الاختلاف
بسبب خطأ الراوي د ماهر الفحل
الخطأ في
رِوَايَة الثقات أمرٌ وارد ، إِذْ لا يلزم من رِوَايَة الثقة أن تكون صواباً ، إِذ
الأصل فِيْهَا الصواب والخطأ طارئٌ محتمل ، فالراوي الثقة مهما بلغ أعلى مراتب
الضبط والإتقان فالخطأ في روايته يبقى أمراً محتملاً وليس بعيداً، والخطأ في
حَدِيْث الثقة لا يتمكن من مَعْرِفَته إلا الأئمة الجامعون ، وَقَدْ يطلع الجهبذ
من أئمة الْحَدِيْث عَلَى حَدِيْث ما فيحكم عليه بخطأ راويه الثقة مع أن ظاهر
الْحَدِيْث السلامة من هَذِهِ العلة القادحة ، لَكِن العالم الفهم لا يحكم
بِذَلِكَ عن هوى بَلْ يترجح لديه أن أحد الرُّوَاة قَدْ أخطأ في هَذَا الْحَدِيْث ، وذلك للقرائن الَّتِيْ تحيط
بالحديث ، ومثل هَذِهِ الْمَعْرِفَة لا تتضح لكل أحد ، بَلْ هِيَ لِمَنْ منحه الله
فهماً دقيقاً واطلاعاً واسعاً وإدراكاً كبيراً ومعرفة بعلل الأسانيد ومتونها
ومشكلاتها وغوامضها ، ومعرفة واسعة بطرق الْحَدِيْث ومخارجه ، وأحوال الرُّوَاة
وصفاتهم.
وما دام
إدراك الخطأ في حَدِيْث الثقة أمراً خفياً لا يتمكن مِنْهُ كُلّ أحد ، ولا ينكشف
لكل ناقد فإن بعضاً من أخطاء الثقات قَدْ ظن جَمَاعَة من القوم أنها صحيحة لظاهر
ثقة رجالها واتصال إسنادها وظاهر خلوها من العلة ، وَقَدْ أخذوا بتلك الأحاديث
وعملوا بِهَا تحسيناً لظنهم بأولئك الرُّوَاة الثقات فحصل اختلاف بَيْنَ الأحاديث
مِمَّا أدى إلى اختلاف في الفقه الإسلامي .
مثال
ذَلِكَ : حَدِيْث وائل بن حجر في الجهر بآمين بَعْدَ قِرَاءة الفاتحة في الصلاة .
فَقَدْ
رَوَى هَذَا الْحَدِيْث: سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ([1]) ، عن حجر بن
العنبس ([2])
، عن وائل بن حجر ، قَالَ : (( سَمِعْتُ النَّبِيّ r قرأ : } غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ { فَقَالَ : آمين و مد بِهَا صوته )) ([3]) .
وَقَدْ
أخطأ الإمام الحافظ شعبة بن الحجاج ، في هَذَا الْحَدِيْث فخالف سفيان في رِوَايَة
هَذَا الْحَدِيْث إِذْ رَوَاهُ عن سلمة بن كهيل ، عن حجر أبي العنبس ، عن علقمة بن
وائل ، عن وائل ، قَالَ : (( صلى بنا رَسُوْل الله r فلما قرأ : } غَيْر
المغضوب عليهم ولا الضالين { قَالَ : آمين وأخفى بِهَا صوته )) ([4]) .
فَقَدْ
خالف شعبة سفيان في سند الْحَدِيْث :
عندما أضاف
علقمة .
أبدل حجر
بن عنبس بـ : ( حجر أبو العنبس ) .
خالفه في
الْمَتْن فَقَالَ : (( خفض بِهَا صوته ))
قَالَ
الإمام الترمذي : (( سَمِعْتُ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيْل – البخاري – يقول :
(( حَدِيْث سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل في هَذَا الباب أصح من حَدِيْث شعبة ،
وشعبة أخطأ في هَذَا الْحَدِيْث في مواضع ، قَالَ : (( عن سلمة بن كهيل ، عن حجر
أبي العنبس ، وإنما هُوَ حجر بن عنبس ، عن وائل بن حجر ، ليس فِيْهِ علقمة ، وَقَالَ :
(( وخفض بِهَا صوته )) وَالصَّحِيْح أنه جهر بِهَا )) وسألت أبا زرعة فَقَالَ : ((
حَدِيْث سفيان أصح من حَدِيْث شعبة ، وَقَدْ رَوَاهُ العلاء بن صالح([5])
)) ([6])
.
وَقَدْ
عقّب الحافظ البيهقي عَلَى قَوْل هذين الجهبذين فَقَالَ : (( أما خطؤه في متنه
فبين ، وأما قوله : (( حجر أبو العنبس )) فكذلك ذكره مُحَمَّد بن كثير عن الثوري ([7])
، وأما قوله : عن علقمة فَقَدْ بين في روايته أن حجراً سمعه من علقمة ، وَقَدْ
سمعه أَيْضاً من وائل نفسه ([8])
، وَقَدْ رَوَاهُ أبو الوليد الطيالسي عن شعبة نحو رِوَايَة الثوري )) ([9])
.
وَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ : (( كَذَا قَالَ شعبة وأخفى بِهَا صوته ، ويقال : إنه وهم
فِيْهِ ؛ ولأن سفيان الثوري ومحمد بن سلمة
بن كهيل ، وغيرهما رووه عن سلمة ، فقالوا: ورفع
صوته بآمين ، وَهُوَ الصواب )) ([10]).
والذي
يهمنا في مجال بحثنا هُوَ خطأ الإمام شعبة بقوله : (( أخفى بِهَا صوته )) ،
والمرجح هنا هُوَ رِوَايَة سفيان ، وعند الاختلاف من غَيْر مرجحات فرواية سفيان
أقوى من رِوَايَة شعبة ؛ إِذْ قَالَ شعبة نفسه : (( سُفْيَان أحفظ مني )) ،
وَقَالَ لَهُ رجل: وخالفك سُفْيَان قَالَ: (( دمغتني )) ، وَقَالَ يحيى بن سعيد
القطان: (( ليس أحدٌ أحب إليّ من شعبة ، ولا يعدله عندي ، وإذا خالفه سفيان أخذت
بقول سفيان )) ([11]).
وَقَالَ البيهقي : (( لا أعلم اختلافاً بَيْنَ أهل العلم بالحديث أن سفيان وشعبة
إذا اختلفا فالقول قَوْل سفيان ))([12]).
وَقَدْ
احتج ابن قيم الجوزية ([13])
بترجيح رِوَايَة سفيان بخمس حجج :
الأولى :
قَوْل العلماء السابق في ترجيح رِوَايَة سفيان .
الثانية :
متابعة العلاء بن صالح ([14])
، ومحمد بن سلمة بن كهيل ([15])
لسفيان في روايتيهما عن سلمة بن كهيل ([16]) .
الثالث :
هُوَ أن أبا الوليد الطيالسي رَوَى عن شعبة في الْمَتْن بنحو حَدِيْث الثوري ، إذن
فَقَد اختلف عَلَى شعبة في روايته فَقَالَ البيهقي: (( فيحتمل أن يَكُوْن تنبه
لِذَلِكَ فعاد إلى الصواب في متنه ، وترك ذكر ذَلِكَ عن علقمة في إسناده )) .
الرابع :
هُوَ أن رِوَايَة الرفع متضمنة لزيادة ، وكانت هَذِهِ الزيادة أولى بالقبول .
الخامس:
هِيَ أن هَذِهِ الرِّوَايَة موافقة ومفسرة لحديث أبي هُرَيْرَة : (( إذا أمن
الإمام
فأمنوا )) ([17]).
ثُمَّ إن
الْحَدِيْث ورد من طريق علقمة بن وائل ([18]) ، وعبد الجبار
بن وائل ([19])
، وكليب بن شهاب ([20])
؛ ثلاثتهم رووه عن وائل بن حجر بنحو رِوَايَة سُفْيَان ، وهذا كله يدل عَلَى أن
شعبة قَدْ أخطأ في هَذَا الْحَدِيْث .