رابع
عشر : ( ص 32 ) : قالا : (( هذا الموقف المضطرب من توثيق ابن حبان والعجلي وابن
سعد وأضرابهم ، والذي يمكن تقديم عشرات الأمثلة عليه لا يمكن إحالته على سبب من الأسباب ، سوى
الابتعاد عن المنهج وخلو الكتاب منه ، ومثله مثل مئات التراجم التي لم يحررها
تحريراً جيداً ، بحيث ضعَّف ثقات ، ووثق ضعفاء ، وقبل مجاهيل ، واستعمل عبارات غير
دقيقة في المختلف فيهم مما سيجده القارئ الباحث في مئات الانتقادات والتعقبات التي
أثبتناها في " تحرير أحكام التقريب " ))
أما
القاعدة الصحيحة في الموقف من توثيق ابن حبان ، فهي كما يلي :
1- ما
ذكره في كتابه " الثقات " وتفرد بالرواية عنه واحد – سواء أكان ثقة أم
غير ثقة – ولم يذكر لفظاً يفهم منه توثيقه ، ولم يوثقه غيره ، فهو يعد مجهول العين
، وهي القاعدة التي سار عليها ابن القطان الفاسي وشمس الدين الذهبي ، ولهما فيها سلف عند الجهابذة
، فقد قال علي ابن المديني في جري بن كليب السدوسي البصري : (( مجهول لا أعلم روى
عنه غير قتادة )) ، وقال في جعفر بن يحيى بن ثوبان : (( شيخ مجهول لم يرو عنه غير
أبي عاصم ( الضحاك بن مخلد النبيل ) )) ، وقال أبو حاتم الرازي في حاضر بن المهاجر
الباهلي : (( مجهول )) مع أن شعبة بن
الحجاج روى عنه .
2- إذا
ذكره ابن حبان وحده في " الثقات " وروى عنه اثنان ، فهو مجهول الحال .
3- إذا
ذكره ابن حبان وحده في " الثقات " وروى عنه ثلاثة ، فهو مقبول في
المتابعات والشواهد .
4- إذا
ذكره ابن حبان وحده في " الثقات " وروى عنه أربعة فأكثر ، فهو صدوق حسن
الحديث .
5 - إذا
صرح ابن حبان بأنه مستقيم الحديث أو لفظة أخرى تدل على التوثيق فمعنى هذا أنه فتش حديثه فوجده صحيحاً مستقيماً
موافقاً لأحاديث الثقات ، فمثل هذا يوثق مثله مثل أي توثيق لواحد من الأئمة الكبار
، لما لابن حبان من المنـزلة الرفيعة في الجرح والتعديل .
6- أما
تضعيفه ، فينبغي أن يعد مع الجهابذة المجودين ، لما بينه في كتابه من الجرح المفسر
، وربما يعترض معترض علينا في عدم اعتبار ذكر ابن حبان لراو تفرد عنه الواحد
والاثنان في " الثقات " ، فنقول : إن ابن حبان ذكر في " الثقات "
كل من لم يعرف بجرح ، وإن كان لا يعرفه ، وهذا لا يدل على توثيق أصلاً ، فقد قال
في " الثقات " مثلاً : (( سلمة ، يروي عن ابن عمر ، روى عنه سعيد بن
سلمة ، لا أدري من هو ولا ابن من هو )) ! وقال في موضع آخر : (( جميل ، شيخ يروي
عن أبي المليح بن أسامة روى عنه عبد الله
بن عون ، لا أدري من هو ولا ابن من هو )) وقال في ترجمة الحسن بن مسلم الهذلي : ((
يروي عن مكحول روى عن شعبة ، إن لم يكن
ابن عمران فلا أدري من هو )) .
أقول
مستعيناً بالله : انطوى كلامهما هذا بطوله على جملة من التوهمات والقواعد الباطلة
والتناقضات الواضحة ، أقتصر الرد فيها على الأمور الآتية :
أولاً :
وصفهما لكتاب ابن حجر بالخلو من المنهج والابتعاد عنه ، تهمة قذفا بها الحافظ وهي
بهما أحق ، ومن خلال تتبعي لتراجم تحريرهما وقفت على جملة أشياء ، تثبت بما لا
يقبل الشك ، خلو تحريرهما من المنهج ، وافتقارهما إلى سبيل واضحة يسيران عليها ،
الأمر الذي نجم عنه ظهور ما يأتي :
1- من بدهيات
علم التحقيق : أن المحقق يسير على طريق واضحة ، يتخذها نهجاً له في الكتاب كله ،
والمحرران تجردا في تحقيقهما لنص التقريب من أي منهج ، ومن الأمثلة على هذا أنهما
اضطربا في مسألة إثبات الصواب في المتن أو الهامش ، وسأجلي لك عظم هذا الاضطراب من الإحصائية الآتية :
أ.
أثبتا الصواب في الأصل ، وأشارا إلى الخطأ في الهامش ، في
مئة وثمان وعشرين ( 128 ) ترجمة ، وإليك أرقامها :
عقيب :
85 ، 395 ، 535 ، 549 ، 558 ، 598 ، 601 ، 609 ، 773 882 ، عقيب : 901 ، 907 ، 1092 ، 1459 ، 1521 ،
1580 1599 ، 1618 ، 1620 ، 1664 ، 1875 ،
1997 ، 2024 ، 2207 2442 ، 2600 ، 2669 ،
2763 ، 2823 ، 2900 ، 2912 ، 2949 3288 ،
3327 ، 3388 ، 3436 ، 3503 ، 3510 ، 3539 ، 3577
3616 ، 3654 ، 3760 ، 3795 ، 4035 ، 4217 ، 4278 ، 4383 4598 ، 4629 ، 4630 ، 4827 ، 4886 ، 4941 ،
عقيب : 5262 5531 ، 5735 ، 5746 ، 5822 ،
5862 ، 5913 ، 5934 ، 5992 6019 ، 6065 ،
6098 ، 6139 ، 6140 ، 6225 ، 6229 ، 6241
6312 ، 6412 ، 6440 ، 6448 ، 6491 ، 6498 ، 6499 ، 6546 6576 ، 6592 ، 6648 ، 6673 ، 6700 ، 6722 ،
6750 ، 6777 6778 ، 6822 ، 6926 ، 6954 ،
6988 ، 7070 ، 7081 ، 7241 7349 ، 7359 ،
7386 ، 7427 ، 7472 ، 7497 ، 7603 ، 7626
7627 ، 7639 ، 7682 ، 7756 ، 7783 ، 7883 ، 7888 ، 7932 7946 ، 8049 ، 8102 ، 8148 ، 8174 ، 8237 ،
8239 ، 8327 8339 ، 8349 ، 8421 ، 8447 ،
8685 ، 8801 ، عقيب : 8807 عقيب : 8813 ،
8822 .
ب.
أثبتا الخطأ في الأصل ، وأشارا إلي الصواب في الهامش ، في مئة وأربع وأربعين ( 144
) ترجمة ، وإليك أرقامها :
38 ، 44
، 56 ، 146 ، 176 ، 193 ، 223 ، 262 ، 336 ، 368 418 ، 444 ، 568 ، 573 ، 589 ،
607 ، 643 ، 670 ، 783 815 ، 836 ، 861 ،
894 ، 910 ، 946 ، 952 ، 954 ، 962 967 ،
1007 ، 1028 ، 1070 ، 1124 ، 1150 ، 1154 ، 1591
1619 ، 1628 ، 1859 ، 1974 ، 2059 ، 2108 ، 2466 ، 2490 2589 ، 2602 ، 2802 ، 2833 ، 2964 ، 3044 ،
3136 ، 3264 3303 ، 3314 ، 3325 ، 3348 ،
3396 ، 3398 ، 3454 ، 3457 3486 ، 3491 ،
3500 ، 3517 ، 3524 ، 3534 ، 3585 ، 3607
3615 ، 3648 ، 3667 ، 3677 ، 3689 ، 3724 ، 3728 ، 3766 4060 ، 4127 ، 4277 ، 4300 ، 4304 ، 4314 ،
4315 ، 4333 4336 ، 4378 ، 4384 ، 4397 ،
4416 ، 4417 ، 4440 ، 4482 4491 ، 4817 ،
4879 ، 5004 ، 5329 ، 5465 ، 5679 ، 5970
6079 ، 6114 ، 6178 ، 6314 ، 6569 ، 6867 ، 6890 ، 6993 7110 ، 7150 ، 7162 ، 7203 ، 7224 ، 7226 ،
7244 ، 7304 7334 ، 7347 ، 7354 ، 7414 ،
7456 ، 7532 ، 7553 ، 7565 7616 ، 7680 ،
7749 ، 7847 ، 7859 ، 7872 ، 7873 ، 8013
8275 ، إحالة 4 / 243 ( أبو عمر الندبي ) ، 8283 ، إحالة 4 / 344 ( العائذي ) ، إحالة 4 / 353 ( الهجري ) ،
إحالة 4 / 365 ( زوج درة ) إحالة 4 / 366 ( سابق العرب ) ، 8522 ، 8573 ، 8745 ،
8799 .
أفليس
هذا من الابتعاد عن المنهج وعدم الالتزام به ؟! .
2 – ومن الأمثلة على فقدان المنهج عند المحررين ، أنهما أضافا ترجمتين
ادعيا أنهما من عندهما – ولست أريد هنا أن أدخل في نقاش معهما في ذلك فقد تناولت
ذلك مفصلاً في موضعه من كتابي " كشف الإيهام "– ولكن الذي تجدر الإشارة
إليه أنهما لما أضافا ترجمة ( زياد بن عمرو بن هند الجملي ) كررا رقم الترجمة التي
قبله وأعقباها بحرف ( ب ) ولما أضافا
ترجمة ( عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي ) كررا أيضاً رقم الترجمة التي قبله ،
وأعقباها بحرف ( م ) .
فهل هذا
من المنهج في شيء ؟ ولو كان لديهما منهج لظهر هنا ، إذ الأمر في منتهى اليسر فليست
سوى ترجمتين ، فأي الكتابين أبعد عن المنهج ؟!
وقس أنت
الأمور واحكم ، فلئن أخلا بالمنهجية في هذه الجزئية الصغيرة ، فما بقي كان أعظم ؟!
ثانيا :
وضعا جملة من المباحث أسموها (( قاعدة صحيحة )) في الموقف من توثيق ابن حبان ، وهي
أمور في المنتهى من الغرابة ، أوجز الرد عليها بما يأتي :
1- إن
مَنْ يُنَظِّر شيئاً ينبغي عليه أن يكون أول العاملين به ، وهذا مما أخل به
المحرران ، فقد نصا في الفقرة الأخيرة من كلامهما على : (( أن ابن حبان ذكر في
" الثقات " كل من لم يعرف بجرح ، وإن كان لا يعرفه ، وهذا لا يدل على
توثيق أصلاً )) والمحرران بهذا يرميان إلى التفريق بين ذكر ابن حبان للراوي فقط
دون النص على توثيقه ، وبين ذكره مع النص على توثيقه ، وهذا أمر نتفق معهم على
بعضه ؛ لكن المحررين نسيا هذه القاعدة
البتة أثناء عملهما في المجلد الأول من تحريرهما ، ولم تخطر هذه القاعدة لهما على
بالٍ إلا في ثلاثة تراجم ( 420 ، 964 ، 1694 ) وستجد الكثير مما أشرت إليه في كتابي"
كشف الإيهام " ، وكذلك نسيا هذه
القاعدة في كثير من المواضع للمجلدات الأخرى ، عزبت عن التنبيه إليها هنا خشية
الإطالة .
2- تكلم
المحرران في الفقرة (6) عن تضعيف ابن حبان فقالا : (( أما تضعيفه فينبغي أن يعد مع الجهابذة المجودين، لما بينه
في كتابه من الجرح المفسر ))
أقول :
إن كان ابن حبان في جرحه للرواة في مصاف الجهابذة المجودين ، فهل يصح أن نهمل أو
نغمر جرح من هو جهبذ مجود ، كلما عنَّ ذلك لسبب أو لغير سبب ؟! وإليك نماذج لتراجم
تركا فيها قول ابن حبان ، فقالا بغير قوله من غير ما التفات إلى ما ذكرا :
أ-
الترجمة (2723) لم يعتدا بجرح ابن حبان وغمزا قوله : (( ربما خالف ))
ب-
الترجمة ( 3282 ) وصفا جرحه بالتعنت ، وقرعا بالحافظ لاعتداده بجرحه .
ج-
الترجمة ( 3336 ) غمزا فيها جرح ابن حبان .
د-
الترجمة ( 3745 ) ردا فيها جرح ابن حبان .
فكيف
سيكون قولك إذا علمت أن ابن حبان لم ينفرد بجرحه ؟ بل جرح المترجمَ سيدُ النقاد
الإمام البخاري بالصفة نفسها التي جرحه بها ابن حبان والمحرران يلمحان إلى رد نقدهما فقالا : (( أما
قول ابن حبان في " الثقات " : يخطئ ويهم ، فنظنه
أخذه من البخاري )) ، فكيف الأمر وقد ردا جهبذين مجودين ؟!!!
هـ-
الترجمة ( 4275 ) أقذعا القول فيها لابن حبان ، فقالا : (( فهذا – يردان جرحه للراوي – من قعقة ابن حبان ))
.
و-
الترجمة ( 5846 ) غمزا ابن حبان ، فقالا : (( وذكره ابن حبان وحده في " الثقات " ، وقال : يخطئ ويخالف ،
وهذا من عجائبه ! )) .
فحتى
وإن سلمنا جدلاً بأن ابن حبان أخطأ في بعض
هذا فلسنا ندعي عصمته ، فقد كان لازماً عليهما أن يتحدثا عنه بكل أدب واحترام .
3-
اضطرب موقف المحررين من توثيق ابن حبان – حسب ما يستجد لهما من قرائن ، وليت
استقراء القرائن عندهما كان دقيقاً ، فهما يعميان الأمر على القارئ ، فإذا أرادا
توثيق الراوي قالا : وثقه ابن حبان ، وحقيقة الأمر أنه إنما ذكره فقط ، وإذا تكلما
في الراوي ضربا عن توثيقه صفحاً ، وإليك مثُل ذلك :
أ-
الترجمة ( 2906 ) قالا : (( ولم يوثقه سوى ابن حبان ، وتوثيقه شبه لا شيء )) .
ب-
الترجمة ( 3343 ) قالا : (( ولم يوثقه سوى العجلي وابن حبان وتوثيقه شبه لا شيء عند انفرادهما )) .
ج-
الترجمة ( 3349 ) جهلا الراوي وقالا : (( حينما ذكره ابن حبان وحده في "
الثقات " قال : يخطئ )) .
د-
الترجمة ( 3360 ) اعتدا فيها بذكر ابن حبان له في الثقات .
هـ-
الترجمة ( 3617 ) ضعفا الراوي ثم قالا : (( وذكره ابن حبان في "الثقات"
وقال : يخطئ ويخالف )) وهذا اعتداد منهما بالجرح دون التوثيق .
4-
بخصوص نص ابن حبان على توثيق الرواة ، قالا : (( إذا صرح ابن حبان بأنه مستقيم
الحديث أو لفظة أخرى تدل على التوثيق ، فمعنى هذا أنه فتش حديثه ووجده صحيحاً
مستقيماً موافقاً لأحاديث الثقات ، فمثل هذا يُوثق مثله مثل أي توثيق لواحد من
الأئمة الكبار ، لما لابن حبان من المنـزلة الرفيعة في الجرح والتعديل )) .
أقول :
من أسس قاعدة ثم هدمها بمعول مخالفته لها ، حريٌّ بمن بعده عدم الأخذ بها ، وأكتفي
هنا بمثالين ، جاءت إدانتهما فيه من قلميهما ، فقد قال الحافظ ابن حجر في الترجمة
( 3660 ) : (( عبد الله بن نافع الكوفي ، أبو جعفر الهاشمي مولاهم : صدوق ، من
الثالثة . د عس )) .
فتعقباه
بقولهما : (( بل مجهول ، تفرد بالرواية عنه الحكم بن عتيبة ، وذكره ابن حبان في "
الثقات " وقال : صدوق )) فأين المنـزلة الرفيعة ؟ وأين أنزلا توثيق ابن حبان
من توثيق الأئمة الكبار ؟؟ وهل الأمر سوى محاولة تعقب الحافظ ابن حجر ؟ نسأل الله
السلامة .
والمثال
الثاني : قال الحافظ ( 1221 ) الحسن بن جعفر البخاري : (( ثقة )) وقد تعقباه
بقولهما : (( بل مقبول ، روى عنه اثنان ولم يوثقه سوى ابن حبان )) .
أقول :
وابن حبان قد صرح بتوثيقه ( 8 / 173 ) فقال : (( الحسن بن جعفر من أهل بخارا ، ثقة
)) وتصريح ابن حبان في توثيقه للمترجم نقله الإمام المزي في " تهذيب الكمال
" ( 6 / 73 ) ، وابن حجر في " تهذيب التهذيب " ( 2 / 260 ) .
ثالثاً
: مسألة كثرة الرواة عن الشخص هل تعني توثيقاً ؟ أو تحسن من حال الراوي ؟ وهي
مسألة أحب الدخول معهم بصددها في نقاش علمي ، ولذا سيتمحور ردي في كل فقرة منه على
محورين ، الأول : إبطال ما قعداه ، الثاني إيراد أمثلة عملا فيها بخلاف ما قعداه ؛
ولكنني وقبل الولوج في هذا أود أن أتناول قاعدة لهج بها المحرران كثيراً في
كتابهما ، ألا وهي رواية الجمع ، فقد كررا القول مراراً : (( روى عنه جمع )) فهل
رواية الجمع تنفع الراوي أم لا ؟ .
أقول :
لا بد في كل راوٍ – لكي تقبل روايته – من معرفة حاله ، وخبرة سيرته حتى يتسنى للناقد الحكم بقبول رواية ذلك الراوي
أو ردها ، إلا أن بعض الرواة لم يستطع العلماء أن يتعرفوا حالهم ، وهم الذين يدعون
( بالمجاهيل ) وليسوا في طبقة واحدة ، بل المشهور أنهم ثلاثة : مجهول العدالة
ظاهراً وباطناً ، ومجهول العدالة باطناً وهو الذي يسمى ( مجهول الحال ) ، ومجهول
العين .
وقد نصت
كتب المصطلح أن من روى عنه شخص واحد ، ولم يعلم حاله فهو مجهول العين فإن روى عنه
آخر صار مجهول الحال ، فزيادة العدد هنا
قد حسنت من حال الراوي ، لكن ينبغي التنبه لثلاثة أمور :
الأول :
إن هذه الزيادة لم تخرجه عن حيز الجهالة ، بل غاية نفعها أن أزالت عنه شيئاً من
جهالته ، فنقلته من مرتبة جهالة إلى مرتبة جهالة أخرى أخف منها .
الثاني
: إن هذه الزيادة حتى وإن عظمت فبلغت أكثر من اثنين غير مقتضية لإثبات العدالة ،
وقد نص الخطيب البغدادي وغيره على ذلك ، فقال : أقل ما ترتفع به الجهالة – يعني :
جهالة العين – أن يروي عن الرجل اثنان فصاعداً من المشهورين بالعلم كذلك ؟ …إلا
أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه )) (الكفاية : ص :150 ).
الثالث
: إن العبرة أصلاً ليست بكثرة الرواة وقلتهم ، بل بالمعرفة والسبر وللحافظ ابن القطان الفاسي كلام نفيس في كتابه
" بيان الوهم والإيهام " ( 4 / 13 عقيب 1432 ) حول قبول رواية
المستور فقال – رحمه الله - : (( والحق
في هذا أنه لا تقبل روايته ، ولو روى عنه جماعة ، ما لم تثبت عدالته ، ومن يذكر في
كتب الرجال برواية أكثر من واحد عنه مهملاً من الجرح والتعديل ، فهو غير معروف
الحال عند ذاكره بذلك ، وربما وقع التصريح بذلك في بعضهم )) .
وقال
الإمام السيوطي في شرحه لألفية العراقي ( ص 244 ) : (( الرواية تعريف له – [ يعني
: للراوي ] والعدالة بالخبرة ، وبأنه قد لا يعلم عدالته ولا جرحه ))
وقال
أحد الباحثين : (( ذكرت في المبحث السابق عن عدد من أئمة النقد أنهم قد يعدون
الراوي مجهولاً إذا لم يرو عنه إلا راوٍ واحد ، وقد يعدّونه ثقة ، وقد يجهلون من
روى عنه جماعة ، وقد يوثقونه ، أو يذكرون أنه معروف ، وهذا يعني أن العبرة عندهم
ليست في عدد الرواة عن الشيخ ، وإنما العبرة بمعرفته واستقامة روايته )) ( رواة
الحديث الذين سكت عليهم أئمة الجرح والتعديل بين التوثيق والتجهيل ص ( 194 ) ) .
والآن
حان الوقت للدخول في مناقشة كلام المحررين :
1- إن
من ذكره ابن حبان في ثقاته ، وكان له راوٍ واحد ، فهو مجهول العين وهذه قاعدة تكاد تكون محل اتفاق المحدثين ، إلا
أن المحررين لم يلتزما ذلك رغم كونها
عميقة الأصالة لدى المحدثين ، وسأسوق أمثلة على ذلك :
أ-
الترجمة ( 188 ) ، تفرد بالرواية عنه الأوزاعي ، وذكره ابن حبان في الثقات ( 6 /
21 ) ، وقال ابن حجر : مجهول ، تعقباه بأنه : ثقة !!
ب- الترجمة
( 1385 ) ، تفرد بالرواية عنه الزهري ، وذكره ابن حبان في الثقات ( 4/159 ) وقال
ابن حجر : صدوق الحديث ، ولم يتعقباه !!
ج-
الترجمة ( 1722 ) تفرد بالرواية عنه محمد إسحاق ، وذكره ابن حبان في الثقات (
6/271 ) وقال ابن حجر : مقبول ، فتعقباه بأنه : ثقة !!
د- الترجمة
( 3569 ) تفرد بالرواية عنه أبو سعيد جعثل بنص الذهبي في الميزان ( 2 / 483 و 499
) وذكره ابن حبان في الثقات ( 5 / 51 ) قال عنه ابن حجر : صدوق ، فتعقباه بأنه :
ثقة !!
هـ-
الترجمة ( 3669 ) ، تفرد بالرواية عنه عبد الله بن أبي مليكة بنصهما وذكره ابن حبان في ثقاته ( 5 / 47 ) ، وقال عنه
ابن حجر : وثقه النسائي ، فتعقباه بأنه : ثقة !!
و-
الترجمة ( 5091 ) تفرد بالرواية عنه أبو إسحاق السبيعي بنصهما وذكره ابن حبان في الثقات ( 5 / 180 ) ، قال
الحافظ عنه : مقبول فتعقباه بأنه : ثقة !!
ز-
الترجمة ( 5214 ) ، تفرد بالرواية عنه عمرو بن دينار ، ذكره ابن حبان في الثقات (
5 / 281 ) قال الحافظ : ليس بمشهور ، تعقباه بأنه : صدوق حسن الحديث !!
ح-
الترجمة ( 5878 ) تفرد بالرواية عنه سليمان بن حرب ، وذكره ابن حبان في الثقات ( 7
/ 422 ) ، قال الحافظ : مقبول ، فتعقباه بأنه : ثقة !!
ط-
الترجمة ( 7200 ) تفرد بالرواية عنه الأوزاعي ، ذكره ابن حبان في الثقات ( 7 / 545
) قال الحافظ : ثقة ، فتعقباه بأنه : صدوق حسن الحديث !!
ي-
الترجمة ( 7338 ) تفرد بالرواية عنه عبد الله بن عون ، ذكره ابن حبان في الثقات
(7/573) قال الحافظ : مجهول ، فتعقباه بأنه : ثقة !!
ك-
الترجمة ( 8349 ) تفرد بالرواية عنه أبو مجاهد سعد الطائي ، ذكره ابن حبان في
الثقات ( 5 / 72 ) ، قال الحافظ : مقبول ، فتعقباه بأنه : صدوق حسن الحديث !!
وبهذا
القدر أكتفي خشية الإطالة وإملال القارئ ؛ لكن المحررين ربما اعتذرا عن بعض ذلك
بوجود من وثقه ، وهذا العذر لا يسعفهم في شيء ، فقد أكثرا من الذهاب إلى تجهيل من
انفرد عنه بالرواية واحد ، وإن وثقه الجمع
أما الحافظ ابن حجر فربما عدّل من حاله هكذا لقرينة خاصة كصحة أحاديث
الراوي أو غيرها .
2- من
ذكره ابن حبان في الثقات وروى عنه اثنان ، فهو مجهول الحال ، أود الإشارة هنا إلى
أن المحررين لم يعتدا هنا بذكر ابن حبان للراوي في الثقات وذلك لأن رواية الاثنين عن الشيخ رافعة لجهالة
العين مبقية على جهالة الحال ، وهو أمر شاع بين المحدثين ، فما قيمة ذكر ابن حبان
عندهما هنا ؟!
وقول
المحررين قول شاذ غريب ؛ لأننا لم نعهد عن أحد من العلماء المتقدمين إهمال ذكر ابن
حبان للراوي في ثقاته بالكلية ، وإنما كانوا يفصلون في ذلك فيفرقون بين شيوخه وبين من عرفهم وبين غيرهم
كما سيأتي إيضاحه ، فلا يحكمون لأول وهلة بل يوازنون ويقارنون .
3- من
ذكره ابن حبان في الثقات ، وروى عنه ثلاثة ، فهو مقبول في المتابعات والشواهد ، أقول
: هذا تنظير غير صحيح ، فكيف يختلف لديهما الحكم من اثنين إلى ثالث ، وقد سبق
الكلام على أن رواية الجمع لا تؤثر في التوثيق
وكيف يفرقان بين هذه الفقرة وبين التي قبلها في الحكم ، والمحصلة النهائية
لحكمهما واحد ، إذ إن كلاً منهما مقبول في المتابعات والشواهد .
وهذا
التنظير يعدم بالكلية الفائدة من ذكر ابن حبان للرواة في الثقات بالمرة إذ إن المخشي من توثيق ابن حبان توثيق المجاهيل
، فإذا كان المترجم من شيوخه أو شيوخ شيوخه ، أو ممن عرفهم وجالسهم فما المانع من
قبول توثيقه ؟!
4- من
ذكره ابن حبان في الثقات ، وروى عنه أربعة فأكثر ، فهو صدوق حسن الحديث .
أقول :
ما بال زيادة راوٍ واحد نقلت الشيخ من فلك إلى فلك آخر ، ومن رتبة إلى أخرى ، وقد
سبق قولي: إن العدد لا يؤثر في توثيق الراوي ، وما يَرِدُ على الفقرة السابقة
يَرِدُ هنا ، فقد يكون الراوي من شيوخه أو شيوخ شيوخه أو من أهل بلده أو ممن عرفهم
!!
ويحسن
بنا ونحن في هذا المقام أن نعرض لما قرره العلامة المعلمي اليماني – رحمه الله –
وشاع بين كثير من الناس ، إذ قال في التنكيل ( 2 / 450 – 451 ) ( مجلة الحكمة العدد السابع عشر ص 393 ) :
(( والتحقيق أن توثيقه على درجات :
الأولى
: أن يصرح به ، كأن يقول : (( كان متقناً )) أو (( مستقيم الحديث )) أو نحو ذلك .
الثانية
: أن يكون الرجل من شيوخه الذين جالسهم وخبرهم .
الثالثة
: أن يكون الرجل من المعروفين بكثرة الحديث بحيث يعلم أن ابن حبان وقف له على
أحاديث كثيرة .
الرابعة
: أن يظهر من سياق كلامه أنه عرف ذلك الرجل معرفة جيدة .
الخامسة
: ما دون ذلك .
فالأولى
لا تقل عن توثيق غيره من الأئمة ، بل لعلها أثبت من توثيق كثير منهم والثانية قريب منها ، والثالثة مقبولة ،
والرابعة صالحة ، والخامسة لا يؤمن فيها الخلل – والله أعلم - )) .
وقال العلامة
الشيخ ناصر الدين الألباني – رحمه الله - معقباً
على كلام المعلمي : (( هذا تفصيل دقيق يدل على معرفة المؤلف المعلمي – رحمه الله –
وتمكنه من علم الجرح والتعديل وهو مما لم
أره لغيره فجزاه الله خيراً .
غير أنه
قد ثبت لدي بالممارسة أن من كان منهم من الدرجة الخامسة فهو على الغالب مجهول لا
يعرف ، ويشهد بذلك صنيع الحفاظ كالذهبي والعسقلاني وغيرهما من المحققين ، فإنهم
نادراً ما يعتمدون على توثيق ابن حبان وحده ممن كان في هذه الدرجة ، بل والتي
قبلها أحيانا )) .
والحق
في ذلك أن ما قرره العلامتان المعلمي والألباني
إطلاق يفتقر إلى تقييد ، لتصحح هذه القاعدة ، وقد أجاد بعض الباحثين في تفصيل ذلك
، إذ قسم الرجال الذين ترجم لهم ابن حبان في ثقاته إلى قسمين :
القسم
الأول : الذين انفرد بالترجمة لهم .
القسم
الثاني : الذين اشترك مع غيره بالترجمة لهم ، وهم على قسمين أيضاً :
الأول :
الرواة الذين أطلق عليهم ألفاظ الجرح والتعديل ، وهؤلاء الرواة لم يكونوا على درجة
واحدة ، بل كان فيهم الحافظ والصدوق والمجروح والضعيف والمجهول .
الثاني
: الرواة الذين سكت عنهم ، وفيهم الحافظ والصدوق والمستور والمجهول والضعيف ومنكر
الحديث .
وختاماً
نص الباحث نفسه فقال : (( والفصل في الرواة الذين سكت عليهم ابن حبان هو عرضهم على
كتب النقد الأخرى ، فإن وجدنا فيها كلاماً أخذنا بما نراه صواباً مما قاله أصحاب
كتب النقد ، وإن لم نجد فيها كلاماً شافياً طبقنا قواعد النقاد عليهم ، وقواعد ابن
حبان نفسه .
وأغلب
الرواة الذين يسكت عليهم ابن حبان ، ويكون الواحد منهم قد روى عنه ثقة ، وروى عن
ثقة ، يكونون مستورين ، يقبلون في المتابعات والشواهد ولذلك فإنني قلت في رسالتي
عن ابن حبان في الرواة الذين ترجمهم ساكتاً عليهم : بأنهم على ثلاث درجات :
1-
فمنهم الثقات وأهل الصدق .
2-
ومنهم رواة مرتبة الاعتبار .
3-
ومنهم الرواة الذين لا تنطبق عليهم شروط ابن حبان النقدية في المقبول ، وهؤلاء
ذكرهم للمعرفة – والله أعلم - )) ( رواة الحديث الذين سكت عليهم أئمة الجرح
والتعديل بين التوثيق والتجهيل (
ص72 ) ) .
والذي أميل
إليه : أن ما ذهب إليه المحرران من تقييد ذلك بعدد الرواة خطأ محض نشأ عن تسرع في
الأحكام وعجلة كان ينبغي بمن مثلهما أن لا يقع فيها وأن ما ذهب إليه اليماني وتابعه عليه العلامة الألباني
وما نظره الباحث جيد ؛ غير أن الأولى أن يقال أن ذلك لا يناط تحت قاعدة كلية مطردة
بل الأمر يختلف من راوٍ إلى راوٍ حسب المرجحات والقرائن المحيطة التي تحف الراوي ،
فعندها يحكم على ذلك ، وعليه يحمل صنيع الإمامين الجهبذين الذهبي وابن حجر ، إذ إنهما
لم يعملا ذلك تحت قاعدة كلية ، بل مرجع ذلك إلى القرائن المحيطة وحال الراوي وقرب
عهده من بُعْدِه ، وكونه من المعروفين أو غير المعروفين ، وكونه من أهل بلد ابن
حبان من غيرهم ، ولو أدرك المحرران لما وصفا صنيع الحافظ باضطراب المنهج وخلو
كتابه من المنهجية ، نسأل الله الستر والعافية