القسم الثاني
الاضطراب في المتن
سبق الكلام أن
الاضطراب نوعان : اضطراب يقع في السند ، واضطراب يقع في المتن ، وقد شرحت الاضطراب
الذي يعتري الأسانيد . أمّا هنا فسيكون الكلام على النوع الثاني ، وهو الاضطراب في
المتن ؛ إذ كَمَا أن الاضطراب يَكُوْن في سند الْحَدِيْث فكذلك يَكُوْن في متنه .
وذلك إذا وردنا حَدِيْث اختلف الرُّوَاة في متنه اختلافاً لا يمكن الجمع بَيْنَ
رواياته المختلفة ، ولا يمكن ترجيح إحدى الروايات عَلَى البقية ، فهذا يعد
اضطراباً قادحاً في صحة الْحَدِيْث ، أما إذا أمكن الجمع فَلاَ اضطراب ، وكذا إذا
أمكن ترجيح إحدى الروايات عَلَى البقية ، فَلاَ اضطراب إذن فالراجحة محفوظة ([1])
أو معروفة ([2])
والمرجوحة شاذة ([3])
أو منكرة ([4])
.
وإذا كان المخالف
ضعيفاً فلا تعل رِوَايَة الثقات برواية الضعفاء ([5]) فمن شروط الاضطراب
تكافؤ الروايات ([6])
.
وقد لا يضر الاختلاف
إذا كان من عدة رواة عن النبي صلي الله عليه وسلم؛ لأن النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم قَدْ يذكر الْجَمِيْع ، ويخبر كُلّ راوٍ بِمَا حفظه عن النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم ([7])
. وَلَيْسَ كُلّ اختلاف يوجب الضعف ([8])
إنما الاضطراب الَّذِي يوجب الضعف هُوَ عِنْدَ اتحاد المدار، وتكافؤ الروايات،
وعدم إمكان الجمع ، فإذا حصل هذا فهو اضطراب مضعف للحديث، يومئ إلى عدم حفظ هذا
الراوي أو الرواة لهذا الحديث . قال ابن دقيق العيد : (( إذا اختلفت الروايات ،
وكانت الحجة ببعضها دون بعضٍ توقف الاحتجاج بشرط تعادل الروايات ، أما إذا وقع
الترجيح لبعضها ؛ بأن يكون رواتها أكثر عدداً أو أتقن حفظاً فيتعين العمل بالراجح
، إذ الأضعف لا يكون مانعاً من العمل بالأقوى ، والمرجوح لا يمنع التمسك بالراجح
)) ([9])
.
وَقَالَ الحافظ ابن
حجر: (( الاختلاف على الحفاظ في الحديث لا يوجب أن يكون مضطرباً إلا بشرطين :
أحدهما استواء وجوه الاختلاف فمتى رجح أحد الأقوال قدم ، ولا يعل الصحيح بالمرجوح
.
ثانيهما : مع الاستواء
أن يتعذر الجمع على قواعد الْمُحَدِّثِيْن ، ويغلب على الظن أن ذلك الحافظ لم يضبط
ذلك الحديث بعينه ، فحينئذ يحكم على تلك الرواية وحدها بالاضطراب ، ويتوقف عن
الحكم بصحة ذلك الحديث لذلك )) ([10])
.
وَقَالَ المباركفوري :
(( قَدْ تقرر في أصول الحديث أن مجرد الاختلاف ، لا يوجب الاضطراب، بل من شرطه
استواء وجوه الاختلاف، فمتى رجح أحد الأقوال قدم )) ([11]).
وقد يكون هناك اختلاف
، ولا يمكن الترجيح إلا أنه اختلاف لا يقدح عند العلماء لعدم التعارض التام، مثل
حديث الواهبة نفسها، وهو ما رواه أبو حازم ([12])، عن سهل بن سعد ،
قال : جاءت امرأة إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إني قَدْ وهبت لك من نفسي ، فقال رجلٌ :
زوجنيها ، قال : ((قَدْ زوجناكها بما معك من القرآن)).
فهذا الحديث تفرد به
أبو حازم ([13])
، واختلف الرواة عنه فِيْهِ فبعضهم قال :
(( أنكحتُكها )) وبعضهم قال : (( زوجتكها )) ، وبعضهم قال : (( ملكتكها )) ،
وبعضهم قال : (( مُلِّكْتَها )) وبعضهم قال: (( زوجناكها )) ، وبعضهم قال: ((
فزوجه )) ، وبعضهم قال : (( أنكحتك )) ، وبعضهم قال : (( أملكتها )) ، وبعضهم قال
: (( أملكتكها )) ، وبعضهم قال : (( زوجتك )) ، وبيان ذلك في الحاشية ([14])
.
ومع هذا فلم يقدح هذا
الاختلاف عند العلماء ، قال الحافظ ابن حجر: (( وأكثر هذه الروايات في الصحيحين ،
فمن البعيد جداً أن يكون سهل بن سعد رضي الله عنه شهد هذه القصة من أولها إلى آخرها مراراً عديدة ، فسمع في كل مرة
لفظاً غير الذي سمعه في الأخرى ([15])
.
بل ربما يعلم ذلك
بطريق القطع – أيضاً – فالمقطوع به أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يقل هذه الألفاظ كلها في مرة واحدة تلك الساعة ، فلم يبق إلا
أن يقال : إن النبي صلي الله عليه وسلم قال لفظاً منها، وعبر عنه بقية الرواة بالمعنى )
أثر هذا الحديث في
اختلاف الفقهاء
لاختلاف هذه الروايات
وتعددها أثر بارز في الفقه الإسلامي ، إذ بنيت على هذه الروايات اختلافات فقهية
فيما يصح به عقد النكاح من ألفاظ التزويج،وعلى النحو الآتي:
أجمع العلماء على أن
النكاح ينعقد بلفظ التزويج ، أو الإنكاح ، واختلفوا في انعقاد النكاح بغير ذلك من
الألفاظ على مذاهب ، وهي :
المذهب الأول :
لا يجوز عقد النكاح
إلا بلفظ الزواج أو الإنكاح ، أو التمليك أو الإمكان ، ولا يجوز بلفظ الهبة ، وهو
مذهب داود الظاهري وابن حزم محتجين باختلاف الروايات الواردة في الحديث ، وقد ساق
ابن حزم الروايات المختلفة ثم قال : (( كل ذلك صحيح )) ([17]) ، ثم روى من طريق
البخاري عن أنس بن مالك عن النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم : (( إنه كان إذا تكلّم بالكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه )) ([18])
، ثم قال : (( فصح أنها ألفاظ كلها قالها عليه الصلاة والسلام معلماً لنا ما ينعقد
به النكاح )) ([19])
.
المذهب الثاني
جواز عقد النكاح بأي
لفظ دال على التمليك ، وهو مذهب الثوري ، والحسن بن صالح ، وأبي ثور ، وأبي عبيد ([20])،
وأبي حنيفة ([21])
.
النموذج الأول
ما رواه الإمام أحمد
بن حنبل ([22])
، عن أبي معاوية الضرير : محمد بن خازم ([23]) ، قال : حدثنا
هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ([24]) ، عن أم سلمة: أن
رسول الله صلي الله عليه وسلم أمرها أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر ([25]) بمكة .
فهذا الحديث مضطرب
المتن ، وقد اضطرب فيه على أبي معاوية ، ثم إن الحديث معل بالإرسال ، والصواب فيه
الإرسال ، والوصل فيه خطأ أخطأ فيه أبو معاوية ، وسأتكلم عن اضطراب متنه ثم أشرح
كيف أنه معل بالإرسال .
فأبو معاوية رواه عنه
عدة من الرواة ، وقد تغير متن الحديث عند كل راوٍ من الرواة عن أبي معاوية فالحمل
عليه إذن ، وبيان ذلك :
قَدْ روى الحديث أسد
بن موسى ([26])
عن أبي معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة ،
قالت : أمرها رسول الله صلي الله عليه وسلم أن توافي معه صلاة الصبح بمكة ([27]) .
وقد روى الحديث أبو
كريب([28]):
محمد بن العلاء ، عن أبي معاوية ، عن هشام، عن أبيه ، عن زينب ، عن أم سلمة ، قالت
: أمرها رسول الله صلي الله عليه وسلم أن توافي مكة صلاة الصبح يوم النحر ([29]) .
ورواه عبد الله بن
جعفر الرقي ([30])
، عن أبي معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة
: أن النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم أمرها أن توافي معه يوم النحر بمكة ([31]) .
ورواه أبو خيثمة :
زهير بن حرب ([32])
، عن أبي معاوية ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أم سلمة ، عن
أم سلمة : أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أمرها أن توافي صلاة
الصبح يوم النحر بمكة ([33])
.
ورواه محمد بن عَمْرو
([34])
السوسي ، عن أبي معاوية ، عن هشام ، عن
أبيه ، عن زينب ، عن أم سلمة : أن النَّبِيّ
r أمرها أن توافي الضحى معه بمكة يوم النحر ([35]) .
ورواه يحيى بن يحيى
النيسابوري ([36])
، عن أبي معاوية ، عن هشام ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة .
ورواه سعيد بن سليمان
، عن أبي معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أم سلمة ، عن أم سلمة
: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أمرها أن توافيه صلاة الصبح بمكة يوم النحر ([37]) : أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أمرها أن توافي صلاة الصبح يوم النحر بمكة))([38]).
هكذا اضطرب فيه أبو
معاوية ، واختلف الرواة عنه فيه . قال ابن التركماني: (( مضطربٌ سنداً ومتناً )) ([39])
.
وَقَالَ الطحاوي : ((
تأملنا هذا الحديث ، فوجدناه إنما دار بهذا المعنى على أبي معاوية ، ووجدنا أبا
معاوية قَدْ اضطرب فيه )) ([40])
.
وحديث أبي معاوية معل
بالإرسال - كما سبق - .
فقد رواه سفيان بن
عيينة ([41])
، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أم سلمة
-رضي الله عَنْهَا - أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أمرها أن تصلي الفجر بمكة يوم النحر ([42]) .
ورواه وكيع بن
الجراح ، عن هشام ، عن أبيه : أن
النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن توافيه صلاة الصبح بمنى ([43]) .
ورواه حماد بن سلمة ([44])،
عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن يوم أم سلمة دار إلى يوم النحر ، فأمرها رسول الله
، فرمت الجمرة ، وصلت الفجر بمكة ([45])
.
ورواه داود بن عبد
الرحمان العطار ([46])،
وعبد العزيز الدراوردي ([47])
مقرونين، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : دار رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى أم سلمة يوم النحر فأمرها أن تعجل الإفاضة من جمع حتى تأتي
مكة فتصلي بها الصبح ، وكان يومها فأحب أن توافقه وفي إحدى نسخ الشافعي : ((
توافيه )) ([48])
.
فهؤلاء ثقات تلامذة
هشام : ( سفيان ، ووكيع ، وحماد ، وداود ، وعبد العزيز ) خمستهم رووه عن هشام ، عن
أبيه مرسلاً ، وروايتهم أصح فهم أكثر عدداً ، والعدد أولى بالحفظ ([49])
، وقد نص إمام المعللين أبو الحسن الدارقطني على ترجيح الرواية المرسلة ([50])
.
ونقل الأثرم عن الإمام
أحمد أنه قال : (( لم يسنده غيره – يعني : أبا معاوية – وهو خطأ )) ([51])
.
وهناك مناقشات أخرى
لإعلال متن الحديث ذكرها ابن القيم
وللحديث طريق أخرى ،
فقد رواه الضحاك بن عثمان ([53])
، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أنها قالت : أرسل رسول الله صلي الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم مضت ، فأفاضت ،
وكان ذلك اليوم الذي كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يعني عندها - ([54])
.
والحديث من هذا الوجه
منكر أنكره الإمام أحمد وغيره ([55])
.
أثر الحديث في اختلاف
الفقهاء
لحديث أبي معاوية أثر
كبير في الفقه الإسلامي؛ فَهُوَ أصل لِمَنْ أجاز الرمي ليلاً ، وسأتكلم عن الرمي
وبعض أحكامه ، ثُمَّ أفصل القول في حكم رمي جمرة العقبة ليلاً.
الرمي لغةً : يطلق
بمعنى القذف ، وبمعنى الإلقاء ، يقال : رميت الشيء وبالشيء، إذا قذفته ([56])
.
أما اصطلاحاً : فرمي
الجمار ، وهو رمي الحصيات المعينة العدد في الأماكن
الخاصة بالرمي في منى – الجمرات – ، وليست الجمرة هي الشاخص – العمود – الذي يوجد
في منتصف المرمى ، بل الجمرة هي المرمى المحيط بذلك الشاخص ، والجمرات التي ترمى
ثلاث ، هي :
الجمرة الأولى : وتسمى
الصغرى ، أو الدنيا ، وهي أول جمرة بعد مسجد الخيف بمنى، سميت (( دنيا )) من الدنو
، لأنها أقرب الجمرات إلى مسجد الخيف .
الجمرة الثانية :
وتسمى الوسطى ، بعد الجمرة الأولى ، وقيل جمرة العقبة .
جمرة العقبة:وهي
الثالثة،وتسمى أيضاً:((الجمرة الكبرى))،وتقع في آخر منى تجاه الكعبة.
وقد اتفق الفقهاء على
أنّ رمي الجمار واجب من واجبات الحج قال الكاساني :
(( إن الأمة أجمعت على وجوبه )) ([57])
.
ووقت رمي الجمار أربعة
أيام لمن لم يتعجل ، هي : يوم النحر ، وثلاثة أيام بعده ، وتسمى أيام التشريق .
ويوم النحر ترمى جمرة
العقبة وحدها ، وهنا يأتي دور حديث أبي معاوية ، وهو من أين يبدأ أول وقت الرمي
ليوم النحر .
اختلف الفقهاء في ذلك
على ثلاثة أقوال :
القول الأول :
أول وقت الرمي يوم
النحر الذي يجوز فيه الرمي، هو نصف الليل من ليلة النحر ، وهو قول عطاء ، وابن أبي
ليلى ، وعكرمة ([58])
بن خالد ([59])
، والشافعي ([60])
، وأحمد بن حنبل في أرجح الروايتين عنه ([61]) .
وحجة هذا القول :
أولاً : حديث أبي
معاوية السابق
قال الإمام الشافعي:
(( أحب أن لا يرمي أحدٌ حتى تطلع الشمس ، ولا بأس عليه أن يرمي قبل طلوع الشمس ،
وقبل الفجر إذا رمى بعد نصف الليل ؛ أَخْبَرَنَا داود([62]) بن عَبْد الرحمان
وعبد العزيز بن مُحَمَّد الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه ، قَالَ: دار
رَسُوْل الله صلي الله عليه وسلم يوم النحر إِلَى أم سلمة فأمرها أن تعجل الإفاضة من جمع حَتَّى
ترمي الجمرة، وتوافي صلاة الصبح بمكة ، وَكَانَ يومها فأحب أن توافيه .
أَخْبَرَنَا الثقة ([63])،
عن هشام ، عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة ، عن النبي صلي الله عليه وسلم مثله )) ([64])
.
قال البيهقي: (( كأن
الشافعي –يرحمه الله– أخذه من أبي معاوية الضرير ، وقد رواه أبو معاوية موصولاً ))
([65])
.
أقول : لا شك في أن
الشافعي إنما أخذه من أبي معاوية ، فهو الذي تفرد بوصله هكذا ، وقد ذكر العلماء
الحمل عليه فيه .
وقد شرح الطحاوي
استنباط الشافعي من حديث أبي معاوية فقال : (( فاحتج الشافعي كما حكى لنا المزني
عنه بهذا الحديث ، وَقَالَ : فيه ما قَدْ دل على أنه صلي الله عليه وسلم قَدْ أباحها أن تنفر من جمعٍ ، قبل طلوع الفجر؛ لأنه لا يمكن أن
يكون ذلك منها مع موافاتها مكة ضحىً إلا وقد خرجت من جمع قبل طلوع الفجر لبعد ما
بين مكة وجمعٍ، وفي ذلك ما قَدْ دل على أنها قَدْ كانت رمت الجمرة قبل طلوع الفجر
.
قال أبو جعفر : وهذا
قول لم نعلم أحداً من أهل العلم سواه قاله ([66]) ، ولا ذهب إليه ،
فكلهم على خلافه فيه، وعلى أنه ليس لأحد من الحاج أن يرمي جمرة العقبة في الليل
قبل طلوع الفجر ، فتأملنا هذا الحديث ، فوجدناه إنما دار بهذا المعنى على أبي
معاوية. ووجدنا أبا معاوية قَدْ اضطرب فيه … ثم دلل على ذلك .
ثانياً : ما صح عن عبد
الله مولى أسماء
عن أسماء ، أنها نزلت
ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي ، فصلت ساعة ، ثُمَّ قالت : يا بني هل غاب القمر
؟ قلت : لا ، فصلت ساعة ثم قالت : هل غاب القمر ؟ قلت : نعم ، قالت : فارتحلوا ،
فارتحلنا ومضينا ، حتى رمت الجمرة ، ثم رجعت فصلت الصبح في منْزلها، فقلت لها:
هنتاه ([68])
ما أرانا إلا قَدْ غَلَّسْنا ، قالت: يا بني، إن رسول الله أذن للظعن )) ([69])
وقالوا : إن الأحاديث
التي فيها النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم رمى بعد طلوع الشمس محمولة على الاستحباب ([70]) .
القول الثاني
أول وقت الرمي في يوم
النحر بعد طلوع الفجر من هذا اليوم ، فلا يجوز الرمي قبل هذا الوقت والمستحب بعد
طلوع الشمس ، وذهب إلى هذا القول أبو حنيفة ([71]) ، ومالك ([72])
، وإسحاق ، وابن المنذر ([73])
، والزيدية ([74])
، وهو رواية عن أحمد ([75])
.
واحتج أصحاب هذا
المذهب بما روي عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقدِّم ضعفاء أهله بغلس ، ويأمرهم ، يعني : لا يرمون الجمرة حتى
تطلع الشمس ([76])
.
وبما رواه ابن عباس ،
أن النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم كان يأمر نساءه وثقله صبيحة جمع أن يفيضوا مع أول الفجر بسواد ،
ولا يرموا الجمرة إلا مصبحين )) ([77])
.
وقد وفّق أصحاب هذا
المذهب بين الحديثين بأن الأول وقت الاستحباب والثاني وقت الجواز ([78])
.
القول الثالث
أول وقت الرمي في يوم
النحر بعد طلوع الشمس ، ضحىً وهو قول مجاهد ، والثوري والنخعي ([79])
، والظاهرية ([80])
.
واستدلوا بحديث ابن
عباس السابق وفيه: (( لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس )).
قال ابن حزم : (( إنما
نهى رسول الله صلي الله عليه وسلم عن رميها ما لم تطلع الشمس من يوم النحر )) وَقَالَ أيضاً : ((
أما الرمي قبل طلوع الشمس فلا يجزئ أحداً لا امرأة ولا رجلاً )) ([81])
.
النموذج الثَّانِي
مَا روي عن عَمَّار بن
ياسر من أحاديث في صِفَة التيمم فَقَدْ ذكر بَعْض العُلَمَاء
أنَّ هَذَا من المضطرب ، وسأشرح ذَلِكَ بتفصيل :
فَقَدْ روى
الزُّهْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَني عبيد الله بن عَبْد الله، عن ابن عَبَّاس، عن
عَمَّار بن ياسر؛ أن رَسُوْل الله صلي الله عليه وسلم عَرَّسَ ([82])
بأولات الجيش ومعه عَائِشَة فانقطع عِقدٌ لَهَا من جَزْعِ ظِفار، فحبس الناس
ابتغاء عقدها ذَلِكَ، حَتَّى أضاء الفجر، وَلَيْسَ مَعَ الناس ماء فتغيظ عَلَيْهَا
أبو بَكْر ، وَقَالَ : حبستِ الناس ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ ماءٌ ، فأنزل الله
تَعَالَى عَلَى رسولهِ صلي الله عليه وسلم رخصة التَّطَهُّرِ بالصعيد الطيب ، فقام المسلمون مَعَ رَسُوْل
الله صلي الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم إِلَى الأرض ، ثُمَّ رفعوا أيديهم ، وَلَمْ يقبضوا
من التراب شيئاً ، فمسحوا بِهَا وجوههم ، و أيديهم إِلَى المناكب ، ومن بطون
أيديهم إِلَى الآباط ([83]).
وَقَدْ ورد حَدِيث آخر
لعمار في التيمم بلفظ : (( أن النَّبيّ صلي الله عليه وسلم أمره بالتيمم للوجه والكفين )) ، وَفِي رِوَايَة : (( إنما يكفيك
أن تَقُوْل بيديك هكذا : ثُمَّ ضرب الأرض ضربة وَاحِدَة ، ثُمَّ مسح الشمال عَلَى
اليمين ، وظاهر كفيه ووجهه )) ، وَفِي رِوَايَة : ((ضرب النَّبيّ صلي الله عليه وسلم بكفيه الأرض ، ونفخ فِيْهما ، ثُمَّ مسح بهما وجهه وكفيه )) ،
وَفِي رِوَايَة : (( ثُمَّ ضرب بيديه الأرض ضربة وَاحِدَة )) ، وَفِي رِوَايَة : ((
وأمرني بالوجه والكفين ضربة وَاحِدَة )) ، وَفِي رِوَايَة : (( يكفيك الوجه و
الكفان )) ([84]).
فهذا الحَدِيْث يختلف
عن الحَدِيْث الأول مِمَّا دعى بَعْض العُلَمَاء إلى الحكم عليه بالاضطراب ، قَالَ
الإِمَام التِّرْمِذِي :(( ضعف بَعْض أهل العِلْم حَدِيث عَمَّار عن النَّبيّ صلي الله عليه وسلم في التيمم للوجه و الكفين لما روي عَنْهُ حَدِيث المناكب و
الآباط))([85]).
وَقَالَ ابن عَبْد
البـر : (( كُلّ مَا يروى في هَذَا الباب فمضطرب مختلف فِيهِ )) ([86]).
إلا أن بَعْض العُلَمَاء حاولوا أن يوفقوا بَيْنَ الحَدِيْث الأول والثَّانِي
باعتبار التقدم و التأخر، وباعتبار أن الأول من فعلهم دُوْنَ النَّبيّ صلي الله عليه وسلم قَالَ الأثرم : (( إِنَّمَا حكى فِيهِ فعلهم دُوْنَ النَّبيّ صلي الله عليه وسلم كَمَا حكى في الآخر أَنَّهُ أجنب ؛ فعلّمه عَلَيْهِ الصَّلاَة و
السلام ))([87]).
وَقَالَ ابن حبان :((
كَانَ هَذَا حَيث نزل آية التيمم قَبْلَ تعليم النَّبيّ صلي الله عليه وسلم عماراً كَيْفِيَّة التيمم ثُمَّ علمه ضربة وَاحِدَة للوجه والكفين
لما سأل عمارٌ النبيَّ صلي الله عليه وسلم عن التيمم ))([88]).
وذهب الحنفية إلى
ترجيح روايته إلى المرفقين لحديثين أحدهما حَدِيث أبي أمامة الباهلي وحَدِيث
الأسلع ([89]).
وَقَالَ البَغَوِيّ :
(( وما روي عن عَمَّار أَنَّهُ قَالَ: تيممنا إلى المناكب ، فَهُوَ حكاية فعله ،
لَمْ ينقله عن رَسُوْل الله صلي الله عليه وسلم كَمَا حكى عن نَفْسه التمعك في حالة الجنابة ، فلما سأل النَّبيّ صلي الله عليه وسلم وأمره بالوجه والكفين انتهى إليه ، وأعرض عن فعله ))([90]).
قُلْتُ : وما ذكر من
توجيه عَلَى هَذَا النحو يشكل عَلَيْهِ أَنَّهُ ورد في الحَدِيْث الأول :(( فقام
المسلمون مَعَ رَسُوْل الله فضربوا بأيديهم ...)).
أثر حَدِيثي عَمَّار
في اختلاف الفُقَهَاء
لهذين الحديثين
السابقين أثر في الفقه الاسلامي، فَقَدْ بنيت عَلَيْهما اجتهادات وأبين ذَلِكَ في
مسألتين للفقهاء ، وسأبين ذَلِكَ في مسألتين :
المسألة الأولى : عدد
ضربات التيمم
اختلف الفُقَهَاء –
رحمهم الله – في عدد ضربات التيمم عَلَى قولين :
الأول : التيمم ضربة
وَاحِدَة للوجه و الكفين .
روي هَذَا عن ابن
عَبَّاس ([91])،
وعمار ([92])،
وعطاء ([93])،
وإسحاق ([94])،
ومكحول ([95])،
وداود بن عَلِيّ ([96])
، والأشهر عن الاوزاعي ([97])
وَهُوَ إحدى الرِّوَايَتَيْنِ عن عَلِيّ ([98]) ، والشَّعْبيّ ([99])
، وسعيد بن المسيب ([100])
، وإليه ذهب مَالِك ([101])
وأحمد ([102])
، واختاره ابن المنذر ([103]).
والحجة لهذا المذهب
حَدِيث عَمَّار الثَّانِي و أسوق لفظه حَتَّى يظهر مِنْهُ الاستدلال قَالَ : ((
بعثني رَسُوْل الله صلي الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت ، فلم أجد الماء ، فتمرغت في الصعيد كَمَا تمرغ
الدابة ، ثُمَّ أتيت النَّبيّ صلي الله عليه وسلم فذكرت ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ: إنما يكفيك أن تَقُوْل بيديك هكذا :
ثُمَّ ضرب الأرض ضربة وَاحِدَة ، ثُمَّ مسح الشمال عَلَى اليمين ، وظاهر كفيه
ووجهه )) . هَذَا لفظ رِوَايَة مُسْلِم ([104]).
وَفِي رِوَايَة
البُخَارِيّ : (( فضرب النَّبيّ صلي الله عليه وسلم بيده الأرض فمسح وجهه وكفيه ))([105]).
وَفِي رِوَايَة أخرى
قَالَ : (( يكفيك الوجه والكفين ([106]) ))([107]).
وَفِي أخرى : (( فمسح
وجهه وكفيه وَاحِدَة )) .
واعترض عَلَى هَذَا
الاستدلال : بأن المراد بِذَلِكَ : بيان صورة الضرب للتعليم ، وَلَيْسَ المراد
بيان جَمِيْع مَا يحصل بِهِ التيمم([108]).
وأجيب : بأن سياق
القصة يدل عَلَى أَنَّ المراد بيان جَمِيْع ذَلِكَ ؛ لأن ذَلِكَ هُوَ الظاهر من
قوله عَلَيْهِ الصَّلاَة والسلام : (( إِنَّمَا يكفيك أن تَقُوْل هكذا… )) وقوله
في إحدى الروايات : (( يكفيك الوجه و الكفان )) صريح في ذَلِكَ ([109]).
القَوْل الثَّانِي :
التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين وإليه ذهب أبو حَنِيْفَة
([110])
، والشَّافِعيّ ([111]).
وَقَدْ روي ذَلِكَ عن ابن عُمَر ([112]) ، وجابر ([113])
، والحَسَن البصري ([114])
، وسالم ([115])
، وعبد العزيز بن أبي سلمة ([116])
، وطاووس ([117])
، والزُّهْرِيّ ([118])
، والثَّوْرِيّ ([119])
، والليث ([120])
، وَهُوَ رِوَايَة عن عَلِيّ ([121])
، والشعبي ([122])
، وابن المسيب ([123])
، والأوزاعي ([124])
، واستحب ذَلِكَ أبو ثور ([125]).
والحجة لهذا القَوْل :
من القُرْآن و السُّنَّة .
فالقرآن قوله
تَعَالَى: ) فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ ( ([126])
، ثُمَّ ذكر الباري - جل شأنه - التيمم فَقَالَ :)
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ( ([127]).
وجه الاستدلال :
إن الله تَبَارَكَ و
تَعَالَى ذكر أعضاء الوضوء الأربعة في صدر الآية ، ثُمَّ أسقط مِنْها عضوين في
التيمم في آخرها ، فبقي العضوان في التيمم عَلَى ماذكرهما في الوضوء ؛ وَقَدْ
ذَكَرَ في الوضوء:غسل اليدين إِلَى المرفقين؛فهما كَذلِكَ في التيمم؛إذ لَوْ
اختلفا لبينهما([128]).
أما السُّنَّة فما روي
عن جابر عن النَّبيّ صلي الله عليه وسلم قَالَ :(( التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين )).
أخرجه
الدَّارَقُطْنِيّ ([129])،
والحَاكِم ([130])،
والبَيْهَقِيّ ([131])،
وَفِي إسناده عُثْمَان بن مُحَمَّد الأنماطي ([132]) متكلم فِيهِ ([133])
، وَهُوَ معلول بالوقف قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ عقب تخريجه : (( الصَّوَاب
مَوْقُوْف )) .
وما روي عن ابن عُمَر
عن النَّبيّ صلي الله عليه وسلم قَالَ :(( التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين )). رَواهُ
الطبراني ([134])
، والدَّارَقُطْنِيّ ([135])
، والحَاكِم ([136])
، وابن عدي ([137])
من طريق عَلِيّ بن ظبيان ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عُمَر ، بِهِ . وَهُوَ
حَدِيث ضَعِيْف لا يصح مرفوعاً لتفرد عَلِيّ بن ظبيان برفعه وَهُوَ ضَعِيْف قَالَ
عَنْهُ النَّسَائِيّ : (( كوفيٌّ متروك الحَدِيْث )) ([138]).
قَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ : (( هكذا رَواهُ عَلِيّ بن ظبيان مرفوعاً ، ووقفه يَحْيَى
القطان ، وهشيم وغيرهما )) ([139]).
وَكَذَلِكَ قَالَ الحَاكِم ([140])
، ومن قبلهم جميعاً أبو زرعة الرَّازِيّ ([141]).
وحديث عَائِشَة -رضي
الله عَنْهَا - قَالَتْ: (( لما نزلت آية التيمم ضرب رَسُوْل الله صلي الله عليه وسلم بيده عَلَى الأرض فمسح بِهَا وجهه ، وضرب بيده الأخرى ضربة فمسح
بِهَا كفيه )).
أخرجه البزار ([142])
، وابن عدي ([143])
من حَدِيث الحريش بن الخريت، عن ابن أبي ملكية، عن عائشة ، بِهِ .
أقول : قَدْ تفرد بِهِ
الحريش نَصَّ عَلَيْهِ البزار ([144])
، والحريش ضَعِيْف قَالَ الهيثمي ([145]) : (( رَواهُ
البزار ، وفيه الحريش بن الخريت ضعفه أبو حاتم ، وأبو زرعة ، والبُخَارِيّ ))([146]).
وهذه الأحاديث ضعّفها ابن المنذر فَقَالَ: (( أما الأخبار الثَّلاثَة الَّتِي احتج
بِهَا من رأى أن التيمم ضربتين ([147])
ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين ، فمعلولة كلها ، لا يجوز أن يحتج بشيءٍ
مِنْها ))([148]).
المسألة الثانية :
المقدار الواجب مسحه في التيمم
اختلف الفُقَهَاء في
المقدار الواجب مسحه في فرض التيمم عَلَى أقوال :
القَوْل الأول :
يَجِبُ مسح اليدين إلى الإبطين ، وَهُوَ مَذْهَب الإمام الزُّهْرِيّ ([149])،
وحجته : حَدِيث عَمَّار الأول السابق الذكر :(( تيممنا مَع رَسُوْل الله فمسحنا
بوجوهنا وأيدينا إلى المناكب )).
وَقَدْ أجاب ابن حزم
عَلَى هَذَا الاستدلال بقوله :(( هَذَا أثر صَحِيْح إلا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَص
ببيان أن رَسُوْل الله صلي الله عليه وسلم أمر بِذَلِكَ ، فيكون ذَلِكَ حكم التيمم وفرضه ، وَلاَ نَص بيان
بأنه عَلَيْهِ السلام عَلِمَ بِذَلِكَ فأقره ، فيكون ذَلِكَ ندباً مستحباً))([150]).
ويجاب عَلَى قَوْل ابن
حزم بأن الحَدِيْث ورد فِيهِ : (( مَعَ رَسُوْل الله )) فهذا يدل عَلَى أَنَّهُ
حصل بعلم النَّبيّ صلي الله عليه وسلم، ومثل هَذَا يعدُّ من قبيل المَرْفُوْع ، قَالَ ابن الصَّلاح: ((
قَوْل الصَّحَابيّ : (( كنا نفعل كَذَا أو كنا نقول كَذَا )) إن لَمْ يضفه إلى
زمان رَسُوْل الله فَهُوَ من قبيل
المَوْقُوْف ، وإن أضافه إلى زمان رَسُوْل الله صلي الله عليه وسلم، فالذي قطع بِهِ أبو عَبْد الله بن البيع ([151])
الحافظ ، وغيره من أهل الحَدِيْث وغيرهم أن ذَلِكَ من قبيل المَرْفُوْع )) ([152]).
لَكِنْ سبق القَوْل عن
الحَدِيْث بأن بعضهم أعله بالاضطراب ، وبعضهم جعله من اجتهاد عَمَّار قَبْلَ نزول
آية التيمم ، والله أعلم .
القَوْل الثَّانِي:
ذهب الحنفية إلى أن الواجب في التيمم المسح إلى المرفقين ([153])،
واحتجوا بأحاديث جابر وعائشة وابن عُمَر ، وَقَدْ سبق النقل في تضعيفها ، وبيان عللها ،
واحتجوا كَذلِكَ . بحديث الربيع بن بدر ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأسلع([154])،
قَالَ: أراني كَيْفَ علّمه رَسُوْل الله صلي الله عليه وسلم التيمم ، فضرب بكفيه الأرض ، ثُمَّ نفضهما ، ثُمَّ مسح بِهما
وجهه،ثُمَّ أَمَرَّ عَلَى لحيته،ثُمَّ أعادهُما إلى الأرض فمسح بهما الأرض، ثُمَّ
دلك إحداهما بالأخرى، ثُمَّ مسح ذراعيه ظاهرهِما وباطنهما ))،هَذَا لفظ
إِبْرَاهِيم الحربي، وقَالَ يَحْيَى بن إسحاق ([155]) في حديثه:
فأراني رَسُوْل الله كَيْفَ أمسح فمسحت، قَالَ : فضرب بكفيه الأرض ، ثُمَّ رفعهما
لوجهه ، ثُمَّ ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه باطنهما وظاهرهُما، حَتَّى مس بيديه
المرفقين )). أخرجه الطبراني([156])،
والدَّارَقُطْنِيّ([157])،
والبيهقي([158]).
قَالَ الهيثمي : ((
فِيهِ الربيع بن بدر ، وَقَدْ أجمعوا عَلَى ضعفه )) ([159])
.
قَالَ البَيْهَقِيّ :
(( الربيع بن بدر ضَعِيْف إلا أَنَّهُ غَيْر مُنْفَرِد بِهِ )) ([160]).
وَقَدْ ردَّ عَلَيْهِ
ابن دقيق العيد ، فَقَالَ : (( قَوْل البَيْهَقِيّ : إنه لَمْ ينفرد بِهِ ، لا
يكفي في الاحتجاج حَتَّى ينظر مرتبته ،
ومرتبة مشاركه ، فليس كُلّ من يوافق مَعَ غيره في الرِّوَايَة يَكُون موجباً للقوة
و الاحتجاج ))([161]).
واحتجوا كَذلِكَ بحديث
أبي أمامة عن النَّبيّ صلي الله عليه وسلم قَالَ : (( التيمم ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين )) ،
قَالَ الهيثمي: (( رَواهُ الطبراني في الكبير ، وفيه جَعْفَر بن الزُّبَيْر([162])
قَالَ شُعْبَة فِيهِ : وضع أربع مئة حَدِيث )) ([163]) .
وَقَد احتجوا بالقياس
قَالَ السرخسي :(( التيمم بدل عن الوضوء ، ثُمَّ الوضوء في اليدين إلى المرفقين ؛
فالتيمم كَذلِكَ ، وتقريره : أَنَّهُ سقط في التيمم عضوان أصلاً ، وبقي عضوان ،
فيكون التيمم فِيْهَا كالوضوء في الكل ، كَمَا أن الصَّلاَة في السفر سقط مِنْهُ
ركعتان كَانَ الباقي مِنْها بصفة الكمال ؛ ولهذا شرطنا الاستيعاب في التيمم ))([164]).
أما الشافعية: فَقَدْ
ذهبوا أيضاً إِلَى أن المسح إِلَى المرفقين ، وإِلَى دخول المرفقين في التيمم ([165]).
استدلالاً بقوله تَعَالَى : (( وأيديكم مِنْهُ ))([166]) فقالوا : إطلاق
اسم اليد يتناول المنكب فدخل الذراع في عموم الاسم ، ثُمَّ اقتصر في التيمم عَلَى
تقييده بالوضوء بِهِ . وأخرج الشَّافِعيّ من حَدِيث الأعرج عن ابن الصِّمَّة ([167])
، قَالَ : إن رَسُوْل الله صلي الله عليه وسلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه ([168]).
إلا أن الحَدِيْث
معلول بالانقطاع؛ لأن الأعرج ([169])
لَمْ يَسْمَع من ابن الصِّمَّة ([170])
ونقل أَبُو ثور ، والزعفراني ([171])
، عن الإِمَام الشَّافِعيّ في القديم أَنَّهُ قَالَ : إِلَى الكوعين . وَقَدْ ردّ
النووي هَذَا النقل ([172]).
القَوْل الثَّالِث: إن
مسح اليدين إلى الرسغ روي هَذَا عن عَلِيّ رضي الله عنه ([173])
، وَهُوَ مَذْهَب الإمام أحمد ([174])،
و الزيدية ([175])
، والظاهرية ([176])
. ودليلهم هُوَ أن مسح الكفين إلى الرسغ هُوَ أقل مَا يقع عَلَيْهِ اسم اليدين ، و
استدلوا أيضاً بحديث عَمَّار الثَّانِي .
النموذج الآخر
أخرج الإمام أحمد ([177])
، وابن خزيمة ([178])
، والخطيب في تاريخه ([179])
من طريق : روح ([180])
، قَالَ : حَدَّثَنَا ابن جريج ([181])
، قَالَ : أخبرني عَبْد الله بن مُسافع ([182]) ، أن مصعب بن
شَيْبَة ([183])
أخبره ، عن عُقْبَة بن مُحَمَّد بن الحارث ([184])، عن عَبْد الله
بنجَعْفَر([185])،
عن النَّبيّ صلي الله عليه وسلم، قَالَ:(( من شك في صلاته ، فليسجد سجدتين ، وَهُوَ جالس)). فهذا
الحَدِيْث اختلف في لفظه الأخير ، فَقَدْ أخرجه النَّسَائِيّ ([186])
من طريق حجاج ([187])
وروح مقرونين ، عن ابن جريج ، عن عَبْد الله بن مسافع ، عن مصعب بن شَيْبَة ، عن
عتبة بن مُحَمَّد ، عن عَبْد الله بن جَعْفَر ، بِهِ : قَالَ النَّسَائِيّ : ((
قَالَ حجاج : (( بعدما يسلم )) ، وَقَالَ روح : (( وَهُوَ جالس )) ))([188]).
وأخرجه النَّسَائِيّ ([189])
أيضاً من طريق الوليد بن مُسْلِم وعبد الله بن المبارك فرّقهما؛ كلاهما (الوليد ،
وابن المبارك) عن ابن جريج ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسافع ، عن عتبة ([190])
بن مُحَمَّد ، عن عَبْد الله بن جَعْفَر ([191])، بِهِ بلفظ : ((
بعدما يسلم )) ، وَفِي بعضها : (( بَعْدَ التسليم )) . أخرجه أحمد ([192])
، وأبو دَاوُد ([193])
، و النَّسَائِيّ ([194])
، و البَيْهَقِيّ ([195])
، والمزي([196])
من طريق حجاج ، و أخرجه أحمد ([197])
عن روح .
كلاهما ( حجاج وروح )
عن ابن جريج ، عن عَبْد الله بن مسافع ، عن مصعب ابن شَيْبَة ، عن عتبة بن
مُحَمَّد ، عن عَبْد الله بن جَعْفَر، به بلفظ: (( بعدما يسلم )) وَفِي بعضها : ((
بَعْدَ أن يسلم )).
فهذا الحَدِيْث اضطرب
في لفظه:(( وَهُوَ جالس)). ويفهم مِنْهُ أَنَّهُ قَبْلَ التسليم، والرِّوَايَة
الأخرى: (( بعدما يسلم )).
أثر هَذَا الحَدِيْث
في اختلاف الفُقَهَاء
حكم الشك في عدد ركعات
الصَّلاَة
من شك في صلاته فلم
يدر أصلى اثنين أم ثلاثاً ، أو ثلاثاً أم أربعاً ، أو وَاحِدَة أم اثنتين فماذا
يعمل ؟ حصل خِلاَف في ذَلِكَ بَيْنَ أهل العِلْم ، عَلَى أقوالِ:-
القَوْل الأول: ذهب
جَمَاعَة من الفُقَهَاء إِلَى أن من شك في صلاته زيادة أو نقصاً في عدد الركعات
يبني عَلَى غالب ظنه . وَهُوَ مرويٌّ عن أنس بن مَالِك ([198])
، وأبي زيد الأنصاري ([199])
، وإبراهيم النخعي ([200])
، و الحَسَن البصري ([201])
، وعطاء ([202]).
وَهُوَ مَذْهَب الظاهرية ([203]).
و الحجة لَهُمْ :
الحَدِيْث السابق .
وحديث أَبِي هُرَيْرَة
مرفوعاً :(( إذا لَمْ يدر أحدكم كم صلى ثلاثاً أو أربعاً فليسجد سجدتين وَهُوَ
جالس )) ([204]).
وحديث ابن مَسْعُود
مرفوعاً : (( إنما أنا بشرٌ ، فإذا نسيت فذكروني ، إذا أوهم أحدكم في صلاته فليتحر
أقرب ذَلِكَ من الصَّوَاب ، ثُمَّ ليتم عَلَيْهِ ، ثُمَّ يسجد سجدتين ))([205]).
القَوْل الثَّانِي :
هُوَ قَوْل الإمام أحمد – التفصيل بَيْنَ الإمام و المأموم ، وَفِي كليهما
رِوَايَتَانِ ، فنقل الأثرم عَنْهُ أن الإمام يبني عَلَى غالب الظن ، وفيه
رِوَايَة أخرى البناء عَلَى اليقين ، وَهِيَ الَّتِي صححها أبو الخطاب ([206])
، أما إذا كَانَ منفرداً أو مأموماً فيبني عَلَى اليقين وفيه رِوَايَة أخرى
أَنَّهُ يبني عَلَى غلبة الظن ([207])
.
القَوْل الثَّالِث:-
وَهُوَ قَوْل أبي حَنِيْفَة –إن كَانَ شكه في ذَلِكَ مرة ، بطلت صلاته، وإن كَانَ
الشك يعتاده ويتكرر لَهُ ، يبني عَلَى غالب الظن بحكم التحري ، فإن لَمْ يقع لَهُ
ظن بنى عَلَى الأقل ([208]).
و الحجة لهذا المذهب :
مَا روي من حَدِيث عَبْد الرحمان بن عوف مرفوعاً: (( إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر
واحدةً صلى أو اثنتين فليبن عَلَى وَاحِدَة، فإن لَمْ يدر ثنتين صلى أو ثلاثاً
فليبن عَلَى ثنيتين ، فإن لَمْ يدر ثلاثاً صلى أو أربعاً فليبن عَلَى ثلاث، وليسجد
سجدتين قَبْلَ أن يسلم ))([209])،
قَالَ التِّرْمِذِي عَنْهُ:(( هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيْح))([210]).
وَقَدْ شدد ابن حزم النكير عَلَى هَذَا القَوْل ([211]).
القَوْل الرابع :
قالوا : من شك في صلاته فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً ، فعليه أن يبني عَلَى مَا
استيقن .
وهذا القَوْل مروي عن
أبي بَكْر، وعمر، وابن مَسْعُود ([212])، وعلي بن أبي
طَالِب ([213])،
وابن عُمَر ([214])
، وابن عَبَّاس ([215])
، وبه قال سعيد بن جبير ([216])،
وعطاء ([217])،
والأوزاعي ([218])،
والثَّوْرِيّ ([219])،
وإليه ذهب المالكية ([220])،
والشافعية ([221]).
والحجة لأصحاب هَذَا
القَوْل : مَا صَحَّ عن أبي سعيد الخُدْرِيّ ؛ أن رَسُوْل الله صلي الله عليه وسلم قَالَ : (( إذا شك أحدكم في صلاته فَلَمْ يدركم صلى فليبنِ عَلَى
اليَقِيْن ، حَتَّى إذا استيقن أن قَدْ أتم فليسجد سجدتين )) ([222])
.
المبحث الثاني :
الاختلاف في الزيادات
------------------------