وهذا التعريف مأخوذ من تعريف الشافعي للشاذ ، فقد روي عن يونس بن عبد الأعلى ([2])، قال: قال لي الشافعي -رحمه الله-: (( ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره ، إنما الشاذ : أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس )) ([3]) .والشاذ في اللغة : المنفرد ، يقال : شذّ يَشُذُّ ويشِذُّ – بضم الشين وكسرها – أي : انفرد عن الجمهور ، وشذَّ الرجلُ: إذا انفرد عن أصحابه. وكذلك كل شيء منفرد فهو شاذ. ومنه: هو شاذ من القياس، وهذا مما يشذ عن الأصول،وكلمة شاذة…وهكذا ([4]).
إذن : الشذوذ هو مخالفة الثقة للأوثق حفظاً أو عدداً ، وهذا هو الذي استقر عليه الاصطلاح ([5]) ، قال الحافظ ابن حجر : (( يختار في تفسير الشاذ أنه الذي يخالف رواية من هو أرجح منه ([6]) .ثم إن مخالفة الثقة لغيره من الثقات أمر طبيعي إذ إن الرواة يختلفون في مقدار حفظهم وتيقظهم وتثبتهم من حين تحملهم الأحاديث عن شيوخهم إلى حين أدائها . وهذه التفاوتات الواردة في الحفظ تجعل الناقد البصير يميز بين الروايات ، ويميز الرواية المختلف فيها من غير المختلف فيها ، والشاذة من المحفوظة ،والمعروفة من المنكرة . ومن الأمثلة لحديث ثقة خالف في ذلك حديث ثقة أوثق منه :ما رواه معمر بن راشد ([7])، عن يحيى بن أبي كَثِيْر ، عن عبد الله بن أبي قتادة([8])، عن أبيه ([9]) ، قال : (( خرجت مع رسول الله(صلي الله عليه وسلم)زمن الحديبية ، فأحرم أصحابي ولم أحرم ، فرأيت حماراً فحملت عليه ، فاصطدته ، فذكرت شأنه لرسول الله(صلي الله عليه وسلم ، وذكرت أني لم أكن أحرمت ، وأني إنما اصطدته لك ؟ فأمر النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم أصحابه فأكلوا ، وَلَمْ يأكل مِنْهُ حِيْنَ أخبرته أني اصطدته لَهُ )) ([10]) .فهذا الحديث يتبادر إلى ذهن الناظر فيه أول وهلة أنه حديث صحيح، إلا أنه بعد البحث تبين أن معمر بن راشد – وهو ثقة – قد شذ في هذا الحديث فقوله : ) إنما اصطدته لك )، وقوله : (( ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له )). جملتان شاذتان شذ بهما معمر بن راشد عن بقية الرواة .
↰قال ابن خزيمة : (( هذه الزيادة : (( إنما اصطدته لك )) ، وقوله : (( ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته لك )) ، لا أعلم أحداً ذكره في خبر أبي قتادة غير معمر في هذا الإسناد ، فإن صحت هذه اللفظة فيشبه أن يكون) صلي الله عليه وسلم أكل من لحم ذلك الحمار قبل ]أن[ ([11]) يعلمه أبو قتادة أنه اصطاده من أجله، فلما أعلمه أبو قتادة أنه اصطاده من أجله امتنع من أكله بعد إعلامه إياه أنه اصطاده من أجله ؛ لأنه قد ثبت عنه صلي الله عليه وسلم أنه قد أكل من لحم ذلك الحمار )) ([12]) .هكذا جزم الحافظ ابن خزيمة بتفرد معمر بن راشد بهاتين اللفظتين ، وهو مصيب في هذا ، إلا أنه لا داعي للتأويل الأخير لجزمنا بعدم صحة هاتين اللفظتين – كما سيأتي التدليل عليه - .
وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري ([13]) - شيخ الدارقطني - : (( قوله : " اصطدته لك " ، وقوله: " ولم يأكل منه " ، لا أعلم أحداً ذكره في هذا الحديث غير معمر )) ([14]).
وقال البيهقي: (( هذه لفظة غريبة لم نكتبها إلا من هذا الوجه ، وقد روينا عن أبي حازم بن دينار ، عن عبد الله بن أبي قتادة في هذا الحديث أن النبي {صلي الله عليه وسلم}أكل منها ، وتلك الرواية أودعها صاحبا الصحيح ([15]) كتابيهما دون رواية معمر وإن كان الإسنادان صحيحين )) ([16]) .وقال ابن حزم): لا يخلو العمل في هذا من ثلاثة أوجه . إما أن تغلب رواية الجماعة ([17]) على رواية معمر لا سيما وفيهم من يذكر سماع يحيى من أبي قتادة ([18]) ، ولم يذكر معمرا ، أو تسقط رواية يحيى بن أبي كثير جملة ؛ لأنه اضطرب عليه ([19]) ، ويؤخذ برواية أبي حازم وأبي محمد وابن موهب الذين لم يضطرب عليهم؛ لأنه لا يشك ذو حسٍّ أن إحدى الروايتين وهم ، إذ لا يجوز أن تصح الرواية في أنه عليه السلام أكل منه ، وتصح الرواية في أنه عليه السلام لم يأكل منه ، وهي قصة واحدة في وقت واحد في مكان واحد في صيد واحد([20]) .
وسأشرح الآن شذوذ رواية معمر ، فأقول :
خالف معمر رواية الجمع عن يحيى ، فقد رواه هشام الدستوائي ([21]) – وهو ثقة ثبت ([22])-، وعلي بن المبارك ([23]) -وهو ثقة ([24])-، ومعاوية بن سلام ([25]) -وهو ثقة ([26])-، وشيبان بن عبد الرحمان ([27]) -وهو ثقة ([28])-، فهؤلاء أربعتهم رووه عن يحيى بن أبي كثير ، ولم يذكروا هاتين اللفظتين .
كما أن الحديث ورد من طريق عبد الله بن أبي قتادة من غير طريق يحيى بن أبي كثير ، ولم تذكر فيه اللفظتان مما يؤكد ذلك شذوذ رواية معمر بتلك الزيادة ؛ فَقَدْ رَوَاهُ عثمان بن عَبْد الله بن موهب ([29]) – وَهُوَ ثقة ([30]) - ، وأبو حازم سلمة بن دينار ([31]) وَهُوَ ثقة ([32]) - ، وعبد العزيز بن رفيع ([33]) –وَهُوَ ثقة ([34])- ، وصالح بن أبي حسان ([35]) - وهو صدوق ([36]) - ؛ فهؤلاء أربعتهم رووه عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، ولم يذكروا هاتين اللفظتين ، كما أن هذا الحديث روي من طرق أخرى عن أبي قتادة ، وليس فيه هاتان اللفظتان : فقد رواه نافع مولى أبي قتادة ([37]) -وهو ثقة ([38])-، وعطاء بن يسار ([39]) - وهو ثقة ([40]) - ، ومعبد بن كعب بن مالك ([41]) - وهو ثقة ([42]) - ، وأبو صالح مولى التوأمة ([43]) - وهو مقبول ([44]) - فهؤلاء أربعتهم رووه دون ذكر اللفظتين اللتين ذكرهما معمر ، وهذه الفردية الشديدة مع المخالفة تؤكد شذوذ رواية معمر لعدم وجودها عند أحدٍ من أهل الطبقات الثلاث
↰والذي يبدو لي أن السبب في شذوذ رواية معمر بن راشد دخول حديث في حديث آخر ؛ فلعله توهم بما رواه هو عن الزهري، عن عروة، عن يحيى بن عبد الرحمان ابن حاطب، عن أبيه أنه اعتمر مع عثمان في ركب ، فأهدي له طائر ، فأمرهم بأكله ، وأبى أن يأكل ، فقال له عمرو بن العاص : أنأكل مما لست منه آكلاً ، فقال : إني لست في ذاكم مثله ، إنما اصطيد لي وأميت باسمي ([45]) .
فربما اشتبه عليه هذا الحديث بالحديث السابق ، والله أعلم .