ج5 المغازي الشاملة خامس
قَالَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ لَوْلَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ لَظَنَنْت
أَنّهَا ثَبْتٌ . قَالُوا : فَلَمّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ اللّيْلَةِ الّتِي قُتِلَ فِيهَا ابْنُ الْأَشْرَفِ قَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ ظَفِرْتُمْ بِهِ مِنْ رِجَالِ
الْيَهُودِ فَاقْتُلُوهُ . فَخَافَتْ الْيَهُودُ فَلَمْ يَطْلُعْ عَظِيمٌ مِنْ
عُظَمَائِهِمْ وَلَمْ يَنْطِقُوا ، وَخَافُوا أَنْ يُبَيّتُوا كَمَا بُيّتَ ابْنُ
الْأَشْرَفِ . وَكَانَ ابْنُ سُنَيْنَةَ مِنْ يَهُودِ بَنِي حَارِثَةَ ، وَكَانَ
حَلِيفًا لِحُوَيّصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ [ ص 192 ] قَدْ أَسْلَمَ ; فَعَدَا
مُحَيّصَةُ عَلَى ابْنِ سُنَيْنَةَ فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ حُوَيّصَةُ يَضْرِبُ
مُحَيّصَةَ وَكَانَ أَسَنّ مِنْهُ يَقُولُ أَيْ عَدُوّ اللّهِ أَقَتَلْته ؟ أَمَا
وَاَللّهِ لَرُبّ شَحْمٍ فِي بَطْنِك مِنْ مَالِهِ فَقَالَ مُحَيّصَةُ وَاَللّهِ
لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِك الّذِي أَمَرَنِي بِقَتْلِهِ لَقَتَلْتُك . قَالَ
وَاَللّهِ لَوْ أَمَرَك مُحَمّدٌ أَنْ تَقْتُلَنِي لَقَتَلْتنِي ؟ قَالَ نَعَمْ .
قَالَ حُوَيّصَةُ وَاَللّهِ إنّ دِينًا يَبْلُغُ هَذَا لَدِينٌ مُعْجِبٌ .
فَأَسْلَمَ حُوَيّصَةُ يَوْمَئِذٍ فَقَالَ مُحَيّصَةُ - وَهِيَ ثَبْتٌ لَمْ أَرَ
أَحَدًا يَدْفَعُهَا - يَقُولُ
أمي لو أمرت بقتله6334"id="الشعر" > يَلُومُ ابْنُ
أُمّي لَوْ أُمِرْت بِقَتْلِهِ
لَطَبّقْت ذِفْرَاهُ بِأَبْيَضَ قَاضِبِ
حُسَامٍ كَلَوْنِ الْمِلْحِ أُخْلِصَ صَقْلُهُ
مَتَى مَا تُصَوّبُهُ فَلَيْسَ بِكَاذِبِ
وَمَا سَرّنِي أَنّي قَتَلْتُك طَائِعًا
وَلَوْ أَنّ لِي مَا بَيْنَ بُصْرَى وَمَأْرِبِ
فَفَزِعَتْ الْيَهُودُ وَمَنْ مَعَهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَجَاءُوا إلَى النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ أَصْبَحُوا فَقَالُوا : قَدْ طُرِقَ
صَاحِبُنَا اللّيْلَةَ وَهُوَ سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا قُتِلَ غِيلَةً بِلَا
جُرْمٍ وَلَا حَدَثٍ عَلِمْنَاهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إنّهُ لَوْ قَرّ كَمَا قَرّ غَيْرُهُ مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ
مَا اُغْتِيلَ وَلَكِنّهُ نَالَ مِنّا الْأَذَى وَهَجَانَا بِالشّعْرِ وَلَمْ
يَفْعَلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْكُمْ إلّا كَانَ لَهُ السّيْفُ . وَدَعَاهُمْ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُمْ كِتَابًا
يَنْتَهُونَ إلَى مَا فِيهِ فَكَتَبُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ كِتَابًا تَحْتَ
الْعِذْقِ فِي دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ . فَحَذِرَتْ الْيَهُودُ
وَخَافَتْ وَذَلّتْ مِنْ يَوْمِ قَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ .
فَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ . : قَالَ مَرْوَانُ
بْنُ الْحَكَمِ وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَعِنْدَهُ ابْنُ يَامِينَ النّضْرِيّ :
كَيْفَ كَانَ قَتْلُ ابْنِ الْأَشْرَفِ ؟ [ ص 193 ] قَالَ ابْنُ يَامِينَ كَانَ
غَدْرًا . وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ جَالِسٌ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَقَالَ يَا
مَرْوَانُ أَيَغْدِرُ رَسُولُ اللّهِ عِنْدَك ؟ وَاَللّهِ مَا قَتَلْنَاهُ إلّا
بِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَاَللّهِ لَا
يُؤْوِينِي وَإِيّاكَ سَقْفُ بَيْتٍ إلّا الْمَسْجِدَ . وَأَمّا أَنْتَ يَا ابْنَ
يَامِينَ - فَلِلّهِ عَلَيّ إنْ أَفْلَتّ وَقَدَرْت عَلَيْك وَفِي يَدِي سَيْفٌ
إلّا ضَرَبْت بِهِ رَأْسَك
فَكَانَ ابْنُ يَامِينَ لَا يَنْزِلُ فِي بَنِي قُرَيْظَة َ حَتّى يَبْعَثَ لَهُ
رَسُولًا يَنْظُرُ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ ضِيَاعِهِ
نَزَلَ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمّ صَدَرَ وَإِلّا لَمْ يَنْزِلْ . فَبَيْنَا مُحَمّدُ
بْنُ مَسْلَمَةَ فِي جِنَازَةٍ وَابْنُ يَامِينَ بِالْبَقِيعِ ، فَرَأَى نَعْشًا
عَلَيْهِ جَرَائِدُ رَطْبَةٌ لِامْرَأَةٍ جَاءَ فَحَلّهُ . فَقَامَ النّاسُ
فَقَالُوا : يَا أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ مَا تَصْنَعُ ؟ نَحْنُ نَكْفِيك فَقَامَ
إلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَضْرِبُهُ بِهَا جَرِيدَةً جَرِيدَةً حَتّى كَسَرَ تِلْكَ
الْجَرَائِدَ عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ حَتّى لَمْ يَتْرُكْ فِيهِ مَصَحّا ، ثُمّ
أَرْسَلَهُ وَلَا طَبَاخَ بِهِ ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ لَوْ قَدَرْت عَلَى السّيْفِ
لَضَرَبْتُك بِهِ .
(1/193)
شَأْنُ غَزْوَةِ غَطَفَانَ بِذِي أَمَر وَكَانَتْ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ عَلَى
رَأْسِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا . خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ
فَغَابَ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا .
(1/193)
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَبِي هُنَيْدَةَ قَالَ [ ص 194 ] حَدّثَنَا
ابْنُ أَبِي عَتّابٍ وَحَدّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ الضّحّاكِ بْنِ عُثْمَانَ
وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَزَادَ بَعْضُهُمْ [ عَلَى بَعْضٍ ] فِي الْحَدِيثِ
وَغَيْرُهُمْ قَدْ حَدّثَنَا أَيْضًا ، قَالُوا : بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ جَمْعًا مِنْ ثَعْلَبَة وَمُحَارِبٍ بِذِي أَمَرّ
قَدْ تَجَمّعُوا يُرِيدُونَ أَنْ يُصِيبُوا مِنْ أَطْرَافِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَمَعَهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ دُعْثُور بْنُ
الْحَارِثِ بْنِ مُحَارِبٍ
فَنَدَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُسْلِمِينَ فَخَرَجَ
فِي أَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ وَخَمْسِينَ وَمَعَهُمْ أَفْرَاسٌ فَأَخَذَ عَلَى
الْمُنَقّى ، ثُمّ سَلَكَ مَضِيقَ الْخُبَيْتِ ثُمّ خَرَجَ إلَى ذِي الْقَصّةِ
فَأَصَابَ رَجُلًا مِنْهُمْ بِذِي الْقَصّةِ يُقَالُ لَهُ جَبّارٌ مِنْ بَنِي
ثَعْلَبَة ، فَقَالُوا : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ أُرِيدُ يَثْرِبَ . قَالُوا :
وَمَا حَاجَتُك بِيَثْرِبَ ؟ قَالَ أَرَدْت أَنْ أَرْتَادَ لِنَفْسِي وَأَنْظُرَ .
قَالُوا : هَلْ مَرَرْت بِجَمْعٍ أَوْ بَلَغَك [ خَبَرٌ ] لِقَوْمِك ؟ قَالَ لَا ،
إلّا أَنّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنّ دُعْثُورَ بْنَ الْحَارِثِ فِي أُنَاسٍ مِنْ
قَوْمِهِ عُزْلٌ . فَأَدْخَلُوهُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَدَعَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ
وَقَالَ يَا مُحَمّدُ إنّهُمْ لَنْ يُلَاقُوك ; إنْ سَمِعُوا بِمَسِيرِك هَرَبُوا
فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ وَأَنَا سَائِرٌ مَعَك وَدَالّك عَلَى عَوْرَتِهِمْ .
فَخَرَجَ بِهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَضَمّهُ إلَى بِلَالٍ ،
فَأَخَذَ بِهِ طَرِيقًا أَهْبَطَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ كَثِيبٍ وَهَرَبَتْ مِنْهُ [ ص
195 ] الْأَعْرَابُ فَوْقَ الْجِبَالِ وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا قَدْ غَيّبُوا
سَرْحَهُمْ فِي ذُرَى الْجِبَالِ وذراريم ، فَلَمْ يُلَاقِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحَدًا ، إلّا أَنّهُ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ فِي رُءُوسِ
الْجِبَالِ . فَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَا أَمَرّ
وَعَسْكَرَ مُعَسْكَرَهُمْ فَأَصَابَهُمْ مَطَرٌ كَثِيرٌ فَذَهَبَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِحَاجَتِهِ فَأَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَطَرُ فَبَلّ
ثَوْبَهُ وَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَادِيَ
ذِي أَمَرّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ .
(1/194)
ثُمّ نَزَعَ ثِيَابَهُ فَنَشَرَهَا لِتَجِفّ وَأَلْقَاهَا عَلَى شَجَرَةٍ ثُمّ
اضْطَجَعَ تَحْتَهَا وَالْأَعْرَابُ يَنْظُرُونَ إلَى كُلّ مَا يَفْعَلُ فَقَالَتْ
الْأَعْرَابُ لِدُعْثُور ، وَكَانَ سَيّدَهَا وَأَشْجَعَهَا : قَدْ أَمْكَنَك
مُحَمّدٌ وَقَدْ انْفَرَدَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَيْثُ إنْ غَوّثَ بِأَصْحَابِهِ لَمْ
يُغَثْ حَتّى تَقْتُلَهُ . فَاخْتَارَ سَيْفًا مِنْ سُيُوفِهِمْ صَارِمًا ، ثُمّ
أَقْبَلَ مُشْتَمِلًا عَلَى السّيْفِ حَتّى قَامَ عَلَى رَأْسِ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسّيْفِ مَشْهُورًا ، فَقَالَ يَا مُحَمّدُ مَنْ
يَمْنَعُك مِنّي الْيَوْمَ ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
اللّهُ
قَالَ وَدَفَعَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي صَدْرِهِ وَوَقَعَ السّيْفُ مِنْ
يَدِهِ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَامَ بِهِ
عَلَى رَأْسِهِ فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُك مِنّي الْيَوْمَ ؟ قَالَ لَا أَحَدَ .
قَالَ فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ
اللّهِ وَاَللّهِ لَا أُكْثِرُ عَلَيْك جَمْعًا أَبَدًا فَأَعْطَاهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَيْفَهُ ثُمّ أَدْبَرَ ثُمّ أَقْبَلَ
بِوَجْهِهِ فَقَالَ أَمَا وَاَللّهِ لِأَنْتَ خَيْرٌ مِنّي . قَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنَا أَحَقّ بِذَلِكَ مِنْك . فَأَتَى قَوْمَهُ
فَقَالُوا : أَيْنَ مَا كُنْت تَقُولُ وَقَدْ أَمْكَنَك وَالسّيْفُ فِي يَدِك ؟
قَالَ وَاَللّهِ كَانَ ذَلِكَ وَلَكِنّي نَظَرْت إلَى رَجُلٍ أَبْيَضَ طَوِيلٍ
دَفَعَ فِي صَدْرِي فَوَقَعْت لِظَهْرِي ، فَعَرَفْت أَنّهُ مَلَكٌ وَشَهِدْت [ ص
196 ] أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ وَاَللّهِ لَا
أُكْثِرُ عَلَيْهِ وَجَعَلَ يَدْعُو قَوْمَهُ إلَى الْإِسْلَامِ .
وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ فَكَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ
الْآيَةَ . وَكَانَتْ غَيْبَةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إحْدَى
عَشْرَةَ لَيْلَةً وَاسْتَخْلَفَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى
الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ .
(1/196)
غَزْوَةُ بَنِي سُلَيْمٍ بِبُحْرَانَ بِنَاحِيَةِ الْفُرْعِ لِلَيَالٍ خَلَوْنَ
مِنْ جُمَادَى الْأُولَى ، عَلَى رَأْسِ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا ; غَابَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَشْرًا .
حَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ الزّهْرِيّ قَالَ لَمّا بَلَغَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ جَمْعًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ كَثِيرًا
بِبُحْرَان َ تَهَيّأَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِذَلِكَ
وَلَمْ يُظْهِرْ وَجْهًا ، فَخَرَجَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ
فَأَغَذّوا السّيْرَ حَتّى إذَا كَانُوا دُونَ بُحْرَانَ بِلَيْلَةٍ لَقِيَ
رَجُلًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فَاسْتَخْبَرُوهُ عَنْ الْقَوْمِ وَعَنْ جَمْعِهِمْ .
فَأَخْبَرَهُ أَنّهُمْ قَدْ افْتَرَقُوا أَمْسِ وَرَجَعُوا إلَى مَائِهِمْ
فَأَمَرَ بِهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَحُبِسَ مَعَ رَجُلٍ مِنْ
الْقَوْمِ ثُمّ سَارَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى وَرَدَ
بُحْرَانَ ، وَلَيْسَ بِهِ أَحَدٌ وَأَقَامَ [ ص 197 ] أَيّامًا ثُمّ رَجَعَ
وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا ، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الرّجُلَ . وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ عَشْرَ لَيَالٍ . حَدّثَنِي عَبْدُ
اللّهِ بْنُ نُوحٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سَهْلٍ قَالَ اسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْمَدِينَة ِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ .
شَأْنُ سَرِيّةِ الْقَرَدَةِ فِيهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، وَهِيَ أَوّلُ
سَرِيّةٍ خَرَجَ فِيهَا زَيْدٌ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَمِيرًا ، وَخَرَجَ
لِهِلَالِ جُمَادَى الْآخِرَةِ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا .
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَهْلِهِ
قَالُوا : كَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ حَذِرَتْ طَرِيقَ الشّامِ أَنْ يَسْلُكُوهَا ،
وَخَافُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ
وَكَانُوا قَوْمًا تُجّارًا ، فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ : إنّ مُحَمّدًا
وَأَصْحَابَهُ قَدْ عَوّرُوا عَلَيْنَا مَتْجَرَنَا ، فَمَا نَدْرِي كَيْفَ
نَصْنَعُ بِأَصْحَابِهِ لَا يَبْرَحُونَ السّاحِلَ وَأَهْلُ السّاحِلِ قَدْ
وَادَعَهُمْ وَدَخَلَ عَامّتُهُمْ مَعَهُ فَمَا نَدْرِي أَيْنَ نَسْلُك ، وَإِنْ
أَقَمْنَا نَأْكُلُ رُءُوسَ أَمْوَالِنَا وَنَحْنُ فِي دَارِنَا هَذِهِ مَا لَنَا
بِهَا نِفَاقٌ إنّمَا نَزَلْنَاهَا عَلَى التّجَارَةِ إلَى الشّامِ فِي الصّيْفِ
وَفِي الشّتَاءِ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ . قَالَ لَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ
فَنَكّبْ عَنْ السّاحِلِ وَخُذْ طَرِيقَ الْعِرَاقِ . قَالَ صَفْوَانُ لَسْت بِهَا
عَارِفًا . قَالَ أَبُو زَمْعَةَ فَأَنَا أَدُلّك عَلَى أَخْبَرِ دَلِيلٍ بِهَا
يَسْلُكُهَا وَهُوَ مُغْمَضُ الْعَيْنِ إنْ شَاءَ اللّهُ .
(1/197)
قَالَ [ ص 198 ] مَنْ هُوَ ؟ قَالَ فُرَاتُ بْنُ حَيّانَ الْعِجْلِيّ ، قَدْ
دَوّخَهَا وَسَلَكَهَا . قَالَ صَفْوَانُ فَذَلِكَ وَاَللّهِ فَأَرْسَلَ إلَى
فُرَاتٍ فَجَاءَهُ فَقَالَ إنّي أُرِيدُ الشّامَ وَقَدْ عَوّرَ عَلَيْنَا مُحَمّدٌ
مَتْجَرَنَا لِأَنّ طَرِيقَ عِيرَاتِنَا عَلَيْهِ فَأَرَدْت طَرِيقَ الْعِرَاقِ .
قَالَ فُرَاتٌ فَأَنَا أَسْلُكُ بِك فِي طَرِيقِ الْعِرَاقِ ، لَيْسَ يَطَؤُهَا
أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ - إنّمَا هِيَ أَرْضُ نَجْدٍ وَفَيَافٍ . قَالَ
صَفْوَانُ فَهَذِهِ حَاجَتِي ، أَمّا الْفَيَافِي فَنَحْنُ شَاتُونَ وَحَاجَتُنَا
إلَى الْمَاءِ الْيَوْمَ قَلِيلٌ . فَتَجَهّزَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ ،
وَأَرْسَلَ مَعَهُ أَبُو زَمْعَةَ بِثَلَاثِمِائَةِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَنُقَرِ
فِضّةٍ وَبَعَثَ مَعَهُ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ بِبَضَائِعَ وَخَرَجَ مَعَهُ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى فِي
رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ . وَخَرَجَ صَفْوَانُ بِمَالٍ كَثِيرٍ - نُقَرِ فِضّةٍ
وَآنِيَةِ فِضّةٍ وَزْنِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَرَجُوا عَلَى ذَاتِ
عِرْقٍ .
وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيّ ، وَهُوَ عَلَى
دِينِ قَوْمِهِ فَنَزَلَ عَلَى كِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ فِي بَنِي
النّضِيرِ فَشَرِبَ مَعَهُ وَشَرِبَ مَعَهُ سَلِيطُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ
أَسْلَمَ - وَلَمْ تُحَرّمْ الْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ - وَهُوَ يَأْتِي بَنِي
النّضِيرِ وَيُصِيبُ مِنْ شَرَابِهِمْ . فَذَكَرَ نُعَيْمٌ خُرُوجَ صَفْوَانَ فِي
عِيرِهِ وَمَا مَعَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ فَخَرَجَ مِنْ سَاعَتِهِ إلَى النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فِي مِائَةِ رَاكِبٍ
فَاعْتَرَضُوا لَهَا فَأَصَابُوا الْعِيرَ . وَأَفْلَتْ أَعْيَانُ الْقَوْمِ
وَأَسَرُوا رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ وَقَدِمُوا بِالْعِيرِ عَلَى النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَخَمّسَهَا ، فَكَانَ الْخُمُسُ يَوْمَئِذٍ قِيمَةَ
عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَسَمَ مَا بَقِيَ عَلَى أَهْلِ السّرِيّةِ . وَكَانَ
فِي الْأَسْرَى فُرَاتُ بْنُ حَيّانَ ، فَأُتِيَ بِهِ فَقِيلَ لَهُ أَسْلِمْ ، إنْ
تُسْلِمْ نَتْرُكْكَ مِنْ الْقَتْلِ فَأَسْلَمَ فَتَرَكَهُ مِنْ الْقَتْلِ .
(1/198)
غَزْوَةُ أُحُدٍ يَوْمَ السّبْتِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ عَلَى رَأْسِ
اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا . [ ص 199 ] وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ .
حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ قَالَ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ
الْوَاقِدِيّ قَالَ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُسْلِمٍ وَمُوسَى
بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ
، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ دِينَارٍ ، وَمُعَاذُ بْنُ
مُحَمّدٍ وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي
حَثْمَةَ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ ، وَيُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ ، وَمَعْمَرُ
بْنُ رَاشِدٍ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزّنَادِ وَأَبُو مَعْشَرٍ فِي
رِجَالٍ لَمْ أُسَمّ فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ
وَبَعْضُ الْقَوْمِ كَانَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ
وَقَدْ جَمَعْت كُلّ الّذِي حَدّثُونِي ، قَالُوا : لَمّا رَجَعَ مَنْ حَضَرَ
بَدْرًامِنْ الْمُشْرِكِينَ إلَى مَكّةَ ، وَالْعِيرُ الّتِي قَدِمَ بِهَا أَبُو
سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ مِنْ الشّامِ مَوْقُوفَةٌ فِي دَارِ النّدْوَةِ - وَكَذَلِك
كَانُوا يَصْنَعُونَ - فَلَمْ يُحَرّكْهَا أَبُو سُفْيَانَ وَلَمْ يُفَرّقْهَا
لِغَيْبَةِ أَهْلِ الْعِيرِ مَشَتْ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ
حَرْبٍ : الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ ،
وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ، وَالْحَارِثُ بْنُ
هِشَامٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ
الْعُزّى ، وَحُجَيْرُ بْنُ أَبِي إهَابٍ ، فَقَالُوا : يَا أَبَا سُفْيَانَ
اُنْظُرْ هَذِهِ الْعِيرَ الّتِي قَدِمْت بِهَا فَاحْتَبَسْتهَا ، فَقَدْ عَرَفْت
أَنّهَا أَمْوَالُ أَهْلِ مَكّةَ وَلَطِيمَةُ قُرَيْشٍ ، وَهُمْ طَيّبُو
الْأَنْفُسِ يُجَهّزُونَ بِهَذِهِ [ ص 200 ] الْعِيرِ جَيْشًا إلَى مُحَمّدٍ
وَقَدْ تَرَى مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِنَا ، وَأَبْنَائِنَا ، وَعَشَائِرِنَا .
(1/199)
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَقَدْ طَابَتْ أَنْفُسُ قُرَيْشٍ بِذَلِكَ ؟ قَالُوا :
نَعَمْ . قَالَ فَأَنَا أَوّلُ مَنْ أَجَابَ إلَى ذَلِكَ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ
مَعِي ، فَأَنَا وَاَللّهِ الْمَوْتُورُ الثّائِرُ قَدْ قُتِلَ ابْنِي حَنْظَلَةُ
بِبَدْرٍ وَأَشْرَافُ قَوْمِي . فَلَمْ تَزَلْ الْعِيرُ مَوْقُوفَةً حَتّى
تَجَهّزُوا لِلْخُرُوجِ إلَى أُحُدٍ ; فَبَاعُوهَا وَصَارَتْ ذَهَبًا عَيْنًا ،
فَوُقِفَ عِنْدَ أَبِي سُفْيَانَ . وَيُقَالُ إنّمَا قَالُوا : يَا أَبَا
سُفْيَانَ بِعْ الْعِيرَ ثُمّ اعْزِلْ أَرْبَاحَهَا . وَكَانَتْ الْعِيرُ أَلْفَ
بَعِيرٍ وَكَانَ الْمَالُ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ ، وَكَانُوا يَرْبَحُونَ فِي
تِجَارَتِهِمْ لِلدّينَارِ دِينَارًا ، وَكَانَ مَتْجَرُهُمْ مِنْ الشّامِ غَزّةَ
، لَا يَعْدُونَهَا إلَى غَيْرِهَا .
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ حَبَسَ عِيرَ زُهْرَةَ لِأَنّهُمْ رَجَعُوا مِنْ
طَرِيقِ بَدْرٍ ، وَسَلّمَ مَا كَانَ لِمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَلِبَنِي
أَبِيهِ وَبَنِي عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ فَأَبَى مَخْرَمَةُ أَنْ يَقْبَلَ
عِيرَهُ حَتّى يُسَلّمَ إلَى بَنِي زُهْرَةَ جَمِيعًا . وَتَكَلّمَ الْأَخْنَسُ
فَقَالَ مَا لِعِيرِ بَنِي زُهْرَةَ مِنْ بَيْنِ عِيرَاتِ قُرَيْشٍ ؟ قَالَ أَبُو
سُفْيَانَ لِأَنّهُمْ رَجَعُوا عَنْ قُرَيْشٍ . قَالَ الْأَخْنَسُ أَنْتَ
أَرْسَلْت إلَى قُرَيْشٍ أَنْ ارْجِعُوا فَقَدْ أَحْرَزْنَا الْعِيرَ لَا
تَخْرُجُوا فِي غَيْرِ شَيْءٍ فَرَجَعْنَا . فَأَخَذَتْ زُهْرَةُ عِيرَهَا ،
وَأَخَذَ أَقْوَامٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ - أَهْلُ ضَعْفٍ لَا عَشَائِرَ لَهُمْ
وَلَا مَنَعَةَ - كُلّ مَا كَانَ لَهُمْ فِي الْعِيرِ .
فَهَذَا يُبَيّنُ أَنّمَا أَخْرَجَ الْقَوْمُ أَرْبَاحَ الْعِيرِ . وَفِيهِمْ
نَزَلَتْ إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدّوا عَنْ
سَبِيلِ اللّهِ الْآيَةَ . فَلَمّا أَجْمَعُوا عَلَى الْمَسِيرِ قَالُوا : نَسِيرُ
فِي الْعَرَبِ فَنَسْتَنْصِرُهُمْ فَإِنّ عَبْدَ مَنَاةَ غَيْرُ مُتَخَلّفِينَ
عَنّا ، هُمْ أَوْصَلُ الْعَرَبِ لِأَرْحَامِنَا ، وَمَنْ اتّبَعَنَا مِنْ
الْأَحَابِيشِ .
(1/199)
فَاجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا أَرْبَعَةً مِنْ قُرَيْشٍ يَسِيرُونَ [ ص 201
] فِي الْعَرَبِ يَدْعُونَهُمْ إلَى نَصْرِهِمْ فَبَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ
، وَهُبَيْرَةَ بْنَ أَبِي وَهْبٍ ، وَابْنَ الزّبَعْرَى ، وَأَبَا عَزّةَ
الْجُمَحِيّ فَأَطَاعَ النّفَرُ وَأَبَى أَبُو عَزّةَ أَنْ يَسِيرَ وَقَالَ مَنّ
عَلَيّ مُحَمّدٌ يَوْمَ بَدْرٍ وَلَمْ يَمُنّ عَلَى غَيْرِي ، وَحَلَفْت لَا
أُظَاهِرُ عَلَيْهِ عَدُوّا أَبَدًا . فَمَشَى إلَيْهِ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ
فَقَالَ اُخْرُجْ فَأَبَى فَقَالَ عَاهَدْت مُحَمّدًا يَوْمَبَدْرٍ لَا أُظَاهِرُ
عَلَيْهِ عَدُوّا أَبَدًا ، وَأَنَا أَفِي لَهُ بِمَا عَاهَدْته عَلَيْهِ مَنّ
عَلَيّ وَلَمْ يَمُنّ عَلَى غَيْرِي حَتّى قَتَلَهُ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ الْفِدَاءَ
.
فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ اُخْرُجْ مَعَنَا ، فَإِنْ تُسْلِمْ أُعْطِك مِنْ الْمَالِ
مَا شِئْت ، وَإِنْ تُقْتَلْ كَانَ عِيَالُك مَعَ عِيَالِي . فَأَبَى أَبُو عَزّةَ
حَتّى كَانَ الْغَدُ وَانْصَرَفَ عَنْهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ آيِسًا مِنْهُ
فَلَمّا كَانَ الْغَدُ جَاءَهُ صَفْوَانُ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ ، فَقَالَ لَهُ
صَفْوَانُ الْكَلَامَ الْأَوّلَ فَأَبَى ، فَقَالَ جُبَيْرٌ مَا كُنْت أَظُنّ
أَنّي أَعِيشُ حَتّى يَمْشِي إلَيْك أَبُو وَهْبٍ فِي أَمْرٍ تَأْبَى عَلَيْهِ
فَأَحْفَظُهُ فَقَالَ فَأَنَا أَخْرُجُ قَالَ فَخَرَجَ فِي الْعَرَبِ يَجْمَعُهَا
، وَهُوَ يَقُولُ
يَا بَنِي عَبْدِ مَنَاةَ الرّزّام ْ
أَنْتُمْ حُمَاةٌ وَأَبُوكُمْ حَامْ
لَا تُسْلِمُونِي لَا يَحِلّ إِسْلَامْ
لَا تَعِدُونِي نَصْرَكُمْ بَعْدَ الْعَامْ
قَالَ وَخَرَجَ مَعَهُ النّفَرُ فَأَلّبُوا الْعَرَبَ وَجَمَعُوهَا ، وَبَلَغُوا
ثَقِيفًا فَأَوْعَبُوا . فَلَمّا أَجْمَعُوا الْمَسِيرَ وَتَأَلّبَ مَنْ كَانَ
مَعَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ وَحَضَرُوا ، اخْتَلَفَتْ قُرَيْشٌ [ ص 202 ] فِي
إخْرَاجِ الظّعُنِ مَعَهُمْ .
فَحَدّثَنِي بُكَيْرُ بْنُ مِسْمَارٍ عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى سَعْدٍ عَنْ نِسْطَاسٍ
قَالَ قَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ : اُخْرُجُوا بِالظّعُنِ فَأَنَا أَوّلُ مَنْ
فَعَلَ فَإِنّهُ أَقْمَنُ أَنْ يُحْفِظْنَكُمْ وَيُذَكّرْنَكُمْ قَتْلَى بَدْرٍ،
فَإِنّ الْعَهْدَ حَدِيثٌ وَنَحْنُ قَوْمٌ مُسْتَمِيتُونَ لَا نُرِيدُ أَنْ
نَرْجِعَ إلَى دَارِنَا حَتّى نُدْرِكَ ثَأْرَنَا أَوْ نَمُوتَ دُونَهُ . فَقَالَ
عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ : أَنَا أَوّلُ مَنْ أَجَابَ إلَى مَا دَعَوْت
إلَيْهِ . وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِثْلَ ذَلِكَ فَمَشَى فِي ذَلِكَ
نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَذَا لَيْسَ
بِرَأْيٍ أَنْ تُعَرّضُوا حُرَمَكُمْ عَدُوّكُمْ وَلَا آمَنُ أَنْ تَكُونَ
الدّائِرَةُ لَهُمْ فَتَفْتَضِحُوا فِي نِسَائِكُمْ .
فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ : لَا كَانَ غَيْرُ هَذَا أَبَدًا فَجَاءَ
نَوْفَلٌ إلَى أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ فَصَاحَتْ هِنْدُ
بِنْتُ عُتْبَةَ : إنّك وَاَللّهِ سَلِمْت يَوْمَ بَدْرٍفَرَجَعْت إلَى نِسَائِك ;
نَعَمْ نَخْرُجُ فَنَشْهَدُ الْقِتَالَ فَقَدْ رُدّتْ الْقِيَانُ مِنْ الْجُحْفَةِ
فِي سَفَرِهِمْ إلَى بَدْرٍ فَقُتِلَتْ الْأَحِبّةُ يَوْمَئِذٍ . قَالَ أَبُو
سُفْيَانَ لَسْت أُخَالِفُ قُرَيْشًا ; أَنَا رَجُلٌ مِنْهَا ، مَا فَعَلَتْ
فَعَلْت . فَخَرَجُوا بِالظّعُنِ .
قَالُوا : فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِامْرَأَتَيْنِ - هِنْدِ بِنْتِ
عُتْبَةَ ، وَأُمَيْمَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ وَهْبِ بْنِ أَشْيَمَ بْنِ كِنَانَةَ
. وَخَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ بِامْرَأَتَيْنِ بَرْزَةَ بِنْتِ مَسْعُودٍ
الثّقَفِيّ وَهِيَ أُمّ عَبْدِ اللّهِ الْأَكْبَرِ وَبِامْرَأَتِهِ الْبَغُومِ
بِنْتِ الْمُعَذّلِ بْنِ كِنَانَة ، وَهِيَ أُمّ عَبْدِ اللّهِ بْنِ صَفْوَانَ
الْأَصْغَرِ . وَخَرَجَ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ بِامْرَأَتِهِ سُلَافَةَ
بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شَهِيدٍ وَهِيَ مِنْ الْأَوْسِ ، وَهِيَ أُمّ بَنِي طَلْحَةَ
أُمّ مُسَافِعٍ وَالْحَارِثِ وَكِلَابٍ وَجُلّاسٍ [ ص 203 ] بَنِي طَلْحَةَ .
وَخَرَجَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ بِامْرَأَتِهِ أُمّ جُهَيْمٍ بِنْتِ
الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ . وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ بِامْرَأَتِهِ
فَاطِمَةَ بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ . وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ
بِامْرَأَتِهِ هِنْدِ بِنْتِ مُنَبّهِ بْنِ الْحَجّاجِ ، وَهِيَ أُمّ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ . وَخَرَجَتْ خُنَاسُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ
الْمُضَرّبِ مَعَ ابْنِهَا أَبِي عَزِيزِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيّ . وَخَرَجَ
الْحَارِثُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ بِامْرَأَتِهِ رَمْلَةَ بِنْتِ
طَارِقِ بْنِ عَلْقَمَةَ .
وَخَرَجَ كِنَانَةُ بْنُ عَلِيّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى
بِامْرَأَتِهِ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتِ طَارِقٍ . وَخَرَجَ سُفْيَانُ بْنُ عُوَيْفٍ
بِامْرَأَتِهِ قَتِيلَةَ بِنْتِ عَمْرِو بْنِ هِلَالٍ . وَخَرَجَ النّعْمَانُ
وَجَابِرٌ ابْنَا مَسْكِ الذّئْبِ بِأُمّهِمَا الدّغُنّيّةِ . وَخَرَجَ غُرَابُ
بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عُوَيْفٍ بِامْرَأَتِهِ عَمْرَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ
عَلْقَمَةَ وَهِيَ الّتِي رَفَعَتْ لِوَاءَ قُرَيْشٍ حِينَ سَقَطَ حَتّى
تَرَاجَعَتْ قُرَيْشٌ إلَى لِوَائِهَا . قَالُوا : وَخَرَجَ سُفْيَانُ بْنُ
عُوَيْفٍ بِعَشَرَةٍ مِنْ وَلَدِهِ وَحَشَدَتْ بَنُو كِنَانَةَ . وَكَانَتْ
الْأَلْوِيَةُ يَوْمَ خَرَجُوا مِنْ مَكّةَ ثَلَاثَةَ أَلْوِيَةٍ عَقَدُوهَا فِي
دَارِ النّدْوَةِ - لِوَاءٌ يَحْمِلُهُ سُفْيَانُ بْنُ عُوَيْفٍ وَلِوَاءٌ فِي
الْأَحَابِيشِ يَحْمِلُهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَلِوَاءٌ يَحْمِلُهُ طَلْحَةُ بْنُ
أَبِي طَلْحَةَ . وَيُقَالُ خَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَلَفّهَا عَلَى لِوَاءٍ وَاحِدٍ
يَحْمِلُهُ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ . قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ : وَهُوَ أَثْبَتُ
عِنْدَنَا .
(1/201)
وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ بِمَنْ ضَوَى إلَيْهِمْ وَكَانَ
فِيهِمْ مِنْ ثَقِيفٍ مِائَةُ رَجُلٍ وَخَرَجُوا بِعُدّةٍ وَسِلَاحٍ كَثِيرٍ ،
وَقَادُوا مِائَتَيْ فَرَسٍ وَكَانَ فِيهِمْ سَبْعُمِائَةِ دَارِعٍ وَثَلَاثَةُ
آلَافِ بَعِيرٍ . فَلَمّا أَجْمَعُوا الْمَسِيرَ كَتَبَ [ ص 204 ] الْعَبّاسُ بْنُ
عَبْدِ الْمُطّلِبِ كِتَابًا وَخَتَمَهُ وَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ
وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ ثَلَاثًا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُخْبِرَهُ أَنْ قُرَيْشًا قَدْ أَجْمَعَتْ الْمَسِيرَ إلَيْك
فَمَا كُنْت صَانِعًا إذَا حَلّوا بِك فَاصْنَعْهُ . وَقَدْ تَوَجّهُوا إلَيْك ،
وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَقَادُوا مِائَتَيْ فَرَسٍ وَفِيهِمْ سَبْعُمِائَةِ
دَارِعٍ وَثَلَاثَةُ آلَافِ بَعِيرٍ وَأَوْعَبُوا مِنْ السّلَاحِ .
فَقَدِمَ الْغِفَارِيّ فَلَمْ يَجِدْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِالْمَدِينَة ِ وَوَجَدَهُ بِقُبَاءَ فَخَرَجَ حَتّى يَجِدَ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَابِ مَسْجِدِ قُبَاءَ يَرْكَبُ
حِمَارَهُ فَدَفَعَ إلَيْهِ الْكِتَابَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ
وَاسْتَكْتَمَ أُبَيّا مَا فِيهِ فَدَخَلَ مَنْزِلَ سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ فَقَالَ
فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ ؟ فَقَالَ سَعْدٌ لَا ، فَتَكَلّمْ بِحَاجَتِك .
فَأَخْبَرَهُ بِكِتَابِ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَجَعَلَ سَعْدٌ
يَقُولُ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ وَقَدْ
أَرْجَفَتْ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَالْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا : مَا جَاءَ
مُحَمّدًا شَيْءٌ يُحِبّهُ . فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ وَاسْتَكْتَمَ سَعْدًا الْخَبَرَ . فَلَمّا خَرَجَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَرَجَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ
الرّبِيعِ إلَيْهِ فَقَالَتْ مَا قَالَ لَك رَسُولُ اللّهِ ؟ فَقَالَ مَا لَك
وَلِذَلِكَ لَا أُمّ لَك ؟ قَالَتْ قَدْ كُنْت أَسْمَعُ عَلَيْك .
وَأَخْبَرَتْ سَعْدًا الْخَبَرَ ، فَاسْتَرْجَعَ سَعْدٌ وَقَالَ لَا أَرَاك
تَسْتَمِعِينَ عَلَيْنَا وَأَنَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ تَكَلّمْ بِحَاجَتِك ثُمّ أَخَذَ يَجْمَعُ لَبّتَهَا ، ثُمّ خَرَجَ
يَعْدُو بِهَا حَتّى أَدْرَكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِالْجِسْرِ وَقَدْ بَلَحَتْ فَقَالَ يَا رَسُولَ [ ص 205 ] اللّهِ إنّ امْرَأَتِي
سَأَلَتْنِي عَمّا قُلْت ، فَكَتَمْتهَا فَقَالَتْ قَدْ سَمِعْت قَوْلَ رَسُولِ
اللّهِ فَجَاءَتْ بِالْحَدِيثِ كُلّهِ فَخَشِيت يَا رَسُولَ اللّهِ أَنْ يَظْهَرَ
مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَتَظُنّ أَنّي أَفْشَيْت سِرّك . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَلّ سَبِيلَهَا . وَشَاعَ الْخَبَرُ فِي النّاسِ
بِمَسِيرِ قُرَيْشٍ ، وَقَدِمَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ فِي نَفَرٍ مِنْ
خُزَاعَةَ . سَارُوا مِنْ مَكّةَ أَرْبَعًا ، فَوَافَوْا قُرَيْشًا وَقَدْ
عَسْكَرُوا بِذِي طُوًى ، فَأَخْبَرُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْخَبَرَ ، ثُمّ انْصَرَفُوا فَوَجَدُوا قُرَيْشًا بِبَطْنِ رَابِغٍ
فَنَكّبُوا عَنْ قُرَيْشٍ - وَرَابِغٌ عَلَى لَيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ .
فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ أَبِي حَكِيمَةَ الْأَسْلَمِيّ قَالَ لَمّا أَصْبَحَ أَبُو سُفْيَانَ
بِالْأَبْوَاءِ أُخْبِرَ أَنّ عَمْرَو بْنَ سَالِمٍ وَأَصْحَابَهُ رَاحُوا أَمْسِ
مُمْسِينَ إلَى مَكّةَ ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ أَحْلِفُ بِاَللّهِ أَنّهُمْ
جَاءُوا مُحَمّدًا فَخَبّرُوهُ بِمَسِيرِنَا ، وَحَذّرُوهُ وَأَخْبَرُوهُ
بِعَدَدِنَا ، فَهُمْ الْآنَ يَلْزَمُونَ صَيَاصِيَهُمْ فَمَا أَرَانَا نُصِيبُ
مِنْهُمْ شَيْئًا فِي وَجْهِنَا . فَقَالَ صَفْوَانُ إنْ لَمْ يَصْحَرُوا لَنَا
عَمَدْنَا إلَى نَخْلِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَقَطَعْنَاهُ فَتَرَكْنَاهُمْ
وَلَا أَمْوَالَ لَهُمْ فَلَا يَجْتَبِرُونَهَا أَبَدًا ، وَإِنْ أَصْحَرُوا لَنَا
فَعَدَدُنَا أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِهِمْ وَسِلَاحُنَا أَكْثَرُ مِنْ سِلَاحِهِمْ
وَلَنَا خَيْلٌ وَلَا خَيْلَ مَعَهُمْ وَنَحْنُ نُقَاتِلُ عَلَى وِتْرٍ عِنْدَهُمْ
وَلَا وِتْرَ لَهُمْ عِنْدَنَا .
(1/204)
وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ قَدْ خَرَجَ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ أَوْسِ
اللّهِ حَتّى قَدِمَ بِهِمْ مَكّةَ حِينَ قَدِمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، فَأَقَامَ مَعَ قُرَيْشٍ وَكَانَ دَعَا قَوْمَهُ فَقَالَ
لَهُمْ إنّ مُحَمّدًا ظَاهِرٌ فَاخْرُجُوا بِنَا إلَى قَوْمٍ نُوَازِرُهُمْ .
[ ص 206 ] فَخَرَجَ إلَى قُرَيْشٍ يُحَرّضُهَا وَيُعْلِمُهَا أَنّهَا عَلَى
الْحَقّ وَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ بَاطِلٌ فَسَارَتْ قُرَيْشٌ إلَى بَدْرٍ وَلَمْ
يَسِرْ مَعَهَا ، فَلَمّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ إلَى أُحُدٍ سَارَ مَعَهَا ، وَكَانَ
يَقُولُ لِقُرَيْشٍ إنّي لَوْ قَدِمْت عَلَى قَوْمِي لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْكُمْ
مِنْهُمْ رَجُلَانِ وَهَؤُلَاءِ مَعِي نَفَرٌ مِنْ قَوْمِي وَهُمْ خَمْسُونَ
رَجُلًا . فَصَدّقُوهُ بِمَا قَالَ وَطَمِعُوا بِنَصْرِهِ .
وَخَرَجَ النّسَاءُ مَعَهُنّ الدّفُوفُ يُحَرّضْنَ الرّجَالَ وَيُذَكّرْنَهُمْ
قَتْلَى بَدْرٍفِي كُلّ مَنْزِلٍ وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ يَنْزِلُونَ كُلّ مَنْهَلٍ
يَنْحَرُونَ مَا نَحَرُوا مِنْ الْجُزُرِ مِمّا كَانُوا جَمَعُوا مِنْ الْعِيرِ
وَيَتَقَوّوْنَ بِهِ فِي مَسِيرِهِمْ وَيَأْكُلُونَ مِنْ أَزْوَادِهِمْ مِمّا
جَمَعُوا مِنْ الْأَمْوَالِ . وَكَانَتْ قُرَيْش ٌ لَمّا مَرّتْ بِالْأَبْوَاءِ
قَالَتْ إنّكُمْ قَدْ خَرَجْتُمْ بِالظّعُنِ مَعَكُمْ وَنَحْنُ نَخَافُ عَلَى
نِسَائِنَا . فَتَعَالَوْا نَنْبُشُ قَبْرَ أُمّ مُحَمّدٍ فَإِنّ النّسَاءَ
عَوْرَةٌ فَإِنْ يُصِبْ مِنْ نِسَائِكُمْ أَحَدًا قُلْتُمْ هَذِهِ رِمّةُ أُمّك ;
فَإِنْ كَانَ بَرّا بِأُمّهِ كَمَا يَزْعُمُ فَلَعَمْرِي لَيُفَادِيَنّكُمْ
بِرِمّةِ أُمّهِ وَإِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِأَحَدٍ مِنْ نِسَائِكُمْ فَلَعَمْرِي
لَيَفْدِيَن رِمّةَ أُمّهِ بِمَالٍ كَثِيرٍ إنْ كَانَ بِهَا بَرّا . وَاسْتَشَارَ
أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَهْلَ الرّأْيِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا
: لَا تَذْكُرْ مِنْ هَذَا شَيْئًا ، فَلَوْ فَعَلْنَا نَبَشَتْ بَنُو بَكْرٍ
وَخُزَاعَةُ مَوْتَانَا .
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَ الْخَمِيسِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ صَبِيحَةَ عَشْرٍ مِنْ
مَخْرَجِهِمْ مِنْ مَكّةَ ، لِخَمْسِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَوّالٍ عَلَى رَأْسِ
اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا ، وَمَعَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ بَعِيرٍ وَمِائَتَا
فَرَسٍ . فَلَمّا أَصْبَحُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ خَرَجَ فُرْسَانٌ فَأَنْزَلَهُمْ
بِالْوِطَاءِ . وَبَعَثَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَيْنَيْنِ لَهُ
أَنَسًا وَمُؤْنِسًا ابْنَيْ فَضَالَةَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ فَاعْتَرَضَا
لِقُرَيْشٍ بِالْعَقِيقِ فَسَارَا مَعَهُمْ حَتّى نَزَلُوا [ ص 207 ] بِالْوِطَاءِ
. فَأَتَيَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَاهُ .
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ ازْدَرَعُوا الْعِرْضَ - وَالْعِرْضُ مَا بَيْنَ
الْوِطَاءِ بِأُحُدٍ إلَى الْجُرُفِ ، إلَى الْعَرْصَةِ ، عَرْصَةِ الْبَقْلِ
الْيَوْمَ - وَكَانَ أَهْلُهُ بَنُو سَلَمَةَ ، وَحَارِثَةَ وَظَفَرٍ وَعَبْدِ
الْأَشْهَلِ وَكَانَ الْمَاءُ يَوْمَئِذٍ بِالْجُرُفِ أَنْشَاطًا ، لَا يَرِيمُ
سَائِقُ النّاضِحِ مَجْلِسًا وَاحِدًا ، يَنْفَتِلُ الْجَمَلُ فِي سَاعَةٍ حَتّى
ذَهَبَتْ بِمِيَاهِهِ عُيُونُ الْغَابَةِ الّتِي حَفَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي
سُفْيَانَ . فَكَانُوا قَدْ أَدْخَلُوا آلَةَ زَرْعِهِمْ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ
الْمَدِينَةَ ، فَقَدِمَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى زَرْعِهِمْ وَخَلّوْا فِيهِ
إبِلَهُمْ وَخُيُولَهُمْ - وَقَدْ شَرِبَ الزّرْعُ فِي الدّقِيقِ وَكَانَ
لِأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ فِي الْعِرْضِ عِشْرُونَ نَاضِحًا يَسْقِي شَعِيرًا -
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ حَذِرُوا عَلَى جِمَالِهِمْ وَعُمّالِهِمْ وَآلَةِ
حَرْثِهِمْ . وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرْعَوْنَ يَوْمَ الْخَمِيسِ حَتّى
أَمْسَوْا ، فَلَمّا أَمْسَوْا جَمَعُوا الْإِبِلَ وَقَصَلُوا عَلَيْهَا
الْقَصِيلَ وَقَصَلُوا عَلَى خُيُولِهِمْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَلَمّا أَصْبَحُوا
يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَلّوْا ظَهْرَهُمْ فِي الزّرْعِ وَخَيْلَهُمْ حَتّى تَرَكُوا
الْعِرْضَ لَيْسَ بِهِ خَضْرَاءُ .
(1/207)
فَلَمّا نَزَلُوا وَحَلّوا الْعَقْدَ وَاطْمَأَنّوا ، بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ إلَى
الْقَوْمِ ، فَدَخَلَ فِيهِمْ وَحَزَرَ وَنَظَرَ إلَى جَمِيعِ مَا يُرِيدُ
وَبَعَثَهُ سِرّا وَقَالَ لِلْحُبَابِ لَا تُخْبِرْنِي بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ [ ص 208 ] إلّا أَنْ تَرَى قِلّةً . فَرَجَعَ إلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ
خَالِيًا ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا
رَأَيْت ؟ قَالَ رَأَيْت يَا رَسُولَ اللّهِ عَدَدًا ، حَزْرَتُهُمْ ثَلَاثَةَ
آلَافٍ يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ قَلِيلًا ، وَالْخَيْلُ مِائَتَيْ
فَرَسٍ وَرَأَيْت دُرُوعًا ظَاهِرَةً حَزَرْتهَا سَبْعمِائَةٍ دِرْعٍ . قَالَ هَلْ
رَأَيْت ظُعُنًا ؟ قَالَ رَأَيْت النّسَاءَ مَعَهُنّ الدّفَافُ وَالْأَكْبَارُ -
الْأَكْبَارُ يَعْنِي الطّبُولَ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَرَدْنَ أَنْ يُحَرّضْنَ الْقَوْمَ وَيُذَكّرْنَهُمْ قَتْلَى بَدْرٍ،
هَكَذَا جَاءَنِي خَبَرُهُمْ لَا تَذْكُرْ مِنْ شَأْنِهِمْ حَرْفًا ، حَسْبُنَا
اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، اللّهُمّ بِك أَجُولُ وَبِك أَصُولُ .
وَخَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتّى إذَا
كَانَ بِأَدْنَى الْعِرْضِ إذَا طَلِيعَةُ خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ عَشْرَةُ
أَفْرَاسٍ فَرَكَضُوا فِي أَثَرِهِ فَوَقَفَ لَهُمْ عَلَى نَشَزٍ مِنْ الْحَرّةِ ،
فَرَاشَقَهُمْ بِالنّبْلِ مَرّةً وَبِالْحِجَارَةِ مَرّةً حَتّى انْكَشَفُوا
عَنْهُ . فَلَمّا وَلّوْا جَاءَ إلَى مَزْرَعَتِهِ بِأَدْنَى الْعِرْضِ ، فَاسْتَخْرَجَ
سَيْفًا كَانَ لَهُ وَدِرْعَ حَدِيدٍ كَانَا دُفِنَا فِي نَاحِيَةِ الْمَزْرَعَةِ
فَخَرَجَ بِهِمَا يَعْدُو حَتّى أَتَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَخَبّرَ قَوْمَهُ
بِمَا لَقِيَ مِنْهُمْ . وَكَانَ مَقْدَمُهُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِخَمْسِ لَيَالٍ
خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ وَكَانَتْ الْوَقْعَةُ يَوْمَ السّبْتِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ
مِنْ شَوّالٍ .
(1/208)
وَبَاتَتْ وُجُوهُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ : سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، وَأُسَيْدُ
بْنُ حُضَيْرٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، فِي عِدّةٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ
عَلَيْهِمْ السّلَاحُ فِي الْمَسْجِدِ بِبَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ خَوْفًا مِنْ بَيَاتِ الْمُشْرِكِينَ وَحَرَسَتْ الْمَدِينَةَ تِلْكَ
اللّيْلَةَ حَتّى أَصْبَحُوا . وَرَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ رُؤْيَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَلَمّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ خَطَبَ .
[ ص 209 ] فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
قَتَادَةَ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ ، قَالَ ظَهَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ . فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ . ثُمّ
قَالَ أَيّهَا النّاسُ . إنّي رَأَيْت فِي مَنَامِي رُؤْيَا ، رَأَيْت كَأَنّي فِي
دِرْعٍ حَصِينَةٍ وَرَأَيْت كَأَنّ سَيْفِي ذَا الْفَقَارِ انْقَصَمَ مِنْ عِنْدِ
ظُبَتِهِ وَرَأَيْت بَقَرًا تُذْبَحُ . وَرَأَيْت كَأَنّي مُرْدِفٌ كَبْشًا .
فَقَالَ النّاسُ يَا رَسُولَ اللّهِ . فَمَا أَوّلْتهَا ؟ قَالَ أَمّا الدّرْعُ
الْحَصِينَةُ فَالْمَدِينَةُ . فَامْكُثُوا فِيهَا ; وَأَمّا انْقِصَامُ سَيْفِي
مِنْ عِنْدِ ظُبَتِهِ فَمُصِيبَةٌ فِي نَفْسِي ; وَأَمّا الْبَقَرُ الْمُذَبّحُ
فَقَتْلَى فِي أَصْحَابِي ، وَأَمّا مُرْدِفٌ كَبْشًا ، فَكَبْشُ الْكَتِيبَةِ
نَقْتُلُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ . وَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَعِيدٍ .
قَالَ سَمِعْت ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَأَمّا انْقِصَامُ سَيْفِي ، فَقَتْلُ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ عَنْ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ
الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ . قَالَ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَرَأَيْت فِي سَيْفِي فَلّا فَكَرِهْته فَهُوَ الّذِي أَصَابَ وَجْهَهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَشِيرُوا عَلَيّ وَرَأَى
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلّا يَخْرُجَ مِنْ الْمَدِينَةِ
لِهَذِهِ الرّؤْيَا ، فَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُحِبّ
أَنْ يُوَافَقَ عَلَى مِثْلِ مَا رَأَى وَعَلَى مَا عَبّرَ عَلَيْهِ الرّؤْيَا .
فَقَامَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ . كُنّا نُقَاتِلُ
فِي الْجَاهِلِيّةِ فِيهَا ، وَنَجْعَلُ [ ص 210 ] النّسَاءَ وَالذّرَارِيّ فِي
هَذِهِ الصّيَاصِي ، وَنَجْعَلُ مَعَهُمْ الْحِجَارَةَ . وَاَللّهِ لَرُبّمَا
مَكَثَ الْوِلْدَانُ شَهْرًا يَنْقُلُونَ الْحِجَارَةَ إعْدَادًا لِعَدُوّنَا ،
وَنَشْبِكُ الْمَدِينَةَ بِالْبُنْيَانِ فَتَكُونُ كَالْحِصْنِ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ
وَتَرْمِي الْمَرْأَةُ وَالصّبِيّ مِنْ فَوْقِ الصّيَاصِي وَالْآطَامِ وَنُقَاتِلُ
بِأَسْيَافِنَا فِي السّكَكِ . يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ مَدِينَتَنَا عَذْرَاءُ مَا
فُضّتْ عَلَيْنَا قَطّ ، وَمَا خَرَجْنَا إلَى عَدُوّ قَطّ إلّا أَصَابَ مِنّا ،
وَمَا دَخَلَ عَلَيْنَا قَطّ إلّا أَصَبْنَاهُ فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللّهِ
فَإِنّهُمْ إنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرّ مَحْبِسٍ وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا
خَائِبِينَ مَغْلُوبِينَ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا . يَا رَسُولَ اللّهِ أَطِعْنِي
فِي هَذَا الْأَمْرِ وَاعْلَمْ أَنّي وَرِثْت هَذَا الرّأْيَ مِنْ أَكَابِرِ
قَوْمِي وَأَهْلِ الرّأْيِ مِنْهُمْ فَهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْحَرْبِ
وَالتّجْرِبَةِ .
وَكَانَ رَأْيُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ رَأْيِ ابْنِ
أُبَيّ ، وَكَانَ ذَلِكَ رَأْيَ الْأَكَابِرِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اُمْكُثْ فِي الْمَدِينَةِ ، وَاجْعَلُوا
النّسَاءَ وَالذّرَارِيّ فِي الْآطَامِ فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ
فِي الْأَزِقّةِ فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْهُمْ وَارْمُوا مِنْ فَوْقِ
الصّيَاصِي وَالْآطَامِ . فَكَانُوا قَدْ شَبّكُوا الْمَدِينَةَ بِالْبُنْيَانِ
مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ فَهِيَ كَالْحِصْنِ . فَقَالَ فِتْيَانٌ أَحْدَاثٌ لَمْ
يَشْهَدُوا بَدْرًا ، وَطَلَبُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْخُرُوجَ إلَى عَدُوّهِمْ وَرَغِبُوا فِي الشّهَادَةِ وَأَحَبّوا
لِقَاءَ الْعَدُوّ اُخْرُجْ بِنَا إلَى عَدُوّنَا
وَقَالَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ السّنّ وَأَهْلِ النّيّةِ مِنْهُمْ حَمْزَةُ بْنُ
عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَالنّعْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ فِي غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ : إنّا نَخْشَى يَا
رَسُولَ اللّهِ أَنْ يَظُنّ عَدُوّنَا أَنّا كَرِهْنَا الْخُرُوجَ إلَيْهِمْ
جُبْنًا عَنْ لِقَائِهِمْ فَيَكُونُ هَذَا جُرْأَةً مِنْهُمْ عَلَيْنَا ، وَقَدْ
كُنْت يَوْمَ بَدْرٍفِي ثَلَاثِمِائَةِ [ ص 211 ] رَجُلٍ فَظَفّرَك اللّهُ
عَلَيْهِمْ وَنَحْنُ الْيَوْمَ بَشَرٌ كَثِيرٌ ، قَدْ كُنّا نَتَمَنّى هَذَا
الْيَوْمَ وَنَدْعُو اللّهَ بِهِ فَقَدْ سَاقَهُ اللّهُ إلَيْنَا فِي سَاحَتِنَا .
وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِمَا يَرَى مِنْ إلْحَاحِهِمْ
كَارِهٌ وَقَدْ لَبِسُوا السّلَاحَ يَخْطِرُونَ بِسُيُوفِهِمْ يَتَسَامَوْنَ
كَأَنّهُمْ الْفُحُولُ .
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ أَبُو أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يَا رَسُولَ اللّهِ
نَحْنُ وَاَللّهِ بَيْنَ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ - إمّا يُظَفّرُنَا اللّهُ بِهِمْ
فَهَذَا الّذِي نُرِيدُ فَيُذِلّهُمْ اللّهُ لَنَا فَتَكُونُ هَذِهِ وَقْعَةً مَعَ
وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ إلّا الشّرِيدُ وَالْأُخْرَى يَا رَسُولَ
اللّهِ يَرْزُقُنَا اللّهُ الشّهَادَةَ . وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا
أُبَالِي أَيّهُمَا كَانَ إنّ كُلّا لَفِيهِ الْخَيْرُ فَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنّ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجَعَ إلَيْهِ قَوْلًا ، وَسَكَتَ .
فَقَالَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَاَلّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَابَ لَا أَطْعَمُ الْيَوْمَ طَعَامًا حَتّى أُجَالِدَهُمْ
بِسَيْفِي خَارِجًا مِنْ الْمَدِينَةِ . وَكَانَ يُقَالُ كَانَ حَمْزَةُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ صَائِمًا ، وَيَوْمَ السّبْتِ صَائِمًا ، فَلَاقَاهُمْ وَهُوَ صَائِمٌ
.
(1/210)
قَالُوا : وَقَالَ النّعْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَالِمٍ
يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا أَشْهَدُ أَنّ الْبَقَرَ الْمُذَبّحَ قَتْلَى مِنْ
أَصْحَابِك وَأَنّي مِنْهُمْ فَلِمَ تَحْرِمُنَا الْجَنّةَ ؟ فَوَاَلّذِي لَا
إلَهَ إلّا هُوَ لَأَدْخُلَنهَا . قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِمَ ؟ قَالَ إنّي أُحِبّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا أَفِرّ يَوْمَ
الزّحْفِ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَدَقْت
فَاسْتُشْهِدَ يَوْمَئِذ
وَقَالَ إيَاسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكٍ يَا رَسُولَ اللّهِ نَحْنُ بَنُو عَبْدِ
الْأَشْهَلِ مِنْ الْبَقَرِ الْمُذَبّحِ نَرْجُو [ ص 212 ] يَا رَسُولَ اللّهِ
أَنْ نُذَبّحَ فِي الْقَوْمِ وَيُذَبّحَ فِينَا ، فَنَصِيرُ إلَى الْجَنّةِ
وَيَصِيرُونَ إلَى النّارِ مَعَ أَنّي يَا رَسُولَ اللّهِ لَا أُحِبّ أَنْ
تَرْجِعَ قُرَيْشٌ إلَى قَوْمِهَا فَيَقُولُونَ حَصَرْنَا مُحَمّدًا فِي صَيَاصِي
يَثْرِبَ وَآطَامِهَا فَيَكُونُ هَذَا جُرْأَةً لِقُرَيْشٍ وَقَدْ وَطِئُوا
سَعَفَنَا فَإِذَا لَمْ نَذُبّ عَنْ عِرْضِنَا لَمْ نَزْرَعْ وَقَدْ كُنّا يَا رَسُولَ
اللّهِ فِي جَاهِلِيّتِنَا وَالْعَرَبُ يَأْتُونَنَا ، وَلَا يَطْمَعُونَ بِهَذَا
مِنّا حَتّى نَخْرُجَ إلَيْهِمْ بِأَسْيَافِنَا حَتّى نَذُبّهُمْ عَنّا ، فَنَحْنُ
الْيَوْمَ أَحَقّ إذْ أَيّدَنَا اللّهُ بِك ، وَعَرَفْنَا مَصِيرَنَا ، لَا
نَحْصُرُ أَنْفُسَنَا فِي بُيُوتِنَا .
وَقَامَ خَيْثَمَةُ أَبُو سَعْدِ بْنُ خَيْثَمَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ
قُرَيْشًا مَكَثَتْ حَوْلًا تَجْمَعُ الْجُمُوعَ وَتَسْتَجْلِبُ الْعَرَبَ فِي
بَوَادِيهَا وَمَنْ تَبِعَهَا مِنْ أَحَابِيشِهَا ، ثُمّ جَاءُونَا قَدْ قَادُوا الْخَيْلَ
وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ حَتّى نَزَلُوا بِسَاحَتِنَا فَيَحْصُرُونَنَا فِي
بُيُوتِنَا وَصَيَاصِيِنَا ، ثُمّ يَرْجِعُونَ وَافِرِينَ لَمْ يُكْلَمُوا ،
فَيُجَرّئُهُمْ ذَلِكَ عَلَيْنَا حَتّى يَشُنّوا الْغَارَاتِ عَلَيْنَا ،
وَيُصِيبُوا أَطْرَافَنَا ، وَيَضَعُوا الْعُيُونَ وَالْأَرْصَادَ عَلَيْنَا ،
مَعَ مَا قَدْ صَنَعُوا بِحُرُوثِنَا ، وَيَجْتَرِئُ عَلَيْنَا الْعَرَبُ
حَوْلَنَا حَتّى يَطْمَعُوا فِينَا إذَا رَأَوْنَا لَمْ نَخْرُجْ إلَيْهِمْ
فَنَذُبّهُمْ عَنْ جِوَارِنَا وَعَسَى اللّهُ أَنْ يُظَفّرَنَا بِهِمْ فَتِلْكَ
عَادَةُ اللّهِ عِنْدَنَا ، أَوْ تَكُونَ الْأُخْرَى فَهِيَ الشّهَادَةُ . لَقَدْ
أَخْطَأَتْنِي وَقْعَةُ بَدْرٍ وَقَدْ كُنْت عَلَيْهَا حَرِيصًا ، لَقَدْ بَلَغَ
مِنْ حِرْصِي أَنْ سَاهَمْت ابْنِي فِي الْخُرُوجِ فَخَرَجَ سَهْمُهُ فَرُزِقَ
الشّهَادَةَ وَقَدْ كُنْت حَرِيصًا عَلَى الشّهَادَةِ . وَقَدْ رَأَيْت ابْنِي
الْبَارِحَةَ فِي النّوْمِ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ يَسْرَحُ فِي ثِمَارِ الْجَنّةِ
وَأَنْهَارِهَا وَهُوَ يَقُولُ الْحَقْ بِنَا تُرَافِقْنَا فِي الْجَنّةِ ، [ ص
213 ] فَقَدْ وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبّي حَقّا وَقَدْ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ
اللّهِ أَصْبَحْت مُشْتَاقًا إلَى مُرَافَقَتِهِ فِي الْجَنّةِ ، وَقَدْ كَبِرَتْ
سِنّي ، وَرَقّ عَظْمِي ، وَأَحْبَبْت لِقَاءَ رَبّي ، فَادْعُ اللّهَ يَا رَسُولَ
اللّهِ أَنْ يَرْزُقَنِي الشّهَادَةَ وَمُرَافَقَةَ سَعْدٍ فِي الْجَنّةِ .
فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِذَلِكَ فَقُتِلَ
بِأُحُدٍ شَهِيدًا
وَقَالُوا : قَالَ أَنَسُ بْنُ قَتَادَةَ : يَا رَسُولَ اللّهِ هِيَ إحْدَى
الْحُسْنَيَيْنِ إمّا الشّهَادَةُ وَإِمّا الْغَنِيمَةُ وَالظّفْرُ فِي قَتْلِهِمْ
. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
الْهَزِيمَةَ
قَالُوا : فَلَمّا أَبَوْا إلّا الْخُرُوجَ صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْجُمُعَةَ بِالنّاسِ ثُمّ وَعَظَ النّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالْجِدّ
وَالْجِهَادِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّ لَهُمْ النّصْرَ مَا صَبَرُوا . فَفَرِحَ
النّاسُ بِذَلِكَ حَيْثُ أَعْلَمَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِالشّخُوصِ إلَى عَدُوّهِمْ وَكَرِهَ ذَلِكَ الْمَخْرَجَ بَشَرٌ كَثِيرٌ
مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَمَرَهُمْ
بِالتّهَيّؤِ لِعَدُوّهِمْ ثُمّ صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْعَصْرَ بِالنّاسِ وَقَدْ حَشَدَ النّاسُ وَحَضَرَ أَهْلُ الْعَوَالِي
، وَرَفَعُوا النّسَاءَ فِي الْآطَامِ فَحَضَرَتْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ
وَلِفّهَا وَالنّبِيتُ [ وَلِفّهَا ] وَتَلَبّسُوا السّلَاحَ .
فَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْتَهُ وَدَخَلَ مَعَهُ
أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، فَعَمّمَاهُ وَلَبِسَاهُ وَصَفّ
النّاسُ لَهُ مَا بَيْنَ حُجْرَتِهِ إلَى مِنْبَرِهِ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ
فَجَاءَهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَا : قُلْتُمْ
لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا قُلْتُمْ
وَاسْتَكْرَهْتُمُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ وَالْأَمْرُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ
السّمَاءِ فَرُدّوا الْأَمْرَ إلَيْهِ فَمَا أَمَرَكُمْ [ ص 214 ] فَافْلَعُوهُ
وَمَا رَأَيْتُمْ لَهُ فِيهِ هَوًى أَوْ رَأْيٌ فَأَطِيعُوهُ . فَبَيْنَا
الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَقُولُ الْقَوْلُ مَا
قَالَ سَعْدٌ وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْبَصِيرَةِ عَلَى الشّخُوصِ وَبَعْضُهُمْ
لِلْخُرُوجِ كَارِهٌ إذْ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَدْ لَبِسَ لَأْمَتَهُ وَقَدْ لَبِسَ الدّرْعَ فَأَظْهَرَهَا ، وَحَزَمَ
وَسَطَهَا بِمِنْطَقَةٍ مِنْ حَمَائِلِ سَيْفٍ مِنْ أَدَمٍ كَانَتْ عِنْدَ آلِ
أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدُ
وَاعْتَمّ وَتَقَلّدَ السّيْفَ .
فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَدِمُوا جَمِيعًا
عَلَى مَا صَنَعُوا ، وَقَالَ الّذِينَ يُلِحّونَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُلِحّ عَلَى رَسُولِ اللّهِ فِي
أَمْرٍ يَهْوَى خِلَافَهُ . وَنَدّمَهُمْ أَهْلُ الرّأْيِ الّذِينَ كَانُوا
يُشِيرُونَ بِالْمُقَامِ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ مَا كَانَ لَنَا أَنْ
نُخَالِفَك فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك ، [ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَسْتَكْرِهَك
وَالْأَمْرُ إلَى اللّهِ ثُمّ إلَيْك ] . فَقَالَ قَدْ دَعَوْتُكُمْ إلَى هَذَا
الْحَدِيثِ فَأَبَيْتُمْ وَلَا يَنْبَغِي لِنَبِيّ إذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ
يَضَعَهَا حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ . وَكَانَتْ
الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ إذَا لَبِسَ النّبِيّ لَأْمَتَهُ لَمْ يَضَعْهَا حَتّى
يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ .
ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اُنْظُرُوا مَا أَمَرْتُكُمْ
بِهِ فَاتّبِعُوهُ امْضُوا عَلَى اسْمِ اللّهِ فَلَكُمْ النّصْرُ مَا صَبَرْتُمْ .
حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ مَالِكُ
بْنُ عَمْرٍو النّجّارِيّ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ ثُمّ خَرَجَ - وَهُوَ
مَوْضُوعٌ عِنْدَ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ - صَلّى عَلَيْهِ ثُمّ دَعَا بِدَابّتِهِ
فَرَكِبَ إلَى أُحُدٍ .
(1/214)
حَدّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ لَهُ جُعَالُ بْنُ سُرَاقَةَ
وَهُوَ مُوَجّهٌ إلَى أُحُدٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ قِيلَ لِي إنّك تُقْتَلُ
غَدًا وَهُوَ يَتَنَفّسُ [ ص 215 ] مَكْرُوبًا ، فَضَرَبَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ أَلَيْسَ الدّهْرُ كُلّهُ غَدًا
؟ ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِثَلَاثَةِ
أَرْمَاحٍ فَعَقَدَ ثَلَاثَةَ أَلْوِيَةٍ فَدَفَعَ لِوَاءَ الْأَوْسِ إلَى
أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَدَفَعَ لِوَاءَ الْخَزْرَجِ إلَى الْحُبَابِ بْنِ
الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ - وَيُقَالُ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ - وَدَفَعَ
لِوَاءَ الْمُهَاجِرِينَ إلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ
وَيُقَالُ إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ .
ثُمّ دَعَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِفَرَسِهِ فَرَكِبَهُ
وَأَخَذَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْقَوْسَ وَأَخَذَ قَنَاةً
بِيَدِهِ - زُجّ الرّمْحِ يَوْمَئِذٍ مِنْ شَبَهٍ - وَالْمُسْلِمُونَ
مُتَلَبّسُونَ السّلَاحَ قَدْ أَظْهَرُوا الدّرُوعَ فِيهِمْ مِائَةُ دَارِعٍ .
فَلَمّا رَكِبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَرَجَ السّعْدَانِ
أَمَامَهُ يَعْدُوَانِ - سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ - كُلّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارِعٌ وَالنّاسُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ حَتّى
سَلَكَ عَلَى الْبَدَائِعِ ثُمّ زُقَاقِ الْحِسْيِ حَتّى أَتَى الشّيْخَيْنِ -
وَهُمَا أُطُمَانِ كَانَا فِي الْجَاهِلِيّةِ فِيهِمَا شَيْخٌ أَعْمَى وَعَجُوزٌ
عَمْيَاءُ يَتَحَدّثَانِ فَسُمّيَ الْأُطُمَانِ الشّيْخَيْنِ - حَتّى انْتَهَى
إلَى رَأْسِ الثّنِيّةِ ، الْتَفَتَ فَنَظَرَ إلَى كَتِيبَةٍ خَشْنَاءَ لَهَا
زَجَلٌ خَلْفَهُ فَقَالَ مَا هَذِهِ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هَؤُلَاءِ
حُلَفَاءُ ابْنِ أُبَيّ مِنْ يَهُودَ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُسْتَنْصَرُ بِأَهْلِ الشّرْكِ عَلَى [ ص 216 ] أَهْلِ
الشّرْكِ . وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَتَى
الشّيْخَيْنِ فَعَسْكَرَ بِهِ . وَعُرِضَ عَلَيْهِ غِلْمَانٌ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
عُمَرَ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَالنّعْمَانُ بْنُ
بَشِيرٍ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ ، وَأُسَيْدُ بْنُ
ظُهَيْرٍ ، وَعَرَابَةُ بْنُ أَوْسٍ ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ ، وَسَمُرَةُ
بْنُ جُنْدُبٍ ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ ، فَرَدّهُمْ . قَالَ رَافِعُ بْنُ
خَدِيجٍ ، فَقَالَ ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ رَامٍ
وَجَعَلْت أَتَطَاوَلُ وَعَلَيّ خُفّانِ لِي . فَأَجَازَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَلَمّا أَجَازَنِي قَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ
لِرَبِيبِهِ مُرَيّ بْنِ سِنَانٍ الْحَارِثِيّ ، وَهُوَ زَوْجُ أُمّهِ يَا أَبَتِ
أَجَازَ رَسُولُ اللّهِ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَرَدّنِي ، وَأَنَا أَصْرَعُ
رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ . فَقَالَ مُرَيّ بْنُ سِنَانٍ الْحَارِثِيّ : يَا رَسُولَ
اللّهِ رَدَدْت ابْنِي وَأَجَزْت رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَابْنِي يَصْرَعُهُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَصَارَعَا فَصَرَعَ
سَمُرَةُ رَافِعًا فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
وَكَانَتْ أُمّهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ .
وَأَقْبَلَ ابْنُ أُبَيّ فَنَزَلَ نَاحِيَةً مِنْ الْعَسْكَرِ فَجَعَلَ
حُلَفَاؤُهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ لِابْنِ أُبَيّ
أَشَرْت عَلَيْهِ بِالرّأْيِ وَنَصَحْته وَأَخْبَرْته أَنّ هَذَا رَأْيُ مَنْ
مَضَى مِنْ آبَائِك ; وَكَانَ ذَلِكَ رَأْيَهُ مَعَ رَأْيِك فَأَبَى أَنْ
يَقْبَلَهُ وَأَطَاعَ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانَ الّذِينَ مَعَهُ فَصَادَفُوا مِنْ
ابْنِ أُبَيّ نِفَاقًا وَغِشّا .
فَبَاتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالشّيْخَيْنِ . وَبَاتَ
ابْنُ أُبَيّ فِي أَصْحَابِهِ وَفَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِنْ عَرْضِ أَصْحَابِهِ . وَغَابَتْ الشّمْسُ فَأَذّنَ بَلَالٌ
بِالْمَغْرِبِ فَصَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَصْحَابِهِ
[ ص 217 ] ثُمّ أَذّنَ بِالْعِشَاءِ فَصَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِأَصْحَابِهِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَازِلٌ
فِي بَنِي النّجّارِ . وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَلَى الْحَرَسِ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا ،
يَطُوفُونَ بِالْعَسْكَرِ حَتّى أَدْلَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ . وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ رَأَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَيْثُ أَدْلَجَ وَنَزَلَ بِالشّيْخَيْنِ فَجَمَعَ خَيْلَهُمْ
وَظَهْرَهُمْ وَاسْتَعْمَلُوا عَلَى حَرَسِهِمْ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فِي
خَيْلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَبَاتَتْ صَاهِلَةُ خَيْلِهِمْ لَا تَهْدَأُ
وَتَدْنُو طَلَائِعُهُمْ حَتّى تُلْصَقَ بِالْحَرّةِ فَلَا تُصَعّدُ فِيهَا حَتّى
تَرْجِعَ خَيْلُهُمْ وَيَهَابُونَ مَوْضِعَ الْحَرّةِ وَمُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ
.
وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ حِينَ صَلّى
الْعِشَاءَ مَنْ يَحْفَظُنَا اللّيْلَةَ ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ أَنَا يَا
رَسُولَ اللّهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ
أَنْتَ ؟ قَالَ ذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ . قَالَ اجْلِسْ . ثُمّ قَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ رَجُلٌ يَحْفَظُنَا هَذِهِ
اللّيْلَةَ ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ أَنَا . فَقَالَ مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ أَنَا
أَبُو سَبُعٍ . قَالَ اجْلِسْ . ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مَنْ رَجُلٌ يَحْفَظُنَا هَذِهِ اللّيْلَةَ ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ
أَنَا . فَقَالَ وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ ابْنَ عَبْدِ قَيْسٍ . قَالَ اجْلِسْ .
وَمَكَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَاعَةً ثُمّ قَالَ
قُومُوا ثَلَاثَتَكُمْ . فَقَامَ ذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ ، فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيْنَ صَاحِبَاك ؟ فَقَالَ ذَكْوَانُ :
أَنَا الّذِي كُنْت أَجَبْتُك اللّيْلَةَ . قَالَ فَاذْهَبْ حَفِظَك اللّهُ قَالَ
فَلَبِسَ دِرْعَهُ وَأَخَذَ دَرَقَتَهُ وَكَانَ يَطُوفُ بِالْعَسْكَرِ تِلْكَ
اللّيْلَةَ وَيُقَالُ كَانَ يَحْرُسُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لَمْ يُفَارِقْهُ .
وَنَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَدْلَجَ فَلَمّا
كَانَ فِي السّحَرِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيْنَ
الْأَدِلّاءُ ؟ مَنْ رَجُلٌ يَدُلّنَا عَلَى الطّرِيقِ [ ص 218 ] وَيُخْرِجُنَا
عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ ؟ فَقَامَ أَبُو حَثْمَةَ الْحَارِثِيّ فَقَالَ أَنَا
يَا رَسُولَ اللّهِ . وَيُقَالُ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ وَيُقَالُ مُحَيّصَةُ -
وَأَثْبَتُ ذَلِكَ عِنْدَنَا أَبُو حَثْمَةَ . قَالَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَكِبَ فَرَسَهُ فَسَلَكَ بِهِ فِي بَنِي
حَارِثَةَ ثُمّ أَخَذَ فِي الْأَمْوَالِ حَتّى يَمُرّ بِحَائِطِ مِرْبَعِ بْنِ
قَيْظِيّ . وَكَانَ أَعْمَى الْبَصَرِ مُنَافِقًا ، فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابُهُ حَائِطَهُ قَامَ يَحْثِي التّرَابَ
فِي وُجُوهِهِمْ وَجَعَلَ يَقُولُ إنْ كُنْت رَسُولَ اللّهِ فَلَا تَدْخُلْ
حَائِطِي . فَيَضْرِبُهُ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ بِقَوْسٍ فِي يَدِهِ
فَشَجّهُ فِي رَأْسِهِ فَنَزَلَ الدّمُ فَغَضِبَ لَهُ بَعْضُ بَنِي حَارِثَةَ
مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ فَقَالَ هِيَ عَدَاوَتُكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ
الْأَشْهَلِ لَا تَدْعُونَهَا أَبَدًا لَنَا . فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ لَا
وَاَللّهِ وَلَكِنّهُ نِفَاقُكُمْ . وَاَللّهِ لَوْلَا أَنّي لَا أَدْرِي مَا
يُوَافِقُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ ذَلِكَ لَضَرَبْت
عُنُقَهُ وَعُنُقَ مَنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ فَأُسْكِتُوا .
(1/218)
وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَبَيْنَا هُوَ فِي
مَسِيرِهِ إذْ ذَبّ فَرَسُ أَبِي بَرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ بِذَنَبِهِ فَأَصَابَ
كُلّابَ سَيْفِهِ فَسَلّ سَيْفَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يَا صَاحِبَ السّيْفِ شِمْ سَيْفَك ، فَإِنّي إخَال السّيُوفَ سَتُسَلّ
فَيَكْثُرُ سَلّهَا وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُحِبّ
الْفَأْلَ وَيَكْرَهُ الطّيَرَةَ . [ ص 219 ]
وَلَبِسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الشّيْخَيْنِ
دِرْعًا وَاحِدَةً حَتّى انْتَهَى إلَى أُحُدٍ ، فَلَبِسَ دِرْعًا أُخْرَى ،
وَمِغْفَرًا وَبَيْضَةً فَوْقَ الْمِغْفَرِ . فَلَمّا نَهَضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الشّيْخَيْنِ زَحَفَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى
تَعْبِيَةٍ حَتّى انْتَهَوْا إلَى مَوْضِعِ أَرْضِ ابْنِ عَامِرٍ الْيَوْمَ .
فَلَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أُحُدٍ -
إلَى مَوْضِعِ الْقَنْطَرَةِ الْيَوْمَ - جَاءَ وَقَدْ حَانَتْ الصّلَاةُ وَهُوَ
يَرَى الْمُشْرِكِينَ أَمَرَ بَلَالًا فَأَذّنَ وَأَقَامَ وَصَلّى بِأَصْحَابِهِ
الصّبْحَ صُفُوفًا ; وَارْتَحَلَ ابْنُ أُبَيّ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فِي
كَتِيبَةٍ كَأَنّهُ هَيْقٌ يَقْدُمُهُمْ فَاتّبَعَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو
بْنِ حَرَامٍ فَقَالَ أُذَكّرُكُمْ اللّهَ وَدِينَكُمْ وَنَبِيّكُمْ وَمَا
شَرَطْتُمْ لَهُ أَنْ تَمْنَعُوهُ مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ
وَأَوْلَادَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ . فَقَالَ ابْنُ أُبَيّ : مَا أَرَى يَكُونُ
بَيْنَهُمْ قِتَالٌ وَلَئِنْ أَطَعْتنِي يَا أَبَا جَابِرٍ لَتَرْجِعَن ، فَإِنّ
أَهْلَ الرّأْيِ وَالْحِجَا قَدْ رَجَعُوا ، وَنَحْنُ نَاصِرُوهُ فِي مَدِينَتِنَا
، وَقَدْ خَالَفْنَا وَأَشَرْت عَلَيْهِ بِالرّأْيِ فَأَبَى إلّا طَوَاعِيَةَ
الْغِلْمَانِ . فَلَمّا أَبَى عَلَى عَبْدِ اللّهِ أَنْ يَرْجِعَ وَدَخَلُوا أَزِقّةَ
الْمَدِينَةِ ، قَالَ لَهُمْ أَبُو جَابِرٍ أَبْعَدَكُمْ اللّهُ إنّ اللّهَ
سَيُغْنِي النّبِيّ وَالْمُؤْمِنِينَ عَنْ نَصْرِكُمْ فَانْصَرَفَ ابْنُ أُبَيّ
وَهُوَ يَقُولُ أَيَعْصِينِي وَيُطِيعُ الْوِلْدَانَ ؟ وَانْصَرَفَ عَبْدُ اللّهِ
بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَعْدُو حَتّى لَحِقَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يُسَوّي الصّفُوفَ . فَلَمّا أُصِيبَ أَصْحَابُ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُرّ ابْنُ أُبَيّ ، وَأَظْهَرَ الشّمَاتَةَ
وَقَالَ عَصَانِي وَأَطَاعَ مَنْ لَا رَأْيَ لَهُ
وَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَصُفّ أَصْحَابَهُ
وَجَعَلَ الرّمَاةَ خَمْسِينَ رَجُلًا عَلَى عَيْنَيْنِ ، عَلَيْهِمْ عَبْدُ
اللّهِ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَقِيلَ عَلَيْهِمْ [ ص 220 ] سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ .
قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ : وَالثّبْتُ عِنْدَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ جُبَيْرٍ .
وَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَصُفّ أَصْحَابَهُ
وَجَعَلَ أُحُدًا خَلْفَ ظَهْرِهِ وَاسْتَقْبَلَ الْمَدِينَةَ ، وَجَعَلَ
عَيْنَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ وَأَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ فَاسْتَدْبَرُوا
الْمَدِينَةَ فِي الْوَادِي وَاسْتَقْبَلُوا أُحُدًا . وَيُقَالُ جَعَلَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَيْنَيْنِ خَلْفَ ظَهْرِهِ وَاسْتَدْبَرَ
الشّمْسَ وَاسْتَقْبَلَهَا الْمُشْرِكُونَ - وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَثْبَتُ
عِنْدَنَا ، أَنّ أُحُدًا خَلْفَ ظَهْرِهِ وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْمَدِينَةَ .
حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ ، عَنْ الْحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ بْنِ
السّكَنِ قَالَ لَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
إلَى أُحُدٍ ، وَالْقَوْمُ نُزُولٌ بِعَيْنَيْنِ أَتَى أُحُدًا حَتّى جَعَلَهُ
خَلْفَ ظَهْرِهِ . قَالَ وَنَهَى أَنْ يُقَاتِلَ أَحَدٌ حَتّى يَأْمُرَهُ فَلَمّا
سَمِعَ بِذَلِكَ عُمَارَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ السّكَنِ قَالَ أَتُرْعَى زُرُوعُ
بَنِي قَيْلَةَ وَلَمّا نُضَارِبْ ؟
وَأَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ صَفّوا صُفُوفَهُمْ وَاسْتَعْمَلُوا عَلَى
الْمَيْمَنَةِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عِكْرِمَةَ بْنَ
أَبِي جَهْلٍ . وَلَهُمْ مُجَنّبَتَانِ مِائَتَا فَرَسٍ وَجَعَلُوا عَلَى الْخَيْلِ
صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ - وَيُقَالُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ - وَعَلَى الرّمَاةِ
عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَكَانُوا مِائَةَ رَامٍ . وَدَفَعُوا
اللّوَاءَ إلَى طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ - وَاسْمُ أَبِي طَلْحَةَ عَبْدُ
اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ .
وَصَاحَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ يَا بَنِي عَبْدِ الدّارِ نَحْنُ نَعْرِفُ
أَنّكُمْ [ ص 221 ] أَحَقّ بِاللّوَاءِ مِنّا إنّا إنّمَا أَتَيْنَا يَوْمَ بَدْرٍ
مِنْ اللّوَاءِ وَإِنّمَا يُؤْتَى الْقَوْمُ مِنْ قِبَلِ لِوَائِهِمْ فَالْزَمُوا
لِوَاءَكُمْ وَحَافِظُوا عَلَيْهِ وَخَلّوْا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَإِنّا قَوْمٌ
مُسْتَمِيتُونَ مَوْتُورُونَ نَطْلُبُ ثَأْرًا حَدِيثَ الْعَهْدِ . وَجَعَلَ أَبُو
سُفْيَانَ يَقُولُ إذَا زَالَتْ الْأَلْوِيَةُ فَمَا قِوَامُ النّاسِ
وَبَقَاؤُهُمْ بَعْدَهَا فَغَضِبَ بَنُو عَبْدِ الدّارِ وَقَالُوا : نَحْنُ
نُسَلّمُ لِوَاءَنَا ؟ لَا كَانَ هَذَا أَبَدًا ، فَأَمّا الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ
فَسَتَرَى ثُمّ أَسْنَدُوا الرّمَاحَ إلَيْهِ وَأَحْدَقَتْ بَنُو عَبْدِ الدّارِ
بِاللّوَاءِ وَأَغْلَظُوا لِأَبِي سُفْيَانَ بَعْضَ الْإِغْلَاظِ . فَقَالَ أَبُو
سُفْيَانَ فَنَجْعَلُ لِوَاءً آخَرَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ وَلَا يَحْمِلُهُ إلّا
رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ لَا كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ أَبَدًا
وَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْهِ
يُسَوّي تِلْكَ الصّفُوفَ وَيُبَوّئُ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ يَقُولُ تَقَدّمْ
يَا فُلَانٌ وَتَأَخّرْ يَا فُلَانٌ حَتّى إنّهُ لَيَرَى مَنْكِبَ الرّجُلِ
خَارِجًا فَيُؤَخّرُهُ فَهُوَ يُقَوّمُهُمْ كَأَنّمَا يُقَوّمُ بِهِمْ الْقِدَاحَ حَتّى
إذَا اسْتَوَتْ الصّفُوفُ سَأَلَ مَنْ يَحْمِلُ لِوَاءَ الْمُشْرِكِينَ ؟ قِيلَ
بَنُو عَبْدِ الدّارِ . قَالَ نَحْنُ أَحَقّ بِالْوَفَاءِ مِنْهُمْ . أَيْنَ
مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ؟ قَالَ هَا أَنَا ذَا قَالَ خُذْ اللّوَاءَ . فَأَخَذَهُ
مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ، فَتَقَدّمَ بِهِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
(1/221)
ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَخَطَبَ النّاسَ
فَقَالَ يَا أَيّهَا النّاسُ أُوصِيكُمْ بِمَا أَوْصَانِي اللّهُ فِي كِتَابِهِ
مِنْ الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ وَالتّنَاهِي عَنْ مَحَارِمِهِ . ثُمّ إنّكُمْ
الْيَوْمَ بِمَنْزِلِ أَجْرٍ وَذُخْرٍ لِمَنْ ذَكَرَ الّذِي عَلَيْهِ ثُمّ وَطّنَ
نَفْسَهُ لَهُ عَلَى الصّبْرِ وَالْيَقِينِ وَالْجِدّ وَالنّشَاطِ فَإِنّ جِهَادَ
الْعَدُوّ شَدِيدٌ شَدِيدٌ كَرْبُهُ [ ص 222 ] قَلِيلٌ مَنْ يَصْبِرُ عَلَيْهِ
إلّا مَنْ عَزَمَ اللّهُ رُشْدَهُ فَإِنّ اللّهَ مَعَ مَنْ أَطَاعَهُ وَإِنّ
الشّيْطَانَ مَعَ مَنْ عَصَاهُ فَافْتَتِحُوا أَعْمَالَكُمْ بِالصّبْرِ عَلَى
الْجِهَادِ وَالْتَمِسُوا بِذَلِكَ مَا وَعَدَكُمْ اللّهُ وَعَلَيْكُمْ بِاَلّذِي
أَمَرَكُمْ بِهِ فَإِنّي حَرِيصٌ عَلَى رُشْدِكُمْ فَإِنّ الِاخْتِلَافَ
وَالتّنَازُعَ وَالتّثْبِيطَ مِنْ أَمْرِ الْعَجْزِ وَالضّعْفِ مِمّا لَا يُحِبّ
اللّهُ وَلَا يُعْطِي عَلَيْهِ النّصْرَ وَلَا الظّفَرَ . يَا أَيّهَا النّاسُ
جُدّدَ فِي صَدْرِي أَنّ مَنْ كَانَ عَلَى حَرَامٍ فَرّقَ اللّهُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ وَمَنْ رَغِبَ لَهُ عَنْهُ غَفَرَ اللّهُ ذَنْبَهُ وَمَنْ صَلّى عَلَيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ عَشْرًا ، وَمَنْ أَحْسَنَ مِنْ مُسْلِمٍ
أَوْ كَافِرٍ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّهِ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُ أَوْ آجِلِ
آخِرَتِهِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ
الْجُمُعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلّا صَبِيّا أَوْ امْرَأَةً أَوْ مَرِيضًا أَوْ
عَبْدًا مَمْلُوكًا ، وَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا اسْتَغْنَى اللّهُ عَنْهُ وَاَللّهُ
غَنِيّ حَمِيدٌ . مَا أَعْلَمُ مِنْ عَمَلٍ يُقَرّبُكُمْ إلَى اللّهِ إلّا وَقَدْ
أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَلَا أَعْلَمُ مِنْ عَمَلٍ يُقَرّبُكُمْ إلَى النّارِ إلّا
وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ . وَإِنّهُ قَدْ نَفَثَ فِي رُوعِي الرّوحُ الْأَمِينُ
أَنّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتّى تَسْتَوْفِيَ أَقْصَى رِزْقِهَا ، لَا يَنْقُصُ
مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا . فَاتّقُوا اللّهَ رَبّكُمْ وَأَجْمِلُوا
فِي طَلَبِ الرّزْقِ وَلَا يَحْمِلَنكُمْ اسْتِبْطَاؤُهُ أَنْ تَطْلُبُوهُ
بِمَعْصِيَةِ رَبّكُمْ فَإِنّهُ لَا يُقْدَرُ عَلَى مَا عِنْدَهُ إلّا بِطَاعَتِهِ
. قَدْ بَيّنَ لَكُمْ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ غَيْرَ أَنّ بَيْنَهُمَا شَبَهًا
مِنْ الْأَمْرِ لَمْ يَعْلَمْهَا كَثِيرٌ مِنْ النّاسِ إلّا مَنْ عَصَمَ فَمَنْ
تَرَكَهَا حَفِظَ عِرْضَهُ وَدِينَهُ وَمَنْ وَقَعَ فِيهَا كَانَ كَالرّاعِي إلَى
جَنْبِ الْحِمَى أَوْشَكَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ . وَلَيْسَ مَلِكٌ إلّا [ ص 223 ]
وَلَهُ حِمًى ، أَلَا وَإِنّ حِمَى اللّهِ مَحَارِمُهُ . وَالْمُؤْمِنُ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ كَالرّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى تَدَاعَى عَلَيْهِ
سَائِرُ الْجَسَدِ . وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ
(1/222)
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ الْمُطّلِبِ بْنِ
عَبْدِ اللّهِ قَالَ إنّ أَوّلَ مَنْ أَنْشَبَ الْحَرْبَ بَيْنَهُمْ أَبُو عَامِرٍ
طَلَعَ فِي خَمْسِينَ مِنْ قَوْمِهِ مَعَهُ عَبِيدُ قُرَيْشٍ ، فَنَادَى أَبُو
عَامِرٍ وَهُوَ عَبْدُ عَمْرٍو : يَا آلَ أَوْسٍ أَنَا أَبُو عَامِرٍ فَقَالُوا :
لَا مَرْحَبًا بِك وَلَا أَهْلًا يَا فَاسِقُ فَقَالَ لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي
بَعْدِي شَرّ وَمَعَهُ عَبِيدُ أَهْلِ مَكّةَ ، فَتَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ هُمْ
وَالْمُسْلِمُونَ حَتّى تَرَاضَخُوا بِهَا سَاعَةً حَتّى وَلّى أَبُو عَامِرٍ
وَأَصْحَابُهُ وَدَعَا طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ إلَى الْبِرَازِ وَيُقَالُ
إنّ الْعَبِيدَ لَمْ يُقَاتِلُوا ، وَأَمَرُوهُمْ بِحِفْظِ عَسْكَرِهِمْ .
(1/222)
قَالَ وَجَعَلَ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ أَنْ يَلْتَقِيَ الْجَمْعَانِ
أَمَامَ صُفُوفِ الْمُشْرِكِينَ يَضْرِبْنَ بِالْأَكْبَارِ وَالدّفَافِ
وَالْغَرَابِيلِ ثُمّ يَرْجِعْنَ فَيَكُنّ فِي مُؤَخّرِ الصّفّ حَتّى إذَا دَنَوْا
مِنّا تَأَخّرَ النّسَاءُ يَقُمْنَ خَلْفَ الصّفُوفِ فَجَعَلْنَ كُلّمَا وَلّى
رَجُلٌ حَرّضْنَهُ وَذَكّرْنَهُ قَتْلَاهُمْ بِبَدْرٍ .
(1/222)
وَكَانَ قُزْمَانُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَكَانَ قَدْ تَخَلّفَ عَنْ أُحُدٍ ،
فَلَمّا أَصْبَحَ عَيّرَهُ نِسَاءُ بَنِي ظَفَرٍ فَقُلْنَ يَا قُزْمَانُ . قَدْ
خَرَجَ الرّجَالُ وَبَقِيت يَا قُزْمَانُ ، أَلَا تَسْتَحْيِيَ مِمّا صَنَعْت ؟
مَا أَنْتَ إلّا امْرَأَةٌ خَرَجَ قَوْمُك فَبَقِيت فِي الدّارِ فَأَحْفَظَنهُ
فَدَخَلَ بَيْتَهُ فَأَخْرَجَ قَوْسَهُ وَجَعْبَتَهُ وَسَيْفَهُ - وَكَانَ
يُعْرَفُ بِالشّجَاعَةِ [ ص 224 ] فَخَرَجَ يَعْدُو حَتّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يُسَوّي صُفُوفَ الْمُسْلِمِينَ
فَجَاءَ مِنْ خَلْفِ الصّفُوفِ حَتّى انْتَهَى إلَى الصّفّ الْأَوّلِ فَكَانَ
فِيهِ . وَكَانَ أَوّلَ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . فَجَعَلَ
يُرْسِلُ نَبْلًا كَأَنّهَا الرّمَاحُ وَإِنّهُ لَيَكِتّ كَتِيتَ الْجَمَلِ . ثُمّ
صَارَ إلَى السّيْفِ فَفَعَلَ الْأَفَاعِيلَ حَتّى إذَا كَانَ آخِرَ ذَلِكَ قَتَلَ
نَفْسَهُ . وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا ذَكَرَهُ
قَالَ مِنْ أَهْلِ النّارِ . فَلَمّا انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ كَسَرَ جَفْنَ
سَيْفِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ الْمَوْتُ أَحْسَنُ مِنْ الْفِرَارِ يَا آلَ أَوْسٍ
قَاتِلُوا عَلَى الْأَحْسَابِ وَاصْنَعُوا مِثْلَ مَا أَصْنَعُ قَالَ فَيَدْخُلُ
بِالسّيْفِ وَسْطَ الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُقَالَ قَدْ قُتِلَ ثُمّ يَطْلُعُ
وَيَقُولُ أَنَا الْغُلَامُ الظّفَرِيّ حَتّى قَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعَةً
وَأَصَابَتْهُ الْجِرَاحَةُ وَكَثُرَتْ بِهِ فَوَقَعَ . فَمَرّ بِهِ قَتَادَةُ
بْنُ النّعْمَانِ فَقَالَ أَبَا الْغَيْدَاقُ قَالَ لَهُ قُزْمَانُ : يَا لَبّيْكَ
قَالَ هَنِيئًا لَك الشّهَادَةَ قَالَ قُزْمَانُ : إنّي وَاَللّهِ مَا قَاتَلْت
يَا أَبَا عَمْرٍو عَلَى دِينٍ مَا قَاتَلْت إلّا عَلَى الْحِفَاظِ أَنْ تَسِيرَ
قُرَيْشٌ إلَيْنَا حَتّى تَطَأَ سَعَفَنَا . فَذُكِرَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ جِرَاحَتُهُ فَقَالَ مِنْ أَهْلِ النّارِ . فَأَنْدَبَتْهُ
الْجِرَاحَةُ فَقَتَلَ نَفْسَهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إنّ اللّهَ يُؤَيّدُ هَذَا الدّينَ بِالرّجُلِ الْفَاجِرِ .
قَالُوا : وَتَقَدّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى
الرّمَاةِ فَقَالَ احْمُوا لَنَا ظُهُورَنَا ، فَإِنّا نَخَافُ أَنْ نُؤْتَى مِنْ
وَرَائِنَا ، وَالْزَمُوا مَكَانَكُمْ لَا تَبْرَحُوا مِنْهُ وَإِنْ
رَأَيْتُمُونَا نَهْزِمُهُمْ حَتّى نَدْخُلَ عَسْكَرَهُمْ فَلَا تُفَارِقُوا
مَكَانَكُمْ وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلَا تُعِينُونَا وَلَا تَدْفَعُوا
عَنّا ، اللّهُمّ إنّي أُشْهِدُك عَلَيْهِمْ وَارْشُقُوا خَيْلَهُمْ بِالنّبْلِ
فَإِنّ الْخَيْلَ لَا تُقْدِمُ عَلَى النّبْلِ [ ص 225 ] وَكَانَ لِلْمُشْرِكِينَ
مُجَنّبَتَانِ مَيْمَنَةٌ عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَمَيْسَرَةٌ
عَلَيْهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ . قَالُوا : وَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَدَفَعَ لِوَاءَهُ
الْأَعْظَمَ إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَدَفَعَ لِوَاءَ
الْأَوْسِ إلَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَلِوَاءَ الْخَزْرَجِ إلَى سَعْدٍ أَوْ
حُبَابٍ . وَالرّمَاةُ يَحْمُونَ ظُهُورَهُمْ يَرْشُقُونَ خَيْلَ الْمُشْرِكِينَ
بِالنّبْلِ فَتُوَلّي هَوَارِبَ قَالَ بَعْضُ الرّمَاةِ لَقَدْ رَمَقْت نَبْلَنَا
، مَا رَأَيْت سَهْمًا وَاحِدًا مِمّا نَرْمِي بِهِ خَيْلَهُمْ يَقَعُ بِالْأَرْضِ
إلّا فِي فَرَسٍ أَوْ رَجُلٍ . قَالُوا : وَدَنَا الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مِنْ
بَعْضٍ وَقَدّمُوا صَاحِبَ لِوَائِهِمْ طَلْحَةَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ وَصَفّوا
صُفُوفَهُمْ وَأَقَامُوا النّسَاءَ خَلْفَ الرّجَالِ بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ
يَضْرِبْنَ بِالْأَكْبَارِ وَالدّفُوفِ وَهِنْدٌ وَصَوَاحِبُهَا يُحَرّضْنَ
وَيَذْمُرْنَ الرّجَالَ وَيُذَكّرْنَ مَنْ أُصِيبَ بِبَدْرٍ وَيَقُلْنَ
نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ
نَمْشِي عَلَى النّمَارِقْ
إنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ
أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ
فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ
(1/225)
وَصَاحَ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ مَنْ يُبَارِزُ ؟ فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ
السّلَامُ هَلْ لَك فِي الْبِرَازِ ؟ قَالَ طَلْحَةُ نَعَمْ . فَبَرَزَا بَيْنَ
الصّفّيْنِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ تَحْتَ
الرّايَةِ عَلَيْهِ دِرْعَانِ وَمِغْفَرٌ وَبَيْضَةٌ فَالْتَقَيَا [ ص 226 ]
فَبَدَرَهُ عَلِيّ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَمَضَى السّيْفُ حَتّى فَلَقَ
هَامَتَهُ حَتّى انْتَهَى إلَى لِحْيَتِهِ فَوَقَعَ طَلْحَةُ وَانْصَرَفَ عَلِيّ
عَلَيْهِ السّلَامُ . فَقِيلَ لِعَلِيّ أَلَا ذَفّفْتَ عَلَيْهِ ؟ قَالَ إنّهُ
لَمّا صُرِعَ اسْتَقْبَلَتْنِي عَوْرَتُهُ فَعَطَفَنِي عَلَيْهِ الرّحِمُ وَقَدْ
عَلِمْت أَنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَيَقْتُلُهُ - هُوَ كَبْشُ
الْكَتِيبَةِ .
وَيُقَالُ حَمَلَ عَلَيْهِ طَلْحَةُ فَاتّقَاهُ عَلِيّ بِالدّرَقَةِ فَلَمْ
يَصْنَعْ سَيْفُهُ شَيْئًا . وَحَمَلَ عَلَيْهِ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ وَعَلَى
طَلْحَةَ دِرْعٌ مُشَمّرَةٌ فَضَرَبَ سَاقَيْهِ فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ ثُمّ أَرَادَ
أَنْ يُذَفّفَ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ بِالرّحِمِ فَتَرَكَهُ عَلِيّ فَلَمْ يُذَفّفْ
عَلَيْهِ حَتّى مَرّ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فَذَفّفَ عَلَيْهِ . وَيُقَالُ
إنّ عَلِيّا ذَفّفَ عَلَيْهِ . فَلَمّا قُتِلَ طَلْحَةُ سُرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَظْهَرَ التّكْبِيرَ وَكَبّرَ الْمُسْلِمُونَ . ثُمّ
شَدّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى كَتَائِبِ
الْمُشْرِكِينَ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ حَتّى نُقِضَتْ صُفُوفُهُمْ وَمَا قُتِلَ
إلّا طَلْحَةُ .
(1/226)
ثُمّ حَمَلَ لِوَاءَهُمْ بَعْدَ طَلْحَةَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، أَبُو شَيْبَةَ
وَهُوَ أَمَامَ النّسْوَةِ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ
إنّ عَلَى أَهْلِ اللّوَاءِ حَقّا
أَنْ تُخْضَبَ الصّعْدَةُ أَوْ تَنْدَقّا
فَتَقَدّمَ بِاللّوَاءِ وَالنّسَاءُ يُحَرّضْنَ وَيَضْرِبْنَ بِالدّفُوفِ وَحَمَلَ
عَلَيْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَضَرَبَهُ
بِالسّيْفِ عَلَى كَاهِلِهِ فَقَطَعَ يَدَهُ [ ص 227 ] وَكَتِفَهُ حَتّى انْتَهَى
إلَى مُؤْتَزَرِهِ حَتّى بَدَا سَحْرُهُ ثُمّ رَجَعَ وَهُوَ يَقُولُ أَنَا ابْنُ
سَاقِي الْحَجِيجَ ثُمّ حَمَلَهُ أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، فَرَمَاهُ
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ فَأَصَابَ حَنْجَرَتَهُ وَكَانَ دَارِعًا وَعَلَيْهِ
مِغْفَرٌ لَا رَفْرَفَ لَهُ فَكَانَتْ حَنْجَرَتُهُ بَادِيَةً فَأَدْلَعَ
لِسَانَهُ إدْلَاعَ الْكَلْبِ . وَيُقَالُ إنّ أَبَا سَعْدٍ لَمّا حَمَلَ
اللّوَاءَ قَامَ النّسَاءُ خَلْفَهُ يَقُلْنَ
ضَرْبًا بَنِي عَبْدِ الدّارْ
ضَرْبًا حُمَاةَ الْأَدْبَارْ
ضَرْبًا بِكُلّ بَتّارْ
فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ : فَأَضْرِبُهُ فَأَقْطَعُ يَدَهُ الْيُمْنَى .
فَأَخَذَ اللّوَاءَ بِالْيُسْرَى ، فَأَحْمِلُ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى
فَضَرَبْتهَا فَقَطَعْتهَا ، فَأَخَذَ اللّوَاءَ بِذِرَاعَيْهِ جَمِيعًا فَضَمّهُ
إلَى صَدْرِهِ ثُمّ حَنَى عَلَيْهِ ظَهْرَهُ . قَالَ سَعْدٌ فَأَدْخَلَ سِيَةَ
الْقَوْسِ بَيْنَ الدّرْعِ وَالْمِغْفَرِ فَأَقْلَعُ الْمِغْفَرَ فَأَرْمِي بِهِ
وَرَاءَ ظَهْرِهِ ثُمّ ضَرَبْته حَتّى قَتَلْته ، ثُمّ أَخَذْت أَسْلُبُهُ
دِرْعَهُ . فَنَهَضَ إلَيّ سُبَيْعُ بْنُ عَبْدِ عَوْفٍ وَنَفَرٌ مَعَهُ
فَمَنَعُونِي سَلَبَهُ . وَكَانَ سَلَبُهُ أَجْوَدَ سَلَبِ رَجُلٍ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ - دِرْعٌ فَضْفَاضَةٌ وَمِغْفَرٌ وَسَيْفٌ جَيّدٌ وَلَكِنْ حِيلَ بَيْنِي
وَبَيْنَهُ . وَهَذَا أَثْبَتُ الْقَوْلَيْنِ وَهَكَذَا اُجْتُمِعَ عَلَيْهِ أَنّ
سَعْدًا قَتَلَهُ .
(1/227)
ثُمّ حَمَلَهُ مُسَافِعُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، فَرَمَاهُ عَاصِمُ
بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ [ ص 228 ] وَقَالَ خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ
أَبِي الْأَقْلَحِ فَقَتَلَهُ فَحُمِلَ إلَى أُمّهِ سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ
الشّهِيدِ وَهِيَ مَعَ النّسَاءِ فَقَالَتْ مَنْ أَصَابَك ؟ قَالَ لَا أَدْرِي ،
سَمِعْته يَقُولُ خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ أَبِي الْأَقْلَحِ قَالَتْ سُلَافَةُ
أَقْلَحِيّ وَاَللّهِ أَيْ مِنْ رَهْطِي .
وَيُقَالُ قَالَ خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ كِسْرَةَ - كَانُوا يُقَالُ لَهُمْ فِي
الْجَاهِلِيّةِ بَنُو كِسَرِ الذّهَبِ . فَقَالَ لِأُمّهِ حِينَ سَأَلَتْهُ مَنْ
قَتَلَك ؟ قَالَ لَا أَدْرِي ، سَمِعْته يَقُولُ خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ كِسْرَةَ
قَالَتْ سُلَافَةُ إحْدَى وَاَللّهِ كِسْرَى تَقُولُ إنّهُ رَجُلٌ مِنّا .
فَيَوْمَئِذٍ نَذَرَتْ أَنْ تَشْرَبَ فِي قِحْفِ رَأْسِ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ
الْخَمْرَ وَجَعَلَتْ تَقُولُ لِمَنْ جَاءَ بِهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ .
(1/228)
ثُمّ حَمَلَهُ كِلَابُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ فَقَتَلَهُ الزّبَيْرُ
بْنُ الْعَوّامِ ، ثُمّ حَمَلَهُ الْجُلّاسُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ،
فَقَتَلَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ ، ثُمّ حَمَلَهُ أَرْطَاةُ بْنُ
شُرَحْبِيلَ فَقَتَلَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ ثُمّ حَمَلَهُ شُرَيْحُ بْنُ
قَارِظٍ فَلَسْنَا نَدْرِي مَنْ قَتَلَهُ ثُمّ حَمَلَهُ صُؤَابٌ غُلَامُهُمْ
فَاخْتُلِفَ فِي قَتْلِهِ فَقَائِلٌ قَالَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ ، وَقَائِلٌ
عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ وَقَائِلٌ قُزْمَانُ - وَكَانَ أَثْبَتَهُمْ عِنْدَنَا
قُزْمَانُ . قَالَ انْتَهَى إلَيْهِ قُزْمَانُ ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ فَقَطَعَ
يَدَهُ الْيُمْنَى ، فَاحْتَمَلَ اللّوَاءَ بِالْيُسْرَى ، ثُمّ قَطَعَ الْيُسْرَى
فَاحْتَضَنَ اللّوَاءَ بِذِرَاعَيْهِ وَعَضُدَيْهِ ثُمّ حَنَى عَلَيْهِ ظَهْرَهُ
وَقَالَ يَا بَنِي عَبْدِ الدّارِ هَلْ أُعْذِرْت ؟ فَحَمَلَ عَلَيْهِ قُزْمَانُ
فَقَتَلَهُ .
[ ص 229 ]
وَقَالُوا : مَا ظَفّرَ اللّهُ نَبِيّهُ فِي مَوْطِنٍ قَطّ مَا ظَفّرَهُ
وَأَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ ، حَتّى عَصَوْا الرّسُولَ وَتَنَازَعُوا فِي
الْأَمْرِ . لَقَدْ قُتِلَ أَصْحَابُ اللّوَاءِ وَانْكَشَفَ الْمُشْرِكُونَ
مُنْهَزِمِينَ لَا يَلْوُونَ وَنِسَاؤُهُمْ يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ بَعْدَ ضَرْبِ
الدّفَافِ وَالْفَرَحِ حَيْثُ الْتَقَيْنَا . [ قَالَ الْوَاقِدِيّ : وَقَدْ رَوَى
كَثِيرٌ مِنْ الصّحَابَةِ مِمّنْ شَهِدَ أُحُدًا ، قَالَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ]
وَاَللّهِ إنّي لَأَنْظُرُ إلَى هِنْدٍ وَصَوَاحِبِهَا مُنْهَزِمَاتٍ مَا دُونَ
أَخْذِهِنّ شَيْءٌ لِمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ . وَكُلّمَا أَتَى خَالِدٌ مِنْ قِبَلِ
مَيْسَرَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيَجُوزُ حَتّى يَأْتِيَ
مِنْ قِبَلِ السّفْحِ فَيَرُدّهُ الرّمَاةُ حَتّى فَعَلُوا ذَلِكَ مِرَارًا ،
وَلَكِنّ الْمُسْلِمِينَ أُتُوا مِنْ قِبَلِ الرّمَاةِ . إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْعَزَ إلَيْهِمْ فَقَالَ قُومُوا عَلَى مَصَافّكُمْ
هَذَا ، فَاحْمُوا ظُهُورَنَا ، فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا لَا
تَشْرَكُونَا ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلَا تَنْصُرُونَا . فَلَمّا
انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَتَبِعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ يَضَعُونَ السّلَاحَ
فِيهِمْ حَيْثُ شَاءُوا حَتّى أَجْهَضُوهُمْ عَنْ الْعَسْكَرِ وَوَقَعُوا
يَنْتَهِبُونَ الْعَسْكَرَ قَالَ بَعْضُ الرّمَاةِ لِبَعْضٍ لِمَ تُقِيمُونَ
هَاهُنَا فِي غَيْرِ شَيْءٍ ؟ قَدْ هَزَمَ اللّهُ الْعَدُوّ وَهَؤُلَاءِ
إخْوَانُكُمْ يَنْتَهِبُونَ عَسْكَرَهُمْ فَادْخُلُوا عَسْكَرَ الْمُشْرِكِينَ
فَاغْنَمُوا مَعَ إخْوَانِكُمْ . فَقَالَ بَعْضُ الرّمَاةِ لِبَعْضٍ أَلَمْ
تَعْلَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَكُمْ
احْمُوا ظُهُورَنَا فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ
فَلَا تَنْصُرُونَا ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا غَنِمْنَا فَلَا تَشْرَكُونَا ،
احْمُوا ظُهُورَنَا ؟ فَقَالَ الْآخَرُونَ لَمْ يُرِدْ رَسُولُ اللّهِ هَذَا ،
وَقَدْ أَذَلّ اللّهُ الْمُشْرِكِينَ وَهَزَمَهُمْ فَادْخُلُوا الْعَسْكَرَ
فَانْتَهِبُوا مَعَ إخْوَانِكُمْ . فَلَمّا اخْتَلَفُوا خَطَبَهُمْ أَمِيرُهُمْ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ جُبَيْرٍ - وَكَانَ [ ص 230 ] يَوْمَئِذٍ مُعْلِمًا بِثِيَابٍ
بِيضٍ - فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ أَمَرَ
بِطَاعَةِ اللّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَلّا
يُخَالَفَ لِرَسُولِ اللّهِ أَمْرٌ فَعَصَوْا وَانْطَلَقُوا ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ
الرّمَاةِ مَعَ أَمِيرِهِمْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُبَيْرٍ إلّا نُفَيْرٌ مَا
يَبْلُغُونَ الْعَشَرَةَ فِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ أَنَسِ بْنِ رَافِعٍ يَقُولُ يَا
قَوْمِ اُذْكُرُوا عَهْدَ نَبِيّكُمْ إلَيْكُمْ وَأَطِيعُوا أَمِيرَكُمْ . قَالَ
فَأَبَوْا وَذَهَبُوا إلَى عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ يَنْتَهِبُونَ وَخَلّوْا
الْجَبَلَ وَجَعَلُوا يَنْتَهِبُونَ وَانْتَقَضَتْ صُفُوفُ الْمُشْرِكِينَ
وَاسْتَدَارَتْ رِجَالُهُمْ وَحَالَتْ الرّيحُ وَكَانَتْ أَوّلَ النّهَارِ إلَى
أَنْ رَجَعُوا صَبّا ، فَصَارَتْ دَبُورًا حَيْثُ كَرّ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَا
الْمُسْلِمُونَ قَدْ شُغِلُوا بِالنّهْبِ وَالْغَنَائِمِ .
(1/230)
قَالَ نِسْطَاسٌ مَوْلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ ، وَكَانَ أَسْلَمَ فَحَسُنَ
إسْلَامُهُ كُنْت مَمْلُوكًا فَكُنْت فِيمَنْ خُلّفَ فِي الْعَسْكَرِ وَلَمْ
يُقَاتِلْ يَوْمَئِذٍ مَمْلُوكٌ إلّا وَحْشِيّ ، وَصُؤَابٌ غُلَامُ بَنِي عَبْدِ
الدّارِ . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، خَلّفُوا غِلْمَانَكُمْ
عَلَى مَتَاعِكُمْ يَكُونُونَ هُمْ الّذِينَ يَقُومُونَ عَلَى رِحَالِكُمْ .
فَجَمَعْنَا بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ وَعَقَلْنَا الْإِبِلَ وَانْطَلَقَ الْقَوْمُ
عَلَى تَعْبِيَتِهِمْ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَأَلْبَسْنَا الرّحَالَ
الْأَنْطَاعَ . وَدَنَا الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً
ثُمّ إذَا أَصْحَابُنَا مُنْهَزِمُونَ فَدَخَلَ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ عَسْكَرَنَا
وَنَحْنُ فِي [ ص 231 ] الرّحَالِ ، فَأَحْدَقُوا بِنَا ، فَكُنْت فِيمَنْ
أُسِرُوا . وَانْتَهَبُوا الْعَسْكَرَ أَقْبَحَ انْتِهَابٍ حَتّى إنّ رَجُلًا
مِنْهُمْ قَالَ أَيْنَ مَالُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ ؟ فَقُلْت : مَا حَمَلَ إلّا
نَفَقَةً هِيَ فِي الرّحْلِ . فَخَرَجَ يَسُوقُنِي حَتّى أَخْرَجْتهَا مِنْ
الْعَيْبَةِ خَمْسِينَ وَمِائَةَ مِثْقَالٍ . وَقَدْ وَلّى أَصْحَابُنَا
وَأَيِسْنَا مِنْهُمْ وَانْحَاشَ النّسَاءُ فَهُنّ فِي حُجَرِهِنّ سَلْمٌ لِمَنْ
أَرَادَهُنّ . وَصَارَ النّهْبُ فِي أَيْدِي الرّجَالِ فَإِنّا لَعَلَى مَا نَحْنُ
عَلَيْهِ مِنْ الِاسْتِسْلَامِ إلَى أَنْ نَظَرْت إلَى الْجَبَلِ فَإِذَا
الْخَيْلُ مُقْبِلَةٌ فَدَخَلُوا الْعَسْكَرَ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرُدّهُمْ
قَدْ ضُيّعَتْ الثّغُورُ الّتِي كَانَ بِهَا الرّمَاةُ وَجَاءُوا إلَى النّهْبِ
وَالرّمَاةُ يَنْتَهِبُونَ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَيْهِمْ مُتَأَبّطِي قِسِيّهِمْ
وَجِعَابِهِمْ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي يَدَيْهِ أَوْ حِضْنِهِ شَيْءٌ قَدْ
أَخَذَهُ فَلَمّا دَخَلَتْ خَيْلُنَا دَخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ غَارّينَ آمِنِينَ
فَوَضَعُوا فِيهِمْ السّيُوفَ فَقَتَلُوا فِيهِمْ قَتْلًا ذَرِيعًا . وَتَفَرّقَ
الْمُسْلِمُونَ فِي كُلّ وَجْهٍ وَتَرَكُوا مَا انْتَهَبُوا وَأَجْلَوْا عَنْ
عَسْكَرِنَا ، فَرَجَعْنَا مَتَاعَنَا بَعْدُ فَمَا فَقَدْنَا مِنْهُ شَيْئًا ،
وَخَلّوْا أَسْرَانَا ، وَوَجَدْنَا الذّهَبَ فِي الْمَعْرَكِ . وَلَقَدْ رَأَيْت
رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ضَمّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ إلَيْهِ ضَمّةً ظَنَنْت
أَنّهُ سَيَمُوتُ حَتّى أَدْرَكْته بِهِ رَمَقٌ فَوَجَأْته بِخَنْجَرٍ مَعِي
فَوَقَعَ فَسَأَلْت عَنْهُ بَعْدُ فَقِيلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ . ثُمّ
هَدَانِي اللّهُ عَزّ وَجَلّ بَعْدُ لِلْإِسْلَامِ .
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، عَنْ عُمَرَ
بْنِ الْحَكَمِ قَالَ مَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِينَ [ ص 232 ] أَغَارُوا عَلَى النّهْبِ فَأَخَذُوا
مَا أَخَذُوا مِنْ الذّهَبِ بَقِيَ مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ رَجَعَ بِهِ حَيْثُ
غَشِيَنَا الْمُشْرِكُونَ وَاخْتَلَطُوا إلّا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا عَاصِمُ بْنُ
ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ ، جَاءَ بِمِنْطَقَةٍ وَجَدَهَا فِي الْعَسْكَرِ
فِيهَا خَمْسُونَ دِينَارًا ، فَشَدّهَا عَلَى حِقْوَيْهِ مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ
وَجَاءَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ بِصُرّةٍ فِيهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِثْقَالًا ،
أَلْقَاهَا فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ وَالدّرْعُ فَوْقَهَا قَدْ
حَزَمَ وَسْطَهُ . فَأَتَيَا بِذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِأُحُدٍ ، فَلَمْ يُخَمّسْهُ وَنَفّلَهُمَا إيّاهُ .
قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ : فَلَمّا انْصَرَفَ الرّمَاةُ وَبَقِيَ مَنْ بَقِيَ
نَظَرَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى خَلَاءِ الْجَبَلِ وَقِلّةِ أَهْلِهِ فَكَرّ
بِالْخَيْلِ وَتَبِعَهُ عِكْرِمَةُ فِي الْخَيْلِ فَانْطَلَقَا إلَى بَعْضِ
الرّمَاةِ فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ . فَرَامُوا الْقَوْمَ حَتّى أُصِيبُوا ،
وَرَامَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ جُبَيْرٍ حَتّى فَنِيَتْ نَبْلُهُ ثُمّ طَاعَنَ
بِالرّمْحِ حَتّى انْكَسَرَ ثُمّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ فَقَاتَلَهُمْ حَتّى
قُتِلَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . وَأَقْبَلَ جُعَالُ بْنُ سُرَاقَةَ وَأَبُو
بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَكَانَا قَدْ حَضَرَا قَتْلَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُبَيْرٍ
، وَهُمَا آخِرُ مَنْ انْصَرَفَ مِنْ الْجَبَلِ حَتّى لَحِقَا الْقَوْمَ وَإِنّ
الْمُشْرِكِينَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ فَانْتَقَضَتْ صُفُوفُنَا . وَنَادَى
إبْلِيسُ وَتَصَوّرَ فِي صُورَةِ جُعَالِ بْنِ سُرَاقَةَ إنّ مُحَمّدًا قَدْ
قُتِلَ ثَلَاثَ صَرَخَاتٍ . فَابْتُلِيَ يَوْمَئِذٍ جُعَالُ بْنُ سُرَاقَةَ
بِبَلِيّةٍ عَظِيمَةٍ حِينَ تَصَوّرَ إبْلِيسُ فِي صُورَتِهِ وَإِنّ جُعَالَ
لَيُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَشَدّ الْقِتَالِ وَإِنّهُ إلَى جَنْبِ أَبِي
بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ وَخَوّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ ، فَوَاَللّهِ مَا رَأَيْنَا
دُولَةً كَانَتْ أَسْرَعَ مِنْ دُولَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْنَا . وَأَقْبَلَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَى جُعَالِ بْنِ سُرَاقَةَ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ يَقُولُونَ
هَذَا الّذِي صَاحَ « إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ » . فَشَهِدَ لَهُ خَوّاتُ بْنُ
جُبَيْرٍ وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ أَنّهُ كَانَ إلَى جَنْبِهِمَا حِينَ
صَاحَ الصّائِحُ وَأَنّ الصّائِحَ غَيْرُهُ . قَالَ رَافِعٌ وَشَهِدْت لَهُ بَعْدُ
.
[ ص 233 ] يَقُولُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ : فَكُنّا أُتِينَا مِنْ قِبَلِ
أَنْفُسِنَا وَمَعْصِيَةِ نَبِيّنَا ، وَاخْتَلَطَ الْمُسْلِمُونَ وَصَارُوا
يُقْتَلُونَ وَيَضْرِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، مَا يَشْعُرُونَ بِهِ مِنْ
الْعَجَلَةِ وَالدّهَشِ وَلَقَدْ جُرِحَ يَوْمَئِذٍ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ
جُرْحَيْنِ ضَرَبَهُ أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ وَمَا يَدْرِي ، يَقُولُ خُذْهَا
وَأَنَا الْغُلَامُ الْأَنْصَارِيّ قَالَ وَكَرّ أَبُو زَعْنَةَ فِي حَوْمَةِ
الْقِتَالِ فَضَرَبَ أَبَا بُرْدَةَ ضَرْبَتَيْنِ مَا يَشْعُرُ إنّهُ لَيَقُولُ
خُذْهَا وَأَنَا أَبُو زَعْنَةَ حَتّى عَرَفَهُ بَعْدُ . فَكَانَ إذَا لَقِيَهُ
قَالَ اُنْظُرْ إلَى مَا صَنَعْت بِي . فَيَقُولُ لَهُ أَبُو زَعْنَةَ أَنْتَ
ضَرَبْت أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَلَا تَشْعُرُ وَلَكِنّ هَذَا الْجُرْحَ فِي
سَبِيلِ اللّهِ . فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَا
أَبَا بُرْدَةَ لَك أَجْرُهُ حَتّى كَأَنّهُ ضَرَبَك أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
وَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ .
(1/233)
وَكَانَ الْيَمَانُ حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ وَرِفَاعَةُ بْنُ وَقْشٍ شَيْخَيْنِ
كَبِيرَيْنِ قَدْ رُفِعَا فِي الْآطَامِ مَعَ النّسَاءِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا
لِصَاحِبِهِ لَا أَبَا لَك ، مَا نَسْتَبْقِي مِنْ أَنْفُسِنَا ، فَوَاَللّهِ مَا
نَحْنُ إلّا هَامَةً الْيَوْمَ أَوْ غَدًا ، فَمَا بَقِيَ مِنْ أَجَلِنَا قَدْرُ
ظِمْءِ دَابّةٍ . فَلَوْ أَخَذْنَا أَسْيَافَنَا فَلَحِقْنَا بِرَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَعَلّ اللّهَ يَرْزُقُنَا الشّهَادَةَ . قَالَ
فَلَحِقَا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأُحُدٍ مِنْ
النّهَارِ . فَأَمّا رِفَاعَةُ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَمّا حُسَيْلُ بْنُ
جَابِرٍ فَالْتَقَتْ عَلَيْهِ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ
حِينَ اخْتَلَطُوا ; وَحُذَيْفَةُ يَقُولُ أَبِي أَبِي حَتّى قُتِلَ . فَقَالَ
حُذَيْفَةُ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ ، مَا صَنَعْتُمْ
فَزَادَتْهُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرًا ،
وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِدِيَتِهِ أَنْ تُخْرَجَ
وَيُقَالُ إنّ الّذِي أَصَابَهُ عُتْبَةُ بْنُ [ ص 234 ] مَسْعُودٍ فَتَصَدّقَ
حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ بِدَمِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .