أهمية
مَعْرِفَة الاختلافات في المتون والأسانيد
إذا كَانَ كُلّ علم يستمد شرفه من مدى نفعه
-كَمَا قررناه آنفاً-،فإن العلم بمعرفة الاختلافات الَّتِيْ تقع في المتون
والأسانيد لَهُ أهمية كبيرة ؛ لأن علم الْحَدِيْث من أشرف العلوم الشرعية ، ومعرفة
الاختلافات لها أثر كبير في تمييز الْحَدِيْث الصَّحِيْح من السقيم .
ثُمَّ
إن الَّذِيْ يزيد هَذَا الفن أهمية أنه من أشد العلوم غموضاً ، فلا يدركه إلا من
رزق سعة الرِّوَايَة ، وَكَانَ مع ذَلِكَ حاد الذهن ثاقب الفهم دقيق النظر واسع
المران كَمَا تقدم . ومعرفة الاختلافات والترجيح بينها من الأمور الَّتِيْ لا تنال
إلا بممارسة كبيرة في الإعلال والتضعيف ومعرفة السند الصَّحِيْح من الضعيف ،
فَمَنْ أَكْثَرَ الاشتغال بعلم الْحَدِيْث وحفظ جملة مستكثرة من المتون وعرف خفايا
المتون والأسانيد ومشكلاتها استطاع أن يميز الْحَدِيْث الصَّحِيْح من الْحَدِيْث
المختلف فِيْهِ، لذا قَالَ الربيع بن خُثَيْم :
(( إن للحديث ضوءاً كضوء النهار تعرفه وظلمة كظلمة الليل تنكره ))
ومعرفة
العلل واختلافات المتون والأسانيد هِيَ لُبُّ القضايا في علوم الْحَدِيْث وأدقها
وأغمضها ، وَقَدْ قعّد الْمُحَدِّثُوْنَ النقاد القواعد لتنقية الأحاديث النبوية
وحفظها من أوهام الناقلين وأخطائهم . ومصدر اختلاف المتون والأسانيد يبقى خفياً
غامضاً لا يكشفه إلا من جمع بَيْنَ الحفظ والفهم والمعرفة . ومعرفة الاختلافات في
المتون والأسانيد أمر خفيٌّ غامض لا يصل إِلَيْهِ نظر الباحث إلا بالغربلة
والدراسة المعمقة مع رصيد كبير من الممارسة الحديثية . ثُمَّ إنّ الخبرة وطول
المذاكرة وزيادة الحفظ والملكة القوية ، وجمع الأبواب والتمرّس المستمر في ذَلِكَ
هُوَ الَّذِيْ جعل الأئمة النقاد يعرفون الاختلافات بالنظر إِلَيْهَا لمخالفتها ما
لديهم من صواب في المتون والأسانيد .
ثُمَّ
إنّ عَلَى طالب الْحَدِيْث قَبْلَ أن يعلَّ حديثاً بالاختلاف أن يجمع طرق
الْحَدِيْث ويستقصيها من المصنفات والجوامع والمسانيد والسنن والأجزاء ، ويسبر
أحوال الرُّوَاة فينظر في اختلافهم وفي مقدار حفظهم ومكانتهم من الضبط والإتقان ،
وعند ذَلِكَ وبعد النظر الشديد في القرائن والمرجحات والاستعانة بأقوال الأئمة
نقاد الْحَدِيْث وحفاظ الأثر وإشاراتهم ؛ يقع في نفس الباحث الناقد أن الْحَدِيْث
معلٌّ بالاختلاف ، كأن يَكُوْن الْحَدِيْث الموصول معلاً بالإرسالِ أَوْ الانقطاع
أَوْ يَكُوْن المرفوع معلاً بالوقف
أو أن هناك سقطاً بسبب التدليس ، أو يجد دخول حَدِيْث في حَدِيْث أو يجد وهم واهمٍ
أو ما أشبه ذَلِكَ من العلل القادحة .
والنظر
العميق في التعرف عَلَى الاختلافات في المتون والأسانيد لَهُ أهمية بالغة للفقيه
فضلاً عَنْ المحدِّث؛ لأن الفقيه لا يستطيع أن يعرف صحة الْحَدِيْث من عدمها
حَتَّى يقر في نفسه ويعتقد أنّ هَذَا الْحَدِيْث خالٍ من الخلل والوهم بسبب
الاختلافات. والنظر والتنقير في الترجيح بَيْنَ الاختلافات عَلَى حسب المرجحات
والقرائن المحيطة بالحديث تعطي الفقيه والمحدّث مَعْرِفَة هل أنّ الْحَدِيْث صالح
للاحتجاج والعمل أم لا ؟
إنّ
جهابذة الْحَدِيْث ونقاده وصيارفته وأفذاذه حثوا عَلَى مَعْرِفَة الاختلافات ،
فَقَالَ الإمام أحمد بن حَنْبَل – يرحمه الله – : (( إن العالم إذا لَمْ يعرف
الصَّحِيْح والسقيم ، والناسخ والمنسوخ من الْحَدِيْث لا يسمى عالماً ))
.
وَقَالَ
قتادة : ((
من لَمْ يعرف الاختلاف لَمْ يشم أنفه الفقه ))
.
وَقَالَ
سعيد بن أبي عروبة : ((
من لَمْ يَسْمَع الاختلاف فلا تعدوه عالماً )) .
وَقَالَ
عطاء بن أَبِي رباح : ((
لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حَتَّى يَكُوْن عالماً باختلاف الناس ))
.
هذا
وغيره من أقوال الأئمة النقاد في حثهم عَلَى تعلّم الاختلافات ودراستها حَتَّى
يخرج طالب العلم فقيهاً محدّثاً ، وَقَدْ أدرك الصدر الأول من أهل العلم أهمية
ذَلِكَ للفقيه والمحدِّث ، وأنَّ الفقه والحديث صنوان لا ينفكان وتوأمانِ
مُتلازمان لا غِنَى لأحدهما عَنْ الآخر ، ومَنْ كَلَّ في أحدهما خيف عَلَيْهِ
السقط في الآخر وَلَمْ يُؤْمَن عَلَيْهِ من الغلط، بَلْ ربما كَانَ مدعاة للوهم
والإيهام . ونجد السابقين من العلماء حثوا عَلَى تعلم العلمين، نقل الكتاني
في " نظم المتناثر"
عَنْ سفيان الثوري
وسفيان بن عيينة وعبد الله بن سنان
قالوا : (( لَوْ كَانَ أحدنا قاضياً لضربنا بالجريد
فقيهاً لا يتعلم الْحَدِيْث ومحدّثاً لا يتعلم الفقه )).
وَقَدْ
نبّه الْحَاكِم النيسابوري عَلَى أن علم الفقه أحد العلوم المتفرعة من علم
الْحَدِيْث ، فَقَدْ قَالَ : (( مِنْ علم الْحَدِيْث مَعْرِفَة فقه الْحَدِيْث
،إِذْ هُوَ ثمرة هَذِهِ العلوم، وبه قوام الشريعة ، فأما فقهاء الإسلام أصحاب
القياس والرأي والاستنباط والجدل والنظر فمعروفون في كُلّ عصر وأهل كُلّ بلد ،
ونحن ذاكرون بمشيئة الله في هَذَا الموضع فقه الْحَدِيْث ، عَنْ أهله ليستدل
بِذَلِكَ عَلَى أن أهل هَذِهِ الصنعة من تبحر فِيْهَا لا يجهل فقه الْحَدِيْث ،
إِذْ هُوَ نوع من أنواع هَذَا العلم ))
.
ثُمَّ
إنا نلاحظ أن العلماء من أهل الفقه والحديث قَدْ ألّفوا كتباً جامعة تناولوا
فِيْهَا الاختلافات فأبدعوا فِيْهَا ؛ لذا نجد أن الإمام الشَّافِعِيّ ألّف فِي
اخْتِلاَفِ الْحَدِيْث ،
ثُمَّ تبعه ابْن قتيبة ،
وأبو يَحْيَى زكريا بن يَحْيَى الساجي
،
والطحاوي ،
وابن الجوزي .
وهذه الكتب تضم اختلافات المتون والأسانيد ، وَهِيَ دراسات علمية جادة قل نظيرها تدلنا
عَلَى اهتمام الْمُحَدِّثِيْنَ بالجانبين الفقهي والحديثي والتعرف عَلَى
الاختلافات لذين العِلْمَين تعصم صاحبها من الزلل وتقيه من الوهم .
الدكتور ماهر ياسين الفحل
العراق /الأنبار/الرمادي/ص .ب 735
al-rahman@uruklink.net