طرق
الكشف عن الإدراج
الدكتور ماهر الفحل
لَمْ
يَكُن النقد الحديثي في وقت من أوقاته عبارة عن إلقاء للكلام عَلَى عواهنه ،
بَلْ هُوَ أمر في غاية العسر ، تحكمه القرائن وتقويه المرجحات وتسنده أقوال أئمة
هَذَا الشأن .
ولا
ريب أن الكشف عن الْحَدِيْث المعل بأية علة كانت يفتقر إلى اطلاع واسع وخبرة
بالرجال ودراية بأقوال النقاد وملاحظة مواضع كلامهم ، ومن هنا كَانَ الحكم عَلَى
حَدِيْث ما بالإدراج شَيْئاً ليس بالهين .
لذا
نجد الإمام ابن دقيق العيد يضعف الحكم بالإدراج عَلَى الْحَدِيْث إذا كَانَ
اللفظ المدرج في أثناء متن الْحَدِيْث ، ويضعف أكثر إذا كَانَ قَبْلَ اللفظ
المرفوع ، أو معطوفاً عليه بواو العطف ([1])
.
ويعلل
هَذَا الضعف بقوله : (( لما فِيْهِ من
اتصال هَذِهِ اللفظة بالعامل الَّذِيْ هُوَ من لفظ الرسول r ))
([2]) .
والحق
أنه إذا قامت قرائن ومرجحات تقوي في نفس الناقد الحكم عَلَى تِلْكَ اللفظة بالإدراج فلا مانع من ذَلِكَ ، وفي
هَذَا يقول الحافظ ابن حجر : (( وفي الجملة إذا قام الدليل عَلَى إدراج جملة معينة
بحيث يغلب عَلَى الظن ذَلِكَ ، فسواء كَانَ في الأول أو الوسط أَو الآخر ، فإن سبب
ذَلِكَ الاختصار من بعض الرُّوَاة بحذف أداة التفسير أَو التفصيل ، فيجيء مَن بعده
فيرويه مدمجاً من غَيْر تفصيل فيقع ذَلِكَ ))([3]).
وَقَد
وضع العلماء جملة من القواعد الَّتِيْ يعرف بِهَا كون الْحَدِيْث مدرجاً ، يمكننا
حصرها فِيْمَا يأتي :
1.
أن يَكُوْن لفظه مِمَّا تستحيل إضافته إلى النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم.
مثاله:
حَدِيْث عَبْد الله بن المبارك، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري،عن سعيد بن
المسيب،عن أبي هُرَيْرَة t قَالَ:قَالَ رَسُوْل الله r : (( للعبد المملوك أجران، والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل
الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك )) ([4]).
فقوله
: (( والذي نفسي بيده … الخ الْحَدِيْث )) ، مِمَّا تستحيل نسبته إلى النَّبِيّ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم. إِذْ لا يجوز في حقه أن يتمنى الرِّق ، وأيضاً لَمْ تكن لَهُ أم
يبرها ، ولما فتشنا وجدناه مدرجاً من كلام أبي هُرَيْرَة .
فَقَدْ
أخرجه البخاري ([5]) عن بشر بن محمد([6])، عن عَبْد الله بن
المبارك، عن يونس، عن الزهري ، عن أبي هُرَيْرَة ، بِهِ . فأدرج كلام أبي
هُرَيْرَة في المرفوع ، وفصل القدر المدرج ثلاثة من الرُّوَاة عن ابن المبارك هم :
إِبْرَاهِيْم
بن إسحاق الطالقاني : عِنْدَ أحمد ([7]) .
عبدان
المروزي([8]) : عِنْدَ البيهقي ([9]) .
حبان
بن موسى المروزي([10]) : عِنْدَ
الْخَطِيْب ([11]) .
كَمَا
أن ابن المبارك متابع في روايته عن يونس متابعة تامة ، تابعه :
أبو
صفوان الأموي([12]) : عِنْدَ مُسْلِم
([13])
سليمان
بن بلال : عِنْدَ البخاري في " الأدب المفرد " ([14])
.
عَبْد
الله بن وهب : عِنْدَ مُسْلِم ([15])، وأبي عوانة ([16])، والخطيب ([17]) .
عثمان
بن عمر([18]) : عِنْدَ أحمد ([19]) ، وأبي عوانة ([20]) .
فظهر
أن هَذَا الجزء من الْمَتْن مدرج في حَدِيْث رَسُوْل الله من كلام أبي هُرَيْرَة، قَالَ الْخَطِيْب : (( وقول النَّبِيّ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم. هُوَ: (( للعبد الصالح أجران )) فَقَطْ ، وما بَعْدَ ذَلِكَ إنما
هُوَ كلام أبي هُرَيْرَة )) ([21]) .
2.
أن يرد التصريح من الصَّحَابِيّ بأنه لَمْ يَسْمَع تِلْكَ الجملة من النَّبِيّ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم.
مثاله
: ما رواه أحمد بن عَبْد الجبار العطاردي([22])
، عن أبي بكر بن عياش([23]) ،
عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش([24])،
عن عَبْد الله بن مسعود ، عن النَّبِيّ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم.: (( من مات وَهُوَ لا يشرك بالله
شَيْئاً دخل الجنة، ومن مات وَهُوَ يشرك بالله شَيْئاً دخل النار ))([25]).
فأحمد
بن عَبْد الجبار وهم في هَذَا الْحَدِيْث ، فأدرج الجملة الثانية في المرفوع من
الْحَدِيْث وَهُوَ الجملة الأولى ، قَالَ الْخَطِيْب : (( هكذا رَوَى هَذَا
الْحَدِيْث أحمد بن
عَبْد الجبار العطاردي ، عن أبي بكر بن عياش ، ووهم في إسناده وفي متنه .
أما
الوهم في إسناده فإن عاصماً إنما كَانَ يرويه عن أبي وائل شقيق بن سلمة ، عن عَبْد
الله ، لا عن زر ، وَقَدْ رَوَاهُ كذلك عن أبي بكر : أسود بن عامر([26]) شاذان ، وأبو
هشام مُحَمَّد بن يزيد الرفاعي([27])، وأبو كريب
مُحَمَّد بن العلاء الهمداني ، ووافقهم حماد ابن شعيب([28])
والهيثم بن جهم([29]) والد عثمان بن
الهيثم المؤذن ، فروياه عن عاصم، عن أبي وائل كذلك.
وأما
الوهم في متن الْحَدِيْث : فإن العطاردي في روايته جعله كله كلام النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم. وليس كذلك ، وإنما الفصل في ذكر من مات مشركاً قَوْل رَسُوْل الله النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم. ، والفصل الثاني في ذكر من مات غَيْر
مشرك قَوْل عَبْد الله بن مسعود )) ([30])
.
وَقَدْ
رَوَاهُ جمع من الرُّوَاة عن أبي بكر بن عياش وميزوا بَيْنَ الفصلين ، وهم :
أبوكريب
مُحَمَّد بن العلاء : عِنْدَ الْخَطِيْب في " الفصل " ([31]) .
الأسود
بن عامر ( شاذان ) : عِنْدَ : أحمد ([32])
، ومن طريقه الْخَطِيْب ([33]) .
مُحَمَّد
بن يزيد أبو هاشم الرفاعي : عِنْدَ أبي يعلى ([34])
، والخطيب ([35]).
ثُمَّ
إن أبا بكر بن عياش متابع عليه في روايته عن عاصم ، تابعه :
حماد
بن شعيب : عند الْخَطِيْب ([36]).
الهيثم
بن جهم : عِنْدَ الْخَطِيْب أَيْضاً ([37])
.
أبو
أيوب الإفريقي([38]) : عِنْدَ
الطبراني في " الكبير " ([39])
و " الأوسط "([40]) .
ورواه
أحمد بن يونس ، عن أبي بكر بن عياش مقتصراً عَلَى اللفظ المرفوع ([41]) .
ولفظ
الْحَدِيْث كَمَا رَوَاهُ أحمد ([42]) من طريق أسود بن
عامر : قَالَ عَبْد الله : سَمِعْتُ رَسُوْل الله النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم. يقول: (( من جعل لله نداً جعله الله
في النار )) ، وَقَالَ: وأخرى أقولها لَمْ أسمعها مِنْهُ : من مات لا يجعل لله
نداً أدخله الله الجنة .
3.
أن يفصِّل بعض الرُّوَاة فيبينوا المدرج ويَفْصِلُوه عن الْمَتْن المرفوع ،
ويضيفوه إلى قائله :
مثاله
: ما رَوَاهُ عَبْد الله بن خيران ([43])،
عن شعبة ، عن أنس بن سيرين ، أنه سَمِعَ ابن عمر رضي الله تَعَالَى عنهما يقول :
طلقت امرأتي وَهِيَ حائض ، فذكر عمر رضي الله عنه ذَلِكَ للنبي النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم. فَقَالَ : (( مُرهُ فليراجعها ، فإذا طهرت فليطلقها )) قَالَ :
فتحتسب بالتطليقة ؟ قَالَ : فمه ([44]) .
قَالَ
الْخَطِيْب: (( والصواب أن الاستفهام من قَوْل أنس بن سيرين ، وأن جوابه من قول
ابن عمر )) ([45]) .
وَقَدْ
بيّن ذَلِكَ جَمَاعَة الرُّوَاة عن شعبة ، وهم
بهز
بن أسد([46]) : وروايته عِنْدَ
أحمد ([47]) ، ومسلم ([48]).
الحجاج
بن منهال([49]) : عِنْدَ الطحاوي
([50]) .
خالد
بن الحارث : عِنْدَ مُسْلِم ([51]) .
سليمان
بن حرب : عِنْدَ البخاري ([52]) .
مُحَمَّد
بن جعفر ( غندر ) : عِنْدَ أحمد ([53])، ومسلم ([54])، والخطيب ([55]) .
النضر
بن شميل المازني عِنْدَ الْخَطِيْب ([56])
يحيى
بن سعيد القطان : عِنْدَ الْخَطِيْب ([57])
.
يزيد
بن هارون : عِنْدَ ابن الجارود ([58]) .
فظهر
أن عَبْد الله بن خيران أدرج سؤال ابن سيرين وجواب ابن عمر لَهُ في الْحَدِيْث
وجعل صورة الكل كأنه مرفوع .
ولفظ
الْحَدِيْث كَمَا أخرجه أحمد ([59]) من طريق مُحَمَّد
بن جعفر ( غندر ) ، عن شعبة ، عن أنس بن سيرين ، أنه سَمِعَ ابن عمر قَالَ : طلقت
امرأتي وَهِيَ حائض ، فأتى عمر النَّبِيّ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم. فأخبره ، فَقَالَ : (( مُره
فليراجعها ، ثُمَّ إذا طهرت فليطلقها )) .
قُلْتُ
لابن عمر : أحسب تِلْكَ تطليقة ؟ قَالَ : فمه !!
إلا
أن الحَافِظ ابن حجر استدرك عَلَى حكمنا عَلَى الْحَدِيْث بالإدراج موافقة لهذه
القاعدة الثالثة بأن البت بالحكم هنا لَيْسَ لَهُ قوة البت بالحكم في النوعين
الماضيين ، فَقَالَ: (( والحكم عَلَى هَذَا القسم الثالث بالإدراج يَكُوْن بحسب
غلبة ظن المحدّث الحَافِظ الناقد، ولا يوجب القطع بِذَلِكَ خلاف القسمين الأولين ،
وأكثر هَذَا الثالث يقع تفسيراً لبعض الألفاظ الواقعة في الْحَدِيْث كَمَا في
أحاديث الشغار والمحاقلة والمزابنة )) ([60])
.