تعارض الوقف و الرفع دكتور ماهر الفحل
الوقف: مَصْدَر للفعل وقف وَهُوَ مَصْدَر
بمعنى المفعول ، أي مَوْقُوْف ([1]) .
والمَوْقُوْف : هُوَ مَا يروى عن
الصَّحَابَة من أقوالهم ، أو
أفعالهم ونحوها فيوقف عَلَيْهِمْ وَلاَ يتجاوز بِهِ إلى رَسُوْل الله صلي الله عليه وسلم.([2])
والرَّفْع : مَصْدَر للفعل رَفَعَ ،
وَهُوَ مَصْدَر بمعنى المفعول ، أي : مَرْفُوْع([3])
، والمَرْفُوْع : هُوَ مَا أضيف إلى رَسُوْل الله صلي الله عليه وسلم خَاصَّة ([4]).
والاختلاف في بَعْض الأحاديث رفعاً
ووقفاً أمرٌ طبيعي ، وجد في كثيرٍ من الأحاديث ، و الحَدِيْث الواحد الَّذِي يختلف
بِهِ هكذا محل نظر عِنْدَ المُحَدِّثِيْنَ ، وَهُوَ أن المُحَدِّثِيْنَ إذا وجدوا
حديثاً روي مرفوعاً إلى النَّبيّ r ، ثُمَّ نجد الحَدِيْث عينه قَدْ روي عن الصَّحَابيّ نفسه موقوفاً
عَلَيْهِ ، فهنا يقف النقاد أزاء ذَلِكَ؛ لاحتمال كون المَرْفُوْع خطأً
من بَعْض الرواة و الصَّوَاب الوقف ، أو لاحتمال كون الوقف خطأ و الصَّوَاب الرفع
؛ إذ إن الرفع علة للموقوف و الوقف علة للمرفوع . فإذا حصل مِثْل هَذَا في حَدِيث
ما ، فإنه يَكُون محل نظر وخلاف عِنْدَ العُلَمَاء وخلاصة أقوالهم فِيْمَا يأتي:
إذا
كَانَ السَّنَد نظيفاً خالياً من بقية العلل ؛ فإنّ للعلماء فِيهِ الأقوال الآتية
:
القَوْل الأول : يحكم للحديث بالرفع
لأن راويه مثبت وغيره ساكت، وَلَوْ كَانَ
نافياً فالمثبت مقدم عَلَى النافي ؛ لأَنَّهُ علم ما خفي ، وَقَدْ عدوا ذَلِكَ
أيضاً من قبيل زيادة الثِّقَة، وَهُوَ قَوْل كَثِيْر من المُحَدِّثِيْنَ ، وَهُوَ
قَوْل أكثر أهل الفقه و الأصول([5])، قَالَ العراقي: (( الصَّحِيح
الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أن الرَّاوِي إذا رَوَى الحَدِيْث مرفوعاً وموقوفاً
فالحكم للرفع ، لأن مَعَهُ في حالة الرفع زيادة ، هَذَا هُوَ المرجح عِنْدَ أهل
الحَدِيْث )) ([6]) .
القَوْل الثَّانِي: الحكم للوقف([7]) .
القَوْل الثَّالِث : التفصيل
فالرفع زيادة ، و الزيادة من الثِّقَة
مقبولة ، إلا أن يوقفه الأكثر [ قلت المدون والأضبط حفظا ] ويرفعه واحد ، لظاهر غلطه ([8])
.
والترجيح
برواية الأكثر { قلت المدون والأضبط } هُوَ الذي عَلَيْهِ العَمَل عِنْدَ المُحَدِّثِيْنَ؛ لأن رِوَايَة
الجمع إذا كانوا ثقات أتقن وأحسن و أصح و أقرب للصواب ؛ لذا قَالَ ابن المبارك : ((
الحفاظ عن ابن شهاب ثلاثةٌ : مَالِك ومعمر و ابن عيينة ، فإذا اجتمع اثنان عَلَى
قولٍ أخذنا بِهِ ، وتركنا قَوْل الآخر )) ([9])
.
{ قلت المدون اشترط ابن شهاب شرطا خفيا ذكره في السياق وشرطا صريحا أما الشرط الخفي في قوله الحفاظ وأما الشرط الصريح فهو العدالة العالية وشدة
الضبط المعروفه عن كونهم أي مَالِك ومعمر و ابن عيينة كذلك وترتيبه هكذا لهم هو
ترتيب للأولوية إذا كان التعارض بينهم هم، فمالك مقدم علي معمر ومعمر مقدم علي
سفيان بن عيينة إذا تعارض متن حديثهم فليس الجماعة فقط بل يلزم أيضا شدة الحفظ والإتقان لتفاوت درجات الحفظ والشدة الضبط بين الحفاظ المتقنين
قَالَ
العلائي : (( إن الجماعة إذا اختلفوا في إسناد حَدِيث كَانَ القَوْل فِيْهِمْ
للأكثر عدداً...
أو للأحفظ و الأتقن... ويترجح هَذَا أيضاً من جهة المَعْنَى ، بأن
مدار قبول خبر الواحد عَلَى غلبة الظن ، وعند الاختلاف فِيْمَا هُوَ مقتضى لصحة
الحَدِيْث أو لتعليله ، يرجع إلى قَوْل الأكثر عدداً لبعدهم عن الغلط و السهو ، وَذَلِكَ
عِنْدَ التساوي في الحفظ والإتقان . فإن تفارقوا واستوى العدد فإلى قَوْل الأحفظ و
الأكثر إتقاناً ، وهذه قاعدة متفق عَلَى العَمَل بِهَا عِنْدَ أهل الحَدِيْث )) ([10]) .
القَوْل الرابع : يحمل المَوْقُوْف عَلَى
مَذْهَب الرَّاوِي ، و المُسْنَد عَلَى أَنَّهُ روايته فَلاَ تعارض([11]). وَقَدْ رجح الإمام
النَّوَوِيّ من هذِهِ الأقوال القَوْل الأول([12])
، ومشى عَلَيْهِ في تصانيفه ، و أكثر من القَوْل بِهِ .
والذي ظهر لي – من صنيع جهابذة
المُحَدِّثِيْنَ ونقادهم – : أنهم لا يحكمون عَلَى الحَدِيْث الَّذِي اختلف فِيهِ
عَلَى هَذَا النحو أول وهلة ، بَلْ يوازنون ويقارنون ثُمَّ يحكمون عَلَى الحَدِيْث
بما يليق بِهِ ، فَقَدْ يرجحون الرِّوَايَة المرفوعة ، وَقَدْ يرجحون الرِّوَايَة
الموقوفة ، عَلَى حسب المرجحات والقرائن المحيطة بالروايات ؛ فعلى هَذَا فإن حكم
المُحَدِّثِيْنَ في مِثْل هَذَا لا يندرج تَحْتَ قاعدة كلية مطردة تقع تحتها
جَمِيْع الأحاديث ؛ لِذلِكَ فإن مَا أطلق الإمام النَّوَوِيّ ترجيحه يمكن أن
يَكُون مقيداً عَلَى النحو الآتي :
الحكم للرفع - لأن راويه مثبت وغيره ساكت
، وَلَوْ كَانَ نافياً فالمثبت مقدم عَلَى النافي ؛ لأَنَّهُ علم مَا خفي - ، إلا
إذَا قام لدى الناقد دليل أو ظهرت قرائن يترجح معها الوقف .
وسأسوق أمثلة لأحاديث اختلف في رفعها
ووقفها متفرعة عَلَى حسب ترجيحات المُحَدِّثِيْنَ .
فمثال مَا اختلف في رفعه ووقفه وكانت
كلتا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيْحَة :
حَدِيث عَلِيٍّ رضي الله عنه : (( ينضح من بول الغلام ، ويغسل بول الجارية )).
قَالَ الإمام التِّرْمِذِي : (( رفع هشام الدستوائي هَذَا الحَدِيْث عن قتادة وأوقفه سعيد بن
أبي عروبة ، عن قتادة ، وَلَمْ يرفعه )) ([13])
.
وَقَالَ الحافظ ابن حجر : (( إسناده
صَحِيْح إلا أَنَّهُ اختلف في:
رفعه ووقفه ، وَفِي وصله وإرساله ، وَقَدْ رجح
البُخَارِيّ صحته وكذا الدَّارَقُطْنِيّ )) ([14])
.
والرواية المرفوعة : رواها معاذ بن هشام ([15])، قَالَ: حَدَّثَني
أبي([16])، عن قتادة ، عن أبي حرب بن أبي الأسود ([17])
، عن أبيه ([18]) ، عن عَلِيّ بن أبي
طالب ، مرفوعاً ([19]) .
قَالَ البزار : (( هَذَا الحَدِيْث لا
نعلمه يروى عن النَّبيّ صلي الله عليه وسلم ، إلا من هَذَا
الوجه بهذا الإسناد ، وإنما أسنده معاذ بن هشام ، عن أبيه ، وَقَدْ رَواهُ غَيْر
معاذ بن هشام ، عن قتادة، عن أبي حرب ، عن أبيه ، عن عَلِيّ ، موقوفاً) ([20]) . أقول : إطلاق البزار في حكمه عَلَى تفرد
معاذ بن هشام بالرفع غَيْر صَحِيْح إِذْ إن معاذاً قَدْ توبع عَلَى ذَلِكَ تابعه
عَبْد الصمد بن عَبْد الوارث ([21]) عِنْدَ أحمد ([22]) ، والدارقطني ([23]) ،لذا فإن قَوْل
الدَّارَقُطْنِيّ كَانَ أدق حِيْنَ قَالَ:( يرويه قتادة ، عن أبي حرب بن أبي
الأسود ، عن أبيه ، رفعه هشام بن أبي عَبْد الله من رِوَايَة ابنه معاذ وعبدالصمد
بن عَبْد الوارث ، عن هشام ، ووقفه غيرهما عن هشام )) ([24])
.
والرواية الموقوفة : رواها يَحْيَى بن
سعيد ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أبي حرب بن أبي الأسود ، عن أبيه ،
عن عَلِيّ ، فذكره موقوفاً ([25]) .
فالرواية الموقوفة إسنادها صَحِيْح عَلَى
أن الحَدِيْث مرفوعٌ صححه جهابذة المُحَدِّثِيْنَ: البُخَارِيّ والدارقطني - كَمَا
سبق، وابن خزيمة ([26]) ، وابن حبان ([27]) ، والحاكم([28]) - وَلَمْ يتعقبه
الذهبي – ، ونقل صاحب عون المعبود عن المنذري([29])
قَالَ :(قَالَ البُخَارِيّ : سعيد بن
أبي عروبة لا يرفعه وهشام يرفعه ، وَهُوَ حافظ )) ([30])
.
أقول : هكذا صَحّح الأئمة رفع هَذَا
الحَدِيْث ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ موقوفاً أيضاً ؛ وهذا يدل عَلَى أن الحَدِيْث
إذا صَحَّ رفعه ، ووقفه ، فإن الحكم عندهم للرفع ، وَلاَ تضر الرِّوَايَة الموقوفة
إلا إذا قامت قرائن تدل عَلَى أن الرفع خطأ .
----------------------------