وقد رد ابن القيم في كتابه "زاد المعاد" على من زعم أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر بستة أشهر
بقوله: "وزعم محمد بن شهاب الزهري أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر بستة
أشهر، وهذا وَهْم منه، أو غلط عليه، بل الذي لا شك فيه: أنها بعد أحُدٍ،
والذي كانت بعد بدر بستة أشهر، هي غزوة بني قينقاع، وقريظة بعد الخندق،
وخيبر بعد الحديبية". وقال ابن العربي: "والصحيح
أنها بعد أُحُد"، وإلى هذا الرأي ذهب ابن كثير وغيره.
- أما يهود بني النضير فمن
المعلوم من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعد هجرته للمدينة المنورة
وادع اليهود فيها، وعاهدهم بميثاق بين فيه ما لهم من الحقوق وما عليهم من
الواجبات، وكان من بين بنود ذلك الميثاق: أن للمسلمين دينهم، ولليهود
دينهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح
والنصيحة والبر دون الإثم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا
محاربين. وقد التزم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهذا العهد والميثاق،
لأن من دينهم وشيمتهم الوفاء والأمانة، ولكن اليهود ـ كعادتهم ـ نقضوا
العهد قبيلة قبيلة، ومن ذلك ما حدث مع يهود بني النضير، والذي كان من أهميته
أن تحدث عنه القرآن الكريم في سورة كاملة، وهي سورة الحشر، حتى سمَّى عبد
الله بن عباس رضي الله عنه سورة الحشر بسورة بني النضير، فعن سعيد بن جبير
رضي الله عنه قال: قلت لابن عباس رضي الله عنه: (سورة الحشر، قال: قل سورة
بني النضير) رواه البخاري. وقال ابن كثير في تفسيره لسورة الحشر: "كان
ابن عباس يقول: سورة بني النضير".
وقد
بينت سورة الحشر أحداث هذه الغزوة، وفصّلت القول فيها، ووصف الله فيها طرد
اليهود، وفضح مسلك المنافقين، وبين أحكام الفَيء، وأثنى على المهاجرين
والأنصار، وبين جواز القطع والحرق في أرض العدو للمصالح الحربية، وأن ذلك
ليس من الفساد في الأرض، وأوصي المؤمنين بالتزام التقوى والاستعداد للآخرة،
ثم ختمها بالثناء على نفسه وبيان أسمائه وصفاته، وهكذا كان المجتمع المسلم
يتربى على التوحيد، وتعظيم منهج الله، والاستعداد ليوم القيامة من خلال
القرآن الكريم وأحداث السيرة النبوية المشرفة، وقد قال الله تعالى في بداية
سورة الحشر: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا
ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ
مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ
فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ
وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}
(الحشر:1-2).
تاريخ
غزوة بني النضير
يرى
المحققون من المؤرخين أن غزوة بني النضير كانت بعد غزوة أُحُد في ربيع الأول
من السنة الرابعة من الهجرة، وقد رد ابن القيم في كتابه "زاد المعاد" على من زعم أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر بستة أشهر
بقوله: "وزعم محمد بن شهاب الزهري أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر بستة
أشهر، وهذا وَهْم منه، أو غلط عليه، بل الذي لا شك فيه: أنها بعد أحُدٍ،
والذي كانت بعد بدر بستة أشهر، هي غزوة بني قينقاع، وقريظة بعد الخندق،
وخيبر بعد الحديبية". وقال ابن العربي: "والصحيح
أنها بعد أُحُد"، وإلى هذا الرأي ذهب ابن كثير وغيره.
سبب
إجلاء يهود بني النضير عن المدينة المنورة
المشهور
في كتب السيرة النبوية أن سبب إجلاء يهود بني النضير هو تآمرهم على قتل
النبي صلى الله عليه وسلم لمّا جاءهم يستعينهم في دية القتيلين من بني
عامر، اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، فقالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك
على ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل
حاله هذه -ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد-،
فَمَنْ رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك
عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، فأتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم.."، لكن
الحديث مرسل، وأورده الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة".
وقد
جاء سبب إجلائهم بسند صحيح متصل، كما قال الحافظ ابن حجر: "وروى ابن
مردويه قصة بني النضير بإسناد صحيح إلى مَعْمر عن الزهري قال: أخبرني عبد
الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم قال: كتب كفار قريش إلى عبد الله بن أُبيّ وغيره ممن يعبد الأوثان قبل
بدر يهددونهم بإيوائهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويتوعدونهم أن
يغزوهم بجميع العرب، فهمّ ابن أُبيّ ومن معه بقتال المسلمين، فأتاهم النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: ما كادكم أحد بمثل ما كادتكم
قريش، يريدون أن تلقوا بأسكم بينكم، فلما سمعوا ذلك عرفوا الحق فتفرقوا،
فلما كانت وقعة بدر كتب كفار قريش بعدها إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة
(السلاح) والحصون، يتهددونهم، فأجمع بنو النضير على الغدر، فأرسلوا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم: اُخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك ويلقاك ثلاثة من
علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك، ففعل، فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر،
فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخٍ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمر بني
النضير، فأخبر أخوها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليهم، فرجع،
وصبّحهم بالكتائب فحصرهم يومه، ثم عدا على بني قريظة فحاصرهم فعاهدوه،
فانصرف عنهم إلى بني النضير، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما
حملت الإبل إلا السلاح، فاحتملوا حتى أبواب بيوتهم، فكانوا يخربون بيوتهم
بأيديهم فيهدمونها، ويحملون ما يوافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر
الناس إلى الشام".. قال ابن حجر: "فهذا أقوى مما ذكر ابن إسحاق
من أنّ سبب غزوة بني النضير طلبه صلى الله عليه وسلم أن يعينوه في دية
الرجلين، لكن وافق ابن إسحاق جُلّ أهل المغازي، فالله أعلم".
ثم
إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلى يهود بني
النضير، يخبرهم بأن يخرجوا من المدينة ولا يساكنوا المسلمين فيها بسبب
غدرهم، فتأهبوا للخروج، ولكن المنافقين تدخلوا، وأخبروهم أنهم معهم ضد
المسلمين، وأرسل إليهم عبد الله بن أبي بن سلول من يقول لهم: "اثبتوا
وتمنعوا، وإن قوتلتم قاتلنا معكم". فاستقر رأيهم على المناورة، وطمع
رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك .. وفي ذلك يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ
فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ
يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (الحشر:11). فحاصرهم النبي صلى الله عليه
وسلم فسارعوا إلى حصونهم، واحتموا بها، وأخذوا يرمون المسلمين بالنبل
والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم في ذلك، فأمر النبي صلى الله
عليه وسلم بقطع بعضها وتحريقها، فنزل قول الله تعالى مُصَوِّباً ما فعله
النبي صلى الله عليه سلم: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ
وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} (الحشر:5).
لم
يطل حصار المسلمين ليهود بني النضير وهم في حصونهم طويلاً، فقد دام ست ليال
فقط، وقيل: خمس عشرة ليلة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على الجلاء
(الخروج)، ووافق النبي صلى الله عليه وسلم على أن يخرجوا منها بنفوسهم
وذراريهم، وأنّ لهم ما حملت الإبل إلا السلاح، ووافقوا على ذلك.. ولحقدهم
قاموا بتخريب بيوتهم بأيديهم، ليحملوا معهم الأبواب والشبابيك والجذوع حتى
لا يأخذها المسلمون، ثم حملوا النساء والصبيان على ستمائة بعير، وأسلم منهم
رجلان فقط، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم
سلاحهم، واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم، وفي ذلك يقول الله تعالى:
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ
دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (الحشر: 2).
إن
دراسة السيرة النبوية تساعد على فهم القرآن الكريم وتذوق روحه ومقاصده،
وتبين أسباب نزول الكثير من الآيات القرآنية، كتلك الآيات التي تتكلم عن
الغزوات في سورة آل عمران، والتوبة، والأحزاب، والفتح، وسورة الحشرالتي
سمّاها عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "سورة بني النضير".
=========
غزوة
بني النضير
وهم
قوم من اليهود بالمدينة. وفي كلام بعضهم: بنو النضير هؤلاء حي من يهود
خيبر، أي وقريتهم كان يقال لها زهرة.
كانت
تلك الغزاة في ربيع الأول: أي من السنة الرابعة. وقيل كانت قبل وقعة أحد، قال:
وبه قال البخاري. قال ابن كثير: والصواب إيرادها بعد أحدكما كما ذكر ذلك
ابن إسحاق وغيره من أئمة المغازي انتهى.
أمر
النبي ﷺ الناس بالتهيؤ لحرب بني النضير
والسير إليهم
واختلف
في سبب ذلك؟ فمن جملة ما قيل: إنه ذهب إليهم ليسألهم كيف الدية فيهم؟ أي لأنه
كان بينهم وبين بني عامر قبيلة الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري
عند رجوعه من بئر معونة غيلة حلف وعقد.
وقيل
ذهب إليهم ليتسعين بهم في دية الرجلين المذكورين، أي وكان أخذ العهد على
اليهود أن يعاونوه في الديات.
وقيل
لأخذ دية الرجلين منهم، لأن بني النضير كانوا حلفاء لقوم الرجلين المذكورين
وهم بنو عامر، كذا في الأصل فليتأمل. فإن فيه أخذ الدية من حلفاء المقتول
وسار إليهم في نفر من أصحابه: أي دون العشرة، فيهم أبو بكر وعمر وعلي ، فقالوا
له: نعم يا أبا القاسم حتى تطعم وترجع بحاجتك، وكان جالسا إلى جنب جدار من
بيوتهم، فخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل هذه الحالة،
فمن رجل يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال أحد ساداتهم:
أنا لذلك أي وهو عمرو بن جحاش، وقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا والله
ليخبرن بما هممتم به، إنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه، فلما صعد ذلك الرجل
ليلقي الصخرة أتى رسول الله ﷺ الخبر من السماء بما أراد
القوم، فقام رسول الله ﷺ: أي مظهرا أنه يقضي حاجته، وترك
أصحابه في مجالسهم ورجع مسرعا إلى المدينة ولم يعلم من كان معه من أصحابه،
فقاموا في طلبه في مجالسهم ورجع مسرعا إلى المدينة ولم يعلم من كان معه من
أصحابه، فقاموا في طلبه لما استبطؤوه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه،
فقالوا: رأيته داخل المدينة، فأقبل أصحابه حتى انتهوا إليه، فأخبرهم رسول
الله ﷺ بما أرادت بنو النضير. وقد أشار
إلى ذلك الإمام السبكي في تائيته بقوله:
وجاء
وحي بالذي أضمرت بنو النـ ** ـنضير وقد هموا بإلقاء صخرة
أي
وفي رواية لما رأوا قلة أصحابه قالوا نقتله ونأخذ أصحابه أسارى إلى مكة،
فنبيعهم من قريش. أي ولا مانع من وجود الأمرين.
وقيل
السبب في خروجه إليهم أنهم أرسلوا إليه أن أخرج إلينا في ثلاثين من أصحابك،
وليخرج منا ثلاثون حبرا فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فلما غدا عليهم في
ثلاثين من أصحابه قال بعضهم لبعض: كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون كل يحب أن
يموت قبله، فأرسلوه إليه أن أخرج في ثلاثة من أصحابك ويلقاك ثلاثة من
علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك ففعل، واشتملت اليهود الثلاثة على الخناجر
فأرسلت امرأة من بني النضير لأخ لها مسلم تعلمه بذلك، فأعلم أخوها النبي ﷺ بذلك فرجع، ولا مانع من وجود
ذلك مع ما تقدم، لكن في السيرة الهشامية أن خبر ذلك بلغه قبل وصوله إليهم فرجع،
فبينما بنو النضير على ذلك: أي على إرادة إلقاء الحجر والتهيؤ لإلقائه، إذ
جاء جاءٍ من اليهود من المدينة فقال لهم: ما تريدون؟ فذكروا له الأمر، فقال
لهم: أي محمد؟ قالوا: هذا محمد، فقال لهم: والله لقد
تركت محمدا داخل المدينة، فأسقط في أيديهم وقالوا: قد أخبر بأمرنا، فأرسل
إليهم محمد بن مسلمة أن أخرجوا من بلدي يعني المدينة لأن قريتهم من
أعمالها، فلا تساكنوني بها، فقد هممتم بما هممتم به من الغدر. أي وأخبرهم
بما هموا به من ظهور عمرو بن جحاش على ظهر البيت ليطرح الصخرة، فسكتوا ولم
يقولوا حرفا، قال: ويقول لكم: قد أجلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه،
واقتصاره على ذلك لا ينافي ما تقدم من إرادة قتله أيضا، قيل وأنزل الله
تعالى {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا
إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم} ولا ينافي ذلك ما تقدم من نزولها في حق
دعثور في غزوة ذي أمرّ، لجواز تكرار النزول، فأرسلوا في إحضار الإبل، فأرسل
إليهم المنافقون أن لا تخرجوا من دياركم ونحن معكم: إن قوتلتم فلكم علينا
النصر، وإن أخرجتم لن نتخلف عنكم، خصوصا عبدالله بن أبي ابن سلول لعنه
الله، فإنه أرسل لهم: لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في
حصونكم، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون حصونكم ويموتون عن
آخرهم قبل أن يوصل إليكم، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فطمع بنو النضير
فيما قال ابن أبي، فأرسلوا لرسول الله ﷺ: إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع
ما بدا لك، فأظهر رسول الله ﷺ التكبير وكبر المسلمون لتكبيره
وقال: حاربت يهود. قال: والمتولي أمر ذلك سيد بني النضير حيي بن أخطب
والدصفية أم المؤمنين ، وقد نهاه أحد سادات بني النضير وهو سلام بن مشكم
وقال له: منتك نفسك والله يا حيي الباطل، فإن قول ابن أبي ليس بشيء، وإنما
يريد أن يورطك في الهلكة حتى تحارب محمدا فيجلس في بيته ويتركك؛ ألا ترى أن
أرسل إلى كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة أن تمدكم بنو قريظة، فقال له: لا
ينقض رجل واحد منا العهد فأيس من بني قريظة. وأيضا قد وعد حلفاءه من بني
قينقاع مثل ما وعدك حتى حاربوا ونقضوا العهد وحصروا أنفسهم في صياصيهم أي
حصونهم، وانتظروا ابن أبي فجلس في بيته وسار إليهم محمد حتى نزلوا على
حكمه. فإذا كان ابن أبي لا ينصر حلفاءه ومن كان يمنعه من الناس ونحن لم نزل
نضربه بسيوفنا مع الأوس في حروهم. أي فإنه إذا كان بين الأوس والخزرج حرب
خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت بنو النضير وقريظة مع الأوس، فكيف يقبل
قوله، فقال حيي: نأبى إلا عداوة محمد وإلا قتاله. قال سلام: فهو والله
جلاؤنا من أرضنا، وذهاب أموالنا وشرفنا، وسبي ذرارينا مع قتل مقاتلينا،
فأبى حيي إلا محاربة رسول الله. وقالت له بنو النضير: أمرنا لأمرك تبع لن
نخالفك، فأرسل إلى رسول الله ﷺ بما ذكر ا هـ، فتهيأ الناس
لحربهم. فلما اجتمع الناس خرج رسول الله ﷺ بهم، واستعمل على المدينة ابن
أم مكتوم، وحمل رياته علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وسار بالناس حتى نزل
وصلى بهم العصر بفنائهم، وقد تحصنوا وقاموا على حصنهم يرمون بالنبل
والحجارة.
أي
وفي كلام بعضهم أنه أمر أصحابه بالمسير إلى بني النضير فسار بهم
إليهم، فوجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف أي الآتي قتله في السرايا، قالوا:
يا محمد داعية إثر داعية وباكية إثر باكية، ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك،
فقال لهم: اخرجوا من المدينة، قالوا: الموت أهون من ذلك ثم تبادروا بالحرب،
هذا كلامه.
قال:
ولما جاء وقت العشاء رجع رسول الله ﷺ إلى بيته في عشرة من أصحابه
عليه الدرع وهو على فرس، واستعمل على العسكر علي بن أبي طالب ويقال أبا بكر
وبات المسلمون يحاصرونهم ويكبرون حتى أصبحوا ثم أذن بلال بالفجر، فغدا رسول
الله ﷺ في أصحابه الذين كانوا معه فصلى
بالناس، وأمر بلالا فضرب القبة، وهي قبة من خشب عليها مسوح، فدخل فيها،
وكان رجل من يهود يقال له غزول، وكان أعسر راميا يبلغ نبله ما لا يبلغه نبل
غيره، فوصل نبله تلك القبة، فأمر بها فحولت. وفي ليلة من الليالي فقد علي قرب
العشاء، فقال الناس: يا رسول الله ما نرى عليا، فقال: دعوه أي اتركوه، فإنه
في بعض شأنكم، فعن قليل جاء برأس الرجل الذي يقال له غزول الذي وصل نبله
قبته، كمن لي عليّ حين خرج يطلب غرة من المسلمين ومعه جماعة، فشد عليه فقتله
وفرّ من كان معه، فأرسل رسول الله ﷺ مع عليّ أبا دجانة وسهل بن حنيف
في عشرة، فأدركوا أولئك الجماعة الذين كانوا مع غزول وفروا من عليّ فقتلوهم
انتهى.
وذكر
بعضهم أن أولئك الجماعة كانوا عشرة، وأنم أتوا برؤوسهم فطرحت في بعض
الآبار. وفي هذا ردّ على بعض الرافضة حيث ادعى أن عليا هو القاتل لأولئك
العشرة، وأمر رسول الله ﷺ بقطع النخل، أي ويحرقها بعد أن
حاصرهم ست ليال وقيل خمسة عشر يوما: أي وقيل عشرين ليلة، وقيل ثلاثا وعشرين
ليلة، وقيل خمسا وعشرين ليلة. وكان سعد بن عبادة في تلك المدة يحمل التمر
للمسلمين: أي يجاء به من عنده. قال: واستعمل رسول الله ﷺ على قطع النخل أبا ليلى المازني
وعبدالله بن سلام. وكان أبو ليلى يقطع العجوة وعبدالله يقطع اللين ويقال له
اللون، وهو ما عدا العجوة، والبرني من أنواع التمر بالمدينة، ومن أنواع تمر
المدينة الصيحاني.
وجاء
عن علي كرم الله تعالى وجهه. قال: خرجت مع رسول الله ﷺ فصاحت نخلة بأخرى: هذا النبي المصطفى وعلي المرتضى، فقال يا علي إنما سمي
نخل المدينة أي هذا النوع صيحانيا، لأنه صاح بفضلي، وهو حديث مطعون فيه،
قيل إنه كذب. والبرن بالفارسية: حمل مبارك أو جيد.
وفي
شرح مسلم للنووي أنها مائة وعشرون نوعا. أي وفي تاريخ المدينة الكبير للسيد
السمهودي أن أنواع التمر بالمدينة التي أمكن جمعها بلغت مائة وبضعا وثلاثين
نوعا، ويوافقه قول بعضهم اختبرناها فوجدناها أكثر مما ذكره النووي. قال:
ولعل ما زاد على ما ذكره حدث بعد ذلك.
أي
وأما أنواع التمر بغير المدينة كالمغب فلا تكاد تنحصر. فقد نقل أن عالم فاس محمد بن غازي أرسل إلى عالم
سلجماسة إبراهيم بن هلال يسأله عن حصر أنواع التمر بتلك البلدة، فأرسل إليه
حملا أو حملين من كل نوع تمرة واحدة، وكتب إليه هذا ما تعلق به علم الفقير
{وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}.
ثم
رأيت في نشق الأزهار أن بهذه البلدة رطبا يسمى البتوني، وهو أخضر اللون،
وأحلى من عسل النحل، ونواه في غاية الصغر، وكانت العجوا خير أموال بني
النضير، أي لأنهم كانوا يقتاتونها.
وفي
الحديث «العجوة من الجنة، وثمرها يغذي أحسن غذاء»أي وتقدم أن آدم نزل
بالعجوة من الجنة.
وفي
البخاري «من تصبح كل يوم على سبع تمرات عجوة لم يصبه في ذلك اليوم سم ولا سحر»
أي وقد جاء في عجوة العالية شفاء وأنها ترياق أول البكرة من تصبح بسبع تمرات
عجوة لم يضره في ذلك اليوم سمّ ولا سحر».
أي
وفي كلام بعضهم: العجوة ضرب من التمر أكبر من
الصيحاني تضرب إلى السواد وهو مما غرسه النبي ﷺ بيده الشريفة بالمدينة. أي وقد
علمت أنها في نخل بني النضير.
وفي
العرائس عن ابن عباس «هبط آدم من الجنة بثلاثة أشياء:
بالآسة، وهي سيدة ريحان الدنيا. والسنبلة، وهي سيدة طعام الدنيا. والعجوة،
وهي سيدة ثمار الدنيا».
وروي
عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «إن العجوة من غرس الجنة
وفيها شفاء، وإنها ترياق أول البكرة، وعليكم بالتمر البرني فكلوه فإنه يسبح
في شجره، ويستغفر لآكله» هذا كلام العرائس.
وفي
حديث وفد عبد القيس «أن رسول الله ﷺ قال لهم ذلك، وذكر البرني أنه
من خير تمركم، وأنه دواء وليس بداء» وجاء «بيت لا تمر فيه جياع أهله» قال
ذلك مرتين.
ولما
قطعت العجوة شق النساء الجيوب، وضربن الخدود، ودعون بالويل، أي وذلك البعض الذي
حرق كان بمحل يعرف بالبويرة ا هـ أي والبويرة تصغير بورة. وهي هنا الحفرة،
ويقال لها البولة باللام بدل الراء وعند ذلك نادوه أي يا محمد. وفي رواية:
يا أبا القاسم. قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع
النخل وتحريقها؟ أي وفي رواية: ما هذا الفساد؟ وفي لفظ قالوا: يا محمد زعمت
أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك
الفساد في الأرض؟ وقالوا للمؤمنين: إنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون.
وحينئذ وقع في نفوس بعض المسلمين من ذلك شيء، فأنزل الله تعالى {ما قطعتم
من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} أي في قولهم إن ذلك من الفساد.
قال
بعضهم: جميع ما قطعوا وحرقوا ست نخلات، ولا زال عبدالله بن أبي ابن سلول
يبعث لبني النضير أن اثبتوا وتمنعوا، فإنكم إن قوتلتم قاتلنا معكم وإن
أخرجتم خرجنا معكم، أي ومعه على ذلك جمع من قومه، فانتظروا ذلك، فخذلهم ولم
يحصل لهم منه شيء، أي وجعل سلام بن مشكم وكنانة بن صوريا يقولان لحيي أين
نصر بن أبيّ الذي زعمت؟ فيقول حيي: ما أصنع، هي ملحمة كتبت علينا، ولزم
رسول الله ﷺ حصارهم، وقذف الله في قلوبهم
الرعب، فسألوا رسول الله ﷺ أن يجليهم ويكف عن دمائهم على
أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة: أي آلة الحرب ففعل، فاحتملوا
النساء والصبيان، وحملوا من أموالهم غير الحلقة ما استقلت به الإبل وكانت
ستمائة بعير، فكان الرجل يهدم بيته عما استحسن من خشبه كبابه وكنجاف به أي
أسكفته فيضعه على ظهره بغيره فينطلق به.
أي
وفي لفظ: صاروا ينقضون العمد والسقوف، وينزعون الخشب حتى الأوتاد، وينقضون
الجدران حتى لا يسكنها المسلمون حسدا وبغضا.
وفي
رواية: جعل المسلمون يهدمون ما يليهم من حصنهم، ويهدم الآخرون ما يليهم. قال: وفي رواية أنهم خرجوا مظهرين التجلد: خرجت النساء
على الهوادج وعليهن الديباج والحرير وقطف الخز الأخضر والأحمر وحلي الذهب
والفضة، وخلفهم القيان بالدفوف والمزامير، ومنهم سلمى أم وهب.
وقال
ابن إسحاق أم عمرو صاحبة عروة بن الورد الذي قيل فيه: من قال إن حاتما أسمح
العرب فقد ظلم عروة بن الورد. أغار عروة على قومها فسباها ثم اتخذها حليلة
له فجاءت منه بأولاد.
ثم
إن بعض بني النضير اشتراها من عروة بعد أن سقاه الخمر، ثم لما أفاق ندم. ثم
اتفق هو ومن اشتراها على أن تكون عند من تختاره، فخيرها فاختارت من اشتراها.
وقيل
إن قومها جاؤوا إليه بفدائها، فخيرها وكان لا يظن أن تختار عليه أحدا،
فاختارت قومها فندم.
وعند
مفارقتها له قالت له: والله ما أعلم امرأة من العرب أرخت سترا على بعل مثلك،
أغض طرفا ولا أندى كفا، ولا أغنى غناء، وإنك لرفيع العماد، كثير الرماد،
خفيف على ظهور الخيل، ثقيل على متون الأعداء، وأحنى على الأهل والجار، وما
كنت لأوثر عليك أهلي لولا أني كنت أسمع بنات عمك يقلن: قالت أم عروة وفعلت
أم عروة فأجد من ذلك الموت، والله لا يجامع وجهي وجه أحد من أهلك فاستوص
ببنيك خيرا، ثم تزوجت في بني النضير، وشقوا سوق المدينة وصف لهم الناس،
فجعلوا يمرون قطارا في أثر قطار، وإن سلام بن أبي الحقيق رافع جلد جمل أي
أو ثور أو حمار مملوء حليا، وينادي بأعلى صوته: هذا أعددناه لرفع الأرض
وخفضها، وإن كنا تركنا نخلا ففي خيبر النخل، وحزن المنافقون لخروجهم أشد
الحزن انتهى.
وهذا
الحلي كانوا يعيرونه للعرب من أهل مكة وغيرهم، وكان يكون عند آل أبي الحقيق،
وسيأتي في غزوة خيبر أنه عبر عن هذا الحلي بالآنية والكنز وأنه كان سببا
لقتل ولدي أبي الحقيق لما كتماه عنه.
فمنهم
من سار إلى خبير، أي ومن جملة هؤلاء أكابرهم حيي بن أخطب، وسلام ابن أبي الحقيق،
وكنانة بن أبي الربيع بن أبي الحقيق. فلما نزلوا خيبر دان لهم أهلها.
ومنهم
من سار إلى الشام: أي إلى أذرعات. وكان فيهم جماعة من أبناء الأنصار، لأن
المرأة من الأنصار كان إذا لم يعش لها ولد تجعل على نفسها إن عاش لها ولد
تهوده، فلما أجليت بنو النضير قال آباء أولئك: لا ندع أبناءنا، وأنزل الله
تعالى {لا إكراه في الدين} وهي مخصوصة بهؤلاء الذين تهودوا قبل الإسلام،
وإلا فإكراه الكفار الحربيين على الإسلام سائغ، ولم يسلم من بني النضير إلا
رجلان: وهما يامين بن عمير، وأبو سعد ابن وهب. قال أحدهما لصاحبه: والله
إنك لتعلم أنه رسول الله ﷺ فما ننتظر أن نسلم فنأمن على
دمائنا وأموالنا، فنزلا من الليل وأسلما فأحرزا أموالهما. أي وجعل يامين
لرجل من قيس جعلا أي وهو عشرة دنانير، وقيل خمسة أوثق من تمر على قتل عمرو
بن جحاش الذي أراد أن يلقي الحجر على رسول الله، فقتله غيلة أي بعد أن قال
رسول الله ﷺ ليامين: ألم تر ما لقيت من ابن
عمك وما همّ به من شأني؟ فسر بذلك النبي، ونزل في أمر بني النضير سورة
الحشر، ولذلك كان يسميها ابن عباس سورة بني النضير كما في البخاري.
وفي
كلام السبكي :
لم
يختلفوا أن سورة الحشر نزلت في بني النضير. وقد أشار لقصتهم صاحب الهمزية
بقوله
خدعوا
بالمنافقين وهل ينـ ** ـفق إلا على السفيه الشقاء
ونهيتم
وما انتهت عنه قوم ** فأبيد الأمار والنهاء
أسلموهم
لأوّل الحشر لا ميـ ** ـعادهم صادق ولا الإيلاء
سكن
الرعب والخراب قلوبا ** وبيوتا منهم نعاها الجلاء
أي
وخدعهم قول المنافقين إنهم يكونون معهم وينصرونهم على النبي، وما يروج
الشقاء إلا على السفيه.
والمراد
بالمنافقين عبدالله بن بي ابن سلول ومن كان معه على النفاق، لأنه كما تقدم لا
زال يرسل لهم أن اثبتوا وتمنعوا، فإنكم إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم
خرجنا معكم. ونهاهم عن موافقته سلام بن مشكم، فلم ينتهوا أسلمهم أولئك
المنافقون لأول الحشر. وهو أي الحشر جلاؤهم وخروجهم من ديارهم، فميعادهم
لهم بأن ينصروهم على النبي، غير صادق وكذا حلفهم لهم على ذلك غير صادق أيضا.
ذكر
موسى بن عقبة أنهم كانوا من سبط لم يصبهم جلاء قبلها، فلذلك قال لأول
الحشر. والحشر: الجلاء.
وقيل
المراد بالحشر، فإنهم قالوا إلى أين نخرج يا محمد؟ قال: إلى الحشر، يعني أرض
المحشر. والحشر الثاني: هو حشر النار التي تخرج من قعر عدن، فتحشر الناس
إلى الموقف.
وقيل
الحشر الثاني لهم كان على يد سيدنا عمر ، أجلاهم من خيبر إلى تيمياء
وأريحاء، وسيأتي ذكره. وسكن الرعب: وهو خشية انتقامه منهم قلوبهم، وسكن
الخراب بيوتهم. وقد أخبر تلك البيوت بموت أهلها خروجهم وجلاؤهم من أرضهم،
وأنزل الله تعالى {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من
أهل الكتاب} وهم بنو النضير {لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم} أي في
خذلانكم {أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون: لئن
أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم} مثلهم {كمثل الشيطان إذ
قال للإنسان اكفر فلما كفر قال أني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين}
ووجد من الحلقة: أي آلة السلاح خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين
سيفا، ولم يخمس ذلك رسول الله ﷺ أي كما خمس أموال بني قينقاع.
قال: وقد قال له عمر : يا رسول الله ألا تخمس ما أصبت:
أي كما فعلت في بني قينقاع، فقال رسول الله ﷺ: لا أجعل شيئا جعله الله لي دون
المؤمنين بقوله تعالى {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} الآية كهيئة
ما وقع فيه السهمان أي فكان أموال بني النضير وعقارهم فيئا لرسول الله ﷺ خاصة، وتقدم التنبيه على ذلك في
غزوة بني قينقاع، وفسرت القرى بالصفراء ووادي القرى أي ثلث ذلك كما في
الإمتاع وينبع، وفسرت القرى ببني النضير وخيبر: أي بثلاث حصون منها. وهي
الكتيبة والوطيح وسلالم كما في الإمتاع، وفدك: أي نصفها كما في الإمتاع،
ذكره الرافعي في شرح مسند إمامنا الشافعي .
أقول: قال بعضهم: وهذا أول فيء حصل لرسول الله. ويرده ما تقدم
في غزوة بني قينقاع، إلا أن يقال: المراد أوّل فيء اختص به ولم يقسمه قسمة
الغنيمة على ما تقدم.
ثم
دعا الأنصار الأوس والخزرج فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله. ثم ذكر
الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، من إنزالهم في منازلهم، وإيثارهم على أنفسهم
بأموالهم. ثم قال لهم: إن إخوانكم المهاجرين ليس لهم أموال، فإن شئتم قسمت
هذه الأموال: أي التي أفاء الله عليّ وخصني بها مع أموالكم بينكم جميعا،
وإن شئتم أمسكتم أموالكم وقسمت هذه فيهم خاصة، فقالوا: بل اقسم هذه فيهم،
واقسم لهم من أموالنا ما شئت.
وفي
رواية: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله على من بني
النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم: أي
الأرض والنخل، لأنه لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة قدموا وليس
بأيديكم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار: أي النخل، فآثروهم بمتاع من
أشجارهم، فمنهم من قبلها منيحة محضة ويكفونه العمل، ومنهم من قبلها بشرط أن
يعمل في الشجر والأرض وله نصف الثمار، ولم تطب نفسه أن يقبلها منيحة محضة،
لشرف نفوسهم وكراهتهم أن يكونوا كلا وإن أحببتم أعطيتهم أي وخرجوا من
دوركم، أي وأموالكم، فتكلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ. فقالا: يا رسول الله
بل تقسم بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا، بل نحب أن تقسم ديارنا
وأموالنا على المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وعشائرهم وخرجوا حبا
لله ولرسوله، ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها، ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا
يا رسول الله. فقال رسول الله ﷺ: اللهم ارحم الأنصار وأبناء
الأنصار. زاد في رواية: وأبناء أبناء الأنصار. وقال أبو بكر جزاكم الله يا
معشر الأنصار خيرا، أي وأنزل الله تعالى فيهم {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان
بهم خصاصة} أي ولو كان بهم فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون به، فقسم رسول الله ﷺ ذلك بين المهاجرين. أي وفي كلام
بعضهم أنه لم يعم المهاجرين ولم يعط أحدا من الأنصار إلا رجلين كانا
محتاجين: أي وهما سهل بن حنيف وأبو دجانة ، وبعضهم ضم إليهما ثالثا وهو
الحارث بن الصمة ونظر فيه بعضهم بأنه قتل في بئر معونة.
وأعطى
سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق أحد سادات بني النضير وكان سيفا له ذكر عندهم،
وكان يزرع أرضهم التي تحت النخل، فيدّخر من ذلك قوت أهله سنة، وما فضل
يجعله في الكراع: أي الخيل والسلاح عدة في سبيل الله تعالى.
أقول: فيه تصريح بأنه لم يقسم الأرض، ويحتمل أن المراد بقوله
كان يزرع أرضهم التي تحت النخل: أي بعض أرضهم، ويدل له ما يأتي، ولم أقف
على كيفية زرعه للأرض من مزارعة أو غيرها.
وفي
الخصائص الكبرى عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: كان نخل بني النضير لرسول الله ﷺ خاصة، أعطاه الله تعالى إياه
وخصه بها، فأعطى أكثرها المهاجرين وقسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من
الأنصار.
وهذا
السياق يدل على أن مراده بنخل بني النضير أموالهم كما تقدم في الروايات، لا
خصوص النخل.
ثم
رأيت في عبارة بعضهم: وأكثر الروايات على أن أموال بني النضير: أي من مواشيهم
كالخيل ومزارعهم وعقارهم حق لرسول الله ﷺ خاصة له، خصه الله تعالى بها،
لم يخمسها ولم يسهم منها لأحد، وأعطى منها ما أراد ووهب العقار للناس. وأعطى أبا بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وصهيبا وأبا
سلمة بن عبد الأسد ضياعا معروفة من ضياع بني النضير.
ولعل
المراد بالضياع الأراضي، ويدل لذلك ما في البخاري «أقطع رسول الله ﷺ الزبير أرضا من أراضي بني
النضير» كما أن ذلك هو المراد بقول
الإمتاع وكانت بنو النضير من صفايا رسول الله ﷺ جعلها حبسا لنوائبه. وكان ينفق
على أهله منها وكانت صدقاته منها.
وقد
يقال: لا منافاة، لأنه يجوز أن يكون أعطى بعض أراض وأبقى بعضها يزرع له. ولما أعطى المهاجرين أمرهم بردّ ما كان للأنصار
لاستغنائهم عنهم ولأنهم لم يكونوا ملكوهم ذلك، وإنما كانوا دفعوا لهم تل
النخيل لينتفعوا بثمرها، وظنت أم أيمن أن ذلك ملك لها فامتنعت من رده، أي
لأن أم أنس كانت أعطته نخلات، فأعطاها رسول الله ﷺ أم أيمن ولم ينكر عليها ذلك
تطيبيا لقلبها لكونها حاضنته، وصار يعطيها وهي تمتنع من رده إلى أن أعطاها
عشرة أمثاله أو قريبا من ذلك.
وذكر
هذا في بني النضير يخالف ما في مسلم أن ذلك كان عند فتح خيبر، حيث ذكر أنه
لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار
منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارها، وذكر قصة أم أيمن، فليتأمل والله
أعلم.
|