونَهُ غَمَامَةٌ، فأَكْمِلُوا ثَلاثِينَ" ذكره ابن حبان فى صحيحه.
فهذا صريح فى أن صومَ يوم الإغمام مِن غير رُؤية، ولا إكمالِ ثلاثين صومٌ قَبْلَ رمضان.
وقال: "لا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ إلاَّ أَنْ تَرَوُا الهِلالَ، أَوْ تُكْمِلُوا العِدَّة، ولا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوُا الهِلالَ، أَوْ تُكْمِلُوا العِدَّةَ".
وقال: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فإنْ حَالَ بَيْنَكُم وَبَيْنَهُ سَحَاب، فَأَكْمِلُوا العِدَّة ثَلاثين، ولا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالاً". قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
وفى النسائى: من حديث يونس، عن سِماك، عن عكرمة، عن ابن عباس يرفعه"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فإنْ غُمَّ عَلَيْكُم، فَعُدُّوا

ثَلاثين يَوْماً، ثُمَّ صُومُوا، ولا تَصُومُوا قَبْلَه يَوْماً، فإن حَال بَيْنَكُم وبينه سَحَابٌ، فَأَكْمِلُوا العِدَّة عِدَّةَ شَعْبَان".
وقال سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، تمارى الناسُ فى رؤية هلال رمضان، فقال بعضُهم: اليومَ. وقال بعضهم: غداً. فجاء أعرابى إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر أنَّه رآه، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَشْهَدُ أَنْ لا إله إلاَّ الله، وأَنَّ مُحَمَّداً رَسولْ الله"؟ قال: نعم. فأمَر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلالاً، فَنَادَى فى النَّاسِ: صُومُوا. ثم قال: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِه، فإنْ غُمَّ عَلَيْكُم فَعُدُّوا ثَلاثين يَوْماً، ثُمَّ صُومُوا، ولا تَصُومُوا قَبْلَه يَوْماً".
وكل هذه الأحاديث صحيحةٌ، فبعضُها فى "الصحيحين" وبعضها فى صحيح ابن حبان، والحاكم، وغيرهما، وإن كان قد أُعِلَّ بعضُها بما لا يقدَحُ فى صحة الاستدلال بمجموعها، وتفسير بعضها ببعض، واعتبار بعضها ببعض، وكلها يُصدِّقُ بعضُها بعضاً، والمراد منها متفق عليه.
فإن قيل: فإذا كان هذا هَدْيَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف خالفه عُمَرُ بن الخطاب، وعلىُّ بنُ أبى طالب، وعبدُ الله بن عمر، وأنسُ بن مالك، وأبو هريرة، ومعاوية، وعمرو بن العاص، والحكمُ بن أيوب الغفارى، وعائشةُ وأسماء ابنتا أبى بكر، وخالفه سالمُ بن عبد الله، ومجاهد، وطاووس، وأبو عثمان النَّهْدى، ومطرِّف بن الشِّخِّير، وميمون بن مِهران، وبكر بن عبد الله المزنى، وكيف خالفه إمامُ أهلِ الحديث والسُّنَّة، أحمدُ ابنُ حنبل، ونحن نُوجدكم أقوال هؤلاء مسندة؟
فأما عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فقال الوليد بن

مسلم: أخبرنا ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، أن عمر بن الخطاب كان يصوم إذا كانت السماء فى تلك الليلة مغيمة ويقول: ليس هَذَا بالتقدُّم، ولكنَّه التحرِّى.
وأما الرواية عن علىٍّ رضى الله عنه، فقال الشافعى: أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدَّراوردى، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن أمه فاطمة بنت حسين، أن علىَّ بن أبى طالب قال: لأن أصومَ يوماً من شعبان، أحبُّ إلىَّ من أن أُفْطِرَ يوماً من رمضان.
وأما الرواية عن ابن عمر: ففى كتاب عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن عمر قال: كان إذا كان سحابٌ أصبحَ صائماً، وإن لم يكن سحاب، أصبح مفطراً.
وفى "الصحيحين" عنه، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا رَأَيْتُمُوه، فَصُومُوا، وإذا رَأَيْتُمُوه فَأَفْطِرُوا، وإنْ غُمَّ عَلَيْكُم فاقْدُرُوا له". زاد الإمام أحمد رحمه الله بإسناد صحيح، عن نافع قال: كان عبد الله إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوماً، يَبْعَثُ مَن ينظرُ، فإن رأى، فذاك، وإن لم يَر، ولم يَحُلْ دون منظره سحابٌ ولا قتر، أصبح مفطراً، وإن حال دون منظره سحابٌ أو قَتَر أصبح صائماً.
وأما الرواية عن أنس رضى الله عنه: فقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل

بن إبراهيم، حدثنا يحيى بن أبى إسحاق قال: رأيتُ الهِلال إما الظهرَ، وإِما قريباً منه، فأفطر ناسٌ من الناس، فأتينا أنسَ بن مالِكٍ، فأخبرناه برؤية الهلال وبإفطار مَن أفطر، فقال: هذا اليوم يكمل لى أحد وثلاثون يوماً، وذلك لأن الحكم بن أيوب، أرسل إلىَّ قبلَ صيام الناس: إنى صائم غداً، فكرهتُ الخلافَ عليه، فصمتُ وأنا مُتِمٌّ يومى هذا إلى الليل.
وأما الرواية عن معاوية، فقال أحمد: حدثنا المغيرة، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، قال: حدثنى مكحول، ويونس بن ميسرة بن حَلْبَس، أن معاوية ابن أبى سفيان كان يقول: لأن أَصُومَ يوماً مِنْ شعبانَ، أحبُّ إلىَّ من أن أُفْطِرَ يوماً مِنْ رمضان.
وأما الروايةُ عن عمرو بن العاص. فقال أحمد: حدثنا زيدُ بن الحباب، أخبرنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن هُبَيْرَةَ، عن عمرو بن العاص، أنه كان يصومُ اليومَ الذى يُشَك فيه من رمضان وأما الرواية عن أبى هُريرة، فقال: حدثنا عبدُ الرحمن بن مهدى، حدثنا معاويةُ بن صالح، عن أبى مريم مولى أبى هُريرة قال: سمعتُ أبا هُريرة يقول: لأن أتعجَّل فى صَوْمِ رَمَضَانَ بيوم، أحبُّ إلىَّ من أن أتأخر، لأنى إذا تَعَجَّلْتُ لم يَفُتْنى، وإذا تأخَّرت فاتَنى.
وأما الرواية عن عائشة رضى الله عنها، فقال سعيدُ بن منصور: حدثنا أبو عوانة عن يزيد بن خُمير، عن الرسول الذى أتى عائشة فى اليوم الذى يُشك فيهِ من رمضان قال: قالت عائشة: لأن أَصُوم يَوْماً مِن شَعْبَانَ، أحبُّ إلىَّ مِن أَنْ أُفْطِرَ يوماً مِنْ رَمَضَانَ.

وأما الرواية عن أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما، فقال سعيد أيضاً: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر قالت: ما غُمَّ هلالُ رمضان إلا كانت أسماءُ متقدِّمةً بيوم، وتأمُرُ بتقدُّمه.
وقال أحمد: حدثنا روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة، عن أسماء، أنها كانت تصومُ اليوم الذى يُشك فيه من رمضان.
وكل ما ذكرناه عن أحمد، فمن مسائل الفضل بن زياد عنه.
وقال فى رواية الأثرم: إذا كان فى السماء سحابةٌ أو عِلَّة، أصبح صائماً، وإن لم يكن فى السماء عِلَّة، أصبح مفطراً، وكذلك نقل عنه ابناه صالح، وعبد الله، والمروزى، والفضل بن زياد، وغيرهم.
فالجواب من وجوه.
أحدها: أن يُقال: ليس فيما ذكرتُم عن الصحابة أثرٌ صالح صريح فى وجوب صومه حتى يكون فعلُهم مخالفاً لهَدْى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما غايةُ المنقولِ عنهم صومُه احتياطاً، وقد صرَّح أنس بأنه إنما صامه كراهةً للخلاف على الأمراء، ولهذا قال الإمام أحمد فى رواية: الناسُ تبعٌ للإمام فى صومه وإفطاره، والنصوصُ التى حكيناها عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن فعله وقوله، إنما تدُلُّ على أنه لا يجب صومُ يوم الإغمام، ولا تدُلُّ على تحريمه، فَمَنْ أفطره، أخذ بالجواز، ومَنْ صامه، أخذ بالاحتياط.
الثانى : أن الصحابة كان بعضُهم يصومُه كما حكيتُم، وكان بعضُهم لا يصُومه، وأصحُ وأصرحُ مَن رُوى عنه صومُه: عبد الله بن عمر، قال ابن عبد البر: وإلى قوله ذهب طاووس اليمانى، وأحمد بن حنبل، ورُوى مثلُ ذلك عن عائشة وأسماء ابنتى أبى بكر، ولا أعلم أحداً ذهب مذهب ابن عمر

غيرهم، قال: وممن رُوى عنه كراهةُ صومِ يومِ الشَّكِ، عُمَرُ بنُ الخطاب، وعلىُ بن أبى طالب، وابن مسعود، وحذيفة، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس بن مالك رضى الله عنهم.
قلت: المنقول عن علىّ، وعمر، وعمار، وحذيفة، وابن مسعود، المنع من صيام آخر يوم من شعبان تطوعاً، وهو الذى قال فيه عمار: مَنْ صَامَ اليَوْمَ الَّذِى يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبا القَاسِم.
فأما صومُ يوم الغيم احتياطاً على أنه إن كان من رمضان، فهو فرضُه وإلا فهو تطوعٌ، فالمنقُولُ عن الصحابة، يقتضى جوازه، وهو الذى كان يفعلُه ابنُ عمر، وعائشة، هذا مع رواية عائشة: أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان إذا غُمَّ هلالُ شعبان، عدَّ ثلاثين يوماً ثم صام، وقد رُدَّ حديثُها هذا، بأنه لو كان صحيحاًِ، لما خالفته، وجعل صيامها عِلَّةً فى الحديث، وليس الأمرُ كذلك، فإنها لم تُوجب صيامه، وإنما صامته احتياطاً، وفهمت من فعل النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمره أن الصيامَ لا يجبُ حتى تكمُل العِدَّة، ولم تفهم هى ولا ابنُ عمر، أنه لا يجوز.
وهذا أعدل الأقوال فى المسألة، وبه تجتمِع الأحاديثُ والآثار، ويدل عليه ما رواه معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهلال رمضان: "إذا رأيتُمُوه فصُوموا، وإذا رأيتُمُوه فأفطروا، فإنْ غُمَّ عليكم، فاقْدُرُوا له ثلاثين يوماً". ورواه ابن أبى روّاد، عن نافع عنه: "فإنْ غُمَّ عليكم، فأكْمِلُوا العِدَّة ثَلاثين ".

وقال مالك وعبيد الله عن نافع عنه: "فاقْدُرُوا لَه". فدل على أن ابن عمر، لم يفهم من الحديثِ وجوب إكمال الثلاثين، بل جوازه، فإنه إذا صام يومَ الثلاثين، فقد أخذ بأحد الجائزين احتياطاً، ويدل على ذلك، أنه رضى الله عنه، لو فَهِم من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْدُرُوا له تسعاً وعشرين، ثم صُومُوا" كما يقولُه الموجبون لصومه، لكان يأمر بذلك أهلَه وغيرهم، ولم يكن يقتصِرُ على صومه فى خاصة نفسه، ولا يأمر به، ولبيَّن أن ذلك هو الواجب على الناس.
وكان ابن عباس رضى الله عنه، لا يُصومه ويحتجُّ بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الهِلاَلَ، ولا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فإنْ غُمَّ عَلَيْكُم، فأَكْمِلُوا العِدَّةَ ثلاثين".
وذكر مالك فى موطئه هذا بعد أن ذكر حديث ابن عمر، كأنه جعله مفسِّراً لحديث ابن عمر، وقوله: "فاقْدُرُوا لَه".
وكان ابن عباس يقول: عجبتُ ممن يتقدم الشهر بيوم أو يومين، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِيَوْمٍ وَلاَ يَوْمَيْنِ" كأنه يُنكِرُ على ابن عمر.
وكذلك كان هذان الصاحبان الإمامان، أحدهما يميل إلى التشديد، والآخر إلى الترخيص، وذلك فى غير مسألة. وعبد الله بن عمر: كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يُوافقه عليها الصحابة، فكان يغسِلُ داخل عينيه فى الوضوء حتى عَمِىَ من ذلك، وكان إذا مسَح رأسه، أفردَ أُذنيه بماءٍ جديد، وكان يمنعُ مِن دخول الحمَّام، وكان إذا دخله، اغتسل منه، وابن عباس: كان يدخل الحمَّام، وكان ابن عمر يتيمم بضربتين: ضربةٍ للوجه، وضربةٍ لليدين إلى المرفقين، ولا يقتصر على ضربة واحدة، ولا على الكفَّين، وكان

ابن عباس يُخالفه، ويقول: التيمم ضربة للوجه والكفَّين، وكان ابنُ عمر يتوضأ من قُبلة امرأته، ويُفتى بذلك، وكان إذا قبَّل أولاده، تمضمض، ثمَّ صلَّى، وكان ابنُ عباس يقول: ما أبالى قبَّلتُها أو شَمَمْتُ ريحاناً.
وكان يأمر مَن ذكر أنَّ عليه صلاةً وهو فى أخرى أن يُتمَّها ثم يُصلى الصلاة التى ذكرها، ثم يُعيد الصلاة التى كان فيها، وروى أبو يعلى المَوْصِلى فى ذلك حديثاً مرفوعاً فى مسنده والصواب: أنه موقوف على ابن عمر. قال البيهقى: وقد روىَ عن ابن عمر مرفوعاً ولا يصح، قال: وقد روىَ عن ابن عباس مرفوعاً، ولا يصح. والمقصود: أن عبد الله بن عمر كان يسلُك طريق التَّشديد والاحتياط. وقد روى معمر، عن أيوب، عن نافع عنه، أنه كان إذا أدرك مع الإمام ركعة أضاف إليها أخرى، فإذا فرغ من صلاته، سجد سجدتى السهو، قال الزهرى: ولا أعلم أحداً فعله غيره.
قلت: وكأنَّ هذا السجود لِمَا حصَل له مِن الجلوس عقيبَ الركعة، وإنما محلُّه عقيبَ الشفع.
ويدل على أن الصحابة لم يصُومُوا هذا اليوم على سبيل الوجوب، أنهم قالُوا: لأن نَصُومَ يوماً من شعبان، أحبُّ إلينا من أن نُفطر يوماً من رمضان، ولو كان هذا اليومُ من رمضان حتماً عندهم، لقالُوا: هذا اليوم من رمضان، فلا يجوز لنا فطره. والله أعلم.
ويدل على انهم إنما صاموه استحباباً وتحرِّياً، ما رُوى عنهم من فطره بياناً للجواز، فهذا ابن عمر قد قال حنبل فى مسائله: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد العزيز بن حكيم الحضرمى قال: سمعتُ ابن عمر يقول: لو صمتُ السنة كُلَّها لأَفْطرتُ اليومَ الَّذى يُشَكُّ فيه.ر

قال حنبل: وحدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا عبيدة بنُ حُميدٍ قال: أخبرنا عبد العزيز بن حكيم قال: سألوا ابنَ عمر. قالوا: نَسْبِقُ قبل رمضانَ حتىلا يفوتنا منه شئ؟ فَقَال: أُفٍّ، أُفٍّ، صُومُوا مع الجماعة، فقد صح عن ابنِ عُمَرَ، أنه قال: لا يتقدَّمَنَّ الشهرَ منكم أحدٌ، وصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أنه قال: "صُومُوا لِرُؤية الهِلالِ، وأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فإنْ غُمَّ عَلَيْكُم، فَعُدُّوا ثَلاثِينَ يوماً".
وكذلك قال علىُّ بن أبى طالب رضىَ الله عنه: إذا رأيتم الهِلال، فصُومُوا لرؤيته، وإذا رأيتُمُوه، فأفطِروا، فإن غُمَّ عليكم، فأكْمِلُوا العِدَّة.
وقال ابن مسعود رضى الله عنه: فإنْ غُمَّ عليكم، فعُدُّوا ثلاثين يوماً.
فهذه الآثار إن قُدِّرَ أنها معارِضة لتلك الآثار التى رُويت عنهم فى الصوم، فهذه أولى لموافقتها النصوص المرفوعة لفظاً ومعنى، وإن قُدِّرَ أنها لا تعَارُضَ بينها، فههنا طريقتان من الجمع، إحداهما: حملها على غيرِ صورة الإغمام، أو على الإغمام فى آخر الشهر كما فعله الموجبون للصوم.
والثانية: حملُ آثارِ الصوم عنهم على التحرِّى والاحتياط استحباباً لا وجوباً، وهذه الآثارُ صريحة فى نفى الوجوب، وهذه الطريقة أقربُ إلى موافقة النصوص، وقواعدِ الشرع، وفيها السلامةُ من التفريق بين يومين متساويين فى الشَّكِ، فيُجعلُ أحدهما يوم شك، والثانى يومَ يقين، مع حصولِ الشك فيه قطعاً، وتكليفُ العبد اعتقاد كونه من رمضان قطعاً، مع شكِّه هل هو منه، أم لا؟ تكليفٌ بما لا يُطاق، وتفريقٌ بين المتماثلين، والله أعلم.
فصل
وكان من هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرُ الناس بالصَّوْمِ بشهادةِ الرجل الواحد المسلم،

وخروجِهم منه بشهادة اثنين وكان من هَدْيه إذا شهد الشاهدان برؤية الهلال بعد خروج وقت العيد، أن يُفْطِرَ، ويأمرَهم بالفِطر، ويُصلِّى العيد من الغد فى وقتها.
وكان يُعجِّلُ الفطر، ويحضُّ عليه، ويتسحَّرُ، ويحُثُّ على السَّحور ويؤخِّرُه، ويُرغِّبُ فى تأخيره.
وكان يحضُّ على الفطر بالتمر، فإن لم يجد، فعلى الماء، هذا من كمال شفقته على أُمته ونُصحِهم، فإن إعطاء الطبيعة الشئ الحلو مع خُلُوِّ المعدَة، أدعى إلى قبوله، وانتفاع القُوى به، ولا سيما القوةَ الباصرةَ، فإنها تقوى به، وحلاوةُ المدينة التمرُ، ومرباهم عليه، وهو عندهم قوتٌ، وأُدْمٌ، ورُطَبُه فاكهة. وأما الماء، فإن الكَبِدَ يحصُل لها بالصَّوْم نوعُ يبس. فإذا رطبت بالماء

كمل انتفاعُها بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى بالظمآن الجائع، أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليل من الماء، ثم يأكُلَ بعده، هذا مع ما فى التمر والماء من الخاصية التى لها تأثير فى صلاح القلب لا يعلمُها إلا أَطِبَّاءُ القلوب.
فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِر قبل أن يُصلِّىَ، وكان فِطْرُه على رطبات إن وجدها، فإن لم يجدها، فعلى تمرات، فإن لم يجد، فعلى حسواتٍ من ماءٍ.
ويُذكر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يقول عِند فطره: "اللهُمَّ لَك صمت وعلي رزقك أفطرت فتقبل منا إنك أنت السميع العليم" ولا يثبت
وروي عنه أيضاً، أنه كان يقول: "اللهُمَّ لَكَ صُمْتُ وعَلَى رِزْقِكَ أفْطَرْتُ "ذكره أبو داود عن معاذ بن زهرة، أنه بلغه، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول ذلك.

وروى عنه، أنه كان يقول، إذا أفطر: "ذَهَبَ الظَّمَأُ، وابْتَلَّتِ العُروقُ، وثَبَتَ الأجْرُ إن شاء الله تعالى" ذكره أبو داود من حديث الحسين بن واقد، عن مروان بن سالم المقفع، عن ابن عمر.
ويُذكر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن للصَّائم عِنْدَ فِطْرِه دَعْوَةً ما تُرَدُّ" . رواه ابن ماجه.
وصح عنه أنه قال: "إذا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهنا، وأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ ههنا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ". وفُسِّرَ بأَنه قد أفطر حكماً، وإن لم ينوه، وبأنه قد دخل وقتُ فِطره، كأصبح وأمسى، ونهى الصائِم عن الرَّفَث، والصَّخَب والسِّباب وجوابِ السِّباب، فأمره أن يقول لمن سابَّه: "إنِّى صائم"، فقيل: يقوله بلسانه وهو أظهرُ، وقيل: بقلبه تذكيراً لنفسه بالصوم، وقيل: يقوله فى الفرض بلسانه، وفى التطوع فى نفسه، لأنه أبعد عن الرياء.
فصل
وسافر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رمضان، فصام وأفطر، وخيَّرَ الصحابة بين الأمرين.

وكان يأمرهم بالفطر إذا دَنَوْا مِنْ عدوهم لِيتقوَّوْا على قتالِهِ فلو اتفق مثلُ هذا فى الحَضَر وكان فى الفطر قُوة لهم على لقاء عدوِّهم، فهل لهم الفطر؟ فيه قولان، أصحُّهُما دليلاً: أن لهم ذلك وهو اختيارُ ابن تيمية، وبه أفتى العساكر الإسلامية لمَّا لَقُوا العدوَّ بظاهر دمشق، ولا ريبَ أن الفِطر لذلك أولى مِن الفطر لمجرد السفر، بل إباحةُ الفطر للمسافر تنبيهٌ على إباحته فى هذه الحالة، فإنها أحقُّ بجوازه، لأن القوة هناك تختصُّ بالمسافر، والقوة هنا له وللمسلمين، ولأن مشقة الجهاد أعظمُ مِن مشقة السفر، ولأن المصلحة الحاصلَة بالفطر للمجاهد أعظمُ من المصلحة بفطر المسافر، ولأن الله تعالى قال: {وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. والفِطرُ عند اللقاء، من أعظم أسباب القوة.
والنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد فسَّرَ القوة، بالرمى وهو لا يَتِمُّ ولا يحصلُ به

مقصوده، إلا بما يُقوى ويعين عليه من الفطر والغذاء، ولأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للصحابة لما دنوا من عدوهم: "إنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُم، والفِطْر أَقْوَى لَكُم". وكانت رُخْصَةً، ثُمَّ نَزَلُوا مَنْزِلاً آخَرَ فَقَال: "إنَّكُم مُصَبِّحُو عَدُوِّكُم، والفِطْرُ أَقْوَى لَكُم، فَأَفْطِرُوا" فَكَانَتْ عزمةً فأفطرنا، فعلَّل بدنوهم من عدوهم واحتياجهم إلى القوة التى يلقَوْن بها العدوَّ، وهذا سببٌ آخرُ غير السفر، والسفرُ مستقِلٌ بنفسه، ولم يذكره فى تعليله، ولا أشار إليه، فالتعليل به اعتباراً لما ألغاه الشارع فى هذا الفطر الخاص، وإلغاءُ وصف القوة التى يُقاوَم بها العدو، واعتبارُ السفر المجرد إلغاءٌ لما اعتبره الشارع وعلَّل به.
وبالجملة.. فتنبيهُ الشارع وحِكمته، يقتضى أن الفطر لأجل الجهاد أولى منه لمجرد السفر، فكيف وقد أشار إلى العِلَّة، ونبَّه عليها، وصرَّح بحكمها، وعزم عليهم بأن يفطروا لأجلها. ويدل عليه، ما رواه عيسى بن يونس، عن شعبة، عن عمرو بن دينار قال: سمعتُ ابنَ عمر يقول: قالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه يَوْمَ فَتْحِ مَكَّة: "إنَّه يَوْمُ قِتَالٍ فَأَفْطِرُوا" تابعه سعيد بن الربيع، عن شعبة، فعلَّل بالقتال، ورتب عليه الأمر بالفطر بحرف الفاء، وكل أحد يفهمُ من هذا اللفظ أن الفطر لأجل القتال، وأما إذا تجرَّد السفرُ عن الجهاد، فكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول فى الفطر: هى رُخْصَةٌ مِنَ الله، فمَن أخذ بها، فحسن، ومَن أحبَّ أن يصوم، فلا جُنَاح عليه.

فصل
وسافر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رمضان فى أعظم الغزواتِ وأجلّها فى غَزَاة بدرٍ، وفى غَزَاة الفتح.
قال عمر بن الخطاب: "غزوْنَا مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رمضان غزوتين: يَوْمَ بَدْرٍ، والفَتْحَ، فَأَفْطَرْنَا فيهِمَا".
وأما ما رواه الدارقطنى وغيرُه، عن عائشة قالت: خرجتُ مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى عُمرة فى رمضان فأفطر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصمت، وقصر وأتممت. فغلط، إما عليها وهو الأظهر، أو منها وأصابها فيه ما أصاب ابن عمر فى قوله: اعتمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رجب فقالت: يرحم اللهُ أبا عبد الرحمن، ما اعتمرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وهو معه، وما اعتمر فى رجب قطُّ. وكذلك أيضاً عُمَرُهُ كُلُّها فى ذى القَعْدَةِ، وما اعتمر فى رمضان قطُّ.
فصل
ولم يكن من هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقديرُ المسافةِ التى يفطر فيها الصائِمُ بحَدٍّ، ولا صحَّ عنْهُ فى ذَلِكَ شئ. وقد أفطر دِحيةُ بن خليفة الكَلْبِى فى سَفَرِ ثلاثةِ

أميال، وقالَ لمن صامَ: قد رَغِبُوا عَنْ هَدْى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان الصحابة حين يُنشئون السَّفر، يُفطِرُون مِن غير اعتبار مجاوزةِ البُيوت، ويُخبرون أن ذلك سُّنَّته وهَدْيُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال عُبيد بن جَبْرٍ: ركِبْتُ مع أبى بَصرة الغفارى صاحب رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سفينةٍ من الفُسْطَاطِ فى رَمَضَانَ، فلم يُجَاوِزِ البُيُوتَ حَتَّى دَعَا بالسُّفْرَة. قال: اقترِبْ، قلتُ: ألستَ ترى البيوتَ؟ قال أبو بصرة: أترغب عن سُّنَّةِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ رواه أبو داود وأحمد. ولفظ أحمد: ركبتُ مع أبى بَصَرةَ من الفُسطاط إلى الإسكندرية فى سفينة، فلما دَنَوْنَا مِن مَرْسَاها، أمر بسُفرته، فقُرِّبَتْ، ثم دعانى إلى الغِذاء وذلك فى رمضان. فقلتُ: يا أبا بَصْرَة، والله ما تغيَّبت عنا منازِلُنا بعدُ؟ قال: أترغبُ عن سُّنَّة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقلتُ: لا. قال: فَكُل. قال: فلم نَزَلُ مُفطِرِينَ حتى بلغنا.
وقال محمد بن كعب: أتيتُ أنسَ بنَ مالك فى رمضان وهو يُريد سفراً، وقد رُحِلَتْ له راحِلَتُه، وقد لَبِسَ ثِيابَ السفر، فدعا بطعامٍ فأكل، فقلتُ له: سُّنَّة؟ قال: سُّنَّة، ثم رَكِبَ. قال الترمذى: حديث حسن،

وقال الدارقطنى فيه: فأَكل وقد تقارب غروب الشمس.
وهذه الآثار صريحة فى أن مَن أنشأ السفر فى أثناء يوم من رمضان فله الفطر فيه.
فصل
وكان مِن هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُدركه الفجر وهو جُنبٌ من أهله، فيغتسِلُ بعد الفجر ويصوم.
وكان يُقبِّلُ بعض أزواجه وهو صائم فى رمضان وشبَّه قُبلة الصائِم بالمضمضة بالماء.

وأما ما رواه أبو داود عن مِصْدَع بن يحيى، عن عائشة، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يُقبِّلُها وهو صَائِم، ويَمُصُّ لِسَانَها. فهذا الحديث، قد اختُلِفَ فيه، فضَّعفه طائفة بمِصْدَع هذا، وهو مختلَف فيه، قال السعدى: زائغ جائر عن الطريق، وحسَّنه طائفة، وقالوا: هو ثقة صدوق، روى له مسلم فى "صحيحه" وفى إسناده محمد بن دينار الطاحى البصرى، مختلف فيه أيضاً، قال يحيى: ضعيف، وفى رواية عنه، ليس به بأس، وقال غيره: صدوق، وقال ابن عدى: قوله: "ويمص لسانها"، لا يقوله إلا محمد بن دينار، وهو الذى رواه، وفى إسناده أيضاً سعد بن أوس، مختلف فيه أيضاً، قال يحيى: بصرى ضعيف، وقال غيره: ثقة، وذكره ابن حبان فى الثقات.
وأما الحديث الذى رواه أحمد، وابن ماجه، عن ميمونة مولاة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: سُئِلَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن رجل قبَّل امرأته وهما صائمان، فقال: "قد أفطر" فلا يصح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيه أبو يزيد الضِّنِّى رواه عن ميمونة، وهى بنت سعد، قال الدارقطنى: ليس بمعروف، ولا يثبت هذا، وقال البخارى: هذا لا أُحدِّث به، هذا حديثٌ منكر، وأبو يزيد رجل مجهول.
ولا يَصِحُّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التفريقُ بين الشاب والشيخ، ولم يجئ من وجه يثبت، وأجودُ ما فيه، حديث أبى داود عن نصر بن على، عن أبى أحمد الزبيرى: حدثنا إسرائيل، عن أبى العنبس، عن الأغرِّ، عن أبى هُريرة،

أن رجلاً سأل النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المباشرة للصَّائِم، فرخَّصَ له، وأتاه آخرُ فسأله فنهاه، فإذَا الذى رخَّصَ له شَيْخٌ، وإذا الذى نهاه شاب. وإسرائيل وإن كان البخارى ومسلم قد احتجا به وبقية الستة فعِلَّة هذا الحديث أن بينه وبين الأغرِّ فيه أبا العنبس العدوى الكوفى، واسمه الحارث بن عبيد، سكتوا عنه.
فصل
وكان من هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إسقاطُ القضاءِ عمن أكلَ وشرِب ناسياً، وأن الله سبحانه هو الذى أطعمه وسقاه، فليس هذا الأكلُ والشربُ يُضاف إليه، فَيَفْطِرُ به، فإنما يُفْطِرُ بما فعله، وهذا بمنزلة أكلِهِ وشُربه فى نومه، إذ لا تكليفَ بفعل النائم، ولا بفعل الناسى.
فصل
والذى صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن الذى يُفْطِرُ به الصَّائِمُ: الأكلُ،

والشربُ،والحِجامة والقئ، والقرآن دال على أن الجِماعَ مفطر كالأكل والشُّرب، لا يُعرف فيه خِلاف ولا يَصِحُّ عنه فى الكُحل شئ.

وصح عنه أنه كان يستاك وهو صائم.
وذكر الإمام أحمد عنه، أنه كان يَصُبُّ المَاءَ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ صَائِمٌ.
وكان يتمضمض، ويستنشق وهو صائم، ومنع الصَّائِمَ مِن المُبالغةِ فى الاستنشاق، ولا يَصِحُّ عنه أنه احتجَمَ وهو صائم، قاله الإمام أحمد، وقد رواه البخارى فى "صحيحه" قال أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد قال: لم يسمع الحكمُ حديثَ مِقْسم فى الحِجامة فى الصيام، يعنى حديثَ سعيد، عن الحكم، عن مِقْسم، عن ابن عباس، "أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، احتجم وهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ".

قال مهنا: وسألتُ أحمد عن حديث حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مِهران، عن ابن عباس، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، احتجم وهو صائم مُحْرِمٌ. فقال: ليس بصحيح، قد أنكره يحيى بن سعيد الأنصارى، إنما كانت أحاديثُ ميمون بن مهران عن ابن عباس نحو خمسة عشر حديثاً.
وقال الأثرم: سمعتُ أبا عبد الله ذكر هذا الحديثَ، فضعَّفه، وقال مهنا: سألتُ أحمد عن حديث قَبيصة، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: احتجم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صائماً مُحْرِماً. فقال: هو خطأ مِن قِبَل قَبيصة، وسألت يحيى عن قبيصة بن عقبة، فقال: رجل صدق، والحديث الذى يحدِّث به عن سفيان، عن سعيد بن جبير، خطأ من قِبَله. قال أحمد: فى كتاب الأشجعى عن سعيد بن جبير مرسلاً أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، احتجم وهو محرم، ولا يذكر فيه صائماً.
قال مهنا: وسألتُ أحمد عن حديث ابنِ عبَّاس، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتجم وهو صائم محرم؟ فقال: ليس فيه "صائم" إنما هو "محرم" ذكره سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس: احتجم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رأسه وهُوَ مُحْرِمٌ، ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن خُثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، احتجم النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محرم. وروح، عن زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عطاء وطاووس، عن ابن عباس، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتجم وهو محرم. وهؤلاء أصحاب ابن عباس، لا يذكرون "صائماً".
وقال حنبل: حدثنا أبو عبد الله، حدثنا وكيع، عن ياسين الزيات، عن رجل، عن أنس، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتجم فى رمضان بعد ما قال: "أَفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ". قال أبو عبد الله: الرجل: أراه أُبان بن أبى

عياش، يعنى ولا يُحتج به.
وقال الأثرم: قلت لأبى عبد الله: روى محمد بن معاوية النيسابورى، عن أبى عوانة، عن السُّدى، عن أنس، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، احتجم وهو صائم، فأنكر هذا، ثم قال: السُّدى، عن أنس، قلت: نعم فَعَجِبَ مِنْ هذا. قال أحمد: وفى قوله: "أفطر الحاجِمُ والمحجومُ" غيرُ حديث ثابت. وقال إسحاق: قد ثبت هذا مِن خمسة أوجه عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمقصود، أنه لم يصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه احتجم وهو صائم، ولا صح عنه أنه نهى الصائم عن السواك أوَّل النهار ولا آخره، بل قد روى عنه خلافُه.
ويُذكر عنه: "مِنْ خَيْرِ خِصَالِ الصَّائِمِ السِّواكُ"، رواه ابن ماجه من حديث مجالد وفيه ضعف.
فصل
وروى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه اكتحل وهو صائم، ورُوى عنه، أنه خرج عليهم فى رمضان وعيناه مملوءتان من الإثْمِدِ، ولا يَصِحُّ، وروى عنه أنه قال فى الإثمد: "لِيَتَّقِهِ الصَّائِم" ولا يصح. قال أبو داود: قال لى يحيى ابن معين: هو حديث منكر

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى صيام التطوع
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُوم حتى يُقال: لا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حتَّى يُقال: لا يَصُومُ، وما استكمل صِيامَ شهر غيرَ رمضان، وما كان يصومُ فى شهر أكثر مما يَصُوم فى شعبان.
ولم يكن يخرُج عنه شهر حتى يَصُومَ مِنه.
ولم يَصُمِ الثَّلاثَة الأشهر سرداً كما يفعلُه بعضُ الناس، ولا صام رجباً قطُّ، ولا استحب صِيامَه، بل رُوى عنه النهى عن صيامه، ذكره ابن ماجه.
وكان يتحرَّى صِيام يوم الإثنين والخميس.
وقال ابنُ عباس رضى الله عنه: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لا يُفْطِرُ أَيَّامَ البِيض فى سَفَرٍ ولا حَضَر" _ذكره النسائى_ وكان يحضُّ على صيامها.

وقال ابنُ مسعود رضى الله عنه: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يَصُومُ مِنْ غُرَّةِ كلِّ شهر ثلاثة أيام". ذكره أبو داود والنسائى.
وقالت عائشة: "لم يكن يُبالى مِن أىِّ الشهر صامها". ذكره مسلم، ولا تناقض بين هذه الآثار.
وأما صيامُ عشرِ ذى الحِجَّةِ، فقد اخْتُلِفَ فيه، فقالت عائشة: "ما رأيته صائماً فى العشر قط".ذكره مسلم.
وقالت حفصةُ:"أربعٌ لم يكن يَدَعُهُنَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صيامُ يومِ عاشوراءِ، والعشرُ، وثلاثةُ أيامٍ من كل شهر، وركعتا الفجر". ذكره الإمام أحمد رحمه الله.
وذكر الإمام أحمد عن بعض أزواج النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه "كان يَصوم تسعَ

ذي الحِجة، ويَصُومُ عاشوراء، وثلاثةَ أيامٍ من الشهر، أو الاثنين من الشهر، والخميس"، وفى لفظ: الخميسين. والمثبِتُ مقدَّم على النافى إن صح.
وأما صيامُ ستة أيام من شوَّال، فصح عنه أنه قال: "صِيامُهَا مَعَ رَمَضَانَ يَعْدِلُ صِيَامَ الدَّهْرِ".
وأما صيامُ يوم عاشوراء، فإنه كان يتحرَّى صومَه على سائِر الأيَّام، ولما قَدِمَ المدينة، وجد اليهودَ تصومُه وتُعظِّمُه، فقال: "نَحْنُ أَحَقُّ بمُوسى مِنْكُم". فصامه، وأمَر بصيامه، وذلك قبلَ فرض رمضان، فلما فُرِضَ رمضان، قال: "مَنْ شَاءَ صَامَهُ ومَنْ شَاءَ تَرَكَه".
وقد استشكل بعضُ الناس هذا وقال: إنما قَدِمَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة فى شهر ربيع الأول، فكيف يقولُ ابن عباس: إنه قدم المدينة، فوجد اليهود صُيَّاماً يومَ عاشوراء؟

وفيه إشكال آخر، وهو أنه قد ثبت فى الصحيحين من حديث عائشة، أنها قالت: كانت قُريشُ تصومُ يوم عاشوراء فى الجاهلية، وكان عليه الصلاةُ والسلامُ يصُومُه، فلما هاجر إلى المدينة، صامه، وأمرَ بصيامه، فلما فُرِضَ شهرُ رمضانَ قال: "مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَركَه".
وإشكال آخر، وهو ما ثبت فى الصحيحين أن الأشعث بن قيس دخل على عبد الله بن مسعود وهو يتغدَّى فقال: يا أبا محمد ؛ ادْنُ إلى الغَدَاءِ. فقال: أَوَ لَيْسَ اليومُ يومَ عاشُوراء؟ فقال: وهل تدرى ما يَوْمُ عاشُوراء؟ قال: وما هو؟ قال: إنما هُوَ يومٌ كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُه قبل أن يَنْزِلَ رَمَضَانُ، فلما نزل رَمَضَانُ تركه.وقد روى مسلم فى صحيحه عن ابن عباس، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صام يَوْمَ عاشُوراء وأَمَرَ بِصيامِه، قَالُوا: يا رسولَ الله ؛ إنَّهُ يومٌ تُعظِّمُه اليهودُ والنَّصارى، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا كانَ العَامُ المُقْبِل إنْ شَاءَ الله صُمْنَا اليَوْمَ التَّاسِع". فلم يأت العامُ المقبل حتَّى توفِّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.فهذا فيه أن صومَه والأمَر بصيامه قبل وفاته بعام، وحديثُه المتقدِّمُ فيه أن ذلك كان عندَ مَقْدَمِه المدينة، ثم إن ابن مسعود أخبر أن يومَ عاشوراء تُرِكَ بِرمضانَ، وهذا يُخالفه حديثُ ابن عباس المذكور، ولا يُمكن أن يُقال: تُرِكَ فرضُه، لأنه لم يُفرض، لما ثبت فى الصحيحين عن معاوية

بن أبى سفيان، سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "هذا يَوْمُ عَاشُوراء، ولم يَكْتُبِ الله عليكم صِيامَه، وأَنا صَائِمٌ، فمَن شَاءَ، فَلْيَصُمْ، ومَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِر ". ومعاوية إنما سمع هذا بعد الفتح قطعاً.
وإشكال آخر: وهو أن مسلماً روى فى صحيحه عن عبد الله بن عباس، أنه لما قيل لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ هذا اليومَ تُعظِّمُه اليهودُ والنصارى قال: "إنْ بَقيتُ إلى قَابِل، لأصُومَنَّ التَّاسِعَ " فلم يأتِ العامُ القابِلُ حتى تُوفِّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم روى مسلم فى صحيحه عن الحكم بن الأعرج قال: انتهيتُ إلى ابن عباس وهو متوسِّد رداءه فى زمزم، فقلتُ له: أخبرنى عن صوم عاشوراء. فقال:"إذا رَأَيْتَ هِلال المُحرَّم، فاعدُدْ، وأصبح يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِماً قُلْتُ: هَكَذَا كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصومه؟ قال: نعم".
وإشكال آخر: وهو أن صومَه إن كان واجباً مفروضاًَ فى أول الإسلام، فلم يأمرهم بقضائه، وقد فات تبييتُ النيةِ له من الليل وإن لم يكن فرضاً، فكيف أمرَ بإتمام الإمساك مَنْ كان أكل؟ كما فى المسند والسنن من وجوه

متعددة، أنه عليه السلام، أمر مَن كان طَعِمَ فيه أن يصُومَ بَقيَّةَ يَوْمِه. وهذا إنما يكون فى الواجب، وكيف يَصِحُّ قولُ ابنِ مسعود: فلما فُرِضَ رمضانُ، تُرِكَ عاشوراء، واستحبابه لم يترك؟
وإشكال آخر: وهو أن ابن عباس جعل يوم عاشوراء يومَ التاسع، وأخبر أن هكذا كان يصومُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذى روى عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاء، وخَالِفُوا اليهودَ، صُومُوا يَوْماً قَبْلَهُ أَوْ يَوْماً بَعْدَهُ" ذكره أحمد. وهو الذى روى: "أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصَوْمِ عَاشُورَاء يَوْمَ العَاشِر " ذكره الترمذى.
فالجواب عن هذه الإشكالات بعون الله وتأييدِه وتوفيقه:
أما الإشكالُ الأول: وهو أنَّه لما قَدِمَ المدينة، وجدهم يصُومون يومَ عاشوراء، فليس فيه أن يومَ قدومِه وجدَهم يصومُونه، فإنه إنما قَدِمَ يومَ الاثنين فى ربيع الأول ثانى عشرة، ولكن أول علمه بذلك بوقوع القصة فى العام الثانى الذى كان بعد قدومه المدينة، ولم يكن وهو بمكة، هذا إن كان حسابُ أهل الكتاب فى صومه بالأشهر الهلالية، وإن كان بالشمسية، زال

الإشكالُ بالكلية، ويكونُ اليومُ الذى نجى الله فيه موسى هو يوم عاشوراء من أول المحرَّم، فضبطه أهلُ الكتاب بالشهور الشمسية، فوافق ذلك مقدَم النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة فى ربيع الأول، وصومُ أهلِ الكتاب إنما هو بحساب سير الشمس، وصومُ المسلمين إنما هو بالشَّهر الهلالى، وكذلك حَجُّهم، وجميع ما تُعتبر له الأشهر من واجب أو مُستحَبٍّ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُم"، فظهر حكمُ هذه الأولوية فى تعظيم هذا اليوم وفى تعيينه، وهم أخطؤوا تعيينه لدورانه فى السنة الشمسية، كما أخطأ النصارى فى تعيين صومهم بأن جعلوه فى فصل من السنة تختلِف فيه الأشهر.
وأما الإشكال الثانى: وهو أن قريشاً كانت تصومُ عاشوراء فى الجاهلية، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصُومُه، فلا ريبَ أن قريشاً كانت تُعظِّم هذا اليوم، وكانوا يكسُون الكعبة فيه، وصومه من تمام تعظيمه، ولكن إنما كانوا يعدُّون بالأهلة، فكان عندهم عاشِرَ المحرَّم، فلما قَدِمَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، وجدهم يُعظِّمون ذلك اليوم ويصومونه، فسألهم عنه، فقالوا: هو اليومُ الذى نجَّى الله فيه موسى وقومَه من فرعون، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"نحن أحقُّ منكم بموسى"، فصامه وأمر بصيامه تقريراً لتعظيمه وتأكيداً، وأخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه وأُمَّتَه أحقُّ بموسى من اليهود، فإذا صامه موسى شُكراً للَّه، كنا أحقَّ أن نقتدى به من اليهود، لا سيما إذا قلنا: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يُخَالِفْهُ شَرْعُنَا.
فإن قيل: من أين لكم أن موسى صامه؟ قلنا: ثبت فى الصحيحين أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سألهم عنه، فقالوا: يوم عظيم نجَّى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً للَّه، فنحن نصومه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُم". فَصَامَهُ، وأَمر

بصِيامِه، فلما أقرَّهم على ذلك، ولم يُكذبهم، عُلِمَ أن موسى صامه شكراً للَّه، فانضمَّ هذا القدرُ إلى التعظيم الذى كان له قبل الهجرة، فازداد تأكيداً حتى بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منادياً يُنادى فى الأمصار بصومه، وإمساك مَن كان أكل، والظاهر: أنه حتَّم ذلك عليهم، وأوجبه كما سيأتى تقريره.
وأما الإشكال الثالث: وهو أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يصومُ يَوْمَ عاشوراء قبل أن ينزِل فَرضُ رمضان، فلما نزل فرضُ رمضان تركه، فهذا لا يُمكن التخلُّص منه إلا بأن صيامه كان فرضاً قبل رمضان، وحينئذ فيكون المتروكُ وجوب صومه لا استحبابه، ويتعين هذا ولا بُد، لأنه عليه السلام قال قبل وفاته بعام وقد قيل له إن اليهود يصومونه: "لئِن عِشْتُ إلى قَابِل لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ" أى: معه، وقال: "خالِفوا اليهودَ وَصُومُوا يَوْماً قَبْلَهُ أو يَوْماً بَعْدَهُ"، أى: معه، ولا ريب أن هذا كان فى آخر الأمر، وأما فى أول الأمر، فكان يُحب موافقة أهلِ الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشئ، فعُلِم أن استحبابه لم يُترك.
ويلزم مَن قال: إن صومَه لم يكن واجباً أحدُ الأمرين، إما أن يقولَ بترك استحبابه، فلم يبق مُستحَباً، أو يقول: هذا قاله عبد الله بن مسعود رضى الله عنه برأيه، وخفى عليه استحبابُ صومه، وهذا بعيد، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حثَّهم على صيامه، وأخبر أن صومه يُكفِّر السنة الماضية، واستمر الصحابةُ على صِيامه إلى حين وفاته، ولم يُرْوَ

عنه حرف واحد بالنهى عنه وكراهة صومه، فعُلِمَ أن الذى تُرِكَ وجوبُه لا استحبابه.
فإن قيل: حديث معاوية المتفق على صحته صريح فى عدم فرضيته، وأنه لم يُفرض قط، فالجواب: أن حديث معاوية صريح فى نفى استمرار وجوبه، وأنه الآن غيرُ واجب، ولا ينفى وجوباً متقدماً منسوخاً، فإنه لا يمتنِعُ أن يقال لما كان واجباًً، ونُسِخَ وجوبُه: إن الله لم يكتبْه علينا.
وجواب ثان: أن غايته أن يكون النفى عاماً فى الزمان الماضى والحاضر، فيُخص بأدلة الوجوب فى الماضى، وترك النفى فى استمرار الوجوب.
وجواب ثالث: وهو أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما نفى أن يكون فرضُه ووجوبُه مستفاداً من جهة القرآن، ويدلُّ على هذا قوله: "إن الله لم يكتبه علينا"، وهذا لا ينفى الوجوب بغير ذلك، فإن الواجب الذى كتبه الله على عباده، هو ما أخبرهم بأنه كتبه عليهم، كقوله تعالى :{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [ البقرة: 183]، فأخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن صومَ يوم عاشوراء لم يكن داخلاً فى هذا المكتوب الذى كتبه الله علينا دفعاً لتوهم مَن يتوهم أنه داخل فيما كتبه الله علينا، فلا تناقضَ بين هذا، وبينَ الأمر السابقِ بصيامه الذى صار منسوخاً بهذا الصيام المكتوب، يوضِّح هذا أن معاوية إنما سمع هذا منه بعد فتح مكة، واستقرار فرض رمضان، ونسخ وجوب عاشوراء به، والذين شهدوا أمره بصيامه، والنداء بذلك، وبالإمساك لمن أكل، شَهِدُوا ذلك قبل فرض رمضان عند مقدَمِه المدينة، وفرض رمضان كان فى السنة الثانية من الهجرة، فَتُوفى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد صام تسعَ رمضانات، فمَن شهد الأمر بصيامه، شهده قبل نزول فرضِ رمضان، ومَن شهد الإخبار عن عدم فرضه، شهِده فى آخر الأمر بعد فرض رمضان، وإن لم يُسلك هذا المسلكُ، تناقضت أحاديثُ الباب واضطربت.

فإن قيل: فكيف يكون فرضاً ولم يحصُلْ تبييتُ النية من الليل وقد قال: "لا صِيامَ لِمَنْ لَمْ يُبِيِّتِ الصِّيامَ مِنَ اللَّيْل"؟ فالجواب: أن هذا الحديث مختلفٌ فيه: هل هو مِن كلام النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو مِنْ قولِ حفصةَ وعائشة؟ فأَما حديثُ حفصة: فأوقفه عليها معمرٌ، والزهرى، وسفيانُ بن عُيينة، ويونسُ بن يزيد الأيلى، عن الزهرى، ورفعه بعضُهم وأكثر أهلِ الحديثِ يقولون: الموقوفُ أصحُّ، قال الترمذى: وقد رواه نافع عن ابن عمر قولَه، وهو أصحُّ، ومنهم مَن يُصحح رفعَه لثقة رافعه وعدالته، وحديث عائشة أيضاً: روى مرفوعاً وموقوفاً، واختلف فى تصحيح رفعه. فإن لم يثبت رفعُه، فلا كلام، وإن ثبت رفعُه، فمعلومٌ أن هذا إنما قاله بعد فرض رمضان، وذلك متأخر عن الأمر بصيام يومِ عاشوراء، وذلك تجديدُ حكم واجب وهو التبييتُ، وليس نسخاً لحكم ثابت بخطاب، فإجزاء صيام يومِ عاشوراء بنية من النهار، كان قبل فرض رمضان، وقبل فرض التبييت مِن الليلِ، ثمَّ نُسِخَ وَجُوبُ صومِه برمضان، وتجدد وجوب التبييت، فهذه طريقة.

وطريقة ثانية هى طريقةُ أصحاب أبى حنيفة: أن وجوب صيام يوم عاشوراء تضمَّن أمرين: وجوبَ صومِ ذلك اليوم وإجزاء صومِه بنية من النهار، ثم نُسِخ تعيينُ الواجب بواجب آخر، فبقى حكم الإجزاء بنيةٍ من النهار غير منسوخ.
وطريقة ثالثة: وهى أن الواجب تابع للعلم، ووجوب عاشوراء إنما عُلِمَ من النهار، وحينئذ فلم يكن التبييتُ ممكناً، فالنيةُ وجبت وقت تجدُّدِ الوجوب والعلم به، وإلا كان تكليفاً بما لا يُطاق وهو ممتنع. قالُوا: وعلى هذا إذا قامت البينةُ بالرؤية فى أثناء النهار. أجزأ صومه بنية مقارِنة للعلم بالوجوب، وأصلُه صومُ يومِ عاشوراء، وهذه طريقة شيخنا، وهى كما تراها أصحُّ الطرق، وأقربُها إلى موافقة أُصول الشرع وقواعده، وعليها تَدُلُّ الأحاديثُ، ويجتمِعُ شملُها الذى يُظن تفرقه، ويُتخلص من دعوى النسخ بغير ضرورة، وغير هذه الطريقة لا بُدَّ فيه من مخالفة قاعدة مِن قواعد الشرع، أو مخالفة بعض الآثار. وإذا كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمر أهل قُباء بإعادة الصلاة التى صلَّوا بعضها إلى القِبْلة المنسوخة إذ لم يبلُغهم وجوبُ التحول، فكذلك مَن لم يبلغه وجوبُ فرضِ الصوم، أو لم يتمكن مِن العلم بسبب وجوبه، لم يُؤمر بالقضاء، ولا يُقال: إنه ترك التبييتَ الواجِبَ، إذ وجوبُ التبييت تابع للعلم بوجوب المبيّت، وهذا فى غاية الظهور.
ولا ريبَ أن هذه الطريقةَ أصحُّ مِن طريقة مَن يقول: كان عاشوراء فرضاً، وكان يُجزئ صيامُه بنية من النهار، ثم نُسِخَ الحكمُ بوجوبه، فنُسِخَتْ متعلقاتُه، ومن متعلقاته إجزاء صيامِه بنية من النهار، لأن متعلقاته تابعة له، وإذا زال المتبوع، زالت توابعُه وتعلقاتُه، فإن إجزاء الصوم الواجب بنية من النهار لم يكن من متعلقات خصوصِ هذا اليوم، بل من متعلِّقات

الصومِ الواجب، والصومُ الواجب لم يَزُلْ، وإنما زال تعيينه، فنُقِل من محل إلى محل، والإجزاء بنيةٍ من النهار وعدمِه من توابع أصل الصوم لا تعيينه.
وأصحُّ مِن طريقة مَن يقول: إن صوم يوم عاشوراء لم يكن واجباً قط، لأنه قد ثبت الأمرُ به، وتأكيدُ الأمر بالنداء العام، وزيادة تأكيده بالأمر لمن كان أكل بالإمساك، وكلُّ هذا ظاهر، قوى فى الوجوب، ويقول ابن مسعود: إنه لما فُرِضَ رمضان تُرِكَ عاشوراء. ومعلوم أن استحبابه لم يُترك بالأدلة التى تقدَّمت وغيرها، فيتعين أن يكون المتروكُ وجوبه، فهذه خمس طرق للناس فى ذلك. والله أعلم.
وأما الإشكال الرابع: وهو أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لئِن بَقِيتُ إلى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ" ، وأنه توفى قبل العام المقبل، وقول ابن عباس: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصوم التاسع، فابن عباس روى هذا وهذا، وصحَّ عنه هذا وهذا، ولا تنافى بينهما، إذ من الممكن أن يصومَ التاسِعَ، ويخبر أنه إن بقى إلى العام القابل صامه، أو يكون ابنُ عباس أخبر عن فعله مستنداً إلى ما عزم عليه، ووعد به، ويصِحُّ الإخبارعن ذلك مقيداً، أى: كذلك كان يفعل لو بقى، ومطلقاً إذا علم الحال، وعلى كل واحد من الاحتمالين، فلا تنافى بين الخبرين.
وأما الإشكال الخامس: فقد تقدَّم جوابه بما فيه كفاية.
وأما الإشكال السادس: وهو قول ابن عباس: اعدُدْ وأصبح يوم التاسع صائماً. فمَن تأمل مجموع روايات ابن عباس، تبيَّن له زوالُ الإشكال، وسعةُ علم ابن عباس، فإنه لم يجعل عاشوراء هو اليومَ التاسع،

بل قال للسائل: صُمِ اليوم التاسع، واكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليومُ العاشر الذى يعدُّه الناسُ كلُّهم يومَ عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه، وأخبر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصومُه كذلك. فإما أن يكون فِعلُ ذلك هو الأَوْلى، وإما أن يكون حَمْلُ فعله على الأمر به، وعزمه عليه فى المستقبل، ويدلُّّ على ذلك أنه هو الذى روى: "صُومُوا يوماً قبله ويوماً بعده"، وهو الذى روى: أمرنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصيام عاشوراء يوم العاشر. وكل هذه الآثار عنه، يُصدِّقُ بعضُها بعضاً، ويُؤيِّد بعضُها بعضاً.
فمراتب صومه ثلاثة: أكملُها: أن يُصام قبله يومٌ وبعده يومٌ، ويلى ذلك أن يُصام التاسع والعاشر، وعليه أكثرُ الأحاديث، ويلى ذلك إفرادُ العاشر وحده بالصوم.
وأما إفراد التاسع، فمن نقص فهم الآثار، وعدمِ تتبع ألفاظها وطرقها، وهو بعيد من اللغة والشرع، والله الموفق للصواب.
وقد سلك بعضُ أهل العلم مسلكاً آخر فقال: قد ظهر أن القصدَ مخالفةُ أهل الكتاب فى هذه العبادة مع الإتيان بها، وذلك يحصلُ بأحد أمرين: إما بنقلِ العاشر إلى التاسع، أو بصيامِهما معاً. وقوله: "إذا كان العامُ المقبلُ صُمنا التاسِع": يحتمِل الأمرين. فتوفى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يتبيَّن لنا مرادُه، فكان الاحتياطُ صيامَ اليومين معاً، والطريقة التى ذكرناها، أصوبُ إن شاء الله، ومجموع أحاديثِ ابن عباس عليها تدلُّ، لأن قوله فى حديث أحمد: "خالِفوا اليًَهُودَ، صُومُوا يَوْماً قَبْلَهُ أَوْ يَوْماً بَعْدَهُ"، وقوله

فى حديث الترمذى:"أُمِرْنَا بِصِيامِ عاشوراء يوم العاشر" يبين صحة الطريقة التى سلكناها. والله أعلم.
فصل
وكان مِن هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إفطارُ يَوْمِ عرفة بعرفة، ثبت عنه ذلك فى الصحيحين.
وروى عنه أنه"نهى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ" رواه عنه أهل السنن.
وصح عنه أن"صيامِه يُكفِّرُ السنة الماضِيةَ والبَاقِيةَ" ذكره مسلم.
وقد ذُكر لِفطره بعرفة عِدَّةُ حِكمٍ.
منها: أنه أقوى على الدعاء.
ومنها: أن الفِطرَ فى السفر أفضلُ فى فرض الصوم، فكيف بنفله.
ومنها: أن ذلك اليومَ كان يومَ الجمعة، وقد نَهى عن إفراده بالصَّوم، فأحب أن يرى الناسُ فطره فيه تأكيداً لنهيه عن تخصيصه بالصوم، وإن كان صومُه لكونه يَوْمَ عرفة لا يوم جمعة، وكان شيخنا رحمه الله يسلُك

مسلكاً آخر، وهو أنه يومُ عيد لأهل عرفة لاجتماعهم فيه، كاجتماع الناس يوم العيد، وهذا الاجتماع يختصُّ بمن بعرفة دون أهل الآفاق. قال: وقد أشار النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هذا فى الحديث الذى رواه أهلُ السنن: "يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وأيَّام مِنَى، عِيدُنَا أَهْلَ الإسْلامِ". ومعلوم: أن كونه عيداً، هو لأهل ذلك الجمع، لاجتماعهم فيه. والله أعلم.
فصل
وقد رُوى أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كان يصومُ السبتَ والأحد كثيراً، يقصِدُ بذلك مخالفة اليهود والنصارى كما فى المسند، وسنن النسائى، عن كُريب مولى ابن عباس قال: أرسلنى ابنُ عباس رضىَ الله عنه، وناسٌ من أصحاب النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أمِّ سلمة أسألها؟ أىُّ الأيَّامِ كَانَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثَرها صِياماً؟ قالت: يومُ السبت والأحد، ويقول: "إنَّهُمَا عِيدٌ للمُشْرِكِين، فَأَنا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُم".
وفى صحة هذا الحديث نظر، فإنه من رواية محمد بن

عمر بن علىّ بن أبى طالب، وقد استُنْكِرَ بعضُ حديثه. وقد قال عبد الحق فى "أحكامه" من حديث ابن جريج، عن عباس بن عبد الله بن عباس، عن عمَّه الفضل: زار النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عباساً فى بادية لنا. ثم قال: إسناده ضعيف. قال ابن القطان: هو كما ذكر ضعيف، ولا يُعرف حال محمد بن عمر، وذكر حديثه هذا عن أم سلمة فى صيام يوم السبت والأحد، وقال: سكت عنه عبد الحق مصححاً له، ومحمد بن عمر هذا، لا يُعرف حاله، ويرويه عنه ابنه عبد الله بن محمد بن عمر، ولا يُعرف أيضاً حاله، فالحديث أراه حسَناً. والله أعلم.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود، عن عبد الله بن بُسر السُّلمى، عن أخته الصَّمَّاء، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تَصُومُوا يَوْم السَّبْتِ إلاَّ فيما افتُرِضَ عليكم، فإنْ لَمْ يَجِد أَحَدُكُم إلاَّ لِحاءَ عِنَبَةٍ أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضَغْه".
فاختلف الناس فى هذين الحديثين. فقال مالك رحمه الله: هذا كذب، يريد حديث عبد الله بن بُسر، ذكره عنه أبو داود، قال الترمذى: هو حديث حسن، وقال أبو داود: هذا الحديث منسوخ، وقال النسائى: هو حديث مضطَرِب، وقال جماعة من أهل العلم: لا تعارُض بينه وبين حديث أمِّ سلمة، فإن النهى عن صومه إنما هو عن إفراده، وعلى ذلك ترجم أبو داود، فقال: باب النهى أن يُخص يومَ السبت بالصوم، وحديثُ صِيامه، إنما هو مع يوم الأحد. قالوا: ونظيرُ هذا أنه نهى عن إفراد يَوْمِ الجمعة بالصوم، إلا أن يَصومَ يوماً قبله أو يوماً بعده، وبهذا يزول الإشكال الذى ظنه

مَن قال: إن صومه نوعُ تعظيم له، فهو موافقة لأهل الكتاب فى تعظيمه، وإن تضمن مخالفتهم فى صومه، فإن التعظيم إنما يكون إذا أُفِردَ بالصوم، ولا ريب أن الحديث لم يجئ بإفراده، وأما إذا صامه مع غيره، لم يكن فيه تعظيمٌ. والله أعلم.
فصل
ولم يكن من هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سردُ الصوم وصيام الدهر، بل قد قال: "مَنْ صَامَ الدَّهْرَ لا صَامَ ولا أَفْطر". وليس مرادُه بهذا مَنْ صامَ الأيامَ المحرَّمة، فإنه ذكر ذلك جواباً لمن قال: أرأيتَ مَنْ صَامَ الدَّهْر؟ ولا يُقال فى جواب من فعل المحرَّم: لا صامَ ولا أَفْطر، فإن هذا يُؤذن بأنه سواءٌ فِطْرُه وصومُه لا يُثَاب عليه، ولا يُعاقَب، وليس كذلك مَنْ فعل ما حرَّم الله عليه مِن الصيام، فليس هذا جواباً مطابقاً للسؤال عن المحرَّم من الصوم، وأيضاً فإن هذا عند مَن استحب صوم الدهر قد فعل مستحباً وحراماً، وهو عندهم قد صام بالنسبة إلى أيام الاستحباب، وارتكب محرَّماً بالنسبة إلى أيام التحريم، وفى كلٍّ منهما لا يُقال: "لا صَامَ ولا أَفْطَر" فتنزيل قوله على ذلك غلط ظاهر.
وأيضاً فإن أيام التحريم مستثناةٌ بالشرع، غيرُ قابلة للصوم شرعاً، فهى بمنزلة الليل شرعاً، وبمنزلة أيَّامِ الحيض، فلم يكن الصحابةُ لِيسألوه عن صومها، وقد علموا عدم قبولها للصوم، ولم يكن لِيُجيبهم لو لم يعلموا

التحريم بقوله: "لا صَام ولا أَفْطَر"، فإن هذا ليس فيه بيان للتحريم.
فهَدْيُه الذى لا شك فيه، أن صيامَ يوم، وفِطرَ يومٍ أفضلُ من صوم الدهر، وأحبُّ إلى الله. وسرد صيام الدهر مكروه، فإنه لو لم يكن مكروهاً، لزم أحدُ ثلاثة أمور ممتنعة: أن يكون أحبَّ إلى الله من صوم يوم وفطر يوم، وأفضل منه، لأنه زيادة عمل، وهذا مردود بالحديث الصحيح: "إنَّ أَحَبَّ الصِّيام إلى اللهِ صِيامُ داوُدَ"، وإنه لا أفضل منه، وإما أن يكون مساوياً له فى الفضل وهو ممتنع أيضاً، وإما أن يكون مباحاً متساوىَ الطرفين لا استحبابَ فيه، ولا كراهة، وهذا ممتنع، إذ ليس هذا شأنَ العبادات، بل إما أن تكون راجحةً، أو مرجوحة.. والله أعلم.
فإن قيل: فقد قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وأَتْبَعَهُ سِتَّةَ أيَّامٍ مِنْ شَوَّال، فَكأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ". وقال فيمن صام ثلاثة أيام من كل شهر: "إنَّ ذلِكَ يَعْدِلُ صَوْمَ الدَّهْرِ"، وذلك يدل على أنَّ صوم الدهر أفضلُ مما عُدِلَ به، وأنه أمرٌ مطلوب، وثوابُه أكثرُ من ثواب الصائمين، حتى شُبِّه به مَنْ صام هذا الصيام.
قيل: نفسُ هذا التشبيه فى الأمر المقدَّر، لا يقتضى جوازه فضلاً عن استحبابه، وإنما يقتضى التشبيه به فى ثوابه لو كان مستحَباً، والدليل عليه،

مِن نفس الحديث، فإنه جعل صيام ثلاثةِ أيامٍ من كل شهر بمنزلة صيامِ الدهر، إذ الحسنةُ بعشر أمثالها، وهذا يقتضى أن يحصُل له ثوابُ مَن صام ثلاثمائة وستين يوماً، ومعلوم أن هذا حرامٌ قطعاً، فَعُلِمَ أنَّ المرادَ به حصولُ هذا الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوماً، وكذلك قولُه فى صيام ستةِ أيام من شواَّل، إنه يَعْدِلُ مع صيام رمضان السنة، ثم قرأ: {مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، فهذا صيامُ ستة وثلاثين يوماً، تعدِل صِيام ثلاثمائة وستين يوماً، وهو غيرُ جائز بالاتفاق، بل قد يجئُ مثلُ هذا فيما يمتنع فعلُ المشبَّه به عادة، بل يستحيلُ، وإنما شبَّه به مَن فعل ذلك على تقدير إمكانه، كقوله لمن سأله عن عمل يعدِل الجهاد: "هل تستطيع إذا خرج المجاهدُ أن تقومَ ولا تَفْتُر، وأن تَصُومَ ولا تُفْطِرَ"؟ ومعلوم أن هذا ممتنع عادة، كامتناع صوم ثلاثمائة وستين يوماً شرعاً، وقد شبَّه العملَ الفاضل بكل منهما يزيدُه وضوحاً: أنَّ أحب القيام إلى الله قيام داود، وهو أفضل مِن قيام الليل كُلِّه بصريح السُّنَّة الصحيحة، وقد مثَّل مَنْ صلَّى العشاء الآخرة، والصُّبح فى جماعة، بمن قام الليل كلَّه. فإن قيل: فما تقولون فى حديث أبى موسى الأشعرى: "مَنْ صَامَ الدَّهْرَ

ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ حَتَّى تكونَ هكَذَا، وقَبَضَ كَفَّه". وهو فى مسند أحمد؟
قيل: قد اختُلِف فى معنى هذا الحديث. فقيل: ضُيِّقَتْ عليه حصراً له فيها، لتشديده على نفسه، وحمله عليها، ورغبتهِ عن هَدْى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واعتقاده أن غيرَه أفضل منه. وقال آخرون: بل ضُيِّقت عليه، فلا يبقى له فيها موضع، ورجَّحت هذه الطائفة هذا التأويل، بأن الصائم لما ضيَّق على نفسه مسالك الشهوات وطرقها بالصوم، ضيَّق الله عليه النار، فلا يبقى له فيها مكان، لأنه ضيَّق طرقها عنه، ورجَّحت الطائفةُ الأولى تأويلها، بأن قالت: لو أراد هذا المعنى، لقال ضُيِّقَتْ عنه، وأما التضييق عليه، فلا يكون إلا وهو فيها. قالوا: وهذا التأويل موافق لأحاديث كراهة صوم الدهر، وأن فاعله بمنزلة مَن لم يصم. والله أعلم.
فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل على أهله فيقول: "هَلْ عِنْدَكُم شَىْءٌ"؟ فإن قالوا: لا. قال: "إنِّى إذاً صَائِم"، فينشئ النية للتطوع من النهار، وكان أحياناً

ينوى صوم التطوع، ثم يُفْطِرُ بعدُ، أخبرت عنه عائشة رضى الله عنها بهذا وهذا، فالأول: فى صحيح مسلم، والثانى: فى كتاب النسائى. وأما الحديث الذى فى السنن عن عائشة: كنتُ أنا وحفصةُ صائمتين، فَعَرَض لنا طعامٌ اشتهيناه، فَأَكَلْنَا مِنه، فجاء رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَدَرَتْنى إليه حَفْصَةُ، وكانت ابنَةَ أَبِيها، فقالت: يا رسول الله ؛ إنَّا كُنَّا صَائِمَتَيْن، فَعَرَضَ لنا طَعَامٌ اشتهيناه، فَأَكَلْنَا مِنْه فقال: "اقْضِيا يَوْماً مَكَانَهُ" ، فهو حديث معلول.
قال الترمذى: رواه مالك بن أنس، ومعمر، وعبد الله بن عمر، وزياد بن سعد، وغير واحد من الحُفَّاظ، عن الزهرى، عن عائشة مرسلاً لم يذكروا فيه عن عروة، وهذا أصح. ورواه أبو داود، والنسائى، عن حَيْوَة بن شُريح، عن ابن الهاد، عن زُمَيْلٍ مولى عُروة، عن عروة، عن عائشة موصولاً، قال النسائى: زُميل ليس بالمشهور، وقال البخارى: لا يُعرف لزُميل سماع من عروة، ولا ليزيد بن الهاد من زُميل، ولا تقوم به الحُجَّة.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان صائماً ونزل على قوم، أتمَّ صيامه، ولم يُفْطِرْ، كما دخل على أم سُلَيمٍ، فأتته بتمر وسمن، فقال: "أَعِيدوا سَمْنَكُم فى سِقَائِه،

وتَمْرَكُم فى وِعَائِه، فإنِّى صَائِم". ولكنَّ أمَّ سُلَيم كانت عنده بمنزلة أهل بيته، وقد ثبت عنه فى "الصحيح": عن أبى هريرة رضى الله عنه: "إذا دُعِىَ أَحَدُكُم إلى طعام وَهُوَ صائِمٌ فَلْيَقُلْ: إنِّى صَائِم".
وأما الحديثُ الذى رواه ابنُ ماجه، والترمذىُّ، والبيهقىُّ عن عائشة رضى الله عنها ترفعُه
: "مَنْ نَزَلَ عَلَى قَوْمٍ، فَلاَ يَصُومَنَّ تَطَوُّعاً إلاَّ بإذْنِهِمْ"، فقال الترمذى: هذا الحديث منكر، لا نعرف أحداً من الثقات روى هذا الحديثَ عن هِشام بنِ عُروة.
فصل
وكان من هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كراهةُ تخصيصِ يومِ الجُمْعَةِ بالصَّومِ فِعلاً منه وقولاً، فصح النهىُّ عن إفراده بالصَّوم، من حديث جابر بن عبد الله، وأبى هريرة، وجُويرية بنت الحارث، وعبد الله بن عمرو، وجُنادة الأزدى وغيرهم، وشرب يومَ الجمعة وهو على المنبر، يُريهم أنه لا يصومُ يومَ الجمعة، ذكره الإمام أحمد، وعلل المنع من صومه بأنه يومُ عيد، فروى الإمام أحمد،

من حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَوْمُ الجُمْعَةِ يَوْمُ عِيدٍ، فَلاَ تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُم يَوْمَ صِيامِكُم إلاَّ أَنْ تَصُومُوا قَبْلَه أَوْ بَعْدَه".
فإن قيل: فيومُ العيد لا يُصام مع ما قبله ولا بعده. قيل: لما كان يومُ الجمعة مشبَّهاً بالعيد، أخذ من شبهه النهى عن تحرِّى صيامِه، فإذا صامَ ما قبله أو ما بعده، لم يكُنْ قد تحرَّاه، وكان حكمُه حكمَ صوم الشهر، أو العشر منه، أو صوم يومٍ، وفطر يوم، أو صوم يوم عرفة وعاشوراء إذا وافق يومَ جمعة، فإنه لا يُكره صومُه فى شئ من ذلك.
فإن قيل: فما تصنعون بحديث عبد الله بن مسعود؟ قال "ما رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفطِر فى يَوْمِ الجُمُعَةِ" رواه أهل السنن. قيل: نقبله إن كان صحيحاً، ويتعيَّن حملُه على صومه مع ما قبله أو بعده، ونردُّه إن لم يصح، فإنه من الغرائب. قال الترمذى: هذا حديث حسن غريب

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الاعتكاف
لما كان صلاحُ القلبِ واستقامتُه على طريق سيره إلى الله تعالى، متوقِّفاً على جمعيَّته على الله، وَلَمِّ شَعثه بإقباله بالكليَّة على الله تعالى، فإن شَعَثَ القلب لا يَلُمُّه إلا الإقبالُ على الله تعالى، وكان فُضولُ الطعام والشراب، وفُضولُ مخالطة الأنام، وفضولُ الكلام، وفضولُ المنام، مما يزيدُه شَعَثاً، ويُشَتِّتُهُ فى كُلِّ وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يُضعِفُه، أو يعوقه ويُوقِفه.

اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يُذهِبُ فضولَ الطعام والشراب، ويستفرِغُ مِن القلب أخلاطَ الشهواتِ المعوِّقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفعُ به العبد فى دنياه وأُخراه، ولا يضرُّه ولا يقطعُه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذى مقصودُه وروحُه عكوفُ القلبِ على الله تعالى، وجمعيَّتُه عليه، والخلوةُ به، والانقطاعُ عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذِكره وحبه، والإقبالُ عليه فى محل هموم القلب وخطراته، فيستولى عليه بدلَها، ويصير الهمُّ كُلُّه به، والخطراتُ كلُّها بذكره، والتفكُر فى تحصيل مراضيه وما يُقرِّب منه، فيصيرُ أُنسه بالله بدَلاً عن أُنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوَحشة فى القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرحُ به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.
ولما كان هذا المقصود إنما يتمُّ مع الصوم، شُرِع الاعتكاف فى أفضل أيام الصوم، وهو العشر الأخير من رمضان، ولم يُنقل عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه اعتكف مفطراً قَطُّ، بل قد قالت عائشة: لا اعتكاف إلا بصوم.

ولم يذكر اللهُ سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم، ولا فعله رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا مع الصوم.
فالقول الراجح فى الدليل الذى عليه جمهورُ السَلَف: أن الصومَ شرطٌ فى الاعتكاف، وهو الذى كان يُرجِّحه شيخُ الإسلام أبو العباس بن تيمية.
وأما الكلامُ، فإنه شُرِعَ للأمة حبسُ اللسان عن كل ما لا ينفع فى الآخرة.
وأما فُضول المنام، فإنه شُرِعَ لهم من قيام الليل ما هو من أفضل السهر وأحمده عاقبةً، وهو السهر المتوسِّطُ الذى ينفع القلبَ والبدن، ولا يَعُوقُ عن مصلحة العبد، ومدارُ رياضة أربابِ الرياضات والسلوكِ على هذه الأركان الأربعة، وأسعدُهم بها مَنْ سلك فيها المِنهاجَ النبوىَّ المحمدىَّ، ولم ينحرِفْ انحراف الغالين، ولا قصَّر تقصير المفرِّطين، وقد ذكرنا هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى صيامه وقيامه وكلامه، فلنذكر هَدْيه فى اعتكافه.
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتكِف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفَّاه الله عَزَّ وجَلَّ، وتركه مرة، فقضاه فى شوَّال.
واعتكف مرة فى العشر الأول، ثم الأوسط، ثم العشر الأخير، يلتمس ليلة القدر، ثم تبيَّن له أنها فى العشر الأخير، فداوم على اعتكافه حتى لحق بربه عَزَّ وجَلَّ.

وكان يأمر بخباءٍ فيُضرب له فى المسجد يخلُو فيه بربه عَزَّ وجَلَّ.
وكان إذا أراد الاعتكاف، صلَّى الفجر، ثم دخله، فأمر به مرة، فَضُرِب فأمر أزواجه بأخبيتِهنَّ، فضُرِبت، فلما صلَّى الفجر، نظر، فرأى تلك الأخبية، فأمر بخبائه فَقُوِّضَ، وترك الاعتكاف فى شهر رمضان حتى اعتكف فى العشر الأول من شوَّال.
وكان يعتكِفُ كل سنة عشرة أيام، فلما كان فى العام الذى قُبِض فيه اعتكف عشرين يوماً، وكان يعارضه جبريل بالقرآن كل سنةٍ مرة، فلما كان ذلك العام عارضة به مرَّتين، وكان يَعْرِضُ عليه القرآن أيضاً فى كل سنة مرة فعرض عليه تلك السنة مرَتَّين.
وكان إذا اعتكف، دخل قُبَّته وحدَه، وكان لا يدخل بيته فى حال اعتكافه إلا لحاجة الإنسان، وكان يُخْرِجُ رأسه من المسجد إلى بيت عائشة، فترجِّله، وتغسله وهو فى المسجد وهى حائض، وكانَتْ بعضُ أزواجه تزورُه وهو معتكِفٌ، فإذَا قامت تذهبُ، قامَ معها يَقْلِبُها، وكان ذلك ليلاً،

ولم يُباشر امرأة مِن نسائه وهو معتكف لا بِقُبلَةٍ ولا غيرها، وكان إذا اعتكف طُرِحَ له فراشُه، ووضِع له سريرُه فى معتكفه، وكان إذا خرج لحاجته، مرَّ بالمريض وهو على طريقه، فلا يُعرِّجُ عليه ولا يَسْأَلُ عنه. واعتكف مرة فى قبة تُركية، وجعل على سدتها حصيراً، كلّ هذا تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه، عكسَ ما يفعلُه الجهالُ من اتخاذ المعتكف موضِعَ عِشْرة، ومجلبة للزائرين، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، فهذا لون، والاعتكاف النبوى لون. والله الموفق.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجِّه وعُمَره
اعتمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدَ الهِجرة أرْبَعَ عُمَرٍ، كُلُّهُنَّ فى ذى القعْدة، الأولى: عُمرةُ الحُديْبِيَة، وهى أولاهُن سنةَ سِت، فصدَّه المشركون عن البيت، فنحرَ البُدْنَ حيثُ صُدَّ بالحُديبيةِ، وحَلَقَ هو وأصحابُه رؤوسهم، وحلُّوا من إحرامهم، ورجع مِن عامه إلى المدينة.
الثانية: عُمْرَةُ القَضِيَّةِ فى العام المقبل، دخل مكة فأقام بها ثلاثاً، ثمَّ خَرَجَ بعد إكمال عُمرتِه،

واختُلِف: هل كانت قضاءً للعُمرة التى صُدَّ عنها فى العام الماضى، أم عُمرةً مستأنَفة؟ على قولين للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد: إحداهُما: أنها قضاء، وهو مذهب أبى حنيفة رحمه الله. والثانية: ليست بقضاء، وهو قول مالك رحمه الله، والذين قالوا: كانت قضاءً، احتجوا بأنها سميت عُمرة القضاء، وهذا الاسم تابع للحكم، وقال آخرون: القضاء هنا، من المقاضاة، لأنه قاضى أهلَ مكة عليها، لا إنه مِنْ قَضَى قَضَاءً. قالوا: ولهذا سميَّت عُمرةَ القضيَّة. قالوا: والذين صُدُّوا عن البيت، كانوا ألفاً وأربعمائة، وهؤلاء كلُّهم لم يكونوا معه فى عُمرة القضية، ولو كانت قضاءً، لم يتخلَّف منهم أحد، وهذا القولُ أصح، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمُرْ مَن كان معه بالقضاء.
الثالثة: عُمرتُه التى قرنها مع حَجَّتِه، فإنه كان قارناً لبضعة عشر دليلاً، سنذكرها عن قريب إن شاء الله.
الرابعة: عُمرتُه من الجِعْرَانَةِ، لما خرج إلى حُنين، ثم رجع إلى مكة، فاعتمر مِن الجِعْرَانَةِ داخلاً إليها.
ففي الصحيحين عن أنس بنِ مالك قال: "اعتمَر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَرْبَعَ عُمَرٍ، كُلُّهُنَّ فى ذِى القِعْدَةِ، إلاَّ الَّتى كانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ: عُمْرَةٌ مِنَ الحُدَيْبيةِ أو زَمَنَ الحُدَيْبِيةِ فى ذى القِعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مِنَ العَامِ المُقْبل فى ذى القِعْدَةِ، وعُمْرَةٌ مِنَ الجِعْرانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِم حُنَيْنٍ فى ذى القعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجَّتِه".
ولم يُناقِضَ هذا ما فى "الصحيحين" عن البَّراء بن عازب قال: "اعتمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذى القعْدَةِ قبل أن يحجَّ مرتين"، لأنه أراد العُمْرة المفردَة المستقِلَّة التى تمَّت، ولا ريب أنهما اثنتانِ، فإن عُمرة القِران لم تكن مستقِلَّةٌ، وعُمرَة الحديبية صُدَّ عنها، وحيل بينه وبين إتمامها، ولذلك قال ابنُ عباس: "اعتمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرٍ: عُمْرَةَ الحُدَيْبِية، وعمرُةَ القضاءِ مِنْ قابل، والثالثة من الجِعْرَانَةِ، والرابِعة مع حَجَّته". ذكره الإمام أحمد.
ولا تناقض بين حديث أنس: "أنهن فى ذى القِعْدة، إلا التى مع حَجَّته"، وبينَ قول عائشة، وابن عباس:"لم يعتمِر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا فى ذى القِعْدَة"، لأن مبدأ عُمْرة القِران، كان فى ذى القِعْدة، ونهايتُها كان فى ذى الحِجة مع انقضاء الحج، فعائشة وابن عباس أخبرا عن ابتدائها، وأنس أخبر عن انقضائها.

فأما قول عبد الله بن عمر "إن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر أربعاً، إحداهُن فى رجب". فوهم منه رضى الله عنه. قالت عائشة لما بلغها ذلك عنه "يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمرةً قطُّ إلا وهو شاهد، وما اعتمر فى رجب قط".
وأما ما رواه الدارقطنى، عن عائشة قالت: "خرجتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى عُمرة فى رمضان فأفطَر وصُمتُ، وقصَر وأتممتُ، فقلتُ: بأبى وأُمى، أفطرتَ وصمتُ، وقَصَرْتَ وأتممتُ، فقال: "أحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ". فهذا الحديث غلط، فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعتمِرْ فى رمضان قطُّ، وعُمَرُهُ مضبوطةُ العددِ والزمان، ونحن نقول: يرحَمُ الله أُمَّ المؤمنين، ما اعتمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رمضان قطُّ، وقد قالت عائشةُ رضى الله عنها "لم يعتمِرْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا فى ذى القعدة". رواه ابن ماجه وغيره.
ولا خلاف أن عُمَرَهُ لم تَزِد على أربع، فلو كان قد اعتمر فى رجب، لكانت خمساً، ولو كان قد اعتمر فى رمضان، لكانت ستاً، إلا أن يُقال: بعضُهن فى رجب، وبعضهن فى رمضان، وبعضُهن فى ذى القِعْدة، وهذا لم

يقع، وإنما الواقع: اعتمارُه فى ذى القِعْدة كما قال أنس رضى الله عنه، وابن عباس رضى الله عنه، وعائشة رضى الله عنها، وقد روى أبو داود فى سننه عن عائشة، "أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر فى شوَّال". وهذا إذا كان محفوظاً فلعلَّه فى عُمرة الجِعْرَانَةِ حين خرج فى شوَّال، ولكن إنما أحرم بها فى ذى القِعْدة.
فصل
ولم يكن فى عُمْرِهِ عُمْرَةٌ واحِدة خارجاً من مكة كما يفعلُ كثيرٌ من الناس اليوم، وإنما كانت عُمَرُهُ كُلُّها داخلاً إلِى مكة، وقد أقام بعد الوحى بمكة ثلاث عشرة سنة لم يُنقل عنه أنه اعتمر خارجاً من مكة فى تلك المدة أصلاً.
فالعُمْرة التى فعلها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشرعها، هى عُمْرةُ الداخل إلى مكة، لا عُمْرةُ مَن كان بها فيخرُج إلى الحل لِيعتمرَ، ولم يفعل هذا على عهده أحد قطُّ إلا عائشة وحدها بين سائر مَن كان معه، لأنها كانت قد أُهلَّت بالعُمرة فحاضت، فأمرها، فأدخلت الحجَّ على العُمرة، وصارت قارِنة، وأخبرها أنَّ طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة قد وقع عن حجتها وعُمْرتها، فوجدت فى نفسها أن يَرجعَ صواحباتها بحج وعُمْرة مستقلين، فإنهنَّ كنَّ متمتعات ولم يحضن ولم يقرِنَّ، وترجعُ هى بعُمْرة فى ضمن حَجَّتها، فأمر أخاها أن يُعمِرَها من التنعيم تطييباً لقلبها، ولم يعتمِرْ هو من التنعيم فى تلك الحجَّة ولا أحد ممن كان معه، وسيأتى مزيد تقرير لهذا وبسط له عن قريب إن شاء الله تعالى.

فصل
دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة بعد الهجرة خمسَ مرات سِوى المرةِ الأولى، فإنه وصل إلى الحُديبية، وصُدَّ عن الدخول إليها، أحرم فى أربع مِنهنَّ مِن الميقات لا قبله، فأحرم عام الحُديبية من ذى الحُليفة، ثم دخلها المرة الثانية، فقضى عُمْرته، وأقام بها ثلاثاً، ثم خرج، ثم دخلها فى المرة الثالثة عامَ الفتح فى رمضان بغير إحرام، ثم خرج منها إلى حُنين، ثم دخلها بعُمْرة من الجِعرانة ودخلها فى هذه العُمْرة ليلاً، وخرج ليلاً، فلم يخرج من مكة إلى الجِعرانة ليعتمِر كما يفعلُ أهلُ مكة اليوم، وإنما أحرم منها فى حال دخوله إلى مكة، ولما قضى عُمْرته ليلاً، رجع من فوره إلى الجِعرانة، فبات بها، فلما أصبح وزالتِ الشمسُ، خرج من بطن سَرِفَ حتى جامَع الطريق [طريق جَمْعٍ بِبَطْنِ سَرِف]، ولهذا خفيت هذه العُمرة على كثير من الناس.
والمقصود، أن عُمَرَهُ كلَّها كانت فى أشهر الحج، مخالفةً لهَدْى المشركين، فإنهم كانوا يكرهون العُمْرة فى أشهر الحج، ويقولون: هى من أفجر الفجُور، وهذا دليل على أن الاعتمار فى أشهر الحج أفضلُ منه فى رجب بلا شك.
وأما المفاضلةُ بينه وبين الاعتمار فى رمضان، فموضع نظر، فقد صح عنه أنه أمر أم مَعقِل لما فاتها الحجُ معه، أن تعتمِرَ فى رمضان، وأخبرها أَنَّ عُمْرَةً فى رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّة.

وأيضاً: فقد اجتمع فى عُمْرة رمضان أفضلُ الزمان، وأفضلُ البقاع، ولكنَّ الله لم يكن لِيختار لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى عُمَرِهِ إلاَّ أولى الأوقات وأحقَّها بها، فكانت العُمْرةُ فى أشهر الحج نظيرَ وقوع الحج فى أشهره، وهذه الأشهر قد خصَّها الله تعالى بهذه العبادة، وجعلها وقتاً لها، والعمرةُ حجٌّ أصغر، فأولى الأزمنة بها أشهرُ الحج، وذو القِعْدة أوسطُها، وهذا مما نستخير الله فيه، فمَن كان عنده فضلُ علم، فليرشد إليه.
وقد يُقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يشتغِل فى رمضان مِن العبادات بما هو أهمُّ مِن العُمْرة، ولم يكن يُمكنه الجمعُ بين تلك العبادات وبينَ العُمرة، فأخَّر العُمرة إلى أشهر الحج
ووفَّر نفسه على تلك العبادات فى رمضانَ مع ما فى ترك ذلك من الرحمة بأُمته والرأفة بهم، فإنه لو اعتمرَ فى رمضان، لبادرت الأُمة إلى ذلك، وكان يشُقُّ عليها الجمعُ بين العُمْرةِ والصومِ، ورُبما لا تسمح أكثرُ النفوس بالفطر فى هذه العبادة حرصاً على تحصيل العُمْرة وصومِ رمضان، فتحصُل المشقةُ، فأخَّرها إلى أشهر الحج، وقد كان يترُك كثيراً من العمل وهو يُحب أن يعمله، خشية المشقة عليهم.
ولما دخل البيت، خرج منه حزيناً، فقالت له عائشة فى ذلك؟ فقال:

"إنِّى أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ شَقَقْتُ عَلى أُمّتى" ، وهمَّ أن ينزل يستسقى مع سُقاة زمزم للحاج، فخاف أن يُغْلَب أَهلُها على سِقايتهم بعده. والله أعلم.
فصل
ولم يُحفظ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أنه اعتمر فى السنة إلا مرَّة واحدة، ولم يعتمِرُ فى سنة مرتين، وقد ظن بعضُ الناس أنه اعتمَرَ فى سنة مرتين، واحتج بما رواه أبو داود فى سننه عن عائشة،"أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اعتمَرَ عُمْرَتَين: عُمْرة فى ذى القِعْدة، وعُمْرة فى شوّال". قالوا: وليس المرادُ بها ذكرَ مجموع ما اعتمر، فإن أنساً، وعائشة، وابن عباس، وغيرهم قد قالوا: إنه اعتمر أربَعَ عُمَرٍ، فعُلِمَ أن مُرادَها به أنه اعتمر فى سنة مرتين، مرة فى ذى القِعْدة، ومرة فى شوَّال، وهذا الحديث وهم، وإن كان محفوظاً عنها، فإن هذا لم يقع قطُّ، فإنه اعتمرَ أربع عُمَرٍ بلا ريب: العُمْرةُ الأولى كانت فى ذى القِعْدة عُمرة الحديبية، ثم لم يعتمِرْ إلى العام القابل، فاعتمر عُمْرة القضية فى ذى القِعْدة، ثم رجع إلى المدينة ولم يخرُج إلى مكة حتى فتحها سنةَ ثمان فى رمضان، ولم يعتمِرْ ذلك العام، ثم خرج إلى حُنين فى ست من شوَّال

وهزَم الله أعداءه، فرجع إلى مكة، وأحرم بعُمْرة، وكان ذلك فى ذى القِعْدة كما قال أنس وابنُ عباس، فمتى اعتمر فى شوال؟ ولكن لقى العدوَّ فى شوَّال، وخرج فيه من مكة، وقضى عُمرته لما فرغ من أمر العدوِّ فى ذى القِعْدة ليلاً، ولم يَجْمَعْ ذلك العامَ بين عُمرتين، ولا قَبلَه ولا بعدَه، ومَنْ له عِناية بأيامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيرته وأحواله، لا يشكُّ ولا يرتابُ فى ذلك.
فإن قيل: فبأى شئ يستحِبُّون العُمْرة فى السنة مِراراً إذا لم يُثبتوا ذلك عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قيل: قد اختُلِف فى هذه المسألة، فقال مالك: أكره أن يعتمِرَ فى السنة أكثرَ من عُمرة واحدة، وخالفه مُطرِّف من أصحابه وابنُ المَوَّاز، قال مطرِّف: لا بأس بالعُمرة فى السنة مِراراً، وقال ابن الموَّاز: أرجو أن لا يكون به بأس، وقد اعتمرت عائشةُ مرَّتين فى شهر، ولا أرى أن يُمنع أحدٌ من التقرب إلى الله بشئ من الطاعات، ولا من الازدياد من الخير فى موضع، ولم يأت بالمنع منه نص، وهذا قولُ الجمهور، إلا أن أبا حنيفة- رحمه الله تعالى- استثنى خمسة أيام لا يُعتمر فيها: يوم عرفة، ويومَ النحر، وأيام التشريق، واستثنى أبو يوسف رحمه الله تعالى: يومَ النحر، وأيامَ التشريق خاصة، واستثنت الشافعية البائِت بمِنَى لرمى أيام التشريق. واعتمرت عائشة فى سنة مرتين. فقيل للقاسم: لم ينكر عليها أحد؟ فقال: أََعَلى
أُمِّ المؤمنين؟، وكان أنس إذا حَمَّمَ رَأْسَه، خرج فاعتمر.
ويُذكر عن علىٍّ رضى الله عنه، أنه كان يعتمر فى السنة مِراراً، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "العُمَرَةُ إلى العُمْرَة كَفَّارَةٌ لما بَيْنَهُمَا". ويكفى فى هذا، أن

النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أعمرَ عائشة من التَّنعيم سوى عمرتِها التى كانت أهلَّت بها، وذلك فى عامٍ واحد، ولا يُقال: عائشة كانت قد رفضت العُمْرة، فهذه التى أهلَّت بها من التنعيم قضاء عنها، لأن العُمْرة لا يَصِحُ رفضُها. وقد قال لها النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَسَعُكِ طَوَافُك لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِك" وفى لفظ: "حَلَلْتِ مِنْهمَا جَميعاً".
فإن قيل: قد ثبت فى صحيح البخارى: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: "ارفُضى عُمْرَتَك وانقُضى رَأْسَكِ وامْتَشِطى"، وفى لفظ آخر: "انقُضى رَأسَكِ وامتشطى"، وفى لفظ: "أَهِلِّى بالحَجِّ، ودَعى العُمْرَة"، فهذا صريح فى رفضها من وجهين، أحدهما: قوله: "ارفُضيها ودعيها"، والثانى: أمره لها بالامتشاط.
قيل: معنى قوله: "ارفُضيها": اتركى أفعالها والاقتصار عليها، وكونى فى حَجَّة معها، ويتعين أن يكونَ هذا هو المراد بقوله: "حَلَلْتِ مِنْهُما جَمِيعاً"، لما قضت أعمالَ الحج، وقوله: "يَسَعُكِ طَوافُكِ لِحَجِّكِ وعُمْرَتِكِ"، فهذا صريح فى أن إحرام العُمْرة لم يُرفض، وإنما رُفضَتْ أعمالُها والاقتصارُ عليها، وأنها بانقضاء حجَّها انقضى حجُّها وعمرتُها، ثم أعمرها من التنعيم تطييباً لقلبها، إذ تَأتى بعُمْرة مستقِلَّة كصواحباتها، ويوضح ذلك إيضاحاً بيِّناً، ما روى مسلم فى "صحيحه"، من حديث الزهرى، عن عروة، عنها قالت:

خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّة الوداع، فحِضتُ، فلم أزل حائضاً حتى كان يومُ عرفة، ولم أُهِلَّ إلاَّ بعُمرة، فأمرنى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أنقُضَ رأسى وامتشِطَ، وأُهِلَّ بالحج، وأترك العُمْرة، قالت: ففعلتُ ذلك، حتى إذا قضيتُ حَجِّى، بعث معى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الرحمن بن أبى بكر، وأمرنى أن أعتمِرَ من التنعيم مكانَ عُمرتى التى أدركنى الحجُّ ولم أُهِلَّ منها. فهذا حديثٌ فى غاية الصحة والصراحة، أنها لم تكن أحلَّت من عُمْرتها، وأنها بقيت مُحْرِمة حتى أدخلت عليها الحجّ، فهذا خبرُها عن نفسها، وذلك قولُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها، كُلٌّ منهما يوافق الآخر، وبالله التوفيق.
وفى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "العُمْرةُ إلى العُمْرةِ كفَّارةٌ لما بينهما، والحَجُّ المبرورُ ليس له جزاء إلا الجنة" دليلٌ على التفريق بين الحج والعُمْرة فى التكرار، وتنبيهٌ على ذلك، إذ لو كانت العمرةُ كالحج، لا تُفعل فى السنة إلا مرة، لسًوَّى بينهما ولم يُفرِّق.
وروى الشافعى رحمه الله، عن علىّ رضى الله عنه، أنه قال: اعْتَمِرْ فى كل شهر مرة. وروى وكيع، عن إسرائيل، عن سُويد بن أبى ناجية، عن أبى جعفر، قال: قال علىُّ رضى الله عنه: "اعْتَمِرْ فى الشَّهْرِ إنْ أَطَقْتَ مراراً". وذكر سعيد بن منصور، عن سفيان بن أبى حسين، عن بعض ولد أنس، أن أنساً كان إذا كان بمكة فَحَمَّمَ رَأْسُهُ، خَرَجَ إلى التَّنْعِيمِ فاعْتَمَرَ.

فصل: فى سياق هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّته
لا خلاف أنَّه لم يَحُجَّ بعد هجرته إلى المدينة سِوى حَجَّةٍ واحدة، وهى حَجة الوَداع، ولا خلاف أنها كانت سنةَ عشر.
واختُلِفَ: هل حجَّ قبل الهجرة؟ فروى الترمذى، عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه، قال: "حجَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثَ حِجج، حَجَّتَيْن قبل أن يُهاجر، وحَجَّة بعد ما هاجر معها عُمْرة". قال الترمذى: هذا حديث غريب من حديث سفيان. قال: وسألتُ محمداً يعنى البخارى عن هذا، فلم يعرفه من حديث الثورى، وفى رواية: لا يُعدُّ الحديث محفوظاً.
ولما نزل فرضُ الحج. بادر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحجِّ من غير تأخير، فإنَّ فرضَ الحج تأخَّر إلى سنة تسع أو عشر، وأما قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فإنها وإن نزلت سنةَ ستٍّ عام الحديبية، فليس فيها فرضيَّةُ الحج، وإنما فيها الأمرُ بإتمامه وإتمام العُمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضى وجوبَ الابتداء، فإن قيل: فَمِنْ أين لكم تأخير نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة؟ قيل: لأن صدر سورةِ آل عمران نزل عامَ الوفود، وفيه قَدِم وفدُ نجران على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصالحهم على أداءِ الجزية، والجزية إنما نزلت عامَ تبوك سنة تسع، وفيها نزل صدرُ سورة آل عمران، وناظرَ أهل الكتاب، ودعاهم إلى التوحيد والمبُاهلة، ويدلُّ عليه أن أهلَ مكة وجدوا فى نفوسهم على ما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُواْ المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، فأعاضهم الله تعالى من ذلك

بالجزية، ونزولُ هذه الآيات، والمناداةُ بها، إنما كان فى سنة تسع، وبعث الصِّدِّيق يؤذِّن بذلك فى مكة فى مواسم الحج، وأردفه بعلىٍّ رضى الله عنه، وهذا الذى ذكرناه قد قاله غير واحد من السَلَف، والله أعلم.
فصل
ولما عزم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحجِّ أعلم الناس أنه حاج، فتجهزوا للخروج معه، وسمِع ذلك مَنْ حول المدينة، فَقَدِمُوا يُريدون الحجَّ مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووافاه فى الطريق خلائقُ لا يُحصَون، فكانُوا مِن بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله مدَّ البصر، وخرجَ من المدينة نهاراً بعد الظهر لِسِتٍّ بَقِينَ مِن ذى القِعْدةِ بعد أن صلَّى الظهرَ بها أربعاً، وخطبهم قبل ذلك خُطبةً علَّمهم فيها الإحرام وواجباتِه وسننه.
وقال ابن حزم: وكان خروجُه يومَ الخميس، قلتُ: والظاهر: أن خروجَه كان يوم السبت، واحتج ابنُ حزم على قوله بثلاث مقدمات، إحداها: أن خروجه كان لِسِتٍّ بَقِينَ من ذى القعدة، والثانية: أن استهلال ذى الحِجة كان يومَ الخميس، والثالثة: أن يوم عرفة كان يومَ الجمعة، واحتج على أن خروجه كان لسِت بقين من ذى القِعْدة، بما روى البخارى من حديث ابن عباس:
"انطلق النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن المدينة بعد ما تَرَجَّلَ وادَّهَنَ..." فذكر الحديث، وقال:وذلك لخمس بَقين من ذِى القِعْدة.
قال ابن حزم: وقد نصَّ ابنُ عمر على أن يَوْمَ عرفة، كان يَوْمَ الجمعة،

وهو التاسع، واستهلال ذى الحِجة بلا شك ليلة الخميس، فآخر ذى القِعْدة يوم الأربعاء، فإذا كان خرُوجُه لسِتِّ بَقين من ذى القِعْدة، كان يومَ الخميس، إذ الباقى بعده ستُّ ليالٍ سواه.
ووجه ما اخترناه، أن الحديث صريحٌ فى أنه خرج لِخمسٍّ بَقين وهى: يوم السبت، والأحد، والإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، فهذه خمس، وعلى قوله: يكون خروجه لسبعٍّ بقين. فإن لم يَعِدْ يوم الخروج، كان لستٍّ، وأيُّهما كان، فهو خلافُ الحديث. وإن اعتبر الليالى، كان خروجُه لسِت ليال بقين لا لخمس، فلا يَصِحُّ الجمعُ بين خروجه يوم الخميس، وبينَ بقاء خمس من الشهر البتة، بخلافِ ما إذا كان الخروجُ يوم السبت، فإن الباقى بيوم الخروج خمسٌ بلا شك، ويدلُّ عليه أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر لهم فى خطبته على مِنبره شأن الإحرام، وما يلبَسُ المحرِمُ بالمدينة، والظاهر: أن هذا كان يومَ الجمعة، لأنه لم يُنقل أنه جمعهم، ونادى فيهم لحضور الخُطبة، وقد شهد ابنُ عمر رضى الله عنهما هذه الخطبة بالمدينة على منبره. وكان مِن عادته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُعلِّمهم فى كلِّ وقت ما يحتاجون إليه إذا حضر فعله، فأولى الأوقات به الجمعة التى يليها خروجُه، والظاهر: أنه لم يكن لِيدَعَ الجمعة وبينه وبينها بعضُ يوم من غير ضرورة، وقد اجتمع إليه الخلقُ، وهو أحرصُ الناس على تعليمهم الدِّين، وقد حضر ذلك الجمع العظيم، والجمعُ بينه وبين الحج ممكنٌ بلا تفويت، والله أعلم.
ولما علم أبو محمد بن حزم، أن قول ابن عباس رضى الله عنه، وعائشة رضى الله عنها: خرج لخمس بَقين من ذى القِعْدة، لا يلتئمُ مع قوله أوَّله بأن قال: معناه أن اندفاعه من ذِى الحُليفة كان لخمس، قال: وليس بين ذى الحُليفة وبين المدينة إلا أربعةُ أميال فقط، فلم تُعَدْ هذه المرحلة القريبة

لِقلَّتها، وبهذا تأتلِف جميعُ الأحاديث. قال: ولو كان خروجُه من المدينة لخمسٍ بقين لذى القِعْدة، لكان خروجُه بلا شك يَوْمَ الجمعة، وهذا خطأ، لأن الجمعة لاتصلَّى أربعاً، وقد ذكر أنس، أنهم صلُّوا الظهر معه بالمدينة أربعاً. قال: ويزيده وضوحاً، ثم ساق من طريق البخارى، حديث كعب بن مالك: "قلَّما كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرُج فى سفر إذا خرج، إلا يومَ الخميس"، وفى لفظ آخر: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُحب أن يخرُج يومَ الخميس، فبطل خروجه يومَ الجمعة لما ذكرنا عن أنس، وبطل خروجُه يوم السبت، لأنه حينئذ يكون خارجاً من المدينة لأربعٍ بَقين من ذى القِعدة، وهذا ما لم يقله أحد.
قال: وأيضاً قد صحَّ مبيتُه بذى الحُليفة الليلَة المستقبلة من يوم خروجه من المدينة، فكان يكون اندفاعه من ذى الحُليفة يوم الأحد، يعنى: لو كان خروجُه يوم السبت، وصح مبيتُه بذى طُوى ليلةَ دخوله مكة، وصحَّ عنه أنه دخلها صُبح رابعة من ذى الحِجَّة، فعلى هذا تكونُ مدةُ سفره من المدينة إلى مكة سبعةَ أيام، لأنه كان يكون خارجاً من المدينة لو كان ذلك لأربع بَقين لِذى القِعْدة، واستوى على مكة لثلاث خَلَوْنَ من ذى الحِجة، وفى استقبال الليلة الرابعة، فتلك سبعُ ليالٍ لا مزيد، وهذا خطأ بإجماع، وأمرٌ لم يقله أحد، فصحَّ أن خروجه كان لِستٍ بقين من ذى القِعْدة وائتلفت الرواياتُ كلُّها، وانتفى التعارُض عنها بحمد الله، انتهى.
قلت: هى متآلفة متوافقة، والتعارض مُنتفٍ عنها مع خروجه يومَ

السبت، ويزولُ عنها الاستكراه الذى أوَّلها عليه كما ذكرناه. وأما قول أبى محمد بن حزم:"لو كان خروجُه من المدينةِ لخمسٍ بَقين من ذى القِعْدة، لكان خروجُه يومَ الجمعة..." إلى آخره فغيرُ لازم، بل يصح أن يخرُج لخمس، ويكون خروجه يوم السبت، والذى غرَّ أبا محمد أنه رأى الراوى قد حذف التاء من العدد، وهى إنما تُحذف من المؤنث، ففهم لخمس ليال بقين، وهذا إنما يكون إذا كان الخروجُ يوم الجمعة، فلو كان يوم السبت، لكان لأربع ليال بقين، وهذا بعينه ينقلِبُ عليه، فإنه لو كان خروجُه يوم الخميس، لم يكن لخمس ليال بقين، وإنما يكون لست ليال بقين، ولهذا اضطر إلى أن يُؤوِّل الخروج المقيَّد بالتاريخ المذكور بخمس على الاندفاع من ذى الحُليفة، ولا ضرورة له إلى ذلك، إذ من الممكن أن يكون شهرُ ذى القِعْدة كان ناقصاً، فوقع الإخبار عن تاريخ الخروج بخمس بقين منه بناءً على المعتاد من الشهر، وهذه عادةُ العرب والناس فى تواريخهم، أن يُؤرِّخُوا بما بقى من الشهر بناءً على كماله، ثم يقع الإخبار عنه بعد انقضائه، وظهور نقصه كذلك، لئلا يختلِف عليهم التاريخُ، فيصِحُّ أن يقول القائلُ: يوم الخامس والعشرين، كتب لخمس بقين، ويكون الشهر تسعاً وعِشرين، وأيضاً فإن الباقى كان خمسة أيام بلا شك بيوم الخروج، والعرب إذا اجتمعت الليالى والأيام فى التاريخ، غلَّبت لفظَ الليالى لأنها أولُ الشهر، وهى أسبقُ من اليوم، فتذكر الليالى، ومرادُها الأيام، فيصِحُّ أن يُقال: لخمسٍ بَقين باعتبار الأيام، ويُذكَّر لفظ العدد باعتبار الليالى، فصحَّ حينئذ أن يكون خروجه لخمسٍ بقين، ولا يكون يوم الجمعة. وأما حديثُ كعب، فليس فيه أنه لم يكن يخرُج قطُّ إلا يومَ الخميس، وإنما فيه أن ذلك كان أكثرَ خروجه، ولا ريب أنه لم يكن يتقيَّد فى خروجه إلى الغزوات بيوم الخميس.
وأما قوله: لو خرج يومَ السبت، لكان خارجاً لأربع، فقد تبيَّن أنه

لا يلزم، لا باعتبار الليالى، ولا باعتبار الأيام.
وأما قوله: "إنه بات بذى الحُليفة الليلة المستقبَلَة مِن يوم خروجه من المدينة".. إلى آخره، فإنه يلزم من خروجه يوم السبت أن تكون مدةُ سفره سبعة أيام، فهذا عجيبٌ منه، فإنه إذا خرج يومَ السبت وقد بقى من الشهر خمسةُ أيام، ودخل مكة لأربع مَضين مِن ذى الحِجة، فبين خروجه من المدينة ودخوله مكة تسعة أيام، وهذا غيرُ مشكل بوجه من الوجوه، فإن الطريق التى سلكها إلى مكة بين المدينة وبينها هذا المقدار، وسيرُ العرب أسرعُ من سير الحضر بكثير، ولا سيما مع عدم المحامل والكجاوات والزوامِل الثِّقال... والله أعلم.
عدنا إلى سياق حَجِّه، فصلَّى الظهر بالمدينة بالمسجد أربعاً، ثم ترجَّل وادَّهن، ولبس إزاره ورداءه، وخرج بين الظهر والعصر، فنزل بذى الحُليفة، فصلَّى بها العصر ركعتين، ثم بات بها وصلَّى بها المغرب، والعشاء، والصبح، والظهر، فصلَّى بها خمس صلوات، وكان نساؤه كُلُّهن معه، وطاف عليهن تِلك الليلة، فلما أراد الإحرام، اغتسل غُسلاً ثانياً لإحرامه غير غُسل الجِماع الأول، ولم يذكر ابن حزم أنه اغتسل غير الغُسل الأول للجنابة، وقد ترك بعضُ الناس ذِكره، فإما أن يكون تركه عمداً، لأنه لم يثبت عنده، وإما أن يكون تركه سهواً منه، وقد قال زيدُ بن ثابت:"إنه رأى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تجرَّد لإهلاله واغتسل". قال الترمذى: حديث حسن غريب.

وذكر الدارقطنى، عن عائشة قالت: "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن يُحرِمَ، غسل رأسه بخطمى وأُشْنَان. ثم طيَّبته عائشة بيدها بِذَرِيرَةٍ وطيبٍ فيه مسك فى بدنه ورأسه، حتى كان وبيص المِسك يُرى فى مفارقه ولِحيته، ثم استدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلَّى الظهر ركعتين، ثم أهَلَّ بالحجِّ والعُمرة فى مصلاه"، ولم يُنقل عنه أنه صلَّى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر.
وقلَّد قبل الإحرام بُدنه نعلين، وأشعرَها فى جانبها الأيمن، فشقَّ صفحةَ سَنامِها، وسَلَتَ الدَّمَ عنها
وإنما قلنا: إنه أحرم قارناً لِبضعة وعشرين حديثاً صحيحة صريحة فى ذلك.
أحدها: ما أخرجاه فى الصحيحين عن ابن عمر، قال:"تمتَّع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّة الوداع بالعُمرة إلى الحج، وأهدى، فساق معه الهَدْىَ مِن ذى الحُليفة، وبدأ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأَهَلَّ بالعُمرة، ثم أهلَّ بالحجَّ...." وذكر الحديث.
وثانيها: ما أخرجاه فى الصحيحين أيضاً، عن عروة، عن عائشة

أخبرته عن رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بمثل حديث ابن عمر سواء.
وثالثها: ما روى مسلم فى صحيحه من حديث قُتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر، أنَّه قرن الحجَّ إلى العُمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً، ثم قال: "هكذا فعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
ورابعها: ما روى أبو داود، عن النفيلى، حدثنا زهير هو ابن معاوية حدثنا إسحاق عن مجاهد "سئل ابنُ عمر: كم اعتمرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: مرتين. فقالت عائشةُ: لقد عَلِمَ ابنُ عمر أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر ثلاثاً سِوى التى قرن بحَجَّته".
ولم يُناقض هذا قولَ ابن عمر: "إنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قرن بين الحجِّ والعُمرة"، لأنه أراد العُمْرة الكاملة المفردة، ولا ريب أنهما عُمرتان: عُمرةُ القضاء وعُمرةُ الجِعرانة، وعائشة رضى الله عنها أرادت العُمْرتين المستقلَّتَيْنِ، وعُمرَة القِران، والتى صُدَّ عنها، ولا ريب أنها أربع.
وخامسها: ما رواه سفيان الثورى، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "حجَّ ثلاثَ حِجج: حَجَّتينِ قبل أن يُهاجر، وحَجَّة بعد ما هاجر معها عُمرة" رواه الترمذى وغيره.
وسادسها: ما رواه أبو داود، عن النُّفيلى، وقتيبة قالا: حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس،

قال: "اعتمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعَ عُمَرٍ: عُمرةَ الحُديبية، والثانية: حين تواطؤُوا على عُمرةٍ مِن قابل، والثالثة من الجِعرانة، والرابعة التى قرن مع حَجَّته".
وسابعها: ما رواه البخارى فى صحيحه عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوادى العَقيق يقول: "أتانى اللَّيْلَة آتٍ مِنْ رَبِّى عَزَّ وجلَّ، فقال: صَلِّ فى هَذَ الوَادى المُبارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ فى حَجَّةٍ".
وثامنها: ما رواه أبو داود عن البرَّاء بن عازب قال: "كنت مع علىٍّ رضى الله عنه حين أَمَّرَهُ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على اليمن، فأصبتُ معه أَوَاقىَّ مِن ذهَبٍ، فلما قَدِمَ علىٌّ من اليمن على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: وجدتُ فاطمة رضى الله عنها قد لَبِسَتْ ثياباً صَبِيغَات، وقد نضحت البيت بِنَضُوحٍ، فقالت: مالك؟ فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمر أصحابَه فأحَلُّوا، قال: فقلتُ لها: إنى أهللتُ بإهلال النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فأتيتُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لى: "كيف صنعتَ"؟ قال: قُلتُ: أهللتُ بإهلال النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "فإنى قد سُقْتُ الهَدْىَ، وقَرَنْتُ..." ، وذكر الحديث.
وتاسعها: ما رواه النسائى عن عمران بن يزيد الدمشقى، حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا الأعمش، عن مسلم البطين، عن علىّ بن الحُسين، عن

مروان بن الحكم قال: "كنتُ جالساً عند عثمان، فسمع علياً رضى الله عنه يُلبِّى بِعُمرة وحَجَّةٍ، فقال: ألم تَكُن تُنْهَى عَنْ هَذَا؟ قال: بلَى لكنى سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّى بهما جميعاً، فلم أدَعْ قولَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِكَ".
وعاشرها: ما رواه مسلم فى صحيحه مِن حديث شُعبة، عن حُميد بن هِلال قال: سمعتُ مُطرِّفاً قال: قال عمران بن حصين: أُحدِّثك حديثاً عسى اللهُ أن ينفعكَ به: إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "جمع بين حَجَّةٍ وعُمْرة، ثم لم يَنْهَ عنه حتَّى ماتَ، ولم يَنْزِلْ قُرآن يُحرِّمُ".
وحادى عشرها: ما رواه يحيى بن سعيد القطان، وسفيان بن عُيينة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن عبد الله بن أبى قتادة، عن أبيه قال: "إنما جَمَعَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الحجِّ والعُمْرة، لأنه علم أنه لا يَحُجُّ بَعدها". وله طرق صحيحة إليهما.
وثانى عشرها: ما رواه الإمام أحمد من حديث سُراقة بنِ مالك قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ" ، قَالَ: وَقَرَنَ النَّبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّة الوَادَعِ. إسناده ثقات.
وثالثُ عشرها: ما رواه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث أبى طَلحَةَ

الأنصارِىّ"أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَة" ورواه الدارقطنى، وفيه الحجاج بن أرطاة.
ورابعُ عشرها: ما رواه أحمد مِن حديث الهرْمَاس بن زياد الباهلى"أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرن فى حَجَّةِ الوَادَعِ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَة".
وخامسُ عشرها: ما رواه البزار بإسناد صحيح أن ابن أبى أوفى قال: "إنما جمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الحجِّ والعُمْرَة، لأنه علم أنه لا يحُجُّ بعد عامِه ذلك" وقد قيل: إن يزيد بن عطاء أخطأ فى إسناده، وقال آخرون: لا سبيلَ إلى تخطئته بغير دليل.
وسادسُ عشرها: ما رواه الإمام أحمد، مِن حديث جابر بن عبد الله،"أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ الحَجَّ والعُمْرَةَ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافاً واحِداً". ورواه الترمذى، وفيه الحجاجُ بنُ أرطاة، وحديثُه لا ينزِل عن درجةِ الحَسَنِ ما لم ينفرِدْ بشئ، أو يُخالف الثِّقات.
وسابعُ عشرها: ما رواه الإمام أحمد، من حديث أُمِّ سلمة قالت: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقُول: "أَهِلُّوا يا آلَ مُحَمَّدٍ بِعُمْرَةٍ فى حَجٍّ".

وثامن عشرها: ما أخرجاه فى الصحيحين واللفظ لمسلم، عن حفصةَ قالت: قلتُ للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما شأنُ النَّاسِ حلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قال: "إنِّى قَلَّدْتُ هَدْيي، ولَبَّدْتُ رَأسى، فلا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنَ الحَجِّ"، وهذا يدل على أنه كان فى عُمرةٍ معها حَج، فإنه لا يَحلُّ من العُمْرة حتى يَحِلَّ من الحَج، وهذا على أصل مالك والشافعىِّ ألزمُ، لأن المعتمِر عُمرةً مفردة، لا يمنعه عندهما الهدىُ من التحلل، وإنما يمنعه عُمْرة القِران، فالحديثُ على أصلهما نص.
وتاسعُ عشرها: ما رواه النسائى، والترمذى، عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، أنه سمِعَ سعدَ بن أبى وقاص، والضحاكَ بن قيس عامَ حجَّ معاويةُ بنُ أبى سفيان، وهما يذكران التمتع بالعُمْرة إلى الحجِّ، فقال الضحاك: لا يصنعُ ذلك إلا مَنْ جَهِلَ أمرَ اللهِ، فقال سعد: بئسَ ما قلتَ يا ابنَ أخى. قال الضحاك: فإن عمرَ بنَ الخطاب نهى عن ذلك، قال سعد: قد صنعها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصنعناها معه، قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
ومراده بالتمتع هنا بالعُمْرة إلى الحَج: أحدُ نوعيه، وهو تمتُّع القِران، فإنه لغةُ القرآن، والصحابة الذين شهدوا التنزيلَ والتأويل شهِدوا بذلك، ولهذا قال ابنُ عمر: تمتع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعُمْرة إلى الحَجِّ، فبدأ فأهلَّ بالعُمْرة، ثمَّ أهلَّ بالحجِّ، وكذلك قالت عائشة، وأيضاً: فإن الذى صنعه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هو مُتعة القِران بلا شك، كما قطع به أحمد، ويدل على ذلك أن

عمران بن حصين قال: "تمتَّع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتمتَّعنا معه" متفق عليه. وهو الذى قال لمطرِّف: "أُحدِّثك حديثاً عسى الله أن ينفعَك به، إن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جمع بَيْن حَجٍّ وعُمْرَةٍ، ثمَّ لم يَنْهَ عَنْهُ حتَّى مَاتَ". وهوفىصحيح مسلم، فأخبر عن قِرانه بقوله: تمتَّع. وبقوله: جمع بين حج وعُمْرة.
ويدل عليه أيضاً: ما ثبت فى الصحيحين عن سعيد بن المسيِّب قال: "اجتمع علىٌّ وعثمانُ بعُسْفَان، فقال: كان عثمانُ ينهى عن المُتعة أو العُمرة، فقال علىّ: ما تُريد إلى أمر فعله رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنهى عنه؟ قال عثمانُ: دعنا مِنْك، فقال: إنى لا أستطيع أن أدعَك، فلما أن رأى علىٌّ ذلك، أهلَّ بِهِما جميعاً". هذا لفظ مسلم.
ولفظ البخارى "اختلف علىّ وعُثمان بعُسْفَانَ فى المُتعة، فقال علىُّ: ما تريد إلا أن تنهى عن أمرٍ فعله رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما رأى ذلك علىٌّ، أهلَّ بهما جميعا".
وأخرج البخارى وحدَه من حديث مروان بنِ الحكم قال: "شهدتُ عثمان وعلياً، وعثمانُ ينهى عن المُتعة، وأن يُجْمَعَ بينهما، فلما رأى علىٌّ ذلك، أهلَّ بهما: لبَّيْكَ بعُمْرَةٍ وحَجَّة، وقال: ما كنتُ لأَدَعَ سُّنَّة رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقول أحد".
فهذا يُبيِّن، أن مَن جمع بينهما، كان متمتِّعاً عندهم، وأن هذا هو الذى فعله رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد وافقه عثمانُ على أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك، فإنه لما قال له: ما تُريد إلى أمر فعله رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنهى عنه، لم يقل له:

لم يفعلْه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولولا أنه وافقه على ذلك، لأنكره، ثم قصد علىّ إلى موافقة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والاقتداء به فى ذلك، وبيان أن فعله لم يُنسخ، وأهلَّ بهما جميعاً تقريراً للاقتداء به ومتابعته فى القِران، وإظهاراً لسُّنَّة نهى عنها عثمان متأوِّلاً، وحينئذ فهذا دليل مستقل تمام العشرين.
الحادى والعشرون: ما رواه مالك فى الموطأ، عن ابن شهاب، عن عُروة، عن عائشة أنها قالت: "خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَ حَجَّة الوداع، فأهللنا بعُمرة، ثم قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كانَ مَعَه هَدْىٌ، فَلْيُهْلِلْ بالحَجِّ مَعَ العُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ منهما جَمِيعاً".
ومعلوم: أنه كان معه الهَدْىُ، فهو أولى مَن بادر إلى ما أمر به، وقد دل عليه سائرُ الأحاديث التى ذكرناها ونذكرها.
وقد ذهب جماعة من السَلَف والخَلَف إلى إيجاب القِران على مَن ساق الهَدْىَ، والتمتع بالعُمْرة المفردة على مَن لم يَسُق الهدىَ، منهم: عبدُ الله بن عباس وجماعة، فعندهم لا يجُوز العدولُ عما فعله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمر به أصحابه، فإنه قرن وساق الهَدْى، وأمر كُلَّ مَن لا هَدْىَ معه بالفسخ إلى عُمْرة مفردة، فالواجب: أن نفعل كما فعل، أو كما أمر، وهذا القول أصحُّ مِن قول مَن حرَّم فسخ الحج إلى العُمْرة من وجوه كثيرة، سنذكرها إن شاء الله تعالى.
الثانى والعشرون: ما أخرجاه فى الصحيحين أبى قِلابة، عن أنس بن مالك. قال: "صلَّى بنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحنُ معه بالمدينة الظهرَ أربعاً، والعصرَ بذى الحُليفة ركعتين، فباتَ بها حتَّى أصبح، ثم ركِبَ حتَّى استوت به راحِلتُه

على البيداء، حَمِدَ الله وسبَّح وكبَّر ثمَّ أهلَّ بحَجٍّ وعُمْرة، وأهلَّ الناسُ بهما، فلما قَدمنَا، أمرَ الناس، فحلُّوا، حتى إذا كان يومُ التَّرْويَةِ أهلُّوا بالحَج".
وفي الصحيحين أيضاً: عن بكر بن عبد الله المزنى، عن أنس قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلبِّى بالحجِّ والعُمرة جميعاً، قال بكر: فحدثتُ بذلك ابنَ عمر، فقال: لبَّى بالحَجِّ وحدَه، فلقيتُ أنساً، فحدَّثتُه بقول ابن عمر، فقال أنس: ما تعدُّوننا إلا صِبْياناً، سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لَبَّيْكَ عُمْرَةً وحَجَّاً". وبين أنس وابن عُمر فى السِّنِّ سنةٌ، أو سنةٌ وَشيءٌ.
وفى صحيح مسلم، عن يحيى بن أبى إسحاق، وعبد العزيز بن صهيب، وحُميد، أنهم سمِعوا أنساً قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهلَّ بهما: "لَبَّيْكَ عُمْرَةً وحَجَّاً".
وروى أبو يوسف القاضى، عن يحيى بن سعيد الأنصارى، عن أنس قال: سمعتُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لَبَّيْكَ بِحَجٍّ وعُمْرَةٍ معاً".
وروى النسائى من حديث أبى أسماء، عن أنس قال: "سمعت النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُلَبِّى بِهِمَا".
وروى أيضاً من حديث الحسن البصرى، عن أنس: "أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهلَّ بالحَجِّ والعُمْرة حين صلَّى الظهر".

وروى البزار، من حديث زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب، عن أنس، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أهلَّ بحَجٍّ وعُمْرة. ومن حديث سُليمان التيمى عن أنس كذلك، وعن أبى قدامة عن أنس مثله، وذكر وكيع: حدثنا مُصعب بن سليم قال: سمعت أنساً مثله، قال: وحدثنا ابنُ أبى ليلى، عن ثابت البناني، عن أنس مثله، وذكر الخشنى: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبى قزعة، عن أنس مثله.
وفى صحيح البخارى، عن قتادة، عن أنس "اعتمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربَع عُمَر، فذكرها وقال: وعُمْرة مع حَجَّته.." وقد تقدَّم.
وذكر عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن أيوب، عن أبى قلابة وحُميد بن هلال، عن أنس مثله، فهؤلاء ستة عشر نفساً من الثقات، كُلُّهم متَّفِقون عن أنس، أن لفظ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إهلالاً بحَجٍّ وعُمرة معاً، وهم الحسن البصرى، وأبو قِلابة، وحُميد بن هلال، وحُميد بن عبد الرحمن الطويل، وقتادة، ويحيى بن سعيد الأنصارى، وثابت البُنانى، وبكر بن عبد الله المزنى، وعبد العزيز بن صُهيب، وسليمان التيمى، ويحيى بن أبى إسحاق، وزيد بن أسلم، ومصعب بنُ سليم، وأبو أسماء، وأبو قُدامة عاصم بن حسين، وأبو قزعة وهو سُويد بن حجر الباهلى.
فهذه أخبار أنس عن لفظ إهلاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذى سمعه منه، وهذا علىّ والبرّاء يُخبران عن إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نفسه بالقِران، وهذا على أيضاً، يُخبر أَن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعله، وهذا عمرُ بن الخطاب رضى الله عنه، يُخبر عن رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن ربَّه أمره بأن يفعله، وعلَّمه اللَّفظ الذى يقوله عند الإحرام، وهذا على أيضاً يخبر، أنه سمعَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلبِّى بهما جميعاً، وهؤلاء بقيةُ مَنْ ذكرنا يخبرون عنه، بأنه فعله، وهذا هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمُرُ به

آله، ويأمر به مَن ساق الهَدْى.
وهؤلاء الذين رَوَوُا القِران بغاية البيان: عائشة أم المؤمنين، وعبدُ الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس، وعمر بن الخطاب، وعلىّ بن أبى طالب، وعثمان بن عفان بإقراره لعلىِّ، وتقرير علىّ له، وعِمران بن الحُصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابنُ أبى أوفى، وأبو طلحة، والهِرماس بن زياد، وأُمُّ سلمة، وأنسُ بن مالك، وسعدُ بن أبى وقاص، فهؤلاء هم سبعةَ عشر صحابياً رضى الله عنهم، منهم مَن روى فعله، ومنهم مَن روى لفظ إحرامه، ومنهم مَن روى خبره عن نفسه، ومنهم مَن روى أمره به.
فإن قيل: كيف تجعلون منهم ابن عمر، وجابراً، وعائشة، وابن عباس؟ وهذه عائشةُ تقول: "أهلَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحج" وفى لفظ "أفرد الحج" والأول فىالصحيحين والثانى فى مسلم وله لفظان، هذا أحدهما والثانى"أهلَّ بالحج مُفرِدا"، وهذا ابنُ عمر يقول: "لبَّى بالحجِّ وحدَه". ذكره البخارى، وهذا ابن عباس يقول: "وأهلَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحج" رواه مسلم، وهذا جابر يقول: "أفرد الحج" رواه ابن ماجه.
قيل: إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت، فإن أحاديث الباقين لم تتعارض، فهب أن أحاديث مَن ذكرتم لا حُجة فيها على القِران، ولا على الإفراد لتعارضها، فما الموجبُ للعدول عن أحاديث الباقين مع

صراحتها وصحتها؟ فكيف وأحاديثُهم يُصدِّقُ بعضُها بعضاً ولا تعارض بينها، وإنما ظنَّ مَن ظن التعارض لعدم إحاطته بمراد الصحابة من ألفاظهم، وحملها على الاصطلاح الحادث بعدهم.
ورأيت لشيخ الإسلام فصلاً حسناً فى اتفاق أحاديثهم نسوقه بلفظه، قال: والصوابُ أن الأحاديث فى هذا الباب متفقة ليست بمختلفة إلا اختلافاً يسيراً يقع مثلُه فى غير ذلك، فإن الصحابة ثبت عنهم أنه تمتَّع، والتمتع عندهم يتناولُ القِران، والذين رُوى عنهم أنه أفرد، رُوى عنهم أنه تمتع، أما الأول: ففى الصحيحين عن سعيد بن المسيِّب قال: اجتمع على وعثمان بعُسفانَ، وكان عثمان ينهى عن المُتعة أو العُمرة، فقال علىُّ رضى الله عنه: "ما تريد إلى أمر فعله رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا مِنك. فقال: إنى لا أستطيعُ أن أدَعك. فلما رأى علىُّ رضى عنه ذلك، أهلَّ بهما جميعاً"هذا يُبين أن مَن جمع بينهما كان متمتعاً عندهم، وأن هذا هو الذى فعله النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووافقه عثمان على أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك، لكن كان النزاعُ بينهما: هل ذلك الأفضل فى حقنا أم لا؟ وهل شُرِع فسخُ الحج إلى العُمْرة فى حقنا كما تنازع فيه الفقهاء؟ فقد اتفق علىٌّ وعثمان، على أنه تمتَّع، والمراد بالتمتع عندهم القِران، وفى الصحيحين عن مطرِّف قال: قال عِمران بن حصين "إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع بين حجٍّ وعُمْرة، ثم إنه لم ينه عنه حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرِّمه". وفى رواية عنه: تمتَّع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتمتعنا معه، فهذا عِمران وهو من أجلِّ السابقين الأوَّلين، أخبر أنه تمتع، وأنه جمع بين الحجِّ والعُمْرة، والقارِن عند الصحابة متمتِّع، ولهذا أوجبوا عليه الهَدْىَ، ودخل فى قوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ} [البقرة: 196]، وذكر حديث عمر عن

النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أتانى آتٍ مِنْ ربِّى فقال: صَلِّ فى هذَا الوَادِى المُبارَكِ وقل: عُمْرَةٌ فى حَجَّة".
قال: فهؤلاء الخلفاء الراشدون: عمر، وعثمان، وعلىّ، وعِمران بن حُصين، روىَ عنهم بأصح الأسانيد، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرن بين العُمرة والحج، وكانوا يسمون ذلك تمتعاً، وهذا أنس يذكر أنه سِمع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلبِّى بالحجِّ والعُمرة جميعاً.
وما ذكره بكرُ بن عبد الله المزنى، عن ابن عمر، أنه لبَّى بالحج وحده، فجوابه أن الثقات الذين هم أثبتُ فى ابن عمر من بكر مثل سالم ابنه، ونافع رَوَوْا عنه أنه قال: تمتَّع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعُمْرة إلى الحج، وهؤلاء أثبتُ فى ابن عمر من بكر. فتغليطُ بكر عن ابن عمر أولى من تغليط سالم ونافع عنه، وأولى من تغليطه هو على النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويُشبه أن ابن عمر قال له: أفردَ الحج، فظن أنه قال: لبَّى بالحج، فإن إفراد الحج، كانوا يُطلقونه ويُريدون به إفراد أعمال الحج، وذلك رد منهم على مَن قال: إنه قرن قِراناً طاف فيه طوافين، وسعى فيه سعيين، وعلى مَن يقول: إنه حلَّ من إحرامه، فرواية مَن روى من الصحابة أنه أفرد الحج، تردُّ على هؤلاء، يبين هذا ما رواه مسلم فى صحيحه عن نافع، عن ابن عمر، قال: أهللنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحجِّ مُفرداً، وفى رواية: أهل بالحجِّ مفرداً.
فهذه الرواية إذا قيل: إن مقصودها أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهلَّ بحج مفرداً، قيل: فقد ثبت بإسناد أصحَّ من ذلك، عن ابن عمر، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمتع بالعُمْرة إلى الحَج، وأنه بدأ، فأهلَّ بالعُمْرة ثم أهلَّ بالحَج، وهذا مِن رواية الزهرى، عن سالم، عن ابن عمر وما عارض هذا عن ابن عمر،

إما أن يكون غلطاً عليه، وإما أن يكون مقصُوده موافقاً له، وإما أن يكون ابن عمر لما علم أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَحِلَّ، ظنَّ أنه أفرد، كما وَهِمَ فى قوله: إنه اعتمر فى رجب، وكان ذلك نسياناً منه، والنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما يَحِلَّ من إحرامه، وكان هذا حال المفرد ظن أنه أفرد، ثم ساق حديث الزهرى، عن سالم، عن أبيه: "تمتَّع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..." الحديث. وقول الزهري: وحدثنى عُروة، عن عائشة بمثل حديث سالم عن أبيه قال: فهذا مِن أصح حديثٍ على وجه الأرض، وهو من حديث الزهرى أعلم أهلِ زمانه بالسُّنَّة، عن سالم، عن أبيه، وهو من أصح حديث ابن عمر وعائشة.
وقد ثبت عن عائشة رضى الله عنها فى الصحيحين "أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر أربعَ عُمَر، الرابعة مع حَجَّته". ولم يعتمِرْ بعد الحَجِّ باتفاق العلماء، فيتعينُ أن يكون متمتِّعاً تمتُّع قِران، أو التمتع الخاص.
وقد صح عن ابن عمر، أنه قرن بين الحَجِّ والعُمْرة، وقال: "هكذا فعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" رواه البخارى فى الصحيح.
قال: وأما الذين نُقِلَ عنهم إفراد الحج، فهم ثلاثة: عائشة، وابن عمر، وجابر، والثلاثة نُقِلَ عنهم التمتع، وحديث عائشة وابن عمر:أنه تمتع بالعُمْرة إلى الحَجِّ أصحُّ من حديثهما، وما صح فى ذلك عنهما، فمعناه إفرادُ أعمال الحج، أو أن يكون وقعَ منه غلط كنظائره، فإن أحاديث التمتع متواترة رواها أكابرُ الصحابة، كعمر، وعثمان، وعلى، وعِمران بن حصين، ورواها أيضاً:عائشة، وابنُ عمر، وجابر، بل رواها عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضعة عشر من الصحابة.
قلت: وقد اتفق أنس، وعائشة، وابن عمر، وابن عباس، على أن

النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر أربع عُمَر، وإنما وهم ابنُ عمر فى كون إحداهن فى رجب، وكلهم قالوا: وعُمْرة مع حَجَّته، وهم سوى ابن عباس. قالوا: إنه أفرد الحج، وهم سوى أنس، قالوا: تمتع. فقالوا: هذا، وهذا، وهذا، ولا تناقض بين أقوالهم، فإنه تمتعَ تَمَتُّعَ قِران، وأفرد أعمال الحج، وقرن بين النُّسكين، وكان قارناً باعتبار جمعه بين النُّسكين، ومفرداً باعتبار اقتصاره على أحد الطوافين والسعيين، ومتمتِّعاً باعتبار ترفُّهه بترك أحد السفرين.
ومَن تأمل ألفاظَ الصحابة، وجمع الأحاديث بعضها إلى بعض، واعتبر بعضها ببعض، وفهم لغةَ الصحابة، أسفر له صُبْحُ الصواب، وانقشعت عنه ظلمة الاختلاف والاضطراب، والله الهادى لسبيل الرشاد، والموفق لطريق السداد.
فمَن قال: إنه أفرد الحج وأراد به أنه أتى بالحج مفرداً، ثم فرغ منه، وأتى بالعُمْرة بعده من التنعيم أو غيره، كما يظن كثيرٌ من الناس، فهذا غلط لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا الأئمة الأربعة، ولا أحد من أئمة الحديث. وإن أراد به أنه حَجَّ حَجَّاً مفرداً، لم يعتمِرْ معه كما قاله طائفة من السَلَف والخَلَف، فوهم أيضاً، والأحاديث الصحيحة الصريحة ترده كما تبَيَّن، وإن أراد به أنه اقتصر على أعمال الحج وحده ولم يفرد للعُمْرة أعمالا، فقد أصاب، وعلى قوله تدل جميع الأحاديث. ومَن قال: إنه قرن، فإن أراد به أنه طاف للحَجِّ طوافاً على حدة، وللعُمْرة طوافاً على حدة، وسعى للحَجِّ سعياً، وللعُمْرة سعياً، فالأحاديث الثابتة ترد قوله، وإن أراد أنه قرن بين النُّسكين، وطاف لهما طوافاً واحداً، وسعى لهما سعياً واحداً، فالأحاديث الصحيحة تشهد لقوله، وقولُه هو الصواب.

ومَن قال: إنه تمتَّع، فإن أراد أنه تمتَّع تَمَتُّعاً حلَّ منه، ثم أحرم بالحَجِّ إحراماً مستأنفاً، فالأحاديث تردُّ قوله وهو غلط، وإن أراد أنه تمتع تمتعاً لم يَحِلَّ منه، بل بقى على إحرامه لأجل سَوْق الهَدْى، فالأحاديث الكثيرة تردُّ قولَه أيضاً، وهو أقلُّ غلطاً، وإن أراد تمتع القِران، فهو الصوابُ الذى تدل عليه جميع الأحاديث الثابتة، ويأتلف به شملُها، ويزول عنها الإشكالُ والاختلاف.
فصل
غَلِط فى عُمَر النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسُ طوائف.
إحداها: مَن قال: إنه اعتمر فى رجب، وهذا غلط، فإن عُمَرَهُ مضبوطةٌ محفوظة، لم يخرُج فى رجب إلى شئ منها البتة.
الثانية: مَن قال: إنَّه اعتمر فى شوَّال، وهذا أيضاً وهم، والظاهر والله أعلم أن بعضَ الرواة غَلِطَ فى هذا، وأنه اعتكف فى شوَّال فقال: اعتمر فى شوَّال، لكن سياق الحديث، وقوله: "اعتمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث عُمَرٍ: عُمْرة فى شوَّال، وعُمْرتين فى ذى القِعْدَة" يدل على أن عائشة، أو مَنْ دونها، إنما قصد العُمْرة.
الثالثة: مَن قال: إنَّه اعتمر من التَّنعيم بعد حَجه، وهذا لم يقُلْه أحد من أهل العلم، وإنما يظنُّه العوام، ومن لا خِبرة له بالسُّنَّة.
الرابعة: مَن قال: إنَّه لم يعتمِرْ فى حَجَّته أصلاً، والسُّنَّة الصحيحةُ المستفيضة التى لا يُمكن ردُّها تُبطِلُ هذا القول.
الخامسة: مَن قال: إنَّه اعتمر عُمْرة حلَّ منها، ثم أحرم بعدها بالحج

من مكة، والأحاديث الصحيحةُ تُبطِلُ هذا القول وترده.
فصل
ووهم فى حَجه خمسُ طوائف.
الطائفة الأولى : التى قالت: حَجَّ حَجّاً مفرداً لم يعتمِرْ معه.
الثانية : مَن قال: حجَّ متمتعاً تمتعاً حلَّ منه، ثم أحرم بعده بالحج، كما قاله القاضى أبو يعلى وغيره.
الثالثة : مَن قال: حج متمتعاً تمتعاً لم يَحِلَّ منه لأجل سَوْق الهَدْى، ولم يكن قارناً، كما قاله أبو محمد بن قدامة صاحب "المغنى" وغيره.
الرابعة: مَن قال: حجَّ قارناً قِراناً طاف له طوافين، وسعى له سعيين.
الخامسة: مَن قال: حجَّ حَجّاً مفرداً، واعتمر بعده من التنعيم.
فصل
وغلط فى إحرامه خمسُ طوائف.
إحداها : مَن قال: لبَّى بالعُمرة وحدَها، واستمر عليها.
الثانية : مَن قال: لبَّى بالحَجِّ وحده، واستمر عليه.
الثالثة : مَن قال: لبَّى بالحَجِّ مُفرداً، ثم أدخل عليه العُمْرة، وزعم أن ذلك خاص به.
الرابعة : مَن قال: لبَّى بالعُمرة وحدها، ثم أدخل عليها الحَج فى ثانى الحال.

الخامسة: مَن قال: أحرم إحراماً مطلقاً لم يعيِّن فيه نُسُكاً، ثم عيَّنه بعد إحرامه.
والصوابُ : أنه أحرم بالحَجِّ والعُمرة معاً مِنْ حين أنشأ الإحرام، ولم يحلَّ حتى حلَّ منهما جميعاً، فطاف لهما طوافاً واحداً، وسعى لهما سعياً واحداً. وساق الهَدْى، كما دلَّت عليه النصوصُ المستفيضة التى تواترت تواتراً يعلمُه أهلُ الحديث.. والله أعلم.
فصل: فى أعذار القائلين بهذه الأقوال، وبيان منشأ الوهم والغلط
أما عُذر مَن قال: اعتمر فى رجب، فحديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر فى رجب متفق عليه. وقد غلَّطته عائشةُ وغيرُها، كما فى "الصحيحين" عن مجاهد، قال: دخلتُ أنا وعُروةُ بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر جالساً إلى حُجْرَةِ عائشة، وإذا ناسٌ يُصلُّون فى المسجد صلاةَ الضحى، قال: فسألناه عن صلاتهم. فقال: بدعة. ثم قُلنا له: كم اعتمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قال: أربعاً. إحداهن: فى رجب، فكرهنا أن نَرُدَّ عليه. قال: وسمعنا استنانَ عائشةَ أُمِّ المؤمنين فى الحُجْرَةِ، فقال عروةُ: يا أُمَّه أو يا أُمَّ المؤمنين ألا تسمعينَ ما يقولُ أبو عبد الرحمن ؟ قالت: ما يقولُ؟ قال: يقول: إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر أربَع عُمَرٍ، إحداهن فى رجب. قالت: يرحَمُ اللهُ أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عُمْرةً قطُّ إلا وهو شاهِدٌ، وما اعتمر فى رجب قط. وكذلك قال أنس، وابنُ عباس: إن عُمَرَه كُلَّها كانت فى ذى القِعْدة، وهذا هو الصواب.

فصل
وأما مَنْ قال: اعتمر فى شوَّال، فعذُره ما رواه مالك فى "الموطأ"، عن هشام بنِ عُروة، عن أبيه، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يعتمر إلا ثلاثاً، إحداهُنَّ فى شوَّال، واثنتين فى ذى القِعْدة. ولكن هذا الحديث مرسل، وهو غلط أيضاً، إما مِن هشام، وإما مِن عُروة أصابه فيه ما أصاب ابن عمر. وقد رواه أبو داود مرفوعاً عن عائشة، وهو غلط أيضاً لا يَصِحُّ رفعُه. قال ابنُ عبد البر: وليس روايته مسنداً مما يُذكر عن مالك فى صحة النقل. قلت: ويدلُّ على بطلانه عن عائشة: أن عائشة، وابن عباس، وأنسَ بنَ مالك قالوا: لم يعتَمِرْ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا فى ذى القِعْدة. وهذا هو الصواب، فإن عُمْرة الحُدَيْبِيَةِ وعُمرة القَضِيَّة، كانتا فى ذى القِعْدة، وعُمرة القِران إنما كانت فى ذى القِعْدة، وعُمرة الجِعْرَانَة أيضاً كانت فى أوَّل ذى القِعْدة، وإنما وقع الاشتباه أنه خرج من مكة فى شوَّال للقاء العدو، وفرغ من عدوه، وقسم غنائِمَهم، ودخلَ مكة ليلاً معتمِراً من الجِعرانة، وخرج منها ليلاً، فخفيت عُمْرتُه هذه على كثير من الناس، وكذلك قال مُحرِّشٌ الكعبىُّ.. والله أعلم.
فصل
وأما مَن ظن أنه اعتمر مِن التنعيم بعد الحج، فلا أعلم له عُذراً، فإن هذا خلافُ المعلومِ المستفيض من حَجَّته، ولم ينقلْه أحدٌ قط، ولا قاله إمامٌ، ولعل ظانَّ هذا سَمِع أنه أفرد الحَجَّ، ورأى أن كلَّ مَنْ أفرد الحَج مِن أهلِ

الآفاق لا بُد له أن يخرُج بعده إلى التنعيم، فنَزَّل حَجَّة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك، وهذا عينُ الغَلَطِ.
فصل
وأما مَن قال: إنه لم يعتمرْ فى حَجته أصلاً، فعذرُه أنه لما سمع أنه أفرد الحج، وعلم يقيناً أنه لم يَعتمِرْ بعد حَجته قال: إنه لم يعتمِرْ فى تلك الحَجة اكتفاءً منه بالعُمْرة المتقدِّمة، والأحاديثُ المستفيضة الصحيحة ترُدُّ قولَه كما تقدَّم من أكثر من عشرين وجهاً، وقد قال: "هذه عمرةٌ استمتعنا بها" وقالت حفصة: ما شأن الناسِ حَلُّوا ولم تَحِلَّ أنت من عُمرتك ؟ وقال سراقة بن مالك: تمتَّعَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك قال ابن عمر، وعائشة، وعِمران بن حصين، وابن عباس، وصرَّح أنس، وابن عباس، وعائشة، أنه اعتمر فى حَجته وهى إحدى عُمَرِهِ الأربع.
فصل
وأما مَن قال: إنه اعتمر عُمْرة حلَّ منها، كما قاله القاضى أبو يعلى ومَنْ وافقه، فعذرُهم ما صحَّ عن ابن عمر وعائشة، وعِمرانَ بنِ حصين وغيرهم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمتَّع، وهذا يحتمِل أنه تمتُّعٌ حَلَّ منه، ويحتمل أنه لم يَحِلَّ، فلما أخبر معاويةُ أنه قصر عن رأسه بمِشْقَص على المروة، وحديثه فى "الصحيحين" دلَّ على أنه حَلَّ من إحرامه، ولا يُمكنُ أن يكونَ هذا فى غير حَجَّةِ الوداع، لأن معاوية إنما أسلم بعد الفتح، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن زمن الفتح مُحرِماً، ولا يمكن أن يكون فى عُمْرة الجعْرانةِ لوجهين:ر

أحدهما: أن فى بعض ألفاظ الحديثِ الصحيح: "وذلك فى حَجَّته".
والثانى: أن فى رواية النسائى بإسناد صحيح: "وذلك فى أيام العشر"، وهذا إنما كان فى حَجته، وحمل هؤلاء رواية مَن روى أن المتعة كانت له خاصة، على أن طائفةً منهم خصُّوا بالتحليل من الإحرام مع سَوْق الهَدْى دون مَنْ ساق الهَدْىَ من الصحابة، وأنكر ذلك عليهم آخرون، منهم شيخُنا أبو العباس. وقالوا: مَن تأمل الأحاديث المستفيضة الصحيحة، تبيَّن له أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَحِلَّ، لا هو ولا أحدٌ ممن ساق الهَدْى.
فصل: فى أعذار الذين وهموا فى صفة حَجَّته
أما مَن قال: إنه حجَّ حجاً مفرداً، لم يعتمِرْ فيه، فعذره ما فى "الصحيحين" عن عائشة، أنها قالت: خرجنا مَعَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَ حَجَّةِ الوداع، فَمِنَّا مَنْ أهلَّ بعُمْرة، ومِنَّا مَنْ أهلَّ بحَجٍّ وعُمْرة، ومِنَّا مَنْ أهلَّ بحَج، وأهلَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحَجِّ. وقالوا: هذا التقسيمُ والتنويع، صريح فى إهلاله بالحَجِّ وحده.
ولمسلم عنها: "أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أهلَّ بالحَجِّ مُفرداً".
وفى "صحيح البخارى" عن ابن عمر: "أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبَّى بالحجِّ وَحْدَهُ".

وفى "صحيح مسلم"، عن ابن عباس: "أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهلَّ بالحج".
وفى "سنن ابن ماجه"، عن جابر "أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أفرد الحج".
وفى "صحيح مسلم" عنه "خرجنا مَعَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نَنْوِى إلا الحَجَّ، لسنا نعرِفُ العُمْرَةَ".
وفى "صحيح البخارى"، عن عُروة بن الزبير قال: "حَجَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبرتنى عائشةُ أنَّ أوَّل شئ بدأ به حين قَدِمَ مكة، أنه توضَّأ، ثم طافَ بالبيت، [ثم لم تكن عُمْرَةٌ]، ثم حجَّ أبو بكر رضى الله عنه، فكان أوَّل شئ بدأ به، الطَّوَافُ بالبيت، ثم لم تكُن عُمرةٌ، ثم عُمَرُ رضى الله عنه مِثلُ ذلك، ثم حجَّ عُثمانُ، فرأيتُه أوَّلُ شئ بدأ به الطُوافُ بالبَيْتِ، ثم لم تَكُن عُمرةٌ، ثم مُعاوية، وعبد الله بنُ عمر، ثم حججتُ مع أبى: الزبيرِ بن العوّام، فكان أوَّل شئ بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تَكُن عُمرةُ، ثم رأيتُ فعل ذلك ابنُ عمر، ثم لم ينقُضْها عُمْرَةً، وهذا ابن عُمر عندهم، فلا يسألُونَه ولا أحد ممن مَضَى ما كانُوا يبدؤون بشئ حين يَضَعُون أقدامهم أوَّلَ من الطَّواف بالبيت، ثم لا يَحِلُّون، وقد رأيتُ أُمى وخالتى حين تَقْدَمَانِ، لا تبدآن بشئ أوَّل مِن البَيْتِ تطُوفان به، ثم إنهما لا تَحِلاَّنِ، وقد أخبرتنى أُمِّى أنها أهلَّت هى وأُختُها والزُبيرُ، وفلانٌ، وفلانٌ بعُمْرة، فلما مسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا."

وفى "سنن أبى داود": حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، ووُهَيْبُ بنُ خالد، كلاهما عن هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت "خرجْنَا مع رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَافِين لِهلالِ ذىِ الحِجَّة، فلما كان بذى الحُليفةِ قال: ( مَنْ شَاءَ أَنْ يُهلَّ بحَجٍّ فَلْيُهِلَّ، ومَنْ أرادَ أَنْ يُهِلَّ بعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بعُمْرَةِ") ، ثم انفرد وُهَيْب فى حديثه بأن قال عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فإنِّى لولا أنِّى أَهْدَيْتُ، لأَهْلَلْتُ بعُمْرَةٍ". وقال الآخر: "وأَمَّا أنا فأُهِلُّ بالحَجِّ". فصحَّ بمجموع الروايتين، أنه أهلَّ بالحَجِّ مفرداً.
فأرباب هذا القولِ عذرُهم ظاهر كما ترى، ولكن ما عذرُهم فى حُكمه وخبره الذى حكم به على نفسه، وأخبر عنها بقوله: "سُقتُ الهَدْىَ وقرنت"، وخبر مَن هو تحت بطن ناقته، وأقربُ إليه حينئذ من غيره، فهو من أصدق الناس يسمعهُ يقول: "لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وعُمْرَةٍ"، وخبر مَنْ هو مِنْ أعلم النَّاسِ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه، حين يُخبر أنه أهلَّ بهما جميعاً، ولبَّى بهما جميعاً، وخبرُ زوجته حفصةَ فى تقريره لها على أنه معتمِرٌ بعُمرة لم يَحِلَّ منها، فلم يُنْكِرْ ذلك عليها، بل صدَّقها، وأجابها بأنه مع ذلك حاج، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُقِرُّ على باطل يسمعُه أصلاً، بل يُنْكرُه، وما عذرهم عن خبره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نفسه بالوحى الذى جاءه من ربه، يأمُره فيه أن يُهِلَّ بحَجَّةٍ فى عُمْرَةٍ، وما عذرهم عن خبر مَن أخبر عنه من أصحابه، أنه قرن، لأنه علم أنه لا يحُجُّ بعدها، وخبر مَن أخبر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه اعتمَر مع حجَّته، وليس مع مَن قال: إنه أفرد الحجَّ شئٌ من ذلك البتّة، فلم يَقُلْ أحدٌ منهم عنه: إنِّى أفردت، ولا أتانى آتٍ من ربى يأمرُنى بالإفراد، ولا قال أحدٌ: ما بالُ الناسِ حَلُّوا، ولم تَحِلَّ مِن حَجَّتك، كما حَلُّوا هم بعُمرة،

ولا قال أحدٌ: سمعتُه يقول: لبَّيْكَ بعُمرة مفردة البتة، ولا بحَج مفرد، ولا قال أحدٌ: إنه اعتمر أربع عُمَر الرابعة بعد حَجته، وقد شهد عليه أربعة من الصحابة أنهم سمعوه يُخبِرُ عن نفسه بأنه قارن، ولا سبيلَ إلى دفع ذلك إلا بأن يقال: لم يسمعوه. ومعلوم قطعاً أن تطرُّقَ الوهم والغلطِ إلى مَن أخبر عما فهمه هو مِن فعله يظنُّه كذلك أولى من تَطَرَّق التكذيب إلى مَن قال: سمعتُه يقول كذا وكذا وإنه لم يسمعه، فإن هذا لا يتطرق إليه إلا التكذيبُ، بِخلافِ خبرِ مَن أخبر عما ظنَّه مِن فعله وكان واهماً، فإنه لا يُنسب إلى الكذب، ولقد نزَّه الله علياً، وأنساً، والبرّاء، وحفصة عن أن يقولوا: سمعناه يقول كذا ولم يسمعوه، نزَّهه ربّه تبارك وتعالى، أن يرسل إليه: أن افعل كذا وكذا ولم يفعله، هذا مِن أمحل المُحال، وأبطلِ الباطل، فكيف والذين ذكروا الإفراد عنه لم يُخالفوا هؤلاء فى مقصودهم، ولا ناقضوهم، وإنما أرادوا إفراد الأعمال، واقتصاره على عمل المفرد، فإنه ليس فى عمله زيادةٌ على عمل المفرد. ومَن روى عنهم ما يُوهِم خلاف هذا، فإنه عبَّر بحسب ما فهمه، كما سمع بكر بن عبد الله بنَ عمر يقول: أفرد الحج، فقال: لبَّى بالحجِّ وحده، فحمله على المعنى. وقال سالم ابنه عنه ونافع مولاه: إنه تمتَّع، فبدأ فأهلَّ بالعُمرة، ثم أهلَّ بالحجِّ، فهذا سالم يُخبرُ بخلاف ما أخبر به بكر، ولا يَصِحُّ تأويل هذا عنه بأنه أمر به، فإنه فسَّره بقوله: وبدأ فأهلَّ بالعُمرة، ثم أهلَّ بالحجِّ، وكذا الذين رَوَوُا الإفراد عن عائشة رضى الله عنها، فهما: عُروة، والقاسم، وروى القِران عنها عروةُ، ومجاهد، وأبو الأسود يروى عن عُروة الإفراد، والزُّهرى يروى عنه القِران. فإن قدَّرنا تساقُطَ الروايتين، سلمت رواية مجاهد، وإن حُمِلَتْ رِوايةُ الإفراد على أنه أفرد أعمال الحج، تصادقت الروايات وصدَّق بعضها بعضاً، ولا ريب أن قول عائشة، وابن عمر: أفرد الحجَّ، محتمل لثلاثة معان:

أحدها: الإهلال به مفرداً.
الثانى : إفرادُ أعماله.
الثالث: أنه حجَّ حَجةً واحدة لم يَحُجَّ معها غيرها، بخلافِ العُمْرة، فإنها كانت أربع مرات.
وأما قولهما: تمتَّع بالعُمرة إلى الحج، وبدأ فأهلَّ بالعُمْرة، ثم أهلَّ بالحج، فحكيا فِعلَه، فهذا صريح لا يحتمِل غير معنى واحد، فلا يجوز ردُّه بالمجمل، وليس فى رواية الأسود بن يزيد وعمرة عن عائشة، أنه أهلَّ بالحجِّ ما يُناقض رواية مجاهد وعُروة عنها أنه قرن، فإن القارِن حاج مُهِل بالحجِّ قطعاً، وعُمْرته جزء من حَجته، فمن أخبر عنها أنه أهلَّ بالحج، فهو غيرُ صادق، فإن ضُمت رِواية مجاهد إلى رواية عمرة والأسود، ثم ضُمتا إلى رواية عُروة، تبيَّن من مجموع الروايات أنه كان قارناً، وصدَّق بعضُّها بعضاً، حتى لو لم يحتَمِلْ قولُ عائشة وابن عمر إلا معنى الإهلال به مفرداً،لَوَجَبَ قَطْعاً أن يكون سبيله سبيل قول ابن عمر: اعتمر فى رجب، وقول عائشة أو عروة: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر فى شوَّال، إلا أن تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة لا سبيل أصلاً إلى تكذيب رواتها ولا تأويلها وحملها على غير ما دلَّت عليه، ولا سبيل إلى تقديم هذه الرواية المجملة التى قد اضطربت على رواتها، واختُلِفَ عنهم فيها، وعارضهم مَنْ هو أوثق منهم أو مثلُهم عليها.
وأما قول جابر: إنه أفرد الحَجَّ، فالصريحُ من حديثه ليس فيه شئ من هذا، وإنما فيه إخبارُه عنهم أنفسهم أنهم لا ينوون إلا الحج، فأين فى هذا ما يدل على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبَّى بالحجِّ مفرداً.
وأما حديثه الآخرُ الذى رواه ابن ماجه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفرد الحَج،

فله ثلاث طرق. أجودها: طريق الدراوردى عن جعفر بن محمد عن أبيه، وهذا يقيناً مختصر من حديثه الطويل فى حَجَّة الوداع، ومروى بالمعنى، والناس خالفوا الدراوردى فى ذلك. وقالوا: أهلَّ بالحَجِّ، وأهلَّ بالتوحيد. والطريق الثانى: فيها مُطرِّف بن مُصعب، عن عبد العزيز بن أبى حازم، عن جعفر ومُطرِّف، قال ابن حزم: هو مجهول، قلتُ: ليس هو بمجهول، ولكنه ابنُ أخت مالك، روى عنه البخارى، وبشر بن موسى، وجماعة. قال أبو حاتم: صدوق مضطرب الحديث، هو أحبُّ إلىَّ من إسماعيل بن أبى أويس، وقال ابن عدى: يأتى بمناكير، وكأنَّ أبا محمد ابن حزم رأى فى النسخة مُطرِّف بن مُصعب فجهله، وإنما هو مُطرِّف أبو مصعب، وهو مطرِّف ابن عبد الله بن مطرِّف بن سليمان بن يسار، وممن غَلِطَ فى هذا أيضاً، محمد بن عثمان الذهبى فى كتابه "الضعفاء" فقال: مُطرِّف بن مُصعب المدنى عن ابن أبى ذئب منكر الحديث. قلتُ: والراوى عن ابن أبى ذئب، والدراوردى، ومالك، هو مُطرِّف أبو مُصعب المدنى، وليس بمنكر الحديث، وإنما غرَّه قولُ ابنِ عدى: يأتى بمناكير، ثم ساق له منها ابنُ عدى جملة، لكن هى من روايةِ أحمد بن داود بن صالح عنه، كذَّبه الدارقطنى، والبلاء فيها منه.
والطريق الثالث: لحديث جابر فيها محمد بن عبد الوهَّاب يُنظر فيه مَن هو وما حالُه عن محمد بن مسلم، إن كان الطائفى، فهو ثقة عند ابن معين، ضعيف عند الإمام أحمد، وقال ابن حزم: ساقط البتة، ولم أر هذه العبارة فيه لغيره، وقد استشهد به مسلم، قال ابنُ حزم: وإن كان غيره، فلا أدرى مَن هو ؟ قلت: ليس بغيره، بل هو الطائفى يقيناً، وبكلِّ حال فلو صح هذا عن جابر، لكان حكمه حكم المروىِّ عن عائشة وابنِ عمر،

وسائر الرواة الثقات، إنما قالوا: أهلَّ بالحَجِّ، فلعلَّ هؤلاء حملوه على المعنى، وقالوا: أفرد الحَج، ومعلوم أن العُمرة إذا دخلت فى الحجِّ، فمَن قال: أهلَّ بالحَج، لا يُناقِضُ مَن قال: أهلَّ بهما، بل هذا فصَّل، وذاك أجمل. ومَن قال: أفرد الحجَّ، يحتمِل ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة، ولكن هل قال أحدٌ قطُّ عنه: إنه سمعه يقول: "لبَّيْكَ بِحَجَّةٍ مفردة"، هذا ما لا سبيل إليه، حتى لو وُجِدَ ذلك لم يُقَدَّمْ على تلك الأساطين التى ذكرناها والتى لا سبيلَ إلى دفعها البتة، وكان تغليطُ هذا أو حملُه على أول الإحرام، وأنه صار قارناً فى أثنائه متعيناً، فكيف ولم يثبُت ذلك، وقد قدَّمنا عن سُفيان الثورى، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضى الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قرن فى حَجَّة الوداع. رواه زكريا الساجى، عن عبد الله بن أبى زياد القَطَوانى، عن زيد ابن الحُباب، عن سفيان، ولا تناقض بين هذا وبين قوله: أهلَّ بالحَجِّ، وأفرد بالحَجِّ، ولبَّى بالحَجِّ، كما تقدَّم.
فصل
فحصل الترجيحُ لرواية مَن روى القِران لوجوه عشرة.
أحدها: أنهم أكثرُ كما تقدَّم.
الثانى: أن طُرق الإخبار بذلك تنوّعت كما بيَّناه.
الثالث: أن فيهم مَن أخبر عن سماعه ولفظه صريحاً، وفيهم مَن أخبر عن إخباره عن نفسه بأنه فعل ذلك، وفيهم مَن أخبر عن أمر ربه له بذلك، ولم يجئ شئٌ من ذلك فى الإفراد.
الرابع: تصديقُ روايات مَن روى أنه اعتمر أربع عُمَر لها.
الخامس: أنها صريحة لا تحتمِلُ التأويل، بخلاف روايات الإفراد.

السادس: أنها متضمِّنة زيادةً سكت عنها أهلُ الإفراد أو نَفَوْها، والذاكر الزائد مقدَّم على الساكت، والمُثْبِتُ مقدَّم على النافى.
السابع: أن رواة الإفراد أربعة: عائشة، وابنُ عمر، وجابر، وابنُ عباس، والأربعة رَوَوُا القِران، فإن صِرنا إلى تساقُطِ رواياتهم، سَلِمَتْ رواية مَن عداهم للقِران عن معارض، وإن صِرنا إلِى الترجيح، وجب الأخذُ برواية مَن لم تضطِرب الروايةُ عنه ولا اختلفت، كالبرَّاء، وأنس، وعمرَ بن الخطاب، وعِمران بن حصين، وحفصة، ومَن معهم ممن تقدَّم.
الثامن: أنه النُّسُك الذى أُمِرَ به من ربِّه، فلم يكن ليعدل عنه.
التاسع: أنَّه النُّسُك الذى أُمر به كُلُّ مَن ساق الهَدْى، فلم يكن لِيأمرهم به إذا سَاقُوا الهَدْى، ثم يسوق هو الهَدْى ويُخالفه.
العاشر: أنَّه النُّسُك الذى أَمر به آله وأهلَ بيتِهِ، واختاره لهم، ولم يكن لِيختارَ لهم إلا ما اختارَ لنفسه.
وَثَمَّتَ ترجيحٌ حادى عشر، وهو قوله: "دخلت العُمْرة فى الحَجِّ إلى يوم القيامة"، وهذا يقتضى أنها قد صارت جُزءاً منه، أو كالجزء الداخل فيه، بحيث لا يُفصل بينها وبينه، وإنما تكون مع الحجِّ كما يكون الداخل فى الشئ معه.
وترجيح ثانى عشر: وهو قولُ عمر بن الخطاب رضى الله عنه للصُّبَىّ ابن معبد وقد أهلَّ بحجٍّ وعُمرة، فأنكر عليه زيد بن صُوحان، أو سلمان ابن ربيعة، فقال له عمر: هُدِيتَ لسُّنَّة نبيك محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يُوافق

رواية عمر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الوحى جاءه من الله بالإهلالِ بهما جميعاً، فدلَّ على أن القِران سُّنَّتُه التى فَعَلَها، وامتثلَ أمرَ الله له بِها.
وترجيح ثالث عشر: أن القارنَ تقعُ أعمالُه عن كُلٍّ من النُّسُكين، فيقع إحرامُه وطوافُه وسعيُه عنهما معاً، وذلك أكملُ مِن وقوعه عن أحدهما، وعمل كل فعل على حِدة.
وترجيح رابع عشر: وهو أن النُّسُكَ الذى اشتمل على سَوْق الهَدْى أفضلُ بلا ريب مِن نُسُكٍ خلا عن الهَدْى، فإذا قَرنَ، كان هَدْيُه عن كل واحد من النُّسُكين، فلم يَخْلُ نُسُكٌ منهما عن هَدْى، ولهذا والله أعلم أمرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن ساق الهَدْى أن يُهِلَّ بالحَجِّ والعُمْرة معاً، وأشار إلى ذلك فى المتفق عليه من حديث البرَّاء بقوله: "إنى سُقْتُ الهَدْىَ وَقَرنْتُ".
وترجيح خامس عشر: وهو أنه قد ثبت أن التمتع أفضلُ من الإفراد لوجوه كثيرة منها: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرهم بفسخ الحَجِّ إليه، ومُحالٌ أن يَنْقُلَهُم من الفاضِل إلى المفضُول الذى هو دونه. ومنها: أنه تأسَّف على كونه لم يفعله بقوله: "لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرى مَا اسْتَدْبَرْتُ لمَا سُقْتُ الهَدْىَ ولَجَعَلْتُها عُمْرةً". ومنها: أنه أَمر به كُلَّ مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ. ومنها: أن الحجَّ الذى استقر عليه فعله وفعل أصحابه القِران لمن ساق الهَدْىَ، والتمتع لمن لم يَسُق الهَدْى، ولوجوه كثيرة غير هذه، والمتمتع إذا ساق الهَدْى، فهو أفضلُ مِن متمتع اشتراه من مكة، بل فى أحد القولين: لا هَدْى إلا ما جمع فيه بين الحِلِّ والحَرَم. فإذا ثبت هذا، فالقارِن السائق أفضلُ من متمتع لم يسق، ومِن متمتع ساق الهَدْى لأنه قد ساق من حين أحرم، والمتمتع إنما يسوقُ الهَدْى مِن أدنى الحِلِّ، فكيف يُجعل مُفرِدٌ لم يَسُقْ هَدْياً، أفضل من متمتِّع ساقه من أدنى الحل ؟ فكيف إذا جُعِل أفضل من قارن ساقه من الميقات، وهذا بحمد الله واضح.

فصل
وأما قول مَن قال: إنه حَجَّ متمتعاً تمتعاً حلَّ فيه من إحرامه، ثم أحرم يومَ التَّرويةِ بالحجِّ مع سَوْق الهَدْى، فعذره ما تقدَّم من حديث معاوية، أنه قصَّرَ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ فى العشر وفى لفظ: وذلك فى حُجَّته. وهذا مما أنكره الناسُ على معاوية، وغلَّطوه فيه، وأصابه فيه ما أصاب ابنَ عمر فى قوله: إنه اعتمر فى رجب، فإن سائر الأحاديث الصحيحة المستفيضة من الوجوه المتعدِّدة كلها تدل على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَحِلَّ من إحرامه إلاَّ يوم النحر، ولذلك أخبر عن نفسه بقوله: "لَوْلاَ أَنَّ مَعىَ الهَدْىَ لأَحْلَلْتُ "، وقوله: " إِنِّى سُقْتُ الهَدْىَ وَقَرَنْتُ فَلاَ أُحِلُّ حتَّى أَنْحَرَ" . وهذا خبرٌ عن نفسه، فلا يدخله الوهمُ ولا الغلطُ، بخلاف خبر غيره عنه، لا سيما خبراً يخالِفُ ما أخبر به عن نفسه، وأخبر عنه به الجمُّ الغفيرُ، أنه لم يأخذ من شعره شيئاً، لا بتقصير ولا حلق، وأنه بقى على إحرامه حتى حَلَق يومَ النحر، ولعل معاوية قصَّرَ عن رأسه فى عمرة الجِعْرانة، فإنه كان حينئذ قد أسلم، ثم نسى، فظن أن ذلك كان فى العشر، كما نسى ابنُ عمر أن عُمَرَهُ كانت كلُّها فى ذى القِعْدةَ. وقال: كانت [إحداهن] فى رجب، وقد كان معه فيها، والوهم جائزٌ على مَن سوى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فإذا قام الدليل عليه، صار واجباً.
وقد قيل: إن معاوية لعله قصَّرَ عن رأسه بقية شعر لم يكن استوفاه الحلاَّقُ يوم النحر، فأخذه معاوية على المروة، ذكره أبو محمد بن حزم، وهذا أيضاً مِن وهمه، فإن الحلاَّق لا يُبقى غلطاً شعراً يُقصَّر منه، ثم يُبقى منه بعد التقصير بقية يوم النحر، وقد قسم شعر رأسه بين الصحابة، فأصاب أبا طلحة أحد الشِّقين، وبقية الصحابة اقتسموا الشِّقَ الآخر،

الشعرة، والشعرتين، والشعرات، وأيضاً فإنه لم يسعَ بين الصَّفا والمروةِ إلا سعياً واحداً وهو سعيُه الأول، لم يسعَ عقب طوافِ الإفاضة، ولا اعتمر بعد الحَجِّ قطعاً، فهذا وهم مَحْضٌ. وقيل: هذا الإسناد إلى معاوية وقع فيه غلط وخطأ، أخطأ فيه الحسن ابن علىٍّ، فجعله عن معمر، عن ابن طاووس، وإنما هو عن هشام ابن حُجير، عن ابن طاووس، وهشام: ضعيف.
قلت: والحديثُ الذى فى البخارى عن معاوية: قصَّرْتُ عن رأس رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمشْقَصٍ، وَلَمْ يَزِدْ على هَذَا، والذى عند مسلم: قَصَّرْتُ عَنْ رَأسِ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ عَلَى المَرْوَةِ. وليس فى "الصحيحين" غير ذلك.
وأما روايةُ مَن روى: "فى أيام العشر" فليست فى الصحيح، وهى معلولة، أو وهم من معاوية. قال قيس بن سعد راويها عن عطاء عن ابن عباس عنه، والناس يُنكِرُونَ هذا على معاوية. وصدق قيس، فنحن نحلِفُ باللهِ: إن هذا ما كان فى العشر قطُّ.
ويشبه هذا وهم معاوية فى الحديث الذى رواه أبو داود، عن قتادة، عن أبى شيخ الهُنائى، أن معاوية قال لأصحاب النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل تعلمُون أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كَذَا، وَعَنْ رُكُوبِ جُلُودِ النُّمُورِ ؟ قالوا: نَعَم.

قال: فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ ؟ قَالوا: أَمَّا هذِهِ، فَلاَ، فَقَالَ: أَما إنَّهَا مَعَهَا وَلَكِنَّكُمْ نَسِيتُم. ونحن نَشْهَدُ باللهِ: إن هذا وهم مِن معاوية، أو كذبٌ عليه، فلم ينهَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك قطُّ، وأبو شيخ شيخ لا يُحتج به، فضلاً عن أن يقدَّم على الثقات الحفَّاظ الأعلام، وإن روى عنه قتادة ويحيى بن أبى كثير واسمه خيوان ابن خلدة بالخاء المعجمة وهو مجهول.
فصل
وأما مَن قال: حجَّ متمتُّعاً تمتُّعاً لم يَحِلَّ منه لأجل سَوْق الهَدْى كما قاله صاحب "المغنى" وطائفة، فعذرُهم قولُ عائشة وابن عمر: تمتَّع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقول حفصة: ما شأن الناس حلُّوا ولم تَحلَّ من عمرتك ؟ وقول سعد فى المتعة: قد صنعها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصنعناها معهُ، وقول ابن عمر لمن سأله عن متعة الحَجِّ: هى حلال ؟ فقال له السائلُ: إن أباكَ قد نهى عنها، فقال: أرأيتَ إن كان أبى نهى عنها، وصَنَعَهَا رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، أأمَر أبى تَتَّبِعُ، أم أمَر رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال الرجل: بل أمرَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال: لقد صَنَعَها رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّم.

قال هؤلاء: ولولا الهَدْىُ لحلَّ كما يحلُّ المتمتعُ الذى لا هَدْىَ معه، ولهذا قال: "لولا أنَّ مَعىَ الهَدْىَ لأَحْلَلْتُ" فأخبر أن المانع له مِن الحلِّ سوقُ الهَدْى، والقارنُ إنما يمنعه من الحلِّ القِرانُ لا الهَدْىُ، وأربابُ هذا القول قد يُسمُّون هذا المتمتَع قارناً، لِكونه أحرَم بالحَجِّ قبل التحلل من العُمْرةِ ولكنَّ القِران المعروفَ أن يُحرِم بهما جميعاً، أو يُحرمِ بالعُمْرة، ثم يُدخِلَ عليها الحَج قبل الطواف.
والفرق بين القارِن والمتمتع السائق من وجهين، أحدهما: من الإحرام، فإن القارن هو الذى يُحرِم بالحَجِّ قبل الطواف، إما فى ابتداء الإحرام، أو فى أثنائه.
والثانى: أن القارن ليس عليه إلا سعىٌ واحد، فإن أتى به أولاً، وإلا سعى عقيبَ طواف الإفاضة، والمتمتعُ عليه سعى ثانٍ عند الجمهور. وعن أحمد رواية أخرى: أنه يكفيه سعى واحد كالقارن، والنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسعَ سعياً ثانياً عقيبَ طوافِ الإفاضة، فكيف يكونُ متمتعاً على هذا القولِ.
فإن قيل:: فعلى الرواية الأخرى، يكون متمتعاً، ولا يتوجه الإلزام، ولها وجه قوى من الحديث الصحيح، وهو ما رواه مسلم فى "صحيحه"، عن جابر قال: لم يطفِ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أصحابهُ بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً. طوافَه الأول هذا، مع أنَّ أكثرَهم كانُوا متمتِّعين. وقد روى سفيانُ الثورىُّ، عن سلمةَ بن كُهيل قال: حلف طاووس:

ما طاف أحدٌ من أصحاب رسولِ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم لِحَجِّه وعُمرته إلا طوافاً واحداً.
قيل: الذين نظروا أنه كان متمتعاً تمتعاً خاصاً، لا يقولُون بهذا القول، بل يُوجِبون عليه سَعيين، والمعلومُ مِن سُّنَّته صلَّى الله عليه وآله وسلم، أنه لم يسعَ إلا سعياً واحداً، كما ثبت فى الصحيح، عن ابن عمر، أنه قرن، وقدم مكة، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة، ولم يزد على ذلك، ولم يحلِقْ ولا قصَّر، ولا حَلَّ مِن شئ حرم منه، حتى كان يومُ النحر، فنحَرَ وحلَق رأسه، ورأى أنه قد قضى طوافَ الحجِّ والعُمْرة بطوافِه الأول، وقال: هكذا فعل رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومراده بطوافه الأول الذى قضى به حَجَّه وعُمْرته: الطوافُ بين الصفا والمروة بلا ريب.
وذكر الدارقطنى، عن عطاء ونافع، عن ابن عمر، وجابر: أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما طاف لحَجِّه وعُمرته طوافاً واحداً، وسعى سعياً واحداً، ثم قَدِمَ مكة، فلم يسعَ بينهما بعد الصَّدَرِ فهذا يدل على أحدِ أمرين، ولا بُد إما أن يكون قارناً، وهو الذى لا يُمكن مَن أوجبَ على المتمتع سعيينِ أن يقولَ غيرَه، وإما أن المتمتع يكفيه سعىٌ واحد، ولكن الأحاديث التى تقدَّمت فى بيان أنه كان قارناً صريحةٌ فى ذلك، فلا يُعدَل عنها.
فإن قيل فقد روى شعبةُ، عن حُميد بن هلال، عن مُطرِّف، عن

عِمران بن حُصين، أن النبىَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، طاف طوافين، وسعى سعيين. رواه الدارقطنى عن ابن صاعد: حدثنا محمد بن يحيى الأزدى، حدثنا عبد الله بن داود، عن شعبة. قيل: هذا خبر معلول وهو غلط. قال الدارقطنى: يقال: إن محمد بن يحيى حدَّث بهذا من حفظه، فوهم فى متنه والصواب بهذا الإسناد: أن النبىَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قرن بين الحَجِّ والعُمرة والله أعلم. وسيأتى إن شاء الله تعالى ما يدل على أن هذا الحديث غلط.
وأظن أن الشيخ أبا محمد بن قدامة، إنما ذهب إلى أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كان متمتعاً، لأنه رأى الإمام أحمد قد نصَّ على أن التمتعَ أفضلُ مِن القِران، ورأى أن الله سُبحانه لم يكن لِيختارَ لِرسوله إلا الأفضلَ، ورأى الأحاديثَ قد جاءت بأنه تمتع، ورأى أنها صريحةٌ فى أنه لم يَحِلَّ، فأخذ من هذه المقدمات الأربع أنه تمتع تمتعاً خاصاً لم يَحِلَّ منه، ولكن أحمد لم يُرجح التمتع، لكون النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجَّ متمتعاً، كيف وهو القائل: لا أشكُّ أن رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كان قارناً، وإنما اختار التمتع لِكونه آخِرَ الأمرين مِن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وهو الَّذى أمر به الصحابة أن يَفسخُوا حَجَّهم إليه، وتأسَّف على فوته.
ولكن نقل عنه المَرْوَزِى، أنه إذا ساق الهَدْىَ، فالقِران أفضل، فمِن أصحابه مَنْ جَعل هذا رواية ثانية، ومِنهم مَن جعل المسألة روايةً واحدةً، وأنه إن ساق الهَدْىَ، فالقِران أفضلُ، وإن لم يَسُقْ فالتمتُّع أفضلُ، وهذه طريقة شيخنا، وهى التى تليق بأصولِ أحمد، والنبىُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم

لم يتمنَّ أنه كان جعلها عُمْرةٌ مع سوقه الهَدْىَ، بل ودَّ أنه كان جعلها عُمْرة ولم يَسُقِ الهدىَ.
بقى أن يُقال: فأىُّ الأمرين أفضلُ، أن يسوقَ ويَقْرِنَ، أو يترك السَّوْق ويتمتَّعَ كما ودَّ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه فعله.
قيل: قد تعارض فى هذه المسألة أمرانِ.
أحدُهما: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرن وساق الهَدْى، ولم يكن الله سبحانه لِيختار له إلا أفضلَ الأمور، ولا سيما وقد جاءه الوحى به من ربه تعالى، وخيرُ الهَدْى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والثانى قوله: "لو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرى ما اسْتَدْبَرْتُ لمَا سُقْتُ الهَدْىَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً". فهذا يقتضى، أنه لو كان هذا الوقتُ الذى تكلم فيه هو وقت إحرامه، لكان أحرم بعُمْرة ولم يَسُق الهَدْى، لأن الذى استدبره هو الذى فعله، ومضى فصار خلفه، والذى استقبله هو الذى لم يفعله بعدُ، بل هو أمامَهُ، فبيَّن أنه لو كان مستقبلاً لما استدبره، وهو الإحرام بالعُمْرة دون هَدْى، ومعلوم أنه لا يختارُ أن ينتقِلَ عن الأفضل إلى المفضولِ، بل إنما يختارُ الأفضلَ، وهذا يَدلُّ على أن آخِر الأمرينِ منه ترجيحُ التمتع.
ولمن رجَّح القِرانَ مع السَّوقِ أن يقولَ: هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَقُلْ هذا، لأجل أن الذى فعله مفضولٌ مرجُوح، بل لأن الصحابة شقَّ عليهم أن يَحِلُّوا من إحرامهم مع بقائه هو مُحِرماً، وكان يختار موافقتهم لِيفعلوا ما أُمِرُوا به مع انشراحٍ وقبول ومحبة، وقد ينتقِل عن الأفضل إلى المفضول، لما فيه من الموافقة وتأليف القلوب، كما قال لعائشة: "لَوْلاَ أنَّ قَومَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بَجَاهِلَّيةٍ لَنَقَضْتُ الكَّعْبَةَ وجَعَلْتُ لهَا بَابَيْنِ" فهذا تركُ ما هو الأولى

لأجل الموافقة والتأليف، فصار هذا هو الأَوْلى فى هذه الحال، فكذلك اختيارُه للمُتعة بلا هَدْى. وفى هذا جمع بين ما فعله وبين ما ودَّه وتمنَّاه، ويكون الله سبحانه قد جمع له بين الأمرين، أحدُهما بفعله له، والثانى: بتمنِّيه وودِّه له، فأعطاه أجرَ ما فعله، وأجرَ ما نواه من الموافقة وتمنَّاه، وكيف يكون نُسُكٌ يتخلَّلُه التَّحللُ ولم يَسُقْ فيه الهَدْىَ أفضلَ مِن نُسُكٍ لم يتخلَّله تحلُّل، وقد ساق فيه مائةَ بَدَنةٍ، وكيف يكون نُسُكٌ أفضل فى حقه من نُّسُك اختاره الله له، وأتاه به الوحىُ من ربه
فإن قيل: التمتع وإن تخلله تحلل، لكن قد تكرَّرَ فيه الإحرامُ، وإنشاؤه عبادة محبوبة للرب، والقِران لا يتكرر فيه الإحرام ؟
قيل: فى تعظيم شعائر الله بسوق الهَدْى، والتقرب إليه بذلك من الفضل ما ليس فى مجرد تكرر الإحرام، ثم إن استدامته قائمةٌ مقام تكرُّره، وسوقُ الهَدْى لا مقابل له يقومُ مقامه.
فإن قيل: فأيُّما أفضلُ، إفراد يأتى عقيبَه بالعُمْرة أو تمتع يَحِلُّ منه، ثم يُحِرمُ بالحج عقيبَه ؟
قيل: معاذ الله أن نظن أن نُسُكاً قطُّ أفضلُ من النُّسُكِ الذى اختاره الله لأفضل الخلق، وسادات الأُمَّة، وأن نقول فى نُسُك لم يفعله رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أحد من الصحابة الذين حَجُّوا معه، بل ولا غيرُهم من أصحابه: إنه أفضلُ مما فعلوه بأمره، فكيف يكون حَج على وجه الأرض أفضلَ مِن الحَجِّ الذى حجَّه النبى صلواتُ الله عليه، وأُمِرَ به أفْضَلُ الخلق، واختاره لهم، وأمرهم بفسخ ما عداه من الأنساك إليه، وودَّ أنه كان فعله، لا حَجَّ قطُّ أكملُ من هذا. وهذا وإن صح عنه الأمر لمن ساق الهَدْىَ بالقِران، ولمن لم يسقْ بالتمتع، ففى جوازِ خِلافه نظر، ولا يُوحشْك قِلَّةُ القائلين

بوجوب ذلك، فإن فيهم البحرَ الذى لا يَنْزِفُ عبدَ الله بن عباس وجماعةً من أهل الظاهر، والسُّنَّة هى الحَكَمُ بين الناس.. والله المستعان.
فصل
وأما مَن قال: إنه حَجَّ قارِناً قِراناً طاف له طوافين، وسعى له سعيين، كما قاله كثير من فقهاء الكوفة، فعُذْرُه ما رواه الدارقطنى من حديث مجاهد، عن ابن عمر: أنه جمع بين حَجٍّ وعُمْرة معاً، وقال: سبيلهما واحد، قال: وطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين. وقال: هكذا رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صنع كما صنعت.
وعن علىِّ بن أبى طالب، أنه جمع بينهما، وطافَ لهما طوافين، وسَعَى لهما سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صنعَ كما صنعتُ.
وعن علىِّ رضى الله عنه أيضاً أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان قارناً، فطاف طوافَيْنِ،

وسعى سعيين.
وعن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قال: طافَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحَجَّته وعُمرته طوافين، وسعى سعيين، وأبو بكر، وعمر، وعلىّ، وابن مسعود.
وعن عِمران بن حُصين: أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف طوافَيْنِ، وسعى سعيين
وما أحسن هذا العذرَ، لو كانت هذه الأحاديثُ صحيحةً، بل لا يَصِحُّ منها حرف واحد.
أما حديث ابن عمر، ففيه الحسن بن عُمارة، وقال الدارقطنى: لم يروه عن الحكم غيرُ الحسن بن عُمارة، وهو متروك الحديث.
وأما حديثُ علىّ رضى الله عنه الأول، فيرويه حفص بن أبى داود. وقال أحمد ومسلم: حفص متروك الحديث، وقال ابن خراش: هو كذَّاب يضع الحديث، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى، ضعيف.
وأما حديثه الثانى: فيرويه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن على، حدثنى أبى عن أبيه عن جده قال الدارقطنى: عيسى بن عبد الله يقال له: مبارك، وهو متروك الحديث.
وأما حديث علقمة عن عبد الله، فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد، عن حماد عن إبراهيم، عن علقمة. قال الدارقطنى: وأبو بردة ضعيف، ومَنْ دونه فى الإسناد ضعفاء.. انتهى. وفيه عبد العزيز بن أبان، قال يحيى: هو كذَّاب خبيث. وقال الرازى والنسائى: متروك الحديث.
وأما حديث عِمران بن حصين، فهو مما غَلِطَ فيه محمد بن يحيى الأزدى، وحدَّث به من حفظه، فوهم فيه، وقد حدَّث به على الصواب مِراراً، ويقال: إنه رجع عن ذكر الطواف والسعى.
وقد روى الإمام أحمد، والترمذى، وابن حبان فى "صحيحه" من حديث الدراوردى، عن عُبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر

قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَنَ بين حَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ، أَجْزَأَهُ لَهُمَا طَوافٌ واحِدٌ". ولفظ الترمذى: "مَنْ أَحْرَمَ بالحَجِّ والعُمْرَةِ أَجْزَأَهُ طَوافٌ وَسَعْىٌ وَاحِدٌ عنهما، حَتَّى يَحِلَّ مِنهما جَميعاً".
وفى "الصحيحين"، عن عائشةَ رضى الله عنها قالت: خرجنا مَعَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّةِ الوداع، فأهللنا بعُمرة، ثم قال: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيُهلَّ بالحَجِّ والعُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلّ حتَّى يَحلَّ مِنْهُمَا جَمِيعاً، فطاف الَّذِينَ أَهَلُّوا بالعُمْرةِ، ثُمَّ حَلُّوا، ثم طَافُوا طَوَافاً آخَرَ بَعْدَ أنْ رَجَعُوا مِنْ مِنَى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، فإنَّمَا طَافُوا طَوَافَاً واحِداً".
وصحَّ أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لِعائِشة: "إنَّ طوافَكِ بالبَيْتِ وبِالصَّفَا والمَرْوَةِ، يَكْفِيكِ لحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ".
وروى عبد الملك بن أبى سليمان، عن عطاء، عن ابن عباس، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طاف طوافاً واحِداً لحَجِّه وعُمرته. وعبد الملك: أحد الثقات المشهورين، احتج به مسلم، وأصحاب السنن. وكان يقال له: الميزان، ولم يُتكلم فيه بضعف ولا جرح، وإنما أُنكر عليه حديثُ الشفعة، وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عنه عَارُهَا
وقد روى الترمذى عن جابر رضى الله عنه، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرنَ

بين الحجِّ والعُمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً وهذا، وإن كان فيه الحجاج بن أرطاة، فقد روى عنه سفيان، وشعبة، وابن نمير، وعبد الرزاق، والخلق عنه. قال الثورى: وما بقىَ أحد أعرفُ بما يخرُجُ من رأسه منه، وعيب عليه التدليسُ، وقلَّ من سَلِمَ منه. وقال أحمد: كان من الحفاظِ، وقال ابن معين: ليس بالقوى، وهو صدوق يدلس. وقال أبو حاتم: إذا قال: حدَّثنا، فهو صادق لا نرتابُ فى صدقه وحفظه. وقد روى الدارقطنى، من حديث ليث بن أبى سليم قال: حدثنى عطاء، وطاووس، ومجاهد، عن جابرٍ، وعن ابن عمر، وعن ابن عباس: أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَطُفْ هو وأصحابه بين الصَّفا والمروة إلا طوافاً واحِداً لعُمْرتهم وحَجهم. وليث بن أبى سليم، احتج به أهلُ السنن الأربعة، واستشهد به مسلم، وقال ابنُ معين: لا بأس به، وقال الدارقُطنى: كان صاحبَ سُنَّة، وإنما أنكروا عليه الجمعَ بين عطاء وطاووس ومجاهد فحسب. وقال عبد الوارث: كان من أوعية العلم، وقال أحمد: مضطرِب الحديث، ولكن حدَّث عنه الناس، وضعَّفه النسائى، ويحيى فى رواية عنه، ومثل هذا حديثه حسن. وإن لم يبلغ رتبة الصحة.
وفى "الصحيحين" عن جابر قال: دخل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عائشة، ثم وجدَها تبكى فَقَالَ: "ما يُبْكِيكِ" ؟ فقالت: قد حِضْتُ وقد حَلَّ الناس ولم أَحِلَّ ولم أطُفْ بالبَيْتِ، فقال: "اغْتَسِلى ثُمَّ أهلِّى" ففعلت، ثم وقفت المواقِفَ حتى إذا طهُرت، طافت بالكعبة وبالصفا والمَرْوَةِ، ثم قال:

"قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعاً".
وهذا يدل على ثلاثة أُمور، أحدها: أنها كانت قارنة، والثانى: أن القارن يكفيه طوافٌ واحدٌ وسعىٌ واحد. والثالث: أنه لا يجب عليها قضاءُ تِلك العُمْرةِ التى حاضت فيها، ثم أدخلت عليها الحجَّ، وأنها تَرْفُض إحرام العُمْرة بحيضها، وإنما رفضت أعمالها والاقتصارَ عليها، وعائشة لَم تَطُفْ أولاً طوافَ القُدوم، بل لم تَطُفْ إلا بعْدَ التَّعريفِ، وسعت مع ذلك، فإذا كان طوافُ الإفاضة والسعىُ بعدُ يكفى القارِنَ، فلأن يكفيه طوافُ القدوم مع طواف الإفاضة، وسعي واحد مع أحدهما بطريق الأَوْلى، لكن عائشة تعذَّر عليها الطواف الأول، فصارت قصَّتها حُجَّةً، فإن المرأة التى يتعذَّر عليها الطوافُ الأول، تفعلُ كما فعلت عائشة، تُدخِلُ الحَجَّ على العُمْرة، وتصيرُ قارنةً، ويكفيها لهما طوافُ الإفاضة والسعىُ عقيبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومما يبين أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَطُفْ طَوافينِ، ولا سعى سعيين قولُ عائشة رضى الله عنها: وأما الذين جمعوا الحَجَّ والعُمْرة، فإنما طافوا طوافاً واحداً متفق عليه وقول جابر: لم يطف النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً، طوافه الأول" "رواه مسلم" وله لعائشة: "يُجْزِئ عَنْكِ طَوافُكِ بالصَّفَا والمَرْوَةِ عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ" "رواه مسلم" وقوله لها فى رواية أبى داود: "طَوافُكِ بالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جميعاً". وقوله لها فى الحديث المتفق عليه لما طافت بالكعبة وبين الصفا والمروة: "قد حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جميعاً" قال: والصحابة الذين نقلوا حجةَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كُلُّهم نقلوار

أنهم لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة، أمرهم بالتحليلِ إلا مَن ساق الهَدْى. فإنه لا يَحلُّ إلا يومَ النَّحْرِ، ولم يَنْقُلْ أحد منهم أن أحداً منهم طاف وسعى، ثم طاف وسعى. ومن المعلوم، أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعى على نقله. فلما لم ينقله أحدٌ من الصحابة، عُلِمَ أنه لم يكن.
وعمدة مَن قال بالطوافين والسعيين، أثرٌ يرويه الكوفيون، عن علىّ، وآخر عن ابن مسعود رضى الله عنهما.
وقد روى جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علىّ رضى الله عنه، أن القارنَ يكفيه طوافٌ واحد، وسعىٌ واحد، خلاف ما روى أهل الكوفة، وما رواه العراقيون، منه ما هو منقطع، ومنه ما رجاله مجهولون أو مجروحون، ولهذا طعن علماءُ النقل فى ذلك حتى قال ابنُ حزم: كل ما رُوى فى ذلك عن الصحابة، لا يَصِحُّ منه ولا كلمةٌ واحدة. وقد نُقِلَ فى ذلك عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما هو موضوع بلا ريب. وقد حلف طاووس: ما طاف أحدٌ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحَجَّته وعُمْرته إلا طوافاً واحداً، وقد ثبت مثلُ ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وغيرهم رضى الله عنهم، وهُمْ أعلمُ الناس بحَجة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يُخالفوها، بل هذه الآثار صريحة فى أنهم لم يطوفوا بالصَّفَا والمروة إلا مرةً واحدة.
وقد تنازع الناسُ فى القارن والمتمتع، هل عليهما سعيان أو سَعىٌ واحد ؟ على ثلاثة أقوال: فى مذهب أحمد وغيره.
أحدها: ليس على واحد منهما إلا سعى واحد، كما نص عليه أحمد فى رواية ابنه عبد الله. قال عبد الله: قلت لأبى: المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة ؟ قال: إن طاف طوافين، فهو أجود. وإن طاف طوافاً واحداً، فلا بأس. قال شيخنا: وهذا منقول عن غير واحد من السَلَف.

الثانى: المتمتع عليه سعيان والقارن عليه سعى واحد، وهذا هو القول الثانى فى مذهبه، وقول مَن يقوله من أصحاب مالك والشافعى رحمهما الله.
والثالث: أن على كل واحدٍ منهما سعيين، كمذهب أبى حنيفة رحمه الله، ويُذكر قولاً فى مذهب أحمد رحمه الله، والله أعلم. والذى تقدَّم هو بسط قول شيخنا وشرحه.. والله أعلم.
فصل
وأما الذين قالوا: إنه حجَّ حجاً مفرِداً اعتمر عقَيبه من التنعيم، فلا يُعلم لهم عذرٌ البتة إلا ما تقدَّم من أنهم سمعوا أنه أفرد الحج، وأن عادَة المفردين أن يعتَمِرُوا من التنعيم، فتوهموا أنه فعل كذلك.
فصل
وأما الذين غلطوا فى إهلاله، فمَن قال: إنه لبَّى بالعُمْرة وحدها واستمر عليها، فعذرُه أنه سمع أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمتع، والمتمتع عنده مَن أهلَّ بعُمْرة مفردة بشروطها. وقد قالت له حفصة رضى الله عنها: ما شأن النَّاسِ حَلُّوا ولم تَحِلَّ مِن عُمرتك ؟ وكل هذا لا يدل على أنه قال: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ، ولم يَنْقُلْ هذا أحد عنه البتة، فهو وهم محض، والأحاديثُ الصحيحةُ المستفيضةُ فى لفظه فى إهلاله تُبْطِلُ هذا.

فصل
وأما مَن قال: إنه لبَّى بالحَجِّ وحده واستمر عليه، فعذُره ما ذكرنا عمن قال: أفرد الحَجَّ ولبَّى بالحَجِّ، وقد تقدّم الكلامُ على ذلك، وأنه لم يقل أحد قط إنه قال: لَبَّيْكَ بحَجَّة مفردة، وإن الذين نقلوا لفظه، صرَّحوا بخلاف ذلك.
فصل
وأما مَن قال: إنه لبَّى بالحجِّ وحده، ثم أدخل عليه العُمْرة، وظن أنه بذلك تجتمع الأحاديث، فعذره أنه رأى أحاديث إفراده بالحج صحيحة، فحملها على ابتداء إحرامه، ثم إنه أتاه آتٍ من ربِّه تعالى فقال: قل: عُمْرة فى حَجة، فأدخل العُمْرة حينئذ على الحَجِّ، فصار قارناً. ولهذا قال للبرَّاء بن عازب: "إنِّى سُقْتُ الهَدْىَ وَقَرَنْتُ"، فكان مفرِداً فى ابتداء إحرامه، قارناً فى أثنائه، وأيضاً فإن أحداً لم يَقُل إنه أهَلَّ بالعُمْرة، ولا لبَّى بالعُمْرة، ولا أفرد العُمْرة، ولا قال: خرجنا لا ننوى إلا العُمْرة، بل قالوا: أَهلَّ بالحَجِّ، ولبَّى بالحَجِّ، وأفرد الحَجَّ، وخرجنا لا ننوى إلا الحجّ، وهذا يدل على أن الإحرام وقع أولاً بالحَجَِّ، ثم جاءه الوحىُ من ربه تعالى بالقِران، فلبَّى بهما فَسمعه أنس يُلبِّى بهما، وصدق، وسمعته عائشةُ، وابنُ عمر، وجابر يُلبِّى بالحَجِّ وحده أولاً وصدقوا.
قالوا: وبهذا تتفق الأحاديث، ويزولُ عنها الاضطراب.
وأربابُ هذِه المقالة لا يُجيزونَ إدخال العُمْرة على الحج، ويرونه لغواً، ويقولون: إن ذلك خاص بالنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون غيره. قالوا: ومما يدل على ذلك: أن ابن عمر قال: لبَّى بالحَجِّ وحده، وأنس قال:

أهلَّ بهما جميعاً، وكلاهما صادق فلا يمكن أن يكون إهلاله بالقِران سابقاً على إهلاله بالحَجِّ وحده، لأنه إذا أحرم قارناً، لم يمكن أن يحْرِم بعد ذلك بحَجٍّ مفرد، وينقل الإحرام إلى الإفراد، فتعيَّن أنه أحرم بالحجِّ مُفرِداً، فسمعه ابنُ عمر، وعائشة، وجابر، فنقلوا ما سَمِعُوه، ثم أدخل عليه العُمرة، فأهلَّ بهما جميعاً لما جاءه الوحى من ربه، فسمِعه أنس يهل بهما، فنقل ما سمعه، ثم أخبر عن نفسه بأنه قرن، وأخبر عنه مَن تقدم ذِكره من الصحابة بالقِران، فاتفقت أحاديثهم، وزال عنها الاضطرابُ والتناقضُ. قالوا: ويدلُّ عليه قولُ عائشة: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال: "مَن أراد منكم أن يُهِلَّ بِحَجٍّ وعُمرةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أرادَ أنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ، ومَنْ أَرادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ". قالت عائشةُ: فأهلَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحج، وأهلَّ به ناس معه، فهذا يدل على أنه كان مُفِرداً فى ابتداء إحرامه، فعُلِم أن قِرانه كان بعد ذلك.
ولا رَيبَ أن فى هذا القولِ من مخالفة الأحاديث المتقدِّمة، ودعوى التخصيصِ للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإحرام لا يَصحُّ فى حقِّ الأُمة ما يردُّه ويُبطله، ومما يردُّه أن أنساً قال: صلَّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظهر بالبيداء، ثم ركب، وصَعِدَ جبل البيداء، وأهلَّ بالحَجِّ والعُمْرة حين صلَّى الظهر.
وفى حديث عمر، أن الذى جاءهُ مِن ربهِ قال له: "صَلِّ فى هَذَا الوَادى المُبارَكِ وقُلْ: عُمْرَةٌ فى حَجَّةٍ". فكذلك فعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالذى روى عمر أنه أُمِرَ به، وروى أنس أنه فعله سواء، فصلَّى الظُّهر بذى الحُليفة، ثم قال: "لبيك حَجّاً وعُمْرة".

واختلف الناسُ فى جواز إدخالِ العُمرةِ على الحَجِّ على قولين، وهما روايتان عن أحمد، أشهرهما: أنه لا يَصِحُّ، والذين قالوا بالصحِّة كأبى حنيفة وأصحابه رحمهم الله، بَنَوْه على أُصولهم، وأن القارِن يطوف طوافين، ويسعى سعيين، فإذا أدخل العُمْرة على الحَجِّ، فقد التزم زيادة عملِ على الإحرام بالحَجِّ وحدَه، ومَن قال: يكفيه طوافٌ واحد، وسعىٌ واحد، قال: لم يستفد بهذا الإدخال إلا سقوط أحد السفرين، ولم يلتزم به زيادَة عمل، بل نُقصانه، فلا يجوز، وهذا مذهب الجمهور.
فصل
وأما القائلون: إنه أحرم بعُمْرة، ثم أدخل عليها الحَجَّ، فعُذرهم قولُ ابنِ عمر: "تمتَّع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّة الوداع بالعُمْرة إلى الحَجِّ، وأهدى، فساق معه الهَدْىَ من ذى الحُليفة، وبدأ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأ هلَّ بالعُمْرةِ ثم أهلَّ بالحَجِّ" متفق عليه
وهذا ظاهر فى أنه أحرم أولاً بالعُمْرة، ثم أدخل عليها الحَجَّ، ويُبين ذلك أيضاً أن ابن عمر لما حَجَّ زمن ابن الزبير أهلَّ بعُمرة ثم قال: أُشْهِدُكم أنى قد أوجبتُ حَجّاً مع عُمْرتى، وأهدى هَدْياً اشتراه بقُدَيْد، ثم انطلق يُهِلُّ بهما جميعاً حتى قَدِمَ مكة، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة، ولم يزد على ذلك، ولم ينحر، ولم يحلقْ ولم يُقصِّرْ، ولم يَحِلَّ من شئ حرم منه حتى كان يوم النحر، فنحر وحلق، ورأى أن ذلك قد قضى طوافَ الحَج والعُمْرة بطَوافه الأول. وقال: هكذا فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فعند

هؤلاء، أنه كان متمتعاً فى ابتداء إحرامه، قارِناً فى أثنائه، وهؤلاء أعذُر مِن الذين قبلهم، وإدخالُ الحجِّ على العُمرة جائز بلا نزاع يُعرف، وقد أمر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عائشة رضى الله عنها بإدخال الحج على العُمرة، فصارت قارِنةً، ولكن سياقُ الأحاديث الصحيحة، يردُّ على أرباب هذه المقالة. فإن أنساً أخبر أنه حين صلى الظهر أهلَّ بهما جميعاً، وفى "الصحيح" عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّة الوداع مُوَافِينَ لهِلال ذى الحِجَّة، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَرادَ مِنْكُم أَنْ يُهِلَّ بعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، فلوْلاَ أَنِّى أَهْدَيْتُ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ" قالت: وكان مِن القوم مَن أهلَّ بعُمْرة، ومنهم مَن أهلَّ بالحج، فقالت: فكنت أنا ممن أهلَّ بعُمْرة... وذكرت الحديث رواه مسلم فهذا صريح فى أنه لم يُهِل إذ ذاك بعمرةٍ، فإذا جمعت بين قولِ عائشة هذا، وبين قولها فى "الصحيح": تمتع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّة الوداع، وبَيْنَ قولها: وأهلَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحجِّ، والكُلُّ فى "الصحيح"، علمتَ أنها إنما نفت عُمْرةً مفردة، وأنها لم تنف عُمْرة القِران، وكانوا يُسمونها تمتعاً كما تقدَّم، وأن ذلك لا يُناقض إهلالَه بالحج، فإن عُمْرة القِران فِى ضمنه، وجزء منه، ولا يُنافى قولها: أفرد الحَج، فإن أعمالَ العُمْرة لما دخلت فى أعمال الحَج، وأُفِردَتْ أعمالُه، كان ذلك إفراداً بالفعل.
وأما التلبية بالحَجِّ مفرِداً، فهو إفراد بالقول، وقد قيل: إن حديثَ ابنِ عمر: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمتع فى حَجَّة الوداع بالعُمْرة إلى الحَجِّ، وبدأ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأهلَّ بالعُمْرة، ثم أهلَّ بالحَج، مروى بالمعنى من حديثه الآخر، وأن ابن عمر هو الذى فعل ذلك عام حَجه فى فتنة ابن

الزبير، وأنه بدأ فأهلَّ بالعمرة، ثم قال: ما شأنُهما إلا واحد، أُشهِدُكم أنى قد أوجبت حَجّاً مع عُمرتى، فأهلَّ بهما جميعاً، ثم قال فى آخر الحديث: هكذا فعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإنما أراد اقتصاره على طواف واحد، وسَعىٌ واحد، فَحُمِلَ على المعنى، ورُوى به: أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدأ فأهلَّ بالعُمْرة، ثم أهلَّ بالحَجِّ، وإنما الذى فعل ذلك ابنُ عمر، وهذا ليس ببعيد، بل متعيِّن، فإن عائشة قالت عنه: "لولا أن مَعِى الهَدْىَ لأَهَلَلْتُ بِعُمْرَةٍ" وأنس قال عنه: إنه حين صلَّى الظهر، أوجب حَجَّاً وعُمْرة، وعمر رضى الله عنه، أخبر عنه أن الوحى جاءه من ربه فأمره بذلك.
فإن قيل: فما تصنعون بقول الزهرى: إن عروة أخبره عن عائشة بمثل حديث سالم، عن ابن عمر ؟
قيل: الذى أخبرت به عائشة من ذلك، هو أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف طوافاً واحداً عن حَجِّه وعُمْرته، وهذا هو الموافقُ لِرواية عروة عنها فى "الصحيحين"، وطاف الَّذين أهلُّوا بالعُمْرة بالبيت وبينَ الصَّفا والمروة، ثم حلُّوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من مِنَى لحَجِّهم، وأما الذين جمعوا الحَجَّ والعُمْرة، فإنما طافوا طوافاً واحداً، فهذا مثلُ الذى رواه سالم عن أبيه سواء. وكيف تقول عائشة: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدأ فأهلَّ بالعُمرة، ثم أهلَّ بالحَجِّ، وقد قالت: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَوْلاَ أَنَّ مَعِِىَ الهَدْىَ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ" وقالت: وأهلَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحَجِّ ؟ فَعُلِمَ، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُهِلَّ فى ابتدء إحرامه بعُمْرة مفردة.. والله أعلم.
فصل
وأما الذين قالوا: إنَّه أحرم إحراماً مطلقاً، لم يعيِّن فيه نُسكاً، ثم

عيَّنه بعد ذلك لما جاءه القضاء وهو بين الصَّفَا والمروة، وهو أحدُ أقوال الشافعى رحمه الله، نص عليه فى كتاب "اختلاف الحديث". قال: وثبت أنه خرج ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء وهو ما بين الصَّفَا والمروة، فأمر أصحابَه أن مَن كان منهم أهلَّ ولم يكن معه هَدْى أن يجعله عُمْرةً، ثم قال: ومن وصف انتظار النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القضاء، إذ لم يحج من المدينة بعد نزول الفرض طلباً للاختيار فيما وسَّع الله من الحَجِّ والعُمْرة، فيُشبه أن يكون أحفظ، لأنه قد أُتى بالمتلاعِنَيْنِ، فانتظر القضاء، كذلك حُفِظَ عنه فى الحَجِّ ينتظِرُ القضاء، وعذر أرباب هذا القول، ما ثبت فى "الصحيحين" عن عائشة رضى الله عنها، قالت: "خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نذكر حَجّاً ولا عُمْرة" وفى لفظ: "يُلَبِّى لا يذكر حَجّاً ولا عُمْرة" وفى رواية عنها: "خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نرى إلا الحَجَّ، حتى إذا دنونا من مكة أمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لم يكن معه هَدْى إذا طاف بالبيت وبين الصَّفَا والمروة أن يَحِلَّ".
وقال طاووس: خرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة لا يُسمِّى حَجّاً ولا عُمْرة ينتظِرُ القضاءَ، فنزل عليه القضاءُ وهو بين الصَّفَا والمروة، فأمر أصحابَه مَن كان منهم أهلَّ بالحَجِّ ولم يكن معه هَدْى أن يجعلها عُمْرة... الحديثَ.
وقال جابر فى حديثه الطويل فى سياق حَجَّة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فصلَّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المسجد، ثم ركب القَصْواءَ حتى إذا استوت به ناقتُه على البيداءِ نَظرتُ إلى مدِّ بصرى بين يديه من راكب وماشٍ، وعن يمينه مثلُ ذلك، وعن يَسارِه مثلُ ذلك، ومِنْ خلفه مِثلُ ذلك، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهُرِنا، وعليه يَنْزِلُ القرآنُ وهو يعلم تأويلَه، فما عَمِلَ به

من شئ، عَمِلْنَا بِهِ، فأهلَّ بالتوحيدِ: "لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْكَ، لا شَريكَ لَكَ". وأهلَّ الناسُ بهذا الذى يُهِلُّون به، ولَزِمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلبيتُه فأخبر جابر، أنه لم يزد على هذه التلبية، ولم يذكرُ أنه أضاف إليها حَجّاً ولا عُمْرة، ولا قِراناً، وليس فى شئ من هذه الأعذار ما يُناقض أحاديث تعيينه النُّسُكَ الذى أحرم به فى الابتداء، وأنه القِران.
فأما حديثُ طاووس، فهو مرسَل لا يُعارَضُ به الأساطينُ المسندَاتُ، ولا يُعرف اتصاله بوجه صحيح ولا حسن. ولو صح، فانتظارُه للقضاء كان فيما بينه وبين الميقات، فجاءه القضاء وهو بذلك الوادى، أتاه آتٍ مِنْ ربه تعالى فقال: "صَلِّ فى هَذَا الوَادى المُبَارَكِ وَقُلْ: عُمْرَةٌ فى حَجَّةٍ"، فهذا القضاءُ الذى انتظره، جاءه قبل الإحرام، فعيَّن له القِرانَ. وقول طاووس: نزل عليه القضاءُ وهو بين الصَّفَا والمروة، هو قضاء آخر غير القضاء الذى نزل عليه بإحرامه، فإن ذلك كان بوادى العقيق، وأما القضاءُ الذى نزل عليه بين الصَّفا والمروة، فهو قضاءُ الفسخ الذى أمرَ به الصحابةَ إلى العُمْرة، فحينئذ أمر كُلَّ مَنْ لم يكن معه هَدْى منهم أن يفسَخَ حَجَّهُ إلى عُمْرة وقال: "لو اسْتَقْبَلْتُ منْ أمْرِى ما اسْتَدْبَرْتُ لما سُقْتُ الهَدْى وَلَجَعَلْتُها عُمْرَةً"، وكان هذا أمرَ حتم بالوحى، فانهم لما توقَّفوا فيه قال: "انظُرُوا الَّذِى آمرُكُمْ بِهِ فَاْفعَلُوه".
فأما قول عائشة: خرجنا لا نذكر حَجّاً ولا عُمْرة. فهذا إن كان محفوظاً عنها، وجب حمله على ما قبل الإحرام، وإلا ناقض سائر الروايات الصحيحة عنها، أن منهم مَن أهلَّ عند الميقات بحَجٍّ، ومنهم مَنْ أهلّ بعُمْرة، وأنها

ممن أهلَّ بعُمْرة. وأما قولها: نلبِّى لا نذكر حَجّاً ولا عُمْرة، فهذا فى ابتداء الإحرام، ولم تقل: إنهم استمروا على ذلك إلى مكة، هذا باطل قطعاً فإن الذين سمعوا إحرامَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أهلَّ به، شهدوا على ذلك، وأخبروا به، ولا سبيل إلى رد رواياتهم. ولو صح عن عائشةَ ذلك، لكان غايتُه أنها لم تحفظ إهلالهم عند الميقات، فنفته وحفظه غيرها من الصحابة فأثبته، والرجالُ بذلك أعلمُ من النساء.
وأما قول جابر رضى الله عنه: وأهلَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتوحيد، فليس فيه إلا إخبارُه عن صفة تلبيته، وليس فيه نفىٌ لتعيينه النُّسُكَ الذى أحرم به بوجه من الوجوه. وبكل حال، ولو كانت هذه الأحاديث صريحة فى نفى التعيين، لكانت أحاديثُ أهلِ الإثبات أولى بالأخذ منها، لكثرتها، وصحتها، واتصالها، وأنها مُثْبِتَة مبيِّنة متضمنة لزيادة خفيت على مَن نفى، وهذا بحمد الله واضح، وبالله التوفيق.
فصل
ولبَّد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه بالغِسْل وهو بالغين المعجمة على وزن كِفلٍ وهو ما يُغسل به الرأس مِن خَطْمِىٍّ ونحوه يُلبَّدُ به الشعر حتى لا ينتشِر، وأهلَّ فى مُصلاه، ثم ركب على ناقته، وأهلَّ أيضاً، ثم أهلَّ لما استقلَّت به على البيداء. قال ابن عباس: وايمُ الله.. لقد أوجب فى مصلاه، وأهلَّ حين استقلت به ناقته، وأهلَّ حين علا على شرف البيداء.

وكان يُهِلَّ بالحَجِّ والعُمرة تارة، وبالحَجِّ تارة، لأن العُمْرة جزء منه، فمن ثَمَّ قيل: قَرَنَ، وقيل: تمتع، وقيل: أفرد، قال ابن حزم: كان ذلك قبلَ الظُّهر بيسير، وهذا وهم منه، والمحفوظُ: أنه إنما أهلَّ بعد صلاة الظهر، ولم يقل أحد قط إن إحرَامه كان قبل الظهر، ولا أدرى من أين له هذا. وقد قال ابنُ عمر: ما أهلَّ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا مِن عند الشجرة حين قام به بعيرُه. وقد قال أنس: إنه صلَّى الظهرَ، ثم ركب، والحديثان فى "الصحيح".
فإذا جمعت أحدَهما إلى الآخر، تبيَّن أنَّه إنما أهلَّ بعدَ صلاةِ الظُّهر، ثم لبَّى فقال: "لبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيك لا شَريكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ". ورفع صوتَه بهذه التلبيةِ حتى سَمِعَها أصحابُه، وأمرَهم بأمر الله له أن يرفعُوا أصواتَهم بالتلبية.

وكان حَجَّه على رَحْل، لا فى مَحْمِلٍ، ولا هَوْدَج، ولا عمَّارِية وزَامِلتُه تحته. وقد اختُلِف فى جواز ركوبِ المُحْرِم فى المَحْمِلِ، والهَوْدَجِ، والعَمَّارِية، ونحوها على قولين، هما روايتان عن أحمد أحدهما: الجوازُ وهو مذهبُ الشافعى وأبى حنيفة. والثانى: المنع وهو مذهب مالك.
فصل
ثم إنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيَّرهم عند الإحرام بين الأنساكِ الثلاثة، ثم ندبَهم عند دُنوِّهم من مكة إلى فسخ الحَج والقِران إلى العُمْرة لمن لم يكن معه هَدْىٌ، ثم حتَّم ذلك عليهم عند المروةِ.
وولَدَتْ أسماءُ بِنتُ عُميسٍ زوجةُ أبى بكر رضى الله عنها بذى الحُليفة محمَّدَ بن أبى بكر، فأمرها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تغتسِلَ، وتَسْتَثْفِرَ بثوب، وتُحرم وتُهِلَّ. وكان فى قِصتها ثلاثُ سُنن، إحداها: غسلُ المحرم، والثانية: أن الحائضَ تغتسِل لإحرامها، والثالثة: أن الإحرام يَصِحُّ مِن الحائض.

ثم سار رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يُلبِّى بتلبيتِه المذكورةِ، والناسُ معه يزيدُون فيها ويَنقُصُون، وهو يُقِرُّهم ولا يُنكِرُ عليهم.
ولزم تلبيتَه، فلما كانُوا بالرَّوحاء، رأى حِمار وحْشٍ عَقيراً، فقال: "دَعوه فإنَّه يُوشِكُ أَنْ يَأتىَ صَاحِبُه" فَجاء صَاحِبُه إلىَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،فَقَالَ: يا رسُولَ الله، شَأْنَكُم بِهَذَا الحِمارِ، فَأَمرَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ.
وفى هذا دليل على جواز أكلِ المُحْرِمِ مِن صيد الحَلال إذا لم يَصِدْه لأجله، وأما كونُ صاحبه لم يُحْرِم، فلعلَّه لم يمرَّ بذى الحُليفة، فهو كأبى قتادة فى قصته، وتدل هذه القصةُ على أن الهِبة لا تفتقِرُ إلى لفظ: وهبتُ لك، بل تَصِحُّ بما يَدُلُّ عليها، وتدل على قسمته اللحم مع عظامه بالتحرِّى، وتَدُلُّ على أن الصيدَ يُملَكُ بالإثبات، وإزالة امتناعه، وأنه لمن أثبته لا لمن أخذه، وعلى حِلِّ أكلِ لحم الحِمار الوحشى، وعلى التوكيل فى القِسمة، وعلى كون القاسم واحدا

فصل
ثم مضى حتى إذا كان بالأُثَايةِ بين الرُّويثَةِ والعَرْجِ، إذا ظبىٌ حَاقِفٌ فى ظِلٍّ فيه سهم، فأمر رجلاً أن يقف عنده لا يَرِيبُه أحدٌ من الناس، حتى يُجاوِزوا. والفرقُ بين قصة الظبى، وقصةِ الحمار، أن الذى صاد الحمار كان حلالاً، فلم يمنع من أكله، وهذا لم يعلم أنه حلال وهم محرِمون، فلم يأذنْ لهم فى أكله، ووكَّل مَن يَقِفُ عنده، لئلا يأخذه أحدٌ حتى يُجاوزوه.
وفيه دليل: على أن قتلَ المُحْرِم للصيد يجعلُه بمنزلة الميتة فى عدم الحِلِّ، إذ لو كان حلالاً، لم تَضِعْ مالِيَّتُه.
فصل
ثم سار حتى إذا نزل بالعَرْجِ، وكانت زِمالتُه وزِمَالَةُ أبى بكر واحدة، وكانت مع غلام لأبى بكر، فجلس رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر إلى جانبه، وعائشةُ إلى جانبه الآخر، وأسماءُ زوجته إلى جانبه، وأبو بكر ينتظِر الغلام والزمالة، إذ طلع الغلام ليس معه البعير، فقال: أين بعيرُك ؟ فقال: أضللتُه البارحة، فقال أبو بكر: بعير واحد تُضِلُّه. قال: فَطفِق يضربُه ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتبسَّم، ويقول: انظُروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنَعُ، وما يزيد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن يقول ذلك ويتبسم. ومن تراجم أبى داود على هذه القصة، باب "المحرم يؤدِّب غلامه".

فصل
ثم مضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى إذا كان بالأبواءِ، أهدى له الصَّعبُ بن جَثَّامَةَ عَجُزَ حِمَارٍ وحشىٍّ، فردَّه عليه، فقال: "إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلاَّ أَنَّا حُرُمٌ". وفى "الصحيحين": "أنه أهدى له حِماراً وحشياً"، وفى لفظ لمسلم: "لحم حمار وحْشٍ".
وقال الحُميدى: كان سفيانُ يقولُ فى الحديث: أُهْدِىَ لرسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحمُ حِمار وحْشٍ، وربما قال سفيان: يقطُرُ دماً، وربما لم يقُلْ ذلك، وكان سفيان فيما خلا ربما قال: حِمارَ وحش، ثم صار إلى لحم حتَّى مات. وفى رواية: شقَّ حِمارِ وحشٍ، وفى رواية: رِجل حمار وحشٍ.
وروى يحيى بن سعيد، عن جعفر، عن عمرو بن أُميَّة الضَّمْرِى عن أبيه، عن الصَّعبِ، أُهدى للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجُزَ حِمارِ وحْشٍ وهو بالجُحفة، فأكل منه وأكل القوم. قال البيهقى: وهذا إسناد صحيح.

فإن كان محفوظاً، فكأنه ردَّ الحى، وقبل اللَّحم.
وقال الشافعى رحمه الله: فإن كان الصَّعبُ بن جَثَّامة أهدى للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحمارَ حيًّّاً، فليس للمُحْرِم ذبحُ حمار وحش، وإن كان أهدى له لحم الحمار، فقد يحتمِلُ أن يكون علم أنه صِيد له، فردَّه عليه، وإيضاحه فى حديث جابر. قال: وحديثُ مالك: أنه أُهدى له حماراً أثبتُ من حديث مَن حدَّث أنه أُهدى له من لحم حمار.
قلت: أما حديث يحيى بن سعيد، عن جعفر، فغلط بلا شك، فإن الواقعةَ واحدة، وقد اتفق الرواةُ أنه لم يأكل منه، إلا هذه الرواية الشاذَّة المنكرة.
وأما الاختلافُ فى كون الذى أهداه حيَّا، أو لحماً، فرواية مَن روى لحماً أولى لثلاثة أوجه.
أحدها: أن راويها قد حفظها، وضبطَ الواقعةَ حتى ضبطها: أنه يقطر دماً، وهذا يدل على حفظه للقصة حتى لهذا الأمر الذى لا يُؤبه له.
الثانى: أن هذا صريح فى كونه بعضَ الحِمار، وأنه لحم منه، فلا يُناقض قوله: أُهدى له حماراً، بل يُمكن حمله على رواية مَن روَى لحماً، تسمية للحم باسم الحيوان، وهذا مما لا تأباه اللغة.
الثالث:: أن سائر الروايات متفقة على أنه بعض من أبعاضه، وإنَّما اختلفوا فى ذلك البعض، هل هو عجزُه، أو شِقُّه، أو رِجله، أو لحم منه ؟ ولا تناقضَ بين هذه الروايات، إذ يمكن أن يكون الشِّق هو الذى فيه العَجُز، وفيه الرِّجل، فصح التعبيرُ عنه بهذا وهذا، وقد رجع ابنُ عيينة عن قوله: "حماراً" وثبت على قوله: "لحم حمار" حتى مات.

وهذا يدل على أنه تبيَّن له أنه إنما أُهدى له لحماً لا حيواناً، ولا تعارض بين هذا وبين أكله لما صاده أبو قتادة، فإنَّ قصة أبى قتادة كانت عام الحُديبية سنة ست، وقصة الصَّعب قد ذكر غيرُ واحد أنها كانت فى حَجَّة الوداع، منهم: المحبُّ الطبرى فى كتاب "حجة الوداع" له. أو فى بعض عُمَره وهذا مما يُنظر فيه. وفى قصة الظبى وحمار يزيد بن كعب السلمى البَهزى، هل كانت فى حَجَّة الوداع، أو فى بعض عُمَره والله أعلم ؟ فإن حُمِل حديثُ أبى قتادة على أنه لم يصده لأجله، وحديث الصَّعب على أنه صيد لأجله، زال الإشكالُ، وشهد لذلك حديث جابر المرفوع: "صَيْدُ البَرِّ لَكُم حَلالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادُ لَكُمْ". وإن كان الحديثُ قد أُعِلَّ بأن المطلب ابن حنطب راويه عن جابر لا يُعرف له سماع منه، قاله النسائى.
قال الطبرى فى "حَجة الوداع" له: فلما كان فى بعض الطريق، اصطاد أبو قتادة حماراً وحشياً، ولم يكن مُحرماً، فأحلَّه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه بعد أن سألهم: هل أمره أحد منكم بشئ، أو أشار إليه ؟ وهذا وهم منه رحمه الله، فإن قِصة أبى قتادة إنما كانت عام الحُديبية، هكذا

روى فى "الصحيحين" من حديث عبد الله ابنه عنه قال: انطلقنا مع النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَ الحُديبية، فأحرم أصحابُه ولم أحرِم، فذكر قِصة الحمار الوحشى.
فصل
فلما مرَّ بوادى عُسْفَان: قال: "يا أبا بكر ؛ أىُّ وادٍ هذا" ؟ قال: وادى عُسْفان. قال: "لقد مَرَّ به هُودٌ وصَالِحٌ على بَكْرَيْنِ أَحْمَرَيْن خُطُمُهُما اللِّيفُ وَأُزُرُهُم العبَاءُ، وأرْدِيتُهُم النِّمارُ، يُلَبُّونَ يَحَجُّونَ البَيْتَ العَتِيقَ" ذكره الإمام أحمد فى المسند
فلما كان بَسَرِفَ، حاضت عائشةُ رضى الله عنها، وقد كانت أهلَّت بعُمْرة، فدخل عليها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهى تبكى، قال: "ما يُبْكِيكِ ؟ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ" ؟ قالت: نَعَمْ، قال: "هَذَا شئٌ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، افْعَلى مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفى بالبَيْتِ".
وقد تنازع العلماءُ فى قصة عائشة: هل كانت متمتعة أو مفرِدة ؟ فإذا كانت متمتعةً، فهل رفضت عُمْرتَها، أو انتقلت إلى الإفراد، وأدخلت عليها الحَجَّ، وصارت قارنةً، وهل العُمرة التى أتت بها مِن التنعيم كانت

واجبة أم لا ؟ وإذا لم تكن واجبةً، فهل هى مُجزِئةٌ عن عُمْرة الإسلام أم لا ؟ واختلفوا أيضاً فى موضع حيضها، وموضع طُهرها، ونحن نذكر البيان الشافى فى ذلك بحول الله وتوفيقه.
واختلف الفقهاءُ فى مسألة مبنية على قصة عائشة، وهى أن المرأة إذا أحرمت بالعُمْرة، فحاضت، ولم يُمكنها الطوافُ قبلَ التعريفِ، فهل ترفُضُ الإحرامَ بالعُمْرة، وتُهِلُّ بالحَجِّ مفرداً، أو تُدخل الحج على العُمْرة وتصير قارِنة ؟ فقال بالقول الأول: فقهاءُ الكُوفة، منهم أبو حنيفة وأصحابه، وبالثانى: فقهاء الحجاز. منهم: الشافعى ومالك، وهو مذهبُ أهل الحديث كالإمام أحمد وأتباعه.
قال الكوفيون: ثبت فى "الصحيحين"، عن عُروة، عن عائشة، أنها قالت: "أهللتُ بعُمْرة، فقدِمتُ مكَّةَ وأنا حائِض لم أَطُفْ بالبَيْتِ ولا بين الصفا والمروة، فشكوتُ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: "انقُضِى رَأسَكِ، وامْتَشِطِى، وأَهلِّى بالحَجِّ، ودَعِى العُمْرَةَ". قَالَتْ: فَفَعَلْتُ فَلَّما قَضَيْتُ الحَجَّ، أرْسَلَنى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَبْدِ الرَّحمنَ بْنِ أبى بَكْرٍ إلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرْتُ مِنْه. فَقَالَ: "هذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِك". قالوا: فهذا يدلُّ على أنها كانت متمتعة، وعلى أنها رفضت عُمْرتها وأحرمَتْ بالحَجِّ، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دعى عُمْرَتَكِ" ولقوله: "انقُضى رَأسَكِ وامْتَشِطِى"، ولو كانت باقية على إحرامها، لما جاز لها أن تمتشِطَ، ولأنه قال للعُمْرة التى أتت بها من التنعيم: "هذه

مكانُ عُمْرَتِكِ". ولو كانت عُمْرَتُها الأولى باقية، لم تكن هذه مكانَها، بل كانت عُمْرةً مستقلةً.
قال الجمهور: لو تأملتم قِصةَ عائشة حقَّ التأمُّلِ، وجمعتُم بين طرقها وأطرافها، لتبيَّن لكم أنها قرنت، ولم ترفُضِ العُمْرة، ففى "صحيح مسلم": عن جابر رضى الله عنه، قال: أهلَّت عائشة بعُمْرة، حتى إذا كانت بِسَرِفَ، عَرَكَتْ، ثم دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عائشة، فوجدها تبكى، فقال: "ما شأنُكِ" ؟ قالت: شأنى أنى قد حِضتُ وقد أَحلَّ الناس، ولم أَحِلَّ، ولم أطُفْ بِالبَيْتِ وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إلى الحَجِّ الآنَ، قال: "إنَّ هذَا أمر قد كَتَبَهُ اللهُ على بَناتِ آدَمَ، فاغْتَسِلى، ثُمَّ أَهلِّى بالحَجِّ" ففعلت، ووقفتِ المواقِف كُلَّها، حتى إذا طهُرت، طافت بالكعبةِ وبالصّفا والمروة. ثم قال: "قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وعُمْرَتكِ" قالت: يا رسولَ الله إنى أَجِدُ فى نفسى أنى لم أطف بالبيت حتى حججتُ. قال: "فاذَْهَبْ بِها يا عَبْدَ الرَّحْمَن فَأعْمِرْها مِنَ التَّنْعِيمِ ".
وفى "صحيح مسلم": من حديث طاووس عنها: أهللتُ بعُمرة، وقَدِمْتُ ولم أَطُفْ حتَّى حِضْتُ، فَنَسَكْتُ المَناسِكَ كُلَّها، فقالَ لها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّفر: " يَسَعُكِ طَوَافُكِ لَحِجِّكِ وعُمْرَتِكِ".
فهذه نصوص صريحة، أنها كانت فى حَجٍّ وعُمْرة، لا فى حَجٍّ مفرد، وصريحة فى أن القارِن يكفيه طوافٌ واحد، وسعىٌ واحِد، وصريحةٌ فى أنها لم ترفُضْ إحرامَ العُمْرة، بل بقيت فى إحرامها كما هى لم تَحِلَّ منه. وفى بعض ألفاظ الحديث: "كونى فى عُمْرَتِك، فَعَسى

اللهُ أنْ يَرزُقَكيها". ولا يناقض هذا قوله: "دَعى عُمْرَتَكِ". فلو كان المرادُ به رفضَها وتركَها، لما قال لها: "يسعُكِ طوافُكِ لِحَجِّك وعُمرتِكِ"، فعُلِم أن المراد: دعى أعمالها ليس المرادُ به رفضَ إحرامها.
وأما قوله: "انقُضِى رَأْسَكِ وامتَشِطِى"، فهذا مما أعضل على الناس، ولهم فيه أربعة مسالك:
أحدُها: أنه دليل على رفض العُمْرة، كما قالت الحنفية.
المسلك الثانى: أنه دليلٌ على أنه يجوز للمُحْرِم أن يمشُط رأسه، ولا دليلَ من كتاب ولا سُّنَّة ولا إجماع على منعه من ذلك، ولا تحريمهِ وهذا قولُ ابن حزم وغيره.
المسلك الثالث: تعليلُ هذه اللفظة، وردُّها بأن عروةَ انفرد بها، وخالف بها سائرَ الرواة، وقد روى حديثَها طاووس والقاسم والأسود وغيرهم، فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة. قالوا: وقد روى حماد بن زيد، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة، حديثَ حيضها فى الحج فقال فيه: حدَّثنى غيرُ واحد، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: "دَعِى عُمْرَتَكِ وَانْقُضِى رَأْسَكِ وَاْمتَشِطِى َ" وذكر تمام الحديث، قالوا:فهذا يدلُّ على أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة.
المسلك الرابع: أن قوله: "دَعِى العُمْرَةَ"، أى دَعِيها بحالها لا تخرجى منها، وليس المرادُ تركَها، قالوا: ويدل عليه وجهان:
أحدُهما: قوله: "يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِك".
الثانى: قوله: "كونى فى عُمرَتِكِ". قالوا: وهذا أولى مِن حمله على رفضها لسلامته من التناقض. قالوا: وأما قولُه: "هذِه مَكَانُ عُمْرَتِكِ"

فعائشة أحبَّت أن تأتى بعُمْرة مفردة، فأخبرها النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن طوافَها وقع عن حَجَّتها وعُمْرتها، وأن عُمْرتها قد دخلت فى حَجِّها، فصارت قارنة، فأبت إلا عُمْرةً مفردةً كما قصدت أولاً، فلما حصل لها ذلك، قال: "هذِه مَكَانُ عُمْرَتِكِ".
وفى سنن الأثرم، عن الأسود، قال: قلتُ لِعائشة: اعتمرتِ بَعْدَ الحَجّ؟ قالت: واللهِ ما كانت عُمْرةٍ، ما كانت إلا زيارةً زُرتُ البَيْتَ.
قال الإمام أحمد: إنما أعمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عائشةَ حين ألحَّت عليه، فقالت: يَرْجِعُ الناسُ بنُسُكين، وأرجِعُ بِنُسُكٍ ؟، فقال: "يا عبد الرحمن، أعْمِرْها" فنظر إلى أدنى الحِلِّ، فأعمرها مِنْه.
فصل
واختلف الناسُ فيما أحرمت به عائشة أولاً على قولين:
أحدهما: أنه عُمرة مفردة، وهذا هو الصواب لِما ذكرنا من الأحاديث. وفى "الصحيح" عنها، قالت: خرجنا معَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّةِ الودَاع مُوافين لهلال ذى الحِجَّةِ، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أرادَ مِنْكُم أن يُهِلَّ بِعُمْرَة، فَلْيُهِلَّ فَلَوْلاَ أنِّى أَهْدَيْتُ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ ". قالت: وَكان مِنَ القَوْمِ مَنْ أهلَّ بِعُمْرَةٍ، ومِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بالحَجِّ، قَالت: فكُنْتُ أنَا مِمَّنْ أَهَلَّ بعُمْرَةٍ..."، وَذكَرَتِ الحَدِيثَ. وقوله فى الحديث: "دَعِى العُمْرَةَ وأهِلِّى بالحَجِّ" قاله لها بِسَرِفَ قريباً من مكة وهو صريح فى أن إحرامها كان بعُمْرة.

القول الثانى: أنها أحرمت أولاً بالحَجِّ وكانت مُفرِدة، قال ابنُ عبد البَرِّ: روى القاسِمُ بنُ محمد، والأسودُ بن يزيد، وعَمْرَةُ كلُّهم عن عائشة ما يَدُلّ على أنها كانت مُحْرِمة بحَجٍّ لا بعُمْرة، منها: حديثُ عَمرة عنها: خرجنا مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا نرى إلا أنَّه الحَجُّ، وحديثُ الأسود بن يزيد مثله، وحديث القاسم: "لبَّينَا مَعَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحَجِّ. قال: وغلَّطوا عُروة فى قوله عنها: "كُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ"، قال إسماعيل بن إسحاق: قد اجتمعَ هؤلاء يعنى الأسودَ، والقاسم، وعَمرة على الروايات التى ذكرنا، فعلمنا بذلك أن الروايات التى رُويت عن عُروة غلط، قال: ويُشبه أن يكون الغلطُ، إنما وقع فيه أن يكون لم يُمكنها الطوافُ بالبيت، وأن تَحِلَّ بعُمرةٍ كما فعل مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ، فأمرها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تتركُ الطَّوافَ، وتمضى على الحَجِّ، فتوهَّمُوا بهذا المعنى أنها كانت معتمِرة، وأنها تركت عُمْرتَها، وابتدأت بالحَجِّ. قال أبو عمر: وقد روى جابرُ بن عبد الله، أنها كانت مُهٍلَّةً بعُمْرةٍ، كما روى عنها عُروة. قالوا: والغلطُ الذى دخل على عُروة، إنما كان فى قوله: "انقُضِى رَأْسَكِ، وامْتَشِِطى، وَدَعِى العُمْرَة، وأهِلِّى بالحَجِّ".
وروى حماد بن زيد، عن هِشام بن عُروة، عن أبيه: حدَّثنى غيرُ واحد، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: "دَعِى عُمْرَتَكِ، وانْقُضِى رَأْسَكِ، وامْتَشِطِى، وافْعَلى مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ". فبيَّن حماد، أن عُروة لم يسمع هذا الكلام من عائشة.
قلت: مِن العجب ردّ هذه النصوصِ الصحيحةِ الصريحةِ التى لا مدفع لها، ولا مطعنَ فيها، ولا تحتمِل تأويلاً ألبتة بلفظ مجمل ليس ظاهراً فى أنها كانت مفرِدة، فإن غايَة ما احتجَّ به مَن زعم أنها كانت مُفرِدة،

قولُها: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نرى إلا أنَّه الحَجّ، فيا للّه العجب، أيُظَن بالمتمتِّع أنه خرج لغير الحَجّ، بل خرج للحجّ متمتعاً، كما أن المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضأ لا يمتنِعُ أن يقول: خرجتُ لِغسلِ الجنابة ؟ وصدقت أمُّ المؤمنين رضى الله عنها، إذ كانت لا ترى إلا أنَّه الحَجُّ حتَّى أحرمت بعُمرة، بأمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلامُها يُصَدِّقُ بعضُه بعضاً.
وأما قولُها: لبَّينَا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحجِّ، فقد قال جابر عنها فى "الصحيحين": إنها أهلَّت بعُمرة، وكذلك قال طاووس عنها فى "صحيح مسلم"، وكذلك قال مجاهد عنها، فلو تعارضت الرواياتُ عنها، فروايةُ الصحابة عنها أولى أن يُؤخذَ بها مِن رواية التابعين، كيف ولا تعارُض فى ذلك البتة، فإن القائلَ: فعلنا كذا، يصدق ذلك منه بفعله، وبفعل أصحابه.
ومن العجب أنهم يقولون فى قول ابن عمر: تمتَّعَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعُمْرة إلى الحَجِّ، معناه: تمتع أصحابُه، فأضاف الفعلَ إليه لأمره به، فهلاَّ قُلتم فى قول عائشة: لبَّينا بالحَجِّ، أن المرادَ به جنسُ الصحابة الَّذين لَبَّوْا بالحجِّ، وقولها: فعلنا، كما قالت: خرجنا مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسافرنا معه ونحوه. ويتعينُ قطعاً إن لم تكن هذه الرواية غلطاً أن تُحمل على ذلك للأحاديثِ الصحيحةِ الصريحة، أنها كانت أحرمت بعُمرة وكيف يُنسب عُروة فى ذلك إلى الغلط، وهم أعلمُ الناس بحديثها، وكان يسمعُ منها مشافهةً بلا واسِطة.
وأما قوله فى رواية حماد: حدثنى غيرُ واحد أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: "دَعِى عُمْرَتَكِ" فهذا إنما يحتاجُ إلى تعليله، وردِّه إذا خالف الرواياتِ الثابتة عنها، فأما إذا وافقها وصدَّقها، وشهد لها أنها أحرمت

بعُمرة، فهذا يدل على أنه محفوظ، وأنَّ الذى حدَّث به ضبطه وحفظه، هذا مع أن حمادَ بن زيد انفرد بهذه الرواية المعلَّلة، وهى قوله: فحدَّثنى غيرُ واحد، وخالفه جماعة، فرووه متصلاً عن عُروة، عن عائشة. فلو قُدِّرَ التعارضُ، فالأكثرون أولى بالصواب، فيا للّه العجب، كيف يكون تغليطُ أعلم الناسِ بحديثها وهو عُروة فى قوله عنها: "وكنت فيمن أهلَّ بعُمْرة" سائغاً بلفظ مجمل محتمل، ويُقضى به على النص الصحيح الصريح الذى شهد له سياقُ القِصة من وجوه متعددة قد تقدم ذكر بعضها ؟، فهؤلاء، أربعة رووا عنها، أنها أهلَّت بعمرة: جابر، وعُروة، وطاووس، ومجاهد، فلو كانت روايةُ القاسم، وعَمرة، والأسود، معارضة لرواية هؤلاء، لكانت روايتُهم أولى بالتقديم لكثرتهم، ولأن فيهم جابراً، ولفضل عُروة، وعلمه بحديث خالته رضى الله عنها.
ومن العجب قوله: إن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أمرها أن تترك الطوافَ، وتمضىَ على الحَجِّ، توهَّموا لهذَا أنَّها كانت معتمِرة، فالنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أمرها أن تدعَ العُمْرة وتُنشئ إهلالاً بالحَجِّ، فقال لها: "وأهلِّى بالحَجِّ" ولم يقل: استمرى عليه، ولا امضى فيه، وكيف يُغلَّط راوى الأمر بالامتشاط بمجرَّد مخالفته لمذهب الرادِّ ؟ فأين فى كتاب اللهِ وسُّنَّة رسوله، وإجماع الأُمة ما يُحرِّم على المُحْرِم تسريحَ شعره، ولا يَسوغ تغليطُ الثقات لنصرة الآراء، والتقليد. والمُحْرِم وإن أمن من تقطيع الشعر، لم يُمنع مِن تسريح رأسه، وإن لم يأمن من سقوط شئ من الشعر بالتسريح، فهذا المنعُ منه محلُّ نزاع واجتهاد، والدليل يَفْصِلُ بين المتنازعين، فإن لم يدل كتاب ولا سُّنَّة ولا إجماع على منعه، فهو جائز.

فصل
وللناس فى هذه العُمرة التى أتت بها عائشةُ من التنعيم أربعةُ مسالك.
أحدها: أنها كانت زيادة تطييباً لقلبها وجبراً لها، وإلا فطوافها وسعيها وقع عن حَجِّها وعُمْرتها، وكانت متمتعة، ثم أدخلت الحَجَّ على العُمْرة، فصارت قارِنة، وهذا أصحُّ الأقوالِ، والأحاديثُ لا تدل على غيره، وهذا مسلك الشافعى وأحمد وغيرهما.
المسلك الثانى: أنها لما حاضت، أمرها أن ترفُضَ عُمْرتَهَا، وتنتقِلَ عنها إلى حَجٍّ مفرد، فلما حلَّت من الحَج، أمرها أن تعتمِر قضاءً لعُمْرتها التى أحرمت بها أولاً، وهذا مسلكُ أبى حنيفة ومَن تبعه، وعلى هذا القول، فهذه العُمْرةُ كانت فى حقِّها واجبة، ولا بُد منها، وعلى القول الأول كانت جائزة، وكل متمتعة حاضت ولم يمكنها الطوافُ قبل التعريف، فهى على هذين القولين، إما أن تُدْخِلَ الحَجَّ على العُمْرة، وتصيرَ قارنة، وإما أن تنتقلَ عن العُمْرة إلى الحَجِّ، وتصيرَ مفرِدة، وتقضى العُمْرة.
المسلك الثالث: أنها لما قرنت، لم يكن بُدٌّ من أن تأتىَ بعُمْرة مفردة، لأن عُمرة القارن لا تُجزئ عن عُمْرة الإسلام، وهذا أحد الروايتين عن أحمد.
المسلك الرابع: أنها كانت مُفرِدة، وإنما امتنعت من طوافِ القُدوم لأجل الحيض، واستمرت على الإفراد حتى طهُرت، وقضت الحَجَّ وهذه العُمْرةُ هى عُمْرة الإسلام، وهذا مسلك القاضى إسماعيل بن إسحاق وغيره من المالكية، ولا يخفى ما فى هذا المسلك مِن الضعف، بل هو أضعفُ المسالك فى الحديث.

وحديث عائشة هذا، يؤخذ منه أصول عظيمة من أصول المناسك:
أحدها: اكتفاء القارِن بطواف واحد وسعى واحد.
الثانى: سقوطُ طوافِ القدوم عن الحائض، كما أن حديثَ صفيَّة زوج النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصل فى سُقوط طواف الوداع عنها.
الثالث: أن إدخالَ الحجِّ على العُمْرة للحائض جائز، كما يجوز للطاهر، وأولى، لأنها معذورة محتاجة إلى ذلك.
الرابع: أن الحائضَ تفعل أفعال الحجِّ كلَّها، إلا أنها لا تطوفُ بالبيت.
الخامس: أن التنعيم مِن الحِلِّ.
السادس: جوازُ عُمْرتين فى سنة واحدة، بل فى شهر واحد.
السابع: أن المشروعَ فى حق المتمتِّع إذا لم يأمنِ الفوات أن يُدْخِلَ الحجَّ على العُمْرة، وحديث عائشة أصل فيه.
الثامن: أنه أصل فى العُمْرة المكية، وليس مع مَن يستحبُّها غيره، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعتمر هو ولا أحد ممن حَجَّ معه من مكة خارجاً منها إلا عائشةَ وحدها، فجعل أصحابُ العُمْرة المكية قصة عائشة أصلاً لقولهم، ولا دلالة لهم فيها، فإن عُمْرتها إما أن تكون قضاءًَ للعُمْرة المرفوضة عند مَن يقول: إنها رفضتها، فهى واجبة قضاءً لها، أو تكون زيادة محضة، وتطييباً لقلبها عند مَن يقول: إنها كانت قارِنة، وأن طوافها وسعيها أجزأها عن حَجِّها وعُمْرتها. والله أعلم.
فصل
وأما كونُ عُمرتها تلك مجزئةً عن عُمرة الإسلام، ففيه قولان للفقهاء، وهما روايتان عن أحمد، والذين قالوا: لا تُجزئ، قالوا: العُمْرةُ المشروعة

التى شرعها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعلها نوعان لا ثالثَ لهما: عُمرة التمتع وهى التى أذن فيها عند الميقات، وندب إليها فى أثناء الطريق، وأوجبها على مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ عند الصفا والمروة، الثانية: العُمْرة المفردة التى يُنشأ لها سفر، كعُمَره المتقدِّمة، ولم يُشرع عُمْرة مفردة غير هاتين، وفى كلتيهما المعتمِر داخل إلى مكة، وأما عُمْرة الخارج إلى أدنى الحِلِّ، فلم تُشرع، وأما عُمرة عائشة، فكانت زيارة محضة، وإلا فعُمرة قِرانها قد أجزأت عنها بنصِّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا دليل على أن عُمْرة القارِن تُجزئ عن عُمْرة الإسلام، وهذا هو الصواب المقطوع به، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعائشة: "يَسَعُكِ طَوافُكِ لحجِّكِ وعُمرتِكِ" وفى لفظ: "يجزئك" وفى لفظ: "يَكْفِيك". وقال: "دخلتِ العُمرةُ فى الحجِّ إلى يوم القِيامَة" وأمر كلَّ مَن ساق الهَدْى أن يقرِنَ بين الحَجِّ والعُمْرة، ولم يأمر أحداً ممن قرن معه وساق الهَدْى بعُمْرة أخرى غير عُمْرة القِران، فصحَّ إجزاء عُمرة القارن عن عُمرة الإسلام قطعاً، وبالله التوفيق.
فصل
وأما موضُع حيضِها، فهو بِسَرِفَ بلا ريب، وموضعُ طُهرها قد اختُلِف فيه، فقيل:بعرفة، هكذا روى مجاهد عنها،وروى عُروة عنها أنها أظلّها يومُ عرفة وهى حائض ولا تنافى بينهما،والحديثان صحيحان، وقد حملهما ابنُ حزم على معنيين، فطُهْر عرفة: هو الاغتسال للوقوف بها عنده، قال: لأنها قالت: تطهَّرتُ بعرفة، والتطهر غيرُ الطُهرِ، قال:

وقد ذكر القاسم يوم طُهرها، أنه يوم النحر، وحديثُه فى "صحيح مسلم". قال: وقد اتفق القاسمُ وعروةُ على أنها كانت يومَ عرفة حائضاً، وهما أقربُ الناس منها، وقد روى أبو داود: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عنها: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوافين هلال ذى الحِجَّة...فذكرت الحديث، وفيه: فلما كانت ليلةُ البطحاء، طَهُرَتْ عائِشةُ،وهذا إسناد صحيح. لكن قال ابنُ حزم: إنه حديث منكر، مخالف لما روى هؤلاء كلهم عنها، وهو قوله: إنها طَهُرت ليلةَ البطحاء، وليلةُ البطحاء كانت بعد يومِ النحر بأربع ليال،وهذا محالٌ إلا أننا لما تدبرنا وجدنا هذه اللفظة ليست مِن كلام عائشة، فسقط التعلُّق بها، لأنها ممن دون عائشة، وهى أعلمُ بنفسها، قال: وقد روى حديث حماد بن سلمة هذا وهيبُ بن خالد، وحماد بن زيد، فلم يذكرا هذه اللفظة.
قلت: يتعين تقديمُ حديث حمَّاد بن زيد ومَن معه على حديث حمَّاد بن سلمة لوجوه:
أحدها: أنه أحفظُ وأثبت من حمَّاد بن سلمة.
الثانى: أن حديثَهم فيه إخبارُها عن نفسها، وحديثه فيه الإخبار عنها.
الثالث: أن الزهرى روى عن عُروة عنها الحديثَ، وفيه: فلم أزل حائضاً حتى يومُ عرفة، وهذه الغاية هى التى بيَّنها مجاهد والقاسم عنها، لكن قال مجاهد عنها: فتطهرت بعرفة، والقاسم قال: يوم النحر.
فصل
عدنا إلى سياق حَجَّته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فلما كان بِسَرِف، قال لأصحابه:

"مَنْ لَمْ يكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ، فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً، فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدىٌ فَلاَ ". وهذه رتبة أخرى فوق رتبة التخيير عند الميقات.
فلما كان بمكة، أمر أمراً حتماً: مَنْ لا هَدْى معه أن يجعلها عُمْرة، ويَحِلَّ من إحرامه، ومَن معه هَدْى، أن يُقيم على إحرامه، ولم ينسخ ذلك شئ البتة، بل سأله سُراقة بنُ مالك عن هذه العُمرة التى أمرهم بالفسخ إليها، هل هى لِعَامِهِمْ ذَلِكَ، أَمْ لِلأبَدِ: قال: "بَلْ لِلأبَد، وإن العُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ فى الحجِّ إلَى يَوْمِ القِيامَة".
وقد روى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمرَ بفسخِ الحَجِّ إلى العُمْرة أربعةَ عشرَ مِن أصحابه، وأحاديثُهم كلُّها صحاح، وهم: عائشةُ، وحفصة أُمَّا المؤمنين، وعلىُّ بن أبى طالب، وفاطمةُ بنتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسماءُ بنت أبى بكر الصِّدِّيق، وجابرُ بن عبد الله، وأبو سعيد الخُدرى، والبراءُ بن عازب، وعبدُ الله بن عمر، وأنسُ بن مالك، وأبو موسى الأشعرى، وعبدُ الله ابن عباس، وسَبْرَةُ بنُ معبَدٍ الجُهنى، وسُرَاقةُ بن مَالِكٍ المُدْلِجِىُّ رضى الله عنهمْ.. ونحن نشير إلى هذه الأحاديث.
ففى "الصحيحين": عن ابن عباس، قَدِمَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه صَبِيحَةَ رابعةٍ مُهلِّين بالحَجِّ، فأمرهم أن يجعلُوها عُمْرة، فتعاظَم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله ؛ أىُّ الحلِّ ؟ فقال: "الحِلُّ كُلُّه".

وفى لفظ لمسلم: قدِم النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه لأربع خَلَوْنَ من العشر إلى مكة، وهم يُلبُّون بالحج، فأمرهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعلوها عُمرةً، وفى لفظ: وأمر أصحابه أن يجعلوا إحرامهم بعُمْرة إلا مَن كان معه الهَدْى.
وفى "الصحيحين" عن جابر بنِ عبد الله: أهلَّ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه بالحجِّ، وليس مع أحد منهم هَدْى غير النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطلحة، وقَدِمَ على رضى الله عنه من اليمن ومعه هَدْى، فقال: أهللتُ بما أهلَّ به النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعلوها عُمْرة، ويطوفوا، ويقصروا، ويَحِلُّوا إلا مَن كان معه الهَدْىُ، قالوا: ننطلِقُ إلى مِنَى وَذَكَرُ أحدنا يقطُرُ ؟ فبلغ ذلك النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، ولَوْلا أنَّ معىَ الهَدْىَ لأَحْلَلْتُ". وفى لفظ: فقام فينا فقال: "لَقَدْ عَلِمْتُم أنِّى أَتْقاكُم للّه، وأَصْدَقُكُم، وأَبَرُّكُمْ، وَلَوْلاَ أنَّ معىَ الهَدْى لحَلَلْت كَما تَحِلُّون، ولَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرى مَا اسْتَدْبَرْتُ، لم أَسُق الهَدْىَ، فحُلُّوا" فَحَلَلْنا، وسَمعنا وأطعَنا، وفى لفظ: أمرنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أحللْنا، أن نُحْرِمَ إذا تَوجَّهْنَا إلى مِنَى. قال: فأَهْلَلْنا من الأَبْطَح، فَقَالَ سُرَاقَةُ بنُ مَالِك بْنِ جُعْشُم: يَا رَسُولَ اللهِ ؛ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ للأَبَدِ ؟ قال: "لِلأبَدِ". وهذه الألفاظُ كلُّها فى الصحيح وهذا اللفظُ الأخير صريح فى إبطال قولِ مَنْ قال: إن ذلك كان خاصاً بهم، فإنه حينئذ يكون لِعامهم

ذلك وحده لا للأبد، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنَّهُ لِلأبَدِ.
وفى "المسند": عن ابن عمر، قَدِمَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة وأصحابُه مُهلِّينَ بالحجِّ، فقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ شَاءَ أنْ يَجْعَلَها عُمْرَةً إلاَّ مَنْ كَانَ مَعَه الهَدْىُ". قالُوا: يا رسولَ الله ؛ أيروحُ أحدُنا إلى مِنَى وَذَكَرُه يَقطُرُ مَنيَّاً ؟ قال: "نَعَمْ" وسَطَعتِ المَجامِرُ.
وفى السنن: عن الرَّبيع بن سَبْرَة، عَنْ أَبِيه:خرجْنَا مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى إذا كُنَّا بعُسفان، قال سُراقة بن مَالك المُدْلجىُّ: يا رسول الله ؛ اقْضِ لنَا قَضَاءَ قَوْمٍ كَأنَّما وُلِدُوا اليَوْمَ، فَقَال: "إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَدْخَلَ عَلَيْكُم فى حَجَّة عُمْرَةً، فإذا قَدِمْتم، فَمن تَطَوَّفَ بالبَيْتِ وسَعَى بيْن الصَّفَا والمَرْوَة، فَقدْ حَلَّ إلاَّ مَنْ مَعَهُ هَدْى ".
وفى "الصحيحين" عن عائشة: خرجْنَا معَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا نَذْكُرُ إلا الحَجَّ... فذكرتِ الحديثَ، وفيه: فلما قَدِمْنَا مكة، قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: "اجْعَلوهَا عُمْرَةً" فأحلَّ الناسُ إلا مَنْ كان معه الهَدْى... وذكَرَتْ باقى الحديث.
وفى لفظ للبخارى: خرجْنَا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نَرى إلا الحَجَّ، فلما قَدِمْنَا تطوَّفْنَا بالبيت، فأمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن لم يكن ساق الهَدْى أن يَحِلَّ، فحلَّ مَن لم يكن ساقَ الهَدْى ونساؤه لم يَسُقْن، فأحللن.
وفى لفظ لمسلم: "دخل علىَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو غضبانُ، فقلتُ: مَنْ أغضَبكَ يا رسولَ اللهِ أدخله الله النار. قال: أوَ ما شَعَرْتِ أنِّى أمَرْتُ

النَّاسَ بأَمْرٍ، فإذا هُم يَتَرَدَّدُون، ولو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرى ما اسْتَدْبَرْتُ. ما سُقْتُ الهَدْىَ معى حَتَّى أَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ أحِلَّ كما حَلُّوا". وقال مالك: عن يحيى بن سعيد، عن عَمْرة، قالت: سمعتُ عائشة تقولُ: خرجْنَا معَ رسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخمس ليالٍ بَقِينَ مِن ذى القِعْدة، ولا نَرى إلا أنه الحَجُّ، فلما دَنَونا مِن مكة، أمرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن لم يكن معه هَدْى إذا طافَ بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يَحِلَّ، قال يحيى بن سعيد: فذكرتُ هذا الحديثَ للقاسم بن محمد، فقال: أتتك واللهِ بالحديثِ على وجهه.
وفى "صحيح مسلم": عن ابن عمر، قال: حدَّثتنى حفصةُ، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أزواجه أن يَحْلِلْنَ عَامَ حَجَّةِ الوَداعِ، فَقُلْتُ: ما مَنَعَكَ أَنْ تَحِلَّ ؟ فقال: "إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى، وقَلَّدْتُ هَدْيى، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ الهَدْىَ".
وفى "صحيح مسلم": عن أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما، خرجنا مُحرِمِينَ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ، فَلْيَقُمْ عَلَى إحْرامِه، ومَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ، فَلْيَحْلِلْ "... وذكرتِ الحديث.
وفى "صحيح مسلم" أيضاً: عن أبى سعيد الخُدرى، قال: خرجْنَا مَعَ رَسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَصْرُخُ بالحجِّ صُراخاً، فلما قَدِمْنَا مكَّة أمَرنا أن

نَجْعَلَها عُمْرةً إلا مَنْ سَاقَ الهَدْىَ، فلما كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَرُحْنَا إلى مِنَى، أهللنَا بالحَجِّ.
وفى "صحيح البخارى": عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: أهَلَّ المُهاجرُونَ والأَنْصارُ، وأزواجُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّةِ الوَدَاع، وأهللنَا فلما قَدِمْنَا مَكَّة، قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجْعَلُوا إهْلاَلَكُم بالحَجِّ عُمْرَةً إلاَّ مَنْ قَلَّدَ الهَدْى"... وذكر الحديث.
وفى "السنن" عن البرَّاء بن عازب: خرجَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه، فأحرمْنَا بالحجِّ، فلما قَدِمنَا مكة، قال: "اجْعَلوا حَجَّكُم عُمْرَة". فقال الناسُ: يا رسول اللهِ ؛ قد أحرمنا بالحَجِّ، فكيف نجعلُها عُمْرَةً ؟ فقال: "انْظُرُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ فَافْعَلوهُ" فردَّدُوا عليه القولَ، فَغَضِبَ، ثم انطلق حتَّى دخل على عائشة وهو غَضْبانُ، فرأتِ الغضَب فى وجهه فقَالت: مَنْ أَغْضَبَكَ أغضبه اللهُ، فَقَالَ: "وَمَا لِىَ لا أَغْضَبُ وأَنَا آمُرُ أَمْراً فَلا يُتَّبَعُ".
ونحن، نُشهِدُ الله علينا أنَّا لو أحرمنا بحَجٍّ، لرأينا فرضاً علينا فسخهُ إلى عُمْرة تفادياً مِن غضبِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واتباعاً لأمره. فواللهِ ما نُسِخَ هذا فى حَياتِهِ ولا بَعْدَهُ، ولا صحَّ حَرْفٌ واحِد يُعارضه، ولا خصَّ به أصحابَه دُونَ مَنْ بعدهم، بل أجرى الله سبحانه على لِسان سُراقة أن يسأله: هل ذلك مختصٌ بهم ؟ فأجاب بأنَّ ذلك كائن لأبد الأبد،

فما ندرى ما نُقدِّم على هذه الأحاديث، وهذا الأمر المؤكَّد الذى غضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مَن خالفه.
وللّه دَرُّ الإمام أحمد رحمه الله إذ يقول لسلمة بن شبيب وقد قال له: يا أبا عبد الله ؛ كُلُّ أمرِك عِندى حَسن إلا خَلَّةً واحِدةً: قال: وما هى ؟ قال: تقولُ بفسخ الحَجِّ إلى العُمْرة. فقال: يا سلمة ؛ كنتُ أرى لكَ عقلاً، عندى فى ذلك أحد عشر حديثاً صحاحاً عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أأتركُها لِقَوْلكَ ؟،
وفى "السنن" عن البرَّاء بن عازب، أن علياً رضى الله عنه لما قَدِمَ على رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليمن، أدرك فاطمةَ وقد لبست ثياباً صَبِيغاً، ونَضَحَتِ البَيْتَ بِنَضُوحٍ، فَقَالَ: مَا بَالُكِ ؟ فَقالَت: إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَر أصْحَابَه فَحَلُّوا.
وقال ابنُ أبى شيبة: حدَّثنا ابنُ فضيل، عن يزيد، عن مجاهد، قال: قال عبدُ اللهِ بنُ الزبير: أفرِدُوا الحَجَّ، ودَعُوا قولَ أعماكُم هَذَا. فقال عبدُ اللهِ ابنُ عباس: إن الَّذى أعمى الله قلبَه لأنتَ، ألا تسألُ أُمَّك عَنْ هذا ؟ فأرسلَ إليها، فقالَتْ: صَدَقَ ابْنُ عَبَّاس، جِئنا مَعَ رسول اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حُجَّاجاً، فجعلناها عُمْرَةً، فحللنا الإحلالَ كُلَّه، حتَّى سَطَعَتِ المَجَامِرُ بَيْنَ الرِّجَالِ والنِّساء.
وفى "صحيح البخارى" عن ابن شِهاب، قال: دخلتُ على عطاء

أستفتِيه، فقال: حدّثنى جابرُ بنُ عبد الله: أنه حجَّ مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم ساق البُدن معه، وقد أهلُّوا بالحجِّ مفرداً، فقال لهم: "أَحِلُّوا مِنْ إحْرامِكُم بِطَوَافٍ بالبَيْتِ، وبَيْنَ الصَّفَا والْمروَة، وقَصِّرُوا، ثُمَّ أقِيمُوا حَلالاً، حَتَّى إذَا كَانَ يَومُ التَّرْوِيَةِ، فأهِلُّوا بالحَجِّ واجْعَلُوا التى قَدِمْتُم بها مُتْعَةٌ". فقالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُها مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الحَجَّ ؟ فقال: "افْعَلُوا مَا آمُرُكُم به، فَلَوْلا أنى سُقْتُ الهَدْى، لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذى أَمَرْتُكُم بِهِ، وَلَكِنْ لا يحِلُّ مِنِّى حَرَامٌ، حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْىُ مَحِلَّه"، ففعلُوا.
وفى "صحيحه" أيضاً عنه: أهلَّ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه بالحَجِّ... وذكر الحديث. وفيه: فأمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه أن يجعلوها عُمرةً، ويطوفوا، ثم يقصِّروا إلا مَن ساق الهَدْى: فقالوا: أننطلق إلى مِنَى وذَكَرُ أحَدنا يقطُر ؟ فبلَغ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرى مَا اسْتَدْبَرْتُ ما أَهْدَيْتُ ولوْلا أنَّ معى الهَدْى، لأَحْلَلْتُ".
وفى "صحيح مسلم" عنه فى حَجة الوداع: حتى إذا قَدِمنا مكَّة، طُفنا بالكعبة وبالصَّفا والمروة، فأمرنَا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن يَحِلَّ مِنَّا مَنْ لم يكُن معه هَدْى، قال: فقُلنا: حِلُّ ماذا ؟ قال: "الحِلُّ كُلُّه"، فواقعنا النِّسَاءَ، وتَطيَّبنَا بالطِّيب، ولَبِسْنَا ثيابَنا، ولَيْس بيننا وبَيْنَ عَرفة إلا أربعُ ليال، ثم أهللنا يَوْمَ التروية.
وفى لفظ آخَر لمسلم: "فمَنْ كَانَ منْكُم لَيْسَ مَعَهُ هَدْىٌ، فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْها عُمْرَةً، فحلَّ الناسُ كُلُّهُم وقصَّروا إلا النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَنْ كَان مَعَهُ هَدْى، فلما كان يَوْمُ التروية،توجَّهُوا إلى مِنَى، فَأَهَلُّوا بِالحَجِّ

وفى "مسند البزار" بإسناد صحيح: عن أنس رضىَ الله عنه، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أهلَّ هُوَ وأصحابُه بالحَجِّ والعُمْرة، فلما قدموا مكة، طافوا بالبيت والصفا والمروة، وأمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يَحِلُّوا، فهابوا ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أَحِلُّوا فَلَوْلاَ أَنَّ مَعى الهَدْىَ، لأَحْلَلْتُ"، فأحلُّوا حَتَّى حَلُّوا إلى النِّسَاءِ.
وفى "صحيح البخارى": عن أنس، قال: "صلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحنُ معه بالمدينة الظهرَ أربعاً، والعصر بذى الحُليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به راحلتُه على البيداءِ، حَمِدَ الله، وسبَّح، ثم أهلَّ بحَجٍّ وعُمرة، وأهلَّ الناسُ بهما، فلما قَدِمْنَا أمر الناس فحلُّوا، حتى إذا كان يومُ التَّروية، أهلُّوا بالحَجِّ".... وذكر باقى الحديث.
وفى "صحيحه" أيضاً: عن أبى موسى الأشعرى، قال: بعثنى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قومى باليمن، فجئت وهو بالبطحاء، فَقَالَ: "بِمَ أَهْلَلْتَ" ؟ فَقُلْتُ: أَهْلَلْتُ بإِهَلالِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: "هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْى" ؟ قلتُ: لا، فأَمَرَنى، فطُفْتُ بالبَيْتِ وَبِالصَّفَا والمَرْوَةِ، ثمَّ أَمرَنى فَأَحْلَلْتُ.
وفى "صحيح مسلم": أن رجلاً من بنى الهُجَيْمِ قال لابن عبَّاس: ما هَذِه الفُتيا التى قَدْ تشغَّبَت بالنَّاس، أنَّ مَنْ طَافَ بالبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ ؟ فَقَالَ: سُّنَّة نَبِيِّكُم صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وسَلَّم وإنْ رَغِمْتُم.

وصدق ابنُ عباس، كُلُّ مَن طاف بالبيت ممن لا هَدْى معه مِن مفرِد، أو قارِن، أو متمتِّع، فقد حلَّ إما وجوباً، وإما حكماً، هذه هى السُّنَّة التى لا رادَّ لها ولا مدفع، وهذا كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذَا أدْبَرَ النَّهارُ مِنْ هاهنا، وأقْبَلَ الليل مِنْ هاهنا، فقد أفْطَرَ الصَّائِم"، إما أن يكون المعنى: أفطر حكماً، أو دخل وقت إفطاره، وصار الوقتُ فى حقه وقتَ إفطار. فهكذا هذا الذى قد طاف بالبيت، إما أن يكون قد حلَّ حُكماً، وإما أن يكون ذلك الوقت فى حقه ليس وقتَ إحرام، بل هو وقتُ حِلٍّ ليس إلا، ما لم يكن معه هَدْى، وهذا صريحُ السُّنَّة.
وفى "صحيح مسلم" أيضاً عن عطاء قال: كان ابنُ عباس يقولُ: لا يطوف بالبيتِ حَاج ولا غيرُ حاجٍّ إلا حَلَّ. وكانَ يقولُ: هُوَ بَعْدَ المُعَرَّفِ وَقَبْلَهُ، وكان يأخذُ ذلك مِن أمر النبىَّ صلى الله عليه وآله وسلم، حين أمرهم أن يَحِلَّوا فى حَجَّةِ الوَدَاع.
وفى "صحيح مسلم": عن ابن عباس، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "هذه عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بها، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الهَدْىُ، فَلْيَحِلَّ الحِلَّ كُلَّهُ فَقَدْ دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَةَ".
وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن قتادة، عن أبى الشَّعثاء، عنِ ابن عباس قال: مَنْ جَاءَ مُهِلاً بالحَجِّ، فإنَّ الطَّوافَ باليَيْتِ يُصَيِّرُه إلى عُمْرَةٍ شَاءَ أوْ أَبَى، قُلْتُ: إن النَّاسَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ عَلَيْكَ، قَالَ: هِيَ سُّنَّة نَبِّيهِمْ وإنْ رَغِمُوا.
وقد روى هذا عنِ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سمَّيْنا وغيرهم،

وروى ذلك عنهم طوائفُ مِن كبار التابعين، حتى صار منقولاً نقلاً يرفع الشكَّ، ويُوجب اليقينَ، ولا يُمكن أحداً أن ينكره، أو يقول: لم يقع، وهو مذهبُ أهل بيت رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومذهبُ حَبْر الأُمة وبحرها ابنِ عباس وأصحابهِ، ومذهبُ أبى موسى الأشعرى، ومذهبُ إمام أهل السُّنَّة والحديث أحمد بن حنبل وأتباعه، وأهل الحديث معه، ومذهب عبد الله بن الحسن العنبرى قاضى البصرة، ومذهب أهل الظاهر.
والذين خالفوا هذه الأحاديث، لهم أعذار.
العذر الأول: أنها منسوخة.
العذر الثانى: أنها مخصوصة بالصحابة، لا يجوزُ لِغيرهم مشاركُتهم فى حكمها.
العذر الثالث: معارضُتها بما يَدُلُّ على خلاف حُكمها، وهذا مجموعُ ما اعتذروا به عنها.
ونحن نذكر هذه الأعذار عُذْراً عُذْراً، ونبيِّنُ ما فيها بمعونة الله وتوفيقه.
أما العذر الأول، وهو النسخ، فيحتاج إلى أربعة أُمور، لم يأتوا منها بشئ يحتاج إلى نصوص أُخر، تكون تِلك النصوصُ معارضة لهذه، ثم تكونُ مع هذه المعارضة مقاومة لها، ثم يُثبت تأخرُّها عنها. قال المدَّعون للنسخ: قال عمر بن الخطاب السِّجستانى: حدثنا الفريابى، حدثنا أبان بن أبى حازم، قال: حدثنى أبو بكر بن حفص، عن ابن عُمر، عن عُمَرَ بنِ الخطاب رضى الله عنه أنه قال لما ولى: "يا أيُّها الناس؛ إن

رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، أحلَّ لنا المتُعة ثم حرَّمها علينا" رواه البزار فى "مسنده" عنه
قال المبيحون للفسخ: عجباً لكم فى مُقاومة الجبال الرَّواسى التى لا تُزعزِعُها الرِّياحُ بِكَثِيبٍ مَهيلِ، تسفيه الرَّياحُ يميناً وشمالاً، فهذا الحديثُ، لا سند ولا متن، أما سندُه، فإنه لا تقومُ به حُجة علينا عند أهلِ الحديث، وأما متنُه، فإن المراد بالمتعة فيه مُتعة النساء التى أحلَّها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم حرَّمها، لا يجوز فيها غيرُ ذلك البتة، لوجوه.
أحدها: إجماعُ الأُمة على أنَّ مُتعة الحَجِّ غيرُ محرَّمة، بل إما واجبة، أو أفضلُ الأنساك على الإطلاق، أو مستحبة، أو جائزة، ولا نعلم للأُمة قولاً خامساً فيها بالتحريم.
الثانى: أن عُمَرَ بنَ الخطاب رضى الله عنه، صحَّ عنه مِن غير وجه، أنه قال: لو حججتُ لتمتعتُ، ثم لو حججتُ لتمتعتُ. ذكره الأثرم فى "سننه" وغيره
وذكر عبد الرزاق فى "مصنفه": عن سالم بن عبد الله، أنه سئل: أنهى عمر عن مُتعة الحَجّ ؟ قال: لا، أَبَعْدَ كِتابِ الله تعالى ؟ وذكر عن نافع، أن رجلاً قال له: أنهى عمر عن مُتعة الحج ؟ قال: لا. وذكر أيضاً عن ابن عباس، أنه قال: هذا الذى يزعمون أنه نهى عن المُتعة يعنى عمَر سمعتُه يقول: لو اعتمرتُ، ثم حججتُ، لتمتَّعتُ.
قال أبو محمد بن حزم: صحَّ عن عمر الرجوعُ إلى القول بالتمتع

بعد النهى عنه، وهذا محال أن يرجعَ إلى القول بما صح عنده أنه منسوخ.
الثالث: أنه من المحال أن ينهى عنها، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن سأله: هل هى لِعامِهم ذلك أم للأبد ؟ فقال: "بل للأبد"، وهذا قطع لتوهم ورود النسخ عليها، وهذا أحدُ الأحكام التى يستحيل ورود النسخ عليها، وهو الحكمُ الذى أخبر الصادق المصدوق باستمراره ودوامه، فإنه لا خلف لِخبره.
فصل
العذر الثانى: دعوى اختصاصِ ذلك بالصحابة، واحتجوا بوجوه:
أحدها: ما رواه عبدُ اللهِ بنُ الزبير الحُميدى، حدثنا سُفيان، عن يحيى بن سعيد، عن المُرَقِّعِ، عن أبى ذر أنه قال: كان فسخُ الحجِّ مِن رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم لنَا خاصة.
وقال وكيع: حدثنا موسى بن عُبيدة، حدثنا يعقوب بنُ زيد، عن أبى ذر قال: لم يَكُنْ لأَحَدٍ بَعْدَنَا أَنْ يَجْعَلَ حَجَّتَهُ عُمْرَةً، إنَّها كَانَتْ رُخْصَةً لَنَا أَصْحَابَ مَحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم.
وقال البزار: حدّثنا يوسف بن موسى، حدثنا سلمةُ بنُ الفضل، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن الأسدى، عن يزيد بن شريك، قُلنا لأبى ذر: كيف تمتَّع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنتُم معه ؟ فقال: ما أَنْتُمْ وَذَاكَ، إنَّما ذَاكَ شَئٌ رُخِّصَ لَنَا فيه، يعنى المتعة.
وقال البزار: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عُبيد الله بن موسى،

حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن أبى بكر التيمى، عن أبيه والحارث بن سويد قالا: قال أبو ذر فى الحجِّ والمتعةِ: رخصةٌ أعطاناها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال أبو داود: حدثنا هنّاد بن السِّرِى، عن ابن أبى زائدة، أخبرنا محمد ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود، عن سليمان أو سليم بن الأسود أن أبا ذر كان يقولُ فيمن حَجَّ ثُمَّ فَسَخَها إلى عُمْرَةٍ، لم يَكُنْ ذَلِكَ إلاَّ لِلرَّكْبِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفى "صحيح مسلم": عن أبى ذر. قال: كانَتِ المُتْعَةُ فى الحَجِّ لأَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم خَاصَّةً. وفى لفظ: "كَانَتْ لَنَا رُخْصَةً"، يَعْنى المُتْعَةَ فى الحَجِّ، وفى لفظ آخر: "لا تَصِحُّ المُتْعَتَانِ إلاَّ لَنَا خَاصةً"، يَعنِى مُتْعَةَ النِّسَاءِ ومُتْعَةَ الحَجِّ. وفى لفظ آخر: "إنَّمَا كَانَتْ لَنَا خَاصّةً دُونَكُم"، يَعْنِى مُتْعَةَ الحَجِّ.
وفى "سنن النسائى" بإسناد صحيح: عن إبراهيم التيمى، عن أبيه، عن أبى ذر، فى مُتعِة الحجِّ: لَيْسَتْ لَكُمْ، ولَسْتُم مِنْهَا فى شَئٍ، إنَّمَا كَانَتْ رُخْصَةً لَنَا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفى "سنن أبى داود والنسائى"، من حديث بلال بن الحارث قال: قلت: يا رسول الله؛ أرأيتَ فسخَ الحجِّ إلى العُمرة لنا خاصَّة، أم للناس عامة ؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: " بَلْ لَنَا خًَاصَّة "، ورواه

الإمام أحمد.
وفى مسند أبى عوانة بإسناد صحيح: عن إبراهيم التيمى، عن أبيه، قال: سُئِلَ عُثْمَانُ عن مُتْعَةِ الحَجِّ فَقَال: كَانَتْ لَنَا، لَيْسَتْ لَكُمْ.
هذا مجموعُ ما استدلوا به على التخصيص بالصحابة.
قال المجوِّزون للفسخ، والموجِبُون له: لا حُجة لكم فى شئ من ذلك، فإنَّ هذه الآثار بين باطل لا يَصِحُّ عمن نُسِب إليه البتة، وبين صحيح عن قائل غيرِ معصوم لا تُعارَض به نصوصُ المعصوم.
أما الأول: فإن المُرَقِّع ليس ممن تقوم بروايته حُجة، فضلاً عن أن يُقدَّم على النصوص الصحيحة غيرِ المدفوعة. وقد قال أحمد بن حنبل وقد عُورِضَ بحديثه: ومَن المُرقِّع الأسدى ؟ وقد روى أبو ذر عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، الأمر بفسخ الحَجّ إلى العُمْرة. وغاية ما نقل عنه إنْ صح: أنّ ذلك مختصٌّ بالصحابة، فهو رأيه. وقد قال ابن عباس، وأبو موسى الأشعرى: إنَّ ذلك عام للأُمة، فرأى أبى ذر معارَض برأيهما، وسلمت النصوصُ الصحيحةُ الصريحة، ثم من المعلوم أن دعوى الاختصاص باطلةٌ بنص النبى صلى الله عليه وآله وسلم أن تلك العُمْرة التى وقع السؤال عنها وكانت عُمْرة فسخ لأبد الأبد، لا تَختصُّ بقَرن دونَ قرن، وهذا أصح سنداً من المروى عن أبى ذر، وأولى أن يُؤخذ به منه لو صحَّ عنه.

وأيضاً.. فإذا رأينا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد اختلفوا فى أمر قد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعله وأمر به، فقال بعضُهم: إنه منسوخ أو خاص، وقال بعضهم: هو باقٍ إلى الأبد، فقولُ مَن ادَّعى نسخَه أو اختصاصَه مخالف للأصل، فلا يُقبَلُ إلا ببرهان، وإنَّ أقلَّ ما فى الباب معارضتُه مَن ادَّعى بقاءه وعمومه، والحجةُ تفصِل بين المتنازعين، والواجبُ الردُّ عند التنازع إلى الله ورسوله. فإذا قال أبو ذر وعثمان: إن الفسخ منسوخ أو خاص، وقال أبو موسى وعبد الله بن عباس: إنه باقٍ وحكمُه عام، فعلى مَن ادَّعى النسخ والاختصاص الدليل.
وأما حديثه المرفوع حديث بلال بن الحارث فحديث لا يكْتَبُ، ولا يُعارَض بمثله تلك الأساطين الثابتة.
قال عبد الله بن أحمد: كان أبى يرى للمُهِلِّ بالحج أن يفسخَ حجَّه إن طاف بالبيت وبين الصفا والمروة. وقال فى المتعة: هى آخِرُ الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال صلى الله عليه وآله وسلم.: "اجْعَلُوا حَجَّكُم عُمْرَةً". قال عبد الله: فقلت لأبى: فحديث بلال بن الحارث فى فسخ الحج، يعنى قوله: "لنا خاصة" ؟ قال: لا أقول به، لا يُعرف هذا الرجل، هذا حديث ليس إسناده بالمعروف، ليس حديثُ بلال بن الحارث عندى يثبتُ. هذا لفظه.
قلت: ومما يدل على صحة قول الإمام أحمد، وأن هذا الحديث لا يَصِحُّ أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن تلك المُتعة التى أمرهم أن يفسخوا حَجَّهم إليها أنها لأَبَدِ الأبدِ، فكيف يثبُت عنه بعد هذا أنها لهم خاصة ؟ هذا من أمحل المحال. وكيف يأمرهم بالفسخ ويقول: "دَخَلَتِ

العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَة"، ثم يثبت عنه أن ذلك مختص بالصحابة دون مَن بعدهم: فنحن نَشْهَدُ باللهِ، أن حديث بلال بن الحارث هذا، لا يصح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو غلط عليه، وكيف تُقدَّم روايةُ بلال بن الحارث، على روايات الثقات الأثبات، حملةِ العلم الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلافَ روايته، ثم كيف يكون هذا ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وابنُ عباس رضى الله عنه يُفتى بخلافه، ويناظر عليه طول عمره بمشهد من الخاص والعام، وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوافِرون، ولا يقول له رجلٌ واحد منهم: هذا كان مختصاً بنا، ليس لغيرنا حتى يظهر بعد موت الصحابة، أن أبا ذر كان يرى اختصاص ذلك بهم ؟
وأما قول عثمان رضى الله عنه فى متعة الحج: إنها كانت لهم ليست لغيرهم، فحكمه حكم قول أبى ذر سواء، على أن المروى عن أبى ذر وعثمان يحتمل ثلاثة أُمور:
أحدها: اختصاص جواز ذلك بالصحابة، وهو الذى فهمه مَنْ حرَّم الفسخ.
الثانى: اختصاصُ وجوبه بالصحابة، وهو الذى كان يراه شيخنا قدَّس اللهُ روحه يقول: إنهم كانوا قد فُرِض عليهم الفسخ لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم به، وحتمه عليهم، وغضبه عندما توقفوا فى المبادرة إلى امتثاله. وأما الجواز والاستحباب، فللأُمة إلى يوم القيامة، لكنْ أبَى ذلك البحرُ ابنُ عباس، وجعل الوجوب للأُمة إلى يوم القيامة، وأن فرضاً على كل مفرد وقارن لم يسق الهَدْى، أن يحلَّ ولا بد، بل قد حَلَّ وإن لم يشأ، وأنا إلى قوله أميلُ منى إلى قول شيخنا.

الاحتمال الثالث: أنه ليس لأحد من بعد الصحابة أن يبتدئ حجاً قارِناً أو مفرداً بلا هَدْى، بل هذا يحتاج معه إلى الفسخ، لكن فرض عليه أن يفعل ما أَمَرَ به النبىُّ صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه فى آخر الأمر من التمتع لمن لم يَسُقِ الهَدْىَ، والقِران لمن ساق، كما صح عنه ذلك. وأمّا أن يَحرم بحج مفرد، ثم يفسخه عند الطواف إلى عُمرة مُفردةٍ، ويجعله متعة، فليس له ذلك، بل هذا إنما كان للصحابة، فإنهم ابتدؤوا الإحرام بالحج المفرد قبل أمر النبىِّ صلى الله عليه وآله وسلم بالتمتع والفسخ إليه، فلما استقر أمره بالتمتع والفسخ إليه، لم يكن لأحد أن يُخالفه ويُفرد، ثم يفسخه.
وإذا تأملتَ هذين الاحتمالين الأخيرين، رأيتهما إما راجحين على الاحتمال الأول، أو مساويين له، وتسقط معارضةُ الأحاديث الثابتة الصريحة به جملة، وبالله التوفيق.
وأما ما رواه مسلم فى "صحيحه" عن أبى ذر: أن المتعة فى الحج كانت لهم خاصَّة. فهذا، إن أريد به أصل المتعة، فهذا لا يقول به أحد من المسلمين، بل المسلمون متفقون على جوازها إلى يوم القيامة. وإن أريد به متعة الفسخ، احتمل الوجوه الثلاثة المتقدِّمة. وقال الأثرم فى "سننه": وذكر لنا أحمد بن حنبل، أن عبد الرحمن بن مهدى حدَّثه عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمى، عن أبى ذر، فى متعة الحج، كانت لنا خاصة. فقال أحمد بن حنبل: رحم الله أبا ذر، هى فى كتاب الله عَزَّ وجَلَّ: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196].
قال المانعون من الفسخ: قول أبى ذر وعثمان: إن ذلك منسوخ أو خاص بالصحابة، لا يُقال مثلُه بالرأى، فمع قائله زيادة علم خفيت

على مَن ادَّعى بقاءه وعمومه، فإنه مستصحِب لحال النص بقاءً وعموماً، فهو بمنزلة صاحب اليد فى العَيْن المدَّعاة، ومدَّعى فسخه واختصاصه بمنزلة صاحب البيِّنة التى تُقدَّم على صاحب اليد.
قال المجوِّزون للفسخ: هذا قول فاسد لا شك فيه، بل هذا رأى لا شك فيه، وقد صرَّح بأنه رأى مَنْ هو أعظمُ من عثمان وأبى ذر عِمرانُ بن حصينْ، ففى "الصحيحين" واللفظ للبخارى: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونزل القُرآنُ، فقال رجل برأيه ما شاء. ولفظ مسلم: نزلت آيةُ المتعة فى كتاب الله عَزَّ وجَلَّ: يعنى مُتعة الحج، وأمرنا بها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لم تنزل آية تنسخ مُتعة الحج، ولم ينه عنها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات، قال رجلٌ برأيه ما شاء. وفى لفظ: يريد عمر.
وقال عبد الله بن عمر لمن سأله عنها، وقال له: إن أباك نهى عنها: أَأَمْرُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم أحقُّ أن يُتَّبَعَ أو أَمْرُ أَبى ؟،.
وقال ابن عباس لمن كان يُعارِضه فيها بأبى بكر وعمر: يُوشِكُ أن تَنْزِلَ عليكم حِجَارَةٌ من السماء، أقولُ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقولُون: قال أبو بكر وعمر ؟ فهذا جوابُ العلماء، لا جوابُ مَن يقول: عثمانُ وأبو ذر أعلمُ برسول الله صلى الله عليه وآله

وسلم منكم، فهلاَّ قال ابنُ عباس، وعبدُ الله بن عمر: أبو بكر وعمرُ أعلمُ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منا، ولم يكن أحدٌ مِن الصحابة، ولا أحدٌ من التابعين يرضى بهذا الجواب فى دفع نصٍ عن رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم كانوا أعلمَ باللهِ ورسوله، وأتقى له من أن يُقَدِّمُوا على قول المعصوم رأىَ غيرِ المعصوم، ثم قد ثبت النصُّ عن المعصوم، بأنها باقية إلى يوم القيامة. وقد قال ببقائها: علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وسعدُ بن أبى وقَّاص، وابن عمر، وابن عباس، وأبو موسى، وسعيد بن المسيِّب، وجمهور التابعين، ويدل على أن ذلك رأى محض لا يُنسب إلى أنه مرفوع إلى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن عمرَ بن الخطَّاب رضى الله عنه لما نهى عنها قال له أبو موسى الأشعرى: يا أمير المؤمنين ؛ ما أحدثتَ فى شأنِ النُّسُك ؟ فقال: إن نَأخُذْ بِكِتَاب رَبِّنَا، فإنَّ الله يقُول: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وإنْ نَأْخُذْ بِسُّنَّةِ رَسُولِ الله صلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم، فإنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لم يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ، فَهَذَا اتِّفَاقٌ من أبى موسى وعمر، على أن منع الفسخ إلى المتعة والإحرام بها ابتداءً، إنما هو رأى مِنه أحدثه فى النُّسُك، ليس عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإن استدل له بما استدل، وأبو موسى كان يُفتى الناسَ بالفسخ فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه كُلِّها، وصدراً من خلافة عمر حتى فاوض عمرُ رضى الله عنه فى نهيه عن ذلك، واتفقا على أنه رأى أحدثه عمر رضى الله عنه فى النُسُك، ثم صحَّ عنه الرجوعُ عنه.
فصل
وأما العذر الثالث: وهو معارضةُ أحاديث الفسخ بما يدل على خلافها،

فذكروا منها ما رواه مسلم فى "صحيحه" من حديث الزهرى، عن عُروة، عن عائشة رضى الله عنها، قالت: خرجنا مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجة الوداع، فمنا مَن أهلَّ بعُمرة، ومنا مَنْ أهلَّ بحج، حتى قَدِمْنَا مكة فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرةٍ وَلَمْ يُهْدِ، فَلْيَحْلِلْ، ومَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وأهْدَى، فلا يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَه، ومَنْ أهَلَّ بِحَجٍّ، فَلْيُتمَّ حَجَّه"، وذكر باقى الحديث.
ومنها: ما رواه مسلم فى "صحيحه" أيضاً من حديث مالك، عن أبى الأسود، عن عُروة عنها: خَرجنا مع رسولِ صلى الله عليه وآله وسلم عامَ حَجَّةِ الوَداع، فمِنا مَن أهلَّ بعُمرة، ومنَّا من أهلَّ بحج وعُمرة، ومِنا مَنْ أهلَّ بالحجِّ، وأهلَّ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلم بالحجِّ، فأمَّا مَنْ أهلَّ بعمرة فحلَّ، وأمَّا مَنْ أهلَّ بحجٍّ، أو جَمَعَ الحجَّ والعُمرة، فلم يَحِلُّوا حتى يومُ النحر.
منها: ما رواه ابنُ أبى شيبة: حدثنا محمد بن بشر العبدى، عن محمد بن عمرو بن علقمة، حدثنى يحيى بن عبد الرحمن بن حاطِب، عن عائشة، قالت: خَرَجْنَا مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لِلحجِّ على ثلاثة أنواع: فمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بعُمرةٍ وحَجَّةٍ، ومنا مَن أهلَّ بِحَجِّ مُفرد، ومِنَّا مَنْ أهلَّ بعُمرة مفردة، فمَن كانَ أهلَّ بحجٍّ وعُمرةٍ معاً، لم يحِلَّ مِن شئٍ مما حَرُمَ منه حتَّى قضى مناسِكَ الحجِّ، ومَنْ أهلَّ بحجٍّ مفرد، لم يَحِلَّ مِن شئ مما حَرُمَ منه حتى قضى مناسِكَ الحج، ومَنْ أهلَّ بعُمرةٍ مفردةٍ،

فطافَ بالبيتِ وبالصَّفا والمروة، حلَّ مما حرُم منه حتى استقبل حَجّاً.
ومنها: ما رواه مسلم فى "صحيحه" من حديث ابن وهب، عن عمرو بنِ الحارِث، عن محمد بن نَوْفَلٍ، أنَّ رجُلاً مِن أهلِ العِراق، قال له: سل لى عُروة بن الزبير، عن رجل أهلَّ بالحجِّ، فإذا طافَ بالبيت، أيحِلُّ أم لا ؟ فذكَر الحديث، وفيه: قد حجَّ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فأخبرتنى عائشة، أن أول شئ بدأ به حين قَدِمَ مكة، أنه توضأ، ثمَّ طَافَ بالبَيْتِ.. ثم حجَّ أبو بكر، ثم كان أوَّلَ شئٍ بدأ به الطوافُ بالبيت، ثم لم تكن عُمْرَةٌ.. ثم عُمَرُ مثلُ ذلك.. ثم حجَّ عثمانُ، فرأيتُه أوَّلُ شئ بدأ به الطوافُ بالبيت، ثم لم تكن عُمْرةٌ. ثم معاوية وعبدُ الله بنُ عمر، ثم حججتُ مع أبى الزبير بن العوَّام، فكان أوَّلَ شئ بدأ به الطوافُ بالبيت، ثم لم تكن عُمْرَةٌ، ثمَّ رأيتُ المهاجرين والأنصار، يفعلُون ذلك، ثم لم تَكُنْ عُمْرَةٌ، ثم آخِرُ مَنْ رأيت فعل ذلك ابنُ عمر، ثم لم ينقُضْها بعُمرة، فهذا ابنُ عمرَ عندهم، أفلا يسألونه ؟ ولا أحدٌ ممن مضى ما كانوا يَبدؤون بشىء حِينَ يضعون أقدامَهم أوَّلَ مِنَ الطَّواف بالبَيْتِ، ثم لا يَحِلُّون، وقد رأيتُ أُمى وخالتى حين تَقْدَمَانِ لا تَبْدآنِ بشىءٍ أوَّلَ من الطواف بالبيت، تطوفان بِه ثم لا تَحِلاَّنِ.
فهذا مجموع ما عارضوا به أحاديثَ الفسخ، ولا مُعارضة فيها بحمد الله ومَنِّهِ.
أما الحديثُ الأول وهو حديث الزهرى، عن عُروة، عن عائشة فَغَلِطَ فيه عبدُ الملك بن شعيب، أو أبوه شعيب، أو جَدُّه الليث، أو شيخه

عقيل، فإن الحديث رواه مالك ومعمر، والناسُ، عن الزهرى، عن عروة، عنها وبيَّنُوا أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر مَنْ لم يَكُنْ معه هَدْى إذا طاف وسعى، أن يَحِلَّ. فقال مالك: عن يحيى بن سعيد، عن عَمْرَةَ، عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لِخَمس ليالٍ بقين لذى القِعدة، ولا نرى إلا الحجَّ، فلما دنونا من مكة، أمر رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ لم يكن معه هَدْى، إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، أن يَحِلَّ وذكر الحديث. قال يحيى: فذكرتُ هذا الحديثَ لقاسم بن محمد، فقال: أتتك واللهِ بالحديثِ على وجهه.
وقال منصور: عن إبراهيم، عن الأسود، عنها، خرجنا مع رسول اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلم ولا نرى إلا الحجَّ، فلما قَدِمْنَا، تَطَوَّفْنَا بالبَيْتِ، فأمر النبىُّ صلى الله عليه وآله وسلم مَن لم يكن ساق الهَدْىَ، أن يَحِلَّ، فحلَّ مَنْ لم يكن ساق الهَدْىَ، ونساؤه لم يَسُقْنَ فأحْلَلْنَ.
وقال مالك ومعمر كلاهُما عن ابن شهاب، عن عُروة، عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام حَجة الوداع، فأهللنا بعُمرة، ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ، فلْيُهِلَّ بِالحَجِّ مَعَ العُمْرَة، ولاَ يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ منهما جَميعاً".
وقال ابن شهاب عن عُروة عنها بمثل الذى أخبر به سالم، عن أبيه، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولفظه: تمتع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى حَجَّة الوداع بالعمرة إلى الحَجِّ، فأهدى، فساق معه الهدىَ من ذى الحُليفة،

بدأ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأهلَّ بالعُمرة، ثم أهلَّ بالحَجِّ، وتمتَّع الناسُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعُمرة إلى الحَجِّ، فكانَ مِنَ الناس مَنْ أهدى، فساق معه الهَدْىَ، ومنهم مَن لم يُهْدِ، فلمَّا قَدِمَ النبى صلى الله عليه وآله وسلم مَكَّةَ، قال الناس: "مَنْ كَانَ مِنْكُم أهْدى، فإنَّه لا يَحِلُّ مِنْ شئ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَجَّهُ، ومَنْ لمْ يَكُنْ أهْدَى فَلْيَطُفْ بِالبَيْتِ، وبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَة، وَليُقصِّرْ وَلْيَحِلَّ، ثُمَّ لْيُهِلَّ بالحَجِّ ولْيُهْدِ، فمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً، فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيَّام فى الحَجِّ، وسَبْعَةٍ إذا رَجَعَ إلى أهْلِه َ"... وذكر باقى الحديث.
وقال عبد العزيز الماجِشُون: عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: خرجنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا نَذْكُرُ إلا الحَجَّ... فذكر الحديث. وفيه، قالت: فلما قَدمْتُ مَكَّة، قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: "اجْعَلُوها عُمْرَةً، فأحَلَّ النَّاسُ إلاَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ الهَدْى".
وقال الأعمش: عن إبراهيم، عن عائشة: خرجنا مع رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لا نذْكُر إلا الحَجَّ، فلما قَدِمْنَا، أُمِرْنَا أَنْ نَحِلَّ... وذكرَ الحديثَ.
وقال عبد الرحمن بن القاسم: عن أبيه، عن عائشة: خرجنا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا نذكر إلا الحَجَّ، فلما جِئْنَا سَرِفَ، طَمِثْتُ. قالت: فدخلَ عَلَىَّ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا

أبكى. فقال: "ما يُبْكِيك" ؟ قالت: فَقُلْتُ: واللهِ لَوِدِدْتُ أنِّى لاَ أَحُجُّ العَامَ فذكر الحديثَ. وفيه: فلما قَدِمْتُ مكة، قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: "اجْعَلُوهَا عُمْرةً"، قالت: فَحَلَّ الناسُ إلاَّ مْن كَانَ مَعَهُ الهَدْىُ.
وكل هذه الألفاظ فى "الصحيح"، وهذا موافق لما رواه جابر، وابن عمر، وأنس، وأبو موسى، وابن عباس، وأبو سعيد، وأسماء، والبراء، وحفصة، وغيرهم، من أمره صلى الله عليه وآله وسلم أصحابَه كُلَّهم بالإحلال، إلا مَنْ ساق الهَدْى، وأن يجعلوا حجهم عُمْرَةً. وفى اتفاق هؤلاء كُلِّهم، على أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، أمر أصحابه كلَّهم أن يحلوا، وأن يجعلوا الذى قدموا به مُتعةً، إلا مَنْ ساق الهَدْى، دليلٌ على غلط هذه الرواية، ووهمٍ وقع فيها، يُبين ذلك أنها من رواية الليث، عن عقيل، عن الزهرى، عن عروة، والليث بعينه، هو الذى روى عن عقيل، عن الزهرى، عن عروة، عنها مثلَ ما رواه، عن الزهرى عن سالم، عن أبيه، فى تمتع النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وأمره لمن لم يكن أهدى أن يَحِلَّ.
ثم تأملنا، فإذا أحاديث عائشة يُصدِّقُ بعضُها بعضاً، وإنما بعضُ الرواة زاد على بعض، وبعضهم اختصر الحديث، وبعضُهم اقتصر على بعضه، وبعضهم رواه بالمعنى. والحديث المذكور: ليس فيه منع مَنْ أهلَّ بالحجِّ من الإحلال، وإنما فيه أمره أن يُتِمَّ الحج، فإن كان هذا محفوظاً، فالمراد به بقاؤه على إحرامه، فيتعين أن يكون هذا قبل الأمر بالإحلال، وجعله عمرة، ويكون هذا أمراً زائداً قد طرأ على الأمر

بالإتمام، كما طرأ على التخيير بين الإفراد والتمتع والقِران، ويتعين هذا ولا بُد، وإلا كان هذا ناسخاً للأمر بالفسخ، والأمر بالفسخ ناسخاً للإذن بالإفراد، وهذا محالٌ قطعاً، فإنه بعد أن أمرهم بالحِلِّ لم يأمرهم بنقضه، والبقاءِ على الإحرام الأول، هذا باطل قطعاً، فيتعيَّنُ إن كان محفوظاً أن يكون قبل الأمر لهم بالفسخ، ولا يجوز غير هذا البتة.. والله أعلم.
فصل
وأما حديثُ أبى الأسود، عن عروة، عنها. وفيه: "وأما مَنْ أهلَّ بحجٍّ أو جمعَ الحجَّ والعُمرة، فلم يَحِلُّوا حتى كان يوم النحر". وحديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنها: "فمَن كان أهلَّ بحجٍّ وعُمرة معاً، لم يَحِلَّ من شئ مما حَرُمَ منه حتى يَقْضِىَ مَناسِكَ الحَجِّ، ومَنْ أهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرِدٍ كَذَلِكَ". فحديثان، قد أنكرهما الحفاظُ، وهما أهلٌ أن يُنكَرا، قال الأثرم: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الرحمن بن مهدى، عن مالك بن أنس، عن أبى الأسود، عن عُروة، عن عائشة: "خرجنا مع رسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فمنَّا مَنْ أَهلَّ بالحَجِّ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بالعُمْرَةِ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالحَجِّ والعُمرَةِ، وأَهلَّ بالحَجِّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فأمَّا مَنْ أَهَلَّ بالعُمْرَةِ، فأحلُّوا حِينَ طَافُوا بِالبَيْتِ وَبالصَّفَا والمَرْوَةِ. وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بالحَجِّ والعُمْرَةِ، فَلَمْ يَحِلُّوا إلَى يَوْمِ النَّحْرِ"، فقال أحمد بن حنبل: أَيْش فى هذا الحديثِ مِن العَجَبِ، هذا خطأ، فقال الأثرم: فقلتُ له: الزهرى، عن عروة، عن عائشة، بخلافه ؟ فقال: نعم، وهشام بن عروة. وقال الحافظ أبو محمد بن حزم: هذان حديثان منكران جداً، قال: ولأبى الأسود فى هذا النحو

حديثٌ لا خفاء بِنُكرَتِه، وَوَهْنِهِ، وبُطلانه. والعجب كيف جاز على مَن رواه ؟ ثم ساق من طريق البخارى عنه، أن عبد الله مولى أسماء، حدّثه أنه كان يَسْمَعُ أسماء بنتَ أبى بكر الصِّدِّيق رضى الله عنهما تقول كُلما مَرَّتْ بالحَجُونِ: صلَّى الله على رسوله: لقد نزلنا معه هاهنا، ونحنُ يومئذ خِفافٌ، قليلٌ ظهرُنا، قليلةٌ أزوادُنا، فاعتمرتُ أنا وأختى عائشة، والزبيرُ، وفلان، وفلان. فلما مسحنا البيتَ، أَحْلَلْنَا، ثُمَّ أَهْلَلَنْا مِنَ العَشِىِّ بِالحَجِّ.
قال: وهذه وهلةٌ لا خفاءَ بها على أحد ممن له أقلُّ علم بالحديثِ لوجهين باطلين فيه بلا شك:
أحدُهما: قوله: فاعتمرتُ أنا وأُختى عائشة، ولا خلاف بين أحد من أهل النقل، فى أن عائشة لم تعتمر فى أول دخولها مكة، ولذلك أعمرها من التنعيم بعد تمام الحج ليلة الحصبة، هكذا رواه جابر بن عبد الله، ورواه عن عائشة الأثبات، كالأسود بن يزيد، وابنِ أبى مُليكة، والقاسم بن محمد، وعروة، وطاووس، ومجاهد.
الموضع الثانى: قوله فيه: فلما مسحنا البيتَ، أحللنا، ثم أهللنا من العشى بالحج، وهذا باطل لا شكَّ فيه، لأن جابراً، وأنسَ بن مالك، وعائشة، وابنَ عباس، كُلُّهم روَوْا أن الإحلال كان يومَ دخولهم مكة، وأن إحلالهم بالحجِّ كان يوم التروية، وبين اليومين المذكورين ثلاثة أيام بلا شك.
قلت: الحديثُ ليس بمنكر ولا باطل، وهو صحيح وإنما أُتى أبو محمد فيه مِن فهمه، فإن أسماء أخبرت أنها اعتمرت هى وعائشة، وهكذا

وقع بلا شك. وأما قولها: فلما مسحنا البيت أحْلَلْنَا، فإخبار منها عن نفسها، وعمن لم يُصبه عذرُ الحيض الذى أصابَ عائشة، وهى لم تُصرِّحْ بأن عائشة مسحت البيت يوم دخولهم مكة، وأنها حلَّت ذلك اليوم، ولا ريبَ أن عائشة قدمت بعُمرة، ولم تزل عليها حتى حاضتْ بِسَرِفَ، فأدخلت عليها الحجَّ، وصارت قارِنةً. فإذا قيل: اعتمرت عائشة مع النبى صلى الله عليه وآله وسلم، أو قدمت بعمرة، لم يكن هذا كذباً.
وأما قولها: ثم أهللنا مِن العَشِىِّ بالحج، فهى لم تَقُلْ: إنهم أَهلُّوا من عشى يوم القدوم، ليلزم ما قال أبو محمد، وإنما أرادت عشىَّ يوم التروية. ومثل هذا لا يحتاج فى ظهوره وبيانه إلى أن يُصرَّح فيه بعشى ذلك اليوم بعينه، لعلم الخاص والعام به، وأنه مما لا تذهبُ الأوهام إلى غيره، فردُّ أحاديث الثقات بمثل هذا الوهم مما لا سبيل إليه.
قال أبو محمد: وأسلمُ الوجوه للحديثين المذكورين عن عائشة، يعنى اللذين أنكرَهُما، أن تُخرَّجَ روايتهما على أن المراد بقولها: إن الَّذينَ أهلَّوا بحجٍّ، أو بحجٍّ وعُمرة، لم يَحِلُّوا حتى كان يومُ النحر حين قَضَوْا مناسِك الحج، إنما عنت بذلك مَنْ كان معه الهَدْى، وبهذا تنتفى النُّكرةُ عن هذين الحديثين، وبهذا تأتلِف الأحاديثُ كلها، لأن الزهرى عن عُروة يذكر خلاف ما ذكره أبو الأسود عن عروة، والزهرى بلا شك أحفظُ من أبى الأسود، وقد خالف يحيى بن عبد الرحمن عن عائشة فى هذا الباب مَنْ لا يُقرَن يحيى بن عبد الرحمن إليه، لا فى حفظ، ولا فى ثقة، ولا فى جَلالة، ولا فى بطانة لعائشة، كالأسود ابن يزيد، والقاسم بن محمد بن أبى بكر، وأَبى عمرو ذكوان مولى عائشة، وعَمْرَةَ بنت عبد الرحمن، وكانت فى حجر عائشة، وهؤلاء هم أهلُ

الخصوصية والبطانة بها، فكيف ؟ ولو لم يكونوا كذلك، لكانت روايتُهم أو روايةُ واحد منهم، لو انفرد هى الواجبُ أن يؤخذ بها، لأن فيها زيادة على رواية أبى الأسود ويحيى، وليس مَن جَهَلَ، أو غَفَلَ حُجَّةَ على مَن علم، وذكر وأخبر، فكيف وقد وافق هؤلاء الجِلَّةُ عن عائشة فسقط التعلُّق بحديث أبى الأسود ويحيِى اللذين ذكرنا.
قال: وأيضاً، فإن حديثى أبى الأسود ويحيى، موقوفان غير مسندين، لأنهما إنما ذكرا عنها فعل مَن فعل ما ذكرت، دون أن يذكُرا أن النبىَّ صلى الله عليه وآله وسلم، أمرهم أن لا يَحِلُّوا، ولا حُجَّة فى أحد دون النبى صلى الله عليه وآله وسلم، فلو صحَّ ما ذكراه، وقد صح أمرُ النبى صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ لا هَدْى معه بالفسخ، فتمادى المأمورون بذلك، ولم يَحِلُّوا لكانوا عصاة للّه تعالى، وقد أعاذهم الله من ذلك، وبرَّأهم منه، فثبت يقيناً أن حديث أبى الأسود ويحيى، إنما عنى فيهما: مَن كان معه هَدْى، وهكذا جاءت الأحاديثُ الصحاح التى أوردناها، بأنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر مَن معه الهَدْى، بأن يجمع حجاً مع العُمرة، ثم لا يَحِلَّ حتى يحلَّ منهما جميعاً. ثم ساق من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عنها ترفعه: "مَنْ كانَ مَعَهُ هَدْىٌ، فَلْيُهْلِلْ بِالحَجِّ والعُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعَا"، قال: فهذا الحديث كما ترى، من طريق عروة، عن عائشة، يُبين ما ذكرنا أنه المراد بلا شك، فى حديث أبى الأسود، عن عروة وحديث يحيى عن عائشة، وارتفع الآن الإشكال جملة، والحمد للّه رب العالمين.
قال: ومما يُبيِّنُ أن فى حديثِ أبى الأسود حذفاً قوله فيه: عن عُروة: "أن أُمَّه وخالَته والزُّبير، أقبلوا بعُمرة فقط، فلما مسحُوا الركن، حلُّوا". ولا خلاف بين أحد، أن مَن أقبل بعُمرة لا يَحِلُّ بمسحِ الرّكن، حتى يسعى بين الصَّفا والمَرْوَةِ بعد مسح الركن، فصحَّ أن فى الحديث حذفاً بيَّنه سائرُ الأحاديث الصحاح التى ذكرنا، وبطل التشغيبُ به جملة.. وبالله التوفيق.

فصل
وأما ما فى حديث أبى الأسود، عن عروة، من فعل أبى بكر، وعمر، والمهاجرين، والأنصار، وابن عمر، فقد أجابه ابن عباس، فأحسن جوابه، فيُكتفى بجوابه. فروى الأعمش، عن فضيل بن عمرو، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، تمتعَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عروة: نهى أبو بكر وعُمَرُ عن المُتعة. فقال ابن عباس: أراكم ستهلكون، أقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقول: قال أبو بكر وعمر.
وقال عبد الرزاق: حدثنا مَعمر، عن أيوب، قال: قال عُروة لابن عباس: ألا تتَّقى الله تُرَخِّصُ فى المُتعة ؟، فقال ابنُ عباس: سل أُمَّك يا عُرَيَّةُ. فقال عُروة: أمَّا أبو بكر وعمر، فلم يفعلا، فقال ابنُ عباس: واللهِ ما أراكم مُنتهين حتى يُعَذِّبَكُمُ الله، أُحدِّثُكم عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتُحدِّثُونا عن أبى بكر وعمر ؟ فقال عُروة: لَهُما أعلمُ بِسُّنَّةِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأتبعُ لها منك.
وأخرج أبو مسلم الكجى، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختيانى، عن ابن أبى مُلَيكة، عن عُروة بن

الزبير، قال لرجل مِن أصحابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تأمُرُ النَّاس بالعُمرَةِ فى هؤلاء العَشْرِ، وليس فيها عُمرة ؟، قال: أوَ لاَ تَسألُ أُمَّك عن ذلك ؟ قال عُروة: فإن أبا بكر وعُمَرَ لم يفعلا ذلك، قال الرجل: مِن هاهنا هلكتُم، ما أرى الله عزَّ وجلَّ إلا سَيُعَذِّبُكُم، إنِّى أحدِّثكم عن رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتُخبرونى بأبى بكر وعمر. قال عروةُ: إنهما واللهِ كانا أعلَم بِسُّنَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكَ، فسكت الرجلُ.
ثم أجاب أبو محمد بن حزم عُروة عن قوله هذا، بجواب نذكره، ونذكر جواباً أحسَن منه لشيخنا.
قال أبو محمد: ونحن نقول لعروة: ابنُ عباس أعلمُ بِسُنَّةِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبأبى بكر وعمَر منك، وخيرٌ منك، وأولى بهم ثلاثتهم منك، لا يشكُّ فى ذلك مسلم. وعائشةُ أم المؤمنين، أعلم وأصدق منك. ثم ساق من طريق الثورى، عن أبى إسحاق السَّبِيعى، عن عبد الله قال: قالت عائشة: من استُعْمِلَ على المَوْسِمِ ؟ قالوا: ابن عباس. قالت: هو أعلم الناس بالحج. قال أبو محمد: مع أنه قد روى عنها خلاف ما قاله عروة، ومَن هو خير من عروة، وأفضل، وأعلم، وأصدق، وأوثق. ثم ساق من طريق البزار، عن الأشج، عن عبد الله بن إدريس الأودى، عن ليث، عن عطاء، وطاووس، عن ابن عباس: تمتع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو بكر، وعمر. وأول مَن نهى عنها معاوية.
ومن طريق عبد الرزاق، عن الثورى، عن ليث، عن طاووس، عن ابن عباس: تمتع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر. حتى مات، وعمر،

وعثمان كذلك. وأول مَن نهى عنها: معاوية.
قلت: حديث ابن عباس هذا، رواه الإمام أحمد فى "المسند" والترمذى. وقال: حديث حسن.
وذكر عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر عن ابن طاووس، عن أبيه، قال: قال أُبىُّ بن كعب، وأبو موسى لعمر بن الخطاب: ألا تقومُ فتبيِّنَ للنَّاسِ أمرَ هذه المتعة ؟ فقال عمر: وهل بَقى أحد إلا وقد عَلِمَهَا، أما أنا فأفعلُها.
وذكر على بنُ عبدِ العزيز البغوى، حدثنا حجاجُ بن المنهال، قال: حدثنا حمادُ بنُ سلمة، عن حماد بن أبى سليمان أو حميد عن الحسن، أن عمر أراد أن يأخذ مال الكعبة، وقال: الكعبة غَنِيَّةٌ عن ذلِكَ المالِ، وأراد أن يَنْهى أهل اليمن أن يَصْبِغُوا بالبَولِ، وأراد أن ينهى عن مُتعة الحج، فقال أُبىُّ بنُ كعب: قد رأى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه هذا المالُ، وبه وبأصحابه الحاجةُ إليه، فلم يأخذه، وأنت فلا تأخذْه، وقد كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه يلبَسون الثيابَ اليمانية، فلم ينهَ عنها، وقد علم أنها تُصْبَغُ بالبول، وقد تمتَّعنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم ينه عنها، ولم يُنْزِلِ اللهُ تعالى فيها نهياً.
وقد تقدَّم قولُ عمر: لو اعتمرتُ فى وسط السنة، ثم حججتُ لتمتعتُ، ولو حججتُ خمسين حَجة، لتمتعتُ. ورواه حماد بن سلمة.

عن قيس، عن طاووس، عن ابن عباس، عنه: لو اعتمرتُ فى سنة مرتين، ثم حججت، لجعلت مع حَجتى عُمرة. والثورى، عن سلمة بن كهيل، عن طاووس، عن ابن عباس، عنه: لو اعتمرتُ، ثم اعتمرتُ، ثم حججت، لتمتعت. وابن عيينة: عن هشام بن حُجير، وليث، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: هذا الذى يزعمُون أنه نهى عن المتعة يعنى عمر سمعتُه يقول: لو اعتمرتُ، ثم حججت، لتمتعت. قال ابن عباس: كذا وكذا مرة، ما تمت حجة رجل قط إلا بمتعة.
وأما الجواب الذى ذكره شيخنا، فهو أن عُمَرَ رضى الله عنه، لم ينه عن المتعة البتة، وإنما قال: إنَّ أَتَمَّ لِحَجِّكم وعُمرتِكم أن تَفْصِلُوا بينهما، فاختار عُمَرُ لهم أفضلَ الأُمور، وهو إفرادُ كل واحد منهما بسفر يُنشئه له من بلده، وهذا أفضل من القِران والتمتع الخاص بدون سَفرة أُخرى، وقد نصَّ على ذلك: أحمد، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعى رحمهم الله تعالى وغيرهم. وهذا هو الإفراد الذى فعله أبو بكر وعمر رضى الله عنهما، وكان عُمر يختاره للناس، وكذلك علىٌ رضى الله عنهما.
وقال عمر وعلى رضى الله عنهما فى قوله تعالى: {وأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ

للَّهِ} [البقرة: 196] قالا: إتمامهُما أن تُحرِمَ بهما مِن دُوَيْرَةِ أهلِكِ وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة فى عُمرتها: "أجْرُكِ عَلى قَدْرِ نَصَبِكِ" فإذا رجع الحاجُّ إلى دُوَيْرَةِ أهلِه، فأنشأ العُمرة منها، واعتمر قبل أشهرِ الحجِّ، وأقام حتى يحجَّ، أو اعتمر فى أشهره، ورجع إلى أهله، ثم حجَّ، فهاهنا قد أتى بكل واحدٍ من النسكين من دُويرةِ أهله، وهذا إتيانٌ بهما على الكمال، فهو أفضلُ من غيره.
قلت: فهذا الذى اختاره عمر للناس، فظنَّ مَن غَلِطَ منهم أنه نهى عن المتعة، ثم مِنهم مَن حمل نَهيه على متعة الفسخ، ومنهم مَن حمله على تركِ الأولى ترجيحاً للإفراد عليه، ومنهم مَن عارض رواياتِ النهى عنه بروايات الاستحباب، وقد ذكرناها، ومنهم مَن جعل فى ذلك روايتين عن عمر، كما عنه روايتان فى غيرهما من المسائل، ومنهم مَن جعل النهى

قولاً قديماً، ورجع عنه أخيراً، كما سلك أبو محمد بن حزم، ومنهم مَن يَعُدُّ النهى رأياً رآه من عنده لكراهته أن يَظَلَّ الحاجُّ مُعرِسِينَ بِنسائهم فى ظِلِّ الأرَاكِ.
قال أبو حنيفة: عن حماد، عن إبراهيم النخعى، عن الأسود بن يزيد، قال: بينما أنا واقف مع عُمَرَ بن الخطاب بعرفة عشيةَ عرفة، فإذا هو برجل مُرَجِّلٍ شعرَه، يفوحُ منه ريحُ الطِّيب، فقال له عمر: أمحرِمٌ أنت ؟ قال: نعم. فقال عمر: ما هيئتك بهيئة محرم، إنما المحرِمُ الأشْعَثُ الأَغْبَرُ الأدْفَرُ. قال: إنى قَدِمتُ متمتِّعاً، وكان معى أهلى، وإنما أحرمتُ اليومَ، فقال عمر عند ذلك: لا تتمتَّعُوا فى هذه الأيام، فإنى لو رَخَّصْتُ فى المُتعة لهم، لعرَّسُوا بِهِنَّ فى الأراك، ثم راحوا بِهِنّ حُجَّاجاً. وهذا يبين، أن هذا من عمر رأى رآه.
قال ابن حزم: فكان ماذا ؟ وحبذا ذلك ؟ وقد طاف النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على نسائه، ثم أصبح محرِماً، ولا خلاف أن الوطء مباح قبل الإحرام بطرفة عين والله أعلم.
فصل
وقد سلك المانعون من الفسخ طريقتين أخريين، نذكرهُما ونبيِّنُ فسادهما..
الطريقة الأولى: قالوا: إذا اختلف الصحابَةُ ومَنْ بعدهم فى جواز

الفسخ، فالاحتياطُ يقتضى المنعَ منه صِيانةً للعبادة عما لا يجوزُ فيها عند كثير من أهل العلم، بل أكثرهم.
والطريقة الثانية: أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرهم بالفسخ لِيبيِّن لهم جوازَ العُمرة فى أشهر الحج، لأن أهْلَ الجاهلية كانوا يكرهون العُمرة فى أشهر الحج، وكانوا يقُولون: إذا بَرَأَ الدَّبَرُ، وعَفَا الأَثَرُ، وانْسَلَخَ صَفَرُ، فقد حلَّتِ العُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرَ، فأمرهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفسخ، ليبين لهم جوازَ العُمرة فى أشهر الحج، وهاتان الطريقتان باطلتان.
أما الأولى: فلأن الاحتياطَ إنما يشرع، إذا لم تتبين السُّنَّةُ، فإذا تبيَّنت فالاحتياطُ هو اتِّباعُها وتركُ ما خالفها، فإن كان تركُها لأجل الاختلاف احتياطاً، فتركُ ما خالفها واتَباعُها، أحوطُ وأحوطُ، فالاحتياطُ نوعان:
احتياطٌ للخروج مِن خلاف العلماء، واحتياطٌ للخروج من خِلاف السُّنَّة، ولا يخفى رُجحانُ أحدهما على الآخر.
وأيضاً.. فإن الاحتياط ممتنعٌ هنا، فإنَّ للناس فى الفسخ ثلاثةَ أقوال:
أحدها: أنه محرَّم.
الثانى: أنه واجب، وهو قولُ جماعة من السَلَف والخَلَف.
الثالث: أنه مستحَبٌ، فليس الاحتياط بالخروج من خلاف مَن حرَّمه أولى بالاحتياط بالخروج من خلاف مَن أوجبه، وإذا تعذَّر

الاحتياطُ بالخروج من الخلاف، تعيَّن الاحتياطُ بالخروج من خلاف السُّنَّة.
فصل
وأما الطريقة الثانية: فأظهرُ بُطلاناً من وجوه عديدة.
أحدُها: أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر قبل ذلك عُمَرَهُ الثلاث فى أشهر الحج فى ذى القِعْدَة، كما تقدَّم ذلك، وهو أوسطُ أشهرِ الحج، فكيف يُظن أن الصحابة لم يعلموا جوازَ الاعتمار فى أشهر الحج إلا بعد أمرهم بفسخ الحج إلى العُمرة، وقد تقدَّم فعله لذلك ثلاثَ مرات ؟
الثانى: أنه قد ثبت فى "الصحيحين"، أنه قال لهم عند الميقات: "مَنْ شَاءَ أنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلُ، ومَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيَفْعَلْ، ومَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلِّ بحَجٍّ وعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ " فبيَّن لهم جوازَ الاعتمار فى أشهر الحج عند الميقات، وعامةُ المسلمين معه، فكيف لم يعلموا جوازها إلا بالفسخ ؟ ولعمرُ الله إن لم يكونوا يعلمون جوازَها بذلك، فهم أجدرُ أن لا يعلموا جوازَها بالفسخ.
الثالث: أنه أمَرَ مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ أن يتحلَّل، وأمرَ مَن ساق الهَدْىَ أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدىُ مَحِلَّه، ففرق بين محرِم ومحرِم، وهذا يدل على أن سوقَ الهَدْى هو المانعُ من التحلل، لا مجردُ الإحرام الأول، والعِلَّة التى ذكروها لا تختص بمحرِم دوم محرم، فالنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل التأثير فى الحِل وعدمه للهَدْى وجوداً وعدماً لا لغيره.

الرابع: أن يقال: إذا كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصَد مخالفَة المشركين، كان هذا دليلاً على أن الفسخَ أفضلُ لهذه العِلَّة، لأنه إذا كان إنما أمرهم بذلك لمخالفة المشركين، كان يكونُ دليلاً على أن الفسخ يبقى مشروعاً إلى يوم القيامة، إما وجوباً وإما استحباباً، فإن ما فعله النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشرعه لأُمته فى المناسك مخالفةً لهَدْى المشركين، هو مشروع إلى يوم القيامة، إما وجوباً أو استحباباً، فإن المشركين كانوا يُفِيضُون من عرفةَ قبل غروب الشمس، وكانوا لا يُفيضون من مزدلفة حتى تَطْلُع الشمسُ، وكانوا يقولون: أشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرَ، فخالفهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال : "خَالَفَ هَدْيُنا هدْىَ المُشْرِكِين، فَلَمْ نُفِضْ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ".
وهذه المخالفة، إما ركن، كقول مالك، وإما واجبٌ يَجبرُه دم، كقول أحمد، وأبى حنيفة، والشافعى فى أحد القولين، وإما سُّنَّة، كالقول الآخر له.
والإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سُّنَّة باتفاق المسلمين، وكذلك قريشٌ كانت لا تَقفُ بعرفة، بل تفيض من جَمْع، فخالفهم النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووقف بعرفاتٍ، وأفاضَ منها، وفى ذلك نزل قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا

مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، وهذه المخالفة من أركانِ الحجِّ باتفاق المسلمين، فالأمُور التى نُخَالِفُ فيها المشركين هى الواجبُ أو المستحبُّ، ليس فيها مكروه، فكيف يكون فيها مُحرَّم ؟ وكيف يُقال: إن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أصحابه بِنُسُكٍ يُخالِفُ نُسُك َ المشركين، مع كون الذى نهاهم عنه، أفضلَ مِن الذى أمرهم به ؟ أو يقال: مَنْ حجَّ كما حج المشركون فلم يتمتع، فحجُّه أفضلُ مِن حجِّ السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار، بأمرِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الخامس: أنه قد ثبت فى "الصحيحين" عنه، أنه قال: "دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلى يَوْم القِيامَة". وقيل له: عُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هََذَا، أم لِلأبَدِ ؟ فَقَالَ: "لا، بَلْ لأَبدِ الأَبَدِ، دَخَلَت العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلى يَوْم القِيامَة".
وكان سؤالهم عن عُمْرة الفسخ، كما جاء صريحاً فى حديث جابر الطويل. قال: حتى إذا كان آخرُ طوافه عَلَى المروَةِ، قال: "لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ، لَمْ أَسُق الهَدْىَ، ولَجَعَلْتُها عُمْرَةً، فمَنْ كَانَ مِنْكُم لَيْسَ مَعَهُ هَدْى، فَلْيُحِلَّ، وَلْيَجْعَلْها عُمْرَةً"، فقامَ سُراقة بنُ مالك فقال: يا رسول الله ؛ ألعامنا هذا، أم للأبد ؟ فشبَّكَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصابِعَه واحِدَةً فى الأخرى، وقال: "دَخَلَتِ العُمْرَة فى الحَجِّ مَرَّتيْن، لا بَلْ لأَبَدِ الأَبَد".
وفى لفظ: قَدِمَ رسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صبح رابِعةٍ مَضَتْ مِن ذى الحِجة، فأمرنا أن نحلَّ، فقلنا: لما لم يكن بيننا وبين عرفةَ إلا خَمْسٌ أَمَرَنَا أنْ نُفْضِىَ إلى نِسَائِنا، فَنَأْتىَ عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا المَنِىَّ.. فذكر الحديثَ. وفيه: فقال سُراقة بنُ مالك: لِعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال: "لأبد".

وفى "صحيح البخارى" عنه: أن سُراقة قال للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألَكُمْ خَاصَةً هَذِهِ يَا رَسُولَ الله ؟ قَالَ: "بل لِلأَبَدِ" فبيَّن رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن تلك العُمرة التى فسخ مَن فسخ منهم حجّه إليها لِلأبد، وأن العُمرة دخلت فى الحجِّ إلى يومِ القيامة. وهذا يُبيِّن أن عمرة التمتع بعضُ الحج.
وقد اعترض بعضُ الناس على الاستدلال بقوله: "بَلْ لأبَدِ الأَبَدِ" باعتراضين، أحدهما: أن المراد، أن سقوطَ الفرض بها لا يختصُّ بذلك العام، بل يُسقِطُه إلى الأبد، وهذا الاعتراضُ باطل، فإنه لو أراد ذلك لم يَقُلْ: للأبد، فإن الأبد لا يكون فى حق طائفة معيَّنة، بل إنما يكون لجميع المسلمين، ولأنه قال: "دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلَى يَوْم القِيَامَةِ"، ولأنهم لو أرادوا بذلك السؤالَ عن تكرار الوجوب، لما اقتصروا على العُمرة، بل كان السؤالُ عن الحج، ولأنهم قالوا له: "عُمرتنا هذه لِعامِنَا هَذَا، أم لِلأَبَدِ" ؟ ولو أرادوا تكرار وجوبها كُلَّ عام، لقالُوا له، كما قالوا له فى الحج: أكلَّ عام يا رسولَ اللهِ ؟ ولأجابهم بما أجابهم به فى الحجِّ بقوله: "ذَرُونى مَا تَرَكْتُكُم، لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ". ولأنهم قالوا له: هذه لكم خاصة. فقال: "بَلْ لأَبَدِ الأبَد". فهذا السؤال والجواب، صريحان فى عدم الاختصاص.
الثانى: قوله: إن ذلك إنما يُريد به جوازَ الاعتمار فى أشهرِ الحجِّ، وهذا الاعتراضُ أبطلُ مِن الذى قبله، فإن السائلَ إنما سأل النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه عن المُتعة التى هى فَسخُ الحجِّ، لا عن جواز العُمرة فى أشهرِ الحجِّ، لأنه إنما سأله عَقِبَ أمره مَن لا هَدْىَ معه بفسخ الحجِّ، فقال له سراقةُ حينئذ:

هذا لِعامِنَا، أم للأبد ؟ فأجابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نفس ما سأله عنه، لا عمَّا لم يسأله عنه. وفى قوله: "دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ"، عقب أمره مَن لا هَدْى معه بالإحلال، بيانٌ جلىٌ أن ذلك مستمِر إلى يومِ القِيامَة، فبطل دعوى الخُصوص.. وبالله التوفيق.
السادس: أن هذه العِلَّة التى ذكرتموها، ليست فى الحديثِ، ولا فيه إشارةٌ إليها، فإن كانت باطلةً، بطل اعتراضُكم بها، وإنْ كانت صحيحةً، فإنها لا تلزم الاختصاص بالصحابة بوجه مِن الوجوه، بل إن صحَّتْ اقتضت دوامَ معلولها واستمراره، كما أن الرَّمَلَ شُرِعَ لِيُرِىَ المشركينَ قوَّتَه وقوَّةَ أصحابه، واستمرت مشروعيتُه إلى يوم القيامة، فبطل الاحتجاجُ بتلك العِلَّة على الاختصاص بهم على كل تقدير.
السابع: أنَّ الصحابَةَ رضى الله عنهم، إذا لم يكتفوا بالعلم بجواز العُمرة فى أشهر الحجِّ على فعلهم لها معه ثلاثةَ أعوام، ولا بإذنه لهم فيها عند الميقات حتى أمرهم بفسخ الحجِّ إلى العُمرة، فَمَنْ بعدهم أحرى أن لا يَكْتَفىَ بذلك حتى يَفْسَخَ الحجَّ إلى العُمرة، اتِّباعاً لأمر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واقتداءً بأصحابه، إلا أن يقولَ قائل: إنَّا نحن نكتفى من ذلك بدون ما اكتفى به الصحابَة، ولا نحتاج فى الجواز إلى ما احتاجوا هم إليه، وهذا جهلٌ نعوذُ بالله منه.
الثامن: أنه لا يُظَنُّ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن يأمر أصحابَه بالفسخ الذى هو حرام، لِيعلِّمهم بذلك مباحاً يُمكن تعليمُه بغير ارتكاب هذا المحظور، وبأسهل منه بياناً، وأوضح دلالةً، وأقل كلفةً.
فإن قيل: لم يكن الفسخ حين أمرهم به حراماً. قيل: فهو إذاً إما واجب أو مستحَب. وقد قال بكل واحد منهما طائفة، فمَن الذى حرَّمه

بعد إيجابه أو استحبابه، وأىُّ نص أو إجماع رفع هذا الوجوبَ أو الاستحبابَ، فهذه مطالبة لا محيص عنها.
التاسع: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِى ما اسْتَدْبَرْتُ، لَمَا سُقْتُ الهَدْىَ، ولَجَعَلْتُها عُمْرَةً"، أفترى تجدَّد له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذلك العلم بجواز العمرة فى أشهر الحج، حتى تأسَّف على فواتها ؟ هذا من أعظم المحال.
العاشر: أنه أمر بالفسخ إلى العُمرة، مَن كان أفرد، ومَنْ قرن، ولم يَسُقِ الهَدْى. ومعلوم: أن القارن قد اعتمر فى أشهر الحج مع حجته، فكيف يأمره بفسخِ قِرانه إلى عُمرة ليبيِّن له جواز العُمرة فى أشهر الحج، وقد أتى بها، وضم إليها الحج ؟
الحادى عشر: أن فسخ الحجِّ إلى العُمرة، موافق لقياس الأصول، لا مخالف له. ولو لم يرد به النصُّ، لكان القياسُ يقتضى جوازه، فجاء النصُّ به على وفق القياس، قاله شيخ الإسلام، وقرره بأن المحرِم إذا التزم أكثرَ مما كان لزمه، جاز باتفاق الأئمة. فلو أحرم بالعُمرة، ثم أدخل عليها الحج، جاز بلا نزاع، وإذا أحرم بالحجِّ، ثم أدخل عليه العُمرة، لم يجز عند الجمهور، وهو مذهب مالك، وأحمد، والشافعى فى ظاهر مذهبه، وأبو حنيفة يُجوِّز ذلك، بناءً على أصله فى أن القارن يطوف طوافين، ويسعى سعيين. قال: وهذا قياس الرواية المحكيَّةِ عن أحمد فى القارن: أنه يطوفُ طوافين، ويسعى سعيين. وإذا كان كذلك، فالمحرِمُ بالحج لم يلتزم إلا الحج. فإذا صار متمتعاً، صار ملتزماً لعُمرة وحج، فكان ما التزمه بالفسخ أكثرَ مما كان عليه، فجازَ ذلك. ولما كان أفضلَ، كان مستحباً، وإنما أشكل هذا على مَن ظنَّ أنه

فسخ حجاً إلى عُمرة، وليس كذلك، فإنه لو أراد أن يفسخ الحج إلى عُمرة مفردة، لم يجز بلا نزاع، وإنما الفسخُ جائز لمن كان مِن نِيَّته أن يحج بعد العُمرة، والمتمتع من حين يحرم بالعُمرة فهو داخل فى الحج، كما قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَة". ولهذا، يجوز له أن يصومَ الأيامَ الثلاثةَ مِن حين يُحرِمُ بالعُمرة، فدل على أنه فى تلك الحال فى الحج.
وأما إحرامُه بالحج بعد ذلك، فكما يبدأ الجُنبُ بالوضوء، ثم يغتسِلُ بعده. وكذلك كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل، إذا اغتسل من الجنابة. وقال لِلنسوة فى غسل ابنته: "ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، ومَوَاضِع الوُضُوءِ مِنْهَا ". فغسل مواضع الوضوء بعض الغسل.
فإن قيل: هذا باطل لثلاثة أوجه. أحدها: أنه إذا فسخ، استفاد بالفسخ حِلاً كان ممنوعاً منه بإحرامه الأول، فهو دون ما التزمه.
الثانى: أن النُّسُكَ الَّذى كان قد التزمه أولاً، أكملُ مِن النُّسُكِ الذى فسخ إليه، ولهذا لا يحتاج الأول إلى جُبران، والذى يُفسخ إليه، يحتاج إلى هَدْى جُبراناً له، ونُسُكٌ لا جُبران فيه، أفضلُ من نُسُكٍ مجبور.
الثالث: أنه إذا لَم يَجُزْ إدخالُ العُمرة على الحج، فلأن لا يجوزَ إبدالها به وفسخه إليها بطريق الأَوْلى والأحرى.
فالجواب عن هذه الوجوه، من طريقين، مجمل ومفصَّل. أما المجمل: فهو أن هذه الوجوه اعتراضات على مجرد السُّنَّة، والجواب عنها بالتزام تقديم الوحى على الآراء، وأن كل رأى يُخالف السُّنَّة، فهو باطل قطعاً، وبيان بطلانه لمخالفة السُّنَّة الصحيحة الصريحة له، والآراء

تبع للسُّنَّة، وليست السُّنَّة تبعاً للآراء.
وأما المفصَّل: وهو الذى نحن بصدده، فإنَّا التزمنا أن الفسخَ على وفق القياس، فلا بد من الوفاء بهذا الالتزام، وعلى هذا فالوجه الأول جوابه: بأن التمتع وإن تَخلَّله التحلل فهو أفضل من الإفراد الذى لا حِلَّ فيه، لأمر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن لا هَدْى معه بالإحرام به، ولأمره أصحابه بفسخ الحجِّ إليه، ولتمنِّيه أنه كان أحرم به، ولأنه النُّسكُ المنصوصُ عليه، فى كتاب الله، ولأن الأُمَّة أجمعت على جوازه، بل على استحبابه، واختلفُوا فى غيره على قولين، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَضِبَ حين أمرهم بالفسخ إليه بعدَ الإحرام بالحجِّ، فتوقَّفوا، ولأنه من المُحال قطعاً أن تكون حَجَّة قطُّ أفضلَ من حَجَّة خيرِ القرون، وأفضل العالمين مع نبيِّهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أمرهم كُلَّهم بأن يجعلوها متعة إلا مَنْ ساق الهَدْى، فمن المحال أن يكون غيرُ هذا الحج أفضلَ منه، إلا حَجَّ من قرن وساق الهَدْى، كما اختاره اللهُ سبحانه لنبيِّه، فهذا هو الذى اختاره الله لنبيِّه، واختار لأصحابه التمتعَ، فأىُّ حجٍّ أفضلُ من هذين. ولأنه من المحال أن ينقُلَهم من النُّسُكِ الفاضِل إلى المفضول المرجوحِ، ولوجوه أُخَر كثيرة ليس هذا موضِعَها، فرجحان هذا النُّسُكِ أفضلُ من البقاء على الإحرام الذى يفوته بالفسخ، وقد تبين بهذا بطلانُ الوجه الثانى.
وأما قولُكم: إنه نُسُك مجبور بالهَدْى، فكلام باطل من وجوه.
أحدها: أن الهَدْىَ فى التمتع عبادة مقصودة، وهو مِن تمام النُسُك، وهو دم شُكران لا دم جُبران، وهو بمنزلة الأُضحية للمقيم، وهو من تمام عبادة هذا اليوم، فالنُّسُكُ المشتمِل على الدم، بمنزلة العيد المشتمل على الأضحية، فإنه ما تُقُرِّبَ إلى الله فى ذلك اليوم، بمثل إراقة دم سائل.

وقد روى الترمذى وغيره، من حديث أبى بكر الصِّدِّيق، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل: أىُّ الحجِّ أَفْضَلُ ؟ فقال: "العَجُّ والثَّجُّ". والعجُّ رفعُ الصوت بالتلبية، والثَّجُّ: إراقةُ دم الهَدْى. فإن قيل: يُمكِنُ المفردُ أن يُحصِّلَ هذه الفضيلة. قيل: مشروعيتها إنما جاءت فى حق القارِن والمتمتِّع، وعلى تقدير استحبابها فى حقه، فأين ثوابُها من ثواب هَدْى المتمتع والقارن ؟
الوجه الثانى: أنه لو كان دمَ جُبران، لما جاز الأكلُ منه، وقد ثبت عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أكلَ مِن هَدْيه، فإنه أَمَرَ مِن كل بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ فى قِدْرِ، فأكلَ مِن لحمها، وشَرِبَ مِن مَرَقِهَا، وإن كان الواجبُ عليه سُبْعَ بدنة، فإنَّه أكَلَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةِ مِنَ المِائة، والواجبُ فيها مُشاعٌ لم يتعيَّن بقسمة، وأيضاً: فإنه قد ثبت فى "الصحيحين": أنه أطعَم نِسَاءَه مِنَ الهَدْى الَّذِى ذَبحَهُ عَنْهُنَّ وَكُنَّ مُتَمَتِّعَاتٍ، احتج به الإمام أحمد، فثبت فى "الصحيحين" عن عائشة رضى الله عنها، أنَّه أهدى عَنْ نسائه، ثم أرْسَلَ إليهنَّ مِن الهَدْى الذى ذَبَحَهُ عَنْهُنَّ، وأيضاً: فإن سبحانه وتعالى

قال فيما يُذبح بمِنَى مِنَ الهَدِى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} [الحج: 28]، وهذا يتناولُ هَدْىَ التمتع والقِران قطعاً إن لم يختصَّ به، فإن المشروعَ هناك ذبحُ هَدْى المُتعة والقِران. ومن هاهنا واللهُ أعلمُ أمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ، فُجعِلَتْ فى قِدر امتثالاً لأمر ربه بالأكل لِيَعُمَّ به جميع هَدْيه.
الوجه الثالث: أن سبب الجُبران محظورٌ فى الأصل، فلا يجوز الإقدامُ عليه إلا لعذر، فإنه إما تركُ واجب، أو فعلُ محظور، والتمتُع مأمور به، إما أمر إيجاب عند طائفة كابن عباس وغيره، أو أمر استحباب عند الأكثرين، فلو كان دَمُهُ دَمَ جُبران. لم يَجُزِ الإقدامُ على سببه بغير عذر، فبطل قولُهم: إنه دمجُبران، وعُلِم أنه دم نُسُك، وهذا وسَّعَ الله به على عباده، وأباح لهم بسببه التحلل فى أثناء الإحرام لما فى استمرار الإحرام عليهم من المشقة، فهو بمنزلة القصر والفِطر فى السفر، وبمنزلة المسح على الخُفَّين، وكان من هَدْى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهَدْى أصحابه فعلُ هذا وهذا، "واللهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ، كَما يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيتُهُ" فمحبتُه لأخذ العبد بما يَسَّرَه عليه وسهَّله له، مثلُ كراهته منه لارتكاب ما حرَّمه عليه ومنعه منه، والهَدْىُ وإن كان بدلاً عن ترفُّهه بسقُوط أحد السفرين، فهو أفضلُ لمن قدم فى أشهر الحج من أن يأتىَ بحجٍّ مفرد ويعتمِر عقيبه، والبدل قد يكون واجباً كالجمعة عند مَن جعلها بدلاً، وكالتيمم للعاجز عن استعمال الماء، فإنه واجب عليه وهو بدل، فإذا كان البدلُ قد يكون واجباً، فكونه مستحَباً أولى بالجواز، وتخلل التحلُّلِ لا يمنع أن يكون الجميعُ عبادة واحدة كطواف الإفاضة، فإنه ركن بالاتفاق، ولا يُفعل

إلا بعد التحلُّل الأول، وكذلك رمىُ الجمار أيام مِنَى، وهو يُفعل بعد الحِلِّ التام، وصومُ رمضان يتخلَّله الفطرُ فى لياليه، ولا يمنع ذلك أن يكون عبادةً واحدة، ولهذا قال مالك وغيره: إنه يجزئ بِنِيَّة واحدة للشهر كله، لأنه عبادة واحدة... والله أعلم.
فصل
وأما قولُكم: إذا لم يجز إدخالُ العُمرة على الحجِّ، فلأن لا يجوزَ فسخُه إليها أولى وأحرى، فنسمع جَعَجَعَةً ولا نرى طِحناً. وما وجهُ التلازُم بين الأمرين، وما الدليلُ على هذه الدعوى التى ليس بأيديكم برهانٌ عليها؟ ثم القائلُ بهذا إن كان مِن أصحاب أبى حنيفة رحمه الله، فهو غيرُ معترف بفساد هذا القياس. وإن كان من غيرهم، طولب بصحة قياسه فلا يجد إليه سبيلاً، ثم يُقال: مُدْخِلُ العُمرة قد نقص مما كان التزمه، فإنه كان يطوفُ طوافاً للحجِّ، ثم طوافاً آخر للعمرة. فإذا قرن، كفاه طوافٌ واحد وسعىٌ واحد بالسُّنَّة الصحيحة، وهو قول الجمهور، وقد نقص مما كان يلتزمه. وأما الفاسخ، فإنه لم ينقُضْ مما التزمه، بل نقل نُسُكه إلى ما هو أكملُ منه، وأفضلُ، وأكثر واجبات، فبطل القياسُ على كل تقدير، وللّه الحمد.
فصل
عُدنا إلى سِياق حَجَّته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثمَّ نهض صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أن نزل بذى طُوى وهى المعروفة الآن بآبار الزاهر، فبات بها ليلةَ الأحد لأربع خَلَوْنَ من

ذى الحِجة، وصلَّى بها الصُّبح، ثم اغتسلَ مِنْ يومه، ونهض إلِى مكة، فدخلها نهاراً مِن أعلاها مِن الثنيَّة العُليا التى تُشْرِفُ على الحَجُونِ، وكان فى العُمرة يدخل من أسفلها، وفى الحج دخل من أعلاها، وخرج مِن أسفلها، ثم سار حتى دخلَ المسجد وذلك ضحىً.
وذكر الطبرانى، أنه دخلَه من بابِ بنى عبد مناف الذى يُسمِّيه الناسُ اليومَ بابَ بنى شيبة.
وذكر الإمام أحمد: أنه كان إذا دخل مكاناً من دار يعلى، استقبل البيت فدعا.
وذكر الطبرانى: أنه كان إذا نظر إلى البيت، قال: "اللهُمَّ زدْ بَيْتَكَ هَذَا تَشْريفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْريماً وَمَهَابَةً". وروى عنه، أنه كان عند رؤيته يرفعُ يديه، ويُكبِّر ويقُول: "اللهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ ومِنْكَ السَّلامُ حَيِّنا رَبَّنا بالسَّلام، اللهُمَّ زِدْ هَذا البَيْتَ تَشْرِيفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْرِيماً وَمَهَابَةً، وزِدْ مَنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَكْريماً وتَشْريفاً وتَعْظيماً وبِرَّاً" وهو مرسل، ولكن سمع هذا سعيدُ بن المسِّيب من عُمَرَ بنِ الخطَّاب رضى الله عنه يقوله.

فلما دخل المسجد، عَمَدَ إلى البيت ولم يركع تحيةَ المسجد، فإنَّ تحيةَ المسجدِ الحرام الطَّوافُ، فلما حاذى الحجَر الأسود، استلمه ولم يُزاحِمْ عليه، ولم يتقدّم عنه إلى جهة الرُّكن اليمانى، ولم يرفع يديه، ولَم يَقُلْ: نويتُ بطوافى هذا الأسبوع كذا وكذا، ولا افتتحه بالتَّكْبير كما يفعله مَن لا علم عنده، بل هو مِن البِدَع المُنكرات، ولا حاذى الحَجَرَ الأسود بجميع بدنه ثم انفتل عنه وجَعله على شِقه، بل استقبلَه واستلمه، ثم أخذ عن يمينه، وجعل البيتَ عن يساره، ولم يدعُ عند الباب بدُعاء، ولا تحت الميزاب، ولا عِند ظهر الكعبة وأركانها ولا وقَّتَ لِلطَّوَافِ ذِكراً معيناً، لا بفعله، ولا بتعليمِه، بل حُفِظَ عنه بين الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار} [البقرة: 201] ورمَل فى طوافه هَذَا الثلاثة الأشواط الأول، وكان يُسرع فى مشيه، ويُقارِبُ بين خُطاه، واضطبع بردائه فجعل طرفيه على أحد كتفيه، وأبدى كتفه الأخرى ومنكبه، وكلما حاذى الحجر الأسود، أشار إليه أو استلمه بمحجنه، وقبّل المحجن، والمحجنُ عصا محنيَّة الرأس. وثبت عنه، أنه استلم الركن اليمانى. ولم يثبتْ عنه أنه قبَّله، ولا قبَّل يده عند استلامه، وقد روى الدارقطنى، عن ابن عباس: "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقبِّلُ الركن اليمانى، ويضع خده عليه"، وفيه عبد الله بن مسلم بن هُرمز، قال الإمام أحمد:

صالحُ الحديثِ وضعَّفه غيره. ولكن المرادَ بالرُّكن اليمانِى ههنا، الحجرُ الأسود، فإنه يُسمَّى الركنَ اليمانى ويُقالُ له مع الركن الآخر: اليمانيان، ويقال له مع الركن الذى يلى الحِجر من ناحية الباب: العراقيان، ويقال للرُّكنين اللذين يليان الحِجر: الشاميان. ويقال للركن اليمانى، والذى يلى الحِجر مِن ظهر الكعبة: الغربيان، ولكن ثبت عنه، أنه قبَّل الحجر الأسود. وثبت عنه، أنه استلمه بيده، فوضع يده عليه، ثم قبَّلها، وثبت عنه، أنه استلمه بمحجن، فهذه ثلاث صفات، وروى عنه أيضاً، أنه وضع شفتيه عليه طويلاً يبكى.
وذكر الطبرانى عنه بإسناد جيد: أنه كان إذا استلم الرُّكن اليمانى، قال: "بسْم الله والله أكْبَر".
وكان كلما أتى على الحجر الأسود قال: "اللهُ أكبَر".
وذكر أبو داود الطيالسى، وأبو عاصم النبيل، عن جعفَر بن عبد الله بن عثمان قال: "رأيتُ محمد بن عباد بن جعفر قَبَّلَ الحَجَرَ وسَجَدَ عليه، ثُمَّ قال: رأيتُ ابنَ عباس يُقبِّلُه ويسجُد عليه، وقال ابن عبَّاس: رأيتُ عمر بن الخطاب قبَّلَه وسجَدَ عليه. ثم قال: رأيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل هكذا ففعلتُ".

وروى البيهقىُّ عن ابن عباس: "أنه قبَّل الرُكن اليمانى، ثم سَجَدَ عليه، ثم قبَّله، ثم سَجَدَ عليه ثلاثَ مرات".
وذكر أيضاً عنه، قال: "رأيتُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجد على الحَجَر".
ولم يستلِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يَمَسَّ مِن الأركان إلا اليمانيين فقط. قال الشافعى رحمه الله: ولم يَدَعْ أحدٌ استلاَمَهما هِجرة لبيتِ الله، ولكن اسْتَلَم ما استَلَمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَمْسَكَ عَمَّا أَمْسَكَ عَنْهُ.
فصل
فلما فرغ مِن طوافه، جاء إلى خلفِ المقام، فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلى} [البقرة: 125]، فصلَّى ركعتين، والمَقَامُ بينه وبينَ البيت، قرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتى الإخلاص وقراءته الآية المذكورة بيانٌ منه لتفسير القرآن، ومراد الله منه بفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما فرغ من صَلاته، أقبل إلى الحجر الأسودِ، فاستلمه.
ثم خرج إلى الصَّفا مِن الباب الذى يقابله، فلما قَرُب منه. قرأ: "{إنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ الله} [البقرة: 158] أبدأ بما بدأ الله به"، وفى رواية النسائى: "ابدؤوا"، بصيغة الأمر. ثم رَقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبلَ القِبلة، فوحَّدَ الله

وكبَّره، وقال. "لا إله إلا اللهُ وحْدَهُ لا شَريكَ لَه، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شئٍ قدير، لا إله إلاَّ اللهُ وحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَه، وهَزَمَ الأحْزَابَ وحْدَه". ثم دعا بين ذلك، وقال مِثلَ هذا ثلاثَ مرات.
وقام ابنُ مسعود على الصَّدْع، وهو الشِّقُّ الذى فى الصَّفا. فقيل له: "هاهنا يا أبَا عبد الرحمن؟ قال: هَذَا والَّذِى لا إلَه غَيْرُه مَقَامُ الذى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سورةُ البقرة" ذكره البيهقى.
ثم نزل إلى المروة يمشى، فلما انصبَّت قدماه فى بطن الوادى، سعى حتَّى إذا جاوز الوادى وأَصْعَد، مشى. هذا الذى صحَّ عنه، وذلك اليوم قبل الميلين الأخضرين فى أول المسعى وآخره. والظاهر: أن الوادى لم يتغير عن وضعه، هكذا قال جابر عنه فى "صحيح مسلم". وظاهر هذا: أنه كان ماشياً، وقد روى مسلم فى "صحيحه" عن أبى الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقولُ: طافَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّةِ الوَدَاع على رَاحِلَتِه بالبَيْتِ، وبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ لِيَراهُ النَّاسُ وَلِيُشْرِفَ ولِيَسْألُوه فَإن النَّاسَ قد غشوْه، وروى مسلم عن أبى الزبير عن جابر: "لم يطف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أصحابُه بين الصَّفَا والمروة إلا طَوَافاً واحِداً طوافه الأول".
قال ابنُ حزم: لا تعارُض بينهما، لأن الراكب إذا انصبَّ به بعيرُه، فقد انصبَّ كُلُّه، وانصبَّتْ قدماه أيضاً مع سائر جسده.

وعندى فى الجمع بينهما وجه آخر أحسنُ مِن هذا، وهو أنه سَعَى ماشياً أولاً، ثم أتمَّ سعيَه راكباً، وقد جاء ذلك مصرَّحاً به، ففى صحيح "مسلم": عن أبى الطُّفيل، قال: "قلت لابن عباس: أخبرنى عن الطَّوافِ بين الصَّفَا والمروةِ راكباً، أسُّنَّة هو؟ فإن قومَك يزعمُون أنه سُّنة. قال: صدقُوا وكذبُوا قال: قُلْتُ: ما قَوْلُك صَدقُوا وكذبُوا؟ قال: إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثُرَ عَلَيْه النَّاسُ، يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ، هَذَا مُحَمَّدٌ، حَتَى خَرَجَ العَوَاتِقُ مِنَ البُيُوتِ. قال: وكانَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: فَلَما كَثُرَ عَلَيْهِ، رَكِبَ، والمشىُ والسَّعى أفضلُ".
فصل
وأما طوافُه بالبيت عند قدومه، فاختُلِفَ فيه، هل كان على قدميه، أو كان راكباً؟ ففى "صحيح مسلم": عن عائشة رضى الله عنها، قالت: "طافَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّةِ الوَدَاع حَوْلَ الكعبة على بعيره يستلِمُ الرُّكْنَ كراهية أن يُضْرَبَ عنْه الناسُ".
وفى "سنن أبى داود": عن ابن عباس، قال: "قَدِمَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة وهو يَشْتَكِى، فَطافَ على راحلِته، كلَّمَا أتى على الرُّكْنِ، استلمه بمِحْجَنٍ، فلما فَرَغَ مِن طوافه، أناخ، فصلَّى ركعتين. قال أبو الطفيل: رأيتُ النبى ر

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطوفُ حولَ البيتِ على بعيره، يَسْتَلِمُ الحجر بمِحْجنِه، ثم يقبِّله". رواه مسلم دون ذِكر البعير. وهو عند البيهقى، بإسناد مسلم بِذِكْرِ البَعيرِ. وهذا واللهُ أعلم فى طواف الإفاضة، لا فى طوافِ القُدوم، فإن جابراً حكى عنه الرملَ فى الثلاثة الأُوَل، وذلك لا يكون إلا مع المشى.
قال الشافعى رحمه الله: أما سُبعه الذى طافه لمقدَمِه، فعلى قدميه، لأن جابراً حكى عنه فيه، أنه رمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعة، فلا يجوز أن يكون جابرٌ يحكى عنه الطواف ماشياً وراكباً فى سُبعٍ واحد. وقد حفظ أن سُبعه الذى ركب فيه فى طوافه يومَ النحر، ثم ذكر الشافعى: عن ابن عُيينة، عن ابن طاووس، عن أبيه، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَرَ أصحابَه أن يُهَجِّروا بالإفاضة، وأفاض فى نسائه ليلاً على راحلته يستلم الرُّكن بِمحْجَنِهِ، أحسِبه قال: فيقبِّل طرف المحجن.
قلت: هذا مع أنه مرسل، فهو خلاف ما رواه جابر عنه فى "الصحيح" أنه طاف طوافَ الإفاضة يوم النحر نهاراً، وكذلك روت عائشة وابنُ عمر، كما سيأتى وقول ابن عباس: إن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم مكة وهو يشتكى، فطاف على راحلته، كلما أتى الركن استلمه. هذا إن كان محفوظاً، فهو فى إحدى عُمَره، وإلا فقد صح عنه الرمل فى الثلاثة الأُوَل من طواف القدوم، إلا أن يقول كما قال ابن حزم فى السعى: إنه رمل على بعيره، فإن مَن رمل على بعيره، فقد رمل، لكن ليس فى شئ من الأحاديثِ أنه كان راكباً فى طواف القدوم. والله أعلم.

فصل
وقال ابن حزم: وطاف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الصفا والمروة أيضاً سبعاً، راكباً على بعيره يَخُبُّ ثلاثاً، ويمشى أربعاً، وهذا مِن أوهامه وغلطه رحمه الله، فإن أحداً لم يقُلْ هذا قطُّ غيره، ولا رواه أحد عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البتة. وهذا إنما هو فى الطواف بالبيت، فغلِط أبو محمد، ونقله إلى الطواف بين الصفا والمروة. وأعجبُ من ذلك، استدلالُه عليه بما رواه من طريق البخارى، عن ابن عمر، "أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طافَ حينَ قَدِم مكة، واستلم الركنَ أوَّل شئ، ثم خَبَّ ثلاثةَ أطواف، ومشى أربعاً، فركع حين قَضَى طوافَه بالبيت، وصلَّى عند المَقَام رَكعتين، ثم سلَّم فانصرف، فأتى الصَّفا، فطاف بالصَّفا والمروةِ سبعة أشواط..." وذكر باقى الحديث. قال: ولم نجد عدد الرَّمَل بين الصَّفا والمروة منصوصاً، ولكنه متفق عليه. هذا لفظه.
قلت: المتفقُ عليه: السعىُ فى بطن الوادى فى الأشواط كلِّها. وأما الرَّمَلُ فى الثلاثة الأُوَل خاصَّة، فلم يقُله، ولا نقله فيما نعلمُ غيرُه. وسألت شيخنا عنه، فقال: هذا مِن أغلاطه، وهو لم يحجَّ رحمه الله تعالى.
ويشبه هذا الغلطَ، غلطُ مَن قال: إنه سعى أربَع عشرةَ مرة، وكان يحتسِبُ بذهابه ورجوعِه مرة واحدة. وهذا غلط عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم ينقله عنه أحد، ولا قاله أحدٌ من الأئمة الذين اشتهرت أقوالُهم، وإن ذهب إليه بعضُ المتأخرين من المنتسبين إلى الأئمة. ومما يبين بُطلان هذا القول، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا خلاف عنه، أنه ختم سعيه بالمروة، ولو كان الذهابُ والرجوعُ مرة واحدة، لكان ختمُه إنما يقع على الصَّفا.

وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا وصل إلى المروة، رَقِىَ عليها، واستقبل البيتَ، وكبَّر اللهَ ووحَّده، وفعل كما فعل على الصَّفا، فلما أكمل سعيه عند المروة، أمرَ كُلَّ مَن لا هَدْى معه أن يَحِلَّ حتماً ولا بُدَّ، قارناً كان أو مفرداً، وأمرهم أن يَحِلُّوا الحِلَّ كُلَّهُ مِن وَطْءِ النِّساء، والطِّيب، ولُبس المخيط، وأن يبقوا كذلك إلى يوم التَّرْوِيَةِ، ولم يَحِلَّ هو مِن أجلِ هَدْيه. وهناك قال: "لو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرى ما اسْتَدْبَرْتُ لما سُقْتُ الهَدْىَ، وَلَجعَلْتُها عُمْرَةً".
وقد روى أنه أحلَّ هو أيضاً، وهو غلط قطعاً، قد بينَّاه فيما تقدم.
وهُناك دعا للمحلِّقين بالمغفرة ثلاثاً، وللمقصِّرين مرة. وهناك سأله سراقةُ بن مالك بن جُعْشُم عقيبَ أمره لهم بالفسخ والإحلال: هل ذلك لِعامِهم خاصة، أم للأبد؟ فقال: "بَلْ لِلأبد". ولم يَحِلَّ أبو بكر، ولا عُمر، ولا علىٌّ، ولا طلحةُ، ولا الزبيرُ من أجل الهَدْى.
وأما نساؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأحللن، وكُنَّ قارنات، إلا عائشة فإنها لم تَحِلَّ من أجل تعذُّرِ الحل عليها لحيضها، وفاطمة حلَّت، لأنها لم يكن معها هَدْى، وعلىّ رضى الله عنه لم يَحِلَّ مِن أجل هَدْيه، وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن أهل بإهلالِ كإهلاله أن يُقيم على إحرامه إن كان معه هَدْى، وأن يَحِلَّ إن لم يكن معه هَدْى.
وكان يُصلِّى مدة مُقَامه بمكة إلى يوم التروية بمنزله الذى هو نازِل فيه بالمسلمين بظَاهِر مكَّة، فأقام بظاهرمكة أربعةَ أيَّام يَقْصُرُ الصَّلاة

يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء، فلما كان يومُ الخميس ضُحىً، توجَّه بمن معه مِن المسلمين إلى مِنَى، فأحرم بالحجِّ مَنْ كان أحلَّ منهم مِن رحالهم، ولم يدخُلُوا إلى المسجد، فأحرمُوا منه، بل أحرمُوا ومكةُ خلفَ ظهورهم، فلما وصل إلى مِنَى، نزل بها، وصلَّى بها الظهرَ والعصرَ، وبات بها، وكان ليلةَ الجمعة، فلما طلعتِ الشمسُ، سار منها إلى عرفة، وأخذ على طريق ضبٍّ على يمين طريق النَّاس اليوم، وكان مِن أصحابه الملبِّى، ومنهم المُكبِّرُ، وهو يسمَعُ ذلك ولا يُنْكِرُ على هؤلاء ولا على هؤلاء، فوجد القُبَّة قد ضُرِبَتْ له بِنَمِرَة بأمره، وهى قرية شرقى عرفات، وهى خرابٌ اليوم، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمسُ، أمر بناقته القَصواء فَرُحِلتْ، ثم سار حتى أتى بَطن الوادى من أرض عُرَنَةَ.
فخطب النَّاسَ وهو على راحِلته خُطبة عظيمة قرَّرَ فيها قواعِد الإسلام، وهَدَمَ فيها قواعِدَ الشِّرْكِ والجاهلية، وقرَّر فيها تحريمَ المحرَّمات التى اتفقت المِللُ على تحريمها، وهى الدِّماءُ، والأموالُ، والأعراض، ووضع فيها أُمورَ الجاهلية تحتَ قدميه، ووضع فيها ربا الجاهلية كُلَّه وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيراً، وذكر الحقَّ الذى لهن والذى عليهن، وأن الواجبَ لهن الرزقُ والكِسوةُ بالمعروف، ولم يُقدِّر ذلك بتقدير، وأباح للأزواج ضربَهن إذا أَدْخَلْن إلى بيوتهن مَنْ يكرهه أزواجُهن، وأوصى الأُمَّة فيها بالاعتصام بكتاب الله، وأخبر أنهم لن يَضِلِّوا ما داموا معتصمين به، ثم أخبرهم أنهم مسؤولون عنه، واستنطقهم: بماذا يقولُون، وبماذا يشهدون، فقالوا: نشهد أنك قد بَلَّغَت وأَدَّيْتَ ونَصَحْتَ، فرفع أُصبعه إلى السماء، واستشهد اللهَ عليهم ثلاثَ

مرات، وأمرهم أن يُبَلِّغ شاهدُهم غائبَهم.
قال ابن حزم: وأرسلت إليه أمُّ الفضل بنت الحارث الهِلالية وهى أمُّ عبد الله بن عباس، بقدح لبن، فشربه أمامَ النَّاس وهو على بعيره فلما أتم الخُطبة، أمر بلالاً فأقام الصلاة، وهذا من وهمه رحمه الله، فإن قِصة شربه اللبن، إنما كانت بعد هذا حين سار إلى عرفة ووقف بها، هكذا جاء فى "الصحيحين" مصرَّحاً به عن ميمونة: "أن الناسَ شَكُّوا فى صِيام النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ عرفة، فأرسلت إليه بحِلاب وهو واقِف فى الموقف، فشرِب منه والناسُ ينظرون". وفى لفظ: "وهو واقف بعرفة".
وموضعُ خُطبته لم يكن من الموقف، فإنه خطب بِعُرَنَة، وليست من الموقف، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزَل بِنَمِرَةَ، وخطب بِعُرَنَة، ووقف بِعَرفَة، وخطب خُطبة واحدة، ولم تكن خطبتين، جلس بينهما، فلما أتمها، أمَرَ بلالاً فأذَّن، ثم أقام الصلاة، فصلَّى الظهر ركعتين أسرَّ فيهما بالقراءة، وكان يومَ الجمعة، فدل على أن المسافِر لا يُصلِّى جمعة، ثم أقام فصلَّى العصر ركعتين أيضاً ومعه أهل مكة، وصلُّوْا بصَلاتِه قصراً وجمعاً بلا ريب، ولم يأمرهم بالإتمام، ولا بترك الجمع، ومَن قال: إنه قال لهم: "أتِمُّوا صَلاتَكُم فإنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ"، فقد غلط فيه غلطاً بيِّناً، ووهم وهما قبيحاً. وإنما قال لهم ذلك فى غزاة الفتح بجوف مكة، حيث كانوا فى ديارهم

مقيمين.
ولهذا كان أصحَّ أقوالِ العلماء: أن أهل مَكّة يَقْصُرُون ويجمعون بعرفة، كما فعلُوا مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفى هذا أوضحُ دليل، على أن سفر القصر لا يتحدَّدُ بمسافةٍ معلومة، ولا بأيام معلومة، ولا تأثير للنُّسُكِ فى قصر الصلاة البتة، وإنما التأثيرُ لما جعله الله سبباً وهو السفرُ، هذا مقتضى السنة، ولا وجه لما ذهب إليه المحددون.
فلما فرغ من صلاته، ركب حتى أتى الموقفَ، فوقف فى ذيل الجبل عند الصَّخَراتِ، واستقبل القِبْلة، وجعل حَبْلَ المُشاة بين يديه، وكان على بعيره، فأخذَ فى الدُّعاء والتضرُّع والابتهال إلى غروب الشمس، وأمر النَّاس أن يرفعُوا عن بطن عُرَنَةَ، وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك، بل قال: "وقَفْتُ هاهنا وعَرَفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ".

وأرسل إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم، ويقفوا بها، فإنها مِن إرث أبيهم إبراهيم وهنالك أقبل ناسٌ من أهل نَجْدٍ، فسألوه عن الحجِّ، فقال: "الحَجُّ عَرَفَةُ، مَن جَاء قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، تَمَّ حَجُّهُ، أيَّامُ مِنَى ثَلاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فى يَوْمَيْن، فلا إثْمَ عَلَيْهِ، ومَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عليه".
وكان فى دعائه رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين، وأخبرهم أنَّ خَيْرَ الدُّعَاء دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ.
وذكر من دعائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الموقف: "اللهُمَ لَكَ الحَمْدُ كالَّذِى نَقُولُ،

وخَيْراً مِمَّا نقُولُ، اللهُمَّ لَكَ صَلاتى وَنُسُكى، ومَحْيَاىَ، ومَمَاتِى، وَإليكَ مَآبى، ولَكَ ربِّى تُراثى، اللهُمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ، وَشَتاتِ الأمْرِ، اللهُمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تِجِئ به الرِّيحُ" ذكره الترمذى.
ومما ذُكِرَ مِن دُعائه هناك: "اللهُمَّ تَسْمَعُ كَلامى، وتَرَى مَكَانى، وتَعْلَمُ سرِّى وعَلانيتى، لا يخفى علَيْكَ شَئٌ مِنْ أَمْرى، أَنا البَائسُ الفَقيرُ، المُسْتَغِيثُ المُسْتَجيرُ، وَالوَجلُ المُشفِقُ، المقِرُّ المعترِفُ بِذُنُوبى، أَسْأَلكَ مَسْألةَ المِسْكين، وأبْتَهِلُ إليْكَ ابْتهالَ المُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الخَائِفِ الضرِيرِ، مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وذلَّ جَسَدُهُ، ورَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ، اللهُمَّ لا تَجْعلنى بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِياً، وكُن بى رَؤُوفاً رحيماً، يا خيْرَ المَسْؤُولين، ويَا خَيْرَ المُعْطِينَ " ذكره الطبراني.
وذكر الإمام أحمد: من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه قال: كان أكثرُ دُعاءِ النَّبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفة: " لا إله إلاَّ اللهُ وحدَهْ لا شرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحمدُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شئ قَدِير".

وذكر البيهقىُّ من حديث علىّ رضى الله عنه، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَكْثَرُ دُعائى ودُعاءِ الأَنْبيَاء مِنْ قَبْلى بِعَرَفَةَ: لا إله إلاَّ الله وَحْدَه لا شَرِيكَ لَه، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُوَ عَلى كُلِّ شَئ قَدِير، اللهُمَّ اجْعَل فى قَلبى نُوراً، وفى صَدْرى نُوراً، وفى سَمْعى نُوراً، وفى بَصَرى نُوراً، اللهُمَّ اشْرَحْ لى صَدْرِى، ويَسِّرْ لى أَمْرى، وأعُوذُ بِكَ مِنْ وَسْواسِ الصَّدْرِ، وشَتَات الأمْر، وفِتْنةِ القَبْرِ، اللهُمَّ إنى أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما يَلِجُ فى اللَّيْل، وشَرِّ ما يَلِجُ فى النَّهارِ، وشَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّياحُ، وشَرِّ بَوائِق الدَّهْر".
وأسانيدُ هذه الأدعية فيها لين.
وهناك أُنزِلَتْ عليه: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3].
وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرِم فمات، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُكفَّنَ فى ثَوْبَيْهِ، ولا يُمَسَّ بِطِيبٍ، وأن يُغَسَّل بمَاءٍ وَسِدْرٍ، ولا يُغَطَّى رَأْسُه، ولا وَجْهُهُ، وأَخْبَرَ أَنَّ الله تَعَالَى يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ يُلَبِّى.
وفى هذه القصة اثنا عشر حُكماً.
الأول: وجوبُ غسلِ الميت، لأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به.

الحكم الثانى: أنه لا يَنْجُسُ بالموت، لأنه لو نجس بالموت لم يَزِدْهُ غسلُه إلا نجاسة، لأن نجاسة الموتِ للحيوان عينية، فإن ساعد المنجِّسون على أنه يَطْهُرُ بالغَسل، بطل أن يكون نَجساً بالموت، وإن قالوا: لا يطهُرُ، لم يزد الغسلُ أكفانَه وثيابه وغاسله إلا نجاسة.
الحكم الثالث: أنَّ المشروعَ فى حقِّ الميت، أن يُغسَّل بماءٍ وسِدْرٍ لا يُقتصر به على الماء وحده، وقد أمر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسدر فى ثلاثة مواضع، هذا أحدُها. والثانى: فى غسل ابنته بالماءوالسدر.والثالث: فى غسل الحائض.
وفى وجوب السِّدرِ فى حقِّ الحائِض قولان فى مذهب أحمد.
الحكم الرابع: أنَّ تغيَّر الماء بالطاهرات، لا يسلُبُه طهوريَّتَه، كما هو مذهب الجمهور، وهو أنصُّ الروايتين عن أحمد، وإن كان المتأخِّرون من أصحابه على خلافها. ولم يأمر بغسله بعد ذلك بماءٍ قَراح، بل أمر فى غَسلِ ابنته أن يجعلْنَ فى الغسلة الأخيرة شيئاً من الكافور، ولو سلبه الطَّهورِيَّة، لنهى عنه، وليس القصدُ مجردَ اكتساب المَاء من رائحته حتى يكونَ تغير مجاورة، بل هو تطييب البدنِ وتصليبه وتقويتُه، وهذا إنما يحصُل بكافُور مخالِط لا مجاوِر.

الحكم الخامس: إباحةُ الغسل للمحرم، وقد تناظر فى هذا عبدُ اللهِ بنُ عباس، والمِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَةَ، فَفَصَلَ بينهما أبُو أيوب الأنصارى، بأنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغتسلَ وهو مُحْرِمٌ. واتفقوا على أنه يغتسِل من الجنابة، ولكن كره مالك رحمه الله أن يُغَيِّبَ رأسه فى الماء، لأنه نوع سِتر له، والصحيحُ أنه لا بأس به، فقد فعله عمرُ بن الخطاب وابنُ عباس.
الحكم السادس: أن المحرم غيرُ ممنوع من الماء والسِّدْرِ. وقد اختُلِفَ فى ذلك، فأباحه الشافعىُّ، وأحمد فى أظهر الروايتين عنه، ومنع منه مالك، وأبو حنيفة، وأحمد فى رواية ابنه صالح عنه. قال: فإن فعل، أهدى، وقال صاحبا أبى حنيفة: إن فعل، فعليه صدقة.
وللمانعين ثلاث علل.
إحداها: أنه يقتُل الهَوَامَّ من رأسه، وهو ممنوع من التفلِّى.
الثانية: أنه ترفُّه، وإزالةُ شَعَثٍ يُنافى الإحرام.
الثالثة: أنه يستَلِذُّ رائحتَه، فأشبه الطِّيب، ولا سيما الخطمى.
والعلل الثلاث واهية جداً، والصواب: جوازه للنص، ولم يُحرِّم اللهُ ورسوله على المحرِم إزالة الشَّعَثِ بالاغتسال، ولا قتل القمل، وليس السِّدْرُ من الطيب فى شئ.
الحكم السابع: أن الكفنَ مقدَّم على الميراث، وعلى الدَّيْن، لأن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أن يُكفَّن فى ثوبيه، ولم يسأل عن وارثه، ولا عن

دَيْنٍ عليه، ولو اختلف الحالُ، لسأل.
وكما أن كِسوته فى الحياة مقدَّمة على قضاء دَينه، فكذلك بعد الممات، هذا كلامُ الجمهور، وفيه خلاف شاذ لا يُعَوَّلُ عليه.
الحكم الثامن: جواز الاقتصارِ فى الكفن على ثوبين، وهما إزارٌ ورداء، وهذا قول الجمهور. وقال القاضى أبو يعلى: لا يجوز أقلُّ من ثلاثة أثواب عند القدرة، لأنه لو جاز الاقتصارُ على ثوبين، لم يجز التكفين بالثلاثة لمن له أيتام، والصحيح خلاف قوله، وما ذكرهُ يُنقض بالخشن مع الرفيع.
الحكم التاسع: أن المحرم ممنوعٌ من الطِّيب، لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يُمَسَّ طيباً، مع شهادته له أنه يُبعث ملبِّياً، وهذا هو الأصل فى منع المحرِم مِن الطِّيب.
وفى "الصحيحين" من حديث ابن عمر: "لا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَاب شَيْئاً مَسَّه وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَان".
وأمر الذى أحرم فى جُبَّة بعد ما تضمَّخَ بالخَلُوق، أن تُنْزَعَ عَنْهُ الجُبَّةُ، ويُغْسَلَ عَنْهُ أَثَرُ الخَلُوقِ. فعلى هذه الأحاديث الثلاثة مدارُ منع المحرِم من الطيب. وأصرحُها هذه القصة، فإن النهى فى الحديثين الأخيرين، إنما هو عن نوع خاصٍّ من الطيب، لا سيما الخَلوقَ، فإن النهى عنه عام فى الإحرام وغيره.

وإذا كان النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نهى أن يُقرب طيباً، أو يمس به، تناول ذلك الرأسَ، والبدن، والثياب، وأما شمُّه من غير مسٍّ، فإنما حرَّمه مَن حرَّمه بالقياس، وإلا فلفظُ النهى لا يتناوله بصريحه، ولا إجماعَ معلومٌ فيه يجب المصير إليه، ولكن تحريمُه من باب تحريم الوسائل، فإنَّ شمه يدعو إلى ملامسته فى البدنِ والثياب، كما يحرم النظر إلى الأجنبية، لأنه وسيلة إلى غيره، وما حَرُمَ تحريم الوسائِل، فإنه يُباح للحاجة، أو المصلحة الرَّاجِحة، كما يُباح النظر إلى الأَمَة المُستَامَةِ، والمخطُوبة، ومن شَهِدَ عليها، أو يعاملها، أو يَطُبُّها. وعلى هذا، فإنما يُمنع المحرمُ مِن قصد شمِّ الطيب للترفُّه واللَّذة، فأما إذا وصلت الرائحةُ إلى أَنفه من غير قصد منه، أو شمَّه قصداً لاستعلامه عند شرائه، لم يُمنع منه، ولم يجب عليه سدُّ أنفه، فالأول: بمنزلة نظر الفجأة، والثانى: بمنزلة نظر المُستام والخاطب، ومما يُوضِّح هذا، أن الذين أباحوا للمحرم استدامَة الطيب قبل الإحرام، منهم مَن صرَّح بإباحة تعمُّد شَمِّه بعد الإحرام، صرَّح بذلك أصحاب أبى حنيفة، فقالوا: فى "جوامع الفقه" لأبى يوسف: لا بأس بأن يشم طيباً تطيَّب به قبل إحرامه، قال صاحب "المفيد": إن الطِّيب يتصلُ به، فيصير تبعاً له ليدفع به أذى التعب بعد إحرامه، فيصير كالسَّحور فى حق الصائم يدفعُ به أذى الجوع والعطش فى الصوم، بخلاف الثوب، فإنه بائن عنه.
وقد اختلف الفقهاء، هل هو ممنوع من استدامته، كما هو ممنوع من ابتدائه، أو يجوز له استدامتُه؟ على قولين. فمذهب الجمهور: جوازُ استدامته اتباعاً لما ثبت بالسُّنَّة الصحيحة عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يتطيَّبُ قَبْلَ إحْرَامِهِ، ثم يُرَى وَبِيصُ الطِّيبِ فى مَفَارِقِه بَعْدَ إحْرَامِه. وفى

لفظ: "وهو يُلبِّى" وفى لفظ: "بَعْدَ ثَلاثٍ". وكل هذا يدفع التأويل الباطلَ الذى تأوَّله مَن قال: إن ذلك كان قبل الإحرام، فلما اغتسل، ذهب أثره. وفى لفظ: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن يُحرِمَ، تَطيَّبَ بأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، ثم يُرَى وَبِيصُ الطِّيبِ فى رَأْسِهِ وَلِحيَتِهِ بَعْدَ ذلِكَ. وللَّه ما يصنعُ التقليدُ، ونصرة الآراء بأصحابه.
وقال آخرون منهم: إن ذلك كان مختصاً به، ويردُّ هذا أمران، أحدهما: أنَّ دعوى الاختصاص، لا تُسْمَعُ إلا بِدليل.
والثانى: ما رواه أبو داود، عن عائشة، "كنا نخرُجُ مع رسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة، فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بالسُّكِّ المُطَيَّبِ عِنْدَ الإحْرَامِ، فَإذَا عَرِقَتْ إحدَانَا، سَالَ عَلَى وَجْهِهَا، فَيَرَاهُ النَّبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ يَنْهَانَا".
الحكم العاشر: أن المُحرِم ممنوع مِن تغطية رأسه، والمراتبُ فيه ثلاث: ممنوع منه بالاتفاق، وجائزٌ بالاتفاق، ومختلَف فيه، فالأول: كلُّ متصل ملامس يُرادُ لستر الرأس، كالعِمَامَةِ، والقُبَّعَةِ، والطَّاقيةِ، والخُوذَةِ، وغيرها.
والثانى: كالخيمة، والبَيْتِ، والشَّجَرةِ، ونحوها، وقد صحَّ عنِ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه ضُرِبَتْ لَهُ قُبَّةٌ بِنَمِرَةَ وهُوَ مُحْرِمٌ، إلا أن مالكاً منع المحرِم أن يضَعَ ثوبَه على شجرة لِيستَظِلَّ به، وخالفه الأكثرون، ومنع

أصحابُهُ المحرِم أن يَمْشِىَ فى ظِلِّ المَحْمِلِ.
والثالث: كالمَحْمِل، والمَحَارَةِ، والهَوْدَجِ، فيه ثلاثة أقوال: الجواز، وهو قولُ الشافعى وأبى حنيفة رحمهما الله، والثانى: المنع. فإن فعل، افتدى، وهو مذهبُ مالكٍ رحمه الله. والثالث: المنع، فإن فعل، فلا فِديةَ عليه، والثلاثةُ رواياتٌ عن أحمد رحمه الله.
الحكم الحادى عشر: منع المحرم من تغطية وجهه، وقد اختُلِف فى هذه المسألة. فمذهب الشافعى وأحمد فى رواية: إباحته، ومذهب مالك، وأبى حنيفة، وأحمد فى رواية: المنع منه، وبإباحته قال ستة من الصحابة: عثمانُ، وعبدُ الرحمن بن عوف، وزيدُ بن ثابت، والزبيرُ، وسعدُ بن أبى وقاص، وجابرٌ رضى الله عنهم. وفيه قول ثالث شاذ: إن كان حياً، فله تغطية وجهه، وإن كان ميتاً، لم يجز تغطيةُ وجهه، قاله ابنُ حزم، وهو اللائق بظاهريته.
واحتج المبيحون بأقوال هؤلاء الصحابة، وبأصل الإباحة، وبمفهوم قوله: "ولاَ تُخَمِّرُوا رَأسَه" ، وأجابوا عن قوله: "ولا تُخَمِّروا وجهه"، بأن هذه اللفظة غير محفوظة فيه. قال شعبة: حدثنيه أبو بشر، ثم سألتُه عنه بعد عشر سنين، فجاء بالحديث كما كان، إلا أنه قال: "لا تُخَمِّروا رَأْسَهُ، ولاَ وَجْهَه". قالوا: وهذا يدل على ضعفها. قالوا: وقد روى

فى هذا الحديث: "خَمِّرُوا وَجْهَهُ، وَلا تُخَمِّروا رَأْسَهُ".
الحكم الثانى عشر: بقاءُ الإحرامِ بعد الموت، وأنه لا ينقطِعُ به، وهذا مذهبُ عثمانَ، وعلىٍّ، وابن عباس، وغيرهم رضى الله عنهم، وبه قال أحمدُ، والشافعى، وإسحاق، وقال أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعى: ينقطع الإحرامُ بالموت، ويُصنع به كما يُصنع بالحَلال، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاثٍ".
قالوا: ولا دليلَ فى حديث الذى وقصته راحلتُه، لأنه خاص به، كما قالُوا فى صلاته على النَّجَاشِىِّ: إنها مختصة به.
قال الجمهور: دعوى التخصيص على خلاف الأصلِ، فلا تُقبل، وقوله فى الحديث: "فإنَّه يُبْعَثُ يَوْمَ القِيامَةِ مُلبِّياً"، إشارة إلى العِلَّة. فلو كان مختصاً به، لم يُشر إلى العِلَّة، ولا سيما إن قيل: لا يصح التعليلُ بالعِلَّة القاصرة. وقد قال نظير هذا فى شُهداء أُحُد، فقال: "زَمِّلُوهُمْ فى ثيابهِم، بكُلُوُمهم، فإنَّهُم يُبْعَثُونَ يَومَ القيامَةِ اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّم، والرِّيحُ

رِيحُ المِسْكِ". وهذا غيرُ مختص بهم، وهو نظيرُ قوله: "كَفِّنُوهُ فى ثَوْبيهِ، فإنه يُبعث يوم القيامة مُلَبِّياً". ولم تقولوا: إن هذا خاص بشهداء أُحُد فقط، بل عدَّيتم الحكم إلى سائر الشهداء مع إمكان ما ذكرتم من التخصيص فيه. وما الفرق؟ وشهادة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الموضعين واحدة، وأيضاً: فإن هذا الحديث موافق لأصول الشرع والحكمة التى رتب عليها المعاد، فإن العبد يُبعث على ما مات عليه، ومَن مات على حالة بُعِث عليها فلو لم يرد هذا الحديث، لكان أصول الشرع شاهدة به. والله أعلم.
فصل
عدنا إلى سِياق حَجَّته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلما غربت الشمسُ، واستحكم غروبُها بحيثُ ذهبت الصُّفرة، أفاض من عرفة، وأردف أُسامةَ بنَ زيد خلفه، وأفاض بالسكينة، وضمَّ إليه زِمام ناقتِه، حتى إن رأسَها ليُصِيبُ طَرَفَ رَحْلِهِ وهُو يقول: "أَيُّهَا النَّاسُ ؛ عَلَيْكُم السَّكِينَةَ، فإنَّ البِرَّ لَيْسَ بالإيضَاع" . أى: ليس بالإسراع.
وأفاض من طريق المَأزِمَيْنِ، ودخل عَرَفة من طريق ضَبّ،

وهكذا كانت عادته صلواتُ الله عليه وسلامُه فى الأعيادِ، أن يُخالف الطريق، وقد تقدَّم حكمةُ ذلك عند الكلام على هَدْيه فى العيد.
ثم جعل يسيرُ العَنَقَ، وهو ضربٌ من السَّير ليس بالسَّريعِ، ولا البَطئ. فإذا وجد فَجْوةً وهو المتَّسعُ، نَصَّ سيره، أى: رفعه فوق ذلك، وكلما أتى ربوةً من تلك الرُّبى، أرخى للناقة زِمامها قليلاً حتى تصعد.
وكان يُلبِّى فى مسيره ذلك، لم يقطع التلبيةَ. فلما كان فى أثناء الطريق، نزل صلواتُ اللهِ وسلامه عليه، فبال، وتوضأ وضوءاً خفيفاً، فقال له أسامة: الصلاة يا رَسول الله، فقال: "الصلاة - أو المُصَلَّى - أَمَامَك".
ثم سار حتى أتى المزدلفة، فتوضأ وضوء الصَّلاة، ثم أمر بالأذان، فأذَّن المؤذِّنُ، ثم أقام، فَصَلَّى المغربَ قبل حطِّ الرِّحَال، وتبريكِ الجمال، فلما حطُّوا رِحالهم، أمر فأقيمتِ الصَّلاةُ، ثم صلَّى عِشاء الآخِرة بإقامة بلا أذان، ولم يُصلِّ بينهما شيئاً. وقد رُوى: أنه صلاَّهما بأذانين وإقامتين، ورُوى بإقامتين بلا أذان، والصحيح: أنه صلاهما بأذان وإقامتين، كما فعل بعرفة.
ثم نام حتى أصبح، ولم يُحْى تلك الليلة، ولا صحَّ عنه فى إحياء لَيْلتَى العيدين شئ.

"وأَذِنَ فى تلك الليلة لِضعفةِ أهلِه أن يتقدَّمُوا إلى مِنَى قَبْلَ طُلوعِ الفجر، وكانَ ذلك عِند غيبوبةِ القَمَرِ، وأمرهم أن لا يَرْمُوا الجَمْرَةَ حتى تطلُعَ الشَّمسُ" حديث صحيح صححه الترمذى وغيره.
وأما حديثُ عائشةَ رضى الله عنها: "أرسلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأُمِّ سلمةَ ليلةَ النَّحرِ، فرمَتِ الجمرَة قَبْلَ الفَجْرِ، ثم مَضَت، فأفاضَت، وكان ذلك اليومُ الذى يكونُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تعنى عندها" رواه أبو داود،

فحديث منكر، أنكره الإمام أحمد وغيرُه، ومما يدلُّ على إنكاره أن فيه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرها أن تُوافى صلاةَ الصُّبح يوم النحر بمكة. وفى رواية:
"تُوافيه بمكة"، وكان يومَها، فأحب أن تُوافِيَه، وهذا من المحال قطعاً.
قال الأثرم: قال لى أبو عبد الله: حدثنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن زينب بنتِ أُم سلمة: "أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرها أن تُوافيه يومَ النحر بمكة"، لم يُسنده غيره، وهو خطأ.
وقال وكيع: عن أبيه مرسلاً: "إن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمرها أن تُوافِيَه صلاةَ الصبح يومَ النحر بمكة"، أو نحو هذا، وهذا أعجبُ أيضاً، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم النحر وقت الصُّبح، ما يصنعُ بمكة؟ ينكر ذلك. قال: فجئتُ إلى يحيى بن سعيد، فسألتُه، فقال: عن هشام عن أبيه: "أمرها أن تُوافى" وليس "تُوافيه" قال: وبين ذَيْنِ فرق. قال: وقال لى يحيى: سل عبد الرحمن عنه، فسألته، فقال: هكذا سفيان عن هشام عن أبيه. قال الخلال: سها الأثرم فى حكايته عن وكيع: "تُوافيه"، وإنما قال وكيع: توافى مِنَى. وأصاب فى قوله: "تُوافى" كما قال أصحابه، وأخطأ فى قوله: "مِنَى".
قال الخلال: أنبأنا على بن حرب، حدثنا هارون بن عِمران، عن سليمان ابن أبى داود، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: "أخبرتنى أُم سلمة، قالت: قدَّمنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن قدَّم من أهله لَيلَة المزدلِفَة.

قالت: فرميتُ بليل، ثم مضيتُ إلى مكة، فصليتُ بها الصبح، ثم رجعتُ إلى مِنَى".
قلت: سليمان بن أبى داود هذا: هو الدمشقى الخولانى، ويقال: ابن داود. قال أبو زرعة عن أحمد: رجل من أهل الجزيرة ليس بشئ. وقال عثمان بن سعيد: ضعيف.
قلت: ومما يدل على بطلانه، ما ثبت فى "الصحيحين" عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: "استأذنتْ سَوْدةُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ المزدَلِفَة، أن تَدْفَعَ قَبْلَه، وقَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وكَانَتِ امْرَأة ثَبِطَةً، قالَت: فأَذِنَ لَهَا، فَخَرَجَتْ قَبْلَ دَفْعِهِ، وحُبِسْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا، فَدَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، ولأَنْ أَكُونَ اسْتَأَذَنْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ أَحَبُّ إلىَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ". فهذا الحديث الصحيحُ، يُبيِّن أن نساءه غير سودة، إنما دفعن معه.
فإن قيل: فما تصنعون بحديث عائشة الذى رواه الدارقطنى وغيرُه عنها، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أمر نِساءَه أن يخرُجْنَ مِنْ جَمْع لَيْلَةَ جَمْعٍ، فَيرمِينَ الجمرة، ثم تُصبح فى منزلها، وكانت تصنعُ ذلك حتى ماتت".
قيل: يرده محمد بن حميد أحد رواته، كذَّبَه غيرُ واحد. ويردُّه أيضاً:

حديثُها الذى فى "الصحيحين" وقولها: "وَدِدْتُ أنى كنت استأذنتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما استأذَنْته سودة".
وإن قيل: فَهَبْ أنكم يُمكنكم ردُّ هذا الحديث، فما تصنعونَ بالحديث الذى رواه مسلم فى صحيحه، عن أُم حبيبة، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعث بها مِن جَمْعٍ بليل. قيل: قد ثبت فى
"الصحيحين" أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّم تِلْكَ اللَّيْلَةَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، وكَانَ ابْنُ عبَّاسِ فيمَن قدَّم. وثبت أنه قدَّم سودَة، وثبت أنه حبس نِساءه عنده حتى دفعن بدفعه. وحديثُ أُم حبيبةَ، انفرد به مسلم. فإن كان محفوظاً، فهى إذاً من الضعفة التى قدَّمها.
فإن قيل: فما تصنعون بما رواه الإمامُ أحمد، عن ابن عباس، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بعث به مع أهله إلى مِنَى يَوْمَ النَّحْرِ، فَرَمَوُا الجمرة مع الفجر". قيل: نُقدِّمُ عليه حديثَه الآخر الذى رواه أيضاً الإمامُ أحمد، والترمذى وصححه، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدَّم ضعفةَ أهلِهِ وقال: "لا تَرْمُوا الجَمْرَةَ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسَ". ولفظ أحمد فيه: قَدَّمَنَا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُغَيْلِمَةَ بنى عَبْدِ المُطَّلِبِ عَلَى حُمُرَاتٍ لَنَا مِنْ جَمْعٍ، فَجَعَلَ يَلْطَحُ أَفْخَاذَنَا وَيَقُولُ:
"أَىْ بُنى ؛ لا تَرْمُوا الجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْس". لأنه أصح منه، وفيه نهى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن رمى الجمرة قبل طلوع الشمس، وهو محفوظ بذكر القصة فيه. والحديث الآخر إنما فيه: أنهم رموها

مع الفجر، ثم تأملنا فإذا أنه لا تعارض بَيْنَ هذه الأحاديث، فإنه أمر الصبيان أن لا يرمُوا الجمرة حتى تطلُعَ الشمس، فإنه لا عُذر لهم فى تقديم الرمى، أما مَن قدَّمه من النساء، فرمَيْنَ قبل طلوعِ الشَّمْسِ للعُذر والخوف عليهن من مزاحمة الناس وحَطْمِهِم، وهذا الذى دلت عليه السُّنَّة جواز الرمى قبل طلوع الشمس، للعذر بمرض، أو كِبَرٍ يَشُقُّ عليه مزاحمةُ الناس لأجله، وأما القادِرُ الصحيحُ، فلا يجوز له ذلك.
وفى المسألة ثلاثة مذاهب، أحدها: الجوازُ بعد نصف الليل مطلقاً للقادر والعاجز، كقول الشافعى وأحمد رحمهما الله، والثانى: لا يجوزُ إلا بعد طلوع الفجر، كقول أبى حنيفة رحمه الله، والثالث: لا يجوزُ لأهل القدرة إلا بعدَ طلوعِ الشمس، كقول جماعة من أهل العلم. والذى دلَّت عليه السُّنَّة، إنما هو التعجيلُ بعد غيبوبة القمر، لا نصف الليل، وليسَ مع مَن حدَّه بالنصف دليل.. والله أعلم.
فصل
فلما طلع الفجرُ، صلاَّها فى أول الوقت لا قبلَه قطعاً بأذان وإقامة يومَ النحر، وهو يومُ العيد، وهو يومُ الحجِّ الأكبر، وهو يومُ الأذان ببراءة الله ورسولِه مِن كُلِّ مشرك.
ثم ركِبَ حتى أتى موقِفَه عند المَشْعَرِ الحَرَامِ، فاستقبل القِبْلة، وأخذ فى الدُّعاء والتضرُّع، والتكبير، والتهليلِ، والذِّكرِ، حتى أسفر جدّاً، وذلك قبلَ طُلوع الشمس.
وهنالك سأله عُرْوَةُ بنُ مُضَرِّس الطَّائى، فقال: يا رسُولَ اللهِ ؛ إنِّى

جِئْتُ مِنْ جَبَلَىْ طىِّءٍ، أكْلَلْتُ رَاحِلتى، وأتْعَبْتُ نَفْسِى، وَاللهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ إلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْه، فَهَلْ لِى مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ شَهِدَ صَلاتَنَا هذِهِ وَوَقَفَ مَعَنَا حتَّى نَدْفَعَ وَقَدْ وقَفَ بعَرَفَةَ قَبْلَ ذلِكَ ليلاً أوْ نَهاراً، فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّه، وقَضى تَفَثَه". قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
وبهذا احتج مَن ذهب إلى أن الوقوفَ بمُزدلفَة والمبيتَ بها، ركن كعرفة، وهو مذهبُ اثنين مِن الصحابة، ابنِ عباس، وابن الزُّبير رضى الله عنهما، وإليه ذهب إبراهيمُ النَّخَعى، والشَّعبى، وعلقمة، والحسنُ البصرى، وهو مذهب الأوزاعى، وحماد بن أبى سليمان، وداود الظاهرى، وأبى عُبيد القاسم بن سلاَّم، واختاره المحمَّدان: ابنُ جرير، وابن خُزيمة، وهو أحد الوجوه للشافعية، ولهم ثلاثُ حجج، هذه إحداها، والثانية: قوله تعالى: {فاذْكُرُوا اللهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} [البقرة: 198].
والثالثة: فعلُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذى خرج مخرجَ البيانِ لهذا الذِّكر المأمور به.
واحتجَّ مَن لم يره رُكناً بأمرين، أحدهما: أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدَّ وقتَ الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر، وهذا يقتضى أن مَن وقف بعرفة قبل طلوع الفجر بأيسر زمان، صح حَجُّه، ولو كان الوقوفُ بمزدلفة رُكناً لم يصحَّ حَجُّه.

الثانى: أنه لو كان ركناً، لاشترك فيه الرجالُ والنساءُ، فلما قَدَّمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النساء بالليل، عُلِمَ أنه ليس برُكن، وفى الدليلين نظر، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما قدَّمهن بعد المبيت بمزدلفة، وذكر الله تعالى بها لصلاة عشاء الآخرة، والواجبُ هو ذلك. وأما توقيتُ الوقوف بعرفة إلى الفجر، فلا يُنافى أن يكونَ المبيت بمزدلفة رُكناً، وتكونُ تلك الليلة وقتاً لهما كوقت المجموعتين من الصلواتِ، وتضييق الوقت لأحدهما لا يُخرجه عن أن يكون وقتاً لهما حال القدرة.
فصل
وقف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى موقفه، وأعلم الناس أن مزدلفة كُلَّها موقف، ثم سار مِن مُزْدَلِفَةَ مُرْدِفاً للفضل بن العباس وهو يُلبِّى فى مسيره، وانطلق أُسامةُ بن زيد على رجليه فى سُبَّاقِ قُريش.
وفى طريقه ذلك أمر ابنَ عباس أن يَلْقُطَ له حَصى الجِمار، سبعَ حصياتٍ، ولم يكسرها من الجبل تلك الليلة كما يفعلُ مَن لا عِلم عنده، ولا التقطها بالليل، فالتقط له سبع حصيات مِنْ حَصَى الخَذْفِ، فجعل يَنْفُضُهُنَّ فى كَفِّهِ ويَقُولُ: "بأَمْثَال هؤلاء فارْموا، وإيَّاكُم والغُلُوَّ فى الدِّين، فإنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الغُلُوُّ فى الدِّين".
وفى طريقه تلك، عَرَضَتْ له امرأةٌ مِن خَثْعَمَ جَمِيلةٌ، فسألته عن الحجِّ عَنْ أبيها وَكانَ شَيْخاً كَبِيراً لا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فأَمَرَهَا أَنْ

تَحُجَّ عَنْهُ، وجَعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهَا وتَنْظُرُ إلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَصَرَفَهُ إلَى الشِّقِّ الآخَرِ، وَكَان الفَضْلُ وَسِيماً، فَقِيلَ: صَرَف وجْهَهُ عَنْ نَظَرِهَا إلَيْهِ، وقِيلَ: صَرَفَهُ عَنْ نَظَرِهِ إلَيْهَا، وَالصَّوَابُ: أنَّه فَعَلَهُ للأمْرَين، فإنه فى القِصة جعل يَنْظُرُ إليها وتَنْظُرُ إلَيْه.
وسأله آخرُ هنالك عن أُمِّه، فقال: إنَّها عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، فإن حَمَلْتُها لَمْ تَسْتَمْسِكْ، وإنْ رَبَطْتُها خَشِيتُ أنْ أَقْتُلَها، فَقَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلى أُمِّك دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ"؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَحُجَّ عنْ أُمِّكَ".
فلما أتى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، حَرَّك ناقتَه وأسرع السَير، وهذه كانت

عادتَه فى المواضع التى نزل فيها بأسُ اللهِ بأعدائه، فإن هُنالِكَ أصابَ أصحابَ الفيل ما قصَّ الله علينا، ولذلك سُمِّى ذلك الوادى وادىَ مُحَسِّر، لأن الفيل حَسَرَ فيه، أى: أعيى، وانقطع عن الذهاب إلى مكة، وكذلك فعل فى سُلوكه الحِجْرَ دِيارَ ثمود، فإنه تقنَّع بثوبه، وأسرع السَّيْرَ.
ومُحَسِّر: برزخٌ بين مِنَى وبين مُزدَلِفة، لا مِن هذه، ولا مِن هذه، وعُرَنَةُ: برزخ بين عرفة والمشعرِ الحرام، فبين كُلِّ مشعرين برزخ ليس منهما، فمِنَى: من الحرم، وهى مَشعر، ومُحَسِّر: من الحرم، وليس بمشعر، ومزدلفة: حرم ومشعر، وعُرَنَةُ ليست مَشعراً، وهى من الحل، وعرفة: حِل ومشعر.
وسلك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطريقَ الوُسطى بين الطريقين، وهى التى تخرُج على الجمرة الكُبرى، حتى أتى مِنَى، فأتى جمرة العقبة، فوقف فى أسفلِ الوادى، وجعل البَيْتَ عن يسارِه، ومِنَى عن يمينه، واستقبلَ الجمرةَ وهو على راحلته، فرماها راكباً بعد طلوع الشمس، واحدة بعد واحدة، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حصاةٍ، وحينئذ قطع التلبية.
وكان فى مسيره ذلك يُلَبِّى حتى شرع فى الرمى، ورمى وبلالٌ وأُسامةُ معه، أحدهما آخِذٌ بِخِطام ناقته، والآخر يُظلِّلُه بثوب من الحر.

وفى هذا: دليل على جواز استظلال المُحْرِمِ بالمَحْمِلِ ونحوهِ إن كانت قصة هذا الإظلال يَومَ النَّحر ثابتة، وإن كانت بعده فى أيام مِنَى، فلا حُجَّة فيها، وليس فى الحديث بيانٌ فى أى زمن كانت. والله أعلم.
فصل
ثم رجع إلى مِنَى، فخطب الناسَ خُطبة بليغة أعلمهم فيها بحُرمة يومِ النحر وتحريمه، وفضله عند الله، وحُرمة مكةَ على جميع البلاد، وأمرهم بالسَّمْعِ والطَّاعَةِ لِمَن قَادَهُم بِكِتَابِ اللهِ، وأَمَرَ النَّاسَ بِأخْذِ مَنَاسِكِهِمْ عَنه، وقال: "لَعَلِّى لا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِى هذا".
وعلَّمهُم مناسكهم، وأنزلَ المهاجرين والأنصار منازلَهم، وأمرَ الناسَ أن لا يَرْجعُوا بَعْدَهُ كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُهُم رِقَابَ بَعْضٍ، وَأَمَرَ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، وأَخْبَرَ أَنَّهُ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ.
وقال فى خطبته: "لا يَجْنى جَانٍ إلا على نَفْسِه".
وأنزل المهاجرين عن يمين القِبْلة، والأنصارَ عن يسارها، والناسُ حولهم، وفتح الله له أسماعَ الناس حتى سمعها أهلُ مِنَى فى منازلهم.
وقال فى خطبته تلك: "اعْبُدوا رَبَّكم، وصَلُّوا خَمْسَكُم، وصُومُوا

شَهْرَكُم، وأَطيعُوا ذا أَمْرِكُم، تَدْخُلوا جَنَّة رَبِّكُم".
وودع حينئذ الناس، فقالوا: حَجة الوداع.
وهناك سُئلَ عمن حلق قبل أن يَرمىَ، وعمَّن ذبح قبل أن يَرمىَ، فقال: "لا حَرَجَ" قال عبدُ اللهِ بن عمرو: "ما رأيتُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئِلَ يومئذٍ عن شئ إلا قال: "افْعَلُوا وَلاَ حَرَجَ".
قال ابن عباس: "إنه قيل له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فى الذبح، والحلق، والرمى، والتقديم، والتأخير، فقال: "لا حَرَجَ".
وقال أُسامة بنُ شريك: "خرجتُ مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاجاً، وكان الناسُ

يأتونه، فَمِنْ قَائِل: يا رسولَ الله سعيتُ قبل أن أطوفَ، أو قدَّمت شيئاً أو أخرَّتُ شيئاً، فكان يقول: "لاَ حَرَجَ لاَ حَرَجَ إلا على رَجُلٍ اقترضَ عِرْضَ رَجُلٍ مُسْلِم وهُوَ ظَالِمٌ، فذِلكَ الذى حَرِجَ وهَلَكَ".
وقوله: سعيتُ قبل أن أطوف، فى هذا الحديث ليس بمحفوظ. والمحفوظ: تقديم الرمى، والنحر، والحلق بعضها على بعض.
ثم انصرف إلى المَنْحَرِ بمِنَى، فنحر ثلاثاً وستين بَدَنَة بيده، وكان ينحرُها قائِمةً، معقولةً يدُها اليُسرى. وكان عددُ هذا الذى نحره عددَ سِنى عمره، ثم أمسك وأمر علياً أن يَنْحَرَ ما غبر من المائة، ثم أمر علياً رضى الله عنه، أن يتصدقَ بِجلالِها ولُحومِها وجُلودِها فى المساكين، وأمره أن لا يُعِطىَ الجَزَّار فى جِزَارتِها، شيئاً منها، وقال: نَحْنُ تُعْطِيهِ مِن عِنْدِنَا، وقَالَ: "مَنْ شاءَ اقْتَطَعَ".
فإن قيل: فكيف تصنعون بالحديثِ الذى فى "الصحيحي" عن أنس رضى الله عنه، قال: "صلَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظهرَ بالمدينة أربعاً، والعصرَ بذى الحُليفة ركعتين، فباتَ بها، فلما أصبحَ، رَكِبَ راحِلته، فجعل يُهَلِّلُ ويُسَبِّحُ، فلما عَلاَ عَلَى البيداء، لبَّى بِهِمَا جَمِيعاً، فلما دَخَلَ مَكَّةَ،

أَمَرَهُم أَن يَحِلُّوا، ونَحَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنِ قِياماً، وضَحَّى بِالمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْن". فالجواب: أنه لا تعارض بين الحديثين.
قال أبو محمد بنُ حزم: مخرج حديث أنس، على أحد وجوهٍ ثلاثةٍ.
أحدها: أنه صلَّى الله عليه وسلم لم ينحر بِيده أكثرَ مِن سبع بُدن، كما قال أنس، وأنه أمر مَن ينحرُ ما بعد ذلك إلى تمام ثلاث وستين، ثم زال عن ذلك المكانِ، وأمر علياً رضى الله عنه، فنحرَ ما بقى.
الثانى: أن يكون أنس لم يُشاهد إلا نحره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعاً فقط بيده، وشاهد جابر تمامَ نحره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للباقى، فأخبر كُلٌ منهما بما رأى وشاهد.
الثالث: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحر بيده منفرداً سبع بُدن كما قال أنس، ثم أخذ هو وعلىّ الحربة معاً، فنحرا كذلك تمام ثلاث وستين، كما قال غَرَفَةُ بن الحارث الكِندى: "أنه شاهد النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ قد أخذ بأعلى الحَرْبَةِ وأمر علياً فأخذ بأسفلها، ونحرا بها البدن ثم انفرد علىٌّ بنحر الباقى من المائة"، كما قال جابر. والله أعلم.
فإن قيل: فكيف تصنعون بالحديثِ الذى رواه الإمامُ أحمد، وأبو داود عن علىّ قال: "لما نَحَرَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدْنَه، فنحر ثلاثِينَ بِيَدِهِ، وأمرنى فنحرتُ سَائِرَها".

قلنا: هذا غلطٌ انقلب على الراوى، فإن الذى نحرَ ثلاثين: هو علىّ، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحر سبعاً بيده لم يُشاهده علىّ، ولا جابر، ثم نحر ثلاثاً وستين أخرى، فبقى من المائة ثلاثون، فنحرها علىّ، فانقلب على الراوى عددُ ما نحره علىّ بما نحره النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإن قيل: فما تصنعون بحديث عبد الله بن قُرْطٍ، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "إنَّ أعْظَمَ الأيَّامِ عِنْدَ اللهِ يَوْمُ النَّحر، ثُمَّ يَوْمُ القَرِّ". وهو اليومُ الثانى. قال: وقُرِّبَ لِرسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَنَاتٌ خَمْسٌ فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْن إلَيْهِ بأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ؟ فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُها قَالَ: فَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ خَفِيَّةٍ لَمْ أَفْهَمْهَا، فَقُلْتُ: مَا قَالَ؟ قال: "مَنْ شَاءَ اقْتَطَع َ".
قيل: نقبله ونصدِّقه، فإن المائة لم تُقَرَّبْ إليه جُملة، وإنما كانت تُقرَّب إليه أرْسَالاً، فقُرِّبَ منهن إليه خمسُ بَدَنَات رَسَلاً، وكان ذلك الرَّسَلُ يُبَادِرْنَ ويَتَقَرَّبْنَ إلَيْهِ لِيبدَأ بكُلِّ واحدة منهن.
فإن قيل: فما تصنعون بالحديث الذى فى "الصحيحين"، من حديث أبى بكرةَ فى خُطبة النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ النحرِ بمِنَى، وقال فى آخره: "ثُمَّ انْكَفَأَ إلى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا، وإلى جُزَيْعَةٍ مِنَ الغَنَمِ فقسمها بَيْنَنَا " لفظه لمسلم.

ففى هذا، أن ذبح الكبشينِ كان بمكة، وفى حديث أنس، أنه كان بالمدينة.
قيل: فى هذا طريقتانِ للناس.
إحداهما: أن القول: قولُ أنس، وأنه ضحَّى بالمدينة بكبشين أملحين أقرنين، وأنه صلَّى العيد، ثم انكفأ إلى كبشينِ، ففصَّل أنس، وميَّز بين نحرِه بمكة للبُدن، وبين نحره بالمدينة للكبشين، وبيَّن أنهما قِصتان، ويدل على هذا أن جميعَ مَن ذكر نحر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمِنَى، إنما ذكروا أنه نَحَرَ الإبِلَ، وهو الهَدْىُ الذى ساقه، وهو أفضلُ من نحر الغنم هناك بلا سوق، وجابر قد قال فى صفة حَجَّة الوداع: إنه رجع من الرمى فنحر البُدن، وإنما اشتبه على بعض الرواة، أن قصة الكبشين كانت يومَ عيد، فظن أنه كان بمِنَى فوهِم.
الطريقة الثانية: طريقة ابن حزم، ومَن سلك مسلكه. أنهما عملانِ متغايِرَانِ، وحديثان صحيحان، فذكر أبو بكرة تضحيَته بمكة، وأنس تضحيتَه بالمدينة. قال: وذبح يومَ النحر الغنَم، ونحر البقرَ والإبلَ، كما قالت عائشة: ضحَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عن أزواجه بالبقر، وهو فى "الصحيحين".
وفى "صحيح مسلم": "ذبحَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عائشة بقرةً يَوْمَ النحر".
وفى السنن: "أنَّه نحرَ عَنْ آلِ محمَّدٍ فى حَجَّةِ الوَدَاعِ بقرةً واحِدَة".

ومذهبُه: أن الحاجَّ شُرِعَ له التضحيةُ مع الهَدْى، والصحيحُ إن شاء الله: الطريقةُ الأولى، وهَدْى الحاج له بمنزلة الأُضحية للمقيم، ولم يَنْقُلْ أحدٌ أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أصحابَه، جمعوا بين الهَدْىِ والأُضحية، بل كان هَدْيهُم هو أضاحيهم، فهو هَدْى بمِنَى، وأُضحيةٌ بغيرها.
وأما قول عائشة: "ضحَّى عن نِسائه بالبقر"، فهو هَدْى أُطْلِقَ عليه اسمُ الأُضحية، وأنهن كُنَّ متمتعاتٍ، وعليهن الهَدْىُ، فالبقرُ الذى نحره عنهن هو الهَدْىُ الذى يلزمُهن.
ولكن فى قصة نحر البقرة عنهن وهن تسع: إشكال، وهو إجزاء البقرة عن أكثر من سبعة.
وأجاب أبو محمد بن حزم عنه، بجواب على أصله، وهو أن عائشة لم تكن معهن فى ذلك، فإنها كانت قارنة وهُنَّ متمتعاتٌ، وعنده لا هَدْىَ على القارِن، وأيَّدَ قوله بالحديث الذى رواه مسلم من حديث هِشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة: "خرجنا مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوافين لهِلال ذى الحِجَّةِ، فكنتُ فيمن أهلَّ بِعُمرة، فخرجنا حتى قَدِمنَا مكَّةَ، فأدركنى يومُ عرفة وأنا حائضٌ لم أَحِلَّ من عُمرتى، فشكوتُ ذلك إلى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "دعى عُمْرَتَك وانْقُضى رَأسَكِ، وامْتَشِطى، وأهلِّى بالحَجِّ". "قالت: ففعلتُ، فلما كانت ليلةُ الحَصْبَةِ وقد قضى الله حَجَّنا، أرسلَ معى عبد الرحمن بن أبى بكر، فأردَفنى، وخرج إلى

التَّنعِيم، فأهللتُ بعُمرة، فقضى الله حَجَّنَا وعُمرتنا، ولم يكن فى ذلك هَدْى ولا صَدقةٌ ولا صَوْمٌ".
وهذا مسلك فاسد تفرَّد به ابن حزم عن الناس. والذى عليه الصحابةُ، والتابعون ومَن بعدهم أن القارِن يلزمه الهَدْىُ، كما يلزم المتمتِّع، بل هو متمتع حقيقة فى لسان الصحابة كما تقدَّم، وأما هذا الحديثُ، فالصحيح: أن هذا الكلامَ الأخيرَ من قول هشام بن عروة، جاء ذلك فى صحيح مسلم مصرحا به، فقال: حدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع، حدثنا هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها... فذكرت الحديث. وفى آخره: قال عروة فى ذلك: "إنه قَضَى اللهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتها. قال هشام: ولم يكن فى ذلك هَدْىٌ، ولا صِيام، ولا صدقة".
قال أبو محمد: إن كان وكيع جعل هذا الكلامَ لهشام، فابنُ نمير، وعبدة أدخلاه فى كلام عائشة، وكُلٌّ منهما ثقة، فوكيع نسبه إلى هشام، لأنه سمع هشاماً يقوله، وليس قولُ هشام إياه بدافع أن تكون عائشةُ قالته، فقد يَروى المرءُ حديثاً يُسنده، ثم يُفتى به دون أن يُسنده، فليس شئ من هذا بمتدافع، وإنما يتعلَّل بمثلِ هذا مَن لا يُنْصِفُ، ومَن اتبع هواه، والصحيح من ذلك: أن كُلَّ ثقة فمصدَّق فيما نقل. فإذا أضاف عبدة وابنُ نمير القولَ إلى عائشة، صُدِّقَا لعدالتهما، وإذا أضافه وكيع إلى هِشام، صُدِّقَ أيضاً لعدالته، وكُلٌ صحيح، وتكون عائشة قالته، وهشام قاله.
قلت: هذه الطريقةُ هى اللائقةُ بظاهريته، وظاهرية أمثاله ممن لا فِقه له

فى عِلل الأحاديث، كفقه الأئمة النُّقَّاد أطباء علله، وأهل العناية بها، وهؤلاء لا يلتفِتُون إلى قول مَن خالفهم ممن ليس له ذوقُهم ومعرفتُهم بل يقطعون بخطئه بمنزلة الصَّيارِفِ النُّقَّاد، الذين يُميزون بين الجيِّدِ والردئ، ولا يلتفِتُون إلى خطإ مَن لم يعرِف ذلك.
ومن المعلوم، أن عبدة وابن نمير لم يقولا فى هذا الكلام: قالت عائشة، وإنما أدرجاه فى الحديث إدراجاً، يحتملِ أن يكون من كلامهما، أو من كلام عُروة، أو من هشام، فجاء وكيع، ففصَّل وميَّز، ومَن فصَّل وميَّز، فقد حفظ وأتقن ما أطلقه غيره، نعم لو قال ابنُ نمير وعبدة: قالت عائشةُ، وقال وكيع: قال هشامٌ، لساغ ما قال أبو محمد، وكان موضِعَ نظر وترجيح.
وأما كونهن تسعاً وهى بقرة واحدة، فهذا قد جاء بثلاثة ألفاظ، أحدها: أنها بقرة واحدة بينهن، والثانى: أنه ضحَّى عنهن يومئذ بالبقر، والثالث: دخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلتُ: ما هذا؟ فقيل: ذبح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أزواجه.
وقد اختلف الناسُ فى عدد مَن تُجزئ عنهم البَدَنَة والبقرة، فقيل: سبعة وهو قولُ الشافعى، وأحمد فى المشهور عنه، وقيل: عشرة، وهو قول إسحاق. وقد ثبت أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَسَمَ بينهم المغانِم، فَعَدَلَ الجَزُورَ بِعَشْرِ شِيَاهٍ. وثَبت هذا الحديثُ، أنه - صلَّى الله عليه وسلم - ضحَّى عن نسائه وهن تِسع ببقرة.
وقد روى سفيانُ، عن أبى الزُّبير، عن جابر، "أنهم نحرُوا البَدَنَةَ

فى حَجِّهم مع رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عشرةٍ"، وهو على شرط مسلم ولم يخرجه، وإنما أخرج قوله: "خرجنا مع رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهلِّينَ بالحجِّ معنا النساءُ والوِلدانُ، فلما قَدِمنا مكة، طُفنا بالبيتِ وبالصَّفا والمروة، وأَمَرَنَا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَ نشترِك فى الإبلِ والبقرِ كُلُّ سبعةٍ منا فى بَدَنة".
وفى "المسند": من حديث ابن عباس: "كنَّا مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سفر، فحضَرَ الأضحى، فاشتركْنَا فى البقرةِ سَبْعَةً، وفى الجَزُورِ عشرة". ورواه النِّسائى والترمذى، وقال: حسن غريب.
وفى "الصحيحين" عنه: "نحرنَا مع رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَ الحُدَيْبِيَةِ، البَدَنَةَ عن سبعة، والبقرةَ عن سبعة".
وقال حذيفةُ: "شَرَّكَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجته بين المسلمين، فى البقرة عن سبعة". ذكره الإمامُ أحمد رحمه الله.
وهذه الأحاديث، تُخَرَّجُ على أحد وجوه ثلاثة، إما أن يُقالِ: أحاديثُ السبعة أكثرُ وأَصَحُّ، وإما أن يُقال: عَدْلُ البعيرِ بعشرة مِن الغنم، تقويمٌ فى الغنائم لأجل تعديلِ القِسمة، وأما كونُه عن سبعة فى الهدايا، فهو تقديرٌ شرعى، وإما أن يُقال: إن ذلك يختلِفُ باختلاف

الأزمِنة، والأمكِنة، والإبل، ففى بعضِها كان البعيرُ يَعْدِلُ عشر شياه، فجعله عن عشرة، وفى بعضها يَعْدِلُ سبعة، فجعله عن سبعة. والله أعلم.
وقد قال أبو محمد: إنه ذبح عن نسائه بقرةً للهَدْى، وضحَّى عنهن ببقرة، وضحَّى عن نفسه بكبشين، ونحر عن نفسه ثلاثاً وستين هَدْياً، وقد عرفتَ ما فى ذلك من الوهم، ولم تكن بقرة الضَّحِية غيرَ بقرة الهَدْى، بل هى هى، وهَدْىُ الحاجِّ بمنزلة ضحية الآفاقى.
فصل
ونحر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْحَرِهِ بمِنَى، وأعلمهم
"أن مِنَى كُلَّها مَنْحَرٌ، وأَنَّ فِجاجَ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ" وفى هذا دليلٌ على أن النحرَ لا يختصُّ بمِنَى، بل حيث نحر من فجاج مكة أجزأه، كما أنه لمَّا وقف بعرفة قال: "وَقَفْتُ هاهنا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ". ووقَفَ بمزدَلِفَة، وقال: "وَقَفْتُ هاهنا وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ" وسُئل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُبنى له بمِنَى بِنَاءٌ يُظِلُّه مِنَ الحَرِّ، فَقَال: "لاَ، مِنَى مُنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ"

وفى هذا دليل على اشتراك المسلمين فيها، وأن مَن سبق إلى مكان منها فهو أحقُّ به حتى يرتَحِلَ عنه، ولا يَمْلِكُه بذلك
فصل
فلما أكملَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحره، استدعى بالحلاَّق، فحلق رأسه، فَقَالَ لِلحلاَّق - وهو مَعْمر بن عبد الله وهو قائم على رأسه بالموسى ونَظَر فى وَجْهِهِ- وقَالَ: "يَا مَعْمَرُ ؛ أَمْكَنَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَفى يَدِكَ المُوسَى" فَقَالَ معمر: أمَا والله يا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّ ذلك لَمِنْ نِعْمَةِ اللهِ عَلَىَّ ومَنِّهِ، قَالَ: "أَجَلْ إذاً أَقَرُّ لَكَ" ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله.
وقال البخاري في "صحيحه": وزعموا أن الذي حَلَقَ لِلنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، معمر بن عبد الله بن نضلة بن عوف... انتهى، فقال للحلاق: "خُذْ، وأَشَارَ إلى جَانِبِه الأَيْمَنِ، فَلما فَرَغَ مِنْه، قَسَمَ شَعْرَهُ بَيْنَ مَنْ يَلِيه، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الحَلاَّق، فَحَلَقَ جَانِبهُ الأيْسَر، ثُّمَّ قالَ: هاهنا أبو طلحة؟ فدفعه إليه"، هكذا وقع في صحيح مسلم.
وفى صحيح البخاري: عن ابن سيرين، عن أنس: "أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما حلق رأسه، كان أبو طلحة أول مَن أخذ من شعره".

وهذا لا يُناقِضُ روايةِ مسلم، لِجواز أن يُصيب أبا طلحة مِن الشِّقِّ الأيمنِ، مثلُ ما أصاب غيرَه، ويختصُّ بالشِّقِ الأيسرِ، لكن قد روى مسلم في "صحيحه" أيضاً من حديث أنس، قال: "لما رَمَى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجمرَة ونحرَ نُسُكَه، وحلَقَ، ناولَ الحَلاَّقَ شِقَّه الأَيْمَنَ فحلقه، ثم دعا أبا طلحةَ الأنصاريَّ، فأعطاه إياه، ثم ناوله الشِّقَّ الأيْسَرَ، فقال: "احْلِقْ" فحلقه، فأعطاه أبا طلحة، فقال: "اقسمه بين الناس".ففي هذه الرواية، كما تري أن نصيب أبى طلحة كان الشِّقَّ الأيمنَ، وفى الأولى: أنه كان الأيسر. قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي، رواه مسلم مِن رواية حفص بن غياث، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس: "أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دفع إلى أبى طلحة شَعْرَ شِقِّه الأَيْسَرِ"، ورواه من رواية سفيان بن عيينة، عن هشام بن حسان، "أنه دفع إلى أبى طلحة شعر شقِّه الأيمن". قال: ورواية ابن عَون، عن ابن سيرين أراها تُقوِّى رواية سفيان.. والله أعلم.
قلت: يريدُ برواية ابن عون، ما ذكرناه عن ابن سيرين، من طريق البخاري، وجعل الذي سبق إليه أبو طلحة، هو الشِّقَّ الذي اختص به. والله أعلم.
والذي يقْوَى أن نصيبَ أبى طلحة الذي اختص به كان الشِّقَّ الأَيْسَرَ، وأَنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمَّ، ثمَّ خَصَّ، وهذه كانت سُنَّته في عطائه، وعلى هذا أكثرُ الرواياتِ، فإن في بعضِها أنه قال للحلاقِ: "خُذْ" وأشَارَ إلى جَانِبِه الأَيْمَنِ، فقسم شعره بَيْنَ مَنْ يليه، ثم أشار إلى الحلاَّق إلى الجانِبِ الأيسر، فحلقه فأعطاه أُمَّ سُليمٍ، ولا يُعارض هذا دفعُه إلى أبى طلحة، فإنها امرأتُه.

وفى لفظ آخر: فبدأ بالشِّقِّ الأيمن، فوزَّعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال: بالأيسر. فصنع به مثلَ ذلك، ثم قال: هاهنا أبو طلحة؟ فدفعه إليه.
وفى لفظ ثالث: دفع إلى أبى طلحة شَعْرَ شِقِّ رأْسه الأيسر، ثم قلَّم أظفاره وقسمها بين الناس، وذكر الإمام أحمد رحمه الله، من حديث محمد بن عبد الله بن زيد، أن أباه حدَّثه، "أنه شَهِدَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند المنحر، ورجُلٌ من قريش وهو يَقْسِمُ أضاحِيَ، فلم يُصِبْهُ شئٌ ولا صاحبه، فحلق رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسَه في ثوبه، فأعطاه، فقسم منه على رجالٍ، وقلَّم أظفاره فأعطاه صاحبه، قال: فإنَّه عِنْدَنا مخضوب بالحِنَّاء والكَتَم، يعني شعرَه".
ودعا للمحَلِّقِينَ بالمغْفِرَةِ ثَلاثاً، وَلِلمُقَصِّرِين مَرَّةً، وحلق كثيرٌ من الصحابة، بل أكثرُهم، وقصَّر بعضُهم، وهذا مع قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]، ومع قول عائشة رضى الله عنها: "طيَّبتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإحرامه قبل أن يُحْرِمَ، ولإحلاله قَبْلَ أن يَحلَّ"، دليل على أن الحلق نُسُكٌ وليس بإطلاق من محظور
فصل
ثم أفاض صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة قبل الظهر راكباً، فطاف طوافَ الإفَاضَةِ، وهو طوافُ الزِّيَارةِ، وهو طَوافُ الصَّدَر، ولم يطُفْ غيَره، ولم يسع

معه، هذا هو الصوابُ، وقد خالف في ذلك ثلاثُ طوائف: طائفة زعمت أنه طاف طوافين، طوافاً للقُدوم سوى طواف الإفاضة، ثم طاف للإفاضة، وطائفة زعمت أنه سعى مع هذا الطوافِ لكونه كان قارناً، وطائفة زعمت أنه لم يَطُفْ في ذلك اليوم، وإنما أخَّر طوافَ الزيارة إلى الليل، فنذكُرُ الصَّوابَ في ذلك، ونبين منشأ الغلط وبالله التوفيق.
قال الأثرم: قلتُ لأبى عبد الله: فإذا رَجَعَ - أعنى المتمتعَ - كم يطوفُ ويسعى؟ قال: يطوفُ ويسعى لحجه، ويطوف طوافاً آخر للزيارة، عاودناه في هذا غير مرة، فثبت عليه.
قال الشيخ أبو محمد المقدسي في "المغني": وكذلك الحكمُ في القارن والمفرِد إذا لم يكونا أتيا مكة قبلَ يومِ النَّحرِ، ولا طافا للقدوم، فإنّهما يبدآن بطواف القُدوم قبل طواف الزيارة، نص عليه أحمد رحمه الله، واحتجَّ بما روت عائشةُ رضى الله عنها، قالت: "فطاف الذينَ أهلُّوا بالعُمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلُّوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا مِن مِنىً لحَجِّهم، وأما الذين جَمَعُوا الحجَّ والعُمرَة، فإنما طافُوا طوافاً واحداً"، فحمل أحمدُ رحمه الله قولَ عائشة، على أن طوافَهم لحجهم هو طوافُ القدوم، قال: ولأنه قد ثبت أن طوافَ القدوم مشروع، فلم يكن طواف الزيارة مسقطاً له، كتحية المسجد عند دخوله قبل التلبُّس بالصلاة المفروضة.
وقال الخرقي في "مختصره": وإن كان متمتعاً، فيطوف بالبيت سبعاً وبِالصَّفا والمروة سبعاً كما فعل للعُمرة، ثم يعود فيطوف بالبيت طوافاً ينوى به الزيارة، وهو قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ} [الحج: 29]، فمن قال: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان متمتعاً كالقاضي وأصحابه عندهم، هكَذا فعلَ، والشيخ أبو محمد عنده، أنه كان متمتعاً التمتعَ الخاص، ولكن

لم يفعل هذا، قال: ولا أعلم أحداً وافق أبا عبد الله على هذا الطواف الذي ذكره الخرقي، بل المشروعُ طواف واحد للزيارة، كمن دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة، فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد، ولأنه لم يُنْقَلْ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة الوداع، ولا أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به أحداً، قال: وحديث عائشة دليل على هذا، فإنها قالت: "طافوا طوافاً واحداً بعد أن رجعوا مِن مِنَى لحجهم" وهذا هو طواف الزيارة، ولم تذكر طوافاً آخر. ولو كان هذا الذي ذكرته طوافَ القُدوم، لكانت قد أخلَّت بذكر طواف الزيارة الذي هو ركنُ الحج الذي لا يَتِمُّ إلا به، وذكرت ما يُستغنى عنه، وعلى كل حال، فما ذكرت إلا طوافاً واحداً، فمن أين يُستدل به على طوافين؟
وأيضاً.. فإنها لما حاضت، فقرنت الحجَّ إلى العُمرة بأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ولم تكن طافت للقدوم لم تطف للقدوم، ولا أمرها به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأن طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف الواجب، لَشُرِعَ في حقِّ المعتمر طوافُ القدوم مع طواف العُمرة، لأنه أوَّل قدومه إلى البيت، فهو به أولى من المتمتع الذي يَعُودُ إلى البيت بعد رؤيته وطوافه به... انتهى كلامه.
قلت: لم يرفع كلامُ أبي محمد الإشكال، وإن كان الذي أنكره هو الحق كما أنكره، والصوابُ في إنكاره، فإن أحداً لم يقل: إن الصحابة لما رجعوا مِن عرفة، طافوا للقدوم وسَعَوْا، ثم طافُوا للإفاضة بعده، ولا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا لم يقع قطعاً، ولكن كان منشأ الإشكال، أن أمَّ المؤمنين فرَّقت بين المتمتِّع والقارِن، فأخبرت أن القارِنين طافوا بعد أن رجعوا من مِنَى طوافاً واحداً، وأن الذين أهلُّوا بالعُمرة طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا مِن مِنَى لحجِّهم، وهذا غيرُ طواف الزيارة قطعاً،

فإنه يشترِك فيه القارنُ والمتمتع، فلا فرق بينهما فيه، ولكِنَّ الشيخ أبا محمد، لما رأى قولَها في المتمتعين: إنهم طافُوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا مِن مِنَى، قال: ليس في هذا ما يدل على أنهم طافوا طوافين، والذي قاله حق، ولكن لم يرفع الإشكال، فقالت طائفة: هذه الزيادة من كلام عروة أو ابنه هشام، أُدرِجت في الحديث، وهذا لا يتبين، ولو كان، فغايته أنه مرسل ولم يرتفع الإشكال عنه بالإرسال. فالصواب: أن الطواف الذي أخبرت به عائشة، وفرَّقت به بين المتمتع والقارن، هو الطواف بين الصفا والمروة، لا الطواف بالبيت، وزال الإشكال جملة، فأخبرت عن القارنين أنهم اكتفوا بطواف واحد بينهما، لم يُضيفوا إليه طوافاً آخر يَوم النحر، وهذا هو الحقُّ، وأخبرت عن المتمتعين، أنهم طافوا بينهما طوافاً آخر بعد الرجوع مِن مِنَى للحج، وذلك الأول كان للعمرة، وهذا قولُ الجمهور، وتنزيل الحديثِ على هذا، موافق لحديثها الآخر، وهو قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَسَعُكِ طَوافُكِ بِالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ "، وكانت قارنة، ويوافق قول الجمهور.
ولكن يُشكِلُ عليه حديث جابرٍ الذي رواه مسلم في "صحيحه": لم يطف النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم ولا أصحابه بين الصَّفا والمروة إلا طوافاً واحداً، طوافَه الأول. هذا يوافق قول مَن يقول: يكفى المتمتع سعىٌ واحد كما هو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله، نص عليها في رواية ابنه عبد الله وغيره، وعلى هذا، فيقال: عائشة أثبتت، وجابر نفى، والمثبِت مُقدَّم على النافي، أو يقال: مراد جابر مَن قرن مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وساق الهَدْي، كأبي بكرٍ وعمر وطلحة وعلي رضى الله عنهم، وذوي اليسار، فإنهم إنما سَعَوْا سعياً واحداً. وليس المراد به عموم

الصحابة، أو يعلَّلُ حديث عائشة، بأن تلك الزيادة فيه مدرجة من قول هشام وهذه ثلاثة طرق للناس في حديثها.. والله أعلم.
وأما مَن قال: المتمتع يطوفُ ويسعى للقدوم بعد إحرامه بالحجِّ قبل خروجه إلى مِنَى، وهو قولُ أصحاب الشافعي، ولا أدرى أهُوَ منصوصٌ عنه أم لا؟ قال أبو محمد: فهذا لم يفعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أحد من الصحابة البتة، ولا أمرهم به، ولا نقله أحد، قال ابن عباس: لا أرى لأهل مكَّة أن يطُوفوا، ولا أن يَسْعوا بين الصَّفا والمروةِ بعد إحرامهم بالحجِّ حتى يَرْجِعُوا من مِنَى. وعلى قول ابن عباس: قول الجمهور، ومالك، وأحمد، وأبى حنيفة، وإسحاق، وغيرهم.
والذين استحبُّوه، قالوا: لما أحرم بالحج، صار كالقادم، فيطوفُ ويسعى للقُدوم. قالوا: ولأن الطواف الأولَ وقع عن العُمرة، فيبقى طوافُ القدوم، ولم يأت به. فاستُحِبَّ له فِعْلُه عقيبَ الإحرامِ بالحجِّ، وهاتان الحُجَّتانِ واهيتانِ، فإنه إنما كان قارناً لما طاف لِلعُمرة، فكان طوافُه للعُمرة مغنياً عن طواف القدوم، كمن دخل المسجد، فرأى الصلاة قائمة، فدخل فيها، فقامت مقامَ تَحية المسجد، وأغنته عنها.

وأيضاً فإن الصحابة لما أحرموا بالحَجِّ مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يطُوفوا عقيبَه، وكان أكثرهم متمتعاً. وروى محمد بن الحسن، عن أبى حنيفة، أنه إن أحرم يومَ التروية قبل الزوال، طاف وسعى للقدوم، وإن أحرم بعد الزوال، لم يَطُفْ، وفَرَّق بين الوقتين، بأنه بعد الزوال يخرج من فوره إلى مِنَى، فلا يشتغِل عن الخروج بغيره، وقبل الزوال لا يخرج فيطوف، وقولُ ابن عباس والجمهور هو الصحيح الموافق لعمل الصحابة، وبالله التوفيق.
فصل
والطائفة الثانية قالت: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعَى مع هذا الطواف وقالوا: هذا حُجَّة في أن القارن يحتاج إلى سعيينِ، كما يحتاج إلى طوافينِ، وهذا غلطٌ عليه كما تقدم، والصواب: أنه لم يَسْعَ إلا سعيَه الأول، كما قالته عائشةُ، وجابر، ولم يَصِحَّ عنه في السعيين حرفٌ واحد، بل كلُّها باطلة كما تقدَّم، فعليك بمراجعته.
فصل
والطائفة الثالثة: الذين قالوا: أخَّرَ طوافَ الزيارة إلى الليل، وهم طاووس، ومجاهد، وعروة، ففي سنن أبى داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث أبى الزبير المكي، عن عائشة وابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخَّرَ طوافَه يومَ النحر إلى الليل. وفى لفظ: طوافَ الزِّيارة، قال الترمذي:

حديث حسن.
وهذا الحديث غلطٌ بيِّن خلاف المعلوم من فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي لا يَشُكُّ فيه أهلُ العلم بحَجَّته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنحنُ نذكر كلامَ الناسِ فيه، قال الترمذي في كتاب "العلل" له: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، وقلت له: أَسَمعَ أبو الزبير من عائشة وابن عباس؟ قال: أمَّا مِن ابن عباس، فنعم، وفى سماعه من عائشة نظر. وقال أبو الحسن القطان: عندي أن هذا الحديث ليس بصحيح، إنما طاف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ نهاراً، وإنما اختلفُوا: هل صلَّى الظهر بمكة أو رجع إلى مِنَى، فصلَّى الظهرَ بها بعد أن فرغ من طوافه؟ فابنُ عمر يقولُ: إنه رجع إلى مِنَى، فصلَّى الظهرَ بها، وجابرٌ يقول: إنه صلَّى الظهر بمكة، وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية: "أبى الزبير" هذه التي فيها أنه أخَّر الطوافَ إلى الليل، وهذا شئ لم يُروَ إلا من هذا الطريق، وأبو الزبير مدلس لم يذكر هاهنا سماعاً من عائشة، وقد عهد أنه يروى عنها بواسطة، ولا عن ابن عباس أيضاً، فقد عُهِدَ كذلك أنه يروي عنه بواسطة، وإن كان قد سمع منه، فيجب التوقُّفُ فيما يرويه أبو الزبير عن عائشة وابن عباس مما لا يَذْكُرُ فيه سماعَه منهما، لِما عُرِفَ به من التدليس، لو عُرِفَ سماعُه منها لِغير هذا، فأمَّا ولم يَصِحَّ لنا أنه سمع من عائشة، فالأمر بيِّن في وجوب التوقف فيه، وإنما يختلِف العلماء في قبول حديث المدلِّس إذا كان عمن قد علم لِقاؤه

له وسماعُه منه. هاهنا يقول قوم: يُقبل، ويقول آخرون: يُرد ما يُعنعِنُه عنهم حتى يتبيَّن الاتصالُ في حديث حديث، وأما ما يُعَنْعِنُه المدلِّسُ، عمن لم يُعلم لِقاؤه له ولا سماعُه منه، فلا أعلم الخلافَ فيه بأنه لا يُقبل. ولو كنا نقول بقول مسلم: بأن مُعَنْعَن المتعاصِرَيْنِ محمولٌ على الاتصال ولو لم يُعلم التقاؤهما، فإنما ذلك في غير المدلِّسين، وأيضاً فلما قدمناه مِن صحة طواف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ نهاراً، والخلاف في رد حديث المدلِّسين حتى يُعلم اتصالُه، أو قبوله حتَّى يعلم انقطاعه، إنما هو إذا لم يُعارضه ما لا شكَّ في صحته وهذا قد عارضه ما لا شك في صحته... انتهى كلامه.
ويدل على غلط أبى الزُّبيرِ على عائشة، أن أبا سلمة بنَ عبد الرحمن روى عن عائشة، أنَّها قالت: حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ. وروى محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أذن لأصحابه فزاروا البيت يوم النحر ظهيرة، وزار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع نسائه ليلاً، وهذا غلط أيضاً.
قال البيهقي: وأصحُّ هذه الرواياتِ حديثُ نافع عن ابن عمر، وحديثُ جابر، وحديثُ أبى سلمة عن عائشة، يعنى: أنه طاف نهاراً.
قلتُ: إنما نشأ الغلطُ مِن تسمية الطوافِ، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخَّرَ طوافَ الوَدَاع إلى الليل، كما ثبت في "الصحيحين" من حديث عائشة. قالت: خرجنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت الحديث، إلى أن قالت: فَنَزَلْنَا المُحَصَّبَ،

فدعا عَبْدَ الرحمن بنَ أبى بكر، فقال: "اخْرُجْ بأخْتِكَ مِنَ الحَرَمِ، ثم افْرُغَا مِن طَوَافِكُما، ثم ائتياني هاهنا بالمُحَصَّبِ" قالت: فَقَضَى الله العُمرة، وفرغنا مِن طوافنا في جَوْفِ اللَّيل، فأتيناه بالمحَصَّبِ، فقال: "فَرَغْتُمَا"؟ قُلنا:نعم. فأذَّن في الناسِ بالرحيل، فمرَّ بالبيتِ، فطافَ به، ثم ارتحلَ متوجهاً إلى المدينة.
فهذا هو الطواف الذي أخَّره إلى الليل بلا ريب، فغلط فيه أبو الزبير، أو مَنْ حدَّثه بِه، وقال: طواف الزيارة، والله الموفق.
ولم يَرْمُلْ صلَّى الله عليه وسلم في هذا الطواف، ولا في طَوافِ الوَدَاعِ، وإنما رَمَلَ في طوافِ القُدوم.
فصل
ثمَّ أتى زمزمَ بعد أن قضى طوافَه وهم يسقون، فقال: "لَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُم النَّاسُ، لنَزَلْتُ فَسَقَيْتُ مَعَكُمْ" ثُمَّ ناولُوه الدَّلْوَ، فَشَربَ وهُوَ قَائِم.
فقيل: هذَا نسخٌ لنهيه عن الشرب قائماً، وقيل: بل بيان منه أن النهي على وجه الاختيار وترك الأَوْلى، وقيل: بل للحاجة، وهذا أظهر.

وهل كان في طوافه هذا راكباً أو ماشياً؟ فروى مسلم في "صحيحه"، عن جابر قال: "طافَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبَيْتِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ على رَاحِلته يَستلِم الرُّكنَ بِمحْجَنِه لأن يراه الناسُ وليُشْرِفَ، ولِيسألُوه، فإنَّ الناسَ غَشُوْهُ".
وفى "الصحيحين"، عن ابنِ عباس قال: "طافَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حَجة الوداع، على بعير يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمحْجَنٍ".
وهذا الطواف، ليس بطواف الوداع، فإنه كان ليلاً، وليس بطواف القُدوم لوجهين.
أحدهما: أنه قد صحَّ عنه الرَّمَلُ في طواف القدوم، ولم يقل أحد قطُّ: رَمَلَتْ بِه رَاحِلَتُه، وإنما قالوا: رَمَلَ نَفْسُهُ.
والثاني: قول الشريد بن سويد: "أفضتُ مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما مَسَّتْ قدماه الأرْضَ حتَّى أتى جَمْعاً".
وهذا ظاهره، أنه من حين أفاض معه، ما مسَّت قدماه الأرض إلى أن رجع، ولا ينتقِضُ هذا بركعتي الطواف، فإن شأنَهما معلوم.

قلت: والظاهر: أن الشريد بن سويد، إنما أراد الإفاضة معه من عرفة، ولهذا قال: حتى أتى جَمْعاً وهى مزدلفة، ولم يُرد الإفاضة إلى البيت يومَ النحر، ولا ينتقِضُ هذا بنزوله عند الشِّعب حين بال، ثم رَكِبَ لأنه ليس بنزول مستقر، وإنما مسَّت قدماه الأرضَ مساً عارِضاً. والله أعلم.
فصل
ثم رجع إلى مِنَى، واختُلِفَ أين صلَّى الظهر يومئذ، ففي "الصحيحين": عن ابنِ عُمر، أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أفاضَ يوم النحر، ثم رجع، فصلَّى الظهرَ بِمنَى.
وفى "صحيح مسلم": عن جابر، أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلَّى الظُّهرَ بمكَّة وكذلك قالت عائشةُ.
واختُلِفَ في ترجيح أحدِ هذينِ القولين على الآخر، فقال أبو محمد بن حزم: قول عائشة وجابر أولى وتَبِعَه على هذا جماعة، ورجَّحوا هذا القولَ بوجوه.
أحدها: أنه روايةُ اثنين، وهما أولى من الواحد.
الثاني: أن عائشة أخصُّ الناسِ به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولها من القُرب والاختصاص به والمزية ما ليس لغيرها.

الثالث: أن سياق جابر لِحَجَّةِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أولها إلى آخرها، أتمُّ سياق، وقد حَفِظَ القِصَّةَ وضبطها، حتى ضبط جزئياتها، حتَّى ضبط منها أمراً لا يتعلَّق بالمناسك، وهو نزولُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ جَمْعٍ في الطَّريق، فقَضَى حاجَته عند الشِّعب، ثم توضأ وضوءاً خفيفاً، فمَن ضبط هذا القدر، فهو بضبط مكانِ صلاته يومَ النحر أولى.
الرابع: أن حَجَّة الوداع كانت في آذار، وهو تساوى الليلِ والنهارِ، وقد دفع مِن مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى مِنَى، وخطب بها الناسَ، ونحر بُدْناً عظيمة، وقَسمَها، وطُبِخَ له من لحمها، وأكل منه، ورمى الجمرة، وحلَقَ رأسَه، وتطيَّب، ثم أفاض، فطافَ وشرب من ماء زمزم، ومِن نبيذ السِّقاية، ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال تبدو في الأظهر أنها لا تنقضي في مقدارٍ يُمكِنُ معه الرجوعُ إلى مِنى، بحيثُُ يُدرِكُ وقت الظهر في فصل آذار.
الخامس: أن هذين الحديثينِ، جاريانِ مجرى الناقِل والمبقى، فقد كانت عادتُه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حَجته الصلاةَ في منزله الذي هو نازِل فيه بالمسلمين، فجرى ابن عمر على العادة، وضبط جابر وعائشة رضى الله عنهما الأمر الذي هو خارج عن عادته، فهو أولى بأن يكون هو المحفوظ.
ورجَّحت طائفة أخرى قول ابن عمر، لوجوه:
أحدها: أنه لو صلَّى الظُّهر بمكة، لم تُصَلِّ الصحابة بِمنَى وحداناً وزَرَافاتٍ، بل لم يكن لهم بُدٌّ من الصلاة خلفَ إمام يكون نائباً عنه، ولم يَنْقُلْ هذا أحدٌ قطٌّ، ولا يقول أحد: إنه استناب مَن يُصلِّى بهم، ولولا علمُه أنه يرجع إليهم فيُصلِّى بهم، لقال: إن حَضَرَتِ الصلاةُ

ولستُ عندكم، فليُصلِّ بكم فلان، وحيث لم يقع هذا ولا هذا، ولا صلَّى الصحابة هناك وحداناً قطعاً، ولا كان مِن عادتهم إذا اجتمعوا أن يُصلُّوا عِزِين، عُلِمَ أنهم صلُّوا معه على عادتهم.
الثاني: أنه لو صلَّى بمكة، لكان خَلْفَهُ بعضُ أهل البلد وهم مقيمون، وكان يأمرهم أن يُتِمُّوا صلاتهم، ولم يُنقل أنهم قاموا فأتموا بعد سلامه صلاتهم، وحيث لم يُنقل هذا ولا هذا، بل هو معلوم الانتفاء قطعاً، عُلِمَ أنه لم يُصلِّ حينئذ بمكة، وما ينقلُه بعض مَن لا علم عنده، أنه قال: "يا أَهْلَ مَكَّة أَتِمُّوا صَلاتَكُم فإنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ"، فإنما قاله عامَ الفتح، لا في حَجته.
الثالث: أنه من المعلوم، أنه لما طاف، ركع ركعتي الطواف، ومعلوم أن كثيراً من المسلمين كانوا خلفه يقتدون به في أفعاله ومناسكه، فلعله لما ركع ركعتي الطواف، والناس خلفه يقتدُون به، ظن الظانُّ أنها صلاةُ الظهر، ولا سيما إذا كان ذلك في وقت الظهر، وهذا الوهمُ لا يُمكن رفعُ احتماله، بخلاف صلاته بِمنَى، فإنها لا تحتمِل غير الفرض.
الرابع: أنه لا يُحفظ عنه في حَجه أنه صلَّى الفرض بجوف مكة، بل إنما كان يُصلِّى بمنزله بالأبطح بالمسلمين مُدّة مقامه كان يُصلِّى بهم أين نزلوا لا يُصلِّي في مكان آخر غير المنزل العام.
الخامس: أن حديث ابن عمر، متفق عليه، وحديث جابر، من أفراد مسلم، فحديث ابن عمر، أصح منه، وكذلك هو في إسناده، فإن رواته أحفظ، وأشهر، وأتقن، فأين يقع حاتم بن إسماعيل من عُبيد الله بن عمر العمري، وأين يقع حفظ جعفر مِن حفظ نافع؟.

السادس: أن حديث عائشة، قد اضطربَ في وقت طوافه، فرُوى عنها على ثلاثة أوجه، أحدها: أنه طاف نهاراً، الثاني: أنه أخَّر الطَّواف إلى الليل، الثالث: أنه أفاض مِن آخر يومه، فلم يضبط فيه وقت الإفاضة، ولا مكان الصلاة، بخلاف حديث ابن عمر.
السابع: أن حديثَ ابنِ عمر أصحُّ منه بلا نزاع، فإن حديثَ عائشة من رواية محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به، ولم يُصرِّحْ بالسماع، بل عنعنه، فكيف يُقدَّم على قول عُبيد الله: حدثني نافع، عن ابن عمر.
الثامن: أن حديث عائشة، ليس بالبيِّن أنه -صلَّى الله عليه وسلم- صلَّى الظهر بمكة، فإن لفظه هكذا: "أفاض رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن آخِرِ يَوْمِهِ حِينَ صَلَّى الظُّهر، ثم رجع إلى مِنَى، فمكث بها ليالي أيامِ التشريق يرمى الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات"، فأين دلالة هذا الحديثِ الصريحة، على أنه صلَّى الظهرَ يومئذ بمكة، وأين هذا في صريح الدلالة إلى قول ابن عمر: "أفاض يوم النحر، ثم صلَّى الظهر بمِنَى"، يعنى راجعاً. وأين حديثٌ اتفق أصحاب الصحيح على إخراجه إلى حديثٍ اختُلِف في الاحتجاج به. والله أعلم.
فصل
قال ابن حزم: وطافت أمُّ سلمة في ذلك اليوم على بعيرها مِن وراء الناس وهى شَاكية، استأذنت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك اليوم، فأذن لها، واحتج عليه بما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث زينب بنت أُم سلمة،

عن أُم سلمة، قالت: شكوتُ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أني أشتكى، فقال: "طُوفي مِنْ وَراءِ النَّاس وأَنْتِ رَاكبة" قالت: فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ يُصَلِّي إلَى جَنْبِ البَيْتِ، وهُوَ يَقْرَأُ: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 1-2]، ولا يتبيَّنُ أن هذا الطوافَ هُوَ طوافُ الإفاضَة، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقرأ في ركعتي ذلك الطواف بالطور، ولا جهر بالقراءة بالنهار بحيث تسمعُه أمُّ سلمة من وراء الناس، وقد بيَّن أبو محمد غلطَ مَن قال: إنه أخَّره إلى الليل، فأصاب في ذلك.
وقد صح من حديث عائشة، أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أرسل بأُمِّ سلمة ليلةَ النحر، فرمت الجمرةَ قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت فكيف يلتئمُ هذا مع طوافها يومَ النحر وراءَ الناس، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جانب البيت يُصلِّى ويقرأ في صلاته: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ } [الطور: 1-2]؟ هذا مِن المُحال، فإن هذه الصلاةَ والقراءة، كانت في صلاة الفجر، أو المغربِ، أو العشاءِ، وأمَّا أنها كانت يومَ النحر، ولم يكن ذلك الوقت رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة قطعاً، فهذا من وهمه رحمه الله.
فطافت عائشة في ذلك اليوم طوافاً واحداً، وسعت سعياً واحداً أجزأها عن حَجِّها وعُمرتها، وطافت صفيَّةُ ذلك اليوم، ثُمَّ حاضت فأجزأها طوافُها ذلك عن طواف الوداع، ولم تُوَدِّعْ، فاستقرَّت سُنَّتُه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –

في المرأة الطاهرة إذا حاضت قبل الطواف - أو قبل الوقوف -، أن تَقْرِنَ، وتكتفيَ بطواف واحد، وسعي واحد، وإن حاضت بعد طواف الإفاضة اجتزأت به عن طواف الوداع.
فصل
ثم رجع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مِنَى مِن يومه ذلك، فباتَ بها، فلما أصبَحَ، انتظرَ زوالَ الشَّمْسِ، فلما زالت، مشى مِن رحله إلى الجمَارِ، ولم يَرْكَبْ، فبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مَسْجِدَ الخَيْفِ، فرماها بسبع حَصَياتٍ واحدةً بعدَ واحدةٍ، يقول مع كُلِّ حصاة: "اللهُ أكْبَرُ"، ثم تقدَّم على الجمرة أمامها حتى أسهلَ، فقام مستقبلَ القِبْلة، ثم رفعَ يديهِ وَدَعَا دُعاءاً طَوِيلاً بقدر سُورَةِ البقرة، ثم أتى إلى الجَمرة الوُسطى، فرماها كذلك، ثم انحدرَ ذاتَ اليَسارِ مما يلي الوادي، فوقفَ مستقبِلَ القِبْلة رافعاً يديه يدعو قريباً مِن وقُوفِه الأولِ، ثم أتى الجمرَة الثَّالِثَة وهي جمرة العَقبة، فاستبطن الوادي، واستعرض الجَمرة، فجعل البَيْتَ عَن يسارِه، ومِنَى عن يمينه، فرماها بسبع حصيات كذلك.

ولم يِرمِها مِن أعلاها كما يفعل الجُهَّال، ولا جعلها عن يمينه واستقبل البيتَ وقت الرمي كما ذكره غيرُ واحد من الفقهاء.
فلما أكمل الرمي، رجع مِن فوره ولم يقف عندها، فقيل: لضيق المكان بالجبل، وقيل - وهو أصح: إن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها، فلما رمى جمرة العقبة، فرغ الرميُ، والدعاءُ في صُلب العبادة قبل الفراغ منها أفضلُ منه بعد الفراغ منها، وهذا كما كانت سُنَّته في دعائه في الصلاة، إذ كان يدعو في صُلبها، فأما بعد الفراغ منها، فلم يثبت عنه أنه كان يعتادُ الدعاء، ومَن روى عنه ذلك، فقد غَلِط عليه، وإن رُوى في غير الصحيح أنه كان أحياناً يدعو بدعاءٍ عارِض بعد السلام، وفى صحته نظر.
وبالجملة.. فلا ريبَ أن عامة أدعيته التي كان يدعو بها، وعلَّمها الصِّدِّيق، إنما هي في صُلب الصلاة، وأما حديثُ معاذ بن جبل: "لا تَنْسَ أنْ تَقُولَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ: اللهُمَّ أَعِنِّى عَلى ذِكْركَ وشُكْرِكَ، وَحُسْن عِبادتِك"، فدُبُر الصلاة يُراد به آخرها قبل السلام منها، كدُبُر الحيوان، ويراد به ما بعد السلام كقوله: "تُسَبِّحُونَ اللهَ وتكبِّرونَ وتحمدونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ"... الحديث، والله أعلم.

فصل
ولم يزل في نفسي، هل كان يرمى قبلَ صلاة الظهر أو بعدَها؟ والذي يغلِبُ على الظن، أنه كان يرمي قبل الصلاة، ثم يَرجع فيُصلِّى، لأن جابراً وغيرَه قالوا: كانَ يرمي إذا زالتِ الشمس، فعقَّبوا زوالَ الشمس برميه. وأيضاً، فإن وقت الزوال للرمي أيامَ مِنَى، كطلوع الشمس لرمى يوم النحر، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ النحر لما دخل وقتُ الرمي، لم يُقَدِّمْ عليه شيئاً من عِبادات ذلك اليوم، وأيضاً فإن الترمذي، وابنَ ماجه، رويا في "سننهما" عن ابن عباس رضى الله عنهما: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرمى الجِمارَ إذا زالت الشمس. زاد ابن ماجه: قَدْرَ ما إذا فرغ من رميه صلَّى الظهر، وقال الترمذي: حديث حسن، ولكن في إسناد حديث الترمذي: الحجاج بن أرطاة، وفي إسناد حديث ابن ماجه: إبراهيمُ ابن عثمان أبو شيبة، ولا يُحتج به، ولكن ليس في الباب غيرُ هذا.
وذكر الإمام أحمد أنه كان يرمى يوم النحر راكباً، وأيام مِنَى ماشياً في ذهابه ورجوعه.
فصل
فقد تضمَّنت حَجَّته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّ وقفات للدعاء.

الموقف الأول: على الصفا، والثاني: على المروة، والثالث: بعرفة، والرابع: بمزدلفة، والخامس: عند الجمرة الأولى، والسادس: عند الجمرة الثانية.
فصل
وخطب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس بمِنَى خطبتين: خطبةً يوم النحر وقد تقدَّمت، والخطبَة الثانية: في أوسط أيَّامِ التشريق، فقيل: هو ثاني يوم النحر، وهو أوسطُها، أي: خيارها، واحتج مَن قال ذلك: بحديث سَرَّاء بنت نبهان، قالت: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "أتدرون أيُّ يَوْمٍ هذَا"؟ -قَالَت: وهُو اليَوْمُِ الَّذي تَدْعُونَ يَوْمَ الرُّؤوس- قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "هذَا أوْسَطُ أيَّامِ التَّشْريقِ، هَلْ تَدْرُونَ أيُّ بَلَد هذَا"؟ قالُوا: اللهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: "هذَا المَشْعَرُ الحَرَامُ"، ثُمَّ قَال: "إنِّي لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عامي هذَا، ألاَ وَإنَّ دمَاءَكُم، وأَمْوالَكُم، وَأَعْرَاضَكُم عَلَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُم هذَا، في شهركم هذا، في بَلَدِكُمْ هذَا، حَتَّى تَلْقُوْا رَبَّكم، فَيَسْأَلَكُم عَنْ أَعْمالِكُم، ألاَ فَلْيُبَلِّغْ أَدْنَاكُم أقصاكم، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ" ؟ فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينة، لَمْ يَلْبَثْ إلاَّ قَلِيلاً حَتَّى مَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رواه أبو داود.

ويوم الرؤوس: هو ثاني يوم النحر بالاتفاق.
وذكر البيهقي، من حديث موسى بن عُبيدة الرّبَذِي، عن صدقة بن يسار، عن ابنِ عمر، قال: أُنْزِلَتْ هَذِه السُّورَةُ: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ} [النصر: 1]، على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وسط أيَّامِ التشريقِ، وعُرِفَ أنه الوداعُ، فأمر براحلته القَصْواء، فَرُحِلَتْ، واجتمع الناسُ فقال: "يا أيها النَّاسُ"... ثم ذكر الحديث في خطبته.
فصل
واستأذنه العباسُ بنُ عبد المطلب أن يَبيت بمكة ليالي مِنَى مِن أجل سقايته، فأذن له.
واستأذنه رِعاءُ الإبِلِ في البيتوتة خارِجَ مِنَى عند الإبل، فأرخص لهم أن يَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ، ثم يَجْمَعُوا رمىَ يومين بَعْدَ يوم النحر يرمُونَه في أحدهما.

قال مالك: ظننتُ أنه قال: في أول يوم منهما، ثم يرمُون يومَ النَّفْرِ.
وقال ابنُ عيينة: في هذا الحديث رخَّص للرِّعاء أن يرموا يوماً، ويَدَعوا يوماً فيجوز لِلطَّائفتين بالسُّنَّة تركُ المبيت بمِنَى، وأما الرمي، فإنهم لا يتركُونه، بل لهم أن يُؤخِّروه إلى الليل، فيرمُون فيه، ولهم أن يجمعوا رمىَ يومين في يوم، وإذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رخَّصَ لأهل السقاية، وللرِّعاء في البيتوتة، فمَن له مال يخافُ ضياعه، أو مريض يَخافُ مِن تخلُّفه عنه، أو كان مريضاً لا تمكنه البيتوتة، سقطت عنه بتنبيه النص على هؤلاء، والله أعلم.
فصل
ولم يتعجل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يومين، بل تأخر حتَّى أكمل رمىَ أيامِ التشريق الثلاثَةَ، وأفاض يومَ الثلاثاء بعد الظهر إلى المُحَصَّبِ، وهو الأبطح، وهو خَيْف بنى كِنانة، فوجد أبا رافع قد ضرب له فيه قُبَةً هناك، وكان على ثَقَلِه توفيقاً مِن الله عَزَّ وجَلَّ، دون أن يأمرَه به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلَّى الظُّهر، والعصرَ، والمغربَ، والعِشاء، ورقد رقدة ثم نهض إلى مكة، فطاف للوداع ليلاً سحراً، ولم يَرْمُلْ في هذا الطَّوافِ، وأخبرته صفية أنها حائض، فقال: "أحَابِسَتُنا هي"؟ فقالُوا له: إنها قَدْ أَفَاضَتْ قال: "فَلْتَنْفِرْ إذاً". ورَغِبَتْ إليه عائشةُ تلك الليلة أن يُعْمِرَها عُمرة

مفردَة، فأخبرها أن طوافها بالبيت وبالصفا والمروة قد أجزأَ عن حجِّها وعُمرتها، فأبت إلا أن تعتمِرَ عُمرة مفردة، فأمر أخاها عبد الرحمن أن يُعْمِرَها مِن التنعيم، فَفَرَغَتْ مِن عُمرتها لَيلاً ثمَّ وافَتِ المُحَصَّبَ مَعَ أخيها، فأتيا في جَوْفِ الليلِ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَرَغْتُمَا"؟ قالت: نَعَمْ، فنادَى بالرَّحِيل في أصحابه، فارتحلَ الناسُ، ثم طافَ بالبيت قبلَ صَلاةَ الصُّبح هذا لفظ البخاري.
فإن قيل: كيف تجمعون بين هذا، وبين حديث الأسود عنها الذي في "الصحيح" أيضاً؟ قالت: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم نَرَ إلا الحَجَّ.... فذكرتِ الحديثَ، وفيه: فلما كانت ليلة الحَصْبَةِ، قلتُ: يا رسول الله ؛ يرجعُ النَّاس بِحَجَّةٍ وعُمْرَةٍ، وأَرْجعُ أَنا بِحَجَّةٍ؟ قَالَ: أَوَ مَا كُنْتِ طُفْتِ لَيَالي قَدِمْنَا مَكَّةَ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: لاَ. قَالَ: "فاذْهَبي مَعَ أخِيكِ إلَى التَّنْعِيم، فَأَهِلِّي بِعُمْرَةٍ ثُمَّ مَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا" قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَقِيني رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ، وأَنَا مُنْهَبطَةٌ عَلَيْهَا، أوْ أَنَا مُصْعِدَةٌ وَهُوَ مُنْهَبِطٌ مِنْهَا.
ففي هذا الحديث، أنهما تلاقيا في الطَّريق، وفى الأول، أنه انتظرها في منزله، فلما جاءت نادى بالرحيلِ في أصحابه، ثم فيه إشكالٌ آخر، وهو قولُها: لقيني وهو مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ وأَنَا مُنْهَبطَة عليها، أو بالعكس، فإن كانَ الأول، فيكون قد لقيها مُصعِداً منها راجعاً إلى المدينة، وهى

منهبطة عليها للعُمرة، وهذا يُنَافى انتظاره لها بالمحصَّب.
قال أبو محمد بن حزم: الصوابُ الذي لا شك فيه، أنها كانت مُصْعِدَةً مِنْ مَكَّة، وهو منهبِط، لأنها تقدَّمت إلى العُمرة، وانتظرها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جاءت، ثم نهضَ إلى طواف الوَداع، فلقيها منصرِفة إلى المحصَّبِ عن مكة، وهذا لا يصح، فإنها قالت: وهو منهبط منها، وهذا يقتضي أن يكون بعد المحصَّب، والخروج من مكة، فكيف يقول أبو محمد: إنه نهض إلى طواف الوَداع وهو منهبط مِن مكة؟ هذا محال. وأبو محمد لم يحج، وحديث القاسم عنها صريح كما تقدَّم في أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتظرها في منزله بعد النَّفْرِ حتى جاءت، فارتحل، وأذَّن في الناسِ بالرحيل، فإن كان حديثُ الأسود هذا محفوظاً، فصوابُه: لقيني رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا مُصعِدة من مكة، وهو منهبط إليها، فإنها طافت وقضت عُمرتها، ثم أصعدت لميعاده، فوافته قد أخذ في الهُبوط إلى مكَّة للوداع، فارتحل، وأذَّن في النَّاسِ بالرحيل، ولا وجه لحديث الأسود غير هذا. وقد جُمِعَ بينهما بجمعين آخرين، وهما وهم.
أحدهما: أنه طاف للوداع مرتين: مرةً بعد أن بعثها، وقبل فراغها، ومرة بعد فراغها للوداع، وهذا مع أنه وَهمٌ بيِّن، فإنه لا يرفع الإشكال، بل يزيده فتأمله.
الثاني: أنه انتقل من المحصَّب إلى ظهر العقبة خوفَ المشقة على المسلمين في التحصيب، فَلَقِيَتْهُ وهى منهبطة إلى مكة، وهو مصعد إلى العَقبة، وهذا أقبحُ من الأول، لأنه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يخرج من العقبة أصلاً، وإنما خرج من أسفل مكة من الثَّنِيَّةِ السُّفلى بالاتفاق. وأيضاً: فعلى تقدير ذلك، لا يحصُل الجمع بين الحديثين.

وذكر أبو محمد بن حزم، أنه رجع بعد خروجه مِن أسفل مكة إلى المحصَّب، وأمر بالرحيل، وهذا وهم أيضاً، لم يَرجعْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وداعه إلى المحصَّب، وإنما مرَّ مِن فوره إلى المدينة.
وذكر في بعض تآليفه، أنه فعل ذلك، ليكون كالمحلِّق على مكة بدائرة في دخوله وخروجه، فإنه بات بذي طُوى، ثم دخل من أعلى مكة، ثم خرج من أسفلها، ثم رجع إلى المحصَّب، ويكون هذا الرجوعُ من يماني مكة حتى تحصُل الدائرةُ، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما جاء، نزل بذي طُوى، ثم أتى مكَّة مِن كَدَاء، ثم نزل به لما فرغ من الطواف، ثم لما فرغ من جميع النُّسُكِ، نزل به، ثم خرج من أسفل مَكَّة وأخذ من يمينها حتى أتى المحصَّب، ويحمل أمرُه بالرحيل ثانياً على أنه لقي في رجوعه ذلك إلى المحصِّب قوماً لم يرحلوا، فأمرهم بالرحيل، وتوجه مِن فوره ذلك إلى المدينة.
ولقد شان أبو محمد نفسه وكتابه بهذا الهذيان البارد السمج الذي يُضحَك منه، ولولا التنبيهُ على أغلاط من غِلَطَ عليه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لرغبنا عن ذكر مثل هذا الكلام. والذي كأنك تراه مِن فعله أنه نزل بالمحصَّب، وصلَّى به الظهرَ، والعصرَ، والمغربَ، والعشاء، ورقد رقدةً، ثم نهض إلى مكة، وطاف بها طواف الوداع ليلاً، ثم خرج مِن أسفلها إلى المدينة، ولم يرجعْ إلى المحصَّب، ولا دار دائرة، ففي "صحيح البخاري": عن أنس، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صلَّى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ورقد رَقدة بالمحصَّب، ثم ركب إلى البيت، وطاف به.
وفى "الصحيحين": عن عائشة: خرجنا مَعَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

وذكرتِ الحديثَ، ثم قالت: حِين قضى اللهُ الحجَّ، ونَفَرْنَا مِن مِنَى، فنزلنا بالمحصَّب، فَدَعَا عَبْدَ الرحمنِ بنَ أبى بكر فقال له: " اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الحرَمَ، ثُمَّ افْرُغَا مِنْ طَوَافِكُما، ثُمَّ ائتِيَانِي هاهنا بِالمُحَصَّب". قالَتْ فَقَضَى اللهُ العُمْرَةَ، وفرغنا مِنْ طَوَافِنَا في جَوْفِ اللَّيْلِ، فأتيناه بالمُحَصَّبِ. فَقَالَ: "فَرغْتُمَا "؟ قُلنَا: نَعَمْ. فَأَذَّنَ في النَّاسِ بالرَّحِيل، فَمَرَّ بِالبَيْتِ فَطَافَ بِهِ، ثُمَّ ارتَحَلَ مُتَوَجِّهاً إلى المَدِينَةِ.
فهذا من أصح حديث على وجه الأرض، وأدلِّه على فساد ما ذكره ابنُ حزم، وغيرُه مِن تلك التقديرات التي لم يقع شيء منها، ودليل على أن حديثَ الأسود غيرُ محفوظ، وإن كان محفوظاً، فلا وجه له غير ما ذكرنا وبالله التوفيق.
وقد اختلف السَلَفُ في التحصيب هل هو سُنَّة، أو منزل اتفاق؟ على قولين. فقالت طائفة: هو من سنن الحج، فإن في "الصحيحين" عن أبى هريرة، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال حين أراد أن يَنفِرَ مِنْ مِنَى: "نَحْنُ نَازِلُون غَداً إن شَاءَ اللهُ بِخَيْفِ بنى كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلى الكُفْر ". يعنى بذلك المحصَّب، وذلك أن قريشاً وبنى كنانة، تقاسَموا على بنى هاشم، وبنى المطَّلِب، ألاَّ يُناكحوهم، ولا يكونَ بينهم وبينهم شيءٌ حتى يُسلموا إليهم رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقصدَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إظهارَ شعائِرِ الإسلام في المكان الذي أظهرُوا فيه شعائِر الكُفر، والعداوة لله ورسوله، وهذه كانت عادته صلوات الله وسلامه عليه، أن يُقيم شِعارَ التَّوحيد في مواضع

شَعائِر الكُفر والشِّرك، كما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُبنَى مسجدُ الطَّائِفِ مَوْضِعَ اللاَّت والعُزَّى.
قالوا: وفى "صحيح مسلم": عن ابن عمر، أن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبا بكر، وعمر، كانوا ينزلونه. وفى رواية لمسلم، عنه: أنه كان يرى التَّحصِيبَ سُنَّةٌ.
وقال البخاري عن ابن عمر: كان يُصَلِّى به الظهرَ، والعصرَ، والمغرب، والعشاء، ويَهْجَعُ، ويذكر أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك.
وذهب آخرون - منهم ابنُ عباس، وعائشةُ - إلى أنه ليس بِسُّنَّة، وإنما هو منزل اتفاق، ففي "الصحيحين": عن ابن عباس، لَيْسَ المُحَصَّبُ بِشَيءٍ، وإنَّما هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ.
وفي "صحيح مسلم": عن أبي رافع، لم يأمُرْني رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أنزلَ بمن معي بالأبطح، ولكن أنا ضربتُ قُبَّتَه، ثم جاء فنزل. فأنزله الله فيه بتوفيقه، تصديقاً لقول رسوله: "نَحْنُ نَازِلُونَ غَداً بِخَيْفِ بنى كِنَانَة"، وتَنْفِيذاً لِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ، ومَوَافَقَةً مِنْهُ لِرَسُولِه صلوات الله وسلامه عليه.
فصل
هاهنا ثلاثُ مسائل: هل دخل رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البيت في حَجَّته،

أم لا؟ وهل وقف في الملتزم بعد الوداع، أم لا؟ وهل صَلَّى الصُّبح ليلةَ الوَداع بمكة، أو خارجاً منها؟
فأما المسألة الأولى، فزعم كثيرٌ من الفقهاء وغيرهم، أنه دخل البيت في حَجَّتِه، ويرى كثيرٌ من الناس أن دخولَ البيتِ مِنْ سُنن الحج اقتداءً بالنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والذي تَدُلُّ عليه سُنَّتُه، أنه لم يَدْخُلِ البيتَ في حَجته ولا في عُمرته، وإنما دخله عام الفتح، ففي "الصحيحين" عن ابن عمر قال: دخلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم فتح مكة على ناقة لأُسامة، حتى أناخَ بفناء الكعبة، فدعا عُثمان بن طلحة بالمفتاح، فجاءه به، ففتح، فدخلَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسامةُ، وبلالٌ، وعثمانُ بن طلحة، فأجافُوا عليهم الباب مَلِيّاً، ثم فتحوه. قال عبدُ الله: فبادرتُ الناس، فوجدتُ بلالاً على الباب. فقلت: أين صلَّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: بين العمودين المقدَّمين. قال: ونسيتُ أن أسأله، كمْ صلَّى.
وفى "صحيح البخاري" عن ابن عباس، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما قَدم مكة، أبى أن يَدْخُلَ البيتَ وفيه الآلِهَة، قال: فأمر بِهَا فَأُخْرِجَت، فأخَرجُوا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ وإسماعيلَ فى أيْدِيهِمَا الأَزْلاَمُ، فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَاتَلَهُمُ الله، أَمَا واللهِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِما بِها قَطُّ ". قال: فَدَخَلَ البَيْتَ، فكَبَّرَ فى نَوَاحِيه، ولم يُصَلِّ فِيهِ.
فقيل: كان ذلك دُخولين، صلَّى فى أحدهما، ولم يُصلِّ في الآخر.

وهذه طريقةُ ضعفاء النقد، كلما رأوْا اختلافَ لفظ، جعلُوه قِصة أخرى، كما جعلوا الإسراء مِراراً لاختلاف ألفاظه، وجَعَلُوا اشتراءَه مِن جابر بَعيرَه مِراراً لاختلاف ألفاظِه، وجعلوا طوافَ الوَداع مرَّتين لاختلاف سياقه، ونظائر ذلك.
وأما الجهابذة النُّقاد، فيرغبُون عن هذه الطريقةِ، ولا يجبُُنُون عن تغليط مَنْ ليس معصوماً مِن الغَلَطِ ونسبته إلى الوهم، قال البخاري وغيرُه من الأئمة: والقولُ قولُ بلال، لأنه مثبت شاهدَ صلاته، بخلاف ابن عباس. والمقصود: أن دخوله البيت إنما كان فى غزوةِ الفتح، لا فى حَجَّهِ ولا عُمَرِهِ، وفى
"صحيح البخاري"، عن إسماعيل بن أبى خالد، قال: قلتُ لعبد الله بن أبى أوفى: أدخلَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى عُمْرَتِهِ البَيْتَ؟ قال: لا.
وقالت عائشةُ: خرجَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن عندي وهو قَرِيرُ العَيْنِ، طيِّبُ النَّفْسِ، ثم رجع إلىَّ وهو حزينُ القلب، فقلتُ: يا رَسُولَ الله ؛ خرجتَ من عندي وأنتَ كذا وكذا. فقال: "إني دخلتُ الكعبة، وَوَدِدْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ فَعَلْتُ، إنِّى أَخَافُ أَنْ أَكونَ قَدْ أَتْعَبْتُ أُمَّتي مِنْ بَعْدِى"، فهذا ليس فيه أنه كان في حَجته، بل إذا تأملتَهُ حقَّ التأمُّلِ، أطلعَكَ التَّأمُّلُّ على أنه كان في غَزاة الفتح، والله أعلم، وسألته عائشة أن تدخل

البيت، فأمرها أن تُصَلِّى فى الحِجْرِ رَكْعَتَيْنِ.
فصل
وأما المسألة الثانية: وهى وقوفُه فى الملتزم، فالذي روى عنه، أنه فعله يوم الفتح، ففي سنن أبى داود، عن عبد الرحمن بن أبى صفوان، قال: "لما فتح رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، انطلقتُ، فرأيتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَد خَرَجَ مِنَ الكَعْبَةِ هُوَ وأَصْحَابُه وقد استلَمُوا الرُّكْنَ مِنَ البَابِ إلى الحَطِيم، وَوَضَعُوا خُدُودَهُم على البَيْتِ، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسطَهُم".
وروى أبو داود أيضاً: مِن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: "طُفْتُ مَعَ عَبدِ الله، فَلَّما حَاذَى دُبُرَ الكَعْبَةِ قُلْتُ: أَلاَ تَتَعَوّذُ؟ قال: نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النار، ثُمَّ مَضَى حَتَّى اسْتَلَمَ الحَجَرَ، فَقَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالبَابِ، فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِراعَيْهِ هَكَذا، وَبَسَطَهُمَا بَسْطاً، وقَالَ: هَكَذَا رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ".
فهذا يحتمِل أن يكونَ في وقت الوداع، وأن يكونَ في غيره، ولكن قال مجاهد والشافعي بعده وغيرُهما: إنه يُستحَب أن يَقِفَ في الملتزم بعد طواف الوَداع ويدعو، وكان ابنُ عباس رضى الله عنهما يلتزِمُ ما بين الرُّكن والبَابِ، وكان يقول: لا يلتزمُ ما بينهما أحدٌ يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إيَّاه، والله أعلم.

فصل
وأما المسألة الثالثة: وهى موضِعُ صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الصبح صبيحة ليلة الوداع، ففي "الصحيحين": عَن أمِّ سلمة، قالت: شكوتُ إلى رَسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنِّى أشْتَكِى، فَقَالَ: "طُوفي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ". قالت: فطُفتُ ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينئذ يُصلِّى إلى جنبِ البَيْتِ، وهُوَ يَقْرَأ ب { وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 1-2] فهذا يحتمِل، أن يكونَ في الفجر وفى غيرها، وأن يكونَ فى طواف الوَداعِ وغيرِه، فنظرنا في ذلك، فإذا البخاري قد روى في "صحيحه" في هذه القصة، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أراد الخُروج، ولم تكن أُمُّ سلمة طافت بالبيت، وأرادتِ الخُروج، فقال لها رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أُقِيمَتْ صَلاةُ الصُّبْحِ، فَطُوفِي عَلى بَعِيرِكِ، والنَّاسُ يُصَلُّونَ" فَفَعَلَتْ ذَلِكَ فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ. وهذا محال قطعاً أن يكون يومَ النحر، فهو طواف الوَداع بلا ريب، فظهر أنَّه صلَّى الصُّبْحَ يومئذ عند البيت، وسمعته أُم سلمة يقرأ فيها بالطور.
فصل
ثم ارتحل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راجعاً إلى المدينَةِ، فلما كانَ بالرَّوحَاءِ، لقى ركباً، فسلَّم عليهم، وقال: "مَنِ القَوْمُ"؟ فَقَالُوا: المُسْلِمُونَ، قالوا: فَمَنِ القَوْمُ؟ فَقَالَ: "رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، فَرَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبياّ لَهَا مِنْ مِحفَّتِها،

فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أَلِهَذَا حَج؟ قال: "نَعَمْ، ولَكِ أَجْرٌ".
فلما أتى ذَا الحُلَيْفَةِ، باتَ بِهَا، فَلَمَّا رَأى المَدِينَةَ، كَبَّرَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وقال: "لا إله إلاَّ اللهُ وًَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلى كُلِّ شَئٍ قَدِير، آيبِوُن تَائِبونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ، لِرَبِّنا حَامدُونَ، صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَه". ثم دخلها نهاراً مِن طَرِيق المُعَرَّسِ، وخَرَج مِن طرِيق الشَّجَرَةِ والله أعلم.
فصل: فى الأوهام
فمنها: وهم لأبى محمد بن حزم فى حَجَّة الوداع، حيث قال: إن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعْلَم النَّاسَ وقتَ خروجه "أنَّ عُمْرَةً فى رَمَضَانَ، تَعْدِلُ حَجَّةً" وهذا وَهْمٌ ظاهر، فإنَه إنما قال ذلك بعد رجوعه إلى المدينة من حَجَّته، إذ قال لأُمِّ سِنَان الأَنْصَارِية: ما مَنَعَكِ أنْ تَكُونى حَجَجْتِ مَعَنا؟ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا إلاَّ نَاضِحَانِ، فَحَجَّ أَبُو وَلَدى وَابْنى عَلَى نَاضِحٍ، وتَرَكَ لَنَا ناضحاً نَنْضَحُ عَلَيْهِ. قَالَ: "فإذَا جَاءَ رَمَضَانُ، فاعْتَمرى، فإنّ

عُمْرَةً فى رَمَضَانَ تَقْضى حَجَّةً" هكذا رواه مسلم فى صحيحه
وكذلِكَ أيضاً قال هذا لأُمِّ معقلِ بعد رجوعه إلَى المدينة، كما رواه أبو داود، من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام، عن جدَّته أم مَعْقِلٍ، قالت: لما حجَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجَّة الوَدَاع، وكان لنا جمل، فجعله أبو مَعْقِل فى سبيل الله، فأصابنا مرضٌ، فهلك أبو مَعْقِل، وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما فَرَغَ من حَجِّهِ، جئتُه، فَقال: "مَا مَنَعَكِ أَنْ تَخْرُجى مَعَنا"؟ فقالت: لقد تهيَّأنا، فهلَكَ أبو مَعقِل، وكان لنا جمل وهو الذى نَحُجُّ عليه، فأوصى به أبو مَعْقل فى سبيل الله. قال: "فَهَلاَّ خَرَجْتِ عَلَيْهِ؟ فإنَّ الحَجَّ فى سَبيلِ الله، فَأمَّا إذْ فَاتَتْكِ هذِه الحَجَّةُ مَعَنَا فاعْتَمرى فى رَمَضَانَ، فإنَّها كحَجَّة".
فصل
ومنها وَهْمٌ آخر له، وهو أنَّ خروجه كان يومَ الخميس لِستٍ بَقِين من ذى القِعْدَةِ، وقد تقدَّم أنه خرج لخمس، وأن خروجه كان يومَ السبت.
فصل
ومنها وَهْمٌ آخر لبعضهم: ذكر الطبرى فى "حَجة الوداع" أنه خرج يومَ الجمعة بعد الصَّلاة. والذى حمله على هذا الوهم القبيح، قوله فى

الحديث: "خرج لِستٍ بقين"، فظن أن هذا لا يُمكن إلا أن يكون الخروجُ يومَ الجمعة، إذ تمامُ الست يوم الأربعاء، وأولُ ذى الحِجة كان يوم الخميس بلا ريب، وهذا خطأ فاحش، فإنه من المعلوم الذى لا ريب فيه، أنه صلَّى الظهرَ يومَ خروجه بالمدينة أربعاً، والعصر بذى الحُليفة ركعتين، ثبت ذلك فى "الصحيحين".
وحكى الطبرى فى حَجته قولاً ثالثاً: إن خروجه كان يومَ السبت، وهو اختيارُ الواقدى، وهو القول الذى رجحناه أولاً، لكن الواقدى، وهم فى ذلك ثلاثة أوهام، أحدها: أنه زعم أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى يومَ خروجه الظهر بذى الحُليفة ركعتين، الوهم الثانى: أنه أحرم ذلكَ اليومَ عَقيبَ صلاةِ الظهر، وإنما أحرم من الغد بعد أن بات بذى الحُليفة، الوهم الثالث: أن الوقفة كانت يومَ السبت، وهذا لم يقلْه غيره، وهو وَهْمٌ بيِّنٌ.
فصل
ومنها وَهْمٌ للقاضى عياض رحمه الله وغيره: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تطيَّب هُناكَ قبل غسله، ثم غسل الطِّيب عنه لما اغتسل، ومنشأ هذا الوهم، مِن سياق ما وقع فى "صحيح مسلم" فى حديثِ عائشة رضى الله عنها أنها قالت: "طَيَّبْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ طافَ عَلى نِسائِه بَعدَ ذلِك، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِماً".
والذى يردُّ هذا الوهم، قولُها: طيَّبتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإحرامه، وقولُها: كأنى أنظر إلى وَبِيصِ الطِّيب - أى: بريقه - فى مفارِق رسول الله

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مُحرِم، وفى لفظ: وهو يُلبِّى بعد ثلاثٍ من إحرامه، وفى لفظ: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن يُحرم، تطيَّب بأطيبِ ما يجد، ثم أرَى وَبيصَ الطِّيبِ فى رأسه ولحيته بعد ذلك، وكل هذه الألفاظ ألفاظُ الصحيح.
وأما الحديثُ الذى احتج به، فإنه حديث إبراهيم بن محمد بن المنتَشِرِ، عن أبيه، عنها: "كُنْتُ أُطَيِّبُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِماً". وهذا ليس فيه ما يمنع الطيب الثانى عند إحرامه.
فصل
ومنها وَهْمٌ آخر لأبى محمد بن حزم: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحرم قبل الظهر، وهو وَهْمٌ ظاهر، لم يُنقل فى شىء من الأحاديث، وإنما أهلَّ عقيب صلاة الظهر فى موضع مُصلاه، ثم ركب ناقته، واستوت به على البيداء وهو يُهِلُّ، وهذا يقيناً كان بعد صلاة الظهر، والله أعلم.
فصل
ومنها وَهْمٌ آخر له وهو قوله: وساق الهَدْى مع نفسه، وكان هَدْىَ تطوع، وهذا بناء منه على أصله الذى انفرد به عن الأئمة، أن القارِن لا يلزمه هَدْى، وإنما يلزم المتمتع، وقد تقدَّم بطلانُ هذا القول

فصل
ومنها وَهْمٌ آخر لمن قال: إنه لم يُعيِّن فى إحرامه نُسُكاً، بل أطلقه، ووَهْمٌ مََن قال: إنه عيَّن عُمرة مفردة كان متمتعاً بها، كما قاله القاضى أبو يعلى، وصاحب "المغنى" وغيرهما، ووَهْمُ مَن قال: إنه عيَّن حَجّاً مفرداً مجرداً لم يعتمِر معه، ووَهْمُ مَن قال: إنه عيَّن عُمرة، ثم أدخل عليها الحَجَّ، ووَهْمُ مَن قال: إنه عيَّن حجاً مفرداً، ثم أدخل عليه العُمرة بعد ذلك، وكان مِن خصائصه، وقد تقدَّم بيانُ مستند ذلك، ووجهُ الصوابِ فيه. والله أعلم.
فصل
ومنها وَهْمٌ لأحمد بن عبد الله الطبرى فى "حَجة الوداع" له: أنهم لما كانوا ببعض الطريق، صاد أبو قتادة حِماراً وحشياً ولم يكن محرماً، فأكل منه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا إنما كان فى عُمرة الحُديبية، كما رواه البخارى.
فصل
ومنها وَهْمٌ آخر لبعضهم، حكاه الطبرى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه دخل مكة يوم الثلاثاء وهو غلط، فإنما دخلها يوم الأحد صُبح رابعةٍ من ذى الحِجة.

فصل
ومنها وَهْمُ مَن قال: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلَّ بعد طوافه وسعيه، كما قاله القاضى أبو يعلى وأصحابُه، وقد بيَّنا أن مستند هذا الوهم وَهْمُ معاوية، أو مَنْ روى عنه أنه قصَّر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ على المروة فى حجته.
فصل
ومنها وَهْمُ مَن زعم: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُقَبِّل الرُّكن اليمانى فى طوافه، وإنما ذلك الحجرُ الأسود، وسماه اليمانى، لأنه يُطلق عليه، وعلى الآخر اليمانيين، فعبَّر بعضُ الرواة عنه باليمانى منفرداً.
فصل
ومنها وَهْمٌ فاحش لأبى محمد بن حزم: أنه رَمَلَ فى السعى ثلاثة أشواط، ومشى أربعة، وأعجبُ من هذا الوهم، وهمُه فى حكاية الاتفاق على هذا القول الذى لم يقله أحد سواه.
فصل
ومنها وَهْمُ مَن زعم أنه طاف بين الصفَّا والمروة أربعةَ عشر شوطاً، وكان ذهابُه وإيابُه مرةً واحدة، وقد تقدَّم بيانُ بطلانه.

فصل
ومنها وَهْمُ مَن زعم، أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى الصُّبْحَ يومَ النَّحر قبل الوقت، ومُسْتَنَدُ هذا الوهم، حديثُ ابن مسعود، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى الفجر يومَ النحر قبلَ ميقاتها وهذا إنما أراد به قبلَ ميقاتها الذى كانت عادتُه أن يُصليَها فيه، فعجَّلها عليه يومئذ، ولا بُدَّ من هذا التأويل، وحديث ابن مسعود، إنما يدل على هذا، فإنه فى صحيح البخارى عنه، أنه قال:"هُمَا صَلاَتَانِ تُحَوَّلاَنِ عَنْ وَقْتِهِمَا: صَلاَةُ المَغْرِب بَعْدَمَا يأتى الناسُ المُزْدَلِفة، والفَجْرِ حِينَ يَبْزُغُ الفَجْرُ. وقال فى حديث جابر فى حجَّة الوداع: فصلَّى الصُّبحَ حين تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بأَذَانٍ وَإقَامَةٍ".
فصل
ومنها وَهْمُ مَن وَهِمَ فى أنه صلَّى الظُّهر والعًَصْرَ يومَ عرفة، والمغربَ، والعِشاء، تلك الليلة، بأذانين وإقامتين، ووَهْمُ مَن قال: صلاَّهما بإقامتين بلا أذان أصلاً، ووَهْمُ مَن قال: جمع بينهما بإقامَةٍ واحِدة، والصحيح: أنه صلاَّهُما بأذان واحد، وإقامة لِكلِّ صلاة.
فصل
ومنها وَهْمُ مَن زعم أنه خطب بعرفة خُطبتين، جلس بينهما، ثمَّ أذَّن المؤذِّنُ،

فلما فرغ، أخذ فى الخُطبة الثانية، فلما فرغ منها، أقام الصَّلاة، وهذا لم يجئ فى شئ من الأحاديث البتة، وحديث جابر صريح، فى أنه لما أكمل خُطبته أذَّن بلال، وأقامَ الصلاَة، فصلَّى الظهر بعد الخطبة.
فصل
ومنها وَهْمٌ لأبى ثور: أنه لما صَعِدَ، أذَّن المؤذِّن، فلما فرغ، قام فخطب، وهذا وهم ظاهر، فإن الأذان إنما كان بعد الخطبة.
فصل
ومنها وَهْمُ مَن روى، أنه قدَّم أُمَّ سلمة ليلةَ النحر، وأمرها أن تُوافيَه صلاة الصبح بمكة، وقد تقدَّم بيانه.
فصل
ومنها وَهْمُ مَن زعم، أنه أخَّر طواف الزيارة يومَ النحر إلى الليل، وقد تقدَّم بيانُ ذلك، وأن الذى أخَّره إلى الليل، إنما هو طوافُ الوَداع، ومستند هذا الوهم - والله أعلم - أن عائشة قالت: "أفاضَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آخر يومه"، كذلك قال عبدُ الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها، فحمل عنها على المعنى، وقيل: أخَّر طواف الزيارة إلى الليل.

فصل
ومنها وَهْمُ مَن وَهِمَ وقال: إنه أفاض مرتين: مرَّة بالنهار، ومرةً مع نسائه بالليل، ومستند هذا الوهم، ما رواه عمر بن قيس، عن عبد الرحمنِ ابن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، "أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَذِنَ لأصحابه، فزارُوا البيتَ يَوْمَ النَّحرِ ظهيرةً، وزارَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع نسائه ليلاً".
وهذا غلط، والصحيح عن عائشة خلاف هذا: أنه أفاض نهاراً إفاضة واحدة، وهذه طريقة وخيمة جداً، سلكها ضِعافُ أهل العلم المتمسكون بأذيال التقليد. والله أعلم.
فصل
ومنها وَهْمُ مَن زعم، أنه طاف للقدوم يومَ النحر، ثم طافَ بعده للزيارة، وقد تقدَّم مستندُ ذلك وبطلانُه.
فصل
ومنها وَهْمُ مَن زعم أنه يومئذ سعى مع هذا الطواف. واحتج بذلك على أن القارِن يحتاجُ إلى سعيين، وقد تقدَّم بطلانُ ذلك عنه، وأنه لم يسع إلا سعياً واحداً، كما قالت عائشةُ وجابر رضى الله عنهما.

فصل
ومنها - على القول الراجح - وَهْمُ مَن قال: إنه صلَّى الظهر يومَ النحر بمكة، والصحيح: أنه صلاها بمِنَى كما تقدَّم.
فصل
ومنها وَهْمُ مَن زعم أنه لم يُسرِعْ فى وادى مُحَسِّرٍ حين أفاض من جَمْع إلى مِنَى، وأن ذلك إنما هو فعل الأعراب، ومستند هذا الوهم قولُ ابن عباس: إنما كان بدْءُ الإيضَاع من قِبَلِ أهل البادية، كانوا يقِفون حافتى الناس حتى علَّقوا القِعَابَ والعِصِىَّ والجِعَابَ، فإذا أفاضوا، تقعقعت تلك فنفروا بالناس، ولقد رؤى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن ذِفْرَى ناقته لَيَمَسُّ حَارِكَها وهو يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ؛ عَلَيْكُم السَّكِينَة" . وفى رواية: "إنَّ البِرَّ لَيْسَ بِايجَافِ الخَيْلِ وَالإبِلِ، فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ"، فَمَا رَأَيْتُها رَافِعَةً يَدَيْهَا حَتَّى أَتَى مِنَى، رواه أبو داود
ولذلك أنكره طاووس والشعبىُّ، قال الشعبى: حدَّثنى أُسامة بن زيد، أنه أفاض مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن عرفة، فلم ترفع راحلتُه رِجلها عاديةً حتى بلغ جَمْعاً. قال: وحدثنى الفضلُ بنُ عباس، أنه كان رديفَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى جَمْع،

فلم ترفع راحلتُه رجلها عادية حتَّى رمى الجمرة. وقال عطاء: إنما أحدث هؤلاء الإسراع، يُريدون أن يفوتوا الغُبار. ومنشأ هذا الوهم اشتباهُ الإيضاع وقتَ الدفع من عرفة الذى يفعله الأعرابُ وجفاةُ الناس بالإيضاع فى وادى مُحَسِّرٍ، فإن الإيضَاعَ هناك بدعة لم يفعلْه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل نهى عنه، والإيضاعُ فى وادى محسِّر سُنَّة نقلها عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جابر، وعلى بن أبى طالب، والعباسُ بن عبد المطلب رضى الله عنهم، وفعله عمرُ بن الخطاب رضى الله عنه، وكان ابن الزبير يُوضِع أشدَّ الإيضاعِ، وفعلته عائشةُ وغيرُهم مِن الصحابة، والقولُ فى هذا قولُ مَن أثبت، لا قولُ مَن نفى. والله أعلم.
فصل
ومنها وَهْمُ طاووس وغيره: أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُفيضُ كُلَّ ليلة من ليالى مِنَى إلى البيت، وقال البخارى فى "صحيحه": ويُذكر عن أبى حسان، عن ابنِ عباس أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كان يزورُ البيتَ أيامَ مِنَى" ورواه ابنُ عَرْعَرَةَ، دفع إلينا مُعاذُ بنُ هِشام كتاباً قال: سمعتُه من أبى ولم يقرأه، قال: وكان فيه عن أبى حسان، عن ابن عباس أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كان يزورُ البيت كُلَّ ليلةٍ ما دام بمِنَى". قال: وما رأيتُ أحداً واطأه عليه... انتهى.

ورواه الثورى فى "جامعه" عن ابن طاووس عن أبيه مرسلاً، وهو وَهْمٌ، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَرْجِعْ إلى مكة بعد أن طاف للإفاضة، وبقى فى مِنَى إلى حين الوَداع، والله وأعلم.
فصل
ومنها وَهْمٌ مَن قال: إنه ودَّع مرتين، ووَهْمُ مَن قال: إنه جعل مكة دائرة فى دخوله وخروجه، فبات بذى طُوَى، ثم دخل من أعلاها، ثم خرج من أسفلها، ثم رجع إلى المحصَّب عن يمين مكة، فكملت الدائرة.
فصل
ومنها وَهْمُ مَن زعم: أنه انتقل من المحصَّب إلى ظهر العقبة، فهذه كلُّها من الأوهام نبهَّنا عليها مفصَّلاً ومجملاً، وبالله التوفيق.

فصول: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الهدايا والضحايا والعقيقة
[فصل في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الهدايا]
...
وهى مختصة بالأزواج الثمانيةِ المذكورةِ فى سُورة "الأنعام" ولم يُعرف عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عن الصَّحابة هَدْى، ولا أُضحية، ولا عقيقةٌ مِن غيرها، وهذا مأخوذ من القرآن من مجموع أربع آيات..
إحداها: قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنعَامِ} [المائدة: 1].
والثانية: قولُه تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فى أيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28].
والثالثة: قولُه تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشَاً، كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطَانِ، إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌ مُبِينٌ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج} [الأنعام: 142-143] ثم ذكرها.
الرابعة: قولُه تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ} [المائدة: 95].
فدلَّ على أنَّ الذى يبلُغ الكعبةَ من الهَدْى هو هذه الأزواجُ الثمانية وهذا استنباطُ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه.
والذبائح التى هى قُرْبة إلى الله وعبادة: هى ثلاثة: الهَدْىُ، والأُضحية، والعقيقةُ.

فأهدى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغنَم، وأهدى الإبل، وأهدى عن نسائه البقرَ، وأهدى فى مقامه، وفى عُمرته، وفى حَجته، وكانت سُنَّتُه تقليدَ الغنم دون إشعارها.
وكان إذا بعث بهَدْيِه وهو مُقيم لم يَحْرُمْ عَلَيْهِ شىء كان مِنه حَلالاً.
وكان إذا أهدى الإبل، قلَّدها وأَشْعَرَها، فيشُقُّ صفحة سَنَامِها الأيمنِ يسيراً حتى يَسيلَ الدم. قال الشافعى: والإشعار فى الصفحة اليمنى، كذلك أشعر النَّبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان إذا بعث بهَدْيهِ، أمرَ رسولَه إذا أشرف على عَطَبٍ شىءٌ منه أن يَنحره، ثم يَصْبغَ نعلَه فى دمه، ثم يجعلَه على صفحته، ولا يأكل منه هو، ولا أحدٌ من أهل رفقته ثم يقسِمُ لحمه، ومنعه من هذا الأكل سداً للذريعة، فإنه لعلَّه ربَّما قصَّر فى حفظه ليُشارِفَ العطَب، فينحره، ويأكل منه، فإذا علم أنه لا يأكلُ منه شيئاً، اجتهَد فى حفظه.
وشرَّك بين أصحابه فى الهَدْى كما تقدَّم:البدنةُ عن سبعة، والبقرةُ كذلك.
وأباح لسائق الهَدْى ركوبَه بالمعروف إذا احتاج إليه حتى يَجِدَ ظهراً

غيرَه وقال علىُّ رضى الله عنه: يشربُ مِن لَبنها ما فضَل عن ولدها.
وكان هَديُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحرَ الإبل قياماً، مقيَّدة، معقولَة اليُسرى، على ثلاث، وكان يُسمِّى اللهَ عِند نحره، ويُكبِّرُ، وكان يذبح نُسُكه بيده، وربما وكَّل فى بعضه، كما أمر علياً رضى الله عنه أن يذبح ما بقى من المائة. وكان إذا ذبح الغنم، وضع قدَمه على صِفاحها ثم سمَّى وكبَّر، وذبح، وقد تقدَّم أنه نحر بمِنَى وقال:" إنَّ فِجاجَ مَكَّةَ كُلَّهَا مَنْحَرٌ" وقال ابنُ عباس: مناحِرُ البُدن بمكة، ولكنها نُزِّهَتْ عن الدماء، ومِنَى مِن مكة، وكان ابنُ عباس ينحرُ بمكة.
وأباحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُمَّتِه أن يأكُلوا من هَداياهم وضحاياهم، ويتزوَّدوا منها، ونهاهم مرةً أن يدَّخِروا منها بعد ثلاثٍ لدافَّةٍِ دَفَّتْ عليهم ذلكَ العامَ مِن الناس، فأحبَّ أن يُوسِّعوا عليهم.

وذكر أبو دواد من حديث جُبير بن نفير، عن ثوبان قال: ضَحَّى رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قَالَ: "يا ثَوْبَانُ أَصْلِحْ لَنَا لَحْمَ هذِهِ الشَّاةِ " قال: فَمَا زِلْتُ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ المَدِينَةَ.
وروى مسلم هذه القصة، ولفظه فيها:أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له فى حَجة الوداع :"أَصْلِحْ هذَا اللَّحْمَ " قال: فَأصْلحْتُه، فَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ مِنْهُ حَتَّى بَلَغَ المَدِينَة.
وكان رُبَّما قسم لُحوم الهَدْى، ورُبما قال: "مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ" فعل هذا، وفعل هذا، واستدل بهذا على جواز النُّهبة فى النِّثار فى العُرس ونحوه، وفُرِّقَ بينهما بما لا يَتَبَّينُ.
فصل
وكان مِن هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذبحُ هَدْى العُمرة عند المروةِ، وهَدْىِ القِران

بمِنَى، وكذلك كان ابنُ عمر يفعل، ولم ينحر هَدْيَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطُّ إلا بعد أن حَلَّ، ولم ينحره قبل يومِ النحر، ولا أحدٌ مِن الصحابة البتة، ولم ينحره أيضاً إلا بعد طُلوع الشمس، وبعد الرمى، فهى أربعة أُمور مرتبة يوم النحر، أولها: الرمىُ، ثم النَّحرُ، ثمَّ الحلقُ، ثم الطوافُ، وهكذا رتَّبها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يُرخِّص فى النحر قبل طلوعِ الشمس البتة، ولا ريبَ أن ذَلكَ مخالف لهَدْيِه، فحكمُه حكمُ الأُضحية إذا ذُبحت قبلَ طلوعِ الشمسِ.

فصل: وأما هديُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الأضاحى
فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يَدَعُ الأُضحية، وكان يُضَحِّى بكبشين، وكان ينحرُهما بعد صلاة العيد، وأخبر أن: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فى شَىءٍ، وإنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ". هذا الَّذى دلَّت عليه سُنَّتُه وهَدْيُه، لا الاعتبارُ بوقت الصلاة والخطبة، بل بنَفس فِعلها، وهذا هو الذى ندينُ الله به، وأمرهم أن يَذبحوا الجَذَعَ مِن الضَّأْنِ والثَّنِىَّ مِمَّا سِوَاهُ، وهى المُسِنَّة.

وروى عنه أنه قَال: "كُلُّ أيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ" لكنَّ الحديثَ مُنقطعٌ لا يثبُت وصلُه.
وأما نهيهُ عن ادِّخارِ لحومِ الأضاحى فوقَ ثلاثٍ، فلا يدُل على أن أيام الذبح ثلاثة فقط، لأن الحديث دليل على نهى الذابح أن يدَّخِرَ شيئاً فوق ثلاثة أيام مِن يوم ذبحه، فلو أخَّر الذبح إلى اليوم الثالث، لجاز له الادِّخارُ وقتَ النهى ما بينه وبين ثلاثة أيام، والَّذين حدَّدوه بالثلاث، فهموا من نهيه عن الادِّخار فوقَ ثلاث أنَّ أولها من يوم النحر، قالوا: وغيرُ جائز أن يكون الذبحُ مشروعاً فى وقت يحرُم فيه الأكلُ، قالوا: ثم نُسِخَ تحريم الأكل فبقى وقت الذبح بحاله.
فيقال لهم: إن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَنْهَ إلا عن الادِّخارِ فوق ثلاث، لم ينه عن التضحية بعد ثلاث، فأين أحدهما من الآخر، ولا تلازم بين ما نهى عنه، وبين اختصاصِ الذبح بثلاث لوجهين..
أحدهما: أنه يسوغُ الذبحُ فى اليوم الثانى والثالثِ، فيجوزُ له الادِّخار إلى تمام الثلاث من يوم الذبح، ولا يَتِمُّ لكم الاستدلالُ حتى يثبت النهىُ عن الذبح بعد يوم النحر، ولا سبيلَ لكم إلى هذا.

الثانى: أنه لو ذبح فى آخر جزءٍ من يوم النحر، لساغ له حينئذ الادِّخارُ ثلاثة أيامٍ بعده بمقتضى الحديث، وقد قال علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه: أيامُ النحر: يوم الأضحى، وثلاثة أيام بعده، وهو مذهبُ إمام أهلِ البصرةِ الحسنِ، وإمام أهل مكة عطاءِ بن أبى رباح، وإمامِ أهلِ الشام الأوزاعى، وإمامِ فقهاء أهلِ الحديث الشافعى رحمه الله، واختاره ابنُ المنذر، ولأن الثلاثة تختصُّ بكونها أيام مِنَى، وأيام الرمى، وأَيام التشريق، ويحرُم صيامُها، فهى إخوة فى هذه الأحكام، فكيف تفترق فى جواز الذبح بغير نص ولا إجماع. وروى من وجهين مختلفين يَشُدُّ أحدُهما الآخر عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " كُلُّ مِنَى مَنْحَرٌ، وَكُلُّ أَيامِ التَّشريِقِ ذَبْحٌ" ، وروى من حديث جبير بن مطعم وفيه انقطاع، ومن حديث أُسامة بن زيد، عن عطاء، عن جابر.
قال يعقوب بن سفيان: أُسامة بن زيد عند أهل المدينة ثقة مأمون، وفى هذه المسألة أربعةُ أقوال، هذا أحدُها.
والثانى: أنَّ وقتَ الذبح، يومُ النَّحر، ويومانِ بعده، وهذا مذهبُ أحمد، ومالك، وأبى حنيفة رحمهم الله، قال أحمد: هو قولُ غيرِ واحدٍ من أصحابِ محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكره الأثرم عن ابن عمر، وابن عباس رضى الله عنهم.

الثالث: أنَّ وقتَ النحر يومٌ واحد، وهو قولُ ابنِ سيرين، لأنه اختصَّ بهذه التسميةِ، فدلَّ على اختصاص حكمِها به، ولو جاز فى الثلاثة، لقيل لها: أيامُ النحر، كما قيل لها: أيامُ الرمى، وأيامُ مِنَى، وأيامٍُ التشريقِ، ولأن العيد يُضاف إلى النَّحر، وهو يومٌ واحد، كما يقال: عيد الفطر.
الرابع: قولُ سعيدِ بنِ جبير، وجابرِ بن زيد: أنه يوم واحد فى الأمصار، وثلاثةُ أيام فى مِنَى، لأنها هناك أيام أعمالِ المناسكِ من الرمىِ والطواف والحلقِ، فكانت أياماً للذبح، بخلاف أهلِ الأمصار.
فصل
ومن هَدْيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن مَن أراد التَّضحيةَ، ودخل يومُ العشر، فلا يأخُذْ مِن شعره وبشره شيئاً، ثبت النهىُ عن ذلك فى "صحيح مسلم" وأما الدارقطنى فقال: الصحيحُ عندى أنه موقوف على أُمِّ سلمة.
وكان مِن هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختيارُ الأُضحيةِ، واستحسانُها، وسلامُتها مِن العُيوب، ونهى أَنْ يُضَحَّى بِعَضْبَاءِ الأَذُنِ والقَرْنِ، أى: مقطوعة الأذن، ومكسورة القَرن، النصف فما زاد، ذكره أبو داود، وأمرَ أَنْ تُسْتَشْرَفَ

العَيْنُ والأُذُنُ، أى: يُنظر إلى سلامتها، وأن لا يُضحَّى بِعَوْرَاءَ، ولا مُقابَلَة، ولا مُدَابَرَة، ولا شرقاءَ، ولا خَرْقَاءَ. والمُقَابَلَةُ: هى التى قُطِعَ مُقَدَّمُ أُذُنِها، والمُدَابَرَةُ: الَّتِى قُطِعَ مُؤَخَّرُ أُذُنِهَا، والشَّرُقَاءُ: الَّتى شُقَّتْ أُذُنُها، والخَرْقَاءُ: الَّتى خُرِقَتْ أُذُنُها. ذكره أبو داود.
وذكر عنه أيضاً: "أَرْبَعٌ لاَ تُجْزِئُ فى الأَضَاحِى: العَوْرَاءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا، والمَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُهَا، والعَرْجَاءُ البَيِّنُ عَرَجُهَا، والكَسيرَةُ الَّتى لا تُنْقى، والعَجْفَاءُ التى لا تُنْقى" أى: من هزالها لا مُخَّ فيها.

وذكر أيضاً أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن المُصْفَرةِ، والمُسْتَأْصَلَةِ، والبَخْقَاء، والمُشَيَّعَةِ، والكَسْراء. فالمُصُفَرة: التى تُستأصل أذُنها حتى يَبْدُوَ صِمَاخُها، والمُستَأْصَلَةُ: التى استُؤصِلَ قَرْنُها مِنْ أَصْلِهِ، والبَخْقَاء: التى بخقت عينُها، والمشيَّعة: التى لا تتبع الغنم عَجَفاً وضَعْفاً، والكَسْرَاءُ: الكَسِيرة، والله أعلم.
فصل
وكان مِن هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُضحِّىَ بالمُصلَّى، ذكره أبو داود عن جابر أنه شَهِدَ معه الأضحى بالمصلَّى، فلما قَضَى خُطبته نزل مِن منبره، وأُتى بِكَبْشٍ، فذبحه بيده وقال: "بِسْمِ الله، وَاللهُ أَكْبَرُ، هذَا عَنِّى وَعَمَّن لَمْ يُضَحِّ مِنْ أمتى" وفى "الصحيحين" أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَذْبَحُ وينحَرُ بالمصَلَّى.

وذكر أبو داود عنه: أنه ذبح يومَ النحر كبشيْنِ أقرنين أمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَينِ، فلما وجَّهَهُمَا قال: "وجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً، ومَا أَنَا مِنَ المُشْركِينَ، إنَّ صَلاتى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتى للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لا شَريكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أوَّلُ المُسْلِمِينَ، اللهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، بِسْمِ اللهِ، واللهُ أكْبَرُ" ثُمَّ ذَبَح.
وأمَر الناسَ إذا ذبحوا أن يُحسِنُوا الذبح، وإذا قتلُوا أن يُحسِنوا القِتلة، وقال: "إن اللهَ كَتَبَ الإحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ".
وكان من هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الشاة تُجزِئُ عَنًِ الرَّجُلِ، وعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ولو كَثُرَ عددُهم، كما قال عطاءُ بن يسار: سألتُ أبا أيوبٍ الأنصارىَّ: "كيف كانت الضَّحايا على عهدِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: إنْ كَانَ الرَّجُلُ يُضَحِّى بالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ".
قال الترمذى: حديث حسن صحيح.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العقيقة
فى "الموطأ" أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ العَقِيقَةِ، فقالَ: "لاَ أُحِبُّ العُقُوقَ" كأنه كَرِهَ الاسم، ذكره عن زيد بن أسلم، عن رجل من بنى ضَمْرَةَ، عن أبيه. قال ابن عبد البر: وأحسنُ أسانيده ما ذكره عبد الرزاق: أنبأ داود ابن قيس، قال: سمعتُ عمرو بن شعيب يُحدِّث عن أبيه، عن جده قال: سُئل رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ العَقِيقَةِ، فقال: "لا أُحِبُّ العُقُوقَ" وكَأَنَّهُ كَرِهَ الاسْمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ؛ يَنْسُكُ أَحَدُنَا عَنْ وَلَدِهِ؟ فَقَالَ: "مَنْ أَحَبَّ مِنْكُم أنَ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ، فَلْيَفْعَلْ: عَنِ الغُلاَم شَاتَانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاة".
وصح عنه من حديث عائِشَةَ رضى الله عنها: "عَنِ الغُلام شَاتَانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ".
وقال : "كُلُّ غُلاَم رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ، ويُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُسَمَّى".

قال الإمام أحمد: معناه: أنه محبوسٌ عن الشفاعة فى أبويه، والرهن فى اللُّغة: الحبس، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]، وظاهر الحديثِ أنه رهينةٌ فى نفسه، ممنوعٌ محبوس عن خير يُراد به، ولا يلزمُ من ذلك أن يُعاقَب على ذلك فى الآخرة، وإن حُبِسَ بترك أبويه العقيقةَ عما ينالُه مَنْ عَقَّ عنه أبواه، وقد يفوتُ الولَد خير بسبب تفريطِ الأبوين وإن لم يكن مِن كسبه، كما أنَّه عند الجِماع إذا سمَّى أبوه، لم يضرَّ الشيطانُ ولَدَه، وإذا ترك التسميةَ، لم يحصل للولد هذا الحِفْظُ.
وأيضاً فإنَّ هذا إنما يدُلُّ على أنها لازمة لا بُد منها، فشبه لزومَها وعدَمَ انفكاك المولود عنها بالرهن. وقد يَسْتَدِلُّ بهذا مَن يرى وجوبَها كالليث بن سعْد والحسن البصرى، وأهل الظاهر. والله أعلم.
فإن قيل: فكيف تصنعون فى رواية همَّام عن قتادة فى هذا الحديث: "ويُدَمَّى" قال همام: سُئِلَ قتادةُ عن قوله: و"يُدَمَّى" كيف يصنعُ بالدم؟ فقال: إذا ذُبِحَت العقيقةُ، أُخِذَتْ منها صوفة، واستُقبِلَت بها أوداجُها، ثم تُوضعُ على يافوخِ الصَّبىِّ حتى تَسِيلَ على رأسه مثلَ الخيط، ثم يُغسل رأسه بعد ويُحلق. قيل: اختَلَف الناسُ فى ذلك، فمِن قائل: هذا من رواية الحسن عن سَمُرَةَ، ولا يَصِحُّ سماعُه عنه، ومِن قائل: سماعُ الحسن عن سَمُرَةَ حديث العقيقة هذا صحيح، صحَّحه التِرمِذىُّ، وغيرُه، وقد ذكره البخارىُّ فى "صحيحه" عن حبيب بن الشهيد قال: قال لى محمَّدُ بنُ سيرين: اذهب فَسَلِ الحَسَنَ ممن سمِع حديثَ العقيقة؟ فسأله فقال: سمعته من سَمُرَة.
ثم اختُلِفَ فى التدميةِ بعدُ: هل هى صحيحة، أو غلط؟ على قولين.

فقال أبو داود فى "سننه": هى وهم مِن همَّام بن يحيى. وقوله: "ويُدَمَّى"، إنما هو "ويُسَمَّى" وقال غيرُه: كان فى لسان هَمَّام لُثْغَةٌ فقال: "ويُدَمَّى" وإنما أراد أن يُسمَّى، وهذا لا يصِح، فإن هماماً وإن كان وَهِمَ فى اللفظ، ولم يُقِمْه لِسانُه، فقد حكى عن قتادة صفةَ التدمية، وأنه سئل عنها فأجاب بذلك، وهذا لا تحتمِلُه اللُّغة بوجه، فإن كان لفظُ التدمية هنا وَهْماً، فهو من قتادة، أو من الحسن، والذين أثبتوا لفظَ التدمية قالوا: إنه من سُنَّة العقيقة، وهذا مروى عن الحسن وقتادة، والذين منعوا التدمية، كمالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، قالوا: "ويُدَمَّى" غلط، وإنما هو: "ويُسمَّى"، قالوا: وهذا كان مِن عملِ أهلِ الجاهلية، فأبطله الإسلامُ، بدليل ما رواه أبو داود، عن بُريدة بنِ الحُصَيْبِ قال: كُنَّا فى الجَاهِلِيَّةِ إذَا وُلِدَ لأَحَدِنَا غُلامٌ ذَبَحَ شَاةً وَلَطَّخَ رَأْسَهُ بِدَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ اللهُ بالإسْلاَم، كُنَّا نَذْبَحُ شَاةً وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ وَنُلَطِّخُه بِزَعْفَرَان. قالوا: وَهَذَا وإنْ كَانَ فى إسناده الحسين بن واقد

، ولا يُحتَجُّ به، فإذا انضاف إلى قولِ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى" . والدم أذى، فكيف يأمرهم أن يلطِّخوه بالأذى؟ قالوا: ومعلومٌ أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّ عَنِ الحَسَنِ والحُسَيْنِ بِكَبْشٍ كَبْشٍ، وَلَمْ يُدَمِّهِمَا، ولا كانَ ذلكَ مِنْ هَدْيه، وهَدْىِ أصحابِه، قالوا:وكيفِ يكونُ مِن سُنَّته تنجيسُ رأسِ المولود، وأين لهذا شاهدٌ ونظيرٌ فى سُنَّته؟؟وإنما يَليقُ هذا بأهلِ الجَاهلية.
فصل
فإن قيل: عَقُّه عن الحسن والحُسينِ بِكبش كبشٍ، يَدُلُّ على أن هَدْيه أن على الرأسِ رأساً، وقد صحح عبدُ الحق الإشبيلى من حديثِ ابنِ عبَّاس وأنسٍ أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّ عَنِ الحَسَنِ بِكَبْشٍ، وعَنِ الحُسينِ بِكَبْشٍ وكَانَ مولدُ الحسن عامَ أُحُدٍ والحسين فى العام القابل منه.
وروى الترمذىُّ من حديث علىّ رضى الله عنه قال: عَقَّ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحسنِ شاة، وقال: "يا فَاطِمَةُ احْلِقِى رَأْسَهُ، وَتَصَدَّقِى بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً" ، فوزنَّاه فَكَانَ وزنُه دِرهماً أوْ بعضَ دِرهمَ، وهذا وإن لم يكن إسناده متصلاً فحديثُ أَنس وابن عباس يكفيان. قالُوا: لأنه نُسُكٌ، فكان على الرأس مثلُه، كالأُضحية ودمِ التمتع. فالجواب أن

أحاديثَ الشّاتين عن الذكر، والشاة عن الأُنثى، أولى أن يؤخذ بها لوجوه.
أحدُها: كثرتُها، فإن رواتَها: عائشةُ، وعبدُ الله بن عمرو، وأمَُّ كُرْزِ الكعبية، وأسماءُ.
فروى أبو داود عن أمِّ كُرز قالت: سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " عَنِ الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الجَارِيةِ شَاةٌ".
قال أبو داود: وسمعتُ أحمد يقولُ: مُكافئتانِ: مستويتانِ أو مقاربتان، قلتُ: هو مكَافَأتانِ بفتح الفاء، ومكَافِئَتان بكسرها، والمحدِّثون يختارونَ الفتحَ، قال الزمخشرى: لا فرقَ بين الروايتين، لأن كل مَنْ كافأْته، فقد كافأَك. وروى أيضاً عنها ترفعُه: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مَكِنَاتِهَا" وسمعتُه يقول: "عَن الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ، لاَ يَضُرُّكُم أذُكْرَاناً كُنَّ أَمْ إنَاثاً"، وعنها أيضاً ترفعه: "عَنِ الغُلامِ شَاتَانِ مِثْلانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ"، وقال الترمذى: حديثٌ صحيح.
وقد تقدَّم حديثُ عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه فى ذلك، وعَنْ عائِشة أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمرَهُم عَنِ الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الجَاريَةِ شَاةٌ. قال الترمذى: حديث حسن صحيح.

وروى إسماعيل بن عَيَّاش، عن ثابتِ بنِ عَجلان، عن مجاهد عن أسماء، عَن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يُعَقُّ عَنِ الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ".
قال مهنا: قلتُ لأحمد: مَن أسماء؟ فقال: ينبغى أن تكون أسماءَ بنتَ أبى بكر.
وفى كتاب الخلال: قال مهنا: قلتُ لأحمد: حدثنا خَالِدُ بنُ خِداش، قال: حدثنا عبد الله بن وهب، قال: حدثنا عمرو بن الحارث أن أيوب ابن موسى حدَّثه، أن يزيد بن عبد المزنى حدَّثه، عن أبيه، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يُعَقُّ عَنِ الغُلامِ، وَلاَ يُمَسُّ رَأْسُهُ بِدَمٍ" ، وقال: "فى الإبِلِ الفَرَعُ، وَفى الغَنَمِ الفَرَعُ" فقال أحمد: ما أعرفه، ولا أعرِفُ عبد بن يزيد المزنى، ولا هذا الحديث، فقلتُ له: أتنكره؟ فقال: لا أعرِفه، وقصةُ الحسنِ والحسين رضى الله عنهما حديثُ واحد.
الثانى : أنها من فعل النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأحاديثُ الشاتين من قَوله، وقولُه عام، وفِعْلُه يحتمل الاختصاص.
الثالث: أنها متضمِّنة لزيادة، فكان الأخذُ بها أولى.

الرابع: أن الفعل يدُلُّ على الجواز، والقول على الاستحباب، والأخذُ بهما ممكن، فلا وجه لتعطيل أحدهما.
الخامس : أن قصة الذبح عن الحسن والحسين كانت عام أُحُد والعام الذى بعده، وأم كُرز سَمِعَتْ مِن النبى
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما روته عام الحُديبية سنة ست بعد الذبح عن الحسن والحسين، قاله النسائى فى كتابه الكبير.
السادس: أن قِصة الحسنِ والحُسين يحتمِل أن يُراد بها بيان جنسِ المذبوح، وأنه مِن الكِباش لا تخصيصه بالواحد، كما قالت عائشة: ضحَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نسائه بقرة، وكن تِسعاً، ومرادها: الجنس لا التخصيص بالواحدة.
السابع: أن الله سُبْحَانَه فضَّل الذَّكَرَ على الأُنثى، كما قال: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران: 36]، ومقتضى هذا التفاضل ترجيحُه عليها فى الأحكام، وقد جاءت الشريعةُ بهذا التفضيل فى جعل الذكر كالأُنثيين، فى الشهادة، والميراثِ، والديةِ، فكذلك أُلْحِقَتِ العقيقةُ بهذه الأحكام.
الثامن: أن العقيقة تُشبه العِتق عن المولود، فإنه رهينٌ بعقيقته، فالعقيقةُ تَفُكُّه وتعتِقه، وكانَ الأولى أن يُعَقَّ عن الذكر بشاتين، وعن الأُنثى بشاة، كما أن عِتق الأُنثيين يقومُ مقام عِتق الذكر. كما فى "جامع الترمذى" وغيره عن أبى أُمامة قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أيُّمَا امْرىءٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَءاً مُسْلِماً، كَانَ فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِى كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْواً مِنْهُ، وَأيُّمَا امْرِىءٍ مُسْلِمٍ أَعْتَق امْرَأتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجزى كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُمَا عُضْواً

مِنْهُ، وأَيُّمَا امْرأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتْ امْرأَةً مُسْلِمَةً كانت فِكَاكَهَا مِنَ النَّارِ، يُجْزى كُلُّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْواً مِنْهَا" وهذا حديث صحيح.
فصل
ذكر أبو داود فى "المراسيل" عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فى العقيقة التى عقَّتْها فاطِمةُ عن الحسن والحسين رضى الله عنهما: "أَنِ ابْعَثُوا إلَى بَيْتِ القَابِلَةِ بِرِجْلٍ وَكُلُوا وَأَطْعِمُوا وَلاَ تَكْسِرُوا مِنْهَا عَظْماً".
فصل
وذكر ابنُ أيمن مِن حديث أنس رضى الله عنه، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُ النُّبُوَّةُ، وهذا الحديثُ قال أبو داود فى "مسائله": سمعتُ أحمد حدََّّثهم بحديث الهيثم بنِ جميل، عن عبد الله بن المثنى عن ثُمامة عن أنس أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّ عن نفسه، فقال أحمد: عبد الله بن محرز عن قتادة عن أنس أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّ عن نفسه، قال مهنا: قال أحمد: هذا منكر، وضعَّف عبد الله بن المحرر.

فصل
ذكر أبو داود عن أبى رافع قال:"رأيتُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذَّنَ فى أُذُنِ الحَسَنِ بِنْ عَلِىٍّ حِينَ وَلَدَتْهُ أُمُّه فَاطِمَةُ رَضِىَ اللهُ عَنْهَا بِالصَّلاةِ".

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تسمية المولود وخِتانه
قد تقدَّم قولُه فى حديث قتادة عن الحسن، عن سَمُرَةَ فى العقيقة: "تُذْبَحُ يَوْمَ سًَابِعِهِ وَيُسَمَّى" قال الميمونى: تذاكرنا لِكَم يُسَمَّى الصبىُّ؟ قال لنا أبو عبد الله: يُروى عن أنس أنه يُسمَّى لثلاثة، وأما سَمُرة، فقال: يُسمَّى فى اليوم السابع، فأمّا الخِتَان، فقال ابنُ عبّاس: كانوا لا يختنون الغلام حتى يُدرِكَ، قال الميمونى: سمعتُ أحمد يقول: كان الحسن يكره أن يُختن الصبىُّ يومَ سابعه، وقال حنبل: إن أبا عبد الله قال: وإن خُتِنَ يومَ السابع، فلا بأس، وإنما كره الحسن ذلك لئلا يتشبه باليهود، وليس فى هذا شىء. قال مكحول: ختن إبراهيمُ ابنه إسحاق لسبعة أيام، وختن إسماعيل لثلاث عشرة سنة، ذكره الخلال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فصار خِتان إسحاق سُنَّة فى ولده، وخِتان إسماعيل سُنَّة فى ولده، وقد تقدَّم الخلافُ فى ختان النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متى كان ذلك.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الأسماء والكُنى
ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ، لاَ مَلِكَ إلاَّ اللهُ".
وثبت عنه أنه قال: " أحَبُّ الأسْمَاءِ إلَى اللهِ عَبْدُ اللهِ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وهَمَّامٌ، وأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةٌ".
وثبت عنه أنه قال: "لا تُسَمِينَّ غُلامَكَ يَسَاراً وَلاَ رَبَاحاً وَلاَ نَجِيحاً وَلاَ أَفْلَحَ، فَإنَّكَ تَقُولُ: أَثَمَّتَ هُوَ؟ فَلاَ يَكُونُ، فَيُقَالُ: لا".

وثبت عنه أنه غيَّر اسم عاصية، وقال: "أنتِ جَميلَةٌ".
وكان اسم جُوَيْريَةَ: بَرَّةً، فغيَّره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسم جُوَيْرِيَة.
وقالت زينبُ بنتُ أمِّ سلمة: نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُسَمَّى بِهذا الاسمِ، فَقَالَ: "لاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُم، اللهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ البِّر مِنْكُم".
وغيَّر اسم أَصْرَم بزُرعةَ، وغيَّرَ اسمَ أبى الحَكَم بأبى شُرَيْحٍ.
وغيَّرَ اسم حَزْن جدِّ سعيد بن المسيب وجعله سَهلاً فأبَى، وقال "السَّهْلُ يُوطَأ وَيُمْتَهَنُ".

قال أبو داود: وغيَّرَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسمَ العَاصِ، وعَزِيز، وعَتْلَةَ، وشَيطَان والحَكَم، وغُراب، وحُباب، وشِهاب، فسماه هِشاماً، وسمِّى حرباً سِلْماً، وسمَّى المضطجعَ المنبعِثَ، وأرضاً عَفْرَةً سمَّاها خَضِرَةً، وشِعْبُ الضَّلالَةِ سماه شِعْبَ الهُدى، وبنو الزِّنية سماهم بنى الرِّشدة، وسمَّى بنى مُغوِيَةَ بنى رِشْدَةَ.
فصل: فى فقه هذا الباب
لما كانت الأسماءُ قوالِبَ للمعانى، ودالَّةً عليها، اقتضتِ الحكمةُ أن يكونَ بينها وبينها ارتباطٌ وتناسبٌ، وأن لا يكون المعنى معها بمنزلة الأجنبى المحضِ الذى لا تعلُّقَ له بها، فإن حِكمة الحكيم تأبى ذلك، والواقِعُ يشهد بِخَلافه، بل للأسماء تأثيرٌ فى المسميَات، وَلِلْمُسَمَّيَاتِ تأثُّر عن أسمائها فى الحُسن والقبح، والخِفَّة والثِّقَل، واللطافة والكَثَافة، كما قيل:
وقلَّما أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ ذَا لَقَبٍ ... إلاَّ وَمَعْنَاهُ إن فَكَّرتَ فى لَقَبِهْ
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستحِبُّ الاسم الحسَن، وأمر إذا أَبْرَدُوا إليهِ بَرِيداً أن يَكُونَ حَسَنَ الاسْمِ حَسَنَ الوَجْهِ. وكانَ يأخذ المعانى من أسمائِهَا

فى المنامِ واليقظة، كما رأى أنه وأصحابَه فى دار عُقبة بن رافِع، فأُتُوا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابَ، فأَوَّله بأن لهم الرفعةَ فى الدنيا، والعاقبةَ فى الآخرةِ، وأنَّ الدِّينَ الذى قد اختاره الله لهم قد أرطب وطَابَ، وتَأوَّلَ سُهولة أمرِهم يومَ الحديبية مِن مجيئ سُهيل بن عمرو إليه.
وندب جماعة إلى حلب شاة، فقام رجلٌ يحلُبها، فقال: "ما اسْمُكَ"؟ قال: مُرَّة، فقال: "اجْلِسْ"، فَقَامَ آخَرُ فقال: "ما اسْمُكَ"؟ قال: أظنه حَرْب، فقال: "اجْلِسْ"، فَقَامَ آخرُ فقال: "ما اسْمُكَ"؟ فقال: يَعِيشُ، فَقَال: "احلُبها".
وكان يكره الأمكِنةَ المنكرةَ الأسماء، ويكره العُبُورَ فيها، كمَا مَرَّ فى بعضِ غزواته بين جبلين، فسأل عن اسميهما فقالوا: فاضِحٌ ومُخزٍ، فعدلَ عنهما، ولَم يَجُزْ بينهما.
ولما كان بين الأسماء والمسميَّاتِ مِن الارتباط والتناسُبِ والقرابةِ،

ما بين قوالب الأشياءِ وحقائِقها، وما بينَ الأرواحِ والأجسامِ، عَبَرَ العَقْلُ مِن كل منهما إلى الآخر، كما كان إياسُ بن معاوية وغيرُه يرى الشخصَ، فيقولُ: ينبغى أن يكونَ اسمُه كَيْتَ وكَيْتَ، فلا يكاد يُخطىءُ، وضِدُّ هذا العبور من الاسم إلى مسماه، كما سأل عمر بن الخطاب رضى الله عنه رجلاً عن اسمه، فقال: جَمْرَةُ، فقال: واسمُ أبيك؟ قال: شِهَابٌ، قال: مِمَّن؟ قال: مِنَ الحُرَقَةِ، قال: فمنزلُك؟ قال: بِحرَّة النَّار، قال: فأينَ مسكنُكَ؟ قال: بِذَاتِ لَظَى. قال: اذهَبْ فقد احترق مسكنك، فذهب فوجد الأمرَ كذلك، فَعَبَرَ عمر من الألفاظ إلى أرواحها ومعانيها، كما عَبَرَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اسم سُهيل إلى سهولة أمرهم يَوْم الحُديبية، فكان الأمرُ كذلك، وقد أمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّته بتحسين أسمائهم، وأخبر أنهم يُدعَوْنَ يومَ القِيَامَةِ بها، وفى هذا - والله أعلم - تنبيهٌ على تحسين الأفعال المناسبة لتحسين الأسماء، لتكون الدعوة على رؤوس الأشهاد بالاسم الحسنِ، والوصفِ المناسِبِ له.
وتأمل كيف اشتُقَّ للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن وصفه اسمان مطابقان لمعناه، وهما أحمد ومحمَّد، فهو لكثرة ما فيه من الصفات المحمودة محمَّد، ولِشرفها وفضلها على صفات غيره أحمد، فارتبط الاسمُ بالمسمى ارتباطَ الروحِ بالجسد، وكذلك تكنيتُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبى الحكم بن هشام بأبى جهل كنية مطابقة لوصفه ومعناه، وهو أحقُّ الخَلْقِ بهذه الكُنية، وكذلِك تكنيةُ الله عَزَّ وجَلَّ لعبد العُزَّى بأبى لهب، لما كان مصيره إلى نار ذاتِ لهب، كانت هذه الكُنية أليقَ به وأوفقَ، وهو بها أحقُّ وأخلقُ.

ولما قَدِمَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، واسمها يَثْرِبُ لا تُعرف بغير هذا الاسم، غيَّره ب "طيبة" لمَّا زال عنها ما فى لفظ يثرِب من التثريب بما فى معنى طَيبة من الطِّيب، استحقت هذا الاسم، وازدادت به طيباً آخر، فأثَّر طِيبُها فى استحقاق الاسم، وزادها طِيباَ إلى طيبها.
ولما كان الاسمُ الحسنُ يقتضى مسمَّاه، ويستدعيه من قرب، قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبعض قبائل العرب وهو يدعوهم إلى الله وتوحيده: "يَابَنى عَبْد اللهِ، إنَّ اللهَ قَدْ حَسَّنَ اسْمَكُم واسْمَ أَبِيكُم" فانظر كيف دعاهم إلى عبودية الله بحسن اسم أبيهم، وبما فيه من المعنى المقتضى للدعوة، وتأمل أسماءَ الستة المتبارِزين يومَ بدر كيف اقتضى القَدَرُ مطابقة أسمائهم لأحوالهم يومئذ، فكان الكفارُ: شيبة، وعُتبةَ، والوليدَ، ثلاثة أسماء من الضعف، فالوليدُ له بداية الضعف، وشيبة له نهاية الضعف، كما قال تعالى: {اللهُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم: 54] وعُتْبة من العتب، فدلت أسماؤهم على عتبٍ يَحِلُّ بهم، وضَعْفٍ ينالُهم، وكان أقرانهم من المسلمين: علىٌ، وعبيدةُ، والحارِث، رضى الله عنهم، ثلاثة أسماء تُناسب أوصافهم،

وهى العلو، والعبودية، والسعى الذى هو الحرث فعَلَوْا عليهم بعبوديتهم وسعيهم فى حرث الآخرة، ولما كان الاسم مقتضياً لمسماه، ومؤثِّراً فيه، كان أحبُّ الأسماءِ إلى اللهِ ما اقتضى أحبَّ الأوصاف إليه، كعبدِ الله، وعبدِ الرحمن، وكان إضافةُ العبودية إلى اسم الله، واسم الرحمن، أحبَّ إليه من إضافتها إلى غيرهما، كالقاهر، والقادر، فعبدُ الرحمن أحبُّ إليه من عبد القادر، وعبدُ اللهِ أحبُّ إليه من عَبْدِ ربِّه، وهذا لأن التعلق الذى بين العبد وبين الله إنما هو العبوديةُ المحضة، والتعلُّقُ الذى بين اللهِ وبينَ العبد بالرحمة المحضة، فبرحمته كان وجودُه وكمالُ وجوده، والغايةُ التى أوجده لأجلها أن يتألّه له وحده محبةً وخوفاً، ورجاءاً وإجلالاً وتعظيماً، فيكون عَبْداً لِلَّهِ وقد عبده لما فى اسم الله من معنى الإلهية التى يستحيلُ أن تكون لغيره، ولما غلبت رحمتُه غضَبه وكانت الرحمةُ أحبَّ إليه من الغضب، كان عبدُ الرحمن أحبَّ إليه من عبد القاهر.
فصل
ولما كان كلُّ عبد متحركاً بالإرادة، والهمُّ مبدأُ الإرادة، ويترتب على إرادته حركتُه وكسبُه، كان أصدقَ الأسماء اسمُ همَّام واسمُ حارث، إذ لا ينفكُّ مسماهما عن حقيقة معناهما، ولما كان المُلْكُ الحقُّ لِلَّهِ وحده، ولا ملك على الحقيقة سواه، كان أخنع اسم وأوضَعه عند الله، وأغضَبه له سمُ "شاهان شاه" أى: ملكُ الملوك، وسلطانُ السلاطين، فإن ذلك ليس لأحد غير الله، فتسميةُ غيره بهذا من أبطل الباطل، والله لا يُحب الباطلَ.
وقد ألحقَ بعض أهل العلم بهذا: "قاضى القضاة" وقال: ليس قاضى

القضاة إلا مَن يقضى الحقّ وهو خيرُ الفاصلين، الذى إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون.
ويلى هذا الاسم فى الكراهة والقبح والكذب: سيِّدُ الناس، وسيِّدُ الكل، وليس ذلك إلا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، كما قال: "أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ" فلا يجوز لأحد قطُّ أن يقول عن غيره: إنَّه سيِّدُ الناس وسيِّدُ الكل، كما لا يجوز أن يقول: إنَّه سيِّد ولدِ آدم.
فصل
ولما كان مسمى الحربِ والمُرَّة أكرَه شئ للنفوس وأقبَحَها عندها، كان أقبحُ الأسماء حرباً ومُرَّة، وعلى قياس هذا حنظلة وحَزْن، وما أشبههما، وما أجدرَ هذه الأسماء بتأثيرها فى مسمياتها، كما أثَّر اسم "حَزْن" الحزونة فى سعيد بن المسيِّب وأهلِ بيته.
فصل
ولما كان الأنبياءُ ساداتِ بنى آدم، وأخلاقُهم أشرفَ الأخلاق،

وأعمالُهم أَصَحَّ الأعمال، كانت أسماؤهم أشرفَ الأسماء، فندب النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّته إلى التسمى بأسمائهم، كما فى سنن أبى داود والنسائى عنه: "تَسَمَّوْا بأَسْمَاءِ الأنْبِيَاءِ" ولو لم يكن فى ذلك من المصالح إلا أن الاسمَ يُذَكِّرُ بمسمَّّاه، ويقتضى التعلُّقَ بمعناه، لكفى به مصلحةً مع ما فى ذلك من حفظ أسماء الأنبياء وذِكرها، وأن لا تُنسى، وأن تُذكِّر أسماؤُهم بأوصافهم وأحوالهم.
فصل
وأما النهى عن تسمية الغلام ب: يسار وأفلحَ ونجيح ورباح، فهذا لمعنى آخر قد أشار إليه فى الحديث، وهو قوله: "فإنك تقولُ: أَثَمَّتَ هو؟ فيُقال: لا" - والله أعلم - هل هذه الزيادة من تمام الحديث المرفوع، أو مدرجةٌ من قول الصحابى، وبكل حال فإن هذه الأسماء لما كانت قد تُوجب تطيُّراً تكرَهه النفوس، ويَصُدُّها عما هى بصدده، كما إذا قلت لرجل: أعندك يَسار، أو رَبَاح، أو أفلَح؟ قال: لا، تطيَّرت أنْتَ وهو مِن ذلك، وقد تقع الطِّيَرةُ لا سيما على المتطيِّرين، فقلَّ مَن تطيَّر إلا

ووقعت به طِيرَتُه، وأصابه طائرُه، كما قيل:
تَعَلَّمْ أنَّه لاَ طَيْرَ إلاَّ ... عَلَى مُتَطَيِّرٍ فَهُو الثُّبُورُ
اقتضت حكمةُ الشارع، الرءوف بأُمَّته، الرحيمِ بهم، أن يمنعَهم من أسبابٍ تُوجب لهم سماعَ المكروه أو وقوعَه، وأن يعدل عنها إلى أسماء تُحَصِّلُ المقصودَ من غير مفسدة، هذا أولى، مع ما ينضاف إلى ذلك من تعليق ضد الاسم عليه، بأن يُسمى يساراً مَن هو مِن أعسر الناس، ونجيحاً مَن لا نجاح عنده، ورَبَاحاً مَن هو من الخاسرين، فيكون قد وقع فى الكذب عليه وعلى الله، وأمر آخر أيضاً وهو أن يُطالَب المسمَّى بمقتضى اسمه، فلا يُوجد عنده، فيجعل ذلك سبباً لذمِّة وسبِّه، كما قيل:
سَمَّوْكَ مِنْ جَهْلِهِم سَدِيداً ... والله ِ مَا فِيكَ مِن ْ سَدَادِ
أنتَ الَّذِى كَوْنُه فَسَاداً ... فِى عَالَمِ الكَوْنِ والفَسَادِ
فتوصل الشاعر بهذا الاسم إلى ذم المسمَّى به، ولى من أبيات:
وسَمَّيْته صَالِحَاً فاغْتَدَى ... بِضِدِّ اسْمِهِ فى الوَرَى سَائِراً
وَظَنَّ بأنَّ اسْمَهُ سَاتِرٌ ... لأوْصَافِهِ فَغَدَا شَاهِراً
وهذا كما أن من المدح ما يكون ذماً وموجِباً لسقوط مرتبة الممدوح عند الناس، فإنه يُمدح بما ليس فيه، فتُطالبه النفوسُ بما مُدِحَ به، وتظنّه عنده، فلا تجدهُ كذلك، فتنقلِبُ ذَمّاً، ولو تُرِكَ بغير مدح، لم تحصُلْ له هذه المفسدة، ويُشبه حاله حال مَن ولى وِلاية سيئة، ثم عُزِلَ عنها، فإنه تَنْقُصُ مرتبتُه عما كان عليه قبل الولاية، وينقُصُ فى نفوس الناس عما كان عليه قبلها، وفى هذا قال القائل:
إذَا مَا وَصَفْتَ امْرَءَاً لامْرئٍ ... فَلاَ تَغْلُ فى وَصْفِهِ وَاقْصِدِ

فَإنَّْكَ إنْ تَغْلُ تَغْلُ الظُّنُ ... ونُ فيهِ إلى الأمَدِ الأَبْعَدِ
فَيَنْقُصُ مِنْ حَيْثُ عَظَّمْتَه ... لِفَضْلِ المَغِيبِ عَنِ المَشْهَدِ
وأمر آخر: وهو ظنُّ المسمى واعتقادُه فى نفسه أنه كذلك، فيقعُ فى تزكية نفسه وتعظيمها وترفُّعِهَا على غيره، وهذا هو المعنى الذى نهى النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأجله أن تُسمى "بَرَّة" وقال: "لا تُزَكُّوا أنْفُسَكُم، الله أعْلَمُ بِأَهْلِ البِرِّ مِنْكُم".
وعلى هذا فتُكره التسمية ب: التَّقى، والمتَّقى، والمُطيعِ، والطائع، والراضى، والمُحسن، والمخلِص، والمنيب، والرشيدِ، والسديد. وأما تسميةُ الكفار بذلك، فلا يجوز التمكينُ منه، ولا دُعاؤُهُم بشئٍ من هذه الأسماء، ولا الإخبارُ عنهم بها، والله عَزَّ وجَلَّ يغضَب مِن تسميتهم بذلك.
فصل
وأما الكُنْية فهى نوعُ تكريم لِلمَكْنِّى وتنويهٌ به كما قال الشاعر:
أَكْنِيهِ حينَ أُنَادِيهِ لأُكْرِمَه ... وَلاَ أُلِقِّبُهُ وَالسَّوْءَةُ اللَّقَبُ
وكنَّى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُهيباً بأبى يحيى، وكًَنَّى علياً رضى الله عنه بأبى تراب إلى كنيته بأبى الحسن، وكانت أحبَّ كنيته إليه، وكنَّى أخا أنسِ بن مالك وكان صغيراً دون البلوغ بأبى عُمير.
وكان هَدْيُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكنيةَ مَن له ولد، ومَن لا ولد له، ولم يثبُت عنه أنه نهى عن كُنية إلا الكنية بأبى القاسم، فصح عنه أنه قال: "تسمَّوْا

بِاسْمِى وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيتِى " فاختلف الناسُ فى ذلك على أربعة أقوال:
أحدها: أنه لا يجوزُ التَّكَنِّى بكُنيته مطلقاً، سواء أفردها عن اسمه، أو قرنها به، وسواء محياه وبعدَ مماته، وعمدتُهم عمومُ هذا الحديث الصحيح وإطلاقُه، وحكى البيهقى ذلك عن الشافعى، قالوا: لأن النهى إنما كان لأَنَّ معنى هذه الكُنية والتسمية مختصةٌ به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أشار إلى ذلك بقوله: "واللهِ لاَ أُعْطِى أَحَداً، وَلاَ أَمْنَعُ أحَداً، وَإنَّمَا أنَا قَاسِمٌ، أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ" قالوا: ومعلوم أن هذه الصفة ليست على الكمال لغيره، واختلف هؤلاء فى جواز تسمية المولود بقاسم، فأجازه طائفة، ومنعه آخرون، والمجيزون نظروا إلى أنَّ العِلَّة عدمُ مشاركة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما اختصَّ به من الكُنية، وهذا غيرُ موجود فى الاسم، والمانعون نظروا إلى أن المعنى الذى نهى عنه فى الكُنية موجود مثله هنا فى الاسم سواء، أو هو أولى بالمنع، قالوا: وفى قوله: "إنما أنا قاسم" إشعار بهذا الاختصاص.

القول الثانى : أن النهى إنما هو عن الجمع بين اسمه وكُنيته، فإذا أُفِرد أحدُهما عن الآخر، فلا بأس. قال أبو داود: باب مَن رأى أن لا يجمع بينهما، ثم ذكر حديث أبى الزبير عن جابر أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَن تسمَّى باسمى فلا يَتَكَنَّ بكُنيتى، ومَن تكنَّى بكُنيتى فلا يتسَمَّ باسمى" ورواه الترمذى وقال: حديث حسن غريب، وقد رواه الترمذى أيضاً من حديث محمد ابن عجلان عن أبيه عن أبى هريرة وقال: حسن صحيح، ولفظه: نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يَجْمَعَ أحَدٌ بَيْنَ اسمِهِ وكُنيته، ويُسمِّى مُحمَداً أبا القاسم. قال أصحابُ هذا القول: فهذا مقيِّد مفسِّر لما فى "الصحيحين" من نهيه عن التكنى بكُنيته، قالوا: ولأن فى الجمع بينهما مشاركةً فى الاختصاص بالاسم والكُنية، فإذا أُفْرِدَ أحدُهما عن الآخر، زال الاختصاص.
القول الثالث: جوازُ الجمع بينهما وهو المنقولُ عن مالك، واحتجَّ أصحابُ هذا القول بما رواه أبو داود، والترمذى من حديث محمد ابن الحنفية، عن علىّ رضى الله عنه قال: قلت: يا رسولَ الله ؛ إنْ وُلِدَ لى وَلَدٌ مِنْ بَعْدِكَ أُسَمِّيهِ بِاسْمِكَ وَأَكْنِيةِ بِكُنْيَتِكَ؟ قال: "نعم" قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
وفى سنن أبى داود عن عائشة قالت: جاءت امرأة، إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فقالت: يا رَسُولَ الله ؛ إنى وَلَدْتُ غُلاماً فسميتُه محمداً وكنًَّيته أبا القاسم، فذُكِرَ لى أنك تكره ذلك؟ فقال: "ما الَّذى أحَلَّ اسْمِى وَحَرَّمَ كُنْيَتِى"، أو "مَا الَّذِى حَرَّمَ كُنْيَتِى وَأَحَلَّ اسْمِى"؟ قال هؤلاء: وأحاديث المنع منسوخة بهذين الحديثين.
القول الرابع: أن التكنى بأبى القاسم كان ممنوعاً منه فى حياة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو جائز بعد وفاته، قالوا: وسببُ النَّهى إنَّما كان مختصاً بحياته، فإنه قد ثبت فى "الصحيح" من حديث أنس قال: نادى رجل بالبَقيع: يا أبا القاسم، فالتفتَ إليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسولَ الله إنى لَمْ أَعْنِكَ، إنما دعوتُ فلاناً، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تسمَّوْا باسْمِى وَلا تَكنَّوا بكُنيتى" قالوا: وحديثُ علىّ فيه إشارة إلى ذلك بقوله: إن وُلِدَ مِنْ بعدك وَلَدٌ، ولم يسأله عمن يولد له فى حياته، ولكن قال علىّ رضى الله عنه فى هذا الحديث،: "وكانت رخصة لى" وقد شذَّ مَن لا يُؤبَه لقوله، فمنع التسمية باسمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قياساً على النهى عن التكَّنى بكُنيته، والصواب أن التسمى باسمه جائز، والتكنى بكُنيته ممنوع منه، والمنع فى حياته أشدُّ، والجمعُ بينهما ممنوع منه، وحديثُ عائشة غريب لا يُعارَض بمثله الحديث الصحيح، وحديث علىّ

رضى الله عنه فى صحته نظر، والترمذى فيه نوع تساهل فى التصحيح، وقد قال علىّ: إنها رخصة له، وهذا يدل على بقاء المنع لمن سواه، والله أعلم.
فصل
وقد كره قومٌ من السَلَف والخَلَف الكنيةَ بأبى عيسى، وأجازها آخرون، فروى أبو داود عن زيد بن أسلم أن عُمَرَ بنَ الخطاب ضرب ابناً له يُكنى أبا عيسى، وأن المغيرةَ بنَ شعبة تكنَّى بأبى عيسى، فقال له عمر: أما يكفيك أن تُكْنَى بأبى عبد الله؟ فقال: إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنَّانى، فقال: إن رسولَ الله قَد غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وما تأخر، وإنَّا لفى جَلْجَتِنَا فلم يَزَل يُكنَّى بأبى عبد الله حتى هَلَكَ.
وقد كنَّى عائشة بأُمِّ عَبْدِ الله، وكان لنسائه أيضاً كُنَى كأُمِّ حبيبة، وأُمّ سلمة.
فصل
ونهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تسمية العِنَبِ كَرْماً وقال: "الكَرْمُ قَلْبُ المُؤمِنِ" وهذا لأن هذه اللفظةَ تَدُلُّ على كثرة الخير والمنافع فى

المسمَّى بها، وقلبُ المؤمن هو المستحِقُّ لذلك دون شجرة العِنَب، ولكن: هل المرادُ النهىُ عن تخصيصِ شجرة العِنب بهذا الاسم، وأن قلب المؤمن أولى به منه، فلا يُمنع من تسميته بالكَرْم كما قال فى "المِسكين" و"الرَّقُوب" و"المُفلِسِ"؟ أو المرادُ أنَّ تسميته بهذا مع اتخاذ الخمرِ المحرَّم منه وصف بالكرم والخير والمنافع لأصل هذا الشراب الخبيثِ المحرَّمِِ، وذلك ذريعةٌ إلى مدح ما حرَّم الله وتهييجِ النفوس إليه؟ هذا محتمل، والله أعلم بمراد رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأولى أن لا يُسمى شجرُ العنب كَرْماً.
فصل
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأعْرَابُ عَلَى اسم صَلاتِكُم، أَلاَ وَإنَّهَا

العِشَاءُ، وَإنَّهُمْ يُسَمُّونَهَا العَتَمَةَ" ، وصح عنه أنه قال : "لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِى العَتَمَةِ والصُّبْحِ، لأَتَوْهُمَا وَلَو حَبْواً" فقيل: هذا ناسخ للمنع، وقيل بالعكس، والصواب خلافُ القولين، فإن العلم بالتاريخ متعذِّر، ولا تعارُضَ بين الحديثين، فإنه لم يَنْهَ عن إطلاق اسم العتمة بالكُلِّية، وإنما نهى عن أن يُهْجَرَ اسمُ العِشَاء، وهو الاسمُ الذى سمَّاها الله به فى كتابه، ويَغْلِبَ عليها اسمُ العَتَمَةِ، فإذا سُميت العِشَاءَ وأُطلق عليها أحياناً العتمة، فلا بأس، والله أعلم.
وهذا محافظة منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأسماء التى سمَّى الله بها العبادات، فلا تُهجر، ويؤثر عليها غيرُها، كما فعله المتأخرون فى هجران ألفاظ النصوص، وإيثار المصطلحات الحادثة عليها، ونشأ بسبب هذا من الجهل والفساد ما اللهُ به عليم، وهذا كما كان

يُحافظ على تقديم ما قدَّمه الله ُ وتأخيرِ ما أخرَّه، كما بدأ بالصفا، وقال: "أَبْدَأ بمَا بَدَأ اللهُ بِهِ" وبدأ فى العيد بالصلاة. ثم جعل النَّحْرَ بعدها، وأخبر أن: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَهَا، فَلا نُسَكَ لَهُ" تقديماً لما بدأ اللهُ به فى قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ} [الكوثر: 2] وبدأ فى أعضاء الوضوء بالوجه، ثم اليدين، ثم الرأس، ثم الرِّجلين، تقديماً لما قدَّمه الله، وتأخيراً لما أخَّره، وتوسيطاً لما وسَّطه، وقدَّم زكاة الفطر على صلاة العيد تقديماً لما قدَّمه فى قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 13-14] ونظائرهُ كثيرة.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حفظ المنطق واختيار الألفاظ
...

كان يتخيَّر فى خِطابه، ويختارُ لأُمته أحسنَ الألفَاظ، وأجملها، وألطفها، وأبعَدها من ألفاظ أهلِ الجفاء والغِلظة والفُحش، فلم يكن فاحشاً ولا متفحِّشاً ولا صَخَّاباً ولا فَظَّاً.
وكان يكرهُ أن يُسْتَعْمَلَ اللفظُ الشريفُ المصونُ فى حقِّ مَنْ ليس كذلك، وأن يُسْتَعمل اللفظُ المَهينُ المكروه فى حقِّ مَن ليس مِن أهله.
فمِن الأول منعهُ أن يُقال للمنافق: "يا سيدنا" وقال: "فإنَّه إنْ يكُ سَيِّداً فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُم عَزَّ وَجَلَّ"، ومنعُه أن تُسمى شجرةُ العِنب كَرْماً، ومنعُه تسمية أبى جهل بأبى الحَكَم، وكذلك تغييره لاسم أبى الحكم من الصحابة: بأبى شريح، وقال: "إنَّ الله هو الحكم، وإليه الحكمُ".
ومِن ذلك نهيُه للمملوك أن يقول لسيِّده أو لسيدته: ربِّى وَرَبَّتِى، وللسَّيِّدِ أن يقول لمملوكِهِ: عَبْدِى، ولَكِن يَقُولُ المالِكُ: فَتَاىَ وفَتَاتِى، ويَقُولُ المملوكُ: سيِّدى وسيِّدتى، وقال لمن ادَّعى أنه طبيب: "أنْتَ

رجلٌ رَفِيقٌ، وَطَبِيبُها الَّذِى خَلَقَهَا"، والجاهِلون يُسمُّون الكافرَ الذى له عِلْمٌ بشئ من الطبيعة حكيماً، وهو مِن أسفه الخلق.
ومن هذا قولُه للخطيب الذى قال: مَنْ يُطع اللهَ وَرَسُولَه فَقَدْ رَشَدَ، ومَنْ يَعْصِهِمَا فَقَد غَوَى: "بئسَ الخَطِيبُ أنْتَ".
ومن ذلك قولُه: "لاَ تَقُولُوا: مَاشَاءَ اللهُ وشَاءَ فُلانٌ، وَلَكِن قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ مَا شَاءَ فُلاَنٌ"، وقال له رجل: ما شَاءَ اللهُ وشِئْتَ، فَقَالَ: "أَجَعلْتَنِى لِلَّهِ نِدَّاً؟ قُل: مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ".
وفى معنى هذا الشرك المنهى عنه قولُ مَن لا يتوقَّى الشرك: أنا باللهِ وَبِكَ، وأنا فى حَسْبِ اللهِ وحَسْبِكَ، وما لى إلا اللهُ وأنتَ، وأنا متوكِّل على الله وعليك، وهذا من اللهِ ومِنك، واللهُ لى فى السماء وأنت لى فى الأرض، وواللهِ وحياتِك، وأمثال هذا من الألفاظ التى يجعل فيها قائِلُهَا المخلوقَ نِدّاً للخالق، وهى أشدُّ منعاً وقُبْحاً من قوله: ما شَاءَ اللهُ وشئتَ.

فأما إذا قال: أنا باللهِ، ثم بك، وما شاء اللهُ، ثم شئتَ، فلا بأس بذلك، كما فى حديث الثلاثة: "لاَ بَلاَغَ لِىَ اليَوْمَ إلا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ"، وكما فى الحديث المتقدِّم الإذن أن يقال: ما شاء اللهُ ثم شاءَ فلان.

فصل: فى النهى عن سب الدهر
وأما القِسْمُ الثانى وهو أن تُطلق ألفاظُ الذمِّ على مَن ليس مِن أهلها، فمثلُ نهيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سبِّ الدهرِ، وقال: "إنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ"، وفى حديث آخر: "يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ فَيَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بِيَدِى الأَمْرُ أَقلِّبُ اللَّيلَ والنَّهَارَ" ، وفى حديث آخر " لا يَقُولَنَّ أحَدُكُم: يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ".
فى هذا ثلاثُ مفاسد عظيمة. إحداها: سَبُّه مَنْ ليس بأهلٍ أن يُسَب،

فإن الدهرَ خَلْقٌ مُسَخَّرٌ مِن خلق الله، منقادٌ لأمره، مذلَّلٌ لتسخيره، فسابُّه أولى بالذمِّ والسبِّ منه.
الثانية: أن سبَّه متضمِّن للشرك، فإنه إنما سبَّه لظنَّه أنه يضرُّ وينفع، وأنه مع ذلك ظالم قد ضرَّ مَن لا يستحق الضرر، وأعطى مَن لا يستحقُّ العطَاءَ، ورفع مَن لا يستحقُّ الرِّفعة، وحرم مَن لا يستحِقُ الحِرمان، وهو عند شاتميه من أظلم الظلمة، وأشعارُ هؤلاء الظلمة الخونة فى سبِّه كثيرةٌ جداً، وكثيرٌ من الجُهَّال يُصرِّح بلعنه وتقبيحِه.
الثالثة: أن السبَّ منهم إنما يقعُ على مَن فعل هذه الأفعال التى لو اتَّبَعَ الحقُّ فيها أهواءَهم لفسدتِ السماواتُ والأرض، وإذا وقعت أهواؤُهم، حَمِدُوا الدهرَ، وأَثْنَوْا عليه. وفى حقيقةِ الأمر، فَربُّ الدهر تعالى هو المعطى المانِعُ، الخافِضُ الرافعُ، المعزُّ المذِلُّ، والدهرُ ليس له من الأمر شئ، فمسبَّتهم للدهر مسبَّة للَّه عَزَّ وجَلَّ، ولهذا كانت مؤذيَةً للربِّ تعالَى، كما فى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قالَ الله تَعالَى: يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ وأَنَا الدَّهْرُ"، فسابُّ الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما. إما سبُّه لِلَّهِ، أو الشِّركُ به، فإنه إذا اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك، وإن اعتقد أن الله وحده هو الذى فعل ذلك وهو يسبُّ مَن فعله، فقد سبَّ الله.
ومن هذا قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ يَقُولَنَّ أحَدُكُم: تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَإنَّهُ يَتَعَاظَمُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ البَيْتِ، فَيَقُولُ: بِقُوَّتِى صَرَعْتُهُ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: بسْمِ اللهِ، فَإنَّهُ يَتَصَاغَرُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ".

وفى حديث آخر: " إنَّ العَبْدَ إذَا لَعَنَ الشَّيْطَانَ يَقُولُ: إنَّكَ لَتَلْعَنُ مُلَعَّناً".
ومثل هذا قولُ القائل: أخزى الله الشيطان، وقبَّح اللهُ الشيطان، فإن ذلك كله يفرحه ويقول علم ابن آدم أنى قد نلته بقوتى، وذلك مما يعينه على إغوائه، ولا يفيده شيئاً، فأرشد النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مسه شىء من الشيطان أن يذكر الله تعالى، ويذكر اسمه، ويستعيذ بالله منه، فإن ذلك أنفع له، وأغيظ للشيطان

[فصل: فى النهى عن قول الرجل: خبثت نفسى ]
مِن ذلك: نهيُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقولَ الرجل: "خَبُثَتْ نَفْسِى، ولَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِى" ومعناهما واحد: أى: غَثَتْ نفسى، وساء خُلُقُها، فكره لهم لفظَ الخُبث لما فيه من القُبح والشنَاعة، وأرشدهم إلى استعمال الحسن، وهجران القبيح، وإبدالِ اللفظ المكروه بأحسن منه.
ومِن ذلك نهيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قول القائل بعد فواتِ الأمر: "لَو أنِّى فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا" وقال: "إنَّ "لو" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" وأرشده إلى ما هو أنفعُ له من هذه الكلمة، وهو أن يقول: "قَدَّرَ اللهُ ومَا شَاءَ فَعَلَ"

وذلك لأن قوله: لو كنتُ فعلتُ كذا وكذا، لم يَفُتْنِى ما فاتنى، أو لم أقع فيما وقعتُ فيه، كلامٌ لا يُجدى عليه فائدةً البتة، فإنه غيرُ مستقبِل لما استدبر من أمره، وغيرُ مستقِيل عَثْرَتَه ب "لو"، وفى ضمن "لو" ادعاء أن الأمر لو كان كما قدَّره فى نفسه، لكان غيرَ ما قضاه الله وقدَّرَه وشاءه، فإنَّ ما وقع مما يتمنَّى خلافَه إنما وقع بقضاء الله وقَدَرِه ومشيئته، فإذا قال: لو أنى فعلتُ كذا، لكان خلافَ ما وقع فهو مُحال، إذ خلافُ المقدَّر المقْضىِّ مُحال، فقد تضمَّن كلامُه كذباً وجهلاً ومُحالاً، وإن سَلِمَ من التكذيب بالقَدَر، لم يَسْلَم مِن معارضته بقوله: لو أنى فعلتُ كذا، لدفعتُ ما قَدَّر اللهُ علىَّ.
فإن قيل: ليس فى هذا ردٌ للقَدَر ولا جَحدٌ له، إذ تلك الأسبابُ التى تمنَّاها أيضاً مِن القَدَر، فهو يقول: لو وقفتُ لهذا القَدَر، لاندفع به عنِّى ذلك القَدَرُ، فإن القَدَرَ يُدفع بعضُه ببعض، كما يُدفع قَدَرُ المرضِ بالدواءِ، وقدرُ الذنوب بالتوبةِ، وقدرُ العدوِّ بالجهاد، فكلاهما من القَدَر.
قيل: هذا حقّ، ولكن هذا ينفعُ قبل وقوعِ القَدَر المكروه، وأما إذا وقع، فلا سبيلَ إلى دفعه، وإن كان له سبيلٌ إلى دفعه أو تخفيفه بقَدَر آخر، فهو أولى به من قوله: لو كنتُ فعلته، بل وظيفتُه فى هذه الحالة أن يستقبلَ فعلَه الذى يدفع به أو يخفف أثرَ ما وقع، ولا يتمنَّى ما لا مطمع فى وقوعه، فإنه عجزٌ محضٌ، والله يلومُ على العجز، ويُحب الكَيْسَ، ويأمر به، والكَيْسُ: هو مباشرةُ الأسباب التى ربطَ اللهُ بها مُسِّبباتِها النافعة للعبد

فى معاشه ومعاده، فهذه تفتحُ عمل الخيرِ، وأما العجزُ، فإنه يفتحُ عملَ الشيطان، فإنه إذا عَجَزَ عما ينفعُه، وصار إلى الأمانى الباطِلة بقوله: لَوْ كَانَ كَذَا وكَذَا، ولو فعلتُ كَذَا، يُفتح عليه عمل الشيطان، فإن بابَه العجزُ والكسل، ولهذا استعاذ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهما، وهما مفتاحُ كلِّ شر، ويصدر عنهما الهمُّ، والحَزَنُ، والجُبْنُ، والبُخْلُ، وَضَلَعُ الدَّيْنِ، وغَلَبَةُ الرِّجَالِ، فمصدرُها كُلها عن العجز والكسل، وعنوانها "لو"، فلذلك قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فإن "لو" تفتحُ عمل الشيطان" فالمتمنِّى مِن أعجز الناس وأفلسهم، فإن التمنى رأسُ أموال المفاليسِ، والعجزُ مفتاح كُلِّ شر.
وأصل المعاصى كُلها العجزُ، فإن العبدَ يَعجِز عن أسباب أعمالِ الطاعات، وعن الأسباب التى تُبْعِدُه عن المعاصى، وتحول بينه وبينها، فيقعُ فى المعاصى، فجمع هذا الحديثُ الشريف فى استعاذته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُصولَ الشر وفروعه، ومبادِيَه وغاياتِه، وموارِدَه ومصادرَه، وهو مشتمل على ثمانى خصال، كُلُّ خصلتين منها قرينتان فقال: "أعُوذُ بِكَ مِنَ الهمِّ والحَزَنِ " وهما قرينان، فإن المكروه الوارد على القلب ينقسِمُ باعتبار سببه إلى قمسين، فإنه إما أن يكون سببُه أمراً ماضياً، فهو يُحدِثُ الحَزَنَ، وإما أن يكون توقع

أمر مستقبل، فهو يُحدِث الهم، وكلاهما مِن العجز، فإن ما مضى لا يُدفع بالحزن، بل بالرضى، والحمد، والصبر، والإيمان بالقَدَر، وقول العبد: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، وما يُستقبل لا يُدفع أيضاً بالهمِّ، بل إما أن يكون له حيلة فى دفعه، فلا يعجز عنه، وإما أن لا تكون له حيلة فى دفعه، فلا يجزع منه، ويلبسُ له لباسه، ويأخذُ له عُدته، ويتأهّبُ له أُهبته اللائقة به، ويَسْتَجِنُّ بجُنَّةٍ حصينة من التوحيد، والتوكل، والانطراح بين يدى الرب تعالى والاستسلام له والرضى به رباً فى كل شئ، ولا يرضى به رباً فيما يحب دون ما يكره، فإذا كان هكذا، لم يرضَ به رباً على الإطلاق، فلا يرضاه الرب له عبداً على الإطلاق، فالهمُّ والحَزَنُ لا ينفَعَانِ العبد البتة، بل مضرَّتُهما أكثرُ من منفعتهما، فإنهما يُضعفان العزم، ويُوهنان القلبَ، ويحولان بينَ العبدِ وبين الاجتهاد فيما ينفعُه، ويقطعان عليه طريقَ السير، أو يُنكسانه إلى وراء، أو يَعوقَانِهِ ويَقِفَانه، أو يَحْجُبانه عن العَلَمِ الذى كلَّما رآهُ، شمَّر إليه، وجدَّ فى سيره، فهما حِمل ثقيل على ظهر السائر، بل إن عاقه الهمُّ والحزن عن شهواته وإراداته التى تضرُّهُ فى معاشه ومعاده، انتفع به من هذا الوجه، وهذا من حكمة العزيز الحكيم أن سلَّط هذَيْن الجندَيْنِ على القلوب المعرضة عنه، الفارغَةِ من محبته، وخوفه، ورجائه، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والأُنسِ به، والفِرار إليه، والانقطاع إليه، ليردَّهَا بما يبتليها به من الهموم والغمومِ، والأحزانِ والآلام القلبية عن كثير من معاصيها وشهواتها المُرْدِية، وهذه القلوبُ فى سجن من الجحيم فى هذه الدار، وإن أريد بها الخيرُ، كان حظُّها من سجن الجحيم فى معادها، ولا تزال فى هذا السجن حتى تتخلَّص إلى فضاء التوحيد، والإقبال على الله، والأُنس به، وجعل محبته فى محل دبيبِ خواطِر القلب ووساوسه، بحيث يكون ذِكْرُه تعالى وحُبُّه وخوفُه ورجاؤُه

والفرحُ به والابتهاجُ بذكره، هو المستولى على القلب، الغالبَ عليه، الذى متى فقده، فقد قُوتَهُ الذى لا قِوام له إلا به، ولا بقاء له بدونه، ولا سبيلَ إلى خلاصِ القلب من هذه الآلام التى هى أعظمُ أمراضِه وأفسدُها له إلا بذلك، ولا بلاغَ إلا بالله وحدَه، فإنه لا يُوصِل إليه إلا هو، ولا يأتى بالحسنات إلا هو، ولا يَصرِف السيئات إلا هو، ولا يدُلُّ عليه إلا هو، وإذا أرادَ عَبْدَه لأمر، هيَْأَهُ له، فمنه الإيجاد، ومنه الإعداد، ومنه الإمداد، وإذا أقامه فى مقام أىِّ مقام كان، فبحمده أقامه فيه وبحكمته أقامه فيه، ولا يليق به غيرُه ولا يصلُح له سواه، ولا مانِع لما أعطى اللهُ، ولا مُعطِىَ لما منع، ولا يمنع عبدَه حقاً هو للعبد، فيكون بمنعه ظالماً له، بل إنما منعه لِيتوسَّل إليه بمحابِّه ليعبُدَه، وليتضرَّع إليه، ويتذلَّل بين يديه، ويتملَّقه، ويُعطى فقرَه إليه حقَّه، بحيث يشهد فى كل ذرَّةٍ من ذَرَّاته الباطنةِ والظاهرةِ فاقة تامةً إليه على تعاقُب الأنفاس، وهذا هو الواقعُ فى نفس الأمر، وإن لم يشهده العبدُ فلم يمنع الربُّ عبده ما العبدُ محتاج إليه بخلاً منه، ولا نقصاً مِن خزائنه، ولا استئثاراً عليه بما هو حقٌّ للعبد، بل منعه ليردَّه إليه، ولِيعزَّه بالتَّذَلُّلِ له، وليُغنيَه بالافتقار إليه، ولِيَجْبُرَهُ بالانكسار بين يديه، وليُذيقَه بمرارةِ المنع حلاوةَ الخضوع له، ولذةَ الفقر إليه، وليُلبسه خلعة العبودية، ويولِّيه بعز له أشرفَ الولايات، ولِيُشْهِدَهُ حكمته فى قُدرته، ورحمتَه فى عزته، وبِرَّه ولطفَه فى قهره، وأنَّ منعه عطاءٌ، وعزلَه تولية، وعقوبتَه تأديبٌ، وامتحانَه محبةٌ وعطية، وتسليطَ أعدائه عليه سائقٌ يسوقه به إليه.
وبالجملة فلا يليق بالعبد غير ما أقيم فيه، وحكمتهُ وحمدُه أقاماه فى مقامه الذى لا يليقُ به سِوَاه، ولا يَحْسُنُ أن يتخطَّاه، واللهُ أعلمُ حيثُ يجعلُ مواقعَ عطائِهِ وفضله، واللهُ أعلمُ حيثُ

يجعل رسالتَهُ {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِّن بَيْنِنَا، ألَيْسَ اللهُ بأَعْلَمَ بِالشَّاكِربنَ} [الأنعام: 53]، فهو سبحانه أعلمُ بمواقع الفضل، ومحالِّ التخصيص، ومحالِّ الحِرمان، فبحمده وحكمته أعطى، وبحمده وحكمته حَرَم، فمن ردَّه المنعُ إلى الافتقار إليه والتذلُّلِ له، وتملُّقهِ، انقلب المنعُ فى حقه عطاءاً، ومَن شغله عطاؤهُ، وقطعه عنه، انقلب العطاءُ فى حقِّه منعاً، فكلُّ ما شغل العبدَ عن الله، فهو مشؤوم عليه، وكلُّ ما ردَّه إليه فهو رحمة به، والربُّ تعالى يُريد من عبده أن يفعل، ولا يقع الفعلُ حتى يُريد سبحانَه مِن نفسه أن يُعينَه، فهو سُبحانه أراد منَّا الاستقامةَ دائماً، واتخاذَ السبيل إليه، وأخبرنا أن هذا المرادَ لا يقع حتى يُريد من نفسه إعانَتنا عليها ومشيئته لنا، فهما إرادتان: إرادة من عبده أن يفعل، وإرادة من نفسه أن يُعينه، ولا سبيلَ له إلى الفعل إلا بهذه الإرادة، ولا يملِك منها شيئاً، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] فإن كان مع العبد روح أخرى، نِسبتُها إلى روحه، كنسبة روحِه إلى بدنه يستدعى بها إرادَةَ الله من نفسه أن يفعلَ به ما يكون به العبدُ فاعلاً، وإلا فمحلُّه غير قابلٍ للعطاء، وليس معه إناء يوضع فيه العطاءُ، فمَن جاء بغير إناءٍ، رجع بالحِرمَانِ، ولا يلومنَّ إلا نفسه.
والمقصودُ أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعاذ مِن الهمِّ والحَزَنِ، وهما قرينانِ، ومِنَ العَجزِ والكَسَلِ، وهما قرينان، فإنَّ تَخلُّفَ كمالِ العبد وصلاحِهِ عنه، إما أن يكون لِعدم قدرته عليه، فهو عجز، أو يكونَ قادراً عليه، لكن لا يُريدُ فهو كسل، وينشأ عن هاتين الصفتين، فواتُ كُلِّ خير، وحصولُ كلِّ شر، ومن ذلك الشر تعطيلُه عن النفع ببدنه، وهو الجبن،

وعن النفع بماله، وهو البخل، ثم ينشأ له بذلك غلبتان: غلبة بحق، وهى غلبة الدَّيْن، وغلبة بباطل، وهى غلبةُ الرِّجال، وكلُّ هذه المفاسد ثمرة العجز والكسل، ومن هذا قولُه فى الحديث الصحيحِ للرجل الذى قضى عليه، فقال: حَسْبِىَ اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، فَقَالَ: "إنَّ الله يَلُومُ عَلَى العَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بالكَيْسِ، فإذَا غَلَبَكَ أمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِىَ اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ"، فهذا قال: حَسْبِىَ اللهُ ونِعمَ الوكيلُ بعد عجزه عن الكَيْس الذى لو قام به، لقضى له على خصمه، فلو فعلَ الأسبابَ التى يكون بها كَيِّساً، ثمَّ غُلِبَ فقال: حَسْبِىَ اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، لكانت الكلمةُ قد وقعت موقعها، كما أن إبراهيم الخليلَ، لما فعل الأسباب المأمورَ بها، ولم يعجِزْ بتركِها، ولا بتركِ شئ منها، ثم غلبهُ عدوُّه، وألقَوْه فى النار، قال فى تلك الحال: حَسْبِىَ اللهُ ونِعْمَ الوَكيلُ فوقعت الكلمةُ موقعها، واستقرت فى مظانِّها، فأثَّرت أثرها، وترتَّب عليها مقتضاها.
وكذلك رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه يوم أُحُد لما قيل لهم بعد إنصرافهم من أُحُد: إن الناسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم، فتجهزوا وخرجوا للقاء عدوِّهم، وأعطَوهم الكَيْسَ من نفوسهم، ثم قالوا: حَسْبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ.

فأثرت الكلِمة أثرَهَا، واقتضت موجبَها، ولهذا قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3]، وَمَن يَتَوكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ فجعل التوكل بعد التقوى الذى هو قيامُ الأسباب المأمور بها، فحينئذ إن توكَّل على الله فهو حسبُه، وكما قال فى موضع آخر: {وَاتَّقُوا اللهَ، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [المائدة: 11] فالتوكل والحسب بدون قيام الأسباب المأمور بها عجز محض، فإن كان مشوباً بنوعٍ من التوكل، فهو توكُّل عجز، فلا ينبغى للعبد أن يجعلَ توكُّلَهُ عجزاً، ولا يجعلَ عجزَه توكلاً، بل يجعل توكُّلَه مِن جملة الأسباب المأمور بها التى لا يَتِمُّ المقصودُ إلا بها كلِّها.
ومن هاهنا غلط طائفتان من الناس، إحداهما: زعمت أن التوكلَ وحده سبب مستقلّ كافٍ فى حصول المراد، فعطَّلت له الأسبابَ التى اقتضتها حِكمةُ الله الموصلة إلى مسبِّباتها، فوقعوا فى نوع تفريط وعجز بحسب ما عطَّلوا من الأسباب، وضَعُفَ توكُّلُهم من حيث ظنوا قوتَه بانفراده عن الأسباب، فجمعوا الهمَّ كُلَّه وصيَّروه هماً واحداً، وهذا وإن كان فيه قوة من هذا الوجه، ففيه ضَعفٌ من جهة أُخرى، فكلما قوى جانبُ التوكل بإفراده، أضعفه التفريطُ فى السبب الذى هو محلُّ التوكل، فإن التوكلَ محلُّه الأسباب، وكمالُه بالتوكل على الله فيها، وهذا كتوكل الحرَّاثِ الذى شق الأرض، وألقى فيها البِذر، فتوكل على الله فى زرعه وإنباتِه، فهذا قد أعطى التوكُّل حقه، ولم يضعُف توكُّله بتعطيل الأرض وتخليتها بوراً، وكذلك توكُّل المسافر فى قطع المسافة مع جِدِّه فى السَّيْرِ، وتوكُّل

الأكياس فى النجاة من عذاب الله والفوزِ بثوابه مع اجتهادهم فى طاعته، فهذا هو التوكلُ الذى يترتَّبُ عليه أثرُه، ويكون اللهُ حَسْبَ مَن قام به. وأما توكلُ العجز والتفريطِ، فلا يترتبُ عليه أثرُه، وليس الله حَسْبَ صاحِبه، فإن الله إنما يكون حَسْبَ المتوكِّل عليه إذا اتّقاه، وتقواه فعلُ الأسباب المأمور بها، لا إضاعتُها.
والطائفة الثانية: التى قامت بالأسباب، ورأت ارتباطَ المسبِّبات بها شرعاً وقدَراً، وأعرضت عن جانب التوكل، وهذه الطائفةُ وإن نالت بما فعلته من الأسباب ما نالته، فليس لها قوةُ أصحابِ التوكل، ولا عونُ الله لهم وكفايتُه إياهم ودفاعُه عنهم، بل هى مخذولةٌ عاجزة بحسب ما فاتها من التوكّل.
فالقوّةُ كلُّ القُوَّة فى التوكل على الله كما قال بعضُ السَلَف: مَن سرَّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، فالقوةُ مضمونة للمتوكِّل، والكفاية والحَسْبُ والدفع عنه، وإنما يَنْقُصُ عليه من ذلك بقدر ما يَنْقُصُ من التقوى والتوكل، وإلا فمع تحققه بهما لا بد أن يجعل الله له مخرجاً مِن كُلِّ ما ضاق على الناس، ويكونُ اللهُ حسبَه وكافيه، والمقصودُ أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرشد العبدَ إلى ما فيه غايةُ كماله، ونيلُ مطلوبه، أن يحرصَ على ما ينفعُه، ويبذُلَ فيه جهده، وحينئذ ينفعُه التحسُّب وقولُ: "حَسْبِىَ اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ" بخلاف مَن عجز وفرَّط حتى فاتته مصلحته، ثم قال:"حَسْبِى اللهُ وَنِعْمَ الوَكيلٌُ" فإن الله يلومه، ولا يكون فى هذا الحال حَسْبَه، فإنما هو حَسَبُ مَن اتَّقاه، وتوكَّل عليه.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الذِّكْر
كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكملَ الخلق ذِكْراً للّه عَزَّ وجَلَّ، بل كان كلامُه كُلُّهُ فى ذِكر الله وما والاه، وكان أمرُهُ ونهيُه وتشريعُه للأمة ذِكْراً منه لِلَّهِ، وإخبارُهُ عن أسماءِ الربِّ وصِفاتِه، وأحكامِهِ وأفعاله، ووعدِه ووعيده، ذِكراً منه له، وثناؤُه عليه بآلائه، وتمجيدُه وحمدُه وتسبيحُه ذكراً منه له، وسؤالُه ودعاؤه إياه، ورغبتُه ورهبتُه ذِكراً منه له، وسكوته وصمتُه ذِكراً منه له بقلبه، فكان ذاكراً للّه فى كل أحيانه، وعلى جميع أحواله، وكان ذِكْرُهُ لِلًَّهِ يجرى مع أنفاسه، قائماً وقاعداً وعلى جنبه، وفى مشيه وركوبه ومسيره، ونزولِه وظعنه وإقامته.
وكان إذا استيقظَ قال: "الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أحْيانَا بَعْدَ مَا أمَاتَنَا وإلَيْهِ النُّشُورُ".
وقالت عائشةُ: كان إذَا هَبَّ مِنَ اللَّيْلِ، كَبَّر اللهَ عَشْراً، وحَمِدَ الله عَشْراً، وقَالَ: "سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ" عَشْراً، "سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ" عَشْراً، واسْتَغْفَرَ اللهَ عَشْراً، وهَلَّلَ عَشْراً، ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِنْ ضِيقِ الدُّنيَا، وَضِيقِ يَوْمِ القِيَامَةِ" عَشْراً، ثُمَّ يَسْتَفْتِحُ الصلاة.

وقالت أَيْضاً: كَانَ إذا اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: "لاَ إلهَ إلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ، اللهُمَّ أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِى، وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَكَ، اللهُمَّ زِدْنِى عِلَمَاً وَلاَ تُزِغْ قَلْبِى بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنِى، وَهَبْ لِى مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ " ذكرهما أبو داود
وأخبر أنَّ مَن استيقظَ من اللّيْل فَقَالَ: "لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَئٍ قَدِيرٌ، الحمدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَلاَ إلهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بِاللهِ} [العَلِىِّ العَظِيمِ]" - ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ اغْفِر لِى - أَوْ دعا بدعاء آخر، - استُجِيبَ لَهُ، فإنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، قُبِلَتْ صَلاَتُه" ذكره البخارى

وقال ابنُ عباس عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ مَبيتِهِ عِنْدَهُ: إنَّهُ لَمَّا اسْتَيْقَظَ، رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ وَقَرَأَ العَشْرَ الآيَاتِ الخَواتِيمُ مِنْ سُورَةِ "آلِ عِمْرَانَ": {إنَّ فِى خَلْقِ السَّموَاتِ والأرْضِ} [آل عمران: 190] إلى آخِرِها.
ثم قال: " اللهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أنْتَ نُورُ السَّمَاواتِ والأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَقَوْلُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، ومُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌ، اللهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِى مَا قَدَّمتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ إلهِى، لاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ العَلِىِّ العَظِيمِ".
وقد قالت عائشةُ رضى الله عنها: كَانَ إذَا قَامَ مِنَ اللَّيلِ قال: " اللهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاواتِ والأرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، إهْدِنِى

لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بإذنك، إنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".
ورُبَّمَا قالت: كان يفتتِحُ صلاتَهُ بِذَلكَ، وكانَ إذا أوتر، ختم وتره بعدَ فَراغِهِ بِقولِه: "سُبْحَانَ الملِكِ القُدُّوسِ" ثلاثاً، ويَمُدُّ بالثَّالِثَةِ صَوْتَه.
وكَانَ إذَا خَرجَ مِن بَيتِهِ يَقُولُ: "بسم الله، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، اللهُمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أوْ أُضَلَّ، أَو أزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَىَّ" حَدِيث صحيح.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَالَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ: بِسْمِ اللهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللهِ، يُقَالُ لَهُ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ،

وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ " حديث حسن
وقال ابنُ عباس عنه ليلةَ مبيته عِندهُ: إنَّهُ خرج إلى صَلاةِ الفجر وهُو يَقُولُ: "اللهُمَّ اجْعَلْ فِى قَلْبِى نُوراً، واجْعَلْ فِى لِسَانِى نُورَاً، وَاجْعَلْ فِى سَمْعِى نُورَاً، واجْعَلْ فِى بَصَرِى نُورَاً، واجْعَلْ مِنْ خَلْفِى نُورَاً، ومِنْ أمَامِى نُوراً، واجْعَلْ مِنْ فَوْقِى نُوراً، وَاجْعَلْ مِنْ تَحْتِى نُوراً، اللهُمَّ أعْظِمْ لِى نُوراً".
وقال فُضيل بن مرزوق، عَن عَطِيَّة العَوْفِى، عن أبى سعيدٍ الخُدْرِىِّ قال: قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَا خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِهِ إلى الصَّلاَةِ فَقَالَ: اللهُمَّ إنِى أسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَاىَ هذَا إلَيْكَ، فَإنِّى لَمْ أَخْرُجْ بَطَرَاً وَلاَ أشَراً، وَلاَ ريَاءً، وَلاَ سُمْعَةً، وَإنَّمَا خَرَجْتُ اتِّقَاءَ سُخْطِكَ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، أَسْأَلُكَ أنْ تُنْقِذَنِى مِنَ النَّارِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِى ذُنُوبِى، فَإنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أنْتَ، إلاَّ وَكَّلَ اللهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، وَأَقْبَلَ اللهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَقْضِى صَلاتَه".
وذكر أبو داود عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان إذا دخل المسجدَ قال : "أَعُوذُ بِاللهِ العَظِيمِ، وبِوَجْهِهِ الكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ القَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ،

فَإذَا قَالَ ذلِكَ قال الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّى سَائِرَ اليَوْمِ".
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْيَقُلْ: اللهُمَّ افْتَحْ لِى أبْوَابَ رَحْمَتِكَ، فَإذَا خَرَجَ، فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ إنِّى أسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ".
وَذُكر عنه: "أنَّهُ كانَ إذَا دَخَلَ المَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَقُولُ: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِى ذنوبى، وافْتَحْ لِى أبْوَابَ رَحْمَتِكَ، فَإذَا خَرَجَ صَلَّى عَلى مُحمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّم، ثُمَّ يَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِى ذُنُوبِى وَافْتَح لِى أبْوَابَ فَضْلِكَ ".
وكَانَ إذَا صلَّى الصُّبْحَ، جَلَسَ فى مُصلاَّه حَتَّى تطلُعَ الشَّمْسُ يَذْكُرُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.
وكان يقول إذَا أَصْبَحَ: "اللهُمَّ بِكَ أصْبَحْنَا، وَبِكَ أمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبكَ نَمُوتُ، وَإلَيْكَ النُّشُورُ" حديث صحيح

وكان يَقُولُ: "أصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلْكُ لِلَّهِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ، رَبِّ أسْأَلُكَ خَيْرَ مَا فِى هذَا اليَوْم، وَخَيْرَ مَا بَعْدَهُ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ شرِّ هذَا اليَوْمِ، وَشرِّ مَا بَعْدَهُ، رَبِّ أعُوذُ بِكًَ مِنَ الكَسَلِ، وَسُوءِ الكِبَر، رَبِّ أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فى النَّارِ، وعَذَابٍ فى القَبْرِ، وإذَا أمْسَى قَالَ: أمْسَيْنَا وَأَمْسَى المُلْكُ لِلَّهِ..." إلى آخِرِهِ. ذكره مسلم
وقال له أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رضىَ اللهُ عنهُ: مُرْنى بِكَلِمَاتٍ أقُولُهُنَّ إذَا أصْبَحْتُ وإذَا أَمْسَيْتُ، قَالَ: قُلْ: "اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاواتِ والأرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَىءٍ وَمَلِيكَهُ وَمَالِكه، أشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ أنْتَ، أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِى، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكهِ، وأنْ أقْتَرِفَ عَلَى نَفسِى سُوءاً أوْ أَجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ" قال: "قُلْهَا إذَا أَصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ، وإذَا أخَذْتَ مَضْجَعَكَ" حديث صحيح
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فى صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: بِسْمِ اللهِ الَّذِى لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَىءٌ فى الأرْضِ وَلاَ فى السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ - ثَلاَتَ مَرَّاتٍ - إلاَّ لَمْ يَضُرَّهُ شَىْء " حديث صحيح

وقال: " مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى: رَضِيتُ بِاللهِ رَبَّاً، وَبِالإسْلاَمِ دِينَاً، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيَّاً، كَانَ حَقَّاً عَلَى اللهِ أنْ يُرْضِيَهُ" صححه الترمذى والحاكم
وقال: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى: اللهُمَّ إنِّى أصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ، وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلائِكَتَكَ، وَجَمِيعَ خَلْقِكَ، أنَّكَ أنتَ اللهُ الَّذِى لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، أَعْتَقَ اللهُ رُبْعَهُ مِنَ النَّارِ، وَإنْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ، أَعْتَقَ اللهُ نِصْفَهُ مِنَ النَّارِ، وإنْ قَالَهَا ثَلاثاً، أَعْتَقَ اللهُ ثَلاثَة أَرْبَاعِهِ مِنَ النَّارِ، وَإنْ قَالَهَا أرْبَعاً أَعْتَقَهُ اللهُ مِنَ النَّارِ " حديث حسن

وقالَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: اللهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِى مِنْ نِعْمَةٍ أوْ بأحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، فَمِنْكَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ، لَكَ الحَمْدُ، وَلَكَ الشُّكْرُ، فَقَدْ أدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ، وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِيْنَ يُمْسِى، فَقَدْ أدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ" حديث حسن
وكَانَ يدعو حينَ يُصبح وحينَ يُمْسِى بهذِهِ الدعَواتِ: "اللهُمَّ إنِّى أسْأَلُكَ العَافِيَةَ فى الدُّنْيَا والآخِرَة، اللهُمَّ إنِّى أَسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِية فى دِينِى وَدُنْيَاىَ وَأهْلِى وَمَالِى، اللهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِى، وآمِنْ رَوْعَاتِى، اللهُمَّ احْفظْنِى مِنْ بَيْن يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِى، وَعَنْ يمينى وَعَنْ شِمَالِى، وَمِنْ فَوْقِى، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِى " صححه الحاكم
وقال: "إذَا أصْبَحَ أحَدُكُم، فَلْيَقُلْ: أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلْكُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، اللهُمَّ إنِّى أَسْأَلُكَ خَيْرَ هذَا الْيَوْمِ: فَتْحَهُ وَنَصْرَهُ وَنُورَهُ وَبَرَكَتَه وَهِدَايَتَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهُ، ثُمَّ إذَا أمْسَى، فَلْيَقُلْ مِثْلَ ذلِكَ" حديث حسن

وذكرَ أبو داود عنه أنه قال لِبعض بناتِهِ: "قُولِى حِيْنَ تُصْبِحِينَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللهِ العَلِىِّ العَظِيمِ، مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأ لَمْ يَكُنْ، أعْلَمُ أنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَىْءٍ قديرٌ، وأنّ الله قَدْ أحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْماً، فَإنَّهُ مَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُصْبِحُ، حُفِظَ حَتَّى يُمْسِىَ، وَمَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُمْسِى حُفِظَ حَتَّى يُصْبِحَ ".
وقال لرجل من الأنصار: " ألاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَماً إذَا قُلْتَهُ أذْهَبَ اللهُ هَمَّكَ، وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ"؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قالَ: "قُل إذَا أصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ: اللهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ والكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ وَالبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وقَهْرِ الرِّجَالِ" قال: فقلتُهن، فأذهب الله همِّى وقضًَى عنى دَيْنى.
وكان إذا أصبح قال: "أصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الإسْلاَمِ، وَكَلِمَةِ الإخْلاصِ، ودِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِلَّةِ أبِينَا إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً مُسْلِماً، وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ".
هكذا فى الحديث: "ودين نبينا محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وقد استشكله بعضُهم وله حُكْمُ نظائِره كقوله فى الخُطَبِ والتشهُّد فى الصلاة: "أشهدُ أن محمداً

رسولُ الله" فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكلَّف بالإيمان بأنه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خلقه، ووجوبُ ذلك عليه أعظمُ من وجوبه على المرسَل إليهم، فهو نبى إلى نفسه وإلى الأُمَّة التى هو منهم، وهو رسول الله إلى نفسه وإلى أُمَّته.
ويُذكَرُ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لِفاطمة ابنتهِ: "مَا يَمْنَعُكِ أنْ تَسْمَعِى مَا أُوصِيكِ بِهِ: أنْ تَقُولِى إذَا أصْبَحْتِ وَإذَا أمْسَيْتِ: يَا حَىٌُّ، يَا قَيُّومُ بك أستغيث، فأصلح لى شأنى، ولا تَكِلْنِى إلى نفسى طرفةَ عَيْنٍ".
ويُذكرُ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لِرجل شكا إليهِ إصابةَ الآفاتِ: "قُل: إذَا أصْبَحْتَ : بِسْمِ اللهِ عَلَى نَفْسِى، وَأَهْلِى وَمَالِى، فَإنَّهُ لا يَذْهَبُ عَلَيْكَ شَىءٌ".
ويُذكَر عنه أنه كان إذَا أصبح قالَ: "اللهُمَّ إنِّى أسْأَلُكَ عِلْماً نَافِعاً، وَرِزْقاً طَيِّباً، وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً".
ويُذكر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن العبد إذا قالَ حِينَ يُصبِحُ ثلاثَ مرات : "اللهُمَّ إنِّى أَصْبَحْتُ مِنْكَ فى نِعْمَةٍ وَعَافِيَةٍ وَسِتْرٍ، فَأَتْمِمْ عَلَىَّ نِعْمَتَكَ وَعَافِيَتَكَ وَسِتْرَكَ فى الدُّنيَا والآخِرَةِ، وإذَا أمْسى، قالَ ذلِك، كَانَ حَقًّا عَلَى

اللهِ أنْ يُتِمَّ عَلَيْهِ".
وَيذكر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " مَنْ قَالَ فى كُلِّ يَوْمٍ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى: حَسْبِىَ اللهُ لاَ إلَه إلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمُ - سَبْعَ مَرَّاتٍ - كَفَاهُ اللهُ مَا أهَمَّهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ".
ويُذكر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه من قالَ هذِهِ الكَلِمَاتِ فى أوَّلِ نَهَارِهِ، لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتَّى يُمْسِىَ، وَمَنْ قَالَهَا آخِرَ نَهَارِهِ لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتَّى يُصْبِحَ: "اللهُمَّ أَنْتَ رَبِّى، لاَ إله إلاَّ أنْتَ، عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَأنْتَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ العَلِىِّ العَظِيمِ، أعْلَمُ أنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، وَأنَّ اللهَ قَدْ أحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْماً، اللهُمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِى، وَشَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" ، وقَد قِيلَ لأبى الدرداء: قدِ احترق بيتُك فقالَ: ما احترقَ، ولم يكن اللهُ عَزَّ وجَلَّ لِيفعل، لِكَلِمَاتٍ سمعتهُنَّ مِنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرها.
وقالَ: "سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أنْ يَقُولَ العبدُ: اللهُمَّ أَنْتَ رَبِّى، لاَ إلهَ

إلاَّ أنْتَ خَلَقْتَنِى وَأنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِى، فَاغْفِرْ لِى إنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُنُوبَ إلاَّ أَنْتَ، مَنْ قالَهَا حِينَ يُصْبِحُ موقِناً بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، دَخَلَ الجَنَّةَ، ومَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِى مُوقِناً بِهَا، فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ، دَخَلَ الجَنَّةَ".
"ومَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى : سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ - مِائَةَ مَرَّةٍ - لَمْ يَأْتِ أَحدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلاَّ أحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ، أوْ زَادَ عَلَيْهِ".
وَقَالَ: " مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ عَشْرَ مَرَّاتٍ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، ولَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ الله لَهُ بِهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ بها عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَكَانَتْ كَعِدْل عَشْر رِقَابٍ، وَأَجَارهُ اللهُ يَوْمَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَإِذَا أمْسَى فَمِثْلُ ذلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ".

وقال: "مَنْ قَالَ حِيْنَ يُصْبِحُ: لاَ إلَه إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ، فى الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدلَ عَشْر رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مائةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْ مِائَةُ سَيِّئَة، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذلِكَ حتى يُمْسِىَ، وَلَمْ يَأْتِ أحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أكْثَرَ مِنْهُ".
وفى "المسند" وغيرهِ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علَّم زيدَ بن ثابت، وأمره أن يتعَاهَدَ بهِ أهله فى كلِّ صباح: "لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ فى يَدَيْكَ، وَمِنْكَ وَبِكَ وَإلَيْكَ، اللهُمَّ مَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ، أوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ، أوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ، فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَىْ ذلِكَ كُلّه، ما شِئْتَ كَانَ، وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ، إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، اللهُمَّ مَا صَلَّيْتَ مِنْ صَلاَةٍ فَعَلَى مَنْ صَلَّيْتَ، وَمَا لَعَنْتَ مِنْ لَعْنَةٍ، فَعَلَى مَنْ لَعَنْتَ، أَنْتَ وَليى فى الدُّنْيَا والآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَألْحِقْنِى بالصَّالِحِينَ، اللهُمَّ فَاطِرَ السَّماواتِ والأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهادَةِ، ذَا الجَلاَلِ والإكْرَامِ. فَإنِّى أعْهَدُ إلَيْكَ فى هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأُشْهِدُكَ - وَكَفَى بِكَ شَهِيداً - بِأَنِّى أشْهَدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ، لَكَ المُلْكُ، وَلَكَ الحَمْدُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَشْهَدُ أنَّ وَعْدَكَ حَقٌ، وَلِقَاءَكَ حَقٌ، وَالسَّاعَةُ حَقٌ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّكَ تَبْعَثُ مَنْ فى القُبُورِ، وَأشْهَدُ أنَّكَ إنْ تَكِلْنِى إلى نَفْسِى تَكِلْنِى إلى ضَعْفٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَإنِّى لاَ أثِقُ إلاَّ برَحْمَتِكَ، فَاغْفِرْ لِى ذُنُوبِى كُلَّهَا إنه لاَ يَغْفِرُ الذُنُوبَ إلاَّ أنْتَ، وَتُبْ عَلىَّ إنَّكَ أنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمٍُ".

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الذِّكْر عند لبس الثوب ونحوِهِ
كانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا استجدَّ ثوباً سمَّاه باسمه، عِمامةً، أو قميصاً، أو رِدَاءً، ثم يقول: "اللهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أنْتَ كَسَوْتَنِيهِ، أسْأَلُكَ خَيْرَهُ، وَخَيْرُ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ، وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ" حديث صحيح.
ويُذكر عنه أنه قال: "مَنْ لَبِسَ ثَوْباً فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى كَسَانِى

هذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّى وَلاَ قُوَّة، غَفَرَ الله له مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
وفى "جامع الترمذى" عن عُمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "مَنْ لَبِسَ ثَوْباً جَدِيداً فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى كَسَانِى مَا أُوَارِى بِهِ عَوْرَتِى، وَأتجَمَّلُ بِهِ فى حَيَاتِى، ثُمَّ عَمَدَ إلَى الثَّوْبِ الَّذِى أخْلَقَ فَتَصَدَّقَ به، كَانَ فى حِفْظِ اللهِ، وفى كَنَفِ اللهِ، وَفِى سَبِيلِ اللهِ، حَيّاً وَمَيْتاً".
وصحَّّ عنه أنه قال لأُمِّ خالد لما ألبسها الثوب الجديد: " أبْلِى وَأَخْلِقِى، ثم أبلى وأخلقى - مَرَّتَيْنِ ".
وفى "سنن ابن ماجه" أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى على عُمَر ثوباً فقالَ: "أَجَدِيدٌ هذَا، أمْ غَسِيلٌ"؟ فَقَالَ: بَلْ غَسِيلٌ، فقالَ: "الْبَسْ جَدِيداً، وَعِشْ حَمِيداً، ومُتْ شَهِيداً".

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند دخوله إلى منزله
لم يكن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيفجأ أهله بغتةً يتخوَّنُهم، ولكن كان يدخلُ على أهله على عِلْم منهم بدخوله، وكان يُسَلِّمُ عليهم، وكان إذا دخل، بدأ بالسؤال، أو سأل عنهم، وربما قال: "هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ"؟ وربما سكت حتى يحضرَ بين يديه ما تيسّر.
ويُذكر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقولُ إذا انقلب إلى بيته: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى كَفَانِى، وَآوَانِى، وَالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَطْعَمَنِى وَسَقَانِى، وَالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى مَنَّ عَلَىَّ فَأَفْضَلَ، أسْأَلُكَ أنْ تُجِيرَنِى مِنَ النَّار".

وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لأنَس: "إذَا دَخلْتَ عَلَى أهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَىَ أهْلِكَ ". قال الترمذى: حديث حسَن صحيح.
وفى السنن عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذَا وَلَجَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ إنِّى أَسْأَلُكَ خَيْرَ المَوْلَجِ، وَخَيْرَ المَخْرَجِ، بِسْمِ اللهِ وَلَجْنَا، وعَلَى الله رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ".
وفيها عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلاثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى الله: رَجُلٌ خَرَجَ غَازياً فى سَبِيلِ اللهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللهِ حَتَّى يَتَوفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ أوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أجْرٍ وَغَنِيمةٍ، وَرَجُلٌ رَاحَ إلَى المَسْجِدِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى الله حَتَّى يَتَوفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ أوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلامٍ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى الله " حديث صحيح.
وصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَر اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لا مَبِيتَ لَكُمْ وَلاَ عَشَاءَ، وَإذَا دَخَلَ، فَلَمْ يذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ المَبِيتَ، وَإذَا لَمْ يذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أدْرَكْتُمُ المَبِيتَ والعَشَاء" ذكره مسلم.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الذِّكْرِ عند دخوله الخلاء
ثبت عنه فى "الصحيحين" أنه كان يقولُ عند دخوله الخلاء: "اللهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ والخَبَائِثِ".
وذكر أحمد عنه أنه أمر مَنْ دخل الخلاء أن يقولَ ذلك.
ويُذكر عنه: " لا يَعْجِزْ أحَدُكُم إذَا دَخَلَ مَرْفِقَهُ أنْ يَقُولَ: اللهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْسِ النَّجِسِ، الخَبيث المُخْبِثِ، الشَّيْطَانِ الرَّجِيم".

ويُذكر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " سَتْرُ مَا بَيْنَ الجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِى آدَمَ إذَا دَخَلَ أحَدُكُمُ الكَنِيفَ أنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللهِ".
وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رجلاً سلَّمَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبُولُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ.
وأخبر أن الله سبحانه يمقُت الحديث على الغائط: فَقَالَ: "لاَ يَخْرُج الرَّجُلاَنِ يَضْرِبَانِ الغَائِطَ كَاشِفينَ عَنْ عَوْرَاتِهِمَا يَتَحَدَّثَانِ، فإنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ".
وقد تقَدَّمَ أنه كان لا يستقْبِلُ القِبْلة ولا يستدبِرُهَا ببولٍ ولا بغائط، وأنه نهى عن ذلك فى حديث أبى أيوب، وسلمان الفارسى، وأبى هريرة، ومعقل بن أبى معقل، وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدى، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، رضى الله عنهم، وعامةُ هذه الأحاديث صحيحةٌ، وسائُرها حسن، والمعارِضُ لها إما معلول السندِ، وإما ضعيفُ الدلالة، فلا يُرد صريحُ نهيه المستفيضُ عنه بذلك، كحديث عِراك عن عائشة:

ذُكِرَ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أناساً يكرهون أن يستقبلوا القِبْلة بفرُوجهم، فقال: "أَوَ قد فعلُوها؟ حوِّلوا مَقْعَدَتى قِبَلَ القِبْلَةِ" رواه الإمام أحمد وقال: هو أحسن ما رُوى فى الرخصة وإن كان مرسلاً، ولكن هذا الحديث قد طعن فيه البخارىُّ وغيرُه من أئمة الحديث، ولم يُثِبتُوه، ولا يقتضى كلامُ الإمام أحمد تثبيتَه ولا تحسينَه. قال الترمذى فى كتاب "العلل الكبير" له: سألتُ أبا عبد الله محمد ابن إسماعيل البخارى عن هذا الحديث، فقال: هذا حديثٌ فيه اضطراب، والصحيحُ عندى عن عائشة من قولها انتهى.
قلت: وله عِلَّة أُخرى، وهى انقطاعه بين عراك وعائشة، فإنه لم يسمع منها، وقد رواه عبد الوهَّاب الثقفى عن خالد الحذَّاء عن رجل عن عائشة، وله عِلَّة أخرى، وهى ضعف خالد بن أبى الصلت.
ومن ذلك حديثُ جابرٍ: "نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تُستقبل القِبْلةُ ببولٍ، فرأيتهُ قبل أن يُقبض بعام يستقبلها"، وهذا الحديث استغربه الترمذى بعد تحسينه، وقال الترمذى فى كتاب "العلل": سألت محمداً - يعنى البخارى - عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث صحيح، رواه غيرُ واحد عن ابن إسحاق، فإن كان مراد البخارى صحته عن ابن إسحاق، لم يدل على صحته فى نفسه، وإن كان مراده صحته فى نفسه، فهى واقعة

عين، حكمُها حكم حديث ابن عمر لما رأى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقضى حاجَته مستدبر الكعبة، وهذا يحتمِلُ وجوهاً ستة: نسخُ النهى به، وعكسُه، وتخصيصُه به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتخصيصُه بالبنيان، وأن يكونَ لعذر اقتضاه لمكان أو غيره، وأن يكون بياناً، لأن النهى ليس على التحريم، ولا سبيلَ إلى الجزم بواحد من هذه الوجوه على التعيين، وإن كان حديثُ جابر لا يحتمل الوجه الثانى منها، فلا سبيل إلى ترك أحاديث النهى الصحيحة الصريحة المستفيضة بهذا المحتَمَلِ، وقولُ ابنِ عمر: إنما نهى عن ذلك فى الصحراء، فَهْمٌ منه لاختصاص النهى بها، وليس بحكاية لفظ النهى، وهو معارَض بفهم أبى أيوب للعموم مع سلامة قولِ أصحاب العموم من التناقض الذى يلزم المفرِّقين بين الفضاء والبنيان، فإنه يقال لهم: ما حدُّ الحاجز الذى يجوزُ ذلك معه فى البنيان؟ ولا سبيل إلى ذكر حدٍّ فاصل، وإن جعلوا مطلق البنيان مجوِّزاً لذلك، لزمهم جوازه فى الفضاء الذى يحول بين البائل وبينه جبل قريب أو بعيد، كنظيره فى البنيان، وأيضاً فإن النهى تكريمٌ لجهة القِبْلة، وذلك لا يختلف بفضاء ولا بنيان، وليس مختصاً بنفسِ البيت، فكم من جبل وأكَمَةٍ حائل بين البائل وبين البيت بمثل ما تحول جُدرانُ البنيان وأعظم، وأما جهةُ القِبْلة، فلا حائل بين البائل وبينها، وعلى الجهة وقع النهى، لا على البيت نفسه فتأمله.
فصل
وكان إذا خرج من الخلاء قال: "غُفْرَانَكَ"، ويُذكر عنه أنه كان يقول: "الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أذْهَبَ عَنِّى الأذَى، وَعَافَانِى " ذكره ابن ماجه

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أذكار الوضوء
ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه وضع يديه فى الإناء الذى فيه الماء، ثم قال للصحابة: "تًَوَضَّؤوا بِسْمِ اللهِ".
وثبت عنه أنه قال لجابر رضى الله عنه: "نَادِ بِوَضُوءٍ" فجئ بالماء فقالَ: "خُذْ يَا جَابِرُ فَصُبَّ علىَّ وقُلْ: بِسْمِ الله" قال: فَصَبَبْتُ عَلَيه، وقُلْتُ: بسم الله، قال: فرأيتُ الماء يَفورُ مِنْ بَيْنَ أصَابِعه .
وذكر أحمد عنه من حديث أبى هريرة، وسعيد بن زيد، وأبى سعيد الخدرى رضى الله عنهم: " لاَ وُضُوءَ لِمَن لًَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ".

وفى أسانيدها لين.
وصحَّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " مَن أسْبَغَ الوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ: أشْهَدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لاَشَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أيَّهَا شَاءَ " ذكره مسلم
وزاد الترمذى بعد التشهد: "اللهُمَّ اجْعَلْنِى مِنَ التَّوَابِينَ واجْعَلْنِى مِنَ المُتَطَهِّرِينَ" وزاد الإمام أحمد: ثمَّ رَفَعَ نَظَرَهُ إلى السَّمَاءِ. وزاد ابن ماجه مع أحمد: قول ذلك ثلاث مرات.
وذكر بقىُّ بن مَخْلد فى "مسنده" من حديث أبى سعيد الخدرى مرفوعاً: "مَنْ تَوَضَّأَ فَفَرَغَ مِنْ وضُوئِهِ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبحَمْدِكَ أشْهَدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وأتُوبُ إلَيْكَ، كُتِبَ فى رَقٍّ وطُبعَ

عَلْيْهَا بِطَابعٍ، ثُمَّ رُفِعَتْ تَحْتَ العَرْشِ فَلَمْ يُكْسَرْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ"، ورواه النسائى فى كتابه الكبير من كلام أبى سعيد الخدرى، وقالَ النسائى: باب ما يقول بعد فراغه من وضوئه، فذكر بعض ما تقدم. ثم ذكر بإسناد صحيح من حديث أبى موسى الأشعرى قال: أتيتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوضوءٍ فتوضَّأَ، فسمعتُه يقول ويدعو: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِى ذَنْبِى، وَوَسِّعْ لِى فى دَارى، وبَارِكْ لِى فى رِزْقِى " فقلتُ: يا نبىَّ اللهِ: سمعتُك تدعو بكذا وكذا، قال: "وهَلْ تَرَكَتْ مِنْ شَىْءٍ"؟ وقالَ ابن السنى: باب ما يقول بين ظهرانى وضوئه فذكره.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الأذان وأذكاره
ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سنَّ التأذين بترجيع وبغير ترجيع، وشرع الإقَامَةَ مثنى وفُرادى، ولكن الذى صح عنه تثنيةُ كلمةِ الإقَامَةِ: "قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ" ولم يصح عنهُ إفرادُهَا البتة، وكذلك صحَّ عنه تكرارُ لفظ التكبير فى أول الأذان أربعاً، ولم يَصِحَّ عنه الاقتصارُ على مرتين، وأما حديثُ:

"أُمِرَ بِلاَلٌ أنْ يَشْفَعَ الأذَانَ وَيُوتِرَ الإقَامَةَ" فلا ينافى الشفع بأربع، وقد صحّ التربيعُ صريحاً فى حديث عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب، وأبى محذورة رضى الله عنهم.
وأما إفرادُ الإقامة، فقد صحَّ عن ابن عمر رضى الله عنهما، استثناءُ كلمة الإقامة، فقال: إنما كانَ الأذانُ على عَهْدِ رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، والإقَامةُ مرَّةً مرَّةً، غيرَ أنه يقول: قَد قَامَتِ الصَّلاَةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ".
وفى "صحيح البخارى" عن أنس: "أُمِرَ بِلالٌ أنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، ويُوتِرَ الإقَامَةَ، إلا الإقَامَة".
وصح من حديث عبد الله بن زيد وعمر فى الإقامة: "قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ".
وصح من حديث أبى محذورة تثنيةُ كلمةِ الإقامة مع سائر كلماتِ الأذان.
وكُلُّ هذه الوجوه جائزة مجزئة لا كراهة فى شئ منها، وإن كان بعضُها أفضلَ مِن بعض، فالإمام أحمد أخذ بأذان بلال وإقامته، والشافعى، أخذ بأذان أبى محذورة وإقامة بلال، وأبو حنيفة أخذ بأذان بلال وإقامة أبى محذورة، ومالك أخذ بما رأى عليه عملَ أهل المدينة من الاقتصار على التكبير فى الأذان مرتين، وعلى كلمة الإقامة مرة واحدة، رحمهم الله كلهم، فإنهم اجتهدوا فى متابعة السُّنَّة.

فصل
وأمّا هَدْيُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الذِّكر عند الأذان وبعدَه، فشرع لأُمَّته منه خمسة أنواع:
أحدها : أن يقول السامع كما يقول المؤذِّن، إلا فى لفظ: "حىّ على الصلاة"، "حىّ على الفلاح" فإنه صح عنه إبدالُهما ب "لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ" ولم يجئ عنه الجمعُ بينها وبين: "حىّ على الصلاة"، "حىّ على الفلاح" ولا الاقتصارُ على الحيعلة، وهَدْيُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذى صح عنه إبدالُهما بالحوقلة، وهذا مقتضى الحكمة المطابقةِ لحال المؤذِّن والسامع، فإن كلمات الأذان ذِكْرٌ، فَسَنَّ للسامع أن يقولها، وكلمة الحيعلة دعاءٌ إلى الصلاة لمن سمعه، فَسَنَّ للسامع أن يَسْتَعِينَ على هذه الدعوة بكلمة الإعانة وهى: "لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ العَلِّى العظيم".
الثانى: أن يقول: وأَنَا أَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، رَضِيتُ بِالله رَباً، وَبالإسْلاَمِ دِينَاً، وبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَأَخْبَرَ أنَّ مَنْ قَالَ ذلِكَ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ.

الثالث : أن يُصلِّىَ على النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدَ فَراغه من إجابة المؤذِّن، وأكْمَلُ ما يُصلَّى عليه بِهِ، ويصل إليه، هى الصلاة الإبراهيمية كما علَّمه أُمَّته أن يُصلُّوا عليه، فلا صلاَةَ عليه أكملُ منها وإن تحذلق المتحذلقون.
الرابع: أن يقولَ بعد صلاته عليه: "اللهُمَّ رَبَّ هذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، والصَّلاةِ القَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّداً الوَسِيلَةَ والفَضِيلَةَ، وابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً الذى وعَدْتَهُ إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَادَ" هكذا جاء بهذا اللفظ: "مقاماً محموداً" بلا ألف ولا لام، وهكذا صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الخامس: أن يدعوَ لنفسه بعد ذلك، ويسألَ الله من فضله، فإنه يُسْتَجَاب له، كما فى "السنن" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُلْ كَمَا يَقُولُونَ - يَعْنِى المُؤَذِّنِينَ - فَإذَا انْتَهيْتَ فَسَلْ تُعْطَهْ".

وذكر الإمام أحمد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَالَ حينَ يُنَادِى المُنَادِى: اللهُمَّ رَبَّ هذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّة وَالصَّلاةِ النَّافِعَةِ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَارْضَ عَنْهُ رِضَىً لا سَخَطَ بَعْدَهُ، اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ دَعْوَتَه".
وقَالت أمُّ سلمة رضى الله عنها: علَّمنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أقول عند أذان المغرب: "اللهُمَّ إنَّ هذَا إقْبَالُ لَيْلِكَ، وَإدْبَارُ نَهَارِكَ، وَأَصْوَاتُ دُعَاتِكَ، فَاغْفِرْلى" ذكره الترمذى.
وذكر الحاكم فى "المستدرك" من حديث أبى أُمامة يرفعه أنه كان إذا سمع الأذان قال: "اللهُمَّ رَبِّ هَذِهِ الدَّعْوةِ التَّامَّةِ المُسْتَجَابَةِ، والمُسْتَجَابِ لَهَا، دَعْوةِ الحَقِّ وَكَلِمَةِ التَّقْوَى، تَوَفَّنى عَلَيْهَا وَأَحْيِنِى عَلَيْهَا، وَاجْعَلْنِى مِنْ صَالِحِى أهْلِهَا عَمَلاً يَوْمَ القِيَامَةِ" ، وذكره البيهقى من حديث ابن عمر موقوفاً عليه.
وذُكر عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول عند كلمةِ الإقامة: "أقَامَهَا اللهُ وأدَامَهَا".

وفى السنن عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدُّعَاءُ لاَ يُرَدُّ بينَ الأذَانِ والإقامَةِ" قالوا فما نقولُ يا رسول الله؟ قال: "سَلُوا الله العَافِيةَ فى الدُّنْيَا والآخِرَةِ" حديث صحيح.
وفيها عنه: "سَاعَتَانِ، يَفْتَحُ اللهُ فِيهمَا أبْوابَ السَّمَاءِ وقَلَّما تُرَدُّ عَلَى دَاعٍ دَعْوتُه: عِنْدَ حُضُورِ النِّدَاءِ، والصَّفِّ فى سَبِيلِ الله".
وقد تقدَّم هَدْيُه فى أذكار الصلاة مفصَّلاً والأذكارِ بعد انقضائها، والأذكار فى العيدين، والجنائز، والكسوف، وأنه أمر فى الكسوف بالفزع إلى ذكر الله تعالى، وأنه كان يسبِّح فى صلاتها قائماً رافعاً يديه يُهلِّل ويُكبِّر ويَحْمَدُ ويدعو حتى حُسِر عن الشمس، والله أعلم.

فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكثِرُ الدعاء فى عَشْرِ ذى الحِجَّة، ويأمُر فيه بالإكثار من التهليل والتكبير والتحميد.
ويُذكر عنه أنه كان يُكبِّر من صلاة الفجر يومَ عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، فيقول: "اللهُ أكْبَرُ، اللهُ أكْبَرُ، لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ، والله أكْبَرُ ولِلَّهِ الحَمْدُ" وهذا وإن كان لا يصح إسناده، فالعمل عليه، ولفظه هكذا يشفع التكبير، وأما كونه ثلاثاً، فإنما رُوى عن جابر وابن عباس مِن فعلهما ثلاثاً فقط، وكِلاهما حسن، قال الشافعى: إن زاد فقال: "الله أكبرُ كبيراً، والحمدُ للَّه كثيراًَ، وسُبْحانَ اللهِ بُكرةً وأصيلاً، لا إلهَ إلا اللهُ، ولا نعبدُ إلا إيَّاه، مخلصين له الدِّينَ ولو كره الكافرون، لا إله إلا اللهُ وحدَهُ، صدَقَ وعده، ونصرَ عبدَه، وهزم الأحزابَ وحده، لا إله إلا الله واللهُ أكبرُ" كان حسناً.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الذِّكْرِ عند رؤية الهلال
يُذكر عنه أنه كان يقول: "اللهُمَّ أَهِلَّه عَلَيْنَا بِالأمْنِ والإيمَانِ، والسَّلاَمَةِ والإسْلامِ، رَبِّى وَرَبُّكَ اللهُ" قال الترمذى: حديثٌ حسن.
ويُذكر عنه أنه كان يقول عند رؤيته: "اللهُ أكْبَرُ، اللهُمَّ أهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأَمْنِ والإيمَانِ، والسَّلامَةِ والإسْلاَمِ والتَّوْفِيقِ لِمَا يُحبُّ ربُّنا ويَرْضَى، رَبُّنَا وَرَبُّكَ اللهُ" ذكره الدارمى.
وذكر أبو داود عن قتادة أنه بلغه أن نبىَّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رأى الهلال قال: "هِلاَلُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلاَلُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْتُ بِالَّذِى خَلَقَكَ" - ثَلاثَ مَرَّاتٍ- ثُمَّ يَقُولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى ذَهَبَ بشهرِ كَذَا، وَجَاءَ بشَهْرِ كَذَا" . وفى أسانيدها لين

ويُذكر عن أبى داود وهو فى بعض نسخ سننه أنه قال: ليس فى هذا البابِ عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثٌ مسند صحيح.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أذكار الطعام قبله وبعده
كان إذا وضع يده فى الطعام قال : "بسْمِ اللهِ" ويأمر الآكل بالتسمية، ويقول "إذَا أكَلَ أحَدُكُم، فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللهِ تعَالَى، فإنْ نَسِىَ أنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللهِ فى أوَّلِهِ، فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللهِ فى أوَّلِه وَآخِرِهِ" حديث صحيح.
والصحيحُ وجوبُ التسمية عند الأكل، وهو أحدُ الوجهين لأصحاب أحمد، وأحاديث الأمر بها صحيحة صريحة، ولا مُعارِضَ لها،

ولا إجماعَ يسوِّغُ مخالفتها ويُخْرِجُهَا عن ظاهرها، وتارِكُهَا شريكهُ الشيطان فى طعامه وشرابه.
فصل
وهاهنا مسألة تدعو الحاجة إليها، وهى أن الآكلين إذا كانوا جماعة، فسمَّى أحدُهم، هل تزولُ مشاركة الشيطان لهم فى طعامهم بتسميته وحدَه، أم لا تزول إلا بتسمية الجميع؟ فنصَّ الشافعى على إجزاء تسمية الواحد عن الباقين، وجعله أصحابُه كردِّ السلام، وتشميتِ العاطس، وقد يُقال: لا تُرفع مشاركةُ الشيطان للآكل إلا بتسميته هو، ولا يكفيه تسميةُ غيره، ولهذا جاء فى حديث حذيفة: إنَّا حضرنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاماً، فجاءت جارية كأنما تُدْفَع، فذهبتْ لتضع يدها فى الطعام، فأخذَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدها، ثمَّ جاء أعرابى كَأَنَّمَا يُدْفَعُ، فأخذ بيده، فقالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أنْ لا يُذْكَرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، وإنَّهُ جَاءَ بِهذِهِ الجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهذَا الأعْرَابىِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، والَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إنَّ يَدَهُ لَفِى يَدى مَعَ يَدَيْهِمَا" ثم ذكرَ اسمَ الله وأكل، ولو كانت تسمية الواحد تكفى، لما وضع الشيطان يده فى ذلك الطعام.
ولكن قد يُجاب بأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن قد وضع يده وسمَّى بعدُ، ولكنَّ الجارية ابتدأت بالوضع بغيرِ تسمية، وكذلك الأعرابىُّ، فشاركهما

الشيطانُ، فمِن أين لكُم أن الشيطان شارك مَن لم يُسمِّ بعد تسمية غيره؟، فهذا مما يُمكن أن يُقالَ، لكن قد روى الترمذىُّ وصححه من حديث عائشة قالت: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكلُ طعاماً فى سِتَّةِ من أصحابه، فجاء أعرابى، فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمَا إنَّه لَوْ سَمَّى لَكَفَاكُم" ، ومِن المعلوم أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأولئك الستة سَمَّوا، فلما جاء هذا الأعرابى فأكل ولم يسمِّ، شاركه الشيطانُ فى أكله فأكل الطعام بِلُقمتين، ولو سمَّى لكفى الجميع.
وأمّا مسألةُ ردِّ السلام، وتشميتِ العاطس، ففيها نظر، وقد صحَّ عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذَا عَطَسَ أحَدُكُم، فَحَمِدَ الله فَحَقٌ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَهُ أنْ يُشَمِّتَهُ" وإن سُلِّمَ الحُكم فيهما، فالفرقُ بينهما وبين مسألة الأكل ظاهِرٌ، فإن الشيطانَ إنما يتوصل إلى مشاركة الآكِل فى أكله إذا لم يُسمِّ، فإذا سمَّى غيرُه، لم تجُز تسميةُ مَن سمَّى عمن لم يُسمِّ مِن مقارنة الشيطانِ له، فيأكل معه، بل تَقِلُّ مشاركة الشيطان بتسمية بعضهم، وتبقى الشركةُ بين مَن لم يُسمِّ وبينه، والله أعلم.
ويُذكر عن جابر عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَنْ نَسِىَ أنْ يُسَمِّىَ عَلَى طَعَامِهِ،

فَلْيَقْرَأ: {قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ} [الإخلاص: 1] إذَا فَرَغَ" وفى ثبوت هذا الحديث نظر.
وكان إذا رُفِعَ الطعامُ من بين يديه يقول: "الحَمْدُ لِلَّهِ حَمْداً كَثِيراً طيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ، غيرَ مَكْفِىٍّ وَلاَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنىً عَنْه رَبُّنا" عَزَّ وَجَلَّ. ذكره البخارى.
وربمَا كانَ يقول: "الحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ".
وكان يقول: "الحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أطْعَمَ وَسَقَى وسوَّغَهُ وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجاً ".
وذكر البخارىُّ عنه أنه كان يقولُ: "الحَمْدُ للَّهِ الَّذِى كَفَانَا وَآوَانا"، وذكر الترمذى عنه أنه قال: "مَنْ أكَلَ طَعامَاً فَقَالَ: الحَمْدُ للّهِ الَّذِى أَطْعَمَنِى هَذَا مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّى وَلا قُوَّةٍ، غَفَرَ اللهُ

لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " حديث حسن.
ويُذكر عنه أنه كان إذَا قُرِّبَ إليه الطعامُ قال: "بِسْمِ اللهِ" فإذَا فَرَغَ مِن طعامه قال: "اللهُمَّ أطٌعَمْتَ وَسَقَيْتَ، وأَغْنَيْتَ وَأَقْنَيْتَ، وهَدَيْتَ وأَحْيَيْتَ، فَلَكَ الحَمْدُ عَلى مَا أَعْطَيْتَ" وَإسْناده صحيح.
وفى السنن عنه أنه كان يقولُ إذا فرغ: "الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى مَنَّ عَلَيْنَا وَهَدَانَا، والَّذِى أَشْبَعَنَا وَأَرْوَانَا، ومِنْ كُلِّ الإحْسَانِ آتَانَا" حديث حسن.
وفى السنن عنه أيضاً: "إذَا أكَلَ أَحَدُكُم طَعَاماً فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَأَطْعِمْنَا خَيْراً مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهَ اللهُ لَبَنَا، فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ، فإنه ليس شئ ويُجزِئ عن الطعام والشراب غير اللبن " حديث حسن.
ويُذكر عنه أنه كَانَ إذَا شَرِبَ فى الإنَاءِ تَنَفَّسَ ثَلاثَة أنْفَاسٍ، ويَحْمَدُ اللهَ فى كُلِّ نَفَسٍ، وَيَشْكُرُهُ فى آخِرِهِنَّ.

فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل على أهلِهِ رُبَّمَا يسأْلُهم: "هَلْ عِنْدَكُم طَعَامٌ"؟ وَمَا عَابَ طَعَاماً قطٌّ، بَلْ كَانَ إذَا اشتهاهُ أكَلَهُ، وإنْ كَرِهَهُ تَرَكهُ وَسَكَت، وربما قال: "أجِدُنى أعَافُهُ إنِّى لا أَشْتَهِيهِ".
وكان يمدح الطعامَ أحياناً، كقوله لما سأل أهلَهُ الإدامَ، فقالُوا: ما عِندنا إلا خَلٌّ، فدعا به فجعل يأكُلُ مِنْهُ ويقُولُ: "نِعْمَ الأُدْمُ الخَلُّ"، وليس فى هذا تفضيل له على اللبن واللَّحم والعَسَل والمَرَق، وإنما هو مدح له فى تلك الحال التى حضر فيها، ولو حَضَرَ لحم أو لبن، كان أولى بالمدح منه، وقال هذَا جبراً وتطييباً لقلب مَن قدَّمه، لا تفضيلاً له على سائر أنواع الإدام.
وكان إذا قُرٍّبَ إليه طعام وهو صائم قال: "إنِّى صَائِمٌ"، وأمر

مَن قُرِّبَ إليه الطعامُ وهو صائم أن يُصَلِّىَ، أى يدعو لمن قدَّمه، وإن كان مفطراً أن يأكل منه.
وكان إذا دُعىَ لِطعام وتبعه أحد، أعلمَ به ربَّ المنزل، وقال: "إنَّ هذَا تَبِعَنَا، فَإنْ شِئْتَ أنْ تأذَنَ لَهُ، وَإنْ شِئْتَ رَجَعَ".
وكانَ يتحدَّث على طعامه، كما تقدَّم فى حديث الخل، وكما قال لِربيبه عمر ابن أبى سلمة وهو يُؤاكِلهُ: "سَمِّ اللهَ، وكُلْ ممَّا يَليك".
وربما كان يُكرِّر على أضيافه عرضَ الأكل عليهم مِراراً، كما يفعلهُ أهلُ الكرم، كما فى حديث أبى هريرة عند البخارى فى قصة شُرب اللبن وقولِهِ له مِراراً: "اشْرَبْ" فَمَا زَالَ يَقُولُ: "اشْرَبْ" حَتَّى قَالَ: وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالحَقِّ لا أجدُ لَهُ مَسْلَكاً.
وكان إذا أكل عند قوم لم يخرُج حتى يَدْعُوَ لهم، فدعا فى منزل عبد الله ابن بُسر، فقالَ: "اللهُمَّ بَارِكْ لَهُم فِيمَا رَزَقْتَهُم، وَاغْفِرْ لَهُمْ، وَارْحَمْهُمْ" ذكره مسلم.
ودعا فى منزل سعد بنِ عُبادة فقال: "أفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ،

وَأَكَلَ طَعَامَكُم الأبْرَارُ، وصَلَّتْ عَلَيْكُمُ المَلائِكَةُ".
وذكر أبو داود عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لما دعاه أبو الهيثم بن التَّيهان هو وأصحابهُ فأكلوا، فلما فرغُوا قال: "أثِيبُوا أخَاكُمْ" قَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ ؛ وما إثابتهُ؟ قال: "إنَّ الرَّجلَ إذَا دُخِلَ بَيْتُهُ، فأُكِلَ طَعَامُهُ، وشُرِبَ شَرَابُهُ، فَدَعَوْا لَهُ، فَذلِكَ إثَابَتُهُ".
وصح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه دخل منزله ليلَةً، فالتمس طعاماً فلم يجده، فقال: " اللهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِى، وَاسْقِ مَنْ سَقَانِى".
وَذُكِرَ عنه أن عَمْرو بنَ الحَمِق سقاه لبناً فقال: "اللهُمَّ أَمْتِعْهُ بِشَبَابِهِ "، فَمَرَّتْ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ سَنَةً لَمْ يَرَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ.
وكان يدعو لمن يُضيف المساكينَ، ويثنى عليهم، فقالَ مرَّة: "ألا رَجُلٌ يُضِيفُ هذَا رحِمَهُ اللهُ"، وقال للأنصارىِّ وامرأته اللَّذَيْنِ آثرا بقُوتِهما وقُوتِ صِبيانهما ضَيْفَهُمَا: "لَقَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ".

وكَانَ لا يأْنَفُ مِن مؤاكلة أحدٍ صغيراً كان أو كبيراً، حُراً أو عبداً، أعرابياً أو مهاجراً، حتى لقد روى أصحاب السنن عنه أنه أخذ بيد مجذوم فوضعها معه فى القَصعة فقال: "كُلْ بِسْمِ اللهِ ثِقَةً بِاللهِ، وَتَوَكُّلاً عَلَيْهِ".
وكان يأمُرُ بالأكل باليمين، وينهى عن الأكل بالشمال، ويقول: " إنَّ الشَّيْطَانَ يَأكُلُ بشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بشِمَالِهِ "، ومقتضى هذا تحريمُ الأكل بها، وهو الصحيح، فإن الآكلَ بِهَا، إما شيطان، وإما مشبَّه به، وصحَّ عنه أنه قال لرجل أكل عنده، فأكل بشماله: "كُلْ بِيَمينِكَ"، فقال: لا أستطيعُ، فقال: "لاَ اسْتَطَعْتَ" فما رفع يده إلى فيه بعدها، فلو كان ذلك جائزاً، لما دعا عليه بفعله، وإن كان كِبْرُهُ حمله على ترك امتثال الأمر، فذلك أبلغُ فى العصيان واستحقاق الدعاء عليه.
وأمر مَن شَكَوْا إليه أنهم لا يشبعُونَ: أن يجتمِعُوا على طعامهم ولا يتفرَّقُوا، وأن يذكُروا اسمَ اللهِ عليه يُبارك لهم فيه.
وصحَّ عنه أنه قال: "إنَّ الله لَيرضَى عَنِ العَبْدِ يَأْكُلُ الأَكْلَةَ يَحْمَدُهُ

عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ يَحْمَدُهُ عَلَيْهَا".
وروى عنه أنه قال: "أَذِيبُوا طَعَامَكُم بِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ والصَّلاَةِ، وَلا تَنَامُوا عَلَيْهِ فَتَقْسُوَ قلُوبُكُم" وأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحاً والواقع فى التجربة يشهدُ به.

فصل: فى هَدْيِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى السلام والاستئذانِ وتشميت العاطس
ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى "الصحيحين" عن أبى هُريرة أن " أفْضَلَ الإسْلاَمِ وَخَيْرَهُ إطْعَامُ الطًَّعَامِ، وَأَنْ تَقْرَأَ السَّلاَمَ عَلى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ".

وفيهما "أن آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لمَّا خلقَه اللهُ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ إلى أولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ المَلائِكَةِ، فَسَلِّم عَلَيْهِمْ، وَاسْتَمِعْ مَا يُحيُّونَكَ بِهِ، فَإنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ الله، فَزَادُوهُ: "وَرَحْمةُ اللهِ".
وفيهما أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أمَرَ بِإفْشَاءِ السَّلام وأخبرهم أنهم إذا أفشوا السلام بَيْنَهُمُ تَحَابُّوا، وَأنَّهُمُ لا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، وَلا يُؤمِنُونَ حَتَّى يَتَحَابُّوا".
وقال البخارى فى "صحيحه": قال عمَّار: ثلاثٌ مَنْ جمعَهُنَّ، فَقَدْ جَمَعَ الإيمَانَ: الإنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلام لِلعَالَم، والإنْفَاقُ مِنَ الإقْتَارِ.
وقد تضمنت هذه الكلماتُ أصول الخير وفروعه، فإن الإنصاف

يُوجب عليه أداء حقوق الله كاملة موفَّرة، وأداء حقوق الناس كذلك، وأن لا يُطالبهم بما ليس له، ولا يُحمِّلهم فوق وُسعهم، ويُعامِلَهم بما يُحِبُّ أن يعامِلوه به، ويُعفيهم مما يُحبُّ أن يُعْفُوه منه، ويحكم لهم وعليهم بما يحكُمُ بِهِ لنفسه وعليها، ويدخلُ فى هذا إنصافُه نفسه من نفسه، فلا يدَّعى لها ما ليسَ لها، ولا يُخبثها بتدنِيسه لها، وتصغيرهِ إياها، وتحقيرِها بمعاصى الله، ويُنميها ويكبِّرُها ويرفعُها بطاعة الله وتوحيده، وحبِّه وخوفِهِ، ورجائِهِ، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وإيثارَ مرضاتِهِ ومحابِّه على مراضى الخلق ومحابِّهم، ولا يكونُ بها مع الخلق ولا مع الله، بل يعزِلُهَا من البين كما عزلها اللهُ، ويكون بالله لا بنفسه فى حُبه وبُغضه، وعطائه ومنعه، وكلامِهِ وسكوتِهِ، ومدخلهِ ومخرجِهِ، فينجى نفسه مِن البين، ولا يرى لها مكانةً يعمل عليها، فيكون ممن ذمهم الله بقوله: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [ هود: 93، 121] [الأنعام: 135] [الزمر: 39] فالعبدُ المحض ليس له مكانة يعمل عليها، فإنه مستحقُ المنافع والأعمال لسيده، ونفسُه ملك لسيده، فهو عامل على أن يؤدىَ إلى سيده ما هو مستحق له عليه، ليس له مكانة أصلاً، بل قد كُوتب على حقوق مُنَجَّمَةٍ، كلما أدَّى نجماً حلَّ عليه نجمٌ آخر، ولا يزال المكاتَبُ عبداً ما بقى عليه شئ من نجوم الكتابة.
والمقصود أن إنصافه من نفسه يُوجب عليه معرفَة ربه، وحقَّه عليه، ومعرفةَ نفسه، ومَا خُلِقَتْ له، وأن لا يُزاحِم بها مالكَها، وفاطرَها ويدَّعى

لها الملكة والاستحقاق، ويزاحم مرادَ سيده، ويدفعَه بمراده هو، أو يقدِّمه ويؤثِرَه عليه، أو يقسِم إرادته بين مراد سيده ومُراده، وهى قسمة ضِيزى، مِثل قسمة الذِينَ قالوا: {هَذَا لِلَّهِ بَزَعْمِهِمْ وَهذَا لِشُركَائِنَا، فَمَا كَانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلَى الله، وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ، سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136].
فلينظر العبد لا يكونُ مِن أهل هذه القسمة بين نفسه وشُركائه وبين الله لجهله وظلمه وإلا لُبِّسَ عليه، وهو لا يشعرُ، فإن الإنسان خُلِقَ ظلوماً جهولاً، فكيف يُطلَبُ الإنصافُ ممن وصفُهُ الظلمُ والجهل؟، وكيف يُنصِفُ الخلَقَ مَن لم يُنْصِفِ الخَالِقَ؟، كما فى أَثر إلهى يقول اللهُ عَزَّ وجَلَّ: "ابْنَ آدَمَ مَا أنْصَفْتَنى، خَيْرِى إلَيْكَ نَازِلٌ، وشَرُّكَ إلىَّ صَاعِدٌ، كَمْ أَتَحَبَّبُ إلَيْكَ بِالنِّعَمِ، وَأَنَا غَنِىٌ عَنْكَ، وَكَمْ تَتَبَغَّضَ إلىَّ بِالمَعَاصِى وَأنْتَ فَقِيرٌ إلىَّ، ولا يَزَالُ المَلَكُ الكَرِيمُ يَعْرُجُ إلىَّ مِنْكَ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ".

وفى أثَر آخر: "ابْن آدَمَ مَا أنْصَفْتَنِى، خَلَقتُكَ وَتَعْبُدُ غَيْرِى، وَأَرْزُقُكَ وَتَشْكُرُ سِوَاىَ".
ثم كيف يُنصِفُ غيرَه مَن لم يُنْصِفْ نفسه، وظَلَمَهَا أقبحَ الظُّلْم، وسعَى فى ضررها أعظمَ السعى، ومنعَهَا أعظم لذَّاتِهَا من حيث ظن أنه يُعطيها إيَّاهَا، فأتعبها كُلَّ التعب، وأشقاها كُلَّ الشقاء من حيث ظن أنه يُريحها ويُسعدها، وجدَّ كل الجدِّ فى حِرمانها حظَّها من الله، وهو يظن أنه ينيلها حظوظها، ودسَّاها كُلَّ التدسيةِ، وهو يظنُّ أنه يُكبرها ويُنميها، وحقَّرها كلَّ التحقير، وهو يظنُّ أنه يعظِّمها، فكيف يُرجى الإنصافُ ممن هذا إنصافُه لنفسه؟ إذا كان هذا فعلَ العبد بنفسه، فماذا تراه بالأجانب يفعل.
والمقصود أن قول عمار رضى الله عنه: "ثلاث مَن جمعهن، فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالَم، والإنفاق من الإقتار"، كلام جامع لأصول الخير وفروعه.
وبذل السلام للعالَم يتضمن تواضعَه وأنَّه لا يتكبَّر على أحد، بل يبذُلُ السلام للصغير والكبير، والشريفِ والوضيعِ، ومَن يعرِفه ومَن لا يعرفه، والمتكبِّر ضِدُّ هذا، فإنه لا يَرُدُّ السلام على كُلِّ مَن سلَّم عليهِ كبراً منه وتِيهاً، فكيف يبذُلُ السلامَ لِكل أحد.
وأما الإنفاق من الإقتار، فلا يصدرُ إلا عن قوةِ ثِقة بالله، وأنَّ الله يُخلِفُه ما أنفقه، وعن قوة يقين، وتوكُّل، ورحمة، وزُهد فى الدنيا، وسخاءِ نفس بها، ووثوق بوعد مَنْ وعده مغفرةً منه وفضلاً، وتكذيباً بوعد مَن يعدُه الفقر، ويأمر بالفحشاء، والله المستعان.

فصل
وثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه مرَّ بِصبيان، فسلَّم عليهم، ذكره مسلم. وذكر الترمذى فى "جامعه" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مرَّ يَوْماً بجماعةِ نسوة، فألوى بيده بالتسليم".
وقال أبو داود: عن أسماء بنت يزيد: " مرَّ علينا النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى نسوة، فسلَّم علينا "، وهى رواية حديثِ الترمذى، والظاهر أن القصة واحدة وأنه سلَّم عليهن بيده.
وفى "صحيح البخارى": أن الصحابه كانوا ينصرِفُونَ مِن الجمعة فيَمُرُّونَ عَلَى عجوز فى طريقهم، فَيُسلِّمونَ عليها، فتُقدِّم لهم طعاماً من أُصول السلق والشًَّعِيرِ.

وهذا هو الصوابُ فى مسألة السلام على النساء: يُسلِّم على العجوز وذواتِ المحارم دونَ غيرهن.
فصل
وثبت عنه فى "صحيح البخارى" وغيره تسليمُ الصغير على الكبير، والمارِّ على القاعد، والراكب على الماشى، والقليلِ على الكثير.
وفى "جامع الترمذى" عنه: يُسلِّم الماشى على القائم.
وفى "مسند البزار" عنه: يسلِّم الراكبُ على الماشى، والماشى على القاعِد، والماشيان أيهما بدأ، فهو أفضل.
وفى "سنن أبى داود" عنه: "إنَّ أوْلَى النَّاسِ باللهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بالسَّلامِ".
وكان فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السلامُ عند المجيء إلى القوم، والسلامُ عند الانصراف عنهم، وثبت عنه أنه قال: " إذَا قَعَدَ أحَدُكُمْ، فَلْيُسَلِّمْ، وَإذَا قَامَ، فَلْيُسَلِّمْ، وَلَيْسَتِ الأُولَى أحَقَّ مِنَ الآخِرَةِ".
وذكر أبو داود عنه: "إذَا لَقِىَ أحَدُكُمْ صَاحِبَهُ فَلْيُسَلِّم عَلَيْهِ، فَإنْ

حَالَ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أو جِدَارٌ، ثُمَّ لَقِيَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ أيْضاً".
وقال أنس: "كانَ أصحابُ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَاشَوْنَ، فَإذَا اسْتَقْبَلْتَهُم شَجَرَةٌ أَوْ أَكَمَةٌ، تَفَرَّقُوا يَمِيناً وَشِمَالاً، وَإذَا الْتَقَوْا مِنْ وَرَائِهَا، سَلَّمَ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ".
ومن هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الداخِل إلى المسجد يبتدئُ بركعتين تحيةَ المسجد، ثم يجئُ فيُسلِّم على القوم، فتكون تحيةُ المسجد قبلَ تحية أهله، فإن تلك حقُّ اللهِ تعالى، والسلامُ على الخلق هو حقٌ لهم، وحقُّ اللهِ فى مثل هذا أحقُّ بالتقديم، بخلاف الحقوق المالية، فإن فيها نزاعاً معروفاً، والفرقُ بينهما حاجةُ الآدمى وعدمُ اتساع الحق المالى لأداء الحقين، بخلاف السلام.
وكانت عادةُ القوم معه هكذا، يدخلُ أحدهم المسجدَ، فيُصلى ركعتين، ثم يجئُ، فيسلِّم على النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا جاء فى حديث رفاعة بن رافع أن النبى صلى الله عيه وسلم بَيْنَمَا هُو جَالِس فى المسجدِ يَوْماً قال رِفاعة: ونحن معه إذ جاء رجلٌ كالبدوى، فصلَّى، فأخَفَّ صلاته، ثمَّ انصَرفَ فَسَلَّمَ عَلَى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَعَلَيْكَ فَارْجعْ، فَصَلِّ، فَإنَّكَ لَمْ

تُصَلَّ ".. وذكر الحديث فأنكر عليه صلاته، ولم يُنكر عليه تأخيرَ السلام عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ما بعد الصلاة.
وعلى هذا: فيُسَن لداخل المسجد إذا كان فيه جماعة ثلاثُ تحيات مترتبة: أن يقولَ عند دخولِه: بسم الله والصلاةُ على رسول الله. ثم يصلِّى ركعتينِ تحيةَ المسجد، ثم يُسلِّمُ على القوم.
فصل
"وكان إذا دخَلَ على أهله باللَّيل، يُسلِّم تسلِيماً لا يُوقِظُ النَّائِمَ، ويُسْمِعُ اليَقْظَانَ" ذكره مسلم.
فصل
وذكر الترمذى عنه عليه السلام: "السَّلامُ قَبْلَ الكَلام".
وفى لفظ آخر: "لا تَدْعُوا أحَداً إلى الطَّعَامِ حَتَّى يُسلِّمَ". وهذا وإن كان إسناده وما قبله ضعيفاً، فالعمل عليه.

وقد روى أبو أحمد بإسناد أحسن منه من حديث عبد العزيز بن أبى رواد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " السَّلامُ قَبْلَ السُّؤالِ، فَمَنْ بَدَأَكُم بالسُّؤَال قَبْلَ السَّلاَمِ، فَلا تُجِيبُوهُ".
ويُذكر عنه أنه كانَ لا يَأذَنُ لِمَن لَمْ يَبْدأْ بالسَّلامِ، ويُذكر عنه: "لا تَأْذَنُوا لِمَنْ لَمْ يَبْدأْ بالسَّلامِ".
وأجود منها ما رواه الترمذى عن كَلَدَةَ بنْ حَنْبَلٍ، أنَّ صفوان بن أُمية بعثه بِلَبَنٍ وَلَبأ وَجِدَايَةٍ وَضَغَابِيْسَ إلى
النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأعْلَى الوَادِى قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيّهِ، وَلَمْ أُسَلِّمْ، وَلَمْ أَسْتَأذِنْ، فَقَالَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ارْجِعْ فَقُلْ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أأدْخُلُ" ؟، قال: هذا حديث حسن غريب.

وكان إذَا أتى باب قوم، لم يسْتَقْبِل البابَ مِن تلقاء وجهه، ولكن مِن رُكته الأيمن، أو الأَيْسَرِ، فيقول: "السَّلاَمُ عَلَيْكُم، السَّلامُ عَلَيْكُمْ".
فصل
وكان يُسلِّم بنفسه على مَن يُواجهه، ويُحَمِّلُ السَّلامَ لمن يُريد السَّلام عليه مِن الغائبين عنه، ويتحمَّل السلامَ لمن يبلِّغه إليه، كما تحمَّل السلام مِن الله عَزَّ وجَلَّ على صِّدِّيقةِ النساء خديجةَ بنت خويلد رضى الله عنها لما قال له جبريلُ: "هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أتَتْكَ بِطَعَامٍ، فَاقْرَأْ [عَلَيْهَا] السَّلامَ مِنْ ربِّهَا" [ومِنِّى] وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فى الجَنَّةِ ".
وقال للصِّدِّيقة الثانية بنت الصِّديق عائشةَ رضى الله عنها: "هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأْ عَلَيْكِ السَّلامَ" فَقَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه، يَرَى مَا لاَ أرَى.

فصل
وكان هديُه انتهاء السلام إلى: "وبركاتُهُ"، فذكر النَّسائى عنه "أن رجلاً جاء فقال: السَّلامُ عليكم، فَرَدَّ عَلَيْهِ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "عَشْرَةٌ" ثُمَّ جلس، ثم جَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "عِشْرُونَ" ثُمَّ جَلَسَ وَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله وبَرَكَاتُه، فَرَدَّ عَلَيْهِ رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: "ثَلاثُونَ" رواهُ النَّسائى، والترمذى من حديث عمران بن حصين، وحسَّنه.
وذكره أبو داود من حديثِ معاذِ بن أنسِ، وزاد فيه: "ثُمَّ أتى آخَرُ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ، فَقَالَ: "أرْبًَعُونَ" فقَالَ: هكذَا تكُونُ الفَضَائِلُ". ولا يثبت هذا الحديثُ، فإن له ثلاث علل: إحداها: أنه من رواية أبى مرحوم عبد الرحيم بن ميمون، ولا يُحتج به. الثانية: أن فيه أيضاً سهلَ بن معاذ وهو أيضا كذلك، الثالثة: أن سعيد بن أبى مريم أحدَ رواته لم يجزم بالرواية

بل قال: أظنُّ أنى سمعتُ نافع بن يزيد.
وأضعفُ مِن هذَا الحديثُ الآخر عن أنس: كان رجل يمُر بالنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول : السَّلامُ عَلَيْكَ يا رسول الله، فيقولُ له النبىُ صَلى الله عَليه وسلم: "وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه وَمَغْفِرَتُه وَرضْوَانُه" فقيل له: يا رسول الله ؛ تُسَلِّم على هذا سلاماً ما تُسلِّمه على أحدٍ من أصحابك؟ فقال: "ومَا يَمْنَعُنى مِنْ ذلِكَ، وَهُوَ يَنْصَرِفُ بِأَجْرِ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً"، وكَانَ يَرْعَى عَلَى أصْحَابِهِ.
فصل
وكان من هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُسلِّمَ ثلاثاً كما فى "صحيح البخارى" عن أنس رضى الله عنهُ قال: كانَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أعَادَهَا ثَلاثاً حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإذَا أتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ سَلَّمَ ثَلاثاً"، ولعل هذا كان هَدْيَه فى السلام على الجمع الكثير الذين لا يبلغُهم سلام واحد، أو هَدْيَه فى إسماع السلام الثانى والثالث، إن ظنَّ أن الأولَ لم يحصُل به الإسماع كما سلَّم لما انتهى إلى منزل سعد بن عُبادة ثلاثاً، فلما لم يُجبه

أحد رجع، وإلا فلو كان هَدْيُه الدائمُ التسليمَ ثلاثاً لكان أصحابُه يُسلِّمونَ عليه كذلك، وكان يُسلِّمُ على كُلِّ مَن لقيه ثلاثاَ، وإذا دخل بيته ثلاثاً، ومَن تأمل هَدْيَه، علِم أن الأمر ليس كذلك، وأنَّ تكرار السلامِ كان منه أمراً عارضاً فى بعض الأحيان، والله أعلم.
فصل
وكان يبدأ مَن لقيه بالسلام، وإذا سلَّم عليه أحدٌ، ردَّ عليهِ مِثلَ تحيته أو أفضلَ منها على الفور من غير تأخير، إلا لِعذر، مثل حالة الصلاة، وحالة قضاء الحاجة.
وكان يُسمِعُ المسلم ردَّهُ عليه، ولم يكن يَرُدُّ بيده ولا رأسه ولا أصبعه إلا فى الصلاة، فإنه كان يرد على مَن سلَّم عليه إشارة، ثبتَ ذلك عنه فى عدة أحاديث، ولم يجئ عنه ما يعارضها إلا بشئ باطل لا يصح عنه كحديث يرويه أبو غطفان - رجل مجهول - عن أبى هريرة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَشَارَ فى صَلاَتِهِ إشَارَةً تُفْهمُ عَنْهُ، فَلْيُعِدْ صَلاتَهُ" قال الدارقطنى: قال لنا ابن أبى داود: أبو غطفان هذا رجل مجهول، والصحيح عن

النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يُشير فى الصلاة، رواه أنس وجابر وغيرهما عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فصل
وكان هَدْيه فى ابتداء السلام أن يقول: "السَّلامُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ اللهِ"، وكان يكره أن يقول المبتدئ: عليك السلام.
قال أبو جُرَىَّ الهُجيمىُّ: أتيتُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: عَلَيكَ السَّلاَمُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: "لا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلامُ، فَإنَّ عَلَيْكَ السَّلامُ تَحيةُ المَوْتَى" حديث صحيح.

وقد أشكل هذا الحديثُ على طائفة، وظنُّوهُ معارضاً لما ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى السلام على الأموات بلفظ: "السَّلامُ عَلَيْكُم" بتقديم السلام، فظنوا أن قوله: " فإن عليكَ السلام تَحيَّةُ المَوْتَى" إخبار عن المشروع، وغلِطُوا فى ذلك غلطاً أوجب لهم ظَنَّ التعارض، وإنما معنى قوله: "فإنَّ عَلَيْكَ السَّلامُ تَحيَّةُ المَوْتَى" إخبار عن الواقع، لا المشروعُ، أى: إن الشعراء وغيرَهم يحيُّون الموتى بهذه اللفظة، كقول قائلهم:
عَلَيْكَ سَلاَمُ اللهِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ ... وَرَحْمَتُهُ مَا شاءَ أنْ يَتَرحَّما
فَمَا كَانَ قَيْسُ هُلْكُه هُلْكَ واحِدٍ ... وَلَكنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تهدَّمَا
فكره النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُحيَّى بتحية الأموات، ومِن كراهته لذلك لم يردَّ على المسلِّم بها.
وكان يردُّ على المُسلِّمِ: "وَعَلَيْكَ السَّلامُ" بالواو، وبتقديم "عَلَيْكَ" على لفظ السلام.

وتكلم الناسُ هاهنا فى مسألة، وهى لو حذف الرادُّ "الواو" فقالَ: "عَلَيْكَ السَّلاَمُ" هَلْ يكونُ صحيحاً؟ فقالت طائفة منهم المتولى وغيرُه: لا يكون جواباً، ولا يسقط به فرضُ الردِّ، لأنه مخالِف لسُنَّة الردِّ، ولأنه لا يُعلم: هل هو رد، أو ابتداء تحية؟ فإن صورته صالحة لهما، ولأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُم أَهْلُ الكِتَابِ، فَقُولُوا: "وعَلَيْكُم" فهذا تنبيهٌ منه على وجوب الردِّ على أهلِ الإسلام، فإن "الواو" فى مثل هذا الكلام تقتضى تقريرَ الأول، وإثبات الثانى، فإذا أُمِرَ بالواو فى الرد على أهل الكتاب الذين يقولون: السام عليكم، فقالَ: "إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُم أهْلُ الكِتَابِ، فَقُولُوا: وعَلَيْكُم" فَذِكْرُها فى الردِّ على المسلمين أولى وأحرى.
وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك ردٌ صحيح، كما لو كان بالواو، ونص عليه الشافعى رحمه الله فى كتابه الكبير، واحتج لهذا القول بقوله تعالى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ * إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً} [الذاريات: 24-25]، قَالَ سَلامٌ أى: سلام عليكم، لا بد من هذا، ولكن حسُنَ الحذفُ فى الرد، لأجل الحذف فى الابتداء، واحتجوا بما فى "الصحيحين" عن أبى هريرة عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "خَلَقَ اللهُ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعاً، فَلَمَّا خَلَقَهُ، قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَسَلِّم عَلَى أُولَئِكَ النَّفَر

مِن المَلائِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُم فَقَالُوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ الله، فَزَادُوهُ: "وَرَحْمَةُ اللهِ". فقد أخبرَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذه تحيتُهُ وتحيةُ ذُرِّيته، قالوا: ولأن المسلَّم عَلَيْهِ مَأْمُورٌ أن يُحيِّى المُسلِّمَ بمثل تحيته عدلاً، وبأحسنَ منها فضلاً، فإذا ردَّ عليه بمثل سلامه، كان قد أتى بالعدلِ.
وأما قوله: " إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُم "، فهذا الحديثُ قد اختُلِفَ فى لفظة "الواو" فيه، فروى على ثلاثة أوجه، أحدها: بالواو، قال أبو داود: كذلك رواه مالك عن عبد الله بن دينار، ورواه الثورى عن عبد الله بن دينار، فقال فيه: "فعليكم"، وحديث سفيان فى "الصحيحين" ورواه النسائى من حديث ابن عُيينة عن عبد الله بن دينار بإسقاط "الواو"، وفى لفظ لمسلم والنسائى: فقل: "عليك" - بغير واو.
وقال الخطابى: عامةُ المحدِّثين يروونه: "وعليكم" بالواو، وكان سفيان ابن عيينة يرويه: "عليكم" بحذف الواو، وهو الصوابُ، وذلك أنه إذا حذف الواو، صار قولهم الذى قالوه بعينه مردوداً عليهم، وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم، والدخول فيما قالوا، لأن الواو حرفٌ للعطف والاجتماع بين الشيئين... انتهى كلامه.

وما ذكره من أمر الواو ليس بمشكل، فإن "السَّام" الأكثرون على أنه الموت، والمسلِّم والمسلَّم عليه مشتركون فيه، فيكون فى الإتيان بالواو بيانٌ لعدم الاختصاص، وإثبات المشاركة، وفى حذفِهَا إشعار بأن المسلِّم أحقُّ به وأولى من المسلَّم عليه وعلى هذا فيكون الإتيانُ بالواو هو الصواب، وهو أحسنُ من حذفها، كما رواه مالك وغيرُهُ، ولكن قد فُسِّر السَّام بالسآمة، وهى الملالة وسآمة الدين، قالوا: وعلى هذا فالوجه حذف الواو ولا بدَّ، ولكن هذا خلافُ المعروف من هذه اللفظة فى اللغة، ولهذا جاء فى الحديث: "إنَّ الحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إلاَّ السَّامَ" ولا يختلفون أنه الموت، وقد ذهب بعض المُتحذلقين إلى أنه يرد عليهم السِّلام - بكسر السين - وهى الحجارة، جمع سِلَمة، وردُّ هذا الرَّدُّ متعيَّن.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى السلام على أهلِ الكِتاب
صَحَّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه قال: "لا تَبْدَؤوهُمْ بِالسَّلامِ، وَإذَا لَقيتُموهُمْ فى

الطَّرِيقِ، فاضْطَّروهُمْ إلَى أضْيَقِ الطَّرِيقِ"، لكن قَد قِيل: إن هذا كان فى قضيةٍ خاصةٍ لمَّا سارُوا إلى بنى قُريظة قال: "لاَ تَبْدَؤوهُمْ بالسَّلام" فهل هذا حُكْمٌ عام لأهْلِ الذمّة مطلقاً، أو يختَصُّ بِمَنْ كانَتْ حالُه بمثل حالِ أولئك؟ هذا موضِعُ نظر، ولكن قد روى مسلم فى "صحيحه" من حديث أبى هُريرة أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تَبْدَؤوا اليَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى بالسَّلامِ، وَإذَا لَقِيْتُم أحَدَهُم فى الطَّريق، فَاضْطَرُّوهُ إلى أَضْيَقِهِ" والظَّاهر أن هذا حكم عام.
وقد اختلف السَلَفُ والخَلَفُ فى ذلك، فقال أكثرُهم: لا يُبدؤون بالسلام، وذهب آخرون إلى جواز ابتدائهم كما يُردُّ عليهم، رُوى ذلك عن ابن عباس، وأبى أُمامة، وابْنِ مُحَيْرِيز، وهو وجه فى مذهب الشافعى رحمه الله، لكن صاحبُ هذا الوجه قال: يُقال له: السَّلامُ عَلَيْكَ، فقط بدونِ ذكر الرحمة، وبلفظ الإفراد، وقالت طائفة: يجوزُ الابتداءُ لِمصلحة راجحة مِن حاجة تكون له إليه، أو خوف مِن أذاه، أو لِقرابةٍ بينهما، أو لِسببٍ يقتضِى ذلك، يُروى ذلك عن إبراهيم النَّخعى، وعلقمَة. وقال الأوزاعىُّ: إن سلَّمْتَ، فقد سلَّمَ الصالحونَ، وإن تركتَ، فقد ترك الصَّالِحون.
واختلفوا فى وجوب الرد عليهم، فالجمهورُ على وجوبه، وهو الصوابُ، وقالت طائفة: لا يجبُ الردُّ عليهم، كما لا يجبُ على أهل

البدع وأولى، والصواب الأول، والفرق أنَّا مأمورون بهجر أهلِ البدع تعزيراً لهم، وتحذيراً منهم، بخلاف أهل الذمة.
فصل
وثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه مرَّ على مجلس فيه أخلاطٌ مِن المُسْلِمِينَ، والمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ، واليَهُودِ، فَسَلَّم عليْهم.
وصحّ عنه أنه كتب إلى هِرَقلَ وَغَيْرِهِ: "السَّلامُ على مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى".
فصل
ويُذكُر عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " يُجْزِىءُ عَنِ الجَمَاعَةِ إذَا مَرُّوا أنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُم، وَيُجْزِىءُ عَن الجُلُوسِ أنْ يَرُدَّ أحَدُهُم" فذهب إلى هذا الحديثِ مَنْ قال: إن الردَّ فرضُ كِفاية يقومُ فيه الواحدُ مقام الجميع، لكن ما أحسنه لو كان ثابتاً، فإن هذا الحديث رواه أبو داودَ مِن رواية

سعيد بن خالد الخزاعى المدنى، قال أبو زرعة الرازى: مدنى ضعيف، وقال أبو حاتم الرازى: ضعيف الحديث، وقال البخارى: فيه نظر. وقال الدارقطنى: ليس بالقوى.
فصل
وكان من هَدْيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا بلَّغَهُ أحدٌ السلامَ عن غيره أن يردَّ عليه وعلى المبلِّغ، كما فى "السنن" أن رجلاً قال له: إنَّ أبى يُقْرِئُكَ السَّلامَ، فَقَالَ لهُ : "عَلَيْكَ وَعَلَى أبِيكَ السَّلامَ".
وكان من هَدْيه تركُ السَّلام ابتداءً ورَداً على مَن أحدث حدثاً حتى يتوبَ منه، كما هجر كعبَ بنَ مالك وصاحبَيْه، وكان كعب يُسلِّم عليه، ولا يَدرى هَلْ حَرَّكَ شَفتيه بردِّ السَّلامِ عَلَيْهِ أم لا؟.د

وسلَّم عليه عمارُ بنُ ياسرٍ، وقد خَلَّقه أهلُهُ بزَعفران، فلم يردَّ عليه، فقال: "اذْهبْ فاغْسِلْ هَذَا عَنْكَ".
وهجر زينب بنت جحش شهرين وبعضَ الثالث لمَّا قال لها: "أعْطِى صفيَّة ظهَراً" لما اعتلَّ بعيرُها، فَقَالت: أنَا أعْطِى تِلْكَ اليهودِيَّةَ؟، ذكرهما أبو داود.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الاستئذان
وصحَّ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الاسْتِئذَانُ ثَلاَثٌ، فَإنْ أُذِنَ لَكَ وَإلاَّ فارْجِعْ".

وصحَّ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال : "إنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أجْلِ البَصَر".
وصحَّ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أراد أن يفَقَأ عَيْنَ الَّذِى نَظَر إلَيْهِ مِنْ جُحْرٍ فى حجرته، وقال: " إنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أجْلِ البَصَر".
وصحَّ عنه أنه قال: "لَوْ أنَّ امْرءاً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ".
وصحَّ عنه أنه قال: "مَنِ اطَّلَعَ عَلَى قَوْمٍ فى بَيْتِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِهِم، فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أنْ يَفْقَؤوا عَيْنَهُ".
وصحَّ عنه أنه قال: "مَنِ اطَّلَعَ فى بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَفَقَؤوا عَيْنَهُ، فلاَ دِيةَ لَهُ، ولا قِصَاصَ".
وصح عنه: التسليمُ قبل الاستئذان فعلاً وتعليماً، واستأذن عليه رجلٌ، فقالَ: أَأَلِجُ؟ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ: "اخْرُجْ إلى هَذَا، فَعَلِّمْهُ الاسْتِئْذَان"، فَقَالَ لَهُ: قل: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُل؟

فسمعه الرَّجُلُ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُم، أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ له النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ.
ولمَّا اسْتَأْذَنَ عليه عُمَرُ رَضِىَ الله عنه، وهو فى مَشْرُبِتَهِ مُؤلِياً مِنْ نِسَائِهِ، قال: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رسول الله، السَّلامُ عليكم، أيَدْخُلُ عُمَرُ؟.
وقد تقدَّم قولهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَلَدَةَ بْنِ حَنْبَل لما دخل عليه ولم يُسلِّم: "ارْجعْ فَقُلْ: السَّلامُ عَلَيْكُم أَأَدْخُل"؟.
وفى هذه السنن ردٌ على مَن قال: يُقدَّمُ الاستئذان على السلام، وردٌ على مَن قال: إن وقعت عينُه على صاحب المنزل قبل دخوله، بدأ بالسَّلام، وإن لم تقع عينه عليه، بدأ بالاستئذان، والقولان، مخالفان للسُّنَّة.
وكان من هَدْيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استأذَنَ ثلاثاً ولم يُؤذن له، انصرف، وهو ردٌ على مَن يقول: إن ظنَّ أنهم لم يسمعوا، زاد على الثلاث، وردٌ على مَن قال: يُعيدُهُ بلفظٍ آخر، والقولان مخالفان للسُّنَّة.

فصل
وكان من هَدْيه أن المستأذِنَ إذا قِيلَ له: مَنْ أنْتَ؟ يقول: فلانُ بنُ فلان، أو يذكر كُنيته، أو لَقبه، ولا يقول: أنا، كما قال جِبْرِيلُ للملائكة فى ليلة المعراج لما استفتح بابَ السماء فسألوه: مَنْ؟ فقال: جِبريلُ، واستمر ذلك فى كل سماء سماء.
وكذلك فى "الصحيحين" لما جَلَس النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى البُسْتَان، وجاء أبو بكر رضى الله عنه، فاستأذن فقال: "مَن"؟ قال: أبو بكر، ثم جاء عمر، فاستأذنَ فقالَ: "مَن"؟ قال: عمر، ثم عثمانُ كذلك.
وفى "الصحيحين"، عن جابر: أتيتُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدققتُ البابَ فقال: "مَن ذا"؟ فقلت: أنَا، فَقَالَ: "أنَا أنَا"، كَأَنَّهُ كَرِهَهَا.
ولما استأذنت أُمُّ هانئ، قال لها: "مَنْ هذِهِ"؟ قالت: أُمُّ هانئ، فلم يكره ذِكرها الكُنية، وكذلك لما قال لأبى ذر: "مَنْ هَذَا"؟ قَالَ: أَبُو ذر، وكذلك لما قال لأبى قتادة: "مَنْ هَذَا"؟ قال: أبو قتادة.

فصل
وقد روى أبو داود عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث قتادة، عن أبى رافع، عن أبى هُريرة: " رَسُولُ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ إذْنُه". وفى لفظ: "إذَا دُعِىَ أحَدُكُم إلى طَعَامٍ، ثُمَّ جَاءَ مَعَ الرَّسُولِ، فَإنَّ ذلِكَ إذْنٌ لَهُ. وهذا الحديث فيه مقال، قال أبو على اللؤلؤى: سمعتُ أبا داود يقول: قتادة لم يسمع من أبى رافع. وقال البخارى فى "صحيحه": وقال سعيد: عن قتادة، عن أبى رافع، عن أبى هريرة، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هو إذنه"، فذكره تعليقاً لأجل الانقطاع فى إسناده.
وذكر البخارى فى هذا الباب حديثاً يدلُّ على أن اعتبار الاستئذان بعد الدعوة، وهو حديثُ مجاهد عن أبى هريرة: دخلتُ مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوجدتُ لبناً فى قدح، فقال: "اذْهَبْ إلى أهْلِ الصُّفّةِ، فادْعهُمُ إلىَّ" قال: فَأَتَيْتُهم، فدعوتُهم، فأقبلوا، فاستأذنوا، فأذن لهم، فدخَلُوا.

وقد قالت طائفةٌ: بأن الحديثين على حالين، فإن جاء الداعى على الفور مِن غير تراخ، لم يحتج إلى استئذان، وإن تراخى مجيئه عن الدعوة، وطال الوقتُ، احتاجَ إلى استئذان.
وقال آخرون: إن كان عند الداعى مَن قد أذِنَ له قبل مجئ المدعو، لم يحتج إلى استئذان آخر، وإن لم يكن عنده مَن قد أذِنَ له، لم يدخل حتى يستأذن.
وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا دخل إلى مَكَان يُحب الانفراد فيه، أمَرَ مَن يُمْسِكُ البابَ، فلم يَدخلْ عليه أحد إلا بإذن.
فصل
وأما الاستئذانُ الذى أمر الله به المماليكَ، ومَنْ لم يَبْلُغِ الحُلُمَ، فى العوراتِ الثلاثِ: قبلَ الفجر، ووقتَ الظهيرة، وعند النوم، فكان ابنُ عباس يأمرُ به، ويقول: ترك الناسُ العملَ بها، فقالت طائفة: الآيةُ منسوخة، ولم تأتِ بحُجة، وقال طائفة: أمرُ ندبٍ وإرشاد، لا حتم وإيجاب، وليس معها ما يدل على صرف الأمر عن ظاهره، وقالت طائفة: المأمور بذلك النساءُ خاصة، وأما الرجالُ، فيستأذِنون فى جميع الأوقات، وهذا ظاهرُ البطلان، فإن جمع "الذين" لا يختص به المؤنث، وإن جاز إطلاقُه عليهن مع الذكور تغليباً. وقالت طائفة عكس هذا: إن المأمورَ

بذلك الرجال دون النساء، نظراً إلى لفظ: "الذين" فى الموضعين، ولكن سياقُ الآية يأباه فتأمله.
وقالت طائفة: كان الأمرُ بالاستئذان فى ذلك الوقت للحاجة، ثم زالت، والحكمُ إذا ثبت بعلَّةٍ زال بزوالها، فروى أبو داود فى "سننه" أن نفراً من أهل العراق قالوا لابن عباس: يا ابن عباس، كيف ترى هذه الآية التى أُمِرْنَا فيها بِمَا أُمِرْنَا، ولا يَعملُ بها أحدٌ: {يَأيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ...} [ النور: 58] الآية. فقال ابنُ عباس: إن الله حَكيمٌ رحيمٌ بالمؤمنين، يُحِبُّ السِّتْرَ، وكان الناسُ ليسَ لِبيُوتهم سُتُور ولا حِجَال، فربمَا دخلَ الخادِمُ، أو الولدُ أو يتيمُة الرجل، والرجلُ على أهله، فأمرهم اللهُ بالاستئذان فى تلك العَوَرَاتِ، فجاءهم اللهُ بالسُّتُور والخير، فلم أر أحداً يَعْمَلُ بذلك بَعْدُ.
وقد أنكر بعضُهم ثبوتَ هذا عن ابن عباس، وطعن فى عِكرمة، ولم يصنع شيئاً، وطعن فى عَمْرو بن أبى عمرو مولى المطلب، وقد احتج به صاحبا الصحيح، فإنكارُ هذا تعنُّت واستبعاد لا وجه له.
وقالت طائفة: الآية محكمة عامة لا مُعارِضَ لها ولا دافع، والعملُ بها واجب، وإن تركه أكثرُ الناس.
والصحيح: أنه إن كان هناك ما يقوم مقامَ الاستئذانِ من فتح باب فتحُه دليل على الدخول، أو رفع ستر، أو تردُّد الداخل والخارج ونحوه، أغنى ذلك عن الاستئذان، وإن لم يكن ما يقومُ مقامه، فلا بُد منه، والحكم معلَّلٌ بعلَّة قد أشارت إليها الآية، فإذا وُجِدَتْ، وُجِدَ الحكمُ، وإذا انتفت انتفى. والله أعلم.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أذكار العطاس
ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الله يُحِبُّ العُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤبَ، فَإذَا عَطَسَ أَحَدُكُم وَحَمِدَ الله، كَانَ حَقّاً عَلَى كُلِّ مُسْلِم سَمِعَهُ أنْ يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، وأمَّا التَّثَاؤُبُ، فإنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإذَا تَثَاءَبَ أحدُكُم، فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإنَّ أَحَدَكُم إذَا تَثَاءَبَ، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ" ذكره البخارى.
وثبت عنه فى "صحيحه": " إذا عَطَسَ أَحَدُكُم فَلْيَقُلْ: الحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَلْيَقُل: يَهْدِيكُم اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم".
وفى "الصحيحين" عن أنس: "أنه عَطَسَ عِنْدَهُ رَجُلانِ، فشمَّتَ أحَدَهُمَا، ولم يُشمِّتِ الآخَر، فَقَالَ الَّذى لم يُشَمِّتْهُ: عَطَسَ فُلانٌ فَشَمَّتَّهُ، وَعَطَسْتُ، فَلَمْ تُشَمِّتْنِى، فَقَالَ: "هَذَا حَمِدَ اللهَ، وأنْتَ لَمْ تَحْمَدِ الله".

وثبت عنه فى "صحيح مسلم": "إذا عَطَسَ أحَدُكُم فَحَمِدَ اللهَ، فَشَمِّتُوهُ، فإنْ لَمْ يَحْمَدِ الله، فَلاَ تُشَمِّتُوهُ".
وثبت عنه فى "صحيحه": من حديث أبى هريرة: "حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ سِتٌ: إذَا لَقِيتَهُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإذَا دَعَاك فَأجبْهُ، وَإذَا اسْتَنْصَحَكَ، فانْصَحْ لَهُ، وَإذَا عَطَسَ وَحَمِدَ اللهَ، فَشَمِّتْهُ، وَإذَا مَرِضَ، فَعُدْه، وَإذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ".
وروىأبو داودعنه بإسناد صحيح: "إذَا عَطَسَ أَحَدُكُم فَلْيَقُلْ: الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلْيَقُلْ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُه: يَرْحَمُكَ الله، وَلْيَقُلْ هُوَ: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم".
وروى الترمذى، أن رَجُلاً عَطَسَ عِندَ ابنِ عمر، فقال: الحَمْدُ لِلَّه، والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: وأنَا أقُولُ: الحمدُ لِلَّهِ والسلامُ على رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ هَكَذَا عَلَّمَنَا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِن

عَلَّمَنَا أنْ نَقُولَ: الحمْدُ لِلَّهِ على كُلِّ حال.
وذكر مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "كَانَ إذَا عَطَسَ فَقِيلَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، قَالَ: يَرْحَمُنَا اللهُ وإيَّاكُم، ويَغْفِرُ لَنَا وَلَكُمْ".
فظاهر الحديثِ المبدوء به: أن التشميتَ فرضُ عَيْن على كُلِّ مَنْ سمع العاطس يحمَدُ الله، ولا يُجْزِئ تشميتُ الواحد عنهم، وهذا أحدُ قولى العلماء، واختاره ابنُ أبى زيد، وأبو بكر بن العربى المالكيان، ولا دافع له.
وقد روى أبو داود: أن رجلاً عَطَسَ عند النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَعَلَيْكَ السَّلامُ وعَلَى أُمِّكَ"، ثُمَّ قَالَ: "إذَا عَطَسَ أَحَدُكُم، فَلْيَحْمَدِ الله" قال: فذكر بَعضَ المَحَامِدِ، وليقُلْ لَهُ، مَنْ عِنْدَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، وَلَيَرُدَّ - يَعْنِى عَلَيْهِم - يَغْفِرُ اللهُ لَنَا وَلَكُمْ".
وفى السلام على أُمِّ هذا المُسلِّم نُكتةٌ لطيفةٌ، وهى إشعارُه بأن سلامَه قد وقع فى غير موقعه اللائق بِه، كما وقع هذا السلامُ على أُمِّه، فكما أن سلامه هَذَا فى غير موضعه كذلك سلامه هو.

ونكتةٌ أخرى ألطفُ منها، وهى تذكيرُه بأُمِّه، ونسبه إليها، فكأنه أُمِّىٌ محض منسوب إلى الأُم، باقٍ على تربيتها لم تربِّه الرجالُ، وهذا أحدُ الأقوال فى الأُمِّى، أنه الباقى على نسبته إلى الأُم.
وأما النبى الأُمِّى: فهو الذى لا يُحسِنُ الكِتَابة، ولا يقرأ الكِتَابَ.
وأمَّا الأُمِّىُّ الذى لا تَصِحُّ الصلاةُ خلفه، فهو الذى لا يُصحح الفاتحة، ولو كان عالماً بعلوم كثيرة.
ونظيرُ ذكر الأُم هاهنا ذكرُ هَنِ الأب لمن تعزَّى بعزاءِ الجاهلية فيقال له: اعضُضْ هَنَ أَبِيكَ، وكَانَ ذِكرُ هَنِ الأب هاهنا أحسن تذكيراً لهذا المتكبِّرِ بدعوى الجاهلية بالعُضو الذى خَرَجَ منه، وهو هَنُ أبيه، فَلاَ يَنْبَغِى لَهُ أن يتعدَّى طَوْرَهُ، كما أن ذِكرَ الأُم هاهنا أحسنُ تذكيراً له، بأنه باقٍ على أُمِّيته. والله أعلم بمراد رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما كان العاطِسُ قد حصلت له بالعُطاسِ نعمةُ ومنفعةُ بخروج الأبخرة المحتقِنة فى دِماغه التى لو بقيت فيه أحدثت له أدواءً عَسِرَةً، شُرعَ له حمدُ الله على هَذِهِ النعمة مع بقاء أعضائه على التئامها وهيئتها بعد هذه الزلزلة التى هى للبدن كزلزلة الأرض لها.
ولهذا يقال: سمَّته وشمَّته - بالسين والشين - فقيل: هما بمعنىً واحد، قاله أبو عبيدة وغيره. قال: وكلُّ داعٍ بخير، فهو مُشمِّتٌ ومُسَمِّتٌ. وقيل: بالمهملة دعاء له بحُسن السَّمتِ، وبعوده إلى حالته من السكون والدعة، فإن العُطاس يُحدث فى الأعضاء حركةً وانزعاجاً. وبالمعجمة: دعاء له بأن يصرفَ الله عنه ما يُشمِّتُ به

أعداءَه، فشمَّته: إذا أزال عنه الشماتة، كقرَّد البعيرَ: إذا أزال قُرادَه عنه.
وقيل: هو دعاء له بثباته على قوائمه فى طاعة الله، مأخوذ من الشوامِت، وهى القوائم.
وقيل: هو تشميتٌ له بالشيطانِ، لإغاظته بحمْدِ اللهِ على نِعمة العُطاس، وما حصل له به من محابِّ الله، فإن الله يُحبه، فإذا ذكر العبدُ اللهَ وحَمِدَه، ساء ذلك الشيطان من وجوه، منها: نفسُ العُطاس الذى يُحبُّه اللهُ، وحمدُ اللهِ عليه، ودعاءُ المسلمين له بالرحمة، ودعاؤه لهم بالهداية، وإصلاحُ البال، وذلك كُلُّه غائظ للشيطان، محزن له، فتشميتُ المؤمن بغيظ عدوه وحزنه وكآبته، فسمى الدعاءُ له بالرحمة تشميتاً له، لما فى ضمنه من شماتته بعدوه، وهذا معنى لطيف إذا تنبه له العاطِسُ والمشمِّت، انتفعا به، وعَظُمَتْ عندهما منفعةُ نعمةِ العُطاس فى البدن والقلب، وتبيَّن السِّرُّ فى محبة الله له، فلِلَّهِ الحمْدُ الذى هو أهلُه كما ينبغى لكريم وجهه وعِزِّ جلاله.
فصل
وكان من هَدْيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فى العُطاس ما ذكره أبو داود والترمذى، عن أبى هريرة: كانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إذَا عَطَس، وَضَعَ يَدَهُ أوْ ثَوْبَهُ عَلَى فِيهِ، وَخَفَضَ، أو غَضَّ بِهِ صَوْتَه ". قال الترمذى: حديث صحيح

ويُذكر عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنَّ التَثَاؤُبَ الشَّدِيدَ، والعَطْسَةَ الشَّدِيدَةَ مِنَ الشَّيْطَانِ.
ويُذكر عنه: أنَّ الله يَكْرَهُ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّثَاؤُبِ والعُطَاسِ.
وصحَّ عنه: أنه عطسَ عنده رجلٌ، فقال له: "يَرْحَمُكَ اللهُ". ثُمَّ عَطَسَ أُخْرَى، فقالَ: "الرَّجُلُ مَزْكُوم ". هذا لفظ مسلم أنه قال فى المرة الثانية، وأما الترمذى: فقال فيه عَنْ سلمة بن الأكوع: عَطَس رجلٌ عِند رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا شاهد، فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَرْحَمُكَ اللهُ"، ثُمَّ عَطَسَ الثَّانِيَةَ والثَّالِثَةَ، فَقَالَ رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا رَجُلٌ مَزْكُومٌ". قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح.
وقد روى أبو داود عن سعيد بن أبى سعيد، عن أبى هريرة موقوفاً عليه: "شَمِّتْ أخَاكَ ثلاثاً، فَمَا زَادَ، فَهُوَ زُكَامٌ".
وفى رواية عن سعيد، قال: لا أعلمه إلا أنه رفع الحديث إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمعناه. قال أبو داود: رواه أبو نعيم، عن موسى بن قيس، عن محمد بن عجلان، عن سعيد، عن أبى هريرة، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. انتهى. وموسى بن قيس هذا الذى رفعه هو الحضرمى الكوفى يُعرف بعُصفور

الجنَّة. قال يحيى ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم الرازى: لا بأس به.
وذكر أبو داود، عن عُبيد بن رِفاعة الزُّرَقى، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال : "تُشَمِّتُ العَاطِسَ ثَلاثاً، فَإنْ شِئْتَ، فَشَمِّتْهُ ، وإنْ شِئْتَ فَكُفَّ"، ولكن له عِلّتان، إحداهما: إرساله، فإن عبيداً هذا ليست له صحبة، والثانية: أن فيه أبا خالد يزيد بن عبد الرحمن الدالانى، وقد تكلم فيه.
وفى الباب حديث آخر، عن أبى هريرة يرفعه: "إذَا عَطَسَ أحَدُكُم، فَلْيُشَمِّتْهُ جَلِيسُه، فإنْ زادَ عَلَى الثَّلاثَةِ، فَهُوَ مَزْكُومٌ، ولا تُشَمِّتْهُ بَعْدَ الثَّلاث"، وهذا الحديثُ هو حديثُ أبى داود الذى قال فيه: رواه أبو نعيم، عن موسى بن قيس، عن محمد بن عجلان، عن سعيد، عن أبى هريرة، وهو حديث حسن.
فإن قيل: إذا كان به زُكام، فهو أولى أن يُدعى له ممن لا عِلَّة به؟ قيل: يُدعى له كما يُدعى للمريض، ومَن بِه داء ووجع.
وأما سُنَّة العُطاس الذى يُحبه الله، وهو نِعمة، ويدلُّ على خِفة البدنِ، وخرُوج الأبخرة المحتَقِنَةِ، فإنما يكون إلى تمام الثلاث، وما زاد عليها يُدعى لصاحبه بالعافية.
وقوله فى هذا الحديث: "الرَّجُلُ مَزْكُومٌ" تنبيه على الدعاء له بالعافية، لأن الزكمة عِلَّة، وفيه اعتذار من ترك تشميته بعد الثلاث، وفيه تنبيهٌ له على هذه العِلَّة ليتداركها ولا يهملها، فيصعُبَ أمرُهَا، فكلامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كله حكمة ورحمة، وعلم وهدى.

وقد اختلف الناس فى مسألتين: إحداهما: أن العاطِسَ إذا حَمدَ اللهَ، فسمعه بعضُ الحاضرين دون بعض، هل يُسَنُّ لمن لم يسمعه تشميتُه؟ فيه قولان، والأظهر: أنه يُشمته إذا تحقَّق أنه حَمِدَ الله، وليس المقصودُ سماعَ المشمِّت للحمد، وإنما المقصود نفس حمده، فمتى تحقق ترتب عليه التشميتُ، كما لو كان المشمت أخرسَ، ورأى حركة شفتيه بالحمد. والنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "فإن حَمِدَ الله، فشمِّتوه" هذا هو الصواب.
الثانية: إذا ترك الحمد، فهل يُستحبُّ لمن حضره أن يُذكِّرَه الحمد؟ قال ابن العربى: لا يُذكِّره، قال: وهذا جهل من فاعله. وقال النووى: أخطأ مَن زعم ذلك، بل يُذكِّره، وهو مروى عن إبراهيم النخعى. قال: وهو من باب النصيحة، والأمر بالمعروف، والتعاون على البرِّ والتقوى، وظاهر السُّنَّة يقوى قول ابن العربى لأنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُشمِّتِ الذى عَطَسَ وَلَمْ يَحْمَدِ الله، ولم يذكِّره، وهذا تعزير له، وحرمانٌ لبركة الدعاء لمَّا حرم نفسه بركة الحمد، فنسى الله، فصرفَ قلوب المؤمنين وألسنتهم عن تشميته والدعاء له، ولو كان تذكيرُه سُنَّة، لكان النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى بفعلها وتعليمِها، والإعانة عليها.
فصل
وصحَّ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنَّ اليَهُودَ كَانُوا يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَهُ، يَرْجُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: يَرْحَمُكُمُ اللهُ، فكان يقولُ: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بالَكُم".

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أذكار السفر وآدابه
صحَّ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إذَا هَمَّ أحَدُكُم بِالأمْر، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لْيَقُلْ: اللهُمَّ إنِّى أَسْتَخْيِرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الغُيوب، اللهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَم أنَّ هَذَا الأمْرَ خَيْرٌ لى فى دينى وَمَعَاشِى، وَعَاجِلِ أمْرِى وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لى، وَيًَسِّرْهُ لى، وَبَارِكْ لى فيه، وإنْ كُنْتُ تَعْلَمُه شَراً لى فى دِينِى ومَعَاشى، وَعَاجلِ أمْرِى وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عنِّى، وَاصْرِفْنِى عَنْهٌُ، وَاقْدُرْ لى الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنى به" قال: ويُسَمِّى حاجته، قال: رواه البخارى.
فعوَّض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّته بهذا الدعاء، عما كان عليه أهلُ الجاهلية من زجر الطَّيْرِ والاستسقامِ بالأزلام الذى نظيرُه هذه القرعة التى كان يفعلُها إخوانُ المشركين، يطلُبون بها عِلمَ ما قُسِمَ لهم فى الغيب، ولهذا سُمى ذلك استقساماً، وهو استفعال من القَسْم، والسين فيه للطلب، وعوَّضهم

بهذا الدعاء الذى هو توحيدٌ وافتقارٌ، وعبوديةٌ وتوكُّلٌ، وسؤالٌ لِمن بيده الخيرُ كلُّهُ، الذى لا يأتى بالحسناتِ إلا هو، ولا يصرِفُ السيئات إلا هُو، الذى إذا فتح لعبده رحمة لم يستطِع أحدٌ حبسَها عنه، وإذا أمسكها لم يستطع أحدٌ إرسالَها إليه من التطيرِ والتَّنْجيمِ، واختيارِ الطالع ونحوه. فهذا الدعاءُ، هو الطالِعُ الميمونُ السعيد، طالِعُ أهل السعادة والتوفيق، الذين سبقت لهم من الله الحسنى، لا طالِع أهل الشِرك والشقاء والخِذلان، الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر، فسوف يعلمون.
فتضمن هذا الدعاءُ الإقرار بوجوده سبحانَه، والإقرارَ بصفاتِ كماله من كمال العِلم والقُدرة والإرادة، والإقرار بربوبيته، وتفويضَ الأمر إليه، والاستعانةَ به، والتوكُّلَ عليه، والخروجَ من عُهدة نفسه، والتبَّرِّى مِن الحَوْل والقوة إلا به، واعترافَ العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليها، وإرادتِهِ لها، وأن ذلك كلَّه بيد وَليِّه وافطِرِهِ وإلههِ الحقِّ.
وفى "مسند الإمام أحمد" من حديث سعد بن أبى وقاص، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَةُ اللهِ ورضَاهُ بما قَضَى الله، ومِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُ اسْتِخَارَةِ الله، وَسَخَطُهُ بِمَا قَضَى الله".
فتأمل كيف وقع المقدور مكتنفاً بأمرين: التوكل الذى هو مضمونُ الاستخارة قبله، والرِّضا بما يقضى الله له بعده، وهما عنوانُ السعادة. وعنوان الشقاء أن يكتنِفَه تركُ التوكل والاستخارة قبله، والسخط بعده، والتوكّل

قبل القضاء. فإذا أُبرم القضاء وتم، انتقلت العبودية إلى الرضا بعده، كما فى "المسند"، وزاد النسائى فى الدعاء المشهور: "وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ القَضَاء". وهذا أبلغ من الرضا بالقضاء، فإنه قد يكون عزماً فإذا وقع القضاءُ، تنحل العزيمةُ، فإذا حصل الرضا بعد القضاء، كان حالاً أو مقاماً.
والمقصودُ أن الاستخارة تَوكُّلٌ على الله وتفويضٌ إليه، واستقسَام بقُدرته وعلمه، وحسن اختياره لعبده، وهى من لوازم الرضا به رباً، الذى لا يذوق طعم الإيمان مَنْ لم يكن كذلك، وإنْ رضى بالمقدورِ بعدها، فذلك علامةُ سعادته.
وذكر البيهقى وغيره، عن أنس رضى الله عنه قال: لم يُرد النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفَراً قطُّ إلا قال حين ينهض من جلوسه: " اللهُمَّ بِكَ انْتَشَرْتُ، وَإلَيْكَ تَوَجَّهْتُ، وبِكَ اعْتَصَمْتُ، وعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، اللهُمَّ أنْتَ ثِقَتِى، وأنْتَ رَجَائِى، اللهُمَّ اكْفِنى مَا أَهَمَّنِى وَمَا لاَ أَهْتَمُّ لَهُ، وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّى. عَزَّ جَارُكَ، وَجَلَّ ثَنَاؤكَ، ولا إلَه غَيْرُكَ، اللهُمَّ زَوِّدنى التَّقْوَى، وَاغْفِرْ لِى ذَنْبِى، وَوَجِّهْنِى لِلْخَيْر أَيْنَمَا تَوَجَّهْتُ "، ثم يخرج.
فصل
وكانَ إذا ركب راحِلته، كبَّر ثلاثاً، ثم قال : "سُبْحَانَ الَّذى سَخَّر لَنَا هذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِيْن، وَإنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُون". ثم يقول: "اللهُمَّ

إنِّى أَسْأَلُكَ فى سَفَرِنَا هذَا البِرَّ والتَّقْوَى، ومِنَ العَمَلِ مَا تَرْضَى، اللهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هذا، واطْو عنَّا بُعْدَه، اللهُمَّ أنْتَ الصَّاحِبُ فى السَّفَرِ، والخَلِيفَةُ فى الأهْلِ، اللهُمَّ اصْحَبْنَا فى سَفَرِنَا، واخلُفْنَا فى أهْلِنَا". وإذَا رجع قالهنَّ وزاد فيهنَّ: "آيِبُونَ تائِبُون، عابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ ".
وذكر أحمد عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كانَ يقول: "أنْتَ الصَّاحبُ فى السَّفَر، وَالخَلِيفَةُ فى الأهْلِ، اللهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِنَ الضِّبْنَةِ فى السَّفَرِ والكآبَةِ فى المُنْقَلَبِ، اللهُمَّ اقْبِضْ لَنَا الأرْضَ، وَهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ"، وَإذَا أراد الرجوع قال: "آيبون تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ"، وإذَا دخل أهْلَهُ قالَ: "تَوْبَاً تَوْباً، لِرَبِّنَا أوْباً، لا يُغادِرُ عَلَيْنَا حَوْباً".
وفى "صحيح مسلم": أنه كان إذا سافر يقول: "اللهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِن وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكآبَةِ المُنْقَلَبِ، وَمنَ الحَوْرِ بَعْدَ الكَوْرِ، ومِنْ دَعْوَةِ المَظْلُومِ، ومِنْ سُوءِ المَنْظَر فى الأهْلِ والمال ".

فصل
وكانَ إذَا وَضَعَ رِجْلَه فى الرِّكَابِ لِرُكُوبِ دَابَّتِهِ، قال: "بِسْمِ الله"، فَإذَا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا، قَالَ: "الحَمْدُ لِلَّهِ"- ثَلاثاً- "الله أكْبَرُ"- ثَلاثاً، ثُمَّ يَقُولُ: "سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وإنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُون"- ثمَّ يقولُ: "الحَمْدُ لِلَّهِ"- ثَلاثاً- "الله أكْبَرُ" ثَلاثاً، ثمَّ يَقُولُ: "سُبْحَانَ الله"- ثلاثاً، ثمَّ يقول: "لا إلَه إلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، سُبْحَانَكَ إنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى، فَاغْفِرْ لِى، إنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنوبَ إلاَّ أنْتَ".
وكانَ إذَا ودَّعَ أصحابَه فى السفر يقولُ لأحدهم: "أَسْتَوْدِعُ الله دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ، وَخَواتيمَ عَمَلِكَ".
وجاء إليه رجل وقال: يا رسولَ الله: إنِّى أُرِيدُ سَفَراً، فَزَوِّدْنِى. فقال:" زَوَّدَكَ الله التَّقْوَى". قال: زِدْنِى. قال: "وَغَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ"

قال: زدنى. قال: "ويَسَّرَ لَكَ الخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ ".
وقال له رجل: إنِّى أريدُ سفراً، فقال: "أُوصيك بتقْوَى الله، والتَّكْبِيرِ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ"، فلمَّا ولَّى، قال: "اللهُمَّ ازْوِ لَهُ الأَرْضَ، وَهَوِّنْ عَلَيْهِ السَّفَرَ".
وكان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه، إذَا عَلوُا الثنايا، كبَّرُوا، وَإذَا هَبَطُوا، سبَّحُوا، فوضعت الصلاة على ذلك.
وقال أنس: كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا عَلا شَرَفاً مِنَ الأرْضِ، أو نَشْزاً قال: "اللهُمَّ لَكَ الشَّرَفُ عَلَى كلِّ شَرَفٍ، وَلَكَ الحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَمْدٍ".
وكان سيرُه فى حَجَّه العَنَقَ، فإذَا وَجَدَ فجوةً، رَفَعَ السَّيرَ فوقَ ذلكَ، وكَانَ يقول: "لا تَصْحَبُ المَلائِكَةُ رفْقَةً فيها كَلْبٌ وَلا جَرَسٌ".

وكان يكرهُ للمُسَافر وحْدَهُ أن يسيرَ بالليل، فقالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسَُ ما فى الوحْدَةِ ما سَار أحَدٌ وَحْدَه بِلَيْلٍ".
بل كان يَكْرَهُ السفرَ للواحد بلا رفقة، وأخبر: "أنَّ الوَاحِدَ شَيْطَانٌ والاثْنَانِ شَيْطَانَانِ، والثَّلاَثَةُ رَكْبٌ".
وكان يقول: " إذَا نَزَلَ أحَدُكُمْ مَنْزِلاً فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بكَلماتِ الله التَّامَّات مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ، فَإنَّهُ لا يَضُرُّهُ شَئ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ". ولفظ مسلم: "مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً ثم قَالَ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَىءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزله ذلك".
وذكر أحمد عنه أنه كانَ إذَا غزَا أو سافر، فَأدرَكَهُ الليل، قال: "يا أرضُ رَبِّى وَرَبُّكِ الله، أَعُوذُ باللهِ مِنْ شَرِّكِ وَشَرِّ مَا فِيكِ، وشَرِّ ما خُلِقَ فِيكِ، وَشَرِّ ما دَبَّ عَلَيْكِ، أعوذُ بالله مِنْ شَرِّ كُلِّ أسَدٍ وأَسْود، وَحَيّةٍ وَعَقْرَبٍ، ومِنْ شَرِّ سَاكِنِ البَلَد، ومِنْ شَرِّ وَالد، ومَا وَلَدَ".

وكان يقولُ: "إذا سَافَرْتم فى الخِصْب، فَأَعْطُوا الإبَلَ حَظَّهَا مِنَ الأرض، وَإذَا سَافَرْتُمْ فى السَّنَةِ، فبادروا نِقْيَها ". وفى لفظ: "فأسْرِعُوا عَلَيْهَا السَّيْرَ، وإذَا عَرَّسْتُم، فَاجْتَنِبُوا الطَّرِيقَ، فَإنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأوَى الهَوَامِّ باللَّيْلِ "
وكان إذا رأى قريةً يُريد دخولها قال حين يراها: "اللهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وما أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأرْضين السَّبْعِ ومَا أَقْلَلْنَ، ورَبَّ الشَّياطينِ وَمَا أضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيحِ وَمَا ذَرَيْن، إنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هذِهِ القَرْيَةِ وَخَيْرَ أهْلِهَا، ونَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فيهَا".
وكانَ إذا بدا له الفجرُ فى السَّفرِ، قال: "سَمِعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ الله وحُسْنِ بَلائِهِ عَلَيْنَا، رَبَّنَا صَاحِبْنَا وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا عَائِذاً بالله مِنَ النَّارِ". وكان يَنْهَى أن يُسَافَرَ بالقُرْآنِ إلى أرْضِ العَدُوِّ، مخَافَةَ أنْ يَنَالَهُ العَدُوُّ.

وَكَانَ يَنْهى المَرْأَةَ أنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَلَوْ مَسَافَةَ بَرِيدٍ.
وكانَ يَأْمُرُ المُسَافِرَ إذَا قَضَى نَهْمَتَهُ مِنْ سَفَرِهِ، أن يُعَجِّلَ الأوْبَةَ إلَى أهْلِهِ.
وَكَانَ إذَا قَفَلَ مِنْ سَفَرِهِ يُكَبِّر عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأرْضِ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: "لا إله إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، ولَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ، آيُبونَ تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ،

صَدَقَ الله وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ".
وكان ينهى أنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أهْلَهُ لَيْلاً إذَا طَالَتْ غَيْبَتُهُ عَنْهُمْ. وفى "الصحيحين": كان لا يَطْرُقُ أهْلَه لَيْلاً يَدْخُلُ عَلَيْهنَّ غُدْوَةً أوْ

عَشِيَّةً.
وَكَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ يُلَقَّى بِالْوِلْدَانِ مِنْ أهْلِ بَيْتِهِ، قالَ عبد الله بنُ جعفر: وإنه قَدِمَ مَرَّةً مِن سفر، فَسُبِقَ بى إليه، فَحَمَلَنِى بَيْنَ يَدَيْهِ، ثم جِئَ بأَحَدِ ابنى فاطمَةَ، إما حَسَن وإما حُسين، فأردفه خلفَه، قالَ: فدخلنا المَدِينَةَ ثَلاثَةً على دَابَّةٍ.
وكان يعتنِق القَادِمَ مِنْ سَفَرِهِ، ويُقَبِّلُه إذا كَان مِنْ أهْلِهِ. قال الزهرى: عن عُروة، عن عائشة: قدم زيدُ بنُ حارثة المدينةَ، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى بيتى، فأتاه، فَقَرَعَ البَابَ، فَقَامَ إليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرياناً يَجُرُّ ثَوْبَهُ، واللهِ ما رأيته عُرياناً قَبْلَه ولا بَعْدَه، فاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ.

قالت عائشةُ: لما قَدِمَ جعفرٌ وأصحابُه، تلقاه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَاعْتَنَقَهُ.
قال الشعبى: وكان أصحابُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ، تَعَانَقُوا.
وكَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، بَدَأَ بِالمَسْجِدِ، فَرَكعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أذكار النكاح
ثبت عنه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه علَّمهم خُطبة الحاجَةِ: " الحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، ونَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أنفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ الله، فَلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ له، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عبدُه وَرَسُولُهُ" ، ثُمَّ يَقْرَأُ الآيَاتِ الثَّلاثَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنتُم مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً، وَاتَّقُوا الله الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ، إنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]،

{يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا اتَّقُوا الله وقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
قال شعبة: قلت لأبى إسحاق: هذه فى خطبة النكاح، أو فى غيرها؟ قال: فى كل حاجة.
وقال: "إذَا أفَادَ أحَدُكُم امْرَأةً، أو خَادِماً، أو دابَّةً، فَلْيَأْخُذْ بناصِيَتِها، وَلْيَدْعُ الله بِالبَرَكَةِ، وَيُسَمِّى الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلْيَقُلْ: اللهُمَّ إنِّى أسْأَلُكَ خَيْرَها، وخَيْرَ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ، وأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ ما جُبِلَتْ عَلَيْهِ".
وكان يقولُ للمتزوج: "بَارَكَ الله لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فى خَيْرٍ ".
وقال: "لَو أنَّ أحَدَكم إذا أراد أنْ يَأْتِىَ أَهْلَه، قال: بِسْمِ الله، اللهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فإنه إنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فى ذلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَداً".

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يقول مَنْ رأى ما يُعجبه مِن أهله ومالِه
يُذكر عن أنس أنه قال: "ما أنعم الله عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فى أهلٍ، ولا مَالٍ، أو ولدٍ، فيقول: ما شَاءَ الله، لا قُوَّة إلاَّ باللهِ، فَيَرَى فِيهِ آفَةً دُونَ المَوْتِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلاَ إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ الله لا قُوَّةَ إلا بِاللهِ} [الكهف: 39]".

فصل: فيما يقول مَن رأى مُبْتَلى
صحَّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " ما مِنْ رَجُلٍ رأى مُبْتَلى فقالَ: الحمْدُ لِلَّهِ الَّذِى عَافَانِى ممَّا ابْتَلاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِى عَلَى كَثير ممَّن خَلَقَ تَفْضِيلاً، إلاَّ لَمْ يْصِبْه ذَلِكَ البَلاءُ كَائِناً مَا كَانَ".

فصل: فيما يقوله مَن لحقته الطِّيرَةُ
ذُكِرَ عنه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدهُ، فَقَالَ: " أحْسَنُهَا الفَأْلُ وَلاَ تَرُدُّ مُسْلِماً، فَإذَا رَأَيْتَ مِنَ الطِّيَرَةِ مَا تَكْرَهُ فَقُلْ: اللهُمَّ لا يَأتِى بالحَسَنَاتِ إلاَّ أنْتَ، وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئاتِ إلاَّ أنْتَ، ولا حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ".
وكَانَ كَعب يقول: " اللهُمَّ لا طَيْرَ إلاَّ طَيْرُكَ، وَلاَ خَيْرَ إلا خَيْرُكَ، وَلاَ رَبَّ غَيرُكَ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بِكَ، والَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إنَّهَا لرأْسُ التَّوَكُّلِ، وكَنْزُ العَبْدِ فى الجَنَّةِ، ولا يقُولُهُنَّ عَبْدٌ عِنْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَمْضِى إلاَّ لَمْ يَضُرَّهُ شَىء".

فصل: فيما يقوله مَن رأى فى منامه ما يكرهه
صَحَّ عنهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ الله، والحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فمَنْ رَأى رُؤيَا يَكْرَهُ مِنْهَا شَيْئاً، فَلّيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثلاثاً، وَلْيَتَعَوَّذْ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإنَّهَا لا تَضُرُّهُ، وَلاَ يُخْبِرْ بِهَا أحَداً. وَإنْ رَأَى رُؤيَا حَسَنَةً، فَلْيَسْتَبْشِرْ، وَلاَ يُخْبِرْ بِهَا إلاَّ مَنْ يُحِبُّ".
وَأَمَرَ مَنْ رَأى مَا يَكْرَهُهُ أنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِى كَانَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أنْ يُصَلِّىَ.
فأمره بخمسةِ أشياء: أن ينفُثَ عَنْ يساره، وَأن يستعيذَ باللهِ من الشَّيطان، وأن لا يُخبر بها أحداً، وأن يتحوَّل عن جنبه الذى كان عليه،

وأن يقومَ يُصلِّى، ومتى فعل ذلك، لم تضرَّه الرؤيا المكروهة، بل هذا يدفَعُ شرَّها.
وقال: "الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ، فإذَا عُبِّرَتْ، وَقَعَتْ، ولا يَقُصُّهَا إلاَّ على وَادٍّ، أوْ ذِى رَأْى".
وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه، إذَا قُصَّت عليه الرؤيا، قال: اللهُمَّ إنْ كَانَ خَيْراً فَلَنَا، وإنْ كَانَ شَرَّاً، فَلِعَدُوِّنَا.
ويُذكر عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ عُرِضَتْ عَلَيهِ رُؤْيَا، فَلْيَقُلْ لِمَنْ عَرَضَ عَلَيْهِ خَيْراً".
ويُذكر عنه أنه كان يقول للرائى قبل أن يعبرُها له: "خَيْراً رَأَيْتَ " ثم يَعْبُرُهَا.
.

وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: كان أبو بكر الصِّدِّيق إذا أراد أن يَعْبُر رُؤيا، قال: إن صَدَقَتْ رُؤياكَ، يكونُ كذا وكذا

فصل: فيما يقولُه ويفعلُه مَن ابتُلى بالوَسْوَاسِ، ومَا يستعينُ به على الوسوسة
روى صالحُ بن كَيْسان، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن مسعود يرفعه: "إنَّ لِلمَلَكِ الموَكَّلِ بِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ لَمّةً، وَلِلْشَّيْطَانِ لَمَّةً، فَلَمَّةُ المَلَكِ إيعَادٌ بِالخَيْرِ، وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ، وَرَجَاءُ صَالِحِ ثَوابه، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ، إيعَادٌ بالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بالحَقِّ، وقُنُوطٌ مِنَ الخَيْرِ، فَإذَا وجَدْتُمْ لَمَّةَ المَلَكِ، فَاحْمدُوا الله، وسَلُوه مِنْ فَضْلِهِ، وَإذَا وَجَدْتُمْ لَمَّةَ الشَّيْطَانِ، فَاسْتَعِيذُوا بِالله وَاسْتَغْفِرُوه".
وقال له عثمانُ بنُ أبى العاص: يا رَسُولَ الله ؛ إنَّ الشيطانَ قد حال بينى وَبَيْنَ صَلاتِى وقِراءتى، قال: "ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ له: خِنْزَبٌ، فَإذَا أحْسَسْتَهُ، فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، واتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلاثاً".

وشكى إليه الصحَابَةُ أنَّ أحدهم يَجِدُ فى نفسِهِ- يُعرِّض بالشىء- لأن يَكُونَ حُمَمَةً أحبُّ إليه من أنْ يتَكلَّمَ به، فقال: "الله أكْبَرُ، الله أكْبَرُ، الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى رَدَّ كَيْدَهُ إلى الوَسْوَسَةِ".
وأرشد من بُلى بشىءٍ مِن وسوسة التسلسل فى الفاعلين، إذا قيل له: هذَا الله خَلَق الخلق، فمَن خَلَقَ الله؟ أن يقرأ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ والظَّاهِرُ والبَاطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].
كذلك قال ابنُ عباسٍ لأبى زُميل سماك بن الوليد الحنفى وقد سأله: ما شىءٌ أجِدُهُ فى صدرى؟ قال: ما هُو؟ قال: قلتُ: واللهِ لا أتكلَّمُ به. قال: فقال لى: أشىء مِن شَك؟ قلتُ: بلى، فَقَالَ لى: ما نَجا مِنْ ذلِكَ أحد، حتى أنزلَ الله عَزَّ وجَلَّ: {فَإن كُنتَ فِى شَكٍّ مِّمَّا أنْزَلْنَا إلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} [يونس: 94] قال: فقال لى: فإذا وجدتَ فى نفسك شيئاً، فَقُلْ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ والظَّاهِرُ والبَاطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]. فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلانِ التسلسل الباطل ببديهة العقل، وأن سلسلةَ المخلوقات فى ابتدائها تنتهى إلى أولٍ ليس قَبلَه شئ، كما تنتهى

فى آخرِها إلى آخر ليس بعَده شئ، كما أن ظهورَه هو العلوُّ الذى ليس فوقَه شئ، وبُطونَه هو الإحاطة التى لا يكون دونه فيها شئ، ولو كان قبله شئ يكون مؤثراً فيه، لكان ذلك هو الربَّ الخلاق، ولا بدَّ أن ينتهىَ الأمر إلى خالقٍ غيرِ مخلوقٍ، وغنى عن غيره، وكلُّ شىء فقير إليه، قائم بنفسه، وكل شئ قائم به، موجود بذاته، وكل شئ موجود به. قديمٌ لا أول له، وكُلُّ ما سواه فوجودهُ بعد عدمه، باقٍ بذاته، وبقاءُ كل شىء به، فهو الأوَّلُ الذى ليس قبله شىء، والآخر الذى ليس بعده شئ، الظاهر الذى ليس فوقَه شئ، الباطنُ الذى ليس دونه شئ.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يَزالُ النَّاسُ يَتَسَاءلونَ حَتَّى يقول قائِلُهم: هذا الله خَلَقَ الخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ الله؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً، فَلْيَسْتَعِذْ باللهِ وَلْيَنْتَهِ" ، وقدْ قال تَعالى: {وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللهِ، إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [ فصلت: 36].
ولما كان الشيطانُ على نوعين: نوعٍ يُرى عياناً، وهو شيطانُ الإنس، ونوعٍ لا يُرى، وهو شيطانُ الجن، أمرَ سبحانه وتعالى نبيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكتَفىَ مِن شر شيطان الإنس بالإعراض عنه، والعفو، والدفع بالتى هى أحسنُ، ومن شيطان الجن بالاستعاذة باللهِ منه، وجمع بينَ النوعين فى سورة الأعراف، وسورة المؤمنين، وسورة فصلت، والاستعاذة فى القراءة والذِّكر أبلغُ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق