Translate ***

الجمعة، 1 يونيو 2018

2.إبطال القياس لابن حزم




قال أبو محمد: علي بن أحمد رضوان الله عليه: ذهب طوائف من المتأخرين من أهل الفتيا إلى القول بالقياس في الدين، وذكروا أن مسائل ونوازل ترد لا ذكر لها في نص كلام الله تعالى، ولا في سنة رسول الله (ص) ولا أجمع الناس عليها قالوا: فننظر إلى ما يشبهها مما ذكر في القرآن، أو في سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فنحكم فيما لا نص فيه ولا إجماع، بمثل الحكم الوارد في نظيره في النص والاجماع، فالقياس عندهم هو أن يحكم لما لا نص فيه ولا إجماع، بمثل الحكم فيما فيه نص أو إجماع، لاتفاقهما في العلة التي هي علامة الحكم، هذا قول جميع حذاق أصحاب القياس وهم جميع أصحاب الشافعي وطوائف من الحنفيين والمالكيين، وقالت طوائف من الحنفيين والمالكيين: لاتفاقهما في نوع من الشبه فقط.
وقال بعض من لا يدري، ما القياس ولا الفقه من المتأخرين، وهو محمد بن الطيب الباقلاني: القياس هو حمل أحد المعلومين على الآخر في إيجاب بعض الاحكام لهما أو إسقاطه عنهما من جمع بينهما بأمر أو بوجه جمع بينهما فيه.
قال علي: وهذا كلام لا يعقل، وهو أشبه بكلام المرورين منه بكلام غيرهم، وكله خبط وتخليط، ثم لو تحصل منه شئ، وهو لا يتحصل، لكان دعوى كاذبة بلا برهان، وأطرف شئ قوله: أحد المعلومين فليت شعري، ما هذان المعلومان ومن علمهما ؟ ثم ذكر إيجاب بعض الاحكام أو إسقاطه وهما ضدان، ثم قال: من جمع بينهما بأمر أو بوجه جمع بينهما فيه وهذه لكنه وعي وتخليط ونسأل الله السلامة، وإنما أوردناه ليقف على تخليطه كل من له أدنى فهم، ثم نعود إلى ما يتحصل منه معنى يفهم، وإن كان باطلا من أقوال سائر أهل القياس وقال أبو حنيفة: الخبر المرسل والضعيف عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أولى من القياس،
ولا يحل القياس مع وجوده قال: والرواية عن الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم، أولى القياس: قال: ولا يجوز الحكم بالقياس في الكفارات، ولا في الحدود، ولا في المقدرات.
وقال الشافعي: لا يجوز القياس مع نص قرآن، أو خبر صحيح مسند فقط، وأما عند عدمهما فإن القياس واجب في كل حكم، وقال أبو الفرج القاضي، وأبو بكر الابهري المالكيان: القياس أولى من خبر الواحد المسند والمرسل، وما نعلم هذا القول عن مسلم، يرى قبول خبر الواحد قبلهما.
وقسموا القياس بثلاثة أقسام: فقسم هو قسم الاشبه والاولى، وهو إن قالوا: إذا حكم في أمر كذا بحكم كذا، فأمر كذا أولى بذلك الحكم، وذلك نحو قول أصحاب الشافعي: إذا كانت الكفارة واجبة في قتل الخطأ وفي اليمين التي ليست غموسا، فقاتل العمد وحالف اليمين الغموس أولى بذلك وأحوج إلى الكفارة، وكقول المالكي والشافعي: إذا فرق بين الرجل وامرأته لعدم الجماع، فالفرقة بينهم العدم النفقة التي هي أوكد من الجماع أولى وأوجب، وكقول الحنفي والشافعي والمالكي: إذا لزمت المظاهر بظهر الام الكفارة، فالمظاهر بفرج أمه أولى.
وقسم ثان وهو قسم المثل، وهو نحو قول أبي حنيفة ومالك: إذا كان الواطئ في نهار رمضان عمدا تلزمه الكفارة، فالمتعمد للاكل مثله في ذلك، وإذا كان الرجل يلزمه في ذلك الكفارة فالمرأة، الموطوءة باختيارها عامدة، في وجوب الكفارة عليها مثل الرجل، وكقول من قال من التابعين ومن بعدهم: إذا كان ظهار الرجل من امرأته يوجب عليه الكفارة فالمرأة المظاهرة من زوجها في وجوب الكفارة عليها مثل الرجل.
وكقول الشافعي: إذا وجب غسل الاناء من ولوغ الكلب فيه سبعا فهو من الخنزير كذلك.
وكقول المالكيين: إذا وجب على الزاني الذي ليس محصنا جلد مائة وتغريب عام، فقاتل العمد إذا عفي له عن دمه مثله،
وكقول الحسن: إذا ورثت المطلقة ثلاثا في المرض، فهو في وجوب الميراث له منها إن ماتت كذلك أيضا.
والقسم الثالث قسم الادنى، وهو نحو قول مالك وأبي حنيفة: إذا وجب القطع في مقدار ما في السرقة، وهو عضو يستباح، فالصداق في النكاح مثله، وكقول أبي حنيفة: إذا كان خروج البول والغائط وهما نجسان ينقض الوضوء فخروج الدم وهو نجس متى خرج من الجسد أيضا كذلك، وكقول الشافعي: إذا كان مس الذكر ينقض الوضوء فمس الدبر الذي هو عورة مثله كذلك، وكقول المالكي: إذا كان قول: أف عمدا في الصلاة يبطلها، فالنفخ فيها عمدا كذلك.

قال أبو محمد: فهذه أقسام القياس عند المتحذلقين القائلين به.
وذهب أصحاب الظاهر إلى إبطال القول بالقياس في الدين جملة، وقالوا: لا يجوز الحكم البتة في شئ من الاشياء كلها، إلا بنص كلام الله تعالى، أو نص كلام النبي (صلى الله عليه وسلم)، أو بما صح عنه (صلى الله عليه وسلم) من فعل أو إقرار، أو إجماع من جميع علماء الامة كلها، متيقن أنه قاله كل واحد منهم، دون مخالف من أحد منهم، أو بدليل من النص أو من الاجماع المذكور الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا، والاجماع عند هؤلاء راجع إلى توقيف من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولابد، من لا يجوز غير ذلك أصلا، وهذا هو قولنا الذي ندين الله به، ونسأله عزوجل أن يثبتنا فيه، ويميتنا عليه بمنه ورحمته.
آمين.
وشغب أصحاب القول بالقياس بأشياء موهوا بها، ونحن إن شاء الله تعالى ننقض كل ما احتجوا به، ونحتج لهم بكل ما يمكن أن يعترضوا به، ونبين بحول الله تعالى وقوته بطلان تعلقهم بكل ما تعلقوا به في ذلك، ثم نبتدئ بعون الله عزوجل بإيراد البراهين الواضحة الضرورية على إبطال القياس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فما شغبوا به أن قالوا: قال الله عزوجل: * (ولا تقل لهمآ أف) * فوجب إذ منع من قول: * (لهمآ) * للوالدين أن يكون ضربهما أو قتلهما ممنوع، لانهما أولى من قول: * (أف) * وقال تعالى: * (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) * قالوا: فوجب أن ما فوق القنطار وما دونه داخل كل ذلك في حكم القنطار في المنع من أخذه.
وقال تعالى: * (وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها) * قالوا: فعلمنا أن ما دون مثقال حبة وما فوقها داخلان في حكم مثقال حبة الخردل، أنه تعالى يأتي بها، وقال تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا ير ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * قالوا: فعلمنا أن ما فوق مثقال الذرة وما دونها يرى أيضا.
وقال تعالى: * (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) * قالوا: فعلمنا أن ما فوق القنطار والدينار وما دونهما في حكم القنطار والدينار، وقال تعالى: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * قالوا:

فعلمنا أن ما عدا الاكل من اللباس وغيره حرام إذا كان بالباطل، وقال تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) * فعلمنا أن قتلهم لغير الاملاق حرام، كما هو خشية الاملاق، قالوا: وقول الناس: لا تعط فلانا حبة، فإنه مفهوم منه أن ما فوق الحبة وما دونها داخل كل ذلك في حكم الحبة، قالوا: ومن ادعى من هذه الآي فهم ما عدا ما فيها من غيرها فهو خارج عن المعقول وعن اللغة.
قالوا: وأنتم توافقوننا في كل ما قلنا في هذه الآيات وهذا الفصل، وتقرون معنا بأن ما عدا هذه المنصوصات فإنه داخل في حكمها، قالوا: وهذا إقرار منكم بالقياس، وترك لمذهبكم في إبطاله.
قال أبو محمد: قال الله عزوجل: * (أم للانسان ما تمنى) * وكل ما ذكروا فلا حجة لهم فيه أصلا، بل هو أعظم حجة عليهم، لانه ينعكس عليهم في القول بدليل الخطاب، فإنهم، على ما ذكرنا في بابه في هذا الديوان، يقولون: إن ما عدا المنصوص فهو مخالف للمنصوص، فيلزمهم على ذلك الاصل أن يقولوا ههنا: إن ما عدا * (أف) * فإنه مباح، وما عدا الدينار والقنطار، والاكل، ومثقال الخردلة والذرة، وخشية الاملاق، بخلاف حكم ذلك، فقد ظهر تناقضهم وهدم مذاهبهم بعضها لبعض، ثم نعود فنقول وبالله تعالى التوفيق: أما قول الله تعالى: * (ولا تقل لهمآ أف) * فلو لم يرد غير هذه اللفظة لما كان فيها تحريم ضربهما ولا قتلهما.
ولما كان فيها إلا تحريم قول * (أف) * ؟ فقط.
ولكن لما قال الله تعالى في الآية نفسها: * (وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) *.
اقتضت هذه الالفاظ من الاحسان والقول الكريم وخفض الجناح والذل والرحمة لهما، والمنع من انتهارهما، وأوجبت أن يؤتى إليهما كل بر وكل خير وكل رفق، فبهذه الالفاظ وبالاحاديث الواردة في ذلك وجب بر الوالدين بكل وجه وبكل معنى، والمنع من كل ضرر وعقوق بأي وجه كان، لا بالنهي عن قول: * (أف) * ؟ وبالالفاظ التي ذكرنا وجب ضرورة أن من سبهما أو تبرم عليهما أو منعهما رفده في أي شئ كان من غير الحرام، فلم يحسن إليهما ولاخفض لهما جناح الذل من الرحمة.
ولو كان النهي عن قول: * (أف) * ؟ مغنيا عما سواه من وجوه الاذى لما كان لذكر الله تعالى في الآية نفسها، مع النهي عن قول: * (أف) * ؟، النهي عن النهر والامر بالاحسان، وخفض الجناح والذل لهما معنى، فلما لم يقتصر تعالى على ذكر الاف وحده، بطل قول من ادعى أن بذكر الاف علم ما عداه.
وصح ضرورة أن لكل لفظة من الآية معنى غير سائر ألفاظها، ولكنهم جروا على عادة لهم ذميمة من الاقتصار على بعض الآية والاضراب عن سائرها، تمويها على من اغتر بهم، ومجاهرة لله تعالى بما لا يحل من التدليس في دينه.
كما فعلوا في ذكرهم في الاستنباط قول الله تعالى: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * وأضربوا عن أول الآية في قوله تعالى: * (ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الامر منكم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * وأول الآية مبطل للاستنباط.
وكما فعل من فعل منهم في قول الله تعالى: * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) * وأضربوا عما بعدها من قوله تعالى: * (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين) *.
قال أبو محمد: ومن البرهان الضروري على أن نهي الله تعالى عن أن يقول المرء لوالديه: (أف) ليس نهيا عن الضرب ولا عن القتل ولا عما عدا الاف، أن من حدث عن إنسان قتل آخر أو ضربه حتى كسر أضلاعه وقذفه بالحدود، وبصق في وجهه فشهد عليه من شهد ذلك كله، فقال الشاهد: إن زيدا، يعني القاتل أو القاذف أو الضارب، قال لعمرو: يعني المقتول أو المضروب أو المقذوف، لكان بإجماع منا ومنهم كاذبا آفكا شاهد زور مفتريا مردود الشهادة فكيف يريد هؤلاء القوم بنا أن نحكم بما يقرون أنه كذب ؟.
فكيف يستجيزون أن ينسبوا إلى الله تعالى الحكم بما يشهدون أنه كذب ؟ ونحن نعوذ بالله العظيم من أن نقول: إن نهي الله عزوجل عن قول: للوالدين يفهم منه النهي عن الضرب لهما أو القتل أو القذف، فالذي لا شك فيه عند كل من له معرفة بشئ من اللغة العربية أن القتل والضرب والقذف لا يسمى شئ من ذلك فبلا شك يعلم

كل ذي عقل أن النهي عن قول ليس نهيا عن القتل ولا عن الضرب ولا عن القذف، وأنه إنما هو نهي عن قول: فقط.
وأما ذكره تعالى القنطار في آية الصداق وآية وفاء أهل الكتاب، فما فهمنا قط أن ما عدا القنطار فهو حكم القنطار من هاتين الآيتين، لكن لما قال تعالى: * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) *.
قال أبو محمد: فبهذه الآية حرم على الزوج أن يأخذ مما أعطى زوجته شيئا، وسواء قل أو كثر، إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، أو تطيب نفسها كما قال تعالى: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * لولا هذه الآية، وما في معناها من سائر الآيات والاحاديث التي فيها تحريم الاموال جملة وتحريم العود في الهبات، لما كان في آية القنطار مانع مما عدا القنطار أصلا.
وبرهان عن ذلك أنه لو شهد شاهدان لزيد: أن له على عمرو قنطارا، وكان في علمهما الصحيح أنه له عليه قنطارين أو أكثر من قنطار أو أقل من قنطار، لكانا شاهدي زور كذابين آفكين، وما علمنا في طبيعة بشر أحدا يفهم من قول القائل أخذ لي عمرو قنطارا، أنه آخذ له أكثر من قنطار، ومدعي هذا مفتر على اللغة ومكابر للحس، داخل في نصاب الموسوسين مبطل للحقائق، ويقال له: لعله تعالى إذا ذكر سبع سموات، إنما أراد بها خمس عشرة أو أكثر من ذلك، وهذا هو بطلان الحقائق، وفساد العقل على الحقيقة.
وأما الآية التي فيها ذكر الدينار والقنطار في ائتمان أهل الكتاب فقد أخبرنا تعالى أنهم يقولون أو من قال منهم: * (ليس علينا في الاميين سبيل) * ففي هذا استجازة أهل الكتاب لخون أماناتنا، قلت أو كثرت، وقد علمنا بضرورة العقل والمشاهدة، وعلم الناس قبل نزول هذه الآية المذكورة، أن في أهل الكتاب وفي المسلمين أوفياء، يفون بالقليل والكثير، وغدرة يغدرون بالقليل والكثير، لان هذا من صفات الناس، وإن في الناس من يفي بالقليل تصنعا ويخون الكثير رغبة، وأن فيهم من يغدر بالقليل خسة نفس واستهانة، ويفي بالكثير مخافة الشهرة أو انقطاع رزقه إن كان لا يعيش في مكسبة إلا بائتمان الناس إياه وهذا كله موجود مشاهد، معلوم بالحس.
فإن قالوا: فما فائدة الآية إذن ؟ قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: الفائدة فيها عظيمة، فأول ذلك الاجر العظيم في تلاوتها في التصديق أنها من عند الله عز وجل.
وأيضا فالتنبيه لنا على التفكر في عظيم القدرة في ترتيبه لنا طبائع الناس، فمنهم الوفي الكافر، والخائن الكافر، وأيضا فائتمانهم على المال فإن ذلك مباح لنا إذا قدرنا فيهم الامانة، وإبطال قول من منع من الوصية إليهم بالمال وهذا مثل قوله تعالى: * (أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت) * ومثل قوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد) * وقد علمنا ذلك قبل نزول القرآن ولكنه تنبيه ووعظ وتحريك إلى اكتساب الاجر بالاعتبار والفكرة في قدرة الله عزوجل وذكره تعالى القنطار ههنا كذكره السبعين استغفارة في قوله تعالى: * (إن تستغفر لهم سبعين مرة) * وقد سبق في علم الله تعالى أنه سيبين مراده من ذلك أنه تعالى لا يقبل استغفاره لهم أصلا، وقد قلنا غير مرة إن مثل هذا السؤال فاسد، وأنه تعالى لا يسأل عما يفعل، ونحن نسأل عن كل فعلنا وقولنا.
وأما قوله تعالى: * (وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) *، وقوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * فإنما علمنا عموم ذلك كله فيما دون الذرة وما فوقها من قوله تعالى: * (ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) * وبقوله تعالى: * (أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) * وبقوله تعالى * (ووفيت كل نفس ما كسبت) * فهذه الآيات بينت أن ما فوق الذرة والخردلة وما دونها محسوب كل ذلك ومجازي به، وكذلك قوله تعالى: * (ان تكن مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الارض يأت بها الله) * فإنما علمنا العموم في ذلك من قول الله تعالى: * (وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها) * فشمل تعالى جميع أرزاق الحيوان في هذه الآية، فدخل في ذلك ما هو دون الخردلة وما فوقها.

وقد أجاب أبو بكر بن داود عن هذا السؤال أن قال: إن الذي هو فوق الذرة ذرة وذرة وهكذا ما زاد لانه زاد على الذرة بعض ذرة، فذاك البعض إذا أضيف إلى أبعاض الذرة جاء من ذلك مقدار الذرة، وأما ما دون مثقال الذرة فحكمه مأخوذ من غير هذا المكان.
قال علي: وهذا جواب صحيح ضروري والذي نعتمد عليه عموما في جميع هذا الباب، فهو الذي قلنا آنفا، وأن المرجوع إليه في كل ما جرى هذا المجرى نصوص أخر، أو إجماع متيقن أو ضرورة المشاهد بالحواس والعقل فقط، فإن لم نجد نصا ولا إجماعا ولا ضرورة اقتصرنا على ما جاء به النص، وقفنا حيث وقف ولا مزيد وإلا فإن ذكره تعالى لما ذكر من هذه المقادير، وهذه الاحوال في هذه الآيات كذكره تعالى أخبار بعض الانبياء عليهم السلام في مكان، وذكره تعالى لهم في مكان آخر بأكمل مما ذكرهم به في غيرها، ولا يسأل عما يفعل.
وأما قوله عزوجل: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * فإنما علمنا أن ما عدا الاكل حرام بقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع: دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام وبآيات أخر وأحاديث أخر، فبالحديث المذكور حرم التصرف في أموال الناس بغير ما أمر الله تعالى به بالاكل وغير الاكل، ولو تركنا والآية المذكورة ما حرم بها شئ غير الاكل، ولكان ما عدا الاكل موقوفا على طلب الدليل فيه إما بمنع وإما إباحة من غيرها، ولما وجب أن تحكم فيما عدا الاكل من الآية لا بتحريم ولا بتحليل كما يقولون معنا: إن الله حرم الاكل على الصائم ولم يحل عليه تملك الطعام، ولا ما عدا الاكل من بيه وهبة وغير ذلك فأي فرق بين الاكل المحرم على الصائم، وبين الاكل المحرم على الناس في أموالهم ؟ وكما أباحوا هم ونحن الاكل من بيت الاب والام والصديق والاقارب المنصوصين، فهلا أباحوا أخذ ما وجدوا للاقارب ما عدا الاكل قياسا على الاكل المباح أهلا حرموا على الصائم تملك الطعام وبيعه قياسا على ما صح من تحريم الاكل عليه ؟ كما زعموا أنهم إنما حرموا تملك الاموال بالظلم والباطل قياسا على تحريم الله تعالى أكلها بالباطل، فإذ لم يفعلوا ذلك، فقد تركوا القياس الذي يقرون أنه حق، فظهر تناقضهم والحمد لله رب العالمين.
وحتى لو لم يرد نص جلي في تحريم الاموال جملة، لكان الاجماع على تحريمها كافيا، ولعلمنا حينئذ أن اسم الاكل موضوع على أخذ منقول عن موضوعه المختص له في اللغة كما تقول العرب، أكلتنا السنة أي أفنت أموالنا، وكما قال الشاعر: فإن قومي لم تأكلهم الضبع يريد لم تفنهم.
وأما قوله تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) * فإنما حرم قتلهم جملة لغير الاملاق من آيات أخر، وهي قول الله تعالى: * (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم) * وبقوله تعالى: * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) * وبقوله تعالى: * (وإذا الموءودة سئلت ئ بأى ذنب قتلت) * وبقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إن
دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام.
وأما قوله تعالى: * (ما يملكون من قطمير) * فإنما أخبر عزوجل في موضع آخر على أنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، وما كان هذا فبالضرورة نعلم أنها لا تملك شيئا.
وهكذا الحكم في كل ما موهوا به، فإن الله تعالى قد بين لنا مراده، ولو لم يرد غير النصوص التي ذكرنا لوجب ألا نتعدى البتة إلى ما لم يذكر بها وللزم أن لا نحكم بها أصلا إلا فيما وردت فيه، ومن تعدى هذا فإنه متعد لحدود الله تعالى: * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) * نعوذ بالله من ذلك.
وأما قول الناس: لا تعط فلانا حبة، فإنما يعلم مراد القائل في ذلك، أمجدا قال ذلك أم هازلا أم مقتصرا على الحبة أم لاكثر منها، بما يشهده من حال الامر في امتناعه وتسهله، وأكثر ذلك فهذا القول من قائله لا يتأتى مجردا البتة.
ولا بد ضرورة من أن يقول: لا تعطه البتة شيئا ولا حبة، وربما زاد لا قليلا ولا كثيرا، فهذا هو المعهود من تخاطب الناس فيما بينهم، ومن ادعى غير هذا فهو مجاهر مدع على العقل ما ليس فيه، بل هو مخالف لموجب العقل ولمقتضى اللغة على الحقيقة، وبالله تعالى نعتصم.
فإن ذكروا قول الله تعالى: * (فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) * فقد قال تعالى في آية أخرى * (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق) * فنص تعالى على الامساك، والامساك على عمومه يقتضي النقير وغير النقير، وأقل من النقير وأكثر منه.
واحتجوا في ذلك أيضا بقول الله تعالى: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) * وبقوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * قالوا: فلم يخص الله تعالى ما قال أولو الامر منا
بتوقيف من النبي (صلى الله عليه وسلم) مما قالوه بقياس.
قال أبو محمد: هذا الاحتجاج منهم جمع الشناعة والاثم لان الله تعالى لم يأمر قط أولي الامر منا أن يقولوا بآرائهم ولا بقياساتهم، ولا أن يقولوا ما شاؤوا، وإنما أمرهم الله تعالى أن يقولوا ما سمعوا، أو يتفقهوا في الدين الذي أنزله الله تعالى على نبيه (صلى الله عليه وسلم) وينذروا بذلك قومهم، وهذا بين في قوله تعالى: * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) *، وفي قوله تعالى: * (تلك حدود الله فلا تعتدوها) *، وفي قوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) *، وفي قوله تعالى: * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) *.
قال أبو محمد: ومن قال بقياسه فقد تعدى حدود الله، وقفا ما لا علم به، وأخبر عن الله تعالى بما لا يعلم أحد ما عند الله تعالى إلا بإخبار من الله تعالى بذلك، وإلا فهو باطل، وقد بينا فيما خلا أن قول الله تعالى: * (أولي الامر منكم) * إنما هو جميع أولي الامر لا بعضهم ولم يجمعوا قط على القول بالقياس، فكيف نكون نحن مأمورين باتباعهم فيما افترقوا فيه ؟.
وهذا ضد أمر الله تعالى في القرآن وبرهان قاطع وهو أن الله تعالى قال: * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) * وحدود الله تعالى هي كل ما حد وبين فصح أنه ليس لاحد أن يتعدى في شئ من الدين ما حده الله تعالى في القرآن، وعلى لسان رسوله (صلى الله عليه وسلم) بالوحي فبطل أن يحمل أولوا الامر على تعدي حدود الله تعالى، لانه باطل فقد اتفقنا أنهم لا يجمعون على باطل، وكل ما لم يكن من حدود الله تعالى، ووحيه فهو من عند الله ضرورة لا بد من ذلك، وقد قال تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *.

فصح بهذه الآية أنه لا يمكن أن يكون إجماع أبدا إلا على ما جاء من عند الله تعالى بالوحي الذي لا يعلم ما عند الله تعالى إلا به، والذي قد انقطع بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فبطل بهذه النصوص يقينا أن يجمعوا على غير نص صحيح.
واحتجوا بقول الله تعالى في آية الكلالة: * (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لهآ ولد) * قالوا: فأنتم تقولون: إن الميراث ههنا إنما هو بعد الدين والوصية، قالوا: وليس هذا في الآية فإنما قلتموه قياسا على سائر آيات المواريث التي فيها أنها بعد الوصية والدين.
قال أبو محمد: وهذا خطأ عظيم، ونعوذ بالله تعالى من أن نثبت الميراث في مواريث الاخوة بعد الوصية والدين من طريق القياس، وما أثبتنا ذلك إلا بنص النبي (صلى الله عليه وسلم) إذ كان يقدم إلى الجنازة فيسأل (صلى الله عليه وسلم): أعليه دين ؟ فإن قيل له: لا صلى عليه، وإن قيل له: نعم سأل (صلى الله عليه وسلم): أعليه وفاء ؟ فإن قيل له: نعم صلى عليه، وإن قالوا: لا قال (صلى الله عليه وسلم): صلوا على صاحبكم ولم يصل هو عليه، وبقوله (صلى الله عليه وسلم): إن الشهيد يغفر له كل شئ إلا الدين أو كلاما هذا معناه، وقوله (صلى الله عليه وسلم): إن صاحبكم مرتهن بدينه وبأمره عليه السلام بالوصية جملة لمن عنده شئ يوصي فيه، وبأمره (صلى الله عليه وسلم) بالوصية بالثلث فدون.
وقال (صلى الله عليه وسلم) في الوصية بالثلث والنهي عن الوصية بأكثر: إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة أو كما قال (صلى الله عليه وسلم) فعم صلى الله عليه وسلم الورثة كلهم، ولم يخص أخا ولا أختا من غيرهما، فصح ضرورة أن لا ميراث لاحد إلا بعد الدين ثم الوصية، فسقط تمويههم بذكر الآية المذكورة.
ثم نعكس عليهم هذا السؤال المذكور بعينه، فنقول لهم: إذا فعلتم أنتم ذلك في آية الكلالة قياسا على سائر المواريث، فيلزمكم أن توجبوا الاطعام في كفارة القتل لمن عجز عن الصيام والرقبة، قياسا على كفارة الظهار، وقياسا على كفارة الواطئ في نهار رمضان، ولا تفرقوا بين الامرين، فقد ذكر الله تعالى في كلتا
الآيتين عتق الرقبة ثم الصيام لشهرين متتابعين، ثم ذكر تعالى في أحدهما تعويض الاطعام من الصيام، فافعلوا ذلك في المسكوت عنه من الآية الاخرى، لا سيما وأنتم قد قستم، أو بعضكم، المسكوت عنه من دين الرقبة في الظهار على المنصوص عليه من أن تكون مؤمنة في قتل الخطأ، فما الذي جعل قياس الرقبة في الظهار على التعويض في القتل حقا وجعل قياس التعويض بالاطعام من الصيام في كفارة قتل الخطأ على التعويض بالاطعام من الصيام في كفارة الظهار، باطلا ؟ ولولا التخليط والموق ونعوذ بالله من الخذلان.
واحتج بعضهم بأن قال: إن ثبات العشرين منا للمائتين من الكفار منسوخ بالقياس على نسخ ثبات المائة منا للالف من الكفار.
قال أبو محمد: وهذا تخليط وكذب، وعكس الخطأ على الخطأ، وما نسخ قط ثبات المائة للالف، ولا ثبات العشرين للمائتين، وقد بينا هذه المسألة في باب الكلام في النسخ من ديواننا هذا، وبالجملة لا يحل لمسلم أن يقول في آية ولا حديث بالنسخ إلا عن نص صحيح، لان طاعة الله وطاعة رسوله (صلى الله عليه وسلم) واجبة، فإذا كان كلامهما منسوخا فقد سقطت طاعته عنا، وهذا خطأ، ومن ادعى سقوط طاعة الله تعالى، وسقوط طاعة نبيه (صلى الله عليه وسلم) في مكان ما من الشريعة فقوله مطروح مردود، ما لم يأت على صحة دعواه بنص ثابت، فإن أتى به فسمعا وطاعة، وإن لم يأت به فهو كاذب مفتر، إلا أن يكون ممن لم تقم عليه الحجة، فهو مخطئ معذور باجتهاده، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا أيضا بقول الله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) * وهذا عمدة ما موهوا به في إثبات القياس مع آية الاعتبار، ومع قوله تعالى: * (كذلك يحيي الله الموتى) *.
قال أبو محمد: وهذا من أطرف ما شغبوا به من الجرأة على التمويه بكلام الله تعالى، ووضعه في غير موضعه، فهذا عظيم جدا نعوذ بالله من الخذلان، وما فهم أحد قط له عقل أن للقياس في هذه الآية مدخلا أو طريقا، أو نسبة بوجه من الوجوه، وما هذه الآية إلا نص جلي، أمر تعالى ذوي عدل من المؤمنين أن يحكما في الصيد المقتول بما يشبهه من النعم، فهذا نص لا قياس، وإنما كان يكون قياسا لو قالوا كما أمرنا تعالى إذا قتلنا الصيد المحرم علينا قتله أن نجزيه بمثله من النعم.
فكذلك إذا قتلنا شيئا من النعم حراما علينا لملك غيرنا له، فواجب علينا أن نجزيه بمثله من الصيد، وأيضا فكما قاسوا ملك الله تعالى الصيود فأوجبوا الجزاء على قاتلها مخطئا، وخالفوا القرآن في ذلك قياسا على ملك الناس، فواجب عليهم على أصلهم الفاسد أن يقيسوا ملك الناس من النعم، ومن الصيد إذا قتله فيلزموه أن يجزيه بمثله، إن كان صيدا فمن النعم، وإن كان من النعم فمثله من الصيد.
فهذا حقيقة القياس الذي إن قالوه كفروا، وإن تركوا القياس وتناقضوا ووفقوا في تركهم له، وأيضا فإن كانت هذه الآية متيحة للقياس، فينبغي ألا يكون إلا حتى يحكم فيه ذوا عدل منا، أو يكون عدل ذلك صياما.
فهكذا هو الحكم في الآية، وأما الآية المذكورة فلا نسبة بينها وبين القياس البتة، وإنما فيها أن الصيد يكون مثلا للنعم وهذا أمر لا ننكره، فالعالم كله متماثل في بعض أوصافه، وإنما أنكرنا أن نحكم في الديانة شئ لم يأت فيه ذلك الحكم من الله تعالى بمثل الحكم المنصوص فيما يشبهه، فهذا هو الباطل والخطأ والحرام الذي لا يحل وبالله تعالى نتأيد.
واحتج أيضا بعضهم بقول الله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * وبقوله تعالى: * (فتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) * قالوا: فقستم واجد الثمن للماء والثمن للرقبة، وإن لم يكن عنده رقبة ولا ماء، على من عنده الرقبة والماء،
فلم تجيزوا لهما التيمم ولا الصيام.
قال أبو محمد: وهذا من ذلك التمويه المعهود، ويعيذنا الله تعالى أن نقول بالقياس في شئ من الدين، وليس ما ذكروا قياسا ولكنه نص جلي بلا تأويل فيه البتة، لان الله تعالى إنما قال في آية كفارة قتل الخطأ والعود للظهار بعد إيجاب الرقبة.
* (فمن لم يجد فصيام شهرين) * ولم يقل تعالى فمن لم يجد رقبة، ولكنه تعالى أطلق الوجود، فكل وجود يتوصل به إلى عتق الرقبة، فإنه مانع من الصيام، فالواجب اتباعه، لانه موافق لظاهر الآية الذي لا يجوز خلافه، وهكذا القول في كفارة الواطئ في نهار رمضان، وأما التيمم لمن لم يكن له ماء وعنده ثمن يبتاع به الماء، فإن أصحابنا قالوا ما ذكر هؤلاء، ورأوا واجبا على من وجد ماء للشراء أن يبتاعه بقيمته في الوقت لا بأكثر.
وقال غيرهم: بأكثر من قيمته ما لم يجحف به.

وقال الحسن البصري: يبتاعه بكل ما يملك إن لم يبع منه بأقل.
قال أبو محمد: ولعل من حجة أصحابنا أن يقولوا: إن قوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء) * يقتضي بعموم هذا اللفظ واجده بالابتياع والاستيهاب كما يقول القائل: أمر كذا موجود في السوق، فيقولوا إن واجده بالابتياع والاستيهاب واجد للماء.
قال أبو محمد: وأما نحن فلا يجوز عندنا بيع الماء البتة بوجه من الوجوه، ولا بحال من الاحوال، لنهي النبي (صلى الله عليه وسلم) عن بيع الماء، فهذا عندنا على عمومه، وقولنا هذا هو قول إياس بن عبد الله المزني، صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وغيره.
فلا يجوز ابتياع الماء للوضوء البتة ولا للغسل، لانه منهي عن ابتياعه، وهو غير واجد للماء، فحكمه التيمم إلا أن يتطوع عليه صاحب الماء بأن يهبه إياه، فذلك جائز، وهو حينئذ واجد للماء مالك له، ففرضه التطهر به، وأما من اضطر إلى شرب الماء، وخشي الهلاك من العطش، ولم يجد من يتطوع له بماء يحيي
به رمقه، ففرض عليه إحياء نفسه كيف أمكن، بغلبة أو بأخذه سرا مختفيا بذلك، أو بابتياعه، فإذا لم يقدر على غير البيع فابتاعه فهو حينئذ جائز له، والثمن حرام على البائع، وهو باق على ملك المبتاع المضطر، وهو بمنزلة من اضطر إلى ميتة أو لحم خنزير فلم يجده مع ذلك إلا بثمن، ففرض عليه أن يبتاعه لاحياء نفسه.
وكذلك ما يبذل من المال في فدى الاسرى، وفي الرشوة لدفع المظلمة، فهذا كله باب واحد، وهو مباح للمعطي وحرام على الآخذ، لان المعطي مضطر، والآخذ آكل مال بالباطل، عاص لله تعالى، نعوذ بالله.
ثم نعكس عليهم اعتراضهم هذا فنقول لهم، وبالله تعالى التوفيق: إن كان هذا عندهم قياسا فيلزمهم أن يقولوا بقول الحسن في ابتياع الماء بكل ما يملك، لانه واجد له، فلا يسعه التيمم مع وجود الماء، كما يقولون فيمن لم يجد رقبة إلا بكل ما يملك، وهو قادر على اكتساب ما يقوم بقوته وقوت عياله بعد ذلك، فإنه لا يجزيه عندهم إلا ابتياع الرقبة بملكه كله، فإن لم يقولوا في الماء كذلك فقد تناقضوا وتركوا القياس الذي يزعمون أنه دين، وهذا ما لا انفكاك منه.
واحتجوا بقوله تعالى: * (أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبآئكم) *،

قالوا: ولم يذكر تعالى بيوت الاولاد، فوجب إباحة الاكل من بيوت الاولاد قياسا على الاباحة من بيوت الآباء.
قال أبو محمد: وهذا في غاية الفساد والكذب، ومعاذ الله أن تكون الاباحة للاكل من بيوت الاولاد قياسا على إباحة ذلك من بيوت الآباء والاقارب، وما أبحنا الاكل من بيوت الاولاد إلا بنص جلي وهو قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إن أطيب ما أكل أحدهم من كسبه وإن ولد أحدكم من كسبه فبهذا أبحنا الاكل من بيوت الاولاد، ولكن يلزمهم إذا فعلوا ذلك قياسا بزعمهم على بيوت الآباء، أن يسقطوا الحد على الابن الواطئ أمة أبيه.
كما أسقطوا الحد عن الاب إذا وطئ أمة ولده ولزمهم أن يسووا في جميع الاحكام بين الابناء والآباء وسائر القرابات، كما فعلوا ذلك قياسا على الاكل، وإلا فقد تناقضوا، وتركوا القياس واحتجوا بقول الله تعالى: * (لا جناح عليهن في آبآئهن ولا أبنائهن) * الآية بقوله تعالى * (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبآئهن أو آبآء بعولتهن) *، قالوا: فأدخلتم من لم يذكر في الآيتين المذكورتين من الاعمام والاخوال في حكم من ذكر فيهما.
قال أبو محمد: وهذا ليس قياسا بل هو نص جلي لان النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لعائشة: إنه عمك فليلج عليك وقال (صلى الله عليه وسلم): لا تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم فأباح لكل ذي محرم أن يسافر معها، وإذا سافر معها فلا بد له من رفعها ووضعها ورؤيتها فدخل ذو المحارم كلهم بهذا النص في إباحة رؤية المرأة فبطل ظنهم أن ذلك إنما هو قياس، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بقول الله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) * قالوا: فأدخلتم بنات البنين وإن سفلن، وبنات البنات وإن سفلن، والجدات وإن علون، وعمات الآباء والاجداد وخالاتهم وعمات الامهات والجدات وخالاتهن، وإن بعدن في التحريم، وإن لم يذكرن في آية التحريم.
قالوا: وهذا قياس، وكذلك أدخلتم تحريم ما نكح الاجداد وإن علوا وبنو البنين وإن سفلوا، قياسا على تحريم ما نص عليه من نكاح نساء الآباء وحلائل الابناء.
قال أبو محمد: وهذه دعوى فاسدة، بل هذا نص جلي، وبنو البنين وبنو البنات وإن سفلوا، وبنات البنين وبنات البنات وإن سفلن، فإنه يقع عليهن في اللغة بنص القرآن اسم البنين والبنات وإن سفلن.
قال الله تعالى: * (يا بني آدم) * فجعلنا
بنين له وبنو البنين بنون بالنص، والجد والجدة وإن بعدا فاسم الاب والام يقع عليهما كما قال تعالى: * (كمآ أخرج أبويكم من الجنة) * يعني آدم وحواء، وهكذا القول فيمن سفل من أولاد الاخوة والاخوات، ومن علا من الاعمام والاخوال، والعمات والخالات، فمن كنت من ولد أخيه فهو عمك وعمتك، وأنت ابن أخيه وأخيها، ومن كنت من ولد أخته فهو خالك وخالتك، وأنت ابن أخته وأختها، وإنما فرقنا بين أحكام بعض من يقع عليه الاسم الواحد في المواضع التي فوق النص أو الاجماع المنقول المتيقن بينهم فيها، وهذا أيضا الذي ذكروا إجماع، والاجماع لا يجوز خلافه.
ثم نقول لهم: إذا فعلتم ذلك - بزعمكم - قياسا فيلزمكم أن تسووا أيضا قياسا بين كل من ذكرنا في الانكاح والمواريث، ووجوب الانفاق، وهم لا يفعلون ذلك، فقد نقضوا أصلهم، وأقروا بترك القياس، وهكذا تكون الاقوال الفاسدة، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بقول الله تعالى في المطلقة ثلاثا: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا) * قالوا: فقستم وفاة هذا الزوج الثاني وفسخ نكاحه عنها على علاقة لها في كونها إذا مسها في ذلك حلالا المطلق ثلاثا، قالوا لنا: بل لم تقنعوا بذلك حتى قلتم إن كانت ذمية طلقها مسلم ثلاثا فتزوجها ذمي، فطلقها بعد أن وطئها لم تحل بذلك لمطلقها ثلاثا، ولا تحل إلا بموته عنها، أو بفسخ نكاحه منها.
قال أبو محمد: فالجواب وبالله تعالى التوفيق: أننا أبحنا لها الرجوع إليه بالوفاة وبالفسخ لوجهين: أحدهما: الاجماع المتيقن، والثاني: النص الصحيح الذي عنه تم الاجماع، وهو قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للقرظية المطلقة ثلاثا: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.
قال علي: فهذا الحديث أعم من الآية، وزائد على ما فيها، فوجب الاخذ به، ووجب أن كل ما كان بعد ذوق العسيلة، مما يبطل به النكاح، فهي به حلال رجوعها إلى الزوج المطلق ثلاثا، لانه (صلى الله عليه وسلم) إنما جعل الحكم الرافع للتحريم ذوق العسيلة في النكاح الصحيح، فإذا ارتفع بذلك التحريم فقد صارت كسائر النساء، فإذا خلت من ذلك الزوج بفسخ أو وفاة أو طلاق كان لها أن تنكح من شاءت من غير ذوي محارمها، ولم يشترط النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد ذوق العسيلة طلاقا من فسخ من وفاة، وأيقنا أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يبحها للزوج الاول، وهي بعد في عصمة الزوج الثاني، ولا خلاف بين أحد في ذلك.
وأما طلاق الذمي وسائر الكفار، فليس طلاقا، لان كل ما فعل الكافر، وقال غير اللفظ بالاسلام، فهو باطل مردود إلا ما أوجب إنفاذه النص أو الاجماع المتيقن المنقول، أو أباحه له النص أو الاجماع، كذلك فإذا لفظ بالطلاق فهو لغو لانه لا نص ولا إجماع في جواز طلاقه، فليس مطلقا وهو بعد في عصمته، لصحة نكاحهم بالنص من إقرار النبي (صلى الله عليه وسلم) للكفار، لما أسلموا مع نسائهم، على نكاحهم معهن، ولانه (صلى الله عليه وسلم) من ذلك النكاح خلق، وقد علمنا أنه (صلى الله عليه وسلم) مخلوق من أصح نكاح، ولا يحل لمسلم أن يمر بباله غير هذا، ولم يمنع تعالى في الآية من إباحة رجعتها بعد وفاة الزوج، أو فسخ نكاحه، وإنما ذكر تعالى الطلاق، فقط، وعم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بإجمال لفظه الطلاق وغيره، وقد كان يلزم من قال بذلك الخطاب منهم ألا يبيحها إلا بعد الطلاق لا بعد الفسخ والوفاة، فهذه الآية حجة عليهم لا لهم، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) * قالوا: فقستم الكافرات في ذلك على المؤمنات.
قال أبو محمد: وهذا خطأ، وقد بينا، في باب مفرد من كتابنا هذا، لزوم شريعة الاسلام لكل كافر ومؤمن مستويا بقوله تعالى: * (وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله) * فهذا لازم في كل حكم، حاشا ما فرق النص والاجماع المتيقن فيه بين أحكامنا وأحكامهم، وما كان كرامة لنا، فإنه ليس لهم فيه حظ لقول الله تعالى: * (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) * والصغار لا يجتمع مع الكرامة أصلا.
وأيضا فالامة كلها مجمعة على أن حكم العدة في الطلاق وسقوطها على الذمية كحكمها على المسلمة، والاجماع لا يجوز خلافه.
وأيضا فإن الآيات التي أوجب الله تعالى فيها العدد على المطلقات معلومة محصورة، لا خلاف بين المسلمين أن المراد بها الممسوسات، وأصل الناس كلهم على البراءة من وجوب الاحكام عليهم، حتى يلزمهم الحكم نص أو إجماع، وإلا فلا يلزم أحدا حكم إلا أن يلزمه إياه نص أو إجماع، فبقيت الذمية المطلقة غير الممسوسة لم يأت قط بإيجاب عدة عليها، فلم يجز لاحد أن يلزمها عدة لم يأت بها نص ولا إجماع، ووجب المتعة لها، ونصف الصداق بإيجاب الله تعالى ذلك لكل مطلقة فرض لها صداق المتعة خاصة لكل مطلقة، وهي إحدى المطلقات فبطل ظن هؤلاء القوم، والحمد لله رب العالمين.
واحتجوا بما في القرآن من الآيات التي فيها خطاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وحده، مثل قوله تعالى: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) * ومثل قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة) * وما أشبه ذلك.
قالوا: فقلتم: هي لازمة لنا ومباحة، كلزومها النبي (صلى الله عليه وسلم) وإباحتها له.
قال أبو محمد: وهذا من التخليط ما هو، لان النص حكم علينا بذلك إذ يقول: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * وبقوله (صلى الله عليه وسلم): عليكم بسنتي وبغضبه (صلى الله عليه وسلم) على من تنزه عن أن يفعل مثل فعله، فبطل تمويههم بأن هذا قياس، وصح وجوب كل شريعة خوطب بها (صلى الله عليه وسلم): علينا ما لم ننه عن ذلك، كقول النبي (صلى الله عليه وسلم) في الوصال: لست كهيئتكم.
فلو قال قائل: إن الذين تعلقوا به مما ذكروا هو حجة عليهم في إبطال القياس، لكان حقا، لنص النبي (صلى الله عليه وسلم) على أنه ليس كهيئتنا، ولا كأحدنا، ولا مثلنا، وإذ ليس مثلنا والقياس عند القائلين به إنما هو قياس الشئ على مثله لا على ما ليس مثله.
فقد بطل القياس ههنا فيلزمهم أيحكموا على الناس بشئ خوطب به النبي (صلى الله عليه وسلم) وحده، وإن فعلوا ذلك خرجوا من الاسلام، فصح أنه لا مدخل لهذه الآيات، ولا لهذا المعنى في القياس البتة، وبالله تعالى التوفيق.

واحتجوا أيضا بقول الله تعالى: * (فاعتبروا يأولي الابصار) *.
قال أبو محمد: وهذه هي قاعدتهم بظنهم في القياس، وما كانوا أبعد قط من القياس منهم في هذه الآية، وما فهم قط ذو عقل من قول الله تبارك وتعالى: * (فاعتبروا يأولي الابصار) * تحريم مد بلوط بمدي بلوط وما للقياس مجال على هذه الآية أصلا بوجه من الوجوه، ولا علم أحد قط في اللغة التي بها نزل القرآن أن الاعتبار هو القياس، وإنما أمرنا تعالى أن نتفكر في عظيم قدرته في خلق السموات والارض، وما أحل بالعصاة كما قال تعالى في قصة إخوة يوسف عليه السلام: * (لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب) * فلم يستح هؤلاء القوم أن يسموا القياس اعتبارا وعبرة على جاري عادتهم في تسمية الباطل باسم الحق ليحققوا بذلك باطلهم.
وهذا تمويه ضعيف، وحيلة واهية، وقد قال تعالى: * (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للانسان ما تمنى) * فأبطل الله تعالى كل تسمية إلا تسمية قام بصحتها برهان، إما من لغة مسموعة من أهل اللسان، وإما منصوصة في القرآن وكلام النبي (صلى الله عليه وسلم)، وما عدا ذلك فباطل.
وهل هذه الطريقة، التي سلكوا من التمويه والغش بقلع الاسماء عن مواضعها وتحريف الكلم عن مواضعه، إلا كمن سمى من النخاسين أواريهم بأسماء المدن، ثم يحلف بالله لقد جاءت هذه الدابة أمس من بلد كذا تدليسا وغشا ؟ وأهل القياس جارون على هذه الطريقة في تسميتهم القياس عبرة واعتبارا.
ونسألهم في أي لغة وجدوا ذلك ؟ وقد أكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله: * (لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب) * فليت شعري أي قياس في قصة يوسف عليه السلام أترى أنه أبيح لنا بيع إخوتنا كما باعه إخوته ؟ أو ترى أن من باعه إخوته يكون ملكا على مصر ويغلو الطعام في أيامه.
أو ترى إذ قال الله تعالى: * (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يأولي الابصار) * أنه أمرنا قياسا على ذلك أن نخرب بيوتنا بأيديهم وأيدينا قياسا على ما أمرنا الله تعالى أن نعتبر به من هدم بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين أما سمعوا قول الله تعالى: * (وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون) *.
أفيجوز لذي مسكة عقل أن يقول: إن العبرة ههنا القياس وإن معنى هذه الآية: * (وإن لكم في الانعام) * لقياسا أما يرى كل ذي حس سليم أن هذه الآية مبطلة للقياس لما قص تعالى عليه أنه يخرج من بين فرث حرام ودم لبنا حلالا، وأننا نتخذ من تمر النخيل والاعناب مسكرا حراما خبيثا، ورزقا حلالا، وهما من شئ واحد، فظهر أن تساوي الاشياء لا يوجب تساوي حكمها، وصح أن معنى العبرة التعجب
فقط، هذا أمر يدريه النساء والصبيان والجهال، حتى حدث من كابر الحس، وادعى أن الاعتبار القياس مجاهرة بالباطل، تالله ما قدرنا أن عاقلا يرضى لنفسه بهذه الخساسة، وبهذا الكذب في الدين، وبعاجل هذه الفضيحة نعوذ بالله.
والقوم كالفريق يتعلق بما وجد، ولو لم يكن في إبطال القياس إلا هذه الآية لكفى، لان أولها قوله تعالى: * (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يأولي الابصار) * فنص الله تعالى كما نسمع على أنه أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم، وأن المؤمنين لم يظنوا قط ذلك، وأن الكفار لم يحتسبوا قط ذلك، فثبت يقينا بالنص في هذه الآية أن أحكام الله عز وجل جارية على خلاف ما يحتسب الناس كلهم، مؤمنهم وكافرهم، والقياس إنما هو يحتسبه القائسون، لا نص فيه ولا إجماع كظن المالكي أن علة الربا الادخار في المأكولات في الجنس، وظن الحنفي أنها الوزن أو الكيل في الجنس، وظن الشافعي أنها الاكل في الجنس، وهذه كلها ظنون واحتسابات، فصح أن أحكام الله تعالى تأتي بخلاف ما يقع في النفوس، فهذه الآية أبين شئ في إبطال القياس والحمد لله رب العالمين.
وقد قوى بعضهم احتجاجهم بما ذكرنا في قوله: * (المؤمنين) * بما روي عن ابن عباس من قوله في دية الاصابع، ألا اعتبرتم ذلك بالاسنان، عقلها سواء وإن اختلفت منافعها.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لان ابن عباس إنما أراد بقوله: هلا اعتبرتم أي هلا تبينتم ذلك بالاصابع فاستبنتم، لان العبارة عن الشئ هوما يتبين به الشئ، أي هلا تبينتم أن اختلاف المنافع لا يوجب اختلاف الدية، أو هلا فكرتم وعجبتم في الاصابع، ورأيتم أن اختلاف منافعها لا يوجب اختلاف دياتها ولا اختلاف أحكامها، كما أن الاسنان أيضا كذلك، وهذا نص جلي من ابن عباس على إبطال القياس، والعلل الموجبة عند القائلين بالقياس لاستواء الاحكام، لانهم يقولون: إن الدية إنما هي عوض عن الاعضاء المصابة، فيقيسون فقد السمع على فقد البصر في الدية، لان المنفعة بذلك متساوية فأبطل ابن عباس ذلك ورد إلى نص، ولم يجد الاصابع أصلا للاسنان يقاس عليه، ولا جعل الاسنان أصلا للاصابع يقاس عليه، بل سوى بين كل ذلك تسوية واحدة، وهذا هو ضد القياس، لان القياس عند القائلين به إنما هو رد الفرع إلى الاصل، وليس ههنا أصل وفرع، بل النص ورد أن الاصابع سواء وأن الاسنان سواء ورودا مستويا فبطل تمويههم الذي راموا به تصحيح أن القياس يسمى عبرة.
ولقد ناظرني كبيرهم في مجلس حافل بهذا الخبر فقلت له: إن القياس عند جميع القائلين به، وأنت منهم، إنما هو رد ما اختلف فيه إلى ما أجمع عليه أو رد ما لا نص فيه إلى ما فيه نص، وليس في الاصابع ولا في الاسنان إجماع، بل الخلاف موجود في كليهما، وقد جاء عن عمر المفاضلة بين دية الاصابع وبين دية الاضراس، وجاء عنه وعن غيره التسوية بين كل ذلك، فبطل ههنا رد المختلف فيه إلى المجمع عليه والنص في الاصابع والاسنان سواء، ثم من المحال الممتنع أن يكون عند ابن عباس نص ثابت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في التسوية بين الاصابع وبين الاضراس ثم يفتي هو بذلك قياسا.
فقال لي: وأين النص بذلك عن ابن عباس ؟ فذكرت له الخبر الذي حدثناه عبد الله بن ربيع التميمي: ثنا عمر بن عبد الملك الخولاني، ثنا محمد بن بكر، ثنا سليمان ابن الاشعث السجستاني، ثنا عباس بن عبد العظيم العنبري، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا شعبة بن الحجاج، ثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): الاصابع سواء، الاسنان سواء، الثنية والضرس سواء، هذه وهذه سواء يعني الابهام والخنصر.
فانقطع وسكت.
وزاد بعضهم جنونا فاحتج في إثبات القياس بقول الله تعالى: * (إن كنتم للرؤيا تعبرون) *.
قال أبو محمد: وهذا من الجنون ما هو: لان العبارة إنما هي في اللغة البيان عن الشئ تقول: هذا الكلام عبارة عن كذا، وعبرت عن فلان إذا بينت عنه ولا مدخل للحكم في شئ من ذلك لشئ لم يذكر اسمه في الشريعة بالحكم في شئ ذكر فيها اسمه، فعارضوا بأن قالوا: العبور هو الجواز والتجاوز من شئ إلى شئ، تقول: عبرت النهر.
قالوا: والقياس تجاوز شئ منصوص إلى شئ لا نص فيه.
قال أبو محمد: هذا من المكابرة القبيحة، لان هذا من الاسماء المشتركة التي هي مثل ضرب من ضراب الجمل وهو سفادة الناقة وضرب بمعنى الايلام بإيقاع جسم على جسم المضروب بشدة والضرب العمل.
وهكذا عبرت الرؤيا فسرتها، وعبرت النهر أي تجاوزته، فهذان معنيان مختلفان، ليس أحدهما من الآخر في ورد ولا صدر، ومصدر عبرت النهر إنما هو العبور ومصدر عبرت الرؤيا إنما هو العبارة ومصدر اعتبرت في الشئ إذا فكرت فيه الاعتبار والعبرة الاسم والعبرة والاستعبار التأهب للبكاء والاخذ فيه، والعبرى نبات يكون على شطوط الانهار، والعبرانية لغة بني إسرائيل، والعبير ضرب من الطيب.
فإذا قلنا: إن معنى عبرت النهر إنما هو تجاوزته، ومعنى عبرت الرؤيا إنما هو فسرتها، فقد وضح أن هذا غير هذان ولو أن المعبر للرؤيا تجاوزها لما كان مبينا لها، بل يكون تاركا لها آخذا في غيرها، كما فعل عابر النهر إذا تجاوزه إلى البر، والاعتبار أيضا معنى ثالث غير هذين بلا شك، فخلط هؤلاء القوم وأتوا بالسفسطة المجردة، وهو أن يأتي بألفاظ مشتركة تقع على معاني شتى، فيخلط بها على الناس ليوهم أهل العقل أشياء تخرجهم عن نور الحق إلى ظلمة الباطل، وقد حذر الاوائل من هذا الباب جدا، وأخبروا أنه أقوى الاسباب في دخول الآفات على الافهام، وفي إفساد الحقائق، وقد نبهنا نحن عليه في مواضع كثيرة من كتابنا هذا، ومن سائر كتبنا، وقد بينا ذلك في كتاب التقريب، ولم نبق فيه غاية، وبالله تعالى التوفيق.
ثم مع ذلك لم يقنعوا بهذا الباب من الباطل، حتى زادوا عليه زيادة كثيرة، وهو أنهم سموا القياس عبرة جرأة وتمويها، والتسمية في اللغة والكلام المستعمل بيننا كله لا تخلو من وجهين لا ثالث لهما: أحدهما: اسم سمع من العرب، والعرب لا تعرف القياس في الاحكام في جاهليتها، لانهم لم يكن لهم شريعة كتابية قبل محمد (صلى الله عليه وسلم)، فبطل أن يكون للقياس عندهم اسم.
والقسم الثاني: اسم شرعي أوقعه الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) على بعض أحكام الشريعة، كالصلاة والزكاة والايمان والكفر والنفاق، وما أشبه ذلك، وتعالى الله ورسوله عن أن يقيسا، فبطل أن يكون الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) سميا القياس عبرة، فهذان القسمان من الاسماء لازمان لكل متكلم بهذه اللغة، ولكل مسلم، وأما الاسماء التي يتفق عليها أقوام من الناس التفاهم في مرادهم، فلذلك لهم مباح بإجماع، إلا أنهم ليس لهم أن يلبسوا بذلك على الناس.
وهم في أعظم إثم وحرج إن سموا ما يخالفهم فيه غيرهم باسم واقع على معنى حقيقي ليلزموا خصومهم قبول ما خالفهم فيه، تمويها على الضعفاء، وعدوانا كمن سمى الخمر عسلا يستحلها بذلك، لان العسل حلال، فبطل أن يسمي القياس عبرة أو اعتبارا، وعلمنا أن أصحاب القياس الذي أحدثوا هذه البدعة هم الذين أحدثوا له هذا الاسم كما أنذر النبي (صلى الله عليه وسلم) بقوم يأتون في آخر الزمان يسمون الخمر بغير اسمها ليستحلوها بذلك، فقد فعل أصحاب القياس ذلك بعينه، وسموا الباطل عبرة واعتبارا لهم ليصبح لهم باطلا بذلك لان العبرة حق: * (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) *، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بآبدة أنست ما قبلها، وهو أن بعضهم استدل على صحة القياس بقول الله تعالى واصفا لامر آدم عليه السلام، إذ تكشفت عورته عند أكل الشجرة فقال تعالى: * (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) *.
قال أبو محمد: إنما شرطنا أن نتكلم فيما يعقل، وأما الهذيان فلسنا منه في شئ ولا ندري وجه القياس في تغطية آدم عورته بورق الجنة، وليت شعري لو قال لهم خصمهم، مجاوبا لهم بهذا الهذيان: إن هذه حجة في إبطال القياس بماذا كانوا ينفكون منه ؟ وهل كان يكون بينه وبينهم فرق.
واحتجوا أيضا بقول الله تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام إذ قال: * (رب أرني كيف تحيي الموتى) *.
قال أبو محمد: وهذه كالتي قبلها، وما يعقل أحد من إحياء الله عزوجل الطير قياسا، ولا أنه يوجب أن يكون الارز بالارز متفاضلا حراما، وأن الاحتجاج بمثل هذا مما ينبغي المسلم أن يخاف الله عزوجل فيه، وما بين هذا وبين من احتج في إثبات القياس وفي إبطاله بقول الله تعالى: * (قل أعوذ برب الناس) * فرق، ولكن من لم يبال بما تكلم سهلت عليه الفضائح، وليس العار عارا عند من يقلده، واحتجوا بقول الله تعالى: * (كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم) * وبقوله تعالى: * (كأنهن الياقوت والمرجان) *.
قال أبو محمد: وهذا من نحو ما أوردناه آنفا من العجائب المدهشة، بينما نحن في تحريم شئ لم يذكر تحريمه في القرآن والسنة ولا في الاجماع، من أجل شبهه لشئ آخر حرم في النص، حتى خرجنا إلى تشبيه الحور العين بالياقوت والمرجان، فكل ذي عقل يدري أن الياقوت والمرجان يباع ويدق ويسرق، ويخرج من البحر الملح، وأنه لا يعقل ولا هو حيوان، أفترى الحور العين يفعل بهن هذا كله ؟ تعالى الله عن ذلك، وقد علم كل مسلم أن الحور العين عاقلات أحياء ناطقات، يوطأن ويأكلن ويشربن، فهل الياقوت والمرجان كذلك ؟ وإنما شبه الله تعالى الحور العين بالياقوت والمرجان في الصفاء فقط، ونحن لا ننكر تشابه الاشياء وإنما ننكر أن نحكم المتشابهات بحكم واحد في الشريعة بغير نص ولا إجماع، فهذا هو الزور والافك والضلال، وأما تشابه الاشياء فحق يقين.
وكذلك شبه الله تعالى بطلان أعمال الكفار ببطلان الزرع بالريح التي فيها الصر فأي مدخل للقياس ههنا ؟ أترى من بطل زرعه خالدا في جهنم كما يفعل بالكافر ؟ أو ترى الكافر إذا حبط عمله ذهب زرعه في فدانه، كما يذهب زرع من أصاب زرعه ريح فيها صر ؟ هذا ما لا يقوله أحد ممن له طباخ.

وأما الحقيقة فإن هاتين الآيتين تبطلان القياس إبطالا صحيحا، لان الله تعالى مثل الحور العين بالياقوت والمرجان، ومثل أعمال الكفار بزرع أصابته ريح فيها صر.
ولم يكن تشبيه الحور بالياقوت والمرجان يوجب للياقوت والمرجان الحكم أحكام الحور العين، ولا للحور العين الحكم بأحكام الياقوت والمرجان، ولا كان شبه عمل الكفار بالزرع الذاهب يوجب للزرع الحكم بأحكام أعمال الكفار، من اللعين والبراءة والوعيد، ولا لاعمال الكفار بأحكام الزرع من الانتفاع بتبنه في علف الدواب وغير ذلك.
فصح أن تشابه الاشياء لا يوجب لها التساوي في أحكام الديانة، ولا شئ
أقوى شبها من شيئين شبه الله عزوجل بعضها ببعض، فإذا كان الشبه الذي أخبرنا الله تعالى به لا يوجب لذينك المتشابهين حكما واحدا فيما لم ينص فيه، فبالضرورة تعلم أن الشبه المكذوب المفترى من دعاوى أصحاب القياس أبعد عن أن يوجب لما شبهوا بينهما حكما واحدا، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بقول الله تعالى: * (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ئ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ئ الذي جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فإذآ أنتم منه توقدون ئ أو ليس الذي خلق السماوات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم) *.
قال أبو محمد: وهذا من عجائبهم وطوامهم، ليت شعري ما في هذه مما يوجب القياس أو أن يحكم في ألا يكون الصدق أقل مما يقطع فيه اليد، وأن يرجم اللوطي كما يرجم الزاني المحصن ؟ ولكاد احتجاجهم بهذه الآية أن يخرجهم إلى الكفر، لانه تعالى لم يوجب أنه يعيد العظام من أجل أنه أنشأها أول مرة، ولا أخبر تعالى أن إنشاءه لها أول مرة يوجب أن يعيدها، ومن ظن هذا فقد افترى.
ومع ذلك فلو كان إنشاء الله تعالى للعظام، أولا يوجب أن يحييها ثانية، لوجب ضرورة إذا أفناها أيضا بعد أن أنشأها أولا أن يفنيها ثانية بعد أن أنشأها ثانية، وهذا ما لا يقولونه، ولا يقول به أحد من المسلمين إلا جهم بن صفوان وحده.
ولو كان ذلك أيضا لوجب أن يعيدهم إلى الدنيا ثانية كما ابتدأهم ونشأهم فيها أول مرة، وهذا كفر مجرد، لا يقول به إلا أصحا ب التناسخ، فقبح الله كل احتجاج يفر صاحبه من الانقطاع والاذعان للحق إلى ما يؤدي إلى الكفر، فبطل تمويههم بهذه الآية، وصح أن معناها هو اقتضاء ظاهرها فقط، وهو أن القادر على خلق الاشياء ابتداء قادر على إحياء الموتى.
وقد بين الله تعالى نصا إذ يقول: * (ومن آياته أنك ترى الارض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحى الموتى إنه على كل شئ قدير) * فبين عزوجل أنه إنما بين ذلك قدرته على كل شئ.
وإنما عارض الله تعالى بهذا قوما شاهدوا إنشاء الله تعالى للعظام من مني الرجل والمرأة أقروا بذلك وأنكروا قدرته تعالى على إنشائها ثانية وإحيائها، فأراهم الله تعالى فساد تقسيمهم لقدرته كما قال في أخرى: * (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والارض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شئ قدير) * فهذه كتلك، وليس في شئ منها أن نحكم لما لا نص فيه بالحكم بما فيه نص من تحريم أو إيجاب أو إباحة أصلا وأن هذا كله باب واحد، ليس بعضه مقيسا على بعض، ولا أصلا والآخر فرعا، وإقدام أصحاب القياس وجرأتهم متناسبة في مذاهبهم وفيما يؤيدونها، نعوذ بالله من الخذلان.
واحتجوا أيضا بقول الله تعالى: * (حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) * وبقوله تعالى: * (فإذآ أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ان الذي أحياها لمحى الموتى) * وبقوله تعالى: * (فأحيينا به بلدة ميتا كذلك النشور) * وبقوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد) * إلى قوله: * (كذلك الخروج) * وبقوله تعالى: * (فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة) *.
قال أبو محمد: وهذا كله من جنس ما ذكرناه آنفا والمحتج بهذه الآيات في إثبات القياس في الاحكام، إما جاهل أعمى لا يدري ما القياس، وإما مموه لا يبالي ما قال: ولا ما أطلق به لسانه في استدامة حاله، ولو كان هذا قياسا لوجب أن يحيي الله الموتى كل سنة في أول الربيع، ثم يموتون في أول الشتاء كما تفعل الثمار

وجميع النبات، وهذا مما لا يقوله إلا ممرو، وإنما أخبر تعالى في كل هذه الآيات بأنه يحيي الارض ويحيي الموتى ويقدر على كل ذلك، لا على أن بعض ذلك مقيس على بعض البتة.
وذكروا أيضا في ذلك قول الله تعالى: * (ويقول الانسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر إلانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) *، وبقوله تعالى: * (يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ) قال أبو محمد: هذا هو إبطال القياس على الحقيقة، لانه لا سبيل إلى أن يخلق ثانية من نطفة، ولا من علقة، ولا من مضغة، فإنما معنى هذه الآية: من الله تعالى علينا وتذكيره لنا بقدرته على ما يشاء لا إله إلا هو.
وكذلك الآية التي قبلها: أن الانسان لم يك شيئا، ثم خلق، ولا سبيل إلى أن يعود لا شئ أبدا، بل نفسه عائدة إلى حيث رآها النبي (صلى الله عليه وسلم) ليلة أسري به، ويعود الجسم ترابا، ثم يجمعان يوم القيامة فيخلد حيا باقيا أبد الابد بلا نهاية ولا فناء، في نعيم أو عذاب فبطل القياس ضرورة من حيث راموا إثباته تمويها على اغترابهم.
وهذه الآيات كلها هي بمنزلة قوله تعالى: * (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها) * فإنما بين قدرته على ما شاهدنا، وعلى ما أخبرنا به مما لم نشاهد وهذا إبطال للقياس ولظنون الجهال، لان الله تعالى نص على تشابه الاشياء كلها بعضها لبعض، ولم يوجب من أجل ذلك التشابه أن تستوي في أحكامها، وهذا هو نفس قولنا في إبطال القياس في تسوية الاحكام بين الاشياء المشتبهات، وبالله التوفيق.
ومثل ذلك قوله تعالى: * (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الرياح) * وكقوله تعالى: * (إنا بلوناهم كما بلونآ أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون) * الآيات
إلى قوله تعالى: * (كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) *.
قال أبو محمد: ولا شبه أقوى من شبه شهد الله تعالى بصحبته، فإذا كان الله تعالى قد شبه الحياة الدنيا بالنبات النابت من الماء النازل من السماء، فهي أشبه الاشياء به، وشبه تلف جثث أولئك العصاة بالعدل، وذلك لا يوجب استواءهما في شئ من الحكم في الشريعة غير الذي نص الله تعالى عليه من البلى بعد الجدة فقط، فبطل ظنهم الفاسد، والحمد لله رب العالمين.
وكذلك أيضا قوله تعالى: * (مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ) *.
قال أبو محمد: وذلك الزرع يرعى، وليس متعبدا ولا جزاء عليه، في الآخر والقوم الذين شبهوا به ولا شك أنهم خلاف ذلك، وأنهم متعبدون مجازون بالجزاء التام في الآخرة.
وأن العجب ليكثر من عظيم تمويههم في الدين، وتدليسهم فيه باحتجاجهم بهذه الآيات في القياس وما عقل قط ذو مسكة عقل أنه يجب في هذه الآيات تحريم بيع التبن بالتبن متفاضلا، إذا حرم بيع التمر بالتمر متفاضلا وما قائل هذا إلا قريب من الاستخفاف بالقرآن والشرائع، ونعوذ بالله من هذا.
واحتج بعضهم في إثبات القياس بآبدة أنست ما تقدم، وهو أنه قال من الدليل على صحة القياس قول الله تعالى: * (والمرسلات عرفا) * قال: فأشار إلى العرف.
قال أبو محمد: وهذا دليل على فساد عقل المحتج به في إثبات القياس وقلة حيائه ولا مزيد، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان، ونسأله التوفيق، ولا عرف إلا ما بين الله تعالى نصا أنه عرف، وأما عرف الناس فيما بينهم فلا حكم له ولا معنى، وما عرف الناس مذ نشؤوا إلا الظلم والمكوس.
واحتجوا أيضا بأن قالوا: قال الله عزوجل: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) * قالوا: فإنما جاء النص بجلد قاذف المحصنات، وأنتم تجلدون قاذف الرجال المحصنين كما تجلدون قاذف المحصنات من النساء، وهذا قياس.
قال أبو محمد: وهذا ظن فاسد منهم، وحاشا لله أن يكون قياسا، ونحن نبدأ فنبين، بحول الله وقوته، من أين أوجبنا جلد قاذف الرجال من نص القرآن والسنة، فإذا ظهر البرهان على ذلك لائحا، بحول الله وقوته، وأنه من النص عدنا إلى بيان أنه لا يجوز أن يكون قياسا، وأنه لو استعمل ههنا القياس لكان حكمه غير ما قالوا، وبالله تعالى التوفيق، فنقول وبالله تعالى نتأيد: إن قول الله عزوجل: * (والذين يرمون المحصنات) * عموم لا يجوز تخصيصا إلا بنص أو إجماع، فممكن أن يريد الله تعالى النساء المحصنات كما قلتم، وممكن أن يريد الفروج المحصنات، وهذا غير منكر في اللغة التي بها نزل القرآن، وخاطبنا بها الله تعالى، قال الله عزوجل: * (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا) * يريد من السحاب المعصرات، فقلنا نحن: إنه أراد الفروج المحصنات، وقلتم أنتم: إنه أراد النساء المحصنات، فوجب علينا ترجيع دعوانا بالبرهان الواضح، فقلنا: إن الفروج أعم من النساء، لان الاقتصار بمراد الله تعالى على النساء خاصة تخصيص لعموم اللفظ، وتخصيص العموم لا يجوز إلا بنص أو إجماع.
وأيضا فإن الفروج هي المرمية لا غير ذلك من الرجال والنساء، برهان ذلك ما قاله تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون ئ إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) * وقال تعالى: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) * * (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن) * وقال
تعالى: * (والحافظين فروجهم والحافظات) * وقال تعالى: * (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها) * فصح أن الفرج هو المحصن وصاحبه هو المحصن له بنص القرآن.
حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد ابن محمد نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - أنا عبد الرزاق، ثنا معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ما رأيت أن شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة: أن النبي (صلى الله عليه وسلم قال: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه.
وبه إلى مسلم: ثنا إسحاق بن منصور، أنا هشام المخزومي، هو ابن سلمة، ثنا وهيب بن خالد، ثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وسلم)

قال: كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى، مدرك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والاذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه.
قال أبو محمد: فصح يقينا أن المرمية هي الفروج خاصة، وأن المحصنة على الحقيقة هي الفروج إلا ما عداها، وصح أن الزنى الواجب فيه الحد هو زنى الفروج خاصة لا زنا سائر الاعضاء، ولا زنى النفس دون الفرج، فلا حد في النص كما أوردنا، في زنى العينين، ولا في الرجلين، ولا في زنى اللسان، ولا في زنى الاذنين، ولا في زنى القلب الذي هو مبعث الاعمال، وصح أن من رمى العينين بالزنى أو رمى الرجلين بالزنا أو رمى القلب بالزنى، أو رمى الاذنين بالزنى، أو رمى اليدين بالزنى، أو رمى أي عضو كان بالزنى ما عدا الفرج - فليس راميا، ولا حد عليه بالنص، لان الفرج إن كذب فهو كله لغو.
فصح يقينا أن الرمي الذي يحد فيه الحدود ورد الشهادة والتفسيق، إنما رمي الفروج بلا شك، بيقين لا مرية فيه، فإذ ذلك كذلك فقد صح أن مراد الله تعالى بالحدود ورد الشهادة في الآية المتلوة، إنما هي رمي الفروج فقط، فصح قولنا بيقين لا مجال للشك فيه، وهذا إذ هو كذلك ففروج الرجال والنساء داخلات في الآية دخولا مستويا.
ثم نسألهم فنقول لهم أخبرونا عن قول الله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات) * إذ قلتم أنه تعالى أراد بهذه اللفظة ههنا النساء فقط، هل أراد الله أن يحد قاذف الرجل أم لا ؟ ولا بد من إحداهما، فإن قالوا: لم يرد بقوله تعالى فقد حكموا على أنفسهم أنهم يحكمون بخلاف ما أراد الله تعالى، وكفونا أنفسهم.
وإن قالوا: إن الله تعالى أراد أن يحد قاذف الرجل، قلنا لهم: إن هذا عجب أن يكون تعالى يريد في دينه وعلمه من عباده أن يحد قاذف الرجل، ثم لا يأمرنا إلا بحد قاذف النساء فقط، حاشا لله من ذلك، فإنه تلبيس لا بيان، فإن قالوا: اقتصر على النساء ونبهنا بذلك على حكم قاذف الرجال قلنا لهم: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، ولم تأتوا بأكثر من الدعوى الكاذبة التي فيها خالفناكم، فإن كانت عندكم حجة من نص جلي على صحة هذه الدعوى، وإلا فهي كذب بحت، ولستم بصادقين فيها بنص القرآن، قالوا: الاجماع قد صح على وجوب حد قاذف الرجل.

قلنا لهم: وأي دليل لكم في الاجماع ؟ والاجماع لنا لا لكم لان الاجماع إنما كان من هذا النص المذكور، فهاتوا دليلا على أنه كان عن قياس، ولا سبيل لهم إلى دليل ذلك أصلا، لا برهاني ولا إقناعي ولا شغبي، وظهر بطلان قولهم، والحمد لله رب العالمين.
ثم نعود إلى إبطال أن يكون حد قاذف الرجل قياسا جملة ولا بد، فنقول وبالله تعالى نتأيد: إننا وجدنا أحكام الرجال والنساء تختلف في مواضع، فالرجال عليهم الجمعات والجماعات فرضا، والنساء لا تلزمهن جمعة ولا جماعة فرضا، وقد استووا في حكم سائر الصلاة والزكاة، والمرأة لا تسافر في غير واجب إلا مع زوج أو ذي محرم، والرجل يسافر حيث شاء دون زوجة، ودون ذي محرم، والخوف عليه من أن يزني كالخوف عليها من أن تزني ولا فرق، لان زناها لا يكون إلا مع رجل، وحكمهن في اللباس مخالف لحكم الرجل.
فلا يجوز للرجال لباس القمص والعمائم والسراويل في الاحرام، وهذا مباح للنساء، واستووا في تحريم الطيب عليهم وعليهن في الاحرام، والرجال عليهم الصلاة مع الامام بمزدلفة صلاة الصبح، ومباح للنساء السفر قبل ذلك فاستووا فيما عدا ذلك، والجهاد على الرجال، ولا جهاد على النساء، وشهادة المرأتين تعدل شهادة الرجل، وخصومنا ههنا لا يقبلون النساء أصلا إلا في الاموال مع رجل ولا بد، وفي عيوب النساء والولادات فقط.
ويقبلون الرجال فيما عدا ذلك، ولا يقيسون الرجال عليهن ولا يقيسوهن على الرجال، وليس هذا إجماعا، ودية المرأة نصف دية الرجل، وكثير من الحاضرين من خصومنا ههنا يسوون بينهن وبين الرجال في مقدور محدود من الديات، ويفرقون بين أحكامهم وأحكامهن في سائر ذلك، ولا يقيسون النساء على الرجال، ولا الرجال على النساء، وحد المرأة كحد الرجل في القذف والخمر والزنى والقتل والقطع في السرقة، وفرق بين الحاضرين من خصومنا في التغريب في الزنى بين الرجال والنساء، وفرق آخرون منهم في حد الردة، بين الرجال والنساء فرأوا قتل الرجل في الردة، ولم يروا قتل المرأة في الردة، وتركوا القياس ههنا، وللرجل أن ينكح أربعا ويتسرى، ولا يحل للمرأة أن تنكح إلا واحدا ولا تتسرى، ولم يقيسوا عليهن، إلى كثير مثل هذا اكتفينا منه بهذا المقدار.
فلما وجدنا أحكام الرجال، وأحكام النساء تختلف كثيرا، وتتفق كثير، على حسب ورود النص في ذلك فقط، بطل أن يقاس حكم الرجال على النساء، إذا اقتصر النص عن ذكرهن، أو أن تقاس النساء على الرجال،: إذا اقتصر النص على ذكرهم.
إذ ليس الجمع بين أحكامهن وأحكام الرجال حيث لم يأت النص بالتفريق قياسا على ما جاء النص فيه متساويا بين أحكامهن وأحكامهم، أولى من التفريق بين أحكامهن وأحكام الرجال، حيث لم يأت النص بالجمع قياسا على ما جاء النص فيه مفرقا بين أحكامهن وأحكامهم، وهذا في غاية الوضوح.
والحقيقة بلا شك فيها، فلو كان القياس حقا لكان قياس قاذف الرجل في إيجاب الحد عليه على قاذف المرأة باطلا متيقنا لا يجوز الحكم به أصلا فارتفع توهمهم جملة، والحمد لله رب العالمين.
ومن أوضح برهان على أن حد قاذف الرجل ليس عن قياس على قاذف المرأة بالزنا أن بعد أمر الله بجلد قاذف المحصنات بسطر واحد فقط قوله تعالى: * (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين) * الآيات...فلا خلاف بين أحد من الامة أنه لا يقاس قاذفة زوجها أن تلاعن على قاذف زوجته أن يلاعن، فلو كان القياس حقا، لما كان قياس قاذف الرجل على قاذف المرأة أن يجلد الحد: أولى ولا أصح من قياس قاذفة زوجها على قاذف زوجته أن تلاعنه أيضا، ولا يجد أحد فرق بين الامرين أصلا، فصح أن القياس باطل إذ لو كان حقا لاستعمله الناس في الملاعنة، وصح أن جلد قاذف الرجل ليس عن قياس وأنه عن نص كما ذكرنا، وبالله التوفيق.
واحتج بعضهم بقول الله تعالى: * (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) *.
قال أبو محمد: وجمجم هذا المحتج ولم يصرح على ههنا أشياء من القرآن مفتقرة إلى القياس.
قال أبو محمد: وهذا كلام يسئ الظن بمعتقد، قائله، ولا قول أسوأ من قول من قال: إن الله تعالى شبه على عباده فيما أراد منهم وفيما كلفهم، وإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يبين تلك الاشياء وتركها مهملة، واحتاجوا فيها إلى قياسهم الفاسد.
وقد بينا الكلام في باب مفرد في ديواننا هذا، وأخبرنا أنه لا يحل لاحد أن يتبع متشابه القرآن، ولا أن يطلب معنى ذلك المتشابه، وليس إلا الاقرار به، وأنه من عند الله تعالى، كما قال عزوجل في آخر الآية المذكورة: * (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) * وأخبر تعالى فيها فقال: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) * فنص تعالى على أن من طلب تأويل المتشابه فهو زائغ القلب، مبتغي فتنة.
ونحن نبرأ إلى الله من هذه الصفة، فثبت بالنصوص، ضرورة، أن تأويل المتشابه، لا يعلمه أحد إلا الله عزوجل وحده فقط، لان ابتغاء معرفته حرام، وما حرم ابتغاء معرفته فقد سد الباب دون معرفته ضرورة، إذ لا يوصل إلى شئ من العمل إلا بعد ابتغائه، فما حرم ابتغاؤه فلا سبيل إلى الوصول إليه، وهذا بين لا خفاء فيه، وطرق المعارف معروفة محصورة، وهي: الحواس والعقل اللذان ركبهما الله في المتعبدين من الحيوان، وهم الملائكة والجن، ومن وضع من ذلك فيه شئ من الانس، ثم ما أمر الله بتعرفه وتعرف حكمه فيه، مما جاء من عنده عزوجل، وهو القرآن والسنة فقط، وهذه كلها طرق أمرنا بسلوكها والاستدلال بها، وقد نهينا عن طلب معنى المتشابه، فصح أنه لا يوصل إلى معرفة معناه من جهة شم الحواس، ولا من المعقول ولا من القرآن ولا من السنة، فإذا كان الامر كذلك فلاسبيل لمخلوق إلى معرفته إلا أن الذي صح في الآي المحكمات التي أمرنا الله بتدبرها وبتعلمها، وبطلب تأويلها والتفقه فيها.
فطاعة القرآن فيما أمر الله تعالى فيه ونهى، وطاعة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الذي أمر فيه ونهى وترك التعدي لهذه الحدود، وبطلان ما عداها، فبطل القياس ضرورة لانه غير هذه الحقائق، والحمد لله رب العالمين.
واحتجوا فقالوا: حرم الله تعالى لحم الخنزير فحرمتم شحمه والانثى منه، وهذا قياس.
قال أبو محمد: وهذا ظن فاسد منهم، ومعاذ الله أن نحرم شحم الخنزير وأنثاه بقياس، بل بالاجماع الصحيح وبالنص في القرآن، ولو كان الشحم كحكم اللحم لوجب، إذ حرم على بني إسرائيل الشحم، أن يحرم عليهم اللحم، فإذا لم يكن ذلك فقد صح أن الشحم لم يحرم من الخنزير قياسا على اللحم.

ومن الطرائف أن المحتجين بهذا يقولون، أو أكثرهم، إن الشحم جنس غير اللحم ويجيزون رطل لحم برطلي شحم، حتى إن جمهورهم، وهم صحاب أبي حنيفة، يرون شحم الظهر غير شحم البطن، فيجيزون رطل شحم بطن برطلي شحم الظهر والمالكيون والشافعيون والحنفيون يجيزون رطل شحم الغنم برطلي شحم الاوز فأين هذيانهم، إنه إنما حرم شحم الخنزير قياسا على لحمه ؟.
والشافعيون والحنفيون والمالكيون يقولون: من حلف ألا يأكل شحما فأكل لحما فإنه لا يحنث، ولا خلاف بينهم أن من قال لآخر: ابتع لي بهذا الدرهم لحما فابتاع له به شحما فإنه ضامن.
فبطل قياسهم البارد إن الشحم من الخنزير مقيس على لحمه، ولا خلاف بينهم أن العظم لا نسبة بينه وبين اللحم، ولا يجوز أن يقاس عليه، ونحن وهم مجمعون على أن من سحق عظم الخنزير فاستفه فقد عصى الله تعالى، فصح ضرورة أنه لم يحرم شحمه قياسا على لحمه، ولا أنثاه قياسا على ذكره، وبطل تمويههم والحمد لله.
وإنما حرم شحم الخنزير وغضروفه ودماغه ومخه وعصبه، وعروقه وجلده وشعره وعظمه وعضله وسنه وظلفه، وملكه والانثى منه ولبنها، بقول الله تعالى: * (أو لحم خنزير فإنه رجس) * والضمير في لغة العرب راجع إلى أقرب مذكور.
وقد أفردنا لذلك بابا في كتابنا هذا وأقرب مذكور إلى الضمير الذي في (فإنه) هو الخنزير لا اللحم، فالخنزير كله بالنص رجس والرجس كله خبيث محرم بقول الله تعالى: * (إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) * فرجع الضمير في قوله تعالى: إلى الرجس، لانه تعالى لو أراد الاربعة المذكورة في أول الآية لقال: فاجتنبوها، فلما لم يقل تعالى ذلك، ولم يجز أن يكون الضمير راجعا في قوله تعالى: * (فاجتنبوه) * إلى الشيطان.
لاننا غير قادرين على اجتنابه، صح ضرورة أنه راجع إلى الرجس وعمل الشيطان، فكان الرجس كله محرما، وهو من وعمل الشيطان محرم مأمور باجتنابه، فكل ما كان رجسا فهو باجتنابه، والخنزير رجس فكله محرم مأمور باجتنابه، وكذلك الخمر والميسر والانصاب، والازلام، وكل رجس بالنص المذكور، وبالله تعالى التوفيق.

وإنما قلنا هذا حسما للاقوال، وإنما فالضمير راجع إلى عمل الشيطان، والرجس، بنص الآية، من عمل الشيطان، فهو مأمور باجتنابه بيقين، والخنزير رجس بنص القرآن، والخنزير كله حرام، والخنزير في لغة العرب، التي بها خوطبنا، اسم للجنس يقع تحته الذكر والانثى والصغير والكبير، فبطل ما ظنوا أن تحريم الشحم إنما هو جهة القياس، وبالله تعالى التوفيق.
ثم نقول لهم: أخبرونا عن قول الله تعالى: * (أو لحم خنزير فإنه رجس) * ماذا أراد به عندكم ؟ اللحم وحده دون الشحم ؟ فإن قلتم ذلك فقد أباح الشحم على قولكم، وهذا خلاف الاسلام، وخلاف قولكم، أ أراد به الشحم واللحم والعظم واللبن ؟ فهذا باطل، لان كل ذلك يقع عليه عند أحد اسم لحم، فقد حصل قولكم بين كذب وكفر، لا بد من إحداهما، فإن قالوا: حرم اللحم ودل بذلك على الشحم قلنا: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، وفي هذا خالفناكم وكذبنا دعواكم، فحصلوا في ضلال محض.
واحتج بعضهم بأن قال: يلزمكم ألا تبيحوا قتل الكفار إلا بضرب الرقاب فقط، لقول الله تعالى: * (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) *.
قال أبو محمد: والجواب بأن الله تعالى إنما قال هذا في المتمكن منهم من الكفار، وهذا فرض بلا شك، ولا يحل خلافه، فمن أراد الامام قتله من الاسارى لم يحل قتله إلا بضرب الرقبة خاصة، لا بالتوسيط ولا بالرماح ولا بالنبل ولا بالحجارة ولا بالخنق ولا بالسم ولا بقطع الاعضاء.
وأما من لا يتمكن منه فقد قال تعالى: * (فاضربوا منهم كل بنان) * وقال تعالى: * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * فقتل هؤلاء واجب كيف ما أمكن بالنص المذكور، وهذا ما لا نعلم فيه خلافا، وهو ظاهر الآيات المذكورات ويبين أن المراد بالآية التي فيها ضرب رقاب الاسرى فقط قوله تعالى في تلك الآية بعينها: * (فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء) * فاستثنى الاسرى من جملة قوله تعالى: * (واضربوا منهم كل بنان) * و: * (اقتلوا المشركين) *.
وقال بعضهم أيضا: يلزمكم ألا تجيزوا أن يبدأ في غسل الذراعين في الوضوء إلا من الانامل، لقول الله تعالى: * (إلى المرافق) *.

قال أبو محمد: وهذا خطأ وقول فاسد، لان الله تعالى لم ينص على أن يبدأ في ذلك من مكان من اليدين بعينه، وإنما جعل عزوجل المرافق نهاية موضع الغسل لا نهاية عمل الغسل، فكيف ما غسل الغاسل ما بين أطراف الانامل إلى نهاية المرافق فقد فعل ما أمر به في النص ولا مزيد.
واحتج بعضهم بقول الله تعالى: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * قالوا: وإنما قال ذلك تعالى في الطلاق والرجعة، يعني اشتراط العدالة، واشترط تعالى الرضا في الرجل والمرأتين في الديون فقط، فكان ذلك في سائر الاحكام قياسا على الطلاق والرجعة.
قال أبو محمد: وهذا الاحتجاج من غريب نوادرهم فأول ذلك أن المحتج بهذا إن كان مالكيا فقد نسي نفسه في إباحتهم شهادة الطبيب الفاسق، وفي شهادة الصبيان في الدماء والجراحات خاصة، وهم غير موصوفين بعدالة، ولم يقس على ذلك الصبايا ولا تحريق الثياب.
وإن كان حنفيا فقد نسي نفسه في قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض، ونقضهم كلهم هذا الاصل في رد شهادة العبيد العدول والاقارب العدول، وأما نحن فلم نأخذ قبول شهادة العدول فيما عدا الطلاق والرجعة والديون قياسا على ذلك، ونعوذ بالله من هذا، وإنما لزم قبول العدول في كل موضع حاشا ما استثناه النص من قبول شهادة الكفار في الوصية في السفر فقط، فمن قول الله تعالى: * (إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) * فنهانا الله تعالى عن قبول الفاسق، ليس في البالغين العقلاء، إلا فاسق أو عدل، فوجب علينا التبين في كل شاهد، وكل مخبر حتى نعلم أفاسق هو فلا نعمل بخبره ولا بشهادته إذا أنبأنا بها، أو نعلم أهو عدل ؟ فنعمل بخبره وشهادته فبطل ظن هذا الجاهل.
وأما قبول عدلين في سائر الاحكام، فقد كان يلزم هذا الجاهل، إن التزم القياس، أن يقيس جميع الشهادات في السرقة والقذف والخمر والقصاص والقتل على الشهادة في الزنى فلا يقبل في شئ مما ذكرنا إلا أربعة شهداء لا أقل، لان الحدود بالحدود أشبه من الحدود بالطلاق والرجعة والديون، والزنى حد، وكل ما ذكرناه في السرقة والقذف والخمر حد.

وكان يلزمه أيضا أن يقيس على الديون فيقبل في سائر الاشياء رجلا وامرأتين كما جاء النص في الاموال، وإلا فلاي معنى وجب أن يقاس على الرجعة والطلاق دون أن يقاس على الديون ؟ فإن ادعى الاجماع، قيل له: كذبت وجهلت فالحسن البصري لا يقبل في القتل إلا أربعة شهداء عدول، وهذا عمر بن الخطاب وعطاء بن ابن أبي رباح يقبلان في الطلاق النساء دون الرجال، وعطاء يقبل في الزنى ثماني النسوة، وأبو حنيفة يقبل في الطلاق والرجعة والنكاح رجلا وامرأتين، ولا يقبل ذلك في الحدود، وقول الحسن أدخل في القياس، لان القتل أشبه بالزنى الذي يكون فيه القتل في الاحصان، فهو قتل وقتل، فالقتل بالقتل أشبه من القتل بالطلاق.
وقول عمر وعطاء أشبه بالقياس، لانهما جعلا مكان كل رجل امرأتين، وجلد الزنا جلد، وجلد القذف والخمر جلد، فالجلد بالجلد أشبه من الجلد بالرجعة في النكاح.
وهذا ما لا يحل يخيل على من له أدنى حس سليم، لا سيما المالكيين الذين يقولون بقياس القتل على الزنى: أنه إن عبر عن القاتل أن يجلد مائة سوط ويغرب سنة، قياسا على الزاني غير المحصن، فهلا قلدوه عليه فيما يقبل عليه من عدد الشهود ولكن هكذا يكون من سلك السبل فتفرقت به عن سبيل الله تعالى.
والعجب أن مالكا أجاز في القتل شاهدا واحدا وأيمان الاولياء، وهذا قياس على الشاهد واليمين في الاموال، فلا أجاز ذلك في الطلاق والنكاح والعتق وغير ذلك وأي فرق بين هذه الوجوه نعوذ بالله من التخليط والآراء والمقاييس الفاسدة في دين الله تعالى.
واحتج بعضهم في ذلك بالآية الواردة في تعبير الرؤيا، وهذا تخليط ما شئت والرؤيا قتل كل كلام لا يقطع بصحتها، وقد تكون أضغاثا، والحكم في الدين استباحة للدماء، والفروج، والاموال وإيجاب العبادات، وإسقاط لكل ذلك، ولا يجوز الحكم في شئ من ذلك برؤيا أحد دون رؤيا النبي (صلى الله عليه وسلم)، وإذا كانت هذه الرؤيا التي جعلها هذا المحتج أصلا لتصحيح القياس لا يجوز القطع بها في دين الله تعالى.
فالقياس الذي هو فرعها أبعد من ذلك على قضيته الفاسدة التي رضيها لنفسه، وأيضا فإن كثيرا من الرؤيا يفسر فيها الشئ بضده ؟ فيحمد القيد والسواد، ويذم العرس، وليس هذا من القياس في ورود ولا صدر، ولو كان ذلك في القياس لوجب إذا جاء النص بالامر أن يفهم منه النهي، أو بالنهي أن يفهم منه ضده، وهذا عكس الحقائق، وبالجملة فهذا شغب فاسد ضعيف، لان الحكم بالقياس عندهم إنما هو أن يحكم المسكوت عنه بحكم المنصوص عليه، وهذا هو غير العمل في الرؤيا جملة، ومن شبه دينه بالرؤيا، وفيها الاضغاث وما تتحدث به النفس، فقد كفى خصمه مؤنته، وبالله تعالى التوفيق.
وذكروا أيضا قول الله تعالى: * (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا) * وقوله تعالى: * (وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) *.
قال أبو محمد: صدق الله تعالى وكذب أصحاب القياس، وما أنكر ضرب الله تعالى الامثال إلا كافر، بل قد ضرب الله عزوجل الامثال في إدبار الدنيا بالزرع، وفي أعمال الكفار بسراب بقيعة، وفي الظالمين بالامم السالفين فهذا لا يعقله فيغبط به إلا العالمون.
ولعمري إن من صرف هذا الامثال عما وضعها الله تعالى له، إلى تحريم القديد بالقديد، إلا مثل بمثل، أو البتة وإلى أن على المرأة الموطوءة في نهار رمضان عتق رقبة، وإلى أن الصداق لا يكون إلا عشرة دراهم أو ربع دينار، وإلى أن من لاط حد حد الزنى، لجرئ على القول على الله تعالى بغير علم.
وليت شعري لو ادعى خصمهم عليهم واستحل ما يستحلونه، فادعى في هذه الآيات أنها تقتضي ضد مذاهبهم فيما ذكرنا، أكان بينه وبينهم فرق ؟
ونعوذ بالله من الخذلان.
وكما نقول: إن الله تعالى ضرب لنا الامثال، وإن أمثاله المضروبة كلها حق، لانه تعالى قال ذلك فيها.
فكذلك نقول: لا يحل لنا ضرب الامثال لله تعالى، لانه قال تعالى: * (فلا تضربوا لله الامثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) * والقياس ضرب أمثال الله تعالى بيقين منا ومنهم، فهو حرام وباطل، لنهي الله تعالى عنا نصا، وبالله تعالى التوفيق.
فهذا كل ما شغبوا به من القرآن، ووضعهوه في غير مواضعه، وقد أوردناه وبينا ذلك لكل ذي حس سليم أنه لا حجة لهم في شئ منه، وأن أكثره مانع من القول في الدين بغير نص من الله تعالى.
واحتجوا من الحديث بما كتب به إلي يوسف ابن عبد الله النمري، حدثنا سعيد ابن نصر، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن وضاح، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا شبابة بن سوار المدائني، عن الليث بن سعد، عن بكير بن عبد الله بن الاشج، عن عبد الملك بن سعيد الانصاري، عن جابر بن عبد الله، عن عمر بن الخطاب قال: هششت إلى المرأة فقبلتها وأنا صائم، فأتيت النبي (صلى الله عليه وسلم) فقلت: يا رسول الله أتيت أمرا عظيما، قبلت وأنا صائم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أرأيت لو مضمضت بماء وأنت صائم ؟ قلت: لا بأس.
قال: ففيم ؟.
قال أبو محمد: لو لم يكن في إبطال القياس إلا هذا الحديث لكفى، لان عمر ظن أن القبلة تفطر الصائم قياسا على الجماع، فأخبره (صلى الله عليه وسلم) أن الاشياء المماثلة والمتقاربة لا تستوي أحكامها، وأن المضمضة لا تفطر، ولو تجاوز الماء الحلق عمدا لافطر، وأن الجماع يفطر، والقبلة لا تفطر، وهذا هو إبطال القياس حقا.
ولا شبه بين القبلة والمضمضة فيمكنهم أن يقولوا: إنه (صلى الله عليه وسلم) قاس القبلة على المضمضة، لانهم لا يرون القياس إلا بين شيئين مشتبهين، وبضرورة العقل والحس نعلم أن القبلة من الجماع أقرب شيئا، لانهما من باب اللذة، فهما أقرب شبها من القبلة إلى المضمضة.
ثم إن الحديث عائد للمالكيين، لانهم يستحبون المضمضة للصائم في الوضوء، ويكرهون له القبلة، فقد فرقوا بإقرارهم بين ما زعموا أنه عليه السلام سوى بينهما، وفي هذا ما فيه، فبطل شغبهم بهذا الحديث، وعاد عليهم حجة، والحمد لله رب العالمين.
واحتجوا بما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي، ثنا ابن مفرج، ثنا محمد بن أيوب الصموت، ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، ثنا إبرهيم بن نصر، ثنا الفضل ابن دكين، ثنا طلحة بن عمر، عن عطاء، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إذا كنت إماما فقس الناس بأضعفهم.
قال أبو محمد: طلحة بن عمرو ركن من أركان الكذب متروك الحديث، قاله أحمد ويحيى وغيرهما، وهذا حديث مشهور من طريق أبي هرير وعثمان بن أبي العاص، ليس في شئ منه هذه اللفظة البتة إلا من هذه الطريق الساقطة.
ولو صحت ما كانت لهم فيه حجة أصلا، لانه ليس هنا شئ مسكوت قيس بمنصوص عليه، وإنما أمر (صلى الله عليه وسلم) الامام أن يخفف الصلاة على قدر احتمال أضعف من خلفه، وليس يخرج من هذا تحريم البلوط بالبلوط متفاضلا، والنص قد جاء بإيجاب أن يخفف الامام الصلاة رفقا بالناس كلهم.
فكيف وإنما جاء هذا الخبر بلفظين: اقتد بأضعفهم واقدر الناس بأضعفهم كما حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، ثنا أحمد بن سليمان، ثنا عفان بن مسلم، ثنا حماد بن سلمة، ثنا سعيد الجريري، عن أبي العلاء، عن مطرف ابن الشخير، عن عثمان بن أبي العاص قال: قلت: يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، نا قتيبة، نا مالك، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن فيهم السقيم والضعيف والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء.
وهكذا رواه أيضا أبو سلمة عن أبي هريرة.
واحتجوا أيضا بما حدثناه عبد الله بن ربيع، نا عمر بن عبد الملك، ثنا محمد بن بكر، نا أبو داود، نا قتيبة، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
قال أبو محمد: وقد قلنا مرارا إننا لا ننكر نقل لفظ إلى معنى آخر، إذا صح ذلك بنص آخر أو إجماع، ولكن إذا كان عندهم هذا قياسا فإنه يلزمهم أنه متى سمعوا ذكر جحر في أي شئ ذكر، أن يقيسوا عليه كل ما في العالم، كما جاء النهي عن البول في الجحر فلم يقيسوا عليه غيره.
فإذا لم يفعلوا فلا شك أنه إنما انتقل إلى ههنا لفظ الجحر إلى كل ما عداه بالاجماع، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا أيضا بقوله (صلى الله عليه وسلم) للخثعمية وللمستفتية التي ماتت وعليها صوم.
وهو حديث مشهور رويناه من طرق، ومن بعضها ما حدثناه عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، حدثني أحمد بن عمر الوكيعي ثنا حسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن سليمان الاعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟.
قال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال: نعم.
قال: فدين الله أحق أن يقضى قال الاعمش: فقال الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل جميعا ونحن جلوس حين حدث مسلم هذا الحديث فقال: سمعنا مجاهدا يذكر هذا الحديث عن ابن عباس.
ومنها ما حدثناه عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية: ثنا أحمد بن شعيب، حدثنا خشيش بن أصرم النسائي، عن عبد الرزاق، أنا معمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رجل: يا نبي الله إن أبي مات ولم يحج، أفأحج عنه ؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين كنت قاضيه ؟ قال: نعم، قال: فدين الله أحق.
أخبرني محمد بن سعيد بن نبات، نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن بشار، نا محمد بن جعفر غندر، نا شعبة، عن أبي بشر، هو جعفر بن أبي وحشية، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس: أن امرأة نذرت أن تحج فماتت ؟ فأتى أخوها النبي (صلى الله عليه وسلم) فسأله عن ذلك، فقال: أرأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه ؟ قال: نعم.
قال: فاقضوا الله فهو أحق بالوفاء.
قال أبو محمد: وهذا من أعجب ما احتجوا به وأشده فضيحة لاقوالهم، وهتكا لمذاهبهم الفاسدة.
أما الشافعيون والحنفيون والمالكيون فينبغي لهم أن يستحوا من ذكر حديث الصوم الذي صدرنا به، لانهم عاصون له، مخالفون لما فيه من قضاء الصيام عن الميت.
فكيف يسوغ لهم أو تواتيهم ألسنتهم بإيجاب القياس من هذا الحديث ؟ وليس فيه للقياس أثر البتة ؟ ويقدمون على خلافه، فيقولون:

لا يصوم أحد عن أحد.
وأما المالكيون والحنفيون فإنهم زادوا إقداما، فلا يقولون بقضاء ديون الله تعالى من الزكاة والنذور والكفارات من رأس مال أحد.
ويقولون: ديون الناس أحق بالقضاء من ديون الله تعالى، واقضوا الناس فهم أحق بالوفاء، وإن ديون الناس من رأس المال، وديون الله تعالى من الثلث،
إن أوصى بها، وإلا فلا تؤدى البتة، لا من الثلث ولا من غيره، والله إن الجلود لتقشعر من أن يكون الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: اقضوا الله فهو أحق بالوفاء و: دين الله أحق أن يقضى فيقول هؤلاء المساكين بآرائهم المخذولة، تقليدا لمن لم يعصم من الخطأ، ولا أتته براءة من الله تعالى بالصواب، من أبي حنيفة ومالك وأصحابهما، دعوا كلام نبيكم (صلى الله عليه وسلم)، ولا تلتفتوه وخذوا قولنا: فاقضوا ديون الناس، فدينهم أحق من دين الله تعالى.
قال أبو محمد: ما نعلم في البدع أقبح من هذا ولا أشنع منه، لان أهل البدع لم يصححوا الاحاديث فهم أعذر في تركها، وهؤلاء يقولون بزعمهم بخبر الواحد العدل، وأنه حق لا يجوز خلافه، وليس لهم في هذه الاسانيد مطعن البتة ثم يقدمون على المجاهرة بخلافها.
والذي لا يشك فيه، أن من بلغته هذه الآثار.
وصحت عنده، ثم استجاز خلاف ما صح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إتباعا لقول أبي حنيفة ومالك فهو كافر مشرك حلال الدم والمال، لاحق باليهود النصارى.
وأما من صحح مثل هذا الاسناد وحكم به في الدين، ثم قال في هذه لا يصح، فهو فاسق وقاح قليل الحياء بادي المجاهرة، نعوذ بالله من كلتي الخطتين فهما خطتا خسف.
ثم تركهم كلهم أن يقيسوا الصوم عن الميت، وإن أوصى به على الحج عنه إذا أوصى به، وهم يدعون أنهم أصحاب قياس، فهم أول من ترك القياس، في الحديث الذي احتجوا به مع تركهم لحديث الصوم، وقياسهم عليه وهم لا يأخذون به.

ثم نقول وبالله تعالى التوفيق: إنه ليس في هذا الحديث قياس أصلا، ولا دلالة على القياس، ولكنه نص من الله تعالى أخبر في آية المواريث
فقال: * (بعد وصية يوصى بها أو دين) * فعم الله عزوجل الديون كلها.
وبضرورة العقل علمنا أن ما أوجبه الله علينا في أموالنا فإنه يقع عليه اسم دين بلا شك، ثم بالنصوص علمنا، وبضرورة العقل.
أن أمر الله أولى بالانقياد له، وأحق بالتنفيذ، وأوجب علينا من أمر الناس.
وكان السائل والسائلة للنبي (صلى الله عليه وسلم) مكتفين بهذا النص لو حضرهما ذكره، فأعلمها للنبي (صلى الله عليه وسلم) بأن كل ذلك دين، وزادهم علما بأن دين الله تعالى أحق بالقضاء من ديون الناس، وهذا نص جلي فأين للقياس ههنا أثر أو طريق لو أن هؤلاء القوم أنصفوا أنفسهم ونظروا لها ؟.
ولكن ما في المصائب أشنع من قول من قال: إذا أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بأن يصام عن الميت ويحج عنه، وأخبر أنه دين الله تعالى وهو أحق بالقضاء من سائر ديون الناس، فترك ذلك واجب، فلا يجوز أن يصام عن ميت، ولا يستعمل هذا الحديث فيما جاء فيه، لكن منه استدللنا على أن بيع العسل في قيره بعسل في قيره لا يجوز، أو أن بيع رطل لحم تيس برطلي لحم أرنب لا يجوز، أو أن رطل قطن برطلي قطن لا يجوز تبارك الله ما أقبح هذا وأشنعه لمن نظر بعين الحقيقة ونعوذ بالله من الخذلان.
واحتجوا بما روى الحديث المشهور: أن رجلا قال لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): يا رسول الله، إن امرأتي ولدت ولدا أسود، وهو يعرض لنفيه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): هل لك من إبل ؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها ؟ قال: حمر.
قال: هل فيها من أورق ؟ قال: إن فيها لورقا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أنى ترى ذلك أتاه ؟ - أو كلاما هذا معناه - فقال له الرجل: لعل عرقا نزعه، فقال عليه السلام: لعل هذا عرقا نزعه قالوا: وهذا قياس وتعليم للقياس.
قال أبو محمد: وهذا من أقوى الحجج عليهم في إبطال القياس، وذلك لان الرجل جعل خلاف ولده في شبه اللون علة لنفيه عن نفسه، فأبطل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حكم الشبه، وأخبره أن الابل الورق قد تلدها الابل الحمر، فأبطل (صلى الله عليه وسلم) أن تتساوى المتشابهات في الحكم، ومن المحال الممتنع أن يكون من له مسكة عقل يقيس ولادات الناس على ولادات الابل، والقياس عندهم إنما هو رد فرع إلى أصله، وتشبيه ما لم ينص بمنصوص، وبالضرورة نعلم أنه ليس الابل أولى الولادة من الناس ولا الناس أولى من الابل، وأن كلا النوعين في الايلاء والالقاح سواء، فأين ههنا مجال للقياس وهل من قال: إن توالد الناس مقيس على توالد الابل، إلا بمنزلة من قال: إن صلاة المغرب إنما وجبت فرضا لانها قيست على صلاة الظهر ؟ وإن الزكاة إنما وجبت قياسا على الصلاة ؟.
وهذه حماقة لا تأتي بها عضاريط أصحاب القياس، لا يرضون بها لانفسهم، فكيف أن يضاف هذا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، الذي آتاه الله الحكمة والعلم دون معلم من الناس، وجعل كلامه على لسانه ما أخوفنا أن يكون هذا استخفافا بقدر النبوة وكذبا عليه (صلى الله عليه وسلم).
ولقد كنا نعجب من إقدام أصحاب القياس في نسبتهم إلى عمر وعلي وعبد الرحمن رضي الله عنهم قياس حد الشارب على حد القاذف، ونقول إن هذا استنقاص للصحابة، إذ ينسب مثل هذا الكلام السخيف إليهم.
حتى أتونا بالثالثة الاثافي والتي لا شوى لها فنسبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قاس ولادة الناس على ولادة الابل فأذكرنا هذا الفعل منهم قول بشر بن أبي حازم الاسدي.
غضبت تميم أن تقتل عامر * * يوم النسار فأعقبوا بالصيلم هذا مع أن بعضهم لا يأخذ بهذا الحديث فيما ورد فيه ويروى في التعريض الحد وهو يسمع فيه أن الاعرابي كان يعرض بنفي ولده، فلم يزده النبي (صلى الله عليه وسلم) على أن أراد بطلان ظنه، ووجوب الحكم بظاهر المولد والفراش، ولم ير عليه حدا،
أفيكون أعجب ممن يترك الحديث فيما ورد فيه، ويطلب فيه ما لا يجده أبدا، ومن أن القاتل إذا عفي عنه ضرب مائة سوط ونفي سنة، قياسا على الزاني، إن هذا العجب ونسأل الله العصمة والتوفيق.
واحتجوا أيضا بقول النبي (صلى الله عليه وسلم) إذ سئل عن الابل تكون في الرمل كأنها الظباء فيدخل فيها البعير الاجرب فتجرب كلها، فقال (صلى الله عليه وسلم) ومن أعدى الاول ؟.
قال أبو محمد: وهذا كما قبله وأطم، وما فهم قط أحد أن هذا القياس وجها، بل فيه إبطال القياس حقا، لانهم أرادوا أن يجعلوا الابل إنما جربت من قبل الاجرب الذي انتقل حكمه إليها، فأبطل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذا الظن الفاسد، وأخبر أن كل ذلك وارد من قبل الله عزوجل، وأنه فعل ذلك بالابل والنعم ولافرق.
وذكروا ما حدثناه أحمد بن قاسم، ثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم، ثنا جدي قاسم بن أصبغ، ثنا إسماعيل - هو ابن إسحاق، ثنا علي - هو ابن المديني - ثنا عبد الاعلى بن عبد الاعلى، ثنا هشام - هو ابن حسان - عن الحسن، عن عمران ابن الحسن قال: أسرينا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في غزاة، فلما كان من آخر السحر عرسنا، فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس، فجعل الرجل يثب دهشا فزعا فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
اركبوا.
فركب وركبنا، فسار حتى ارتفعت الشمس، ثم نزل فأمر بلال فأذن، قضى حاجاتهم، وتوضؤوا فصلينا ركعتين قبل الغداة، ثم أقام فصلى بنا فقلنا: يا رسول الله ألا نقضيها لوقتها من الغد ؟ فقال: لا ينهاكم ربكم عن الربا ويقبله منكم قالوا: فقاس (صلى الله عليه وسلم) حكم قضاء صلاتين مكان صلاة على الربا.
قال أبو محمد: وهذا باطل من وجوه أحدها: أنه قد تكلم في سماع الحسن
من عمران بن الحصين، فقيل: سمع منه، وقيل لم يسمع منه، وأيضا فإنه قد صح من طريق جابر عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، قال جابر: كان على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دين فقضاني وزادني فهذا أشبه بالربا من صلاتين مكان صلاة، إلا أن هذا حلال والربا حرام، وأيضا فقد صح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فيمن جامع عامدا في يوم رمضان أن يصوم مكانه ستين يوما أو ثمانية وخمسين يوما أو تسعة وخمسين يوما، فلو كان القياس كما ذكروا لكان هذا عين الربا على أصلهم، وأيضا فإن هذا الحديث لا يقول به المالكيون والشافعيون، لانهم لا يرون تأخير القضاء في الصلاة الفائتة إلى ارتفاع الشمس والمالكيون لا يرون أن يؤذن للصلاة الفائتة، ولا يصلي ركعتا الظهر قبل صلاة الصبح إذا فاتت، ولا أقبح من قول من يحتج بخبر ثم هو أول مخالف لنصه وحكمه.
والقول الصحيح هو أن هذا الخبر حجة في إبطال القياس، لانهم رضي الله عنهم أرادوا أن يصلوا مكان صلاة صلاتين، وقد نهاهم الله تعالى عن تعدي حدوده ومن تعدي الحدود أن يزيد أحد شرعا لم يأمر الله تعالى به، والربا في لغة العرب الزيادة، فصح بهذا الخبر نهي النبي (صلى الله عليه وسلم) عن ربه تعالى عن الزيادة على ما أمر به فقط.
وبيقين يدري كل ذي حس أن القول بالقياس زيادة في الشرع على ما أمر الله تعالى به، فلما حرم الله تعالى الاصناف الستة متفاضلة في ذاتها، زادوا هم ذلك في المأكولات أو المكيلات أو الموزونات أو المدخرات، فزيادتهم هذه هي الربا حقا، والله تعالى قد نهى عنه، فهذا الخبر حجة، لو صح، في إبطال القياس، وإلا فلا نسبة بين الصلاة والبيع، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فإن هذا الخبر نص جلي، لا مدخل للقياس فيه أصلا، ولا بينه وبين شئ من القياس نسبة، لانه اسم الربا يجمع الزيادة في الدين، والزيادة في الصلاة بنص هذا الخبر، فتحريم الربا مقتضى لتحريم الامرين وكل ما جاء به النص فصحيح، وكل ما أرادوا هم أن يريده مما ليس منصوصا عليه فهو باطل، فظهر أن من احتج بهذا الخبر فمموه بما ليس مما يريد في شئ، بل هو حجة عليه، والحمد لله رب العالمين.
ثم لو صح لهم نصوصا من القرآن والسنن ووردت باسم القياس وحكمه، وهذا لا يوجد أبدا، لما كان لهم في شئ من ذلك حجة، لانه كان يكون الحكم حينئذ أن ما قاله الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) فهو الحق، وإنما ما يقولونه هم، مما لم يقله الله تعالى ولا رسوله (صلى الله عليه وسلم) فهو الباطل الذي لا يحل القول به.
وفي هذا كفاية لمن عقل.
وقد أوجب الله تعالى وحرم على لسان رسوله (صلى الله عليه وسلم) وفي كتابه، ولم يحل لاحد أن يحرم ولا أن يوجب ولا أن يحل ما لم يحله الله تعالى ولا أوجبه ولا حرمه، لان الله تعالى حرم وأوجب وأحل، وكل ذلك تعد لحدود الله تعالى.
وموهوا أيضا بأن قالوا: لو كان العلم كله جلي لاستوى العالم والجاهل في البيان، ولو كان العلم كله خفيا لاستوى العالم والجاهل في الجهل به، فصح أن بعضه جلي وبعضه خفي، فوجب أن يقاس الخفي على الجلي.
قال أبو محمد: وهذا كلام في غاية الفساد، لانه إذا كان بعضه جليا وبعضه خفيا، فالواجب على أصلهم هذا الفاسد أن يستوي العالم والجاهل في تبين الجلي منه، وأن يستوي الجاهل والعالم في خفاء الخفي منه عليهما أيضا، فبطل العلم على أصلهم الخبيث الظاهر الفساد.
وأما نحن فنقول إن العلم كله جلي بين، نعني علم الديانة، قال تعالى: * (تبيانا لكل شئ) * وقال تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * فصح أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
قد بين للناس ما نزل إليه، ومن قال غير هذا فهو كافر بإجماع الامة فإذا قد صح أنه عليه السلام قد بين ما نزل إليه والمبين بين، والحمد لله رب العالمين، لمن يعلم اللغة التي بها خوطبنا.
وإنما خفي ما خفي من علم الشريعة على من خفي عليه، لاعراضه عنه وتركه النظر فيه وإقباله على وجود الباطل، التي ليست طريقة إلى فهم الشريعة، أو لنظره في ذلك بفهم كليل، إما لشغل بال أو مرض أو غفلة، ولو لم يكن علم الدين جليا كله ما أمكن الجهل فهم شئ منه أبدا، نعني مما يدعون أنه خفي، فلما صح أن العالم ممكن له إقامة البرهان وإيضاح ما خفي على الجاهل حتى يفهمه ويتبين له، صح أن العلم كله جلي بين نعني علم الديانة، والحمد لله رب العالمين.
وموهوا أيضا بما روي من قول نسب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو ما حدثناه عن عبد الله بن ربيعة التميمي، ثنا محمد بن إسحاق بن السليم، ثنا ابن الاعرابي، ثنا سليمان بن الاشعري، ثنا حفص بن عمر العوضي، عن شعبة، عن أبي عون، عن الحارث ابن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة، عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال: أقضي بكتاب الله عزوجل، قال: فإن لم تجد في كتاب الله عزوجل ؟ قال: فبسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله ؟ قال: اجتهد رأيي ولو آلو: قال: فضرب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله.
قال أبو محمد: وحدثنا أيضا عبد الله بن ربيع، ثنا عمر بن عبد الملك الخولاني، ثنا محمد بن بكر، ثنا داود، ثنا مسدد، ثنا يحيى - هو القطان - عن شعبة بن أبي عون، عن الحارث بن عمر، عن ناس من أصحاب معاذ، عن معاذ بن جبل: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعثه إلى اليمن فذكر معناه.
قال أبو محمد: هذا حديث ساقط، لم يروه أحد من غير هذا الطريق، وأول سقوطه أنه عن قوم مجهولين لم يسموا، فلا حجة فيمن لا يعرف من هو، وفيه الحارث بن عمر وهو مجهول لا يعرف من هو، ولم يأت هذا الحديث قط من غير طريقه.
أخبرني أحمد بن عمر العذري، ثنا أبو ذر الهروي، ثنا زهر بن أحمد الفقيه زنجويه بن النيسابوري، ثنا محمد بن إسماعيل البخاري، هو جامع الصحيح، قال فذكر سند هذا الحديث، وقال رفعه في اجتهاد الرأي، قال البخاري: ولا يعرف الحارث إلا بهذا، ولا يصح.
هذا كلام البخاري رحمه الله.
وأيضا فإن هذا الحديث ظاهر الكذب والوضع، لان من المحال البين أن يكون الله تعالى يقول: * (اليوم أكملت لكم دينكم) *، و * (ما فرطنا في الكتاب من شئ) *، و * (تبيانا لكل شئ) * ثم يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إنه ينزل في الديانة ما لا يوجد في القرآن.
ومن المحال البين أن يقول الله تعالى مخاطبا لرسوله (صلى الله عليه وسلم): * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * ثم يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إنه يقع في الدين ما لم يبينه عليه السلام، ثم من المحال الممتنع أن يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): فاتخذ الناس رؤوسا جهالا، فأفتوا بالرأي فضلوا وأضلوا جاء هذا بالسند الصحيح الذي لا اعتراض فيه، وقد ذكرنا في باب الكلام في الرأي.
ثم يطلق الحكم في الدين بالرأي فهذا كله كذب ظاهر لا شك فيه.
وقد كان في التابعين الراوين عن الصحابة رضي الله عنهم خبث كثير وكذب ظاهر، كالحارث الاعور وغيره ممن شهد عليه بالكذب، فلا يجوز أن تؤخذ رواية عن مجهول لم يعرف من هو ولا ما حاله.
ولقد لجأ بعضهم إلى أن ادعى في هذا الحديث أنه منقول نقل الكافة قال أبو محمد: ولا يعجز أحد عن أن يدعي في كل حديث مثل هذا، ولو قيل
له: بل الحديث الذي جاء من طريق ابن المبارك: إن أشد الفرق فتنة على أمتي قوم يقيسون الامور برأيهم فيحرمون الحلال ويحلون الحرام هو من نقل الكافة أكان يكون بينه وبين فرق ؟.
ولكن من لم يستح قال ما شاء، ولكن الذي لا شك فيه أنه من نقل الكواف كلها نقل تواتر يوجب العلم الضروري، فقول الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) *.
فهذا هو الذي لا شك في صحته، وليس فيه الرد عند التنازع إلا إلى الله تعالى، وهو القرآن، وإلى الرسول، وهو كلامه (صلى الله عليه وسلم) ولا أذكر القياس في ذلك، فصح أن ما عدا القرآن والحديث لا يحل الرد إليه عند التنازع، والقياس أصلا ليس قرآنا ولا حديثا، فلا يحل الرد إليه أصلا، وبالله تعالى التوفيق.
مع أن هذا الحديث الذي ذكرنا من طريق معاذ لا ذكر للقياس فيه البتة بوجه من الوجوه، ولا بنص ولا بدليل، وإنما فيه الرأي، والرأي غير القياس، لان الرأي إنما هو الحكم بالاصلح والاحوط والاسلم في العاقبة، والقياس هو الحكم بشئ لا نص فيه بمثل الحكم في شئ منصوص عليه، وسواء كان أحوط أو لم يكن أصلح، أو لم يكن كان أسلم أو أقتل، استحسنه القاتل له أو استشنعه.
وهكذا القول في قوله (صلى الله عليه وسلم): إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإذا اجتهد فأصاب فله أجران ليس فيه للقياس أثر، لا بدليل ولا بنص ولا للرأي أيضا لا يذكر ولا بدليل بوجه من الوجوه، وإنما فيه إباحة الاجتهاد فقط.
والاجتهاد ليس قياسا ولا رأيا، وإنما الاجتهاد: إجهاد النفس، واستفراغ الوسع في طلب حكم طلب النازلة في القول والسنة، فمن طلب القرآن وتقرأ آياته، وطلب في السنن وتقرأ الاحاديث في طلب ما نزل به، فقد اجتهد، فإن وجدها منصوصة فقد أصاب فله أجران أجر الطلب وأجر الاصابة، وإن طلبها في القرآن والسنة فلم يفهم موضعا منهما، ولا وقف عليه، وفاتت إدراكه، فقد اجتهد فأخطأ فله أجر.
ولا شك أنها هنالك إلا أنه قد يجدها من وفقه الله لها، ولا يجدها من لم يوفقه الله تعالى لها، كما فهم جابر وسعد وغيرهما آية الكلالة ولم يفهمها عمر، وكما قال عثمان في الاختين بملك اليمين: أحلتهما آية وحرمتهما آية، فأخبر أنه لم يقف على موضع حقيقة حكمهما، ووقف غيره على ذلك بلا شك، ومحال أن يغيب حكم الله تعالى عن جميع المسلمين، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا أيضا بما حدثناه أحمد بن قاسم، ثنا أبي قاسم بن محمد، ثنا جدي قاسم ابن أصبغ، نا محمد بن إسماعيل الترمذي، نا سعيد بن أبي مريم، أنا سلمة بن علي حدثني الاوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة قال: حض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على تعلم العلم قبل ذهابه.
قال صفوان بن عسال: وكيف وفينا كتاب الله ونعلمه أولادنا ؟ فغضب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى عرف ذلك فيه، ثم قال: أليست التوراة والانجيل في أيدي اليهود والنصارى ؟ فما أغنت عنهم حين تركوا ما فيهما.
قال أبو محمد: هذا الحديث من أعظم الحجج عليهم في وجوب إبطال القياس، لانه (صلى الله عليه وسلم) أخبر أن من ترك القرآن والعمل به فقد ترك العلم، أو سلك سبيل اليهود والنصارى وأصحاب القياس أهل هذه الصفة، لانهم تركوا القرآن والعمل به، وأقبلوا على قياساتهم الفاسدة، ونعوذ بالله من الخذلان.
ثم يقال لهم: إنما تعلقتم بتشبيه النبي (صلى الله عليه وسلم) فعل من حرم التوفيق من أمته في ذلك، بفعل اليهود والنصارى، إذ نبذوا كتابهم، ونحن نقر بصحة هذا التشبيه، وإنما ننكر أن يكون حكم من فعل ذلك من المسملين كحكم من أشبه فعله من اليهود والنصارى.
وأما أهل القياس فيلزمهم لزوما ضروريا، إذ حكموا للمشتبهين بحكم واحد، أن يحكموا فيمن ترك أحكام القرآن منا بما نحكم به في اليهود والنصارى، من القتل والسبي للذراري والنساء، وأخذ الجزية إن سالموا، فإن تمادوا على قياسهم لحقوا بالصفرية الازارقة، وعاد هذا من الحكم عليهم في تركهم لاحكام القرآن، والعمل بالقياس وإن جحدوا عن ذلك تناقضوا وتركوا القياس، وبالله تعالى التوفيق.

فهذا كل ما موهوا به من إيراد الحديث الذي قد أوضحنا، بحول الله تعالى وقوته، أنه كله حجة عليهم، وموجب لابطال القياس، وكل من له أدنى حس يرى أن إيرادهم ما أوردوا لا طريق للقياس فيه، ولانهم يوهمون الضعفاء أننا ننكر تشابه الاسماء ونحن، ولله الحمد، أعلم بتشابه الاسماء منهم وأشد إقرارا به منهم.
وإنما ننكر أن نحكم في الدين للمتشابهين في بعض الصفات بحكم واحد من إيجاب أو تحريم أو تحليل بغير إذن من الله تعالى، أو من رسوله (صلى الله عليه وسلم)، فهذا أنكرنا، وفي هذا خالفنا، لا في تشابه الاشياء، فلو تركوا التمويه الضعيف لكان أولى بهم.
وادعى بعضهم، دون مراقبة، إجماع الصحابة رضي الله عنهم على القول بالقياس، وهذه مجاهرة لا يعدلها في القبح شئ أصلا، وباليقين نعلم أن ما روي قط عن أحد من الصحابة القول بأن القياس حق بوجه من الوجوه، لا من طريق تصح، ولا من طريق ضعيفة، إلا حديثا واحدا، نذكره إن شاء الله تعالى بعد فراغنا من ذكر تمويههم بدلائل الاجماع، وهو لا يصح البتة.
ولو أن معارضا يعارضهم، فقال: قد صح إجماع الصحابة على إبطال القياس، أكان يكون بينه وبينهم فرق في أنها دعوى ودعوى ؟ بل إن قائل هذا، من إجماعهم على إبطال القياس، يصح قوله ببرهان نذكره إن شاء الله تعالى.
وهو أنه قد صح بلا شك عند كل أحد من ولد آدم يدري الاسلام والمسلمين، من مؤمن أو كافر، أن جميع الصحابة مجمعون على إيجاب ما قال الله تعالى في القرآن مما لم يصح نسخه، وعلى إيجاب ما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعلى أنه لا يحل لاحد أن يحرم ولا يحلل، ولا أن يوجب حكما لم يأت به الله تعالى، ولا رسوله (ص) في الديانة، وعلى أن رسول الله لم يلبس على أمته أمر دينها، وأنه (صلى الله عليه وسلم) قد بينه كله للناس، وهذا كله مجمع عليه من جميع الصحابة أولهم عن آخرهم بلا شك.
ولولا ذلك ما كانوا مسلمين، فإن هذا مجمع عليه بلا شك، فهذه المقدمات مبطلة للقياس، لانه عند القائلين به حوادث في الدين لم ينزل الله تعالى فيها حكما في القرآن بينا، ولا بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما حكمها بنصه عليها، وهذا ما لا يشك مسلم أن الصحابة لو سمعوا قائلا يقول بهذا لبرئوا منه.

وأيضا فالصحابة عشرات ألوف، روى الحديث منهم ألف وثلاثمائة ونيف مذكورون بأسمائهم، وروى الفقه والفتيا منهم عن نحو مائة ونيف وأربعين، مسمين بأسمائهم، حاشا الجمل المنقول عن أكثرهم أو جميعهم، كإقامة الصلاة وأداء الزكاة، والسجود فيما سجد بهم إمامهم فيه من سجود القرآن، والاشتراك في الهدى، والصلاة الفريضة خلف التطوع، ومثل هذا كثير، وإنما أوردنا بنقل الفتيا من ذكر عنه باسمه أنه أجاز أمر كذا أو نهى عن أمر كذا، أو أوجب كذا، أو عمل كذا، فما منهم أحد روي عنه إباحة القياس، ولا أمر به البتة بوجه من الوجوه، حاشا الحديث الواحد الذي ذكرنا آنفا، وسنذكره إن شاء الله تعالى بإسناده، ونبين وهيه وسقوطه.
وروي أيضا نحو عشر قضايا، فيها العمل بما يظن أنه قياس، فإذا حقق لم يصح أنه قياس، منها صحيح السند، ومنها ساقط السند، ويروى عنهم أكثر من ذلك وأصح في إبطال القياس نصا.
وأما القول بالعمل التي يقول بها حذاق القياسيين عند أنفسهم، ولا يرون القياس جائزا إلا عليها، فباليقين ضرورة تعلم، أنه لم يقل قط بها أحد من الصحابة بوجه من الوجوه، ولا أحد من التابعين، ولا أحد تابعي التابعين، وإنما هو أمر حدث في أصحاب الشافعي، واتبعهم عليه أصحاب أبي حنيفة، ثم تلاهم فيه أصحاب مالك.
وهذا أمر متيقن عندهم وعندنا، وما جاء قط في شئ من الروايات عن أحد من كل من ذكرنا أصلا، لا في رواية ضعيفة ولا سقيمة، أن أحدا من تلك الاعصار علل حكما بعلة مستخرجة يجعلها علامة للحكم، ثم يقيس عليها ما وجد تلك العلة فيه، مما لم يأت في حكمه نص، وإذا لا يجوز القياس عند جمهور أصحاب القياس إلا على علة جامعة بين الامرين هي سبب الحكم وعلامته، وإلا فالقياس باطل، ثم أيقنوا هم ونحن على أن ليس أحد من الصحابة ولا من تابعيهم، ولا من تابعي تابعيهم نطق بهذا اللفظ، ولا نبه على هذا المعنى، ولا دل عليه ولا علمه، ولا عرفه، ولو عرفوه ما كتموه فقد صح إجماعهم على إبطال القياس بلا شك.
وقد اضطر هذا الامر وهذا البرهان طائفة من أصحاب القياس إلى الفرار من ذكر العلل وتعليل الاحكام جملة، وعن لفظ القياس، ولجؤوا إلى التشبيه والتمثيل والتنظير، وهو المعنى الذي فروا منه بعينه، لانه لا بد لهم من التعريف بالشبه بين الامرين الموجب تسوية حكم ما لم ينص عليه مع ما نص عليه منهما، فكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار، وكمحلل الخمر باسم النبيذ وأكثر ما هي هذه الطائفة فمن أصحاب مالك وأحمد، ومن لم يقلد أحدا من علماء أصحاب الحديث، ومنهم نبذ من أصحاب مالك، ويسير من أصحاب أبي حنيفة، فكيف يستحل من له علم وورع وفرار عن الكذب أن يدعي الاجماع فيما هذه صفته وفي
أمر قد روي عن أصحابه أزيد من عشرين ألف قضية، ليس فيها ما يدل على القياس، إلا قضية واحدة لا تصح، ونحو عشر قضايا يظن أنها قياس، وليست عند التحقيق قياسا، وهم مجمعون معنا على أنه لم يحفظ قط عن أحد من الصحابة قياس في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم).
فإذ ذلك كذلك فنحن نبرأ إلى الله تعالى من كل دين حدث بعده (ص) ولو كان القياس حقا لما أغفل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بيانه العمل به، ثم من الباطل المتيقن أن يكون القياس مباحا في الدين ثم لا يعلمنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أي شئ نقيس ؟ ولا على ما نقيس ؟ ولا أين نقيس ؟ ولا كيف نقيس ؟ فصح أن القياس باطل لا شك فيه.
وأما القول والرأي والاستحسان والاختيار فكثير عنهم رضي الله عنهم جدا، ولكنه لا سبيل إلى أن يوجد لاحد منهم أن جعل رأيه دينا أوجبه حكما، وإنما قالوا إخبارا منهم بأن هذا الذي يسبق إلى قلوبهم، وهكذا يظنون على سبيل الصلح بين المختصمين، ونحو هذا، مع أن أصحاب القياس قد كفونا، ولله الحمد، التعلق بهذا الباب لانهم، نعني حذاقهم ومتكلميهم، مبطلون للرأي والاستحسان إلا أن يكون قياسا على علة جامعة.
وقد أصفق على هذا أكابر المتأخرين من الحنفيين المالكيين وسلكوا في ذلك مسلك الشافعيين، وتركوا طرائق أسلافهم في الاعتماد على الرأي والاستحسان، وقياس التمثيل المطلوب والتشبيه، ولو لم يفعلوا لكان أمرهم أهون مما يظن، لانه لم يبق إلا بالرأي وحده مجردا، والاستحسان المطلق، فليس رأي زيد أولى من رأي عمرو، ولا استحسان زيد أولى من استحسان عمرو.
فحصل الدين - وأعوذ بالله لو كان ذلك - هملا غير حقيقة

وحراما حلالا معا وحقا باطلا معا، وتخليطا فاسدا.
وهذا أبين من أن يغلط فيه من له حس، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بإجماع الامة على تقديم أبي بكر إلى الخلافة، وأن ذلك قياس على تقديم النبي (صلى الله عليه وسلم) له إلى الصلاة، وأن عمر قال للانصار: ارضوا لامامتكم من رضيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لصلاتكم وهي عظم دينكم.
قال أبو محمد: وهذا من الباطل الذي لا يحل، ولو لم يكن في تقديم أبي بكر حجة إلا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد استخلف عليا على المدينة في غزوة تبوك.
وهي آخر غزواته عليه السلام.
فقياس الاستخلاف على الاستخلاف اللذين يدخل فيهما الصلاة والاحكام أولى من قياس الاستخلاف على الصلاة وحدها.
فإن قالوا: إن استخلاف النبي (صلى الله عليه وسلم) أبا بكر هو آخر فعله.
قيل لهم وبالله تعالى التوفيق، إن عليا لم ينحط فضله بعد أن استخلفه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على المدينة في غزوة تبوك.
بل زاد خيرا بلا شك.
فلم يكن استخلاف النبي (صلى الله عليه وسلم) أبا بكر على الصلاة لاجل نقيصة حدثت في علي، لم تكن فيه إذ استخلفه على تبوك.
كما لم يكن استخلافه عليه السلام عليا على المدينة في عام تبوك لانه كان أفضل من أبي بكر، فليس استخلاف أبي بكر على الصلاة حاطا لعلي.
وإنما العلماء في خلافة أبي بكر على قولين: أحدهما أن النبي (صلى الله عليه وسلم) نص عليه، وولاه خلافته على الامة وأقامه بعد موته مقامه (صلى الله عليه وسلم) في النظر عليه ولها، وجعله أميرا على جميع المؤمنين بعد وفاته (صلى الله عليه وسلم).
وهذا هو قولنا الذي ندين الله تعالى به.
ونلقاه إن شاء الله تعالى - عليه مقرونا منا بشهادة التوحيد.
وحجتنا الواضحة في ذلك إجماع الامة حينئذ جميعا على أن سموه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولو كانوا أرادوا ذلك أنه خليفة على الصلاة، لكان أبو بكر مستحقا لهذا الاسم في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم)، والامة كلها مجمعة على أنه لم يستحق أبو بكر هذا الاسم في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأنه إنما استحقه بعد موت النبي (صلى الله عليه وسلم)، إذ ولي خلافته على الحقيقة.
وأيضا: فلو كان المراد بتسميتهم إياه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الصلاة، لا على الامة لما كان بهذا الاسم في ذلك الوقت أولى من أبي زهم وابن أم مكتوم وعلي، فكل هؤلاء فقد استخلفه النبي (صلى الله عليه وسلم) على المدينة، ولا من عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، وقد استخلفه (صلى الله عليه وسلم) على مكة، ولا من عثمان بن أبي العاص الثقفي، فقد استخلفه (صلى الله عليه وسلم) على الطائف، ولا من خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس فقد استخلفه عليه السلام على صنعاء.
فلما اتفقت الامة كلها على أنه لا يسمى أحد ممن ذكرنا خليفة رسول الله لا في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا بعد موته يسمى بذلك علي إذ ولي الخلافة، علمنا ضرورة أنه سمي أبو بكر خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لانه استخلفه على الخلافة التامة بعد موته في ولاية جميع أمور الامة وهذا بين.
وبالله تعالى التوفيق.
ومعنى خليفة فعيلة من مخلوف وهذا الهاء للمبالغة، كقولك عقير وعقيرة منقول عن معقورة، فهذا قول.
والقول الثاني: أنه إنما قدمه المسلمون لانه كان أفضلهم، وحكم الامامة أن يكون في الافضل.
واحتجوا بامتناع الانصار في أول الامر، وبقول عمر: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن لا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني، يعني النبي (صلى الله عليه وسلم).

قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، بل بعضه عائد عليهم، لان الانصار لم يكونوا ليتركوا رأيهم، وهم أهل الدار والمنعة السابقة، الذين لم يبالوا بمخالفة أهل المشرق والمغرب، وحاربوا جميع العرب حتى أدخلوهم في الاسلام طوعا وكرها، إلا لنص من النبي (صلى الله عليه وسلم) لا لرأي أضافهم النزاع إليهم من المهاجرين.
وأما قول عمر فظن منه، وقد قال رضي الله عنه، إذ بشره ابن عباس عند موته بالجنة: والله إن علمك بذلك يا ابن عباس لقليل فخفي عليه شهادة النبي (صلى الله عليه وسلم) بالجنة، مع ما في القرآن من ذلك لاهل الحديبية، وهم منهم فهكذا خفي عليه نص النبي (صلى الله عليه وسلم) على أبي بكر، وهذا من عمر مضاف إلى ما قلنا آنفا، ومضاف إلى قول يوم مات النبي (صلى الله عليه وسلم).
والله ما مات رسول الله، وإلى قوله يوم أراد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يكتب في مرضه الذي مات فيه.
كما حدثنا حمام بن أحمد، ثنا عبد الله بن إبراهيم، ثنا أبو زيد المروزي، ثنا محمد بن يوسف، ثنا البخاري، ثنا يحيى بن سليمان الجعفي، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: لما اشتد برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجعه قال: ائتوني بكتاب اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي، فقال عمر: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، فقال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع.
فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه.
وحدثناه عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، أنا محمد بن منصور، عن سفيان الثوري، سمعت سليمان - هو الاحول - عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فذكر الحديث وفيه: إن قوما قالوا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في ذلك اليوم، ما شأنه ؟ هجر.
قال أبو محمد: هذه زلة العالم التي حذر منها الناس قديما، وقد كان في سابق علم الله تعالى أن يكون بيننا الاختلاف، وتضل طائفة وتهتدي بهدى الله أخرى.
فلذلك نطق عمر ومن وافقه بما نطقوا به، مما كان سببا إلى حرمان الخير بالكتاب الذي لو كتبه لم يضل بعده، ولم يزل أمر هذا الحديث مهما لنا وشجى في نفوسنا، وغصة نألم لها، وكنا على يقين من أن الله تعالى لا يدع الكتاب الذي أراد نبيه (صلى الله عليه وسلم) أن يكتبه، فلن يضل بعده دون بيان، ليحيا من حي عن بينة، إلى أن من الله تعالى بأن أوجدناه فانجلت الكربة، والله المحمود.
وهو ما حدثناه عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا عبيد الله بن سعيد، ثنا يزيد بن هارون، ثنا إبراهيم بن سعد، ثنا صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مرضه: ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل ويأبى الله والنبيون إلا أبا بكر.
قال أبو محمد: هكذا في كتابي عن عبد الله بن يوسف، وفي أم أخرى، ويأبى الله والمؤمنون.
وهكذا حدثناه عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، ثنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام الطرسوسي، ثنا يزيد بن هارون، ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بمثله، وفيه: إن ذلك كان في اليوم الذي بدئ فيه عليه السلام بوجعه الذي مات فيه بأبي هو وأمي.
قال أبو محمد: فعلمنا أن الكتاب المراد يوم الخميس قبل موته (صلى الله عليه وسلم) بأربعة أيام، كما روينا عن ابن عباس يوم قال عمر ما ذكرنا، إنما كان في معنى الكتاب الذي أراد (صلى الله عليه وسلم) أن يكتبه في أول مرضه قبل يوم الخميس المذكور بسبع ليال.
لانه (صلى الله عليه وسلم) ابتدأه وجعه يوم الخميس في بيت ميمونة أم المؤمنين، وأراد الكتاب الذى قال فيه عمر ما قال يوم الخميس بعد ان اشتد به المرض ومات عليه السلام يوم الاثنين، وكانت مدة علته (ص) اثني عشر يوما، فصح أن ذلك الكتاب كان في استخلاف أبي بكر لئلا يقع ضلال في الامة بعده (صلى الله عليه وسلم)، فإن ذكر ذاكر معنى ما روي عن عائشة إذ سئلت من كان رسول الله مستخلفا لو استخلف ؟ فإنما معناه: لو كتب الكتاب في ذلك.
قال أبو محمد: فهذا قول ثان، وقالت الزيدية: إنما استخلف أبو بكر استيلانا للناس كلهم، لانه كان هنالك قوم ينافرون عليا، فرأى علي أن قطع الشغب أن يسلم الامر إلى أبي بكر، وإن كان دونه في الفضل.
قال أبو محمد: وأما أن يقول أحد من الامة: إن أبا بكر إنما قدم قياسا على تقديمه إلى الصلاة فيأبى الله ذلك، وما قاله أحد قط يومئذ، وإنما تشبث بهذا القول الساقط المتأخرون من أصحاب القياس، الذين لا يبالون بما نصروا به أقوالهم، مع أنه أيضا في القياس فاسد، لو كان القياس حقا، لما بينا قبل، ولان الخلافة ليست علتها علة الصلاة، لان الصلاة جائز أن يليها العربي والمولى والعبد، والذي لا يحسن سياسة الجيوش والاموال والاحكام والسير الفاضلة، وأما الخلافة فلا يجوز أن يتولاها، إلا قرشي صليبة، عالم بالسياسة ووجوهها.
وإن لم يكن محكما للقراءة.
وإنما الصلاة تبع للامامة، وليست الامامة تبعا للصلاة، فكيف يجوز عند أحد من أصحاب القياس أن تقاس الامامة التي هي أصل، على الصلاة التي هي فرع من فروع الامامة ؟ هذا ما لا يجوز عند أحد من القائلين بالقياس.
وقد كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم أكابر المهاجرين، وفيهم عمرو وغيره أيام النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يكن ممن تجوز له الخلافة، فكان أحقهم بالصلاة، لانه كان أقرأهم، وقد كان أبو ذر، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وابن مسعود أولى الناس بالصلاة إذا حضرت، إذا لم يكونوا بحضرة أمير أو صاحب منزل، لفضل أبي ذر وزهده وورعه وسابقته، وفضل سائر من ذكرنا وقراءتهم ولم يكونوا من أهل الخلافة، ولا كان أبو ذر من أهل الخلافة، ولا كان أبو ذر من أهل الولايات ولا من أهل الاضطلاع بها.
وقد قال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): يا أبا ذر إني أحب لك ما أحب لنفسي وإنك ضعيف، فلا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم وقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وأسامة بن زيد على من هو أفضل منهم وأقرأ، وأقدم هجرة وأفقه وأسن، وهذه هي شروط الاستحقاق للامامة في الصلاة، وليست هذه شروط الامارة.
وإنما شروط الامارة حسن السياسة، ونجدة النفس، والرفق في غير مهانة، والشدة في غير عنف، والعدل والجود بغير إسراف، وتمييز صفات الناس في أخلاقهم وسعة الصدر، مع البراءة من المعاصي، والمعرفة بما يخصه في نفسه في دينه، وإن لم يكن صاحب عبارة، ولا واسع العلم، ولو حضر عمرو وخالد وأسامة مع أبي ذر - وهم غير أمراء - ما ساغ لهم أن يؤموا تلك الجماعة، ولا أن يتقدموا أبا ذر ولا أبي بن كعب.
ولو حضروا في مواضع يحتاج فيها إلى السياسة في السلم والحرب لكان عمرو وخالد وأسامة أحق بذلك من أبي ذر وأبي ولما كان لابي ذر وأبي من ذلك حق مع عمرو وخالد وأسامة.
وبرهان ذلك استعمال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خالدا وأسامة وعمرا دون أبي ذر وأبي، وأبو ذر وأبي أفضل من عمرو وأسامة وخالد بدرج عظيمة جدا.
وقد حضر الصحابة يوم غزوة مؤتة فقتل الامراء وأشرف المسلمون على الهلكة، فما قام منهم أحد مقام خالد بن الوليد، كلهم، إلا الاقل، أقدم إسلاما وهجرة ونصرا، وهو حديث الاسلام يومئذ، فما ثبت أحد ثباته، وأخذ الراية ودبر الامر، حتى انحاز بالناس أجمل انحياز، فليست الامامة والخلافة من باب الصلاة في ورد ولا صدر، فبطل تمويههم بأن خلافة أبي بكر كانت قياسا على الصلاة أصلا.
فإن قالوا: لو كانت خلافة أبي بكر منصوصا عليه من النبي صلى الله عليه وسلم ما اختلفوا فيها ؟.
قال أبو محمد: فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق: هذا تمويه ضعيف لا يجوز إلا على جاهل بما اختلف فيه الناس، وهل اختلف الناس إلا في المنصوصات.
والله العظيم - قسما برا - ما اختلف اثنان قط فصاعدا في شئ من الدين إلا في منصوص بين في القرآن والسنة، فمن قائل: ليس عليه العمل، ومن قائل: هذا تلقى بخلاف ظاهره، ومن قائل: هذا خصوص، ومن قائل: هذا منسوخ.
ومن قائل: هذا تأويل، وكل هذا منهم بلا دليل في أكثر دعواهم كاختلافهم في وجوب الوصية لمن لا يرث من الاقارب والاشهاد في البيع، وإيجاب الكتابة، وقسمة الخمس، وقسمة الصدقات وممن تؤخذ الجزية، والقراءات في الصلوات والتكبير فيها، والاعتدال، والنيات في الاعمال والصوم، ومقدار الزكاة وما يؤخذ فيها المتعة في الحج، والقرآن والفسخ، وسائر ما اختلف الناس فيه، وكل ذلك منصوص في القرآن والصحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
فعلى هذا وعلى النسيان للنص كان اختلاف من اختلف في خلافة أبي بكر.
وأما الانصار فإنهم لما ذكروا، وكان قبل ذلك قد نسوا، حتى قال
قائلهم: منا أمير ومنكم أمير، ودعا بعضهم إلى المداولة، وبرهان ما قلنا أن عبادة بن الصامت الانصاري روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أن الانصار بايعوه على ألا ينازعوا الامر أهله، وأنس بن مالك الانصاري روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أن الائمة من قريش.
فبهذا ونحوه رجعت الانصار عن رأيهم، ولا ذلك ما رجعوا إلى رأي غيرهم، ومعاذ الله أن يكون رأي المهاجرين أولى من رأي الانصار، بل النظر والتدبير بينهم سواء، وكلهم فاضل سابق.
وقد قال عمر يوم مات النبي (صلى الله عليه وسلم): والله ما مات رسول الله، وهو يحفظ قول الله عزوجل: * (إنك ميت وإنهم ميتون) * فلما ذكر بها خر مغشيا عليه، وهكذا عرض للانصار.
وقد روينا ذلك نصا.
كما حدثنا عبد الله بن ربيع، نا عبد الله بن محمد بن عثمان الاسدي، نا أحمد بن خالد، نا علي بن عبد العزيز، نا الحجاج بن المنهال، ثنا أبو عوانة، عن داود بن عبد الله الاودي، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري - فذكر حديث وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - قال: فقال رجال أدركناهم - فذكر باقي الحديث - وفيه، أن أبا بكر قال: وقد علمت يا سعد أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال وأنت قاعد: إن الائمة من قريش، والناس برهم تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم قال: صدقت أو قال: نعم.

قال أبو محمد: ومن أعاجيب أهل القياس: أنهم في هذا المكان يحتجون بأن إمامة أبي بكر كانت قياسا لا نصا، ثم نسوا أنفسهم - أو تناسوا عمدا ؟ فإذا أرادوا إثبات التقليد للمصاحب قالوا: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر.
قال أبو محمد: وهذا اعجب ما شئت منه فإن كان هذا الحديث صحيحا فقد صح النص من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على خلافة أبي بكر بعده، ثم على خلافة عمر بعد أبي بكر، وبطل قولهم: إن بيعة أبي بكر كانت قياسا على صلاته بالناس، وإن كان هذا الحديث لا يصح فلم احتجوا به في تقليد الامام من الصحابة ؟ أفيكون أقبح من هذه المناقضات بما يبطل بعضه بعضا ؟ ولكن إنما شأن القوم نصر المسألة التي يتكلمون فيها بما أمكن، من حق أو باطل أو ضحكة، أو بما يهدم عليهم سائر مذاهبهم، ليوهموا من بحضرتهم من المغرورين بهم أنهم غالبون فقط، فإذا تركوها وأخذوا في غيرها، لم يبالوا أن ينصروها أيضا بما يبطل قولهم في المسألة التي تركوا، وهكذا أبدا ونعوذ بالله من الخذلان.
واحتجوا بأن أبا بكر قاتل أهل الردة مع جميع الصحابة قياسا على منع الصلاة، واحتجوا في ذلك بما روي من قوله: لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، حتى إن بعض أصحاب القياس قال: على هذا عول أبو بكر، لا على الآية التي في براءة.
قال أبو محمد: وهذا من الجرأة واستحلال الكذب، ونسب الضلال إلى أبي بكر بحيث لا مرمى وراءه، ومن نسب هذا إلى أبي بكر فقد نسب إليه الضلالة، وقد أعاذه الله من ذلك، وبيان كذبهم في هذا الاعتراض أوضح من كل واضح لان أبا بكر لم يقل لاقاتلنهم لانهم فرقوا بين الصلاة والزكاة وإنما قال: لاقاتلن المفرقين بين الصلاة والزكاة، وإنما فعل ذلك - بلا شك - وقوفا عند إلزام الله تعالى لنا وللمسلمين قديما وحديثا إذ يقول تعالى: * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) * فلم يبح الله تعالى لنا ترك سبيلهم إلا بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، فهذا الذي حمل أبا بكر على قتالهم لا ما يدعونه من الكذب المفضوح من القياس الذي لا طريق له ههنا.

وصدق أبو بكر في إيجابه قتال من فرق بين الصلاة والزكاة، لان نص الله تعالى عليهما سواء، وليست إحداهما أصلا والاخرى فرعا فيجب قياس الفرع على الاصل.
وهذا تخليط ما شئت منه ولو اتعظوا بهذا القول من أبي بكر، فلم يفرقوا ما ساوى النص بينه، لكان أولى بهم، لكنهم لم يفعلوا، بل قالت طائفة منهم، الزكاة تجزئ إلا بنية، والصلاة لا تجزئ الا بنية والصلاة تلزم العبد، والزكاة لا تلزمه وإن كان ذا مال.
وأما في سائر النصوص فلا يبالون أن يقولوا في بعض النص: هذا مخصوص، وفي بعضه: هذا عموم، وفي بعضه: هذا واجب، وفي بعضه هذا ندب، ومثل هذا لهم كثير.
وقد عارض الصحابة أبا بكر بقول النبي (صلى الله عليه وسلم): أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.
قال أبو محمد: ونسبوا - رضي الله عنهم - الآية التي ذكرنا آنفا في براءة، وكلهم قد سمعها لانها في سورة براءة التي قرئت على الناس كلهم في الموسم في حجة أبي بكر سنة تسع.
وفي الجملة أيضا أبو هريرة وابن عمر، وكلاهما قد روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الامر بقتال الناس حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، كما حدثنا ابن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا أبو غسان مالك بن عبد الواحد المسمعي، ثنا عبد الملك ابن الصباح، عن شعبة، عن واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله.
قال مسلم: وحدثنا أمية بن بسطام، ثنا يزيد بن زريع، نا روح، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.
قال أبو محمد: فلولا هذه النصوص من القرآن وكلام النبي (صلى الله عليه وسلم) ما ترك الصحابة الحديث الذي تعلقوا به، ولكن ليس كل أحد يحضره في كل حين ذكر كل ما عنده، واحتجوا بإجماع الامة على استخلاف إمام إذا مات إمام ولا نص على المستخلف.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لان النص قد صح بطاعة أولي الامر منا، وجاءت الآثار الصحاح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بوجوب الطاعة للائمة ولزوم البيعة، وهذا ما يوجب استخلاف إمام إذا مات الامام، فهو نص صحيح على وجوب الاستخلاف لمن يوثق بدينه ويقوم بأمور المسلمين من قريش، نصوصا بينة على وجوب العدل على الامام، والرفق بالرعية، والنصح لهم، فصفات الامام منصوصة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بينة واضحة.
فمن كانت فيه تلك الصفات فقد نص على تقديمه وإفراده بالامر ما عدل.
كالامر بالعتق، ولا حاجة بنا إلى تسمية المعتق، وإيجاب الاضحية والنسك، ولا حاجة بنا إلى صفة لونها، وهكذا جمع الشريعة، وليت شعري أي مدخل للقياس في هذا ؟ إن هذا الامر كان ينبغي لكل ذي عقل أن يستحي من الاحتجاج بمثله.
واحتجوا بقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لا نبي بعدي قالوا لنا فقولوا إنه يكون بعده رسول، لانه أخبر بأنه لا يكون بعده نبي، ولم يقل لا رسول بعدي.
قال أبو محمد: وهذا جهل مظلم ممكن أتى بهذا، لان هذا من جوامع الكلم التي أوتيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، فلو قال عليه السلام: لا رسول بعدي، لامكن أن يقول بعده نبي، لكن إذ قال: لا نبي بعدي فقد صح أنه لا رسول بعده، لان كل رسول فهو نبي بلا شك.
ولا سبيل إلى وجود رسول ليس نبيا، فبطل هذا التمويه الضعيف على أن هذا كله لو صح لهم كما ادعوه، ومعاذ الله من ذلك، لما كان من شئ منه دليل على قياس التين على البر، ولا على وجوب القياس في الشرائع، فكيف وكل ما أوتوا به عليهم هو لا لهم، والحمد لله رب العالمين.
وقد حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن، ثنا وهب بن مسرة، ثنا ابن وضاح، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن إدريس الاودي، عن المختار بن فلفل، عن أنس قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): إن النبوة والرسالة قد انقطعت فجزع الناس، فقال: قد بقيت مبشرات، وهن جزء من النبوة.
قال أبو محمد: واحتجوا بأن الحائض إنما أمرت بالتيمم إذ عدمت الماء في السفر قياسا على الجنب.
قال أبو محمد: هذا تمويه ضعيف، ومعاذ الله أن نأمر الحائض بذلك قياسا، بل بالنص، وهو قوله تعالى إذ أمر باعتزال الحيض حتى يطهرن: * (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله) * فأمرهن الله تعالى بالطهور جملة، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): جعلت لي الارض مسجدا وطهورا فالتراب طهور، والماء طهور بالنص، وفسر الاجماع أن التراب لا يستعمل ما دام يوجد الماء لغير المريض، أو من أوجبه له النص، فدخلت الحائض في هذا النص، ولقد كان ينبغي لمن فرق بين الحائض والجنب فيما أباح لها من قراءة القرآن، ومنعه الجنب من ذلك،
أن يعلم أنه ترك القياس.
واحتجوا أيضا بإيجاب الزكاة في الجواميس، وأنه إنما وجب ذلك قياسا على البقر.
قال أبو محمد: وهذا شغب فاسد، لان الجواميس نوع من أنواع البقر، وقد جاء النص بإيجاب الزكاة في البقر، والزكاة في الجواميس، لانها بقر، واسم البقر يقع عليها.
ولولا ذلك ما وجدت فيها زكاة، وكذلك البخت والمهاري والفوالج، هي أنواع من الابل، وكذا الضأن والماعز يقع عليها اسم الغنم.
وقد قال بعض الناس: البخت ضأن الابل، والجواميس ضأن البقر، وقد رأينا الحمر المريسية، وحمر الفجالين، وحمر الاعراب المصامدة نوعا واحدا وبينها من الاختلاف أكثر مما بين الجواميس وسائر البقر، وكذلك جميع الانواع.
واحتجوا بأن الناس قاسوا على ذي الحليفة، وأنهم قاسوا ذات عرق على قرن.
قال أبو محمد: وهذا كذب وباطل، لان الحديث في توقيت ذات عرق لاهل العراق مشهور ثابت مسند لا يجهله من له بصر بالحديث.
حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن إسحاق بن السليم القاضي، ومحمد بن معاوية، قال ابن إسحاق، ثنا أبو سعيد الاعرابي، ثنا سليمان بن الاشعث، ثنا هشام بن بهرام، وقال ابن معاوية: ثنا أحمد بن شعيب، أخبرني محمد بن عبد الله عمار، ثنا أبو هاشم محمد بن علي، قال بهرام: ثنا المعافى بن عمران، وقال أبو هاشم: عن المعافى بن عمران، ثم اتفقا: عن أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقت لاهل العراق ذات عرق.
قال أبو محمد: هشام بن بهرام ثقة، والمعافى ثقة جليل، وأفلح بن حميد كذلك، وأما قياسهم على ذي الحليفة فهذيان لا يدرى ما هو ؟ ولا ماذا قيس عليه ؟ والمواقيت مختلفة، فمنها ذو الحليفة على عشر ليال، ومنها الجحفة على ثلاث ليال،
ومنها قرن على أكثر من ليلة، ومنها يلملم على ليلة، فعلى أي هذا يقاس ؟ إن هذا لامر لا يفهمه إلا ذو لب ؟.
واحتجوا بما روي من قول ابن عمر: فعدل الناس بصاع من شعير مدين من بر.
قال أبو محمد: وهذا من طرائف ما احتجوا به لان المحتج بهذا إن كان مالكيا أو شافعيا فهو مخالف لهذا الاجماع عنده، ومن أقر على نفسه بأنه مخالف للاجماع فأقل ما عليه اعترافه بأنه مخالف للحق، ثابت على الباطل غير تائب عنه، وهذا فسق مجرد.
ومن أعجب العجب احتجاج المرء بما لا يراه حجة ولكن هذا غير بديع منهم فهذا أبو حنيفة يحتج أن الخيار لا يكون إلا ثلاثة أيام لا أكثر، بحديث المصراة، فإذا قيل له فهذا الذي تحتج به أتأخذ به ؟ قال: لا.
وهذا مالك احتج في تضمين القائد والسائق ما تجنيه الدابة المسوقة والمقودة، بأن عمر غرم بني سعد بن ليث نصف دية رجل من جهينة، أصاب أصبعه رجل من بني سعد بن ليث، كان يجري فرسه فمات الجهني، فإذا سئل أتبدي المدعى عليهم في هذا المكان كما فعل عمر ؟ قال: لا يجوز ذلك، وإذا قيل له: أتغرم المدعى عليهم بغير أن يحلف المدعون كما فعل عمر في هذا المكان ؟ قال: لا يجوز ذلك، وإذا قيل له: أتقتصر في هذا المكان على نصف الدية كما فعل عمر ؟ قال: لا يجوز ذلك، وإذا قيل له: أتجعل ما جنى الذي يجري فرسه على عاقلته في هذا المكان كما فعل عمر ؟

قال: لا يجوز ذلك، ثم يجعل هذا الحديث نفسه حجة في تضمين القائد والسائق قياسا على الراكب وهذا عجب عجيب.
ثم تلاه في ذلك ابن الجهم، فاحتج أنه لا يجزئه من ذبح الهدي أو الاضحية ليلا بالنهي عن حصاد الليل وجذاذه، فإذا قيل له: أتمنع من حصاد الليل
وجداده ؟ قال: لا، فهو يخالف ما أقر أنه حجة فيما ورد فيه، ويحتج به فيما ليس منه في ورد ولا صدر.
ثم تلاه في ذلك ابن أبي زيد، فاحتج في مخالفته نهي النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الصلاة على القبر بصلاته (صلى الله عليه وسلم) على قبر المسكينة السوداء رضي الله عنها.
فإذا سئل: أتأخذ بصلاته (صلى الله عليه وسلم) على قبر المسكينة السوداء ؟ قال: لا.
قال أبو محمد: وهذا كثير منهم جدا، كاحتجاج المالكيين في شق زقاق الخمر، وكسر أوانيها بالحديث الوارد في إحراق رجل الغال، فإذا قيل لهم: أتحرقون رجل الغال ؟ قالوا: لا.
وقد رأيت لرجل منهم يدعى الابهر، ويكنى بأبي جعفر احتجاجا أن الصداق لا يكون أقل من ثلاثة دراهم بحديث رواه: إن الصداق لا يكون أقل من عشرة دراهم.
ومثل هذا من نوادرهم كثير، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم نرجع إلى ما احتجوا به من قول ابن عمر: فعدل الناس بصاع من شعير نصف صاع بر فأول ذلك أن ابن عمر الذي يروون عنه هذا القول لا يرضى به ولا يقول به.
حدثنا أحمد بن محمد الجسور، ثنا أحمد بن مطرف، نا عبد الله بن يحيى، نا أبي، ثنا مالك عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان لا يخرج في زكاة الفطر إلا التمر مرة واحدة، فإنه أخرج شعيرا.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، نا عبد الله بن نصر الزاهد، نا قاسم بن أصبغ، ثنا ابن وضاح، نا موسى بن معاوية، نا وكيع بن عمران بن حدير، عن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: إن الله تعالى قد أوسع والبر أفضل من التمر، قال: إن أصحابي سلكوا طريقا فأنا أحب أن أسلكه.
حدثنا أحمد بن عمر بن أنس، نا عبد الله بن حسين بن عقال، نا إبراهيم بن محمد الدينوري، نا ابن اجهم، نا معاذ بن المثنى، نا مسدد، نا إسماعيل بن إبراهيم، نا محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام، عن عياض ابن سعد قال: ذكرت لابي سعيد الخدري صدقة الفطر، فقال: لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم): صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاع زبيب أو صاع أقط، فقلت له: أو مدين من قمح ؟ قال: لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها، ولا أعمل بها.
قال أبو محمد: أفيكون أعجب ممن يدعى الاجماع على قول يقول به ابن عمر أن الصحابة على خلاف ذلك الاجماع كما ذكرنا، وإنه لا يخرج البر أصلا اتباعا لطريق أصحابه ثم يقول أبو سعيد: تلك قيمة معاوية، لا أقبلها ولا أعمل بها فأين الاجماع لولا الجنون وقلة الدين.
ومن طرائف الدهر قول الطحاوي ههنا: إنما أنكر أبو سعيد المقوم لا القيمة فيكون أعجب من هذه المهاجرة وهو يذكر أنه قال أبو سعيد - وقد ذكر القيمة - لا أقبلها ولا أعمل بها، فهل ضمير المؤنث راجع إلى القيمة ؟ وهذا ما لا يشك فيه ذو بصر بشئ من مخاطبات الناس، ولكن الهوى يعمي ويصم.
حدثنا أحمد بن عمر العذري، ثنا عبد الله بن حسين بن عقال، ثنا إبراهيم بن محمد الدينوري، ثنا محمد بن أحمد بن الجهم، ثنا موسى بن إسحاق الانصاري، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الاسود، عن عائشة أم المؤمنين قالت: كان الناس يعطون زكاة رمضان نصف صاع، فأما إذا وسع الله تعالى على الناس فإني أرى أن يتصدق بصاع.
فصح بما ذكرنا أن قول ابن عمر وعائشة فعدل الناس بذلك مدين من بر إنما هو على الانكار لفعل من فعل ذلك وبرهان هذا ثبات ابن عمر وعائشة على صاع صاع، لا على ما ذكروا من عمل الناس، فلو كان عمل الناس عندهما حقا لما وسعهما خلافه، فبطل تمويههم، وبالله تعالى التوفيق.
مع أن عائشة لم تقل نصف صاع من بر، ولعلها عنت من لا يجد أكثر من نصف صاع شعير، إلا أنه لا شك أن ما حكته من فعل الناس في ذلك لم يكن عندها حجة، ولا عملا مرضيا، ولكن كقولها، إذا أمرت هي وأمهات المؤمنين أن يخطر على حجرهن بجنازة سعد، فأنكر الناس ذلك، فقالت: ما أسرع الناس إلى إنكار ما لاعلم لهم به.
وقالوا: وقد وجدنا مسائل مجمع عليها ولا نص فيها، فصح أنها قياس.
قال أبو محمد: قد ذكرنا هذه المسألة في باب الاجماع من ديواننا هذا وتكلمنا عليها، وبيناها - بعون الله تعالى - غاية البيان، وأرينا البراهين الضرورية، على أن ذلك لا يجوز البتة، وأنها إنما هي أحوال كانت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأقر بها وقد علمها.
ومن ذلك القراض، وليس ههنا شئ يقاس عليه جواز القراض، بل القياس يمنع من جوازه، لانه إجازة إلى غير أجل، وعلى غير عمل موصوف، وبأجرة فاسدة، وربما لم يأخذ شيئا فضاع عمله، وربما أخذ قليلا أو كثيرا، وهكذا القول في سائر الاجماعيات من المسائل.
مع أن قولهم: إنها عن قياس، خبر كاذب، ودعوى بلا دليل، والبرهان قد قام على أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد بين جميع واجبات الاسلام وحلاله وحرامه، فكل ما أجمع عليه فعن الرسول وبيانه بلا شك، هذا هو اليقين، إذ لا يجوز إجماع الناس على شريعة لم يأت بها نص، فبطل أن يكون قياس وبالله تعالى التوفيق.
واعترضوا ههنا على من أجاب من أصحابنا في هذه المسألة بأن قال: الناس مختلفون في القياس بلا شك، فكيف يجوز أن يجمعوا على ما اختلفوا فيه ؟ وهذا تخليط ظاهر.
قال أبو محمد: وهذا جواب صحيح عياني، لا مجال للشك فيه، فاعترض بعض أصحاب القياس فيه بأن قال لنا: إنكم تجيزون الاجماع عن سنن كثيرة أتت في أخبار الآحاد، وقد علمتم أن أخبار الآحاد مختلف في قبولها، وهذا هو الذي أنكرتم.
قال أبو محمد: وهذا تمويه ضعيف منحل ظاهر الانحلال، لاننا لم ندع إجماع الناس على ما اختلفوا عليه من قبول خبر الواحد وإنما قلنا ونقول: إن الامة كلها مجمعة على قبول ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا خلاف بين أحد ممن ينتمي إلى الاسلام في ذلك من جميع الفرق أولها عن آخرها، ثم اختلفوا في الطريق المؤدية إلى معرفة صحة ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقلنا نحن: خبر الواحد العدل من جملة ذلك.
وقال آخرون: ليس من جملة ذلك، ثم تأتي سنن قلنا نحن: صحت عندنا من طريق من الآحاد، وقال من خالفنا، إنما صحت عندنا من طريق التواتر، ولو لم تأت إلا من طريق الآحاد فقط ما أخذنا بها.
فهذه الصفة النقل هو الذي اتفق الناس كلهم من المسلمين على قبوله، وأجمعوا على الاخذ به، كإجماع الناس على أن في خمس من الابل شاة، وعلى أن فيما سقي بالنضح من القمح والشعير نصف العشر، وسائر ما أجمعوا عليه من آيات النبوة التي جاءت من طريق الكافة، وجاءت أيضا من طريق الآحاد، وليس هكذا أمر القياس الذي ادعوه.
ولكنا لا ننكر أن تأتي مسائل تستوي في حكم القياس على أصولهم، وقد صح بها نص أو إجماع أيضا، فأخذنا نحن بها، لان النص أتى بها، أو لانها إجماع ولم نبال وافقت القياس أو خالفته.
وأيضا فإن من ينكر القياس ينكره على كل حال، وبكل وجه، وفي كل وقت، وليس في فرقة من فرق المسلمين أحد ينكر الخبر جملة، بوجه من الوجوه، بل كلها مجمعة - بلا خلاف - عن أن الديانة لا تعرف إلا بالخبر، وإنما أنكرت طوائف خبر الواحد وقالت بخبر التواتر.
وقال آخرون بالخبر المشتهر، وقال آخرون بخبر الواحد العدل، فالفرق بين ما أنكرنا وبين ما نظروه به بين واضح، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بإيجاب التحرير على المسئ قالوا: وهذا قياس.
قال أبو محمد: وهذا من ذلك المرار، ليت شعري على أي شئ قيس التعزير إن كانوا إنما قالوا به قياسا ؟ وأما نحن فإنما قلنا به للنص الوارد في ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ألا يجلد أحد في غير حد أكثر من عشر جلدات، وأما السجن فإنما هو منع المسجون من الاذى للناس، أو من الفرار بحق لزمه، وهو قادر على أدائه فقط، وهذا وقع تحت قوله تعالى: * (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) * وله حد لا يتجاوز، وهو توبة المسجون وإقلاعه أو خروجه عما لزمه من الحق، أو موته إن فعل به ذلك قصاصا.
واحتجوا أيضا بالتوجه إلى القبلة عند المعاينة، فإذا غبنا عنها فبالاجتهاد.
قال أبو محمد: وهذا من ذلك التخليط، وليس ههنا شئ قيس عليه ذلك بوجه من الوجوه، ولا هو أيضا موكول إلى الرأي، ولا إلى الاستحسان، ولكنه نص من الله تعالى إذ يقول * (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * فأما وصولنا إلى معرفة جهة القبلة فبالدليل الذي أنكروه علينا، ولم يعرفوا ما هو وظنوه قياسا، وهذه مسألة يلوح فيها، لمن له أدنى حس، الفرق بين الدليل والقياس، لان جهة طلب القبلة ليس قياسا أصلا، ولا ههنا شئ يقاس عليه، ولا هو موكول إلى رأي كل إنسان، فيستقبل أي جهة شاء، ولا إلى استحسانه، فصح أنه يتوصل إلى ذلك بدليل ليس رأيا ولا قياسا ولا استحسانا، وإنما كان يكون قياسا إذا خفيت عنا الكعبة توجهنا إلى بيت المقدس قياسا عليها، لانها قد كانت أيضا قبلة، أو إلى المدينة، وهذا كفر من قائله، وهذا نحو قولكم لما حرم البر بالبر نسيئة حرمنا التبن بالتبن نسيئة، وإنما الدليل على جهتها مطالع الكواكب والشمس ومعرفة نسبة العرض من الطول.
وقالوا أيضا: قد أسقطتم الزكاة عن الثياب، قياسا على سقوطها عن الحمير وتركتم أخذ الزكاة من الثياب بعموم قول الله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة) * وقوله تعالى: * (وآتوا الزكاة) *.
قال أبو محمد: وكذبوا في ذلك ما شاؤوا، ومعاذ الله أن نترك أخذ الزكاة من الثياب قياسا على الحمير، ولكن لما كانت الآيتان المذكورتان لم ينص عزوجل فيهما على مقدار ما يؤخذ في الزكاة، ولا متى يؤخذ، لم يحل لاحد العمل بما لم يبين له، إذ لا يدري أيأخذ الاقل أو الاكثر، أو كل يوم أو كل شهر أو كل سنة أو مرة من الدهر، ووجب عليه طلب بيان الزكاة في نص آخر، فوجدناه (صلى الله عليه وسلم) قد قال: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام قال هذا في حجة الوداع، بعد نزول: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * بيقين وبعد نزول * (خذ من أموالهم صدقة) * بيقين لا شك فيه عند أحد من المسلمين، لان هاتين الآيتين نزلتا في صدر الهجرة، فوجب بهذا النص أن لا يؤخذ من مال أحد شئ إلا بنص على ما أخذه باسمه، فما نص (صلى الله عليه وسلم) في واجب أخذه في الزكاة وجب قبوله، وما لم ينص على وجوبه فلا يحل أخذه لاحد، فهكذا سقطت الزكاة عن الثياب والعروض كلها على كل حال.
وأيضا فقد قال (صلى الله عليه وسلم): ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر
صدقة ودون في لغة العرب بمعنى: غير، وبمعنى أقل، قال تعالى: * (من دون الله أولياء) * يريد من غير الله، فوجب بهذا الحديث أن لا يؤخذ شئ من غير التمر والحب إلا ما جاء النص على وجوب أخذه بعينه واسمه وليس حمل لفظه دون على بعض ما تقتضيه أولى من حملها على كل ما تقتضيه.
وأيضا: فإن سقوط الزكاة عن الثياب المتخذة لغير التجارة إجماع لا خلاف فيه من أحد، والاجماع الانقياد وكان يلزمهم، وهو الموجبون لاستعمال القياس والتدين به، أن يوجبوا الزكاة في الثياب، قياسا على وجوبها في القمح والتمر والذهب والفضة، لان هذا كله موات لا حيوان، فالثياب بالذهب والفضة والقمح والتمر أشبه منها بالحمير، وليت شعري ما الذي أوجب عندهم قياس الثياب على الحمير، دون أن يقيسوها على الغنم والابل، فيوجبوا فيها الزكاة ؟ لان الثياب لا تكون إلا من جلود أو نبات، إلا من شذ كالحرير، وهو أيضا من حيوان، فقياسها على ما هي مأخوذة منه أولى من قياسها على ما لا شبه بينها وبينه.
هذا إن كان القياس حقا بل ههنا قياس هو أقرب وأشبه على أصولهم، وهو قياس المنتقاة على الثياب المتخذة للتجارة، وكما أوجب المالكيون الزكاة في غير السائمة قياسا على السائمة، وكما قالوا: يجمع بين الذهب والفضة في غير التجارة، كما يجمع بينهما في التجارة وبين سائر العروض المتخذة للتجارة، فبطل تمويههم والحمد لله رب العالمين.
واحتجوا أيضا بوجوب الزكاة في الذهب، وقالوا: هو قياس على الفضة.
قال أبو محمد: وهذا في الفساد كالذي قبله، لان الخبر في زكاة الذهب ووجوب حق الله تعالى فيه، أشهر من أن يجهله ذو علم بالآثار، ثم اختلف العلماء فقالت طائفة: بيان المأخوذ منه مرجوع فيه إلى الاجماع، إذ لم يصح فيه أثر فما أجمع المسلمون على وجوب تزكيته من الذهب قلنا به، وما اختلفوا فيه لم نوجبه إلا بنص،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق