Translate ***

الخميس، 5 أبريل 2018

علة الرواية بالفهم البشري للراوي٦. مواقع متعددة


6.علة الرواية بالفهم البشري للراوي٦.

قلت المدون أما تداعياته فهي

1.تنحية القصد الالهي تماما من دلالته

2.إظهار القصد البشري وتخبية القصد الالهي

3.تغيير الشرائع بتعمده

4.هو خطيئة بكل المقاييس

5.مثال ذلك فهم محمد بن عبد الرحمن مولي طلحة أن الطلاق لا يكون الا في طهر أي طهر فروي حديث تطليق الحامل في حملها لأنها في طهر حسبما فهم هو وخالف محمد ابن عبد الرحمن نص اية العدة بالنسبة للحامل هي أن أجلها أن تضع حملها رغم أن الحامل بعد الوضع تكون في نفاث الولادة {يعني في دم حيض نفاث}  

اشتراط الضبط في راوي الحديث 

المطلب الأول: تعريف الضبط لغة واصطلاحًا:

 

الضبط لغة: تدل كلمة الضبط في اللغة على عدة معان، 

1.فتأتي بمعنى لزوم شيء لا يفارقه في كل شيء، فيقال: ضبط الشيء يضبطه من باب ضرب؛ أي: لزمه لزومًا شديدًا، لذا يقال: هو أضبط من الأعمى، وأضبط من نملة[1]. 

والمعنى واضح الدلالة على شدة الملازمة وعدم المفارقة، 

2. وتأتي بمعنى آخر، فيقال: ضبط الشيء إذا حفِظه بالحزم؛ أي: حفِظه حفظًا بليغًا، ومنه قيل: ضبطت البلاد وغيرها: إذا قمت بأمرها قيامًا ليس فيه نقص[2]، ومن المجاز: هو ضابط للأمور، وفلان لا يضبط عمله: لا يقوم بما فوض إليه، ولا يضبط قراءته: لا يحسنها[3]، ومما يدل على عدم الحفظ بالحزم والقوة

3. الضبط في الاصطلاح: ملكة تؤهل الراوي لأن يروي الحديث كما سمعه من غير زيادة ولا نقصان، وأول مَن بيَّنه خيرُ بيان الإمام الشافعي[4] رحمه الله تعالى، فقال: ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورًا؛ منها: أن يكون من حدث به ثقة في دينه، معروفًا بالصدق في حديثه، عاقلًا لما يحدث به، عالِمًا بما يحيل معاني الحديث مِنَ اللفظ، وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدث به على المعنى[5]، لأنه إذا حدث على المعنى وهو غير عالم بما يحيل به معناه، لم يدر لعله يُحيل الحلال إلى الحرام، وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجهٌ يخاف فيه إحالته الحديث، حافظًا إن حدث به من حفظه، حافظًا لكتابه إن حدَّث مِنْ كتابه، إذا شَرِكَ أهلَ الحفظ في حديث وافَق حديثهم، بريئًا من أن يكون مدلسًا، يحدِّث عمن لقِي ما لم يسمع منه، ويحدث عن النبي ما يحدث الثقات خلافه عن النبي[6]. 

وذكر ابن الأثير[7] في مقدمة الجامع أن الضبط عبارة عن احتياط في باب العلم، وله طرفان:   a} العلم عند السماع، 

b} والحفظ بعد العلم عند التكلم، 

=فلو سمع ولم يعلم، 

= أولم يفهم ما سمعه، لم يكن ضابطًا، 

= وكذا إذا شك في الحفظ بعد العلم أو السماع[8]، إذًا: فهذا يعني أنه ليس المقصود بالضبط والإتقان - عند المحدثين - سعة الحفظ وكثرة المحفوظات، وإنما المقصود به التثبُّت، وأن لا يروي الراوي إلا ما حفِظه، وأن يؤديه كما سمعه، وأهل الضبط بهذا المعنى يتفاوتون

وقال الحاكم في ذكر طبقات المجروحين: الطبقة التاسعة من المجروحين: قوم ليس الحديث من صناعتهم، ولا يرجعون إلى نوع من الأنواع العشرة التي يحتاج المحث إلى معرفتها، ولا يحفظون حديثهم، فيجيئهم طالب العلم فيقرأ عليهم ما ليس من حديثهم، فيجيبون ويقرون بذلك وهم لا يدرون[9]. 

والأدلة على اشتراط صفة الضبط في الراوي كثيرة، منها قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 36].

 

 

والمعنى[10]: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعتُ ولم تسمعْ، وعلمت ولم تعلم. ويفهم من هذا أنه على العبد أن يتحقق من الخبر ويضبطه كما سمعه أو رآه أو بأي وسيلة تحمله بها، ثم بعد ذلك يؤديه كما سمعه أو رآه

وفي السنة عن زيد بن ثابت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ)) [11]. 

قلت: أي أدى الخبر كما سمعه، وهذا لا يتحقق إلا بكون الراوي واعيًا ضابطًا لما يسمع حتى يؤدي ما تحمله بدقة وأمانة، وكل دليل يوجب اشتراط العدالة يوجب اشتراط الضبط

قلت: لأن العلة بينهما واحدة، وهي تحقيق الأداء السليم بعد التحمل.

 

أما عن اشتراط الضبط إلى جانب العدالة، وعدم الاكتفاء بالعدالة وحدها لقبول رواية الراوي، فأقول: من المصطلحات الدارجة، والكثيرة الاستعمال في علم مصطلح الحديث - مصطلح الثقة؛ حيث نجد المحدثين يعبرون عن أحكامهم على بعض الرواة بأنهم ثقات أو بأن فلانًا ثقة

ومن أشهر معاني هذا المصطلح أن الراوي الذي منَحه المحدثون هذا الوصف - أي؛ قالوا فيه: ثقة - يكون موصوفًا بوصفين

الوصف الأول: العدالة

الوصف الثاني: الضبط والإتقان

لأن الرواية تحتاج إلى الأمرين معًا، فلا يقبل الخبر إلا ممن كان ديِّنًا تقيًّا لا يتعمد الكذب، ولا الإخبار بخلاف الواقع، مع التثبت في النقل للأخبار، فقد يكون غير متعمد للكذب، لكنه ليس ممن يحفظ الحديث على وجهه، فيخطئ عن غير قصد حال الأداء؛ لهذا اشترط المحدثون رحمهم الله لقَبول الحديث من الراوي أن يكون موصوفًا بهذين الوصفين

وذكر أبو الزناد[12]عن أبيه، قال: أدركتُ بالمدينة مائة كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله[13].

 

وقال الإمام مالك[14] رحمه الله: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين عند هذه الأساطين، وأشار إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، يقولون: قال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، فما أخذت عنهم شيئًا، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أمينًا؛ لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، ويقدم علينا محمد بن مسلم بن عبيداللَّه بن عبداللَّه بن شهاب، وهو شاب، فنزدحم على بابه"[15]. 

وعندما قيل له: ولم يا أبا عبدالله؟ فقال: "لم يكونوا يعرفون ما يُحدثون"[16].

 

ولا يثبت الخبر إلا بضبط رواته له، والضبط غالبًا عليه مدار التصحيح والتعليل، والجرح والتعديل؛ وذلك لأن صحة الحديث لا تحصل إلا بالعناية به من حين سماعه وحتى أدائه، وهذا هو الضبط

فلا يُظَنُّ أن العدالة ليست هي العامل الوحيد لقبول الرواية، وإنما يجب أن تشفع بالحفظ والضبط والإتقان، وهذا أمر يختلف باختلاف المواهب والقدرات الشخصية للراوي

المطلب الثاني: أنواع الضبط

قسم العلماء الضبط إلى قسمين

الأول: ضبط صدر

والثاني: ضبط كتاب.

 

وقد قال يحيى بن معين رحمه الله: "هما ثبْتان: ثبت حفظ، وثبت كتاب[17]. 

أولًا: ضبط الصدر:

 

تعريفه: هو الحفظ بأن يثبت الراوي ما سمعه في صدره، بحيث يبعد زواله عن القوة الحافظة، مع القدرة على استحضار المحفوظ إن حدث حفظًا.

 

 

وقد جاء في النزهة عن ابن حجر تعريف ضبط الصدر، فقال: هو أن يُثْبت ما سمعه، بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء[18]. 

واشترطوا له أن يكون الراوي حازمَ الفؤاد، يقظًا، غير مغفل لا يُميز الصواب من الخطأ؛ كالنائم، أو الساهي، إذ الموصوف بذلك لا يحصل الركون إليه، ولا تميل النفس إلى الاعتماد عليه[19].

 

 

الأصل أن ضبط الصدر إنما يشترط في حالة الأداء، فإن جمع مع ذلك الضبط حال التحمل وما بعده؛ فهو أفضل، وقد يوجد من الناس من يتحمل ولا يؤدي ما تحمل، كمن اشتغل بالعبادة والزهد، وأعرض عن التحديث، فهذا في الغالب يختل ضبطه، ولا يُحتج به، وقد يوجد من يتحمل وهو صغير لا يضبط، ثم يحفظ ما كتَبَ أو كُتِبَ له، ويُتقن حفظه، ثم يؤديه من حفظه، فإن أدَّى حال اختلال ضبطه؛ لا يُقبل، وإن أدى حال ضبطه بأخرة، قُبِل منه

وأكثر الرواة كانوا يعتمدون على هذا النوع في أداء الحديث، ولم يكونوا يكتبون، وقد صدرت منهم خوارق في ذلك قد يشك فيها ويستغربها من لم يُجربها، ولم يشاهد أصحابها، ورُويتْ عنهم أخبارٌ في قوة الحفظ يستغربها الإنسان في هذا العصر الذي انصرفت فيه النفوس عن الحفظ والاستحضار، واعتمد فيه على الكتب والأسفار، والحق أن تلك الروايات المتعلقة بالحفاظ وقدرتهم على الحفظ، إنما هي وقائع وليست ضروبًا من الظنون[20]. 

ومن أعجب ما رُوي في ذلك: قصة الإمام البخاري[21] رحمه الله عندما قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه، والقصة مشهورة، وقد قال الحافظ ابن حجر معلقًا على هذه الحكاية: "قلت: هنا يخضع للبخاري! فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب؛ فإنه كان حافظًا، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة"[22].

 

وهذا الإمام الجهبذ يحيى بن معين[23] يقول عن وكيع بن الجراح[24]: "ما رأينا أحفظ من وكيع"[25]. 

قلت: ولعل سبب شيوع ظاهرة الحفظ وذيوعها، يرجع إلى قوة الحافظة، وسيلان الأذهان، واتِّقاد الذواكر، وكثرة المذاكرة، ويضاف إلى ذلك تقارب الإسناد، إذ يؤمن فيه من الخطأ والوهم والنسيان، فلم يكن الإسناد طويلًا، وكذلك لم يكن قد مات الرواة وصعب التأكد منهم، وإنما كان يمكن للسامع أن يتأكد من الرواة مباشرة

كيف يمكن للعلماء معرفة ضبط الصدر في الراوي؟

 

يعرف العلماء ذلك بأمور:

 

1- استفاضة ضبط الراوي بين الأئمة، وهذه الصورة هي أعلى الصور في هذا الباب

2- تزكية بعض أئمة الجرح والتعديل للراوي بأنه يحفظ حديثه ويتقنه

3- سبر روايات الراوي، ومقارنتها بروايات غيره من الثقات؛ لينظر هل يوافقهم أم يخالفهم؟ ويحكم على حديثه بعد ذلك بما يستحق، كما قال ابن معين: قال لي إسماعيل بن علية يومًا: كيف حديثي؟ قلت: أنت مستقيم الحديث، فقال لي: وكيف علِمتم ذاك؟ قلت له عارَضْنا بها أحاديث الناس، فرأيناها مستقيمة، فقال: الحمد لله؛ ا .هـ[26]. 

4- إذا نصوا على أن الراوي ثقة، وليس له كتاب، فهذا يدل على أنه يحفظ حديثه في صدره

5- ومن ذلك قول الراوي عن نفسه: "ما كتبت سوداء في بيضاء"، أو "ما يضُرُّني أن تُحْرَق كتبي"، ونحو ذلك مما يدل على إتقانه لحديثه

6- باختبار الراوي، وللاختبار صور، منها:

 

أ- أن يأتي إليه أحد أئمة الجرح والتعديل، فيسأله عن بعض الأحاديث، فيُحدثه بها على وجه ما، ثم يأتي إليه بعد زمن، فيسأله عن الأحاديث نفسها، فإن أتى بها كما سمعها منه في المرة الأولى؛ علم أن الرجل ضابط لحديثه، ومتقن له، أما إذا خلَّط فيها، وقدَّم وأخر؛ عَرَفَ أنه ليس كذلك، وتكلم فيه على قدر خطئه ونوعه، فإن كانت هذه الأخطاء يسيرة عددًا ونوعًا، احتملوها له إذا كان مكثرًا، وإلا طُعِن فيه

ومسألة كثرة الخطأ وقلته مسألة نسبيَّة، ترجع إلى كثرة حديث الراوي وقلته، فمن كان مكثرًا من أحاديثه الصحيحة، وأخطأ في أحاديث قليلة؛ احْتُمِل له ذلك الخطأ، كمن كان عنده عشرة آلاف حديث مثلًا، وأخطأ في عشرين حديثًا منها، وهذا بخلاف من لم يكن عنده إلا حديث واحد مثلًا، وأخطأ فيه، فمثل هذا يكون متروكًا، أو كمن عنده عشرة أحاديث، وأخطأ في خمسة منها؛ فهذا يطعن فيه، مع أن الخطأ في عشرين حديثًا، أو خمسين حديثًا، لا يضر من كان مكثرًا، واسع العلم والحصيلة

وهناك صورة أخرى لاختبار الرواة لمعرفة ضبطهم، وهي أن يُدْخِل الإمام منهم في حديث الراوي ما ليس منه، ثم يقرأ عليه ذلك كله، موهمًا أن الجميع حديثه، فإن أقرَّه وقبِله مع ما أُدخل فيه؛ طُعِن في ضبطه، وإن ميز حديثه من غيره؛ علم أن الرجل ضابط، ومثال ذلك[27]: ما حصل من يحيى بن معين مع أبي نعيم الفضل بن دكين الكوفي[28]، ولعل لذلك صلة بالتلقين الآتي في الصورة الثالثة

وكذلك يُعرف الضبط بالمذاكرة، كما قال أبو زرعة: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرتُه، فأخذتُ عليه الأبواب"[29]. 

ثانيًا: ضبط الكتاب

تعريفه: وهو صيانة الراوي لكتابه منذ أدخل الحديث فيه، وصحَّحه، أو قابله على أصل شيخه، ونحو ذلك؛ إلى أن يؤدي منه، وذلك لأن الراوي قد يبتلى برجل سوء: سواء كان ابنًا، أو جارًا، أو صديقًا، أو ورَّاقًا، أو نحو ذلك، فيدخلون في كتابه ما ليس منه، فعند ذلك يطعن في ضبط الراوي، ويسقط حديثه. [30]. 

ويشترط في صاحبه صون كتابه عن تطرق الخلل والتزوير والتغيير إليه من حين سمع فيه إلى أن يؤدي منه[31]، مع مقابلته بأصل موثوق به كنسخة شيخه، وأن لا يعيره إلا لمن أمن أنه لا يغير أو يبدل فيه شيئًا[32]، فإن لم يقابل كتابه، أو تهاون في المحافظة عليه، وروى من نسخ مستعارة أو مشتراة، فقد عرض نفسه للطعن وعُدَّ في طبقات المجروحين[33]. 

كيف يتم معرفة ضبط الكتاب؟

 

يُعْرف ذلك بعدة أمور:

 

1- التنصيص من إمام على أن فلانًا صحيح الكتاب، أو أن كتابه هو الحَكَم بين المحدثين، أو أن كتابه كثير العجم والتنقيط، ونحو ذلك مما يدل على ضبطه لكتابه

2- التنصيص على أن أصل الراوي الذي يُحدِّث منه مُقَابلٌ على أصل شيخه، أو على نسخة معتمدة منه

3- أن يوافق حديثُهُ الذي يرويه من كتابه حديثَ الثقات، فإن هذا يدل على ضبطه لكتابه، وقد يكون عنده ضبط صدر، وقد لا يكون

4- التنصيص على أنه لم يكن يُعير كتابه، ولا يُخْرِج أصله من عنده؛ لأن فاعل ذلك قد ينسى المعار إليه، وقد يُعيره للمأمون وغير المأمون؛ فيؤدي ذلك إلى إدخال شيء في كتابه، وهو ليس من حديثه، وقد لا يُميز ذلك، لا سيما إذا لم يكن عنده حفظ وإتقان لحديثه، فيسقط حديثه

وقد نص العلماء على تقديم ضبط الكتاب على ضبط الصدر إذا توفرت في الكتاب شروطه التي قيدوه بها، قال الجبريني[34]، قال: سمعت يحيى بن معين، يقول: "هما ثبت حفظ، وثبت كتاب، قال: فقلت له: يا أبا زكريا، أيهما أحب إليك: ثبت حفظ أو ثبت كتاب، قال: ثبت كتاب"[35]. 

وقال علي بن المديني[36] رحمه الله: ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبدالله أحمد بن حنبل، وبلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب، ولنا فيه أسوة[37]. 

قلت: من الحفاظ من كان يجمع بين ضبطي الصدر والكتاب، فإذا أتقن حفظ المكتوب، بيَّض ما كتب؛ أي: محاه بعد أن جعله في خزانة صدره؛ يقول الخطيب البغدادي[38] رحمه الله: وكان غير واحد من السلف يستعين على حفظ الحديث بأن يكتبه ويدرسه من كتابه، فإذا أتقَنه محا الكتاب خوفًا من أن يتَّكل القلب عليه، فيؤدي ذلك إلى نقصان الحفظ، وترك العناية بالمحفوظ[39]. 

يقول الشيخ ملَّا علي القاري[40]رحمه الله: وأما ضبطُ الكتاب فالظاهر أن كله تام لا يتصور فيه نقصان، ولهذا لا يقسم الحديث باعتباره، وإن كان يختلف ضبط الكتاب باختلاف الكُتَّاب[41]. 

 

المطلب الثالث: بِمَ يعرف ضبط الراوي؟ 

استدعى صنيع المحدثين لمعرفة الراوي المحتج به، ثم المعتبر به، ثم الساقط - وضع ميزان دقيق يُبين أحوال الرواة تفصيلًا، وينقِّر عنهم تنقيرًا؛ للوصول إلى القول الفصل فيهم، ووضع الأوصاف الدقيقة لهم، وكان هذا الميزان هو المعارضة[42] لحديث الراوي.

 

 

قال ابن الصلاح رحمه الله: يعرف كون الراوي ضابطًا بأن نعتبر رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان، فإن وجدنا رواياته موافقة، ولو من حيث المعنى لرواياتهم، أو موافقة لها في الأغلب، والمخالفة نادرة، عرَفنا حينئذ كونه ضابطًا ثبتًا، وإن وجدناه كثير المخالفة لهم، عرَفنا اختلال ضبطه، ولم نحتج بحديثه، والله أعلم[43].

 

 

ويُعد الإمام الشافعي من أوائل مَن نصَّ على اعتبار معارضة مرويات الراوي بروايات الثقات طريقًا لمعرفة الضبط، يقول رحمه الله: إذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم[44]، والموافقة المشترطة هي الموافقة غالبًا ولو من حيث المعنى لروايات المتقنين الضابطين، ولا تضر المخالفة النادرة، فإن كثُرت فهي دليل على اختلال الضبط[45].

 

 

قلت: وهذا المنهج الدقيق هو الأكثر ممارسةً في صنيع النقاد من الأولين، والآخرين، وهو الوسيلة المثلى لمعرفة ضبط الراوي لحديثه، ومقدار الموافقة والمخالفة، وهي الطريقة الأكثر شهرة، والأوسع انتشارًا.

 

 

أما الطريقة الثانية المتبعة في معرفة ضبط الرواة، فهي امتحان حفظ المحدث واختبار[46]، بأن تُلقى عليه أحاديث تُدْخَلُ ضمن رواياته؛ ليُنظَر: أيفطن لها أم يتلقنها؟ فإن تلقنها وحدَّث بها، عرَفوا غلطه ووهمَه، وقد يكون حافظًا ضابطًا لا يقبل التلقين كما فعل يحيى بن معين في امتحانه للفضل بن دكين.

 

 

قال أحمد بن منصور الرمادي[47]: خرجتُ مع أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين إلى عبدالرزاق الصنعاني[48] خادمًا لهما، فلما عدنا إلى الكوفة قال يحيى لأحمد بن حنبل: أريد أن أختبر أبا نعيم، فقال له أحمد بن حنبل: لا تزيد الرجل إلا ثقة، فقال يحيى: لا بد لي، فأخذ ورقة فكتب فيها ثلاثين حديثًا من حديث أبي نعيم، وجعل على رأس كل عشرة منها حديثًا ليس من حديثه، ثم جاءَا إلى أبي نعيم فدقَّا عليه الباب فخرَج، فجلس على باب دكان، وأخذ أحمد بن حنبل فأجلسه عن يمينه، وأخذ يحيى بن معين فأجلسه عن يساره، ثم جلست أسفل الدكان، فأخرج يحيى الطبق فقرأ عليه عشرة أحاديث، وأبو نعيم ساكت، ثم قرأ الحادي عشر، فقال له أبو نعيم: هذا ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثانية، وأبو نعيم ساكت، فقرأ الحديث الثاني، فقال أبو نعيم: ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثالثة، وقرأ الحديث الثالث، فتغير أبو نعيم، وانقلبت عيناه، ثم أقبل على يحيى - وذراع أحمد في يده - فقال: أما هذا فأورع من أن يعمل مثل هذا، وأما هذا يريدني - الرمادي - فأقلُّ من أن يفعل مثل هذا، ولكن هذا من فعلك يا فاعل، ثم أخرج رجله، فرفس يحيى فرمى به من الدكان، وقام فدخل داره.

 

فقال أحمد ليحيى: ألم أمنعك من الرجل وأقل لك: إنه ثبت، قال: والله لرفسته لي أحب إلي من سفري[49].

 

 

وقد يكون اختبار حفظ الراوي بقلب الأسانيد عليه؛ وذلك بتركيبها على غير متونها، فإن وافق على القلب فغير حافظ، وإن خالف فضابط، نحو امتحان المحدثين ببغداد لإمام الفن وشيخ الصنعة البخاري رحمه الله، مشايخ بغداد يقولون: إن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه.

 

 

فعمَدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوها إلى عشرة أنفس لكل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري، وأخذوا عليه الموعد للمجلس، فحضروا وحضر جماعة من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم، ومن البغداديين، فلما اطمأنَّ المجلس بأهله، انتدب رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحدًا بعد واحد حتى فرغ البخاري، يقول: لا أعرفه، وكان العلماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: فَهِمَ الرجل، ومن كان لم يدر القصة يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الحفظ.

 

 

ثم انتدب رجل من العشرة أيضًا، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال: لا أعرفه، فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليه واحدًا واحدًا حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرِفه، ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة، حتى فرغوا كلهم من إلقاء تلك الأحاديث المقلوبة، والبخاري لا يزيدهم على لا أعرفه.

 

 

فلما علِم أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول، فقال أما حديثك الأول، فقلت كذا وصوابه كذا، وحديثك الثاني كذا وصوابه كذا، والثالث والرابع على الولاء، حتى أتى على تمام العشرة، فرد كل متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك، فأقر الناس له بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل[50].

 

 

علق ابن حجر رحمه الله على هذه القصة قائلًا: هنا يخضع للبخاري فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب، فإنه كان حافظًا، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة[51].

 

[1] لسان العرب لابن منظور، مادة ضبط (7/ 340)، أساس البلاغة للزمخشري (ص370).

[2] مختار الصحاح للرازي (1/ 403)، المصباح المنير (2/ 357).

[3] أساس البلاغة (ص:370).

[4] محمد بن إدريس بن العباس المطلبي، أبو عبدالله، نزيل مصر، المجدد على رأس المائتين، من كتبه: الأم، والرسالة وغيرهما، توفي سنة أربع ومائتين، انظر تقريب التهذيب (1/ 467)، طبقات الحفاظ للسيوطي (ص: 157).

[5] اختلف العلماء في حكم رواية الحديث بالمعنى، والأكثر على أن ذلك جائز بشروط: أن يكون الراوي عالمًا عارفًا بالألفاظ ومقاصدها، بصيرًا بمقدار التفاوت بينها، عارفًا بالفقه واختلاف الأحكام، مميزًا لما يحيل المعنى وما لا يحيله، وأن يكون المعنى ظاهرًا معلومًا، وأما إذا كان غامضًا محتملًا، فإنه لا يجوز رواية الحديث على المعنى، ويلزم إيراد اللفظ بعينه وسياقه على وجهه، لكن خلاف العلماء في مَسألة الرواية بالمعنى كان فيما قبل عصر التدوين، أمَّا بعد تدوين الحديث وكتابتِه في المصنَّفات، فلا خِلاف بين العلماء في عدم تجويزه؛ (انظر علوم الحديث ص213، توجيه النظر إلى علوم الأثر 1/ 621، الجامع للخطيب 2/ 34).

[6] الرسالة للإمام الشافعي (ص370-371).

[7] المبارك بن محمد الجزري، مجد الدين، ابن الأثير، محدث كبير، ولغوي بارع، وأصولي، توفي606هـ، له جامع الأصول، والنهاية في غريب الحديث، وغيرهما؛ سير أعلام النبلاء (21/ 488).

[8] جامع الأصول في أحاديث الأصول، لابن الأثير (1/ 35).

[9] المدخل إلى كتاب الإكليل، للحاكم النيسابوري (ص66).

[10] تفسير الطبري (15/ 81).

[11] سنن أبي داود، كتاب العلم، باب فضل نشر العلم، برقم (3660)، سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب من بلغ علمًا (1/ 156)، برقم (230).

[12] هو عبدالله بن ذكوان القرشي، أبو عبدالرحمن المدني المعروف بأبي الزناد، ثقة فقيه، مات سنة ثلاثين ومائة، وقيل: بعدها؛ تقريب التهذيب (ص302).

[13] صحيح مسلم، المقدمة، (1/ 15).

[14] مالك بن أنس بن مالك، أبو عبدالله المدني، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين وكبير المتثبتين، مات سنة (179هـ)، قال الواقدي: بلغ تسعين سنة؛ انظر تهذيب التهذيب (ص516).

[15] الكفاية للخطيب (1/ 159).

[16] المصدر السابق.

[17] تهذيب التهذيب (5/ 260).

[18] نزهة النظر (ص205).

[19] فتح المغيث شرح ألفية الحديث (1/ 28).

[20] ضوابط الرواية عند المحدثين، بشير نصر (ص124).

[21] محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي، أبو عبدالله البخاري، جبل الحفظ، وإمام الدنيا في فقه الحديث، مات سنة ست وخمسين ومائتين وله اثنتان وستون سنة؛ انظر تقريب التهذيب (ص468).

[22] فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني (1/ 486).

[23] يحيى بن معين بن عون الغطفاني، مولاهم أبو زكريا البغدادي، ثقة حافظ مشهور، إمام الجرح والتعديل، من العاشرة، مات سنة مائتين وثلاث وثلاثين بالمدينة النبوية، وله بضع وسبعون سنة؛ انظر تقريب التهذيب (ص597).

[24] وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي بضم الراء وهمزة ثم مهملة، أبو سفيان الكوفي، ثقة حافظ عابد، من كبار التاسعة، مات في آخر سنة ست أو أول سنة سبع وتسعين ومائة، وله سبعون سنة؛ انظر تقريب التهذيب (ص581).

[25] شرح علل الترمذي لابن رجب (1/ 471).

[26] نقله فضيلة الدكتور طارق عوض الله في كتابه الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات (ص21) عن سؤالات ابن محرز (2/ 39).

[27] تاريخ بغداد وذيوله، طبعة دار الكتب العلمية، (12/ 349).

[28] الفضل بن دكين الكوفي، واسم دكين عمرو بن حماد بن زهير التيمي، مولاهم الأحول أبو نعيم الملائي بضم الميم، مشهور بكنيته، ثقة ثبت من التاسعة، مات سنة ثماني عشرة، وقيل: تسع عشرة، وكان مولده سنة ثلاثين وهو من كبار شيوخ البخاري؛ انظر تقريب التهذيب (ص446).

[29] مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي (ص73).

[30] نزهة النظر (ص205).

[31] فتح المغيث (1/ 89).

[32] راجع علوم الحديث لابن الصلاح (ص210).

[33] المدخل إلى كتاب الإكليل، للحاكم النيسابوري (ص66).

[34] هو أبو هارون إسماعيل بن محمد بن يوسف بن يعقوب بن جعفر بن عطاء بن أبي عبيد الثقفي الجبريني، قال ابن أبي حاتم الرازي: أبو هارون الثقفي من بيت جبرين، قدم عليهم الرملة، فروى عن رواد بن الجراح وحبيب بن رزيق كاتب مالك، والفريابي وعمرو بن أبى سلمة، وكتب إليَّ فنظرت في حديثه، فلم أجد حديثه حديث أهل الصدق، هكذا ذكره ابن أبي حاتم، وقال أبو حاتم محمد بن حبان البستي: أبو هارون إسماعيل بن محمد بن يوسف الجبريني يقلب الأسانيد ويسرق الحديث، لا يجوز الاحتجاج به، روى عن أبي عبيد القاسم بن سلام، وكثير بن الوليد وغيرهما، روى عنه أبو الحسن محرز؛ انظر الأنساب للصنعاني (3/ 190).

[35] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 38).

[36] علي بن عبدالله بن جعفر بن نجيح السعدي، مولاهم أبو الحسن بن المديني، بصري ثقة ثبت، إمام أعلم أهل عصره بالحديث وعلله، حتى قال البخاري: ما استصغرت نفسي إلا عند علي بن المديني، وقال فيه شيخه ابن عيينة: كنت أتعلم منه أكثر مما يتعلم مني، وقال النسائي: كأن الله خلقه للحديث عابوا عليه إجابته في المحنة، لكنه تنصل وتاب، واعتذر بأنه كان خاف على نفسه، من العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين على الصحيح؛ انظر تقريب التهذيب (ص403).

[37] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 38).

[38] أحمد بن علي بن ثابت البغدادي الحافظ الكبير، الإمام، محدث الشام والعراق، صاحب التصانيف، رحل إلى الأقاليم وبرع وصنف وجمع، وتقدم في عامة فنون الحديث؛ قال ابن ماكولا: كان أبو بكر الخطيب آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة وحفظًا وإتقانًا وضبطًا لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتفننًا في علله وأسانيده؛ من مصنفاته: تاريخ بغداد، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، والكفاية في علم الرواية وغيرها كثير، مات سنة (463هـ)؛ انظر سير أعلام النبلاء (17/ 270).

[39] تقييد العلم للخطيب البغدادي (ص58).

[40] نور الدين علي بن السلطان محمد الهروي المعروف بالقاري المكي الحنفي، ولد بهراة، وقرأ العلم ببلاده، ثم رحل إلى مكة المكرمة، وأخذ بها من أبي الحسن البكري، وابن حجر الهيثمي وغيرهما، واشتهر ذكره، وطار صيته، وألف التآليف المفيدة؛ توفي سنة (1014هـ)؛ انظر: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر (3/ 185).

[41] شرح النخبة للقاري (ص249).

[42] أي: جمع الروايات، ومقابلة بعضها ببعض؛ ليتميز صحيحها من سقيمها، وتتبين رواة ضعاف الأخبار من أضدادهم من الحفاظ؛ انظر: التمييز للإمام مسلم بن الحجاج (ص:209).

[43] علوم الحديث لابن الصلاح (ص106).

[44] الرسالة (ص370).

[45] تدريب الراوي (ص200).

[46] فتح المغيث (1/ 273).

[47] أحمد بن منصور بن سيار البغدادي الرمادي أبو بكر، ثقة حافظ، طعن فيه أبو داود لمذهبه في الوقف في القرآن، من الحادية عشرة مات سنة خمس وستين، وله ثلاث وثمانون؛ انظر تقريب التهذيب (ص85).

[48] عبدالرزاق بن همام بن نافع الحميري مولاهم، أبو بكر الصنعاني، ثقة حافظ مصنف شهير، عَمِيَ في آخر عمره، فتغير وكان يتشيَّع، من التاسعة، مات سنة إحدى عشرة، وله خمس وثمانون؛ انظر تقريب التهذيب (ص354).

[49] تاريخ بغداد، طبعة العلمية (12/ 349).

[50] فتح الباري لابن حجر (1/ 486)، سير أعلام النبلاء (12/ 408-409).

[51] فتح الباري لابن حجر (1/ 486).

من الالوكة

==============

 

ضبط الحديث وأثره في اختلاف الفهم والحكم لقمان عبد السلام الضبط عند علماء الحديث نوعان: ضبط صدر، “وهو أن يثبت – الراوى – ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء”[1]، وضبط كتاب، وهو أن يثبت ما سمعه في الكتاب إلى أن يروي منه عند الأداء. وضع المحدثون حديث “من كذب على مُتَعَمدا فليتبوء مَقْعَده من النَّار”[2] نصب أعينهم عند الرواية وعند الأداء، ويتخوفون من أي زلة أو خطأ في الحديث ما استطعوا إلى ذلك سبيلا، ويحذرون تلاميذهم من ذلك أيضا، وقد كان عفان بن مسلم “يحض أصحاب الحديث على الضبط والتغيير ليصححوا ما أخذوا عنه من الحديث” [3] فاشتراط المحدثين الضبط في رواية الراوى العدل، وعدم الاكتفاء بعدالته إنما من أجل التأكد من سلامة الحديث مما يطرأ أو يشوب بعض الألفاظ من إفساد المعنى، سواء في السند أو في المتن أو فيهما معا، فاشتراط الضبط في الرواية هو الذى يوجب أن يكون الراوى يقظا واعيا لما يسمع ويكتب، وأن يؤدي مروياته بالدقة والحذر. وقد عبر الإمام مالك عن هذا المبدأ قائلا:” لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين – يعني مسجد النبي صلى الله عليه وسلم- فما أخذت عنهم شيئا، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أمينا؛ لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، وقدم علينا ابن شهاب فكنا نزدحم عند بابه”[4] وتأمل هذه المقولة كيف لا يلتفتون إلى عدالة الراوى حتى يكون ضابطا متقنا كما هو حال الزهري. يقول حماد بن سلمة لأصحاب الحديث: «ويحكم غيروا» يعني قيدوا واضبطوا “[5] ومن وقف على جهود المحدثين في هذا الباب عن كثب تبين له مدى تفانيهم في تنقية ألفاظ السنة النبوية وتخليصها من الشوائب والخلل الناشئ عن سوء الفهم جراء اختلال الضبط، وكانت جهودهم في مكافحة ذلك متمثلة في أبواب عديدة من مباحث علم الحديث، ومن ذلك: كيفية الرواية وطرق التحمل: أشبع أهل العلم بالحديث هذا المبحث بحثا طويلا وألفوا فيه مؤلفات عديدة نظرا لأهميته، بينوا فيه شدة حاجة الراوى إلى العلم بطرق التحمل الثمانية[6]وصيغها عند الرواية عن الشيخ، ومعرفة صيغ الأداء وشروطها وصورها وضوابطها وغير ذلك مما يتعين على الراوى معرفته. عدم جواز الرواية بالمعنى إلا من عالم متقن في اللغة العربية، وعالم بما يحيل المعانى، وعدم جوازه مطلقا في الألفاظ التوقيفية كالأسماء والصفات والأذكار ونحوهما. كتابة الحديث وضبطه: يقرر المحدثون في هذا المطلب ضرورة عناية الراوى بضبط الحديث شكلا ونقطا وأن يكون خطه واضحا على قواعد علماء الخط بما يؤمن من أي إلتباس الألفاظ والأسماء، وأنه يجب عليه بعد انتهائه من الكتابة أن يقابل كتابه بكتاب شيخه الذى نقله منه ليتأكد من صحة النقل. صيانة الكتاب: أي وجوب حماية كتابه من التغيير والعبث والاهمال “منذ سمعه فيه وصححه إلى أن يؤدي منه” “من غير أن يعيره، حيث لا أمن من تغيير المستعير فلا يضر وضعه أمانة عند غيره[7]. التصحيف والتحريف: بمعنى حدوث التغيير في الكلمة أو اللفظ أو المعنى بسبب الخلل في الضبط أو عدم أخذ العلم من أفواه العلماء، ويسمى هذا المبحث بـالمصحف والمحرف، “ومعرفة هذا النوع أمر مهم أوقع العلماء في الاهتمام به”[8] ولا ينهض بأعبائه إلا الحذاق من الحفاظ كما قال ابن الصلاح[9]، ولأهميته أفردوه بمؤلفات كثيرة ومن أقدمها وأشهرها وأنفسها ” شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف” للعسكري وللدارقطنى أيضا مؤلف فيه. والخلاصة أن الضبط أصل أصيل في الرواية، ومتى تطرق إليه خلل فإنه يؤدي إلى عدم الاحتجاج بالمروية المختلة أو الراوى إذا غلب عليه ذلك، ولذا كان منهج المحدثين على الدقة في نقد ضبط الرواة، سواء ضبط الصدر أو ضبط الكتاب. أثر اختلال الضبط في الأفهام مما ينتج عن اختلال الضبط أنواع عديدة من الفهوم الخاطئة، سواء كان في الأسانيد أو المتون ومنها التصحيف، وقال علي بن المديني: ” أشدُّ التصحيف في الأسماء “[10] وقسم العلماء التصحيف إلى أقسام متعددة وفق أسبابها وكلها يرجع إلى الضبط. ومن أقسام التصحيف: تصحيف المعنى، وهو الذي ينشأ عن الفهم الخاطئ المتحصل لدى الراوى المؤدى إلى تغيير المعنى غير المقصود من اللفظ المروى، وله أمثلة كثيرة، ومن ذلك: 1- قول محمد بن المثنى:” نحن قوم لنا شرف، نحن من عنزة، قد صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلينا، لما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى عنزة» ، توهم أنه صلى إلى قبيلتهم، وإنما العنزة التي صلى إليها النبي صلى الله عليه وسلم هي حربة كانت تحمل بين يديه فتنصب فيصلي إليها “[11] وقال السيوطي: وأعجب من ذلك ما ذكره الحاكم عن أعرابي أنه زعم أنه صلى الله عليه وسلم صلى إلى شاة، صحفها عنزة، بسكون النون، ثم رواه بالمعنى على وهمه فأخطأ من وجهين.[12] 2- فهم آخر من حديث «نَهَى أَنْ يَسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» المنع من سقي بساتين الجيران، فقال جماعة ممن حضروا: قد كنا إذ فضل عنا ماء في بساتيننا سرّحناهُ إلى جيراننا ونحن نستغفر الله، فما فهم القارئ ولا السامع ولا شعروا أن المراد وطءَ الحبالى من السبايا. 3- فقد صلى أحدهم الوتر بعد الاستنجاء من غير إحداث وضوء، واستدل على هذا العمل بقوله عليه السَلاَمُ: «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» فهم منه صلاة الوتر، مع أن المراد منه إيتار الجمار عند الاستنقاء. 4- وظل أحدهم لا يحلق رأسه قبل صلاة الجمعة أربعين سَنَةً على ما فهم من حديث نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحِلَقِ قبل الصلاة يوم الجمعة، مع أنه الحِلَق بفتح اللام، والمراد منه النهي عن عَقْدِ الحَلَقَاتِ المُؤَدِّي إِلَى مُضَايَقَةِ النَّاسِ يوم الجمعة في المسجد[13] وهذه الأمثلة توضح مدى الآثار السيئة الوليدة جراء اختلال الفهم في الضبط. أثر الضبط في اختلاف الأحكام رأى بعض المحدثين أن تنقيط الحديث وتشكيله إنما يكون متعينا فيما يشكل ويشتبه، وقال بعضهم: إنما يُشْكَلُ مَا يُشْكِلُ، وأما النقط فلا بد منه، بينما ذهب بعضهم إلى وجوب شكل ما أشكل وما لا يشكل، وهذا هو الصواب كما قال القاضى عياض، “لا سيما للمبتدىء وغير المتبحر في العلم فإنه لا يميز ما أشكل مما لا يشكل ولا صواب وجه الإعراب للكلمة من خطائه”[14] وكم من مسائل خلافية في الفقه وغيره مردها إلى ضبط الألفاظ والإعراب، ومن أشهرها 1- حديث” ذكاةُ الجنين ذكاةَ أمه” فضبط الجمهور (ذكاة أمه) بالرفع، وضبطها أبو حنيفة بالنصب، وتغير الحكم الشرعي بسبب الضبطين، “فمن رفعه جعله خبرًا للمبتدأ الذي هو ذكاة الجنين فتكون ذكاة الأم هي ذكاة الجنين فلا يحتاج إلى ذبح مستأنف”[15] وهذا ما عليه أكثر أهل العلم. قال الحافظ المنذري:” والمحفوظ عن أئمة هذا الشأن في تفسير هذا الحديث الرفع فيهما.[16] “ومن نصب كان التقدير ذكاة الجنين كذكاة أمه” أي له تذكية تخصه لوحده[17] فقد قال أبو حنيفة بتحريم الجنين إذا خرج ميتا، وإنها لا تغني تذكية الأم عن تذكيته[18]. 2- ومما أشار إليه القاضى عياض أيضا في هذا الباب حديث «لا نورث، ما تركنا صدقة» فالجماعة يروونه برفع صدقة على الخبرية؛ لأن الأنبياء لا يورثون، والإمامية يروونه بالنصب على التمييز، والمعنى أنه لا يورث ما تركوه صدقة دون غيره. ولو كان كما قالوا لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم ولم يكن لتخصيص الأنبياء عليهم السلام فائدة[19] 3- وحديث: «زادك الله حرصا ولا تعد» ورد الاختلاف في المراد بقوله عليه الصلاة والسلام “ولا تعد” وضبطه على المشهور[20] “ وَلاَ تَعُدْ ” بفتح أوله وضم العين من العود أي: لا تفعله مثل ما فعلته ثانيا. وروي “وَلا تَعْدُ “بسكون العين وضم الدال من العدو، أي: لا تسرع في المشي إلى الصلاة، واصبر حتى تصل إلى الصف، ثم اشرع في الصلاة، وقيل: بضم التاء وكسر العين من الإعادة، أي: لا تعد الصلاة التي صليتها.[21] وانتقد الشيخ الجزري ما روي في ضبطه غير المشهور وأنه “لم يأت به رواية، وإنما يحملهم على ذلك في أمثاله من تحريفهم ألفاظ النبوة وتغييرها؛ كونهم لم يحفظوها أو ما وصلت إليهم بالرواية، فيذكرون ما يحتمله الخط لعدم معرفتهم باللفظ المروي”[22] ومن أمثلة ضبط الألفاظ: حديث:” ((إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) وضبطه بعضهم بلفظ: ((فاقضوا)) وعلى هذين الضبطين اختلف الفقهاء في معنى الحديث، ومن ضبطه بلفظ ” فأتموا” يرى فيه دليلا أن الذي أدركه المسبوق من صلاة إمامه هو أول صلاته وأما من ضبطه بلفظ ” فاقضوا” يرى أن القضاء لا يكون إلا لفائت، ومعلوم أن الفائت من صلاة المأموم ما سبقه به إمامه[23] وذهب الحافظ إلى “أنّ أكثر الروايات وردت بلفظ: “فأتموا”، وأقلها بلفظ: “فاقضوا“[24] وجماع القول من هذا كله، أنه يجب أخذ العلم عند أهله المتخصصين ولا ينبغى التعلم المباشر من بطون الكتب دون الرجوع إليهم، ولذا قال سعيد بن عبد العزيز التنوخي:” لا تحملوا العلم عن صحفي، ولا تأخذوا القرآن من مصحفي”[25] ولا بد من ضبط السنة النبوية بواسطة الشيخ المتقن المحرر نظرا لمكانتها وعمق علمها، يقول السخاوي:” والحاصل أنه يبالغ في ضبط المتون لأن تغييرها يؤدي إلى أن يقال عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل أو يثبت حكم شرعي بغير طريقه.[26] [1] نزهة النظر ص:61 [2] رواه البخاري (110) [3] الجامع لأخلاق الراوى 1/277 [4] – توجيه النظر إلى أصول الأثر 1/93 [5] – الجامع لأخلاق الراوى 1/277 [6] – السماع من لفظ الشيخ.ب- والقراءة عليه. ج- والإجازة بأنواعها. د- والمناولة. هـ- والمكاتبة. و والإعلام. ز- والوصية. ح- والوجادة [7] – توضيح الأفكار 2/87 [8] – شرح نخبة الفكر للقارى ص:492 [9] ينظر: مقدمة ابن الصلاح ص:279 [10] أخبار المصحفين ص: 32 _ 33 [11] الجامع لأخلاق الراوى 1/295 [12] تدريب الراوى 2/650 [13] – ينظر كتاب مداخل الشيطان على الإنسان 6/ وكتاب السنة ومكانتها للسباعي ص: 406 [14] الإلماع ص:150 [15] عقود الزبرجد في إعراب الحديث النبوي للسيوطي 1/ 256 [16] تحفة الأحوذي 5 /43 [17] عقود الزبرجد في إعراب الحديث النبوي للسيوطي 1/ 256 [18] تحفة الأحوذي 5/ 41 [19] ينظر: الإلماع ص:150 وفتح المغيث 3/46 [20] ينظر: فتح الباري 2/269 [21] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 3/857 [22] ينظر المصدر السابق [23] ينظر: معالم السنن 1/163 شرح صحيح البخارى لابن بطال 2/262 [24] فتح الباري 2/ 119. [25] شرح نخبة الفكر للقارى ص:78 [26] فتح المغيث 3/47

 

اقرأ المزيد في إسلام أون لاين :

https://islamonline.net/%D8%B6%D8%A8%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB-%D9%88%D8%A3%D8%AB%D8%B1%D9%87/


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق