الروض
الأنف
مُقَدّمَةُ الرّوْضِ الْأُنُفِ
[ ص 15 ] الْمُقَدّمِ عَلَى كُلّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ وَذِكْرُهُ - سُبْحَانَهُ -
حَرِيّ أَلّا يُفَارِقَ الْخَلَدَ وَالْبَالَ كَمَا بَدَأَنَا - جَلّ وَعَلَا -
بِجَمِيلِ عَوَارِفِهِ قَبْلَ الضّرَاعَةِ إلَيْهِ وَالِابْتِهَالِ فَلَهُ
الْحَمْدُ - تَعَالَى - حَمْدًا لَا يَزَالُ دَائِمَ الِاقْتِبَالِ . ضَافِيَ
السّرْبَالِ جَدِيدًا عَلَى مَرّ الْجَدِيدَيْنِ غَيْرَ بَالٍ . عَلَى أَنّ
حَمْدَهُ - سُبْحَانَهُ - وَشُكْرَهُ عَلَى نِعَمِهِ وَجَمِيلِ بَلَائِهِ مِنّةٌ
مِنْ مِنَنِهِ . وَآلَاءٌ مِنْ آلَائِهِ . فَسُبْحَانَ مَنْ لَا غَايَةَ لِجُودِهِ
وَنَعْمَائِهِ وَلَا حَدّ لِجَلَالِهِ وَلَا حَصْرَ لِأَسْمَائِهِ وَالْحَمْدُ
لِلّهِ الّذِي أَلْحَقَنَا بِعِصَابَةِ الْمُوَحّدِينَ وَوَفّقَنَا لِلِاعْتِصَامِ
بِعُرْوَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْمَتِينِ [ ص 16 ] وَخَلَقَنَا فِي إبّانِ
الْإِمَامَةِ الْمَوْعُودِ بِبَرَكَتِهَا عَلَى لِسَانِ الصّادِقِ الْأَمِينِ
إمَامَةِ سَيّدِنَا الْخَلِيفَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ابْنِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ ابْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ السّاطِعَةِ أَنْوَارُهَا فِي
جَمِيعِ الْآفَاقِ . الْمُطْفِئَةِ بِصَوْبِ سَحَائِبِهَا ، وَجَوْبِ كَتَائِبِهَا
جَمَرَاتِ الْكُفْرِ وَالنّفَاقِ
فِي دَوْلَةٍ لَحَظَ الزّمَانُ شُعَاعًا ... فَارْتَدّ مُنْتَكِصًا بِعَيْنَيْ
أَرْمَدِ
مَنْ كَانَ مَوْلِدُهُ تَقَدّمَ قَبْلَهَا ... أَوْ بَعْدَهَا ، فَكَأَنّهُ لَمْ
يُولَدْ
فَلَهُ الْحَمْدُ - تَعَالَى - عَلَى ذَلِكَ كُلّهِ حَمْدًا لَا يَزَالُ
يَتَجَدّدُ وَيَتَوَالَى ، وَهُوَ الْمَسْئُولُ - سُبْحَانَهُ - أَنْ يَخُصّ
بِأَشْرَفِ صَلَوَاتِهِ وَأَكْثَفِ بَرَكَاتِهِ الْمُجْتَبَى مِنْ خَلِيقَتِهِ
وَالْمَهْدِيّ بِطَرِيقَتِهِ الْمُؤَدّيَ إلَى اللّقَمِ الْأَفْيَحِ وَالْهَادِيَ
إلَى مَعَالِمِ دِينِ اللّهِ مَنْ أَفْلَحَ نَبِيّهُ مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - كَمَا قَدْ أَقَامَ بِهِ الْمِلّةَ الْعَوْجَاءَ ،
وَأَوْضَحَ بِهَدْيِهِ الطّرِيقَةَ الْبَلْجَاءَ وَفَتَحَ بِهِ آذَانًا صُمّا
وَعُيُونًا عُمْيًا ، وَقُلُوبًا غُلْفًا . فَصَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
صَلَاةً تُحِلّهُ أَعْلَى مَنَازِلِ الزّلْفَى .
الْغَايَةُ مِنْ تَأْلِيفِ الْكِتَابِ
( وَبَعْدُ ) فَإِنّي قَدْ انْتَحَيْت فِي هَذَا الْإِمْلَاءِ بَعْدَ اسْتِخَارَةِ
ذِي الطّوْلِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِمَنْ لَهُ الْقُدْرَةُ وَالْحَوْلُ . إلَى
إيضَاحِ مَا وَقَعَ فِي سِيرَةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- الّتِي سَبَقَ إلَى تَأْلِيفِهَا أَبُو بَكْرِ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ
الْمُطّلِبِيّ ، وَلَخَصّهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ الْمَعَافِرِيّ الْمِصْرِيّ
النّسّابَةُ النّحْوِيّ مِمّا بَلَغَنِي عِلْمُهُ وَيُسّرَ لِي فَهْمُهُ مِنْ
لَفْظٍ غَرِيبٍ أَوْ إعْرَابٍ غَامِضٍ أَوْ كَلَامٍ مُسْتَغْلِقٍ أَوْ نَسَبٍ
عَوِيصٍ أَوْ مَوْضِعِ فِقْهٍ يَنْبَغِي التّنْبِيهُ عَلَيْهِ أَوْ خَبَرٍ نَاقِصٍ
يُوجَدُ السّبِيلُ إلَى تَتِمّتِهِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِكُلُولِ الْحَدّ عَنْ
مَبْلَغِ ذَلِكَ [ ص 17 ] يُدَعّ الْجَحْشُ مَنْ بَذّهُ الْأَعْيَارُ وَمَنْ
سَافَرَتْ فِي الْعِلْمِ هِمّتُهُ فَلَا يُلْقِ عَصَا التّسْيَارِ وَقَدْ قَالَ
الْأَوّلُ
افْعَلْ الْخَيْرَ مَا اسْتَطَعْت ، وَإِنْ كَا ... نَ قَلِيلًا فَلَنْ تُحِيطَ
بِكُلّهْ
وَمَتَى تَبْلُغُ الْكَثِيرَ مِنْ الْفَضْلِ ... إذَا كُنْت تَارِكًا لِأَقَلّهْ ؟
نَسْأَلُ اللّه َ التّوْفِيقَ لِمَا يُرْضِيهِ وَشُكْرًا يَسْتَجْلِبُ الْمَزِيدَ
مِنْ فَضْلِهِ وَيَقْتَضِيهِ .
لِمَاذَا أَتْقَنَ التّأْلِيفَ
قَالَ الْمُؤَلّفُ أَبُو الْقَاسِمِ قُلْت هَذَا ؛ لِأَنّي كُنْت حِينَ شَرَعْت
فِي إمْلَاءِ هَذَا الْكِتَابِ خُيّلَ إلَيّ أَنّ الْمَرَامَ عَسِيرٌ فَجَعَلْت
أَخْطُو خَطْوَ الْحَسِيرِ . وَأَنْهَضُ نَهْضَ الْبَرْقِ الْكَسِيرِ وَقُلْت :
كَيْفَ أَرِدُ مَشْرَعًا لَمْ يَسْبِقْنِي إلَيْهِ فَارِطٌ . وَأَسْأَلُك سَبِيلًا
لَمْ تُوطَأْ قَبْلِي بِخُفّ وَلَا حَافِرٍ فَبَيْنَا أَنَا أَتَرَدّدُ تَرَدّدَ
الْحَائِرِ إذْ سَفَعَ لِي هُنَالِكَ خَاطِرٌ أَنّ هَذَا الْكِتَابَ سَيَرِدُ
الْحَضْرَةَ الْعَلِيّةَ الْمُقَدّسَةَ الْإِمَامِيّةَ . وَأَنّ الْإِمَامَةَ
سَتَلْحَظُهُ بِعَيْنِ الْقَبُولِ وَأَنّهُ سَيُكْتَتَبُ لِلْخِزَانَةِ
الْمُبَارَكَةِ - عَمّرَهَا اللّهُ - بِحِفْظِهِ وَكِلَاءَتِهِ وَأَمَدّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ بِتَأْيِيدِهِ وَرِعَايَتِهِ فَيَنْتَظِمُ الْكِتَابُ بِسَلْكِ
أَعْلَاقِهَا ، وَيَتّسِقُ مَعَ تِلْكَ الْأَنْوَارِ فِي مَطَالِعِ إشْرَافِهَا ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ امْتَطَيْت صَهْوَةَ الْجِدّ وَهَزَزْت نَبْعَةَ الْعَزْمِ .
وَمَرَيْت أَخْلَافَ الْحِفْظِ وَاجْتَهَرْتُ يَنَابِيعَ الْفِكْرِ وَعَصَرْت
بَلَالَةَ الطّبْعِ فَأَلْفَيْت - بِحَمْدِ اللّهِ - الْبَابَ فُتُحًا وَسَلَكْت
سُبُلَ رَبّي ذُلُلًا ، فَتَبَجّسَتْ لِي - بِمَنّ اللّهِ تَعَالَى - مِنْ
الْمَعَانِي الْغَرِيبَةِ عُيُونُهَا ، وَانْثَالَتْ عَلَيّ مِنْ الْفَوَائِدِ
اللّطِيفَةِ أَبْكَارُهَا وَعُونُهَا ، وَطَفِقَتْ عَقَائِلُ الْكَلِمِ
يَزْدَلِفْنَ إلَيّ بِأَيّتِهِنّ أَبْدَأُ فَأَعْرَضْت عَنْ بَعْضِهَا إيثَارًا
لِلْإِيجَازِ وَدَفَعْت فِي صُدُورِ أَكْثَرِهَا خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ
وَالْإِمْلَالِ لَكِنْ تَحَصّلَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ فَوَائِدِ الْعُلُومِ
وَالْآدَابِ وَأَسْمَاءِ الرّجَالِ [ ص 18 ] صَدْرِي ، وَنَفَحَهُ فِكْرِي .
وَنَتَجَهُ نَظَرِي ، وَلَقِنْته عَنْ مَشْيَخَتِي ، مِنْ نُكَتٍ عِلْمِيّةٍ لَمْ
أُسْبَقْ إلَيْهَا ، وَلَمْ أُزْحَمْ عَلَيْهَا ، كُلّ ذَلِكَ بِيُمْنِ اللّهِ
وَبَرَكَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْمُحْيِي لِخَوَاطِرِ الطّالِبِينَ وَالْمُوقِظِ
لِهِمَمِ الْمُسْتَرْشِدِينَ وَالْمُحَرّكِ لِلْقُلُوبِ الْغَافِلَةِ إلَى
الِاطّلَاعِ عَلَى مَعَالِمِ الدّينِ مَعَ أَنّي قَلّلْت الْفُضُولَ وَشَذّبْت
أَطْرَافَ الْفُصُولِ وَلَمْ أَتَتَبّعْ شُجُونَ الْأَحَادِيثِ وَلِلْحَدِيثِ شُجُونٌ
وَلَا جَمَحَتْ بِي خَيْلُ الْكَلَامِ إلَى غَايَةٍ لَمْ أُرِدْهَا ، وَقَدْ
عَنَتْ لِي مِنْهُ فُنُونٌ فَجَاءَ الْكِتَابُ مِنْ أَصْغَرِ الدّوَاوِينِ حَجْمًا
. وَلَكِنّهُ كُنَيْفٌ مَلِيءٌ عِلْمًا ، وَلَوْ أَلّفَهُ غَيْرِي لَقُلْت فِيهِ
أَكْثَرَ مِنْ قَوْلِي هَذَا . وَكَانَ بَدْءُ إمْلَائِي هَذَا الْكِتَابِ فِي
شَهْرِ الْمُحَرّمِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَكَانَ
الْفَرَاغُ مِنْهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ . سَنَدُهُ
فَالْكِتَابُ الّذِي تَصَدّيْنَا لَهُ مِنْ السّيَرِ هُوَ مَا حَدّثَنَا بِهِ
الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْعَرَبِيّ
سَمَاعًا عَلَيْهِ قَالَ ثِنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقَرَافِيّ الشّافِعِيّ ، قَالَ
ثِنَا أَبُو مُحَمّدِ بْنُ النّحّاسِ قَالَ ثِنَا أَبُو مُحَمّدِ عَبْدُ اللّهِ
بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْوَرْدِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَبْدِ الرّحِيمِ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحِيمِ بْنِ أَبِي زُرْعَةَ الزّهْرِيّ الْبَرْقِيّ عَنْ
أَبِي مُحَمّدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هِشَامٍ وَحَدّثَنَا بِهِ أَيْضًا -
سَمَاعًا عَلَيْهِ - أَبُو مَرْوَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ بُونُهْ
الْقُرَشِيّ الْعَبْدَرِيّ عَنْ أَبِي بَحْرٍ سُفْيَانَ بْنِ الْعَاصِ الْأَسَدِيّ
عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ هِشَامِ بْنِ أَحْمَدَ الْكِنَانِيّ . وَحَدّثَنِي بِهِ
أَيْضًا أَبُو مَرْوَانَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ بِزَالٍ عَنْ أَبِي عُمَرَ
أَحْمَدَ بْنِ مُحَمّدٍ الْمُقْرِي الطّلَمَنْكِيّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ
بْنِ عَوْنِ اللّهِ بْنِ حُدَيْرٍ عَنْ أَبِي مُحَمّدِ بْنِ الْوَرْدِ عَنْ
الْبَرْقِيّ عَنْ ابْنِ هِشَامٍ . وَحَدّثَنِي بِهِ أَيْضًا - سَمَاعًا وَإِجَازَةً
- أَبُو بَكْرِ مُحَمّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْإِشْبِيلِيّ عَنْ أَبِي عَلِيّ
الْغَسّانِيّ عَنْ أَبِي عُمَرَ النّمَرِيّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَشْيَاخِهِ عَنْ
الطّلَمَنْكِيّ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّمِ .
تَرْجَمَةُ
ابْنِ إسْحَاقَ
[ ص 19 ] أَبُو بَكْرمُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ الْمُطّلِبِيّ
بِالْوَلَاءِ لِأَنّ وَلَاءَهُ لِقَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ
عَبْدِ مَنَافٍ ، وَكَانَ جَدّهُ يَسَارٌ مِنْ سَبْيِ عَيْنِ التّمْرِ ، سَبَاهُ
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ . وَمُحَمّدُ بْنُ إسْحَاق هَذَا - رَحِمَهُ اللّهُ -
ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَأَمّا فِي الْمَغَازِي
وَالسّيَرِ فَلَا تُجْهَلُ إمَامَتُهُ فِيهَا . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ :
مَنْ أَرَادَ الْمَغَازِيَ فَعَلَيْهِ بِابْنِ إسْحَاقَ . ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ
فِي التّارِيخِ ، وَذَكَرَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنّهُ قَالَ مَا
أَدْرَكْت أَحَدًا يَتّهِمُ ابْنَ إسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ
شُعْبَةَ بْنِ الْحَجّاجِ أَنّهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
يَعْنِي : فِي الْحَدِيثِ وَذَكَرَ أَبُو يَحْيَى السّاجِيّ - رَحِمَهُ اللّهُ -
بِإِسْنَادِ لَهُ عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ خَرَجَ إلَى قَرْيَتِهِ بَاذَامَ
فَخَرَجَ إلَيْهِ طُلّابُ الْحَدِيثِ فَقَالَ لَهُمْ أَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ
الْغُلَامِ الْأَحْوَلِ أوَ قَدْ خَلّفْت فِيكُمْ الْغُلَامَ الْأَحْوَلَ يَعْنِي
: ابْنَ إسْحَاقَ ، وَذَكَرَ السّاجِيّ أَيْضًا قَالَ كَانَ أَصْحَابُ الزّهْرِيّ
يَلْجَئُونَ إلَى مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ فِيمَا شَكّوا فِيهِ مِنْ حَدِيثِ
الزّهْرِيّ ، ثِقَةً مِنْهُمْ بِحِفْظِهِ هَذَا مَعْنَى كَلَامِ السّاجِيّ
نَقَلْته مِنْ حِفْظِي ، لَا مِنْ كِتَابٍ . وَذَكَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ ،
وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطّانِ أَنّهُمْ [ ص 20 ]
ابْنَ إسْحَاقَ ، وَاحْتَجّوا بِحَدِيثِهِ وَذَكَرَ عَلِيّ بْنُ عُمَرَ
الدّارَقُطْنِيّ فِي السّنَنِ حَدِيثَ الْقُلّتَيْنِ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ وَمَا
فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ ثُمّ قَالَ فِي حَدِيثٍ جَرَى : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى
حِفْظِ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَشِدّةِ إتْقَانِهِ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَإِنّمَا
لَمْ يُخْرِجْ الْبُخَارِيّ عَنْهُ وَقَدْ وَثّقَهُ وَكَذَلِكَ وَثّقَهُ مُسْلِمُ
بْنُ الْحَجّاجِ ، وَلَمْ يُخْرِجْ عَنْهُ أَيْضًا إلّا حَدِيثًا وَاحِدًا فِي
الرّجْمِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيّ عَنْ أَبِيهِ مِنْ أَجْلِ طَعْنِ مَالِكٍ
فِيهِ وَإِنّمَا طَعَنَ فِيهِ مَالِكٌ - فِيمَا ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ
اللّهُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ إدْرِيسَ الْأَوْدِيّ - لِأَنّهُ بَلَغَهُ أَنّ
ابْنَ إسْحَاقَ قَالَ هَاتُوا حَدِيثَ مَالِكٍ فَأَنَا طَبِيبٌ بِعِلَلِهِ فَقَالَ
مَالِكٌ وَمَا ابْنُ إسْحَاقَ ؟ إنّمَا هُوَ دَجّالٌ مِنْ الدّجَاجِلَةِ نَحْنُ
أَخْرَجْنَاهُ مِنْ الْمَدِينَةِ ، يُشِيرُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - إلَى أَنّ
الدّجّالَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ . قَالَ ابْنُ إدْرِيسَ وَمَا عَرَفْت أَنّ
دَجّالًا يُجْمَعُ عَلَى دَجَاجِلَةٍ حَتّى سَمِعْتهَا عَنْ مَالِكٍ وَذَكَرَ أَنّ
ابْنَ إسْحَاقَ مَاتَ بِبَغْدَادَ سَنَةَ إحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ وَقَدْ
أَدْرَكَ مَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ مَالِكٌ رَوَى حَدِيثًا كَثِيرًا عَنْ مُحَمّدِ
بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ ، وَمَالِكٌ إنّمَا يُرْوَى عَنْ
رَجُلٍ عَنْهُ وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ ثَابِتٍ فِي
تَارِيخِهِ - فِيمَا ذَكَرَ لِي عَنْهُ - أَنّهُ - يَعْنِي ابْنَ إسْحَاقَ - رَأَى
أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ وَالصّبْيَانُ خَلْفَهُ
يَشْتَدّونَ وَيَقُولُونَ هَذَا صَاحِبُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - لَا يَمُوتُ حَتّى يَلْقَى الدّجّالَ وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَيْضًا
أَنّهُ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ ،
وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ . وَذَكَرَ أَنّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ
الْأَنْصَارِيّ شَيْخَ مَالِكٍ رَوَى عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ قَالَ وَرَوَى عَنْهُ
سُفْيَانُ الثّوْرِيّ ، وَالْحَمّادَانِ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ ،
وَحَمّادُ بْنُ زَيْدِ بْنِ دِرْهَمٍ ، وَشُعْبَةُ . وَذَكَرَ عَنْ الشّافِعِيّ -
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - أَنّهُ قَالَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحّرَ فِي
الْمَغَازِي ، فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ فَهَذَا مَا بَلَغَنَا
عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ - رَحِمَهُ اللّهُ .
رُوَاةُ
الْكِتَابِ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ
[ ص 21 ] يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ الشّيْبَانِيّ وَمُحَمّدُ بْنُ فُلَيْحٍ
وَالْبَكّائِيّ ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ إدْرِيسَ وَسَلَمَةُ بْنُ
الْفَضْلِ الْأَسَدِيّ وَغَيْرُهُمْ . وَنَذْكُرُ الْبَكّائِيّ لِأَنّهُ شَيْخُ
ابْنِ هِشَامٍ ، وَهُوَ أَبُو مُحَمّدٍ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ طُفَيْلِ
بْنِ عَامِرٍ الْقَيْسِيّ الْعَامِرِيّ ، مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ثُمّ
مِنْ بَنِي الْبَكّاءِ وَاسْمُ الْبَكّاءِ رَبِيعَةُ ، وَسُمّيَ الْبُكَاءَ
لِخَبَرِ يَسْمُجُ ذِكْرُهُ كَذَلِكَ ذَكَرَ بَعْضُ النّسّابِينَ . وَالْبَكّائِيّ
هَذَا ثِقَةٌ خَرّجَ عَنْهُ الْبُخَارِيّ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ وَخَرّجَ عَنْهُ
مُسْلِمٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ وَحَسْبُك بِهَذَا تَزْكِيَةً . وَقَدْ
رَوَى زِيَادٌ عَنْ حُمَيْدٍ الطّوِيلِ وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ فِي التّارِيخِ عَنْ
وَكِيعٍ قَالَ زِيَادٌ [ ص 22 ] فَقَالَ فِي كِتَابِهِ عَنْ الْبُخَارِيّ : قَالَ
قَالَ وَكِيعٌ : زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ - عَلَى شَرَفِهِ - يَكْذِبُ فِي
الْحَدِيثِ وَهَذَا وَهْمٌ وَلَمْ يَقُلْ وَكِيعٌ فِيهِ إلّا مَا ذَكَرَهُ
الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخِهِ وَلَوْ رَمَاهُ وَكِيعٌ بِالْكَذِبِ مَا خَرّجَ الْبُخَارِيّ
عَنْهُ حَدِيثًا ، وَلَا مُسْلِمٌ كَمَا لَمْ يُخَرّجَا عَنْ الْحَارِثِ
الْأَعْوَرِ لَمّا رَمَاهُ الشّعْبِيّ بِالْكَذِبِ وَلَا عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي
عَيّاشٍ لَمّا رَمَاهُ شُعْبَةُ بِالْكَذِبِ وَهُوَ كُوفِيّ تُوُفّيَ سَنَةَ
ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ .
تَرْجَمَةُ
ابْنِ هِشَامٍ
وَأَمّا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ ، فَمَشْهُورٌ بِحَمْلِ الْعِلْمِ
مُتَقَدّمٌ فِي عِلْمِ النّسَبِ وَالنّحْوِ وَهُوَ حِمْيَرِيّ مَعَافِرِيّ مِنْ
مِصْرَ ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْبَصْرَةِ ، وَتُوُفّيَ بِمِصْرِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
وَمِائَتَيْنِ وَلَهُ كِتَابٌ فِي أَنْسَابِ حِمْيَرَ وَمُلُوكِهَا ، وَكِتَابٌ
فِي شَرْحِ مَا وَقَعَ فِي أَشْعَارِ السّيَرِ مِنْ الْغَرِيبِ - فِيمَا ذُكِرَ
لِي - وَالْحَمْدُ لِلّهِ كَثِيرًا ، وَصَلَوَاتُهُ عَلَى نَبِيّهِ مُحَمّدٍ
وَسَلَامُهُ .
بِسْمِ
اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
وَبِهِ نَسْتَعِينُ
[ ص 23 ] رَبّ الْعَالَمِينَ وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيّدِنَا مُحَمّدٍ وَآلِهِ
أَجْمَعِينَ .
ذِكْرُ سَرْدِ النّسَبِ الزّكِيّ
" مِنْ مُحَمّد ٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - إلَى آدَمَ
عَلَيْهِ السّلَامُ " قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ :
هَذَا كِتَابُ سِيرَةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ -
مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَاسْمُ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ : شَيْبَةُ بْنُ هَاشِمٍ وَاسْمُ هَاشِمٍ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ
.Sتَفْسِيرُ
نَسَبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 23 ] أُبْهِمَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ مَعَانِيَ
بَدِيعَةً وَحِكْمَةً مِنْ اللّهِ بَالِغَةً فِي تَخْصِيصِ نَبِيّهِ مُحَمّدٍ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مُحَمّدٍ وَأَحْمَدَ
فَلْتَنْظُرْ هُنَاكَ وَلَعَلّنَا أَنْ نَعُودَ إلَيْهِ فِي بَابِ مَوْلِدِهِ مِنْ
هَذَا الْكِتَابِ - إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى .
عَبْدُ الْمُطّلِبِ
وَأَمّا جَدّهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ ، فَاسْمُهُ عَامِرٌ فِي قَوْلِ ابْنِ
قُتَيْبَةَ ، وَشَيْبَةُ فِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الصّحِيحُ .
وَقِيلَ سُمّيَ شَيْبَةُ لِأَنّهُ وُلِدَ وَفِي رَأْسِهِ شَيْبَةٌ وَأَمّا
غَيْرُهُ مِنْ الْعَرَبِ مِمّنْ اسْمُهُ شَيْبَةُ فَإِنّمَا قُصِدَ فِي تَسْمِيَتِهِمْ
بِهَذَا الِاسْمِ التّفَاؤُلُ لَهُمْ بِبُلُوغِ سِنّ الْحُنْكَةِ [ ص 24 ] سُمّوا
بِهَرِمِ وَكَبِيرٍ وَعَاشَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً
وَكَانَ لِدَةَ عُبَيْدِ بْنِ الْأَبْرَصِ الشّاعِرِ غَيْرَ أَنّ عُبَيْدًا مَاتَ
قَبْلَهُ بِعِشْرِينَ سَنَةً قَتَلَهُ الْمُنْذِرُ أَبُو النّعْمَانِ بْنُ
الْمُنْذِرِ ، وَيُقَالُ إنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ أَوّلُ مَنْ خَضّبَ بِالسّوَادِ
مِنْ الْعَرَبِ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ سَبَبَ
تَلْقِيبِهِ بِعَبْدِ الْمُطّلِبِ . وَالْمُطّلِبُ مُفْتَعِلٌ مِنْ الطّلَبِ .
وَأَمّا هَاشِمٌ فَعَمْرٌ - كَمَا ذُكِرَ - وَهُوَ اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنْ أَحَدِ
أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ مِنْ الْعَمْرِ الّذِي هُوَ الْعُمْرُ أَوْ الْعَمْرِ الّذِي
هُوَ مِنْ عُمُورِ الْأَسْنَانِ وَقَالَهُ الْقُتَبِيّ : أَوْ الْعَمَرِ الّذِي
هُوَ طَرَفُ الْكُمّ يُقَالُ سَجَدَ عَلَى عَمَرَيْهِ أَيْ عَلَى كُمّيْهِ أَوْ
الْعَمْرِ الّذِي هُوَ الْقُرْطُ كَمَا قَالَ التّنّوخِيّ :
وَعَمْرُو هِنْدٍ كَأَنّ اللّهَ صَوّرَهُ ... عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ يَسُومُ النّاسَ
تَعْنِيتَا
وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجْهًا خَامِسًا ، فَقَالَ فِي الْعُمْرِ الّذِي هُوَ
اسْمٌ لِنَخْلِ السّكّرِ وَيُقَالُ فِيهِ عَمْرٌ أَيْضًا ، قَالَ يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ أَحَدَ الْوُجُوهِ الّتِي بِهَا سُمّيَ الرّجُلُ عَمْرًا وَقَالَ كَانَ
ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَسْتَاكُ بِعَسِيبِ الْعُمْرِ .
[
ص 24 ] [ ص 25 ] وَاسْمُ عَبْدِ مَنَافٍ : الْمُغِيرَةُ بْنُ قُصَيّ ، بْنِ
كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ عَبْدُ مَنَافSوَعَبْدُ
مَنَافٍ اسْمُهُ الْمُغِيرَةُ - كَمَا ذُكِرَ - وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ الْوَصْفِ
وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ إنّهُ مُغِيرٌ عَلَى الْأَعْدَاءِ أَوْ
مُغِيرٌ مِنْ أَغَارَ الْحَبْلَ إذَا أَحْكَمَهُ وَدَخَلَتْهُ الْهَاءُ كَمَا
دَخَلَتْ فِي عَلّامَةٍ وَنَسّابَةٍ لِأَنّهُمْ قَصَدُوا قَصْدَ الْغَايَةِ
وَأَجْرَوْهُ مَجْرَى الطّامّةِ وَالدّاهِيَةِ وَكَانَتْ الْهَاءُ أَوْلَى بِهَذَا
الْمَعْنَى لِأَنّ مَخْرَجَهَا غَايَةُ الصّوْتِ وَمُنْتَهَاهُ وَمِنْ ثَمّ لَمْ
يُكَسّرْ مَا كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الْهَاءُ فَيُقَالُ فِي عَلّامَةٍ عَلَالِيمُ
وَفِي نَسّابَةٍ نَسَاسِيبُ كَيْ لَا يَذْهَبَ اللّفْظُ الدّالّ عَلَى
الْمُبَالَغَةِ كَمَا لَمْ يُكَسّرْ الِاسْمُ الْمُصَغّرُ كَيْ لَا تَذْهَبَ
بِنْيَةُ التّصْغِيرِ وَعَلَامَتُهُ . [ ص 25 ] تَكُونَ الْهَاءُ فِي مُغِيرَةَ
لِلتّأْنِيثِ وَيَكُونُ مَنْقُولًا مِنْ وَصْفِ كَتِيبَةٍ أَوْ خَيْلٍ مُغِيرَةٍ ،
كَمَا سُمّوا بِعَسْكَرِ . وَعَبْدُ مَنَافٍ هَذَا كَانَ يُلَقّبُ قَمَرَ
الْبَطْحَاءِ - فِيمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ - وَكَانَتْ أُمّهُ حُبّى قَدْ
أَخْدَمَتْهُ مَنَاةَ وَكَانَ صَنَمًا عَظِيمًا لَهُمْ وَكَانَ سُمّيَ بِهِ عَبْدُ
مَنَاةَ ثُمّ نَظَرَ قُصَيّ فَرَآهُ يُوَافِقُ عَبْدَ مَنَاةَ بْنَ كِنَانَةَ
فَحَوّلَهُ عَبْدَ مَنَافٍ . ذَكَرَهُ الْبَرْقِيّ وَالزّبَيْرُ أَيْضًا ، وَفِي
الْمُعَيْطِيّ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ قَالَ قُلْت لِمَالِكِ مَا كَانَ اسْمُ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ ؟ قَالَ شَيْبَةُ . قُلْت : فَهَاشِمٌ ؟ قَالَ عَمْرٌو ، قُلْت :
فَعَبْدُ مَنَافٍ ؟ قَالَ لَا أَدْرِي .
وَقُصَيّ
اسْمُهُ زَيْدٌ وَهُوَ تَصْغِيرُ قَصِيّ أَيْ بَعِيدٌ لِأَنّهُ بَعُدَ عَنْ
عَشِيرَتِهِ فِي بِلَادِ قُضَاعَةَ حِينَ احْتَمَلَتْهُ أُمّهُ فَاطِمَةُ مَعَ
رَابّهِ رَبِيعَةَ بْنِ حَرَامٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْكِتَابِ -
إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى - وَصُغّرَ عَلَى فُعَيْلٍ وَهُوَ تَصْغِيرُ فَعِيلٍ
لِأَنّهُمْ كَرِهُوا اجْتِمَاعَ ثَلَاثِ يَاءَاتٍ فَحَذَفُوا إحْدَاهُنّ وَهِيَ
الْيَاءُ الزّائِدَةُ الثّانِيَةُ الّتِي تَكُونُ فِي فَعِيلٍ نَحْوَ قَضِيبٍ
فَبَقِيَ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ لَامَ
الْفِعْلِ فَيَكُونُ وَزْنُهُ فُعَيّا ، وَتَكُونُ يَاءُ التّصْغِيرِ هِيَ
الْبَاقِيَةَ مَعَ الزّائِدَةِ فَقَدْ جَاءَ مَا هُوَ أَبْلَغُ فِي الْحَذْفِ مِنْ
هَذَا ، وَهِيَ قِرَاءَةُ قُنْبُلٍ يَا بُنَيْ بِبَقَاءِ يَاءِ التّصْغِيرِ
وَحْدَهَا ، وَأَمّا قِرَاءَةُ حَفْصٍ يَا بُنَيّ فَإِنّمَا هِيَ يَاءُ
التّصْغِيرِ مَعَ يَاءِ الْمُتَكَلّمِ وَلَامُ الْفِعْلِ مَحْذُوفَةٌ فَكَانَ
وَزْنُهُ فُعَيّ وَمَنْ كَسَرَ الْيَاءَ قَالَ يَا بُنَيّ فَوَزْنُهُ يَا فُعَيْل
، وَيَاءُ الْمُتَكَلّمِ هِيَ الْمَحْذُوفَةُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ .
كِلَابٌ
وَأَمّا كِلَابٌ فَهُوَ مَنْقُولٌ إمّا مِنْ الْمَصْدَرِ الّذِي هُوَ مَعْنَى
الْمُكَالَبَةِ نَحْوَ كَالَبْت الْعَدُوّ مُكَالَبَةً وَكِلَابًا ، وَإِمّا مِنْ
الْكِلَابِ جَمْعُ كَلْبٍ ، لِأَنّهُمْ يُرِيدُونَ الْكَثْرَةَ كَمَا سَمّوْا
بِسِبَاعِ [ ص 26 ] وَأَنْمَارٍ . وَقِيلَ لِأَبِي الرّقَيْشِ الْكِلَابِيّ
الْأَعْرَابِيّ لِمَ تُسَمّونَ أَبْنَاءَكُمْ بِشَرّ الْأَسْمَاءِ نَحْوَ كَلْبٍ
وَذِئْبٍ وَعَبِيدَكُمْ بِأَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ نَحْوَ مَرْزُوقٍ وَرَبَاحٍ ؟
فَقَالَ إنّمَا نُسَمّي أَبْنَاءَنَا لِأَعْدَائِنَا ، وَعَبِيدَنَا لِأَنْفُسِنَا
، يُرِيدُ أَنّ الْأَبْنَاءَ عُدّةُ الْأَعْدَاءِ وَسِهَامٌ فِي نُحُورِهِمْ
فَاخْتَارُوا لَهُمْ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ . وَمُرّةُ مَنْقُولٌ مِنْ وَصْفِ
الْحَنْظَلَةِ وَالْعَلْقَمَةِ وَكَثِيرًا مَا يُسَمّونَ بِحَنْظَلَةَ
وَعَلْقَمَةَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فَيَكُونُ
مَنْقُولًا مِنْ وَصْفِ الرّجُلِ بِالْمَرَارَةِ وَيُقَوّي هَذَا قَوْلُهُمْ
تَمِيمُ بْنُ مُرّ ، وَأَحْسَبُهُ مِنْ الْمُسَمّيْنَ بِالنّبَاتِ لِأَنّ أَبَا
حَنِيفَةَ ذَكَرَ أَنّ الْمُرّةَ بَقْلَةٌ تُقْلَعُ فَتُؤْكَلُ بِالْخَلّ
وَالزّيْتِ يُشْبِهُ وَرَقُهَا وَرَقَ الْهِنْدِبَاءِ .
كَعْبِ
بْنِ لُؤَيّ بْنِ [ ص 26 ] [ ص 27 ]Sكَعْبٌ
وَأَمّا كَعْبٌ فَمَنْقُولٌ إمّا مِنْ الْكَعْبِ الّذِي هُوَ قِطْعَةٌ مِنْ
السّمْنِ أَوْ مِنْ كَعْبِ الْقَدَمِ وَهُوَ عِنْدِي أَشْبَهُ لِقَوْلِهِمْ ثَبَتَ
ثُبُوتَ الْكَعْبِ وَجَاءَ فِي خَبَرِ ابْنِ الزّبَيْرِ أَنّهُ كَانَ يُصَلّي
عِنْدَ الْكَعْبَةِ يَوْمَ قُتِلَ وَحِجَارَةُ الْمَنْجَنِيقِ تَمُرّ بِأُذُنَيْهِ
وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ كَأَنّهُ كَعْبٌ رَاتِبٌ . وَكَعْبُ بْنُ لُؤَيّ هَذَا
أَوّلُ مَنْ جَمَعَ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ وَلَمْ تُسَمّ الْعَرُوبَةُ . الْجُمُعَةَ
إلّا مُنْذُ جَاءَ الْإِسْلَامُ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَقِيلَ هُوَ أَوّلُ مَنْ
سَمّاهَا الْجُمُعَةَ فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَجْتَمِعُ إلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ
فَيَخْطُبُهُمْ وَيُذَكّرُهُمْ بِمَبْعَثِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَيُعْلِمُهُمْ أَنّهُ مِنْ وَلَدِهِ وَيَأْمُرُهُمْ بِاتّبَاعِهِ
وَالْإِيمَانِ بِهِ وَيَنْشُدُ فِي هَذَا أَبْيَاتًا مِنْهَا قَوْلُهُ
يَا لَيْتَنِي شَاهِدٌ فَحْوَاءَ دَعْوَتِهِ ... إذَا قُرَيْشٌ تُبَغّي الْحَقّ
خِذْلَانًا
[ ص 27 ] ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ هَذَا الْخَبَرَ عَنْ كَعْبٍ فِي كِتَابِ
الْأَحْكَامِ لَهُ
لُؤَيّ
وَأَمّا لُؤَيّ ، فَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ هُوَ تَصْغِيرُ اللّأْيِ وَهُوَ
الثّوْرُ الْوَحْشِيّ وَأَنْشَدَ
يَعْتَادُ أَدِحْيَةً بَقَيْنَ بِقَفْرَةِ ... مَيْثَاءَ يَسْكُنُهَا اللّأْيُ
وَالْفَرْقَدُ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ اللّأْيُ هِيَ الْبَقَرَةُ قَالَ وَسَمِعْت أَعْرَابِيّا
يَقُولُ بِكَمْ لَاءَكَ هَذِهِ وَأَنْشَدَ فِي وَصْفِ فَلَاةٍ
كَظَهْرِ اللّأْيِ لَوْ يَبْتَغِي رِيّةً بِهَا ... نَهَارًا لَأَعْيَتْ فِي
بُطُونِ الشّوَاجِنِ
الشّوَاجِنُ شُعَبُ الْجِبَالِ وَالرّيّةُ مَقْلُوبٌ مِنْ وَرَى الزّنْدُ
وَأَصْلُهُ وِرْيَةٌ وَهُوَ الْحُرَاقُ الّذِي يُشْعَلُ بِهِ الشّرَرَةُ مِنْ
الزّنْدِ وَهُوَ عِنْدِي تَصْغِيرُ لَأْيٍ وَاللّأْيُ الْبُطْءُ كَأَنّهُمْ
يُرِيدُونَ مَعْنَى الْأَنَاةِ وَتَرْكِ الْعَجَلَةِ وَذَلِكَ أَنّي أَلْفَيْته
فِي أَشْعَارِ بَدْرٍ مُكَبّرًا عَلَى هَذَا اللّفْظِ فِي شِعْرِ أَبِي أُسَامَةَ
حَيْثُ يَقُولُ
فَدُونَكُمْ بَنِي لَأْيٍ أَخَاكُمْ ... وَدُونَكِ مَالِكًا يَا أُمّ عَمْرِو
مَعَ مَا جَاءَ فِي بَيْتِ الْحُطَيْئَةِ فِي غَيْرِهِ
أَتَتْ آلَ شَمّاسِ بْنِ لَأْيٍ وَإِنّمَا ... أَتَاهُمْ بِهَا الْأَحْلَامُ
وَالْحَسَبُ الْعِدّ
وَقَوْلُهُ أَيْضًا :
فَمَاتَتْ أُمّ جَارَةِ آلِ لَأْيٍ ... وَلَكِنْ يَضْمَنُونَ لَهَا قَرَاهَا
وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالرّاوِيَةُ يَوْمَئِذٍ
يُسْتَقَى عَلَيْهَا أَحَبّ إلَيّ مِنْ شَاءٍ وَلَاءٍ فَاللّاءُ هَهُنَا جَمْعُ
اللّائِي ، وَهُوَ الثّوْرُ مِثْلُ الْبَاقِرِ وَالْجَامِلِ وَتَوَهّمَ ابْنُ
قُتَيْبَةَ أَنّ قَوْلَهُ لَاءٍ مِثْلُ مَاءٍ فَخَطّأَ الرّوَايَةَ وَقَالَ إنّمَا
[ ص 28 ] أَلْعَاعٍ جَمْعُ لَأْيٍ وَلَيْسَ الصّوَابُ إلّا مَا تَقَدّمَ وَأَنّهُ
لَاءٍ مِثْلُ جَاءٍ .
[
ص 28 ] فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ
مُدْرِكَةَ وَاسْمُ مُدْرِكَةَ عَامِرُ بْنُ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ [ ص 29 ] [
ص 30 ]Sفِهْرٌوَغَيْرُهُ
وَأَمّا فِهْرٌ فَقَدْ قِيلَ إنّهُ لَقَبٌ وَالْفِهْرُ مِنْ الْحِجَارَةِ
الطّوِيلُ وَاسْمُهُ قُرَيْشٌ وَقِيلَ بَلْ اسْمُهُ فِهْرٌ وَقُرَيْشٌ لَقَبٌ لَهُ
عَلَى مَا سَيَأْتِي الِاخْتِلَافُ فِيهِ - إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى - وَمَالِكٌ
وَالنّضْرُ وَكِنَانَةُ لَا إشْكَالَ فِيهَا
خُزَيْمَةُ
وَخُزَيْمَةُ وَالِدُ كِنَانَةَ تَصْغِيرُ خَزَمَةَ وَهِيَ وَاحِدَةُ الْخَزَمِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَصْغِيرَ خَزْمَةَ وَكِلَاهُمَا مَوْجُودٌ فِي أَسْمَاءِ
الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ وَهِيَ الْمَرّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ الْخَزْمِ وَهُوَ
شَدّ الشّيْءِ وَإِصْلَاحُهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْخَزَمُ مِثْلُ الدّوْمِ
تُتّخَذُ مِنْ سَعَفِهِ الْحِبَالُ وَيُصْنَعُ مِنْ أَسَافِلِهِ خَلَايَا
لِلنّحْلِ وَلَهُ ثَمَرٌ لَا يَأْكُلُهُ النّاسُ وَلَكِنْ تَأْلَفَهُ الْغِرْبَانُ
وَتَسْتَطِيبُهُ .
مُدْرِكَةُ وَإِلْيَاسُ
وَأَمّا مُدْرِكَةُ فَمَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ وَإِلْيَاسُ أَبُوهُ قَالَ فِيهِ
ابْنُ الْأَنْبَارِيّ إلْيَاسُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَجَعَلَهُ مُوَافِقًا
لِاسْمِ إلْيَاسَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقَالَ فِي
اشْتِقَاقِهِ أَقْوَالًا مِنْهَا : أَنْ يَكُونَ فِعْيَالًا مِنْ الْأَلْسِ وَهِيَ
الْخَدِيعَةُ وَأَنْشَدَ مِنْ فَهّةِ الْجَهْلِ وَالْأَلْسَةِ . وَمِنْهَا أَنّ
الْأَلْسَ اخْتِلَاطُ الْعَقْلِ وَأَنْشَدُوا : إنّي إذًا لَضَعِيفُ الْعَقْلِ
مَأْلُوسُ [ ص 29 ] أَلْيَسُ وَهُوَ الشّجَاعُ الّذِي لَا يَفِرّ . قَالَ
الْعَجّاجُ أَلْيَسُ عَنْ حَوْبَائِهِ سَخِيّ وَقَالَ آخَرُ أَلْيَسُ
كَالنّشْوَانِ وَهُوَ صَاحٍ وَفِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِلْقُتَبِيّ أَنّ فُلَانًا
: أَلْيَسُ أَهْيَسُ أَلَدّ مِلْحَسُ . إنْ سُئِلَ أَزَزَ وَإِنْ دُعِيَ انْتَهَزَ
. وَقَدْ فَسّرَهُ وَزَعَمَ أَنّ أَهْيَسَ مَقْلُوبُ الْوَاوِ وَأَنّهُ مَرّةً
مِنْ الْهَوَسِ وَجُعِلَتْ وَاوُهُ يَاءً لِازْدِوَاجِ الْكَلَامِ فَالْأَلْيَسُ
الثّابِتُ الّذِي لَا يَبْرَحُ وَاَلّذِي قَالَهُ غَيْرُ ابْنِ الْأَنْبَارِيّ
أَصَحّ ، وَهُوَ أَنّهُ الْيَاسُ سُمّيَ بِضَدّ الرّجَاءِ وَاللّامُ فِيهِ
لِلتّعْرِيفِ وَالْهَمْزَةُ هَمْزَةُ وَصْلٍ وَقَالَهُ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي
الدّلَائِلِ وَأَنْشَدَ أَبْيَاتًا شَوَاهِدَ مِنْهَا قَوْلُ قُصَيّ :
إنّي لَدَى الْحَرْبِ رَخِيّ اللّبَبِ ... أُمّهَتِي خِنْدِفُ وَالْيَاسُ أَبِي
وَيُقَالُ إنّمَا سُمّيَ السّلّ دَاءَ يَاسٍ وَدَاءَ إلْيَاسَ لِأَنّ إلْيَاسَ
بْنَ مُضَرَ مَاتَ مِنْهُ . قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ
يَقُولُ الْعَاذِلُونَ إذَا رَأَوْنِي ... أُصِبْت بِدَاءِ يَاسٍ فَهُوَ مُودِي
وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَاصِيَةَ
فَلَوْ كَانَ دَاءُ إلْيَاسَ بِي ، وَأَعَانَنِي ... طَبِيبٌ بِأَرْوَاحِ
الْعَقِيقِ شَفَانِيَا
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ حِزَامٍ
بِي إلْيَاسُ أَوْ دَاءُ الْهُيَامِ أَصَابَنِي ... فَإِيّاكَ عَنّي لَا يَكُنْ
بِك مَا بِيَا
[ ص 30 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَا تَسُبّوا إلْيَاسَ
فَإِنّهُ كَانَ مُؤْمِنًا وَذَكَرَ أَنّهُ كَانَ يَسْمَعُ فِي صُلْبِهِ تَلْبِيَةَ
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِالْحَجّ . يَنْظُرُ فِي كِتَابِ
الْمَوْلِدِ لِلْوَاقِدِيّ . وَإِلْيَاسُ أَوّلُ مَنْ أَهْدَى الْبُدْنَ
لِلْبَيْتِ . قَالَهُ الزّبَيْرُ . وَأُمّ إلْيَاسَ الرّبَابُ بِنْتُ حُمَيْرَةَ
بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَانَ قَالَهُ الطّبَرِيّ ، وَهُوَ خِلَافُ مَا قَالَهُ
ابْنُ هِشَامٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ . وَأَمّا مُضَرُ ، فَقَدْ قَالَ الْقُتَبِيّ
هُوَ مِنْ الْمَضِيرَةِ أَوْ مِنْ اللّبَنِ الْمَاضِرِ وَالْمَضِيرَةُ شَيْءٌ
يُصْنَعُ مِنْ اللّبَنِ فَسُمّيَ مُضَرَ لِبَيَاضِهِ وَالْعَرَبُ تُسَمّي
الْأَبْيَضَ أَحْمَرَ فَلِذَلِكَ قِيلَ مُضَرُ الْحَمْرَاءُ وَقِيلَ بَلْ أَوْصَى
لَهُ أَبُوهُ بِقُبّةِ حَمْرَاءَ ، وَأَوْصَى لِأَخِيهِ رَبِيعَةَ بِفَرَسِ
فَقِيلَ مُضَرُ الْحَمْرَاءُ وَرَبِيعَةُ الْفَرَسِ . وَمُضَرُ أَوّلُ مَنْ سَنّ
لِلْعَرَبِ حِدَاءَ الْإِبِلِ وَكَانَ أَحْسَنَ النّاسِ صَوْنًا فِيمَا زَعَمُوا -
وَسَنَذْكُرُ سَبَبَ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ - إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى - وَفِي
الْحَدِيثِ الْمَرْوِيّ " لَا تَسُبّوا مُضَرَ وَلَا رَبِيعَةَ ، فَإِنّهُمَا
كَانَا مُؤْمِنَيْنِ " ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ .
نِزَارِ
بْنِ مَعَدّ بْنِSنِزَارٌ
وَمَعَدّ
وَأَمّا نِزَارُ فَمِنْ النّزْرِ وَهُوَ الْقَلِيلُ وَكَانَ أَبُوهُ حِينَ وُلِدَ
لَهُ وَنَظَرَ إلَى النّورِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَهُوَ نُورُ النّبُوّةِ الّذِي
كَانَ يَنْتَقِلُ فِي الْأَصْلَابِ إلَى مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - فَرِحَ فَرَحًا شَدِيدًا بِهِ [ ص 31 ] وَأَطْعَمَ وَقَالَ إنّ هَذَا
كُلّهُ نَزْرٌ لِحَقّ هَذَا الْمَوْلُودِ فَسُمّيَ نِزَارًا لِذَلِكَ . وَأَمّا
مَعَدّ أَبُوهُ فَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا
، أَنْ يَكُونَ مَفْعَلًا مِنْ الْعَدّ وَالثّانِي أَنْ يَكُونَ فَعَلّا مِنْ
مَعَدَ فِي الْأَرْضِ أَيْ أَفْسَدَ كَمَا قَالَ
وَخَارِبَيْنِ خَرَبَا فَمَعَدَا ... مَا يَحْسِبَانِ اللّهَ إلّا رَقَدَا
وَإِنْ كَانَ لَيْسَ فِي الْأَسْمَاءِ مَا هُوَ عَلَى وَزْنِ فَعَلٍ بِفَتْحِ
الْفَاءِ إلّا مَعَ التّضْعِيفِ فَإِنّ التّضْعِيفَ يُدْخِلُ فِي الْأَوْزَانِ مَا
لَيْسَ فِيهَا كَمَا قَالُوا . شَمّرَ وَقُشَعْرِيرَةَ وَلَوْلَا التّضْعِيفُ مَا
وُجِدَ مِثْلُ هَذَا ، وَنَحْوُ ذَلِكَ الثّالِثِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَعَدّيْنِ
وَهُمَا مَوْضِعُ عَقِبَيْ الْفَارِسِ مِنْ الْفَرَسِ وَأَصْلُهُ عَلَى
الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنْ الْمَعْدِ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَهُوَ
الْقُوّةُ وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ الْمَعِدَةِ .
عَدْنَانَ
بْنِ أُدّ وَيُقَالُ أُدَدَ بْنِSعَدْنَانُ
وَأَمّا عَدْنَان ُ فَفَعْلَانُ مِنْ عَدَنَ إذَا أَقَامَ وَلِعَدْنَانَ أَخَوَانِ
نَبْتٌ وَعَمْرٌو فِيمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ .
النّسَبُ قَبْلَ عَدْنَانَ
وَأُدَدٌ مَصْرُوفٌ . قَالَ ابْنُ السّرَاجِ . هُوَ مِنْ الْوُدّ وَانْصَرَفَ
لِأَنّهُ مِثْلُ ثُقَبٍ وَلَيْسَ مَعْدُولًا كَعُمَرِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ
سِيبَوَيْهِ . [ ص 32 ] قِيلَ فِي عَدْنَانَ هُوَ ابْنُ مَيْدَعَةَ وَقِيلَ ابْنُ
يَحْثُمَ قَالَهُ الْقُتَبِيّ وَمَا بَعْدَ عَدْنَانَ مِنْ الْأَسْمَاءِ
مُضْطَرَبٌ فِيهِ فَاَلّذِي صَحّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - أَنّهُ انْتَسَبَ إلَى عَدْنَانَ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ بَلْ قَدْ رُوِيَ
عَنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ لَمّا بَلَغَ عَدْنَانَ . قَالَ " كَذَبَ
النّسّابُونَ مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا " ، وَالْأَصَحّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
أَنّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
- أَنّهُ قَالَ إنّمَا نَنْتَسِبُ إلَى عَدْنَانَ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ لَا نَدْرِي
مَا هُو وَأَصَحّ شَيْءٍ رُوِيَ فِيمَا بَعْدَ عَدْنَانَ مَا ذَكَرَهُ
الدّوْلَابِيّ أَبُو بِشْرٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمَعَةَ الزّمَعِيّ عَنْ عَمّتِهِ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ
عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَالَ مَعَدّ بْنُ
عَدْنَانَ بْنِ أُدَدِ بْنِ زَنْدٍ - بِالنّونِ - بْنِ الْيَرَى بْنِ أَعْرَاقِ
الثّرَى " قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ . فَزَنْدٌ هُوَ الْهَمَيْسَعُ وَالْيَرَى
هُوَ نَبْتٌ وَأَعْرَاقُ الثّرَى هُوَ إسْمَاعِيلُ لِأَنّهُ ابْنُ إبْرَاهِيمَ
وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ تَأْكُلْهُ النّارُ كَمَا أَنّ النّارَ لَا تَأْكُلُ الثّرَى
وَقَدْ قَالَ الدّارَقُطْنِيّ : لَا نَعْرِفُ زَنْدًا إلّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ
وَزَنْدُ بْنُ الْجَوْنِ وَهُوَ أَبُو دُلَامَةَ الشّاعِرُ . قَالَ الْمُؤَلّفُ
وَهَذَا الْحَدِيثُ عِنْدِي لَيْسَ بِمُعَارِضِ لِمَا تَقَدّمَ مِنْ قَوْلِهِ
كَذَبَ النّسّابُون وَلَا لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - لِأَنّهُ
حَدِيثٌ مُتَأَوّلٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " [ ص 33 ] ابْنِ
الْيَرَى ، ابْنِ أَعْرَاقِ الثّرَى " كَمَا قَالَ " كُلّكُمْ بَنُو
آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ " لَا يُرِيدُ أَنّ الْهَمَيْسَعَ وَمَنْ دُونَهُ
ابْنٌ لِإِسْمَاعِيلَ لِصُلْبِهِ وَلَا بُدّ مِنْ هَذَا التّأْوِيلِ أَوْ غَيْرِهِ
لِأَنّ أَصْحَابَ الْأَخْبَارِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي بُعْدِ الْمُدّةِ مَا بَيْنَ
عَدْنَانَ وَإِبْرَاهِيمَ وَيَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا
أَرْبَعَةُ آبَاءٍ أَوْ سَبْعَةٌ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ ، أَوْ عَشْرَةٌ
أَوْ عِشْرُونَ فَإِنّ الْمُدّةَ أَطْوَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلّهِ وَذَلِكَ . أَنّ
مَعَدّ بْنَ عَدْنَانَ كَانَ فِي مُدّةِ بُخْتَنَصّرَ ابْنِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ
سَنَةً . قَالَ الطّبَرِيّ : وَذُكِرَ أَنّ اللّهَ تَعَالَى أَوْحَى فِي ذَلِكَ
الزّمَانِ إلَى إرْمِيَاءَ بْنِ حَلْقِيَا أَنْ اذْهَبْ إلَى بُخْتَنَصّرَ
فَأَعْلِمْهُ أَنّي قَدْ سَلّطْته عَلَى الْعَرَبِ ، وَاحْمِلْ مَعَدّا عَلَى
الْبُرَاقِ كَيْلَا تُصِيبُهُ النّقْمَةُ فِيهِمْ فَإِنّي مُسْتَخْرِجٌ مِنْ
صُلْبِهِ نَبِيّا كَرِيمًا أَخْتِمُ بِهِ الرّسُلَ فَاحْتَمَلَ مَعَدّا عَلَى
الْبُرَاقِ إلَى أَرْضِ الشّامِ ، فَنَشَأَ مَعَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَتَزَوّجَ
هُنَاكَ امْرَأَةً اسْمُهَا : مُعَانَةُ بِنْتُ جَوْشَنَ مِنْ بَنِي دُبّ بْنِ
جُرْهُمٍ ، وَيُقَالُ فِي اسْمِهَا : نَاعِمَةٌ . قَالَهُ الزّبَيْرُ وَمِنْ ثَمّ
وَقَعَ فِي كِتَابِ الإسرائيليين نَسَبُ مَعَدّ ثَبّتَهُ فِي كُتُبِهِ رَخِيَا ،
وَهُوَ يُورَخ كَاتِبُ إرْمِيَاءَ . كَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ النّمَرِيّ
حُدّثْت بِذَلِكَ عَنْ الْغَسّانِيّ عَنْهُ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ إبْرَاهِيمَ فِي
ذَلِكَ النّسَبِ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جَدّا ، وَقَدْ ذَكَرَهُمْ كُلّهُمْ
أَبُو الْحَسَنِ الْمَسْعُودِيّ عَلَى اضْطِرَابٍ فِي الْأَسْمَاءِ وَلِذَلِكَ -
وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أَعْرَضَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ
رَفْعِ نَسَبِ عَدْنَانَ إلَى إسْمَاعِيلَ لِمَا فِيهِ مِنْ التّخْلِيطِ
وَتَغْيِيرٍ فِي الْأَلْفَاظِ وَعَوَاصَةِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ مَعَ قِلّةِ
الْفَائِدَةِ فِي تَحْصِيلِهَا . وَقَدْ ذَكَرَ الطّبَرِيّ نَسَبَ عَدْنَانَ إلَى
إسْمَاعِيلَ مِنْ وُجُوهٍ ذَكَرَ فِي أَكْثَرِهَا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ أَبًا
، وَلَكِنْ بِاخْتِلَافِ فِي الْأَلْفَاظِ لِأَنّهَا نُقِلَتْ مِنْ كُتُبٍ
عِبْرَانِيّةٍ وَذُكِرَ مِنْ وَجْهٍ قَوِيّ فِي الرّوَايَةِ عَنْ نُسّابِ
الْعَرَبِ ، أَنّ نَسَبَ عَدْنَانَ يَرْجِعُ إلَى قَيْذَرَ بْنَ إسْمَاعِيلَ
وَأَنّ قَيْذَرَ كَانَ الْمَلِكَ فِي زَمَانِهِ وَأَنّ مَعْنَى قَيْذَرَ الْمَلِكُ
إذَا فُسّرَ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ فِي عَمُودِ هَذَا النّسَبِ بُوّرَا بْنَ شُوحَا
، وَهُوَ أَوّلُ مَنْ عَتَرَ الْعَتِيرَةَ وَأَنّ شُوحَا هُوَ سَعْدُ رَجَبٍ
وَأَنّهُ أَوّلُ مَنْ سَنّ رَجَبًا لِلْعَرَبِ . وَالْعَتِيرَةُ هِيَ الرّجَبِيّةُ
. [ ص 34 ] وَذَكَرَ فِي هَذَا النّسَبِ عُبَيْدَ بْنَ ذِي يَزَنَ بْنِ هَمَاذَا ،
وَهُوَ الطّعّانُ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الرّمَاحُ الْيَزَنِيّةُ وَذَكَرَ فِيهِمْ
أَيْضًا دَوْسَ الْعُتُقَ وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النّاسِ وَجْهًا ، وَكَانَ
يُقَالُ فِي الْمَثَلِ أَعْتَقُ مِنْ دَوْسٍ ، وَهُوَ الّذِي هَزَمَ جَيْشَ
قَطُورَا بْنِ جُرْهُمٍ . وَذَكَرَ فِيهِمْ إسْمَاعِيلَ ذَا الْأَعْوَجِ وَهُوَ
فَرَسُهُ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْخَيْلُ الْأَعْوَجِيّةُ وَهَذَا هُوَ الّذِي
يُشْبِهُ فَإِنْ بُخْتَنَصّرَ كَانَ بَعْدَ سُلَيْمَانَ بِمِئَتَيْنِ مِنْ
السّنِينَ لِأَنّهُ كَانَ عَامِلًا عَلَى الْعِرَاقِ " لَكَيْ لهراسب "
ثُمّ لِابْنِهِ " كَيْ بستاسب " إلَى مُدّةِ بهمن قَبْلَ غَلَبَةِ
الْإِسْكَنْدَرِ عَلَى دَارَا بْنِ دَارَا بهمن ، وَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ مُدّةِ
عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَأَيْنَ هَذِهِ الْمُدّةُ مِنْ مُدّةِ إسْمَاعِيلَ ؟
وَكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَ مَعَدّ وَبَنِيهِ مَعَ هَذَا سَبْعَةُ آبَاءٍ فَكَيْفَ
أَرْبَعَةٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ ؟ . وَكَانَ رُجُوعُ مَعَدّ إلَى أَرْضِ الْحِجَازِ
بَعْدَ مَا رَفَعَ اللّهُ بَأْسَهُ عَنْ الْعَرَبِ وَرَجَعَتْ بَقَايَاهُمْ الّتِي
كَانَتْ فِي الشّوَاهِقِ إلَى مَحَالّهِمْ وَمِيَاهِهِمْ بَعْدَ أَنْ دَوّخَ
بِلَادَهُمْ بُخْتَنَصّرُ وَخَرّبَ الْمَعْمُورَ وَاسْتَأْصَلَ أَهْلَ حَضُورَ
وَهُمْ الّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ
قَرْيَةٍ } الْأَنْبِيَاءَ الْآيَةُ وَذَلِكَ لِقَتْلِهِمْ شُعَيْبَ بْنَ ذِي
مَهْدَمٍ نَبِيّا أَرْسَلَهُ اللّهُ إلَيْهِمْ وَقَبْرُهُ بِصِنّينَ جَبَلٌ
بِالْيَمَنِ وَلَيْسَ بِشُعَيْبِ الْأَوّلِ صَاحِبِ مَدْيَنَ . ذَلِكَ شُعَيْبُ
بْنُ عَيْفِي ، وَيُقَالُ فِيهِ ابْنَ صَيْفُونٍ وَكَذَلِكَ أَهْلُ عَدَنٍ ،
قَتَلُوا نَبِيّا أُرْسِلَ إلَيْهِمْ اسْمُهُ حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ فَكَانَتْ
سَطْوَةُ اللّهِ بِالْعَرَبِ لِذَلِكَ نَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ غَضَبِهِ وَأَلِيمِ
عِقَابِهِ .
مُقَوّمِ
بْنِ نَاحُورِ بْنِ تَيْرَحَ بْنِ [ ص 31 ] [ ص 32 ] [ ص 33 ] [ ص 34 ] نَابِتِ
بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ - خَلِيلِ الرّحْمَنِ - بْنِ تارِح وَهُوَ
آزَرُ بْنُ نَاحُورِ بْنِ ساروغ بْنِ رَاعُو بْنِ فَالَخ بْنِ عَيْبَرَ بْنِ شالَخ
بْن أرْفَخْشَذ بْنِ سَامِ بْنِSعَوْدٌ
إلَى النّسَبِ
ثُمّ نَعُودُ إلَى النّسَبِ . فَأَمّا مُقَوّمٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَأَبُو أُدَدٍ
فَمَفْهُومُ الْمَعْنَى ، وَتَيْرَحُ فَيْعَلٌ مِنْ التّرِحَةِ إنْ كَانَ
عَرَبِيّا . وَكَذَلِكَ نَاحُورُ مِنْ النّحْرِ وَيَشْجُبُ مِنْ الشّجْبِ وَإِنْ
كَانَ الْمَعْرُوفُ أَنْ يُقَالَ شَجِبَ بِكَسْرِ الْجِيمِ يَشْجَبُ بِفَتْحِهَا ،
وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ فِي الْمُغَالَبَةِ شَاجَبْتُهُ [ ص 35 ] الْمَاضِي ؛ كَمَا
يُقَالُ مِنْ الْعِلْمِ عَالَمْته فَعَلَمْته بِفَتْحِ اللّامِ أُعْلِمُهُ
بِضَمّهَا . وَقَدْ ذَكَرَهُمْ أَبُو الْعَبّاسِ النّاشِئُ فِي قَصِيدَتِهِ
الْمَنْظُومَةِ فِي نَسَبِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى
آدَمَ كَمَا ذَكَرَهُمْ ابْنُ إسْحَاقَ . وَإِبْرَاهِيمُ مَعْنَاهُ أَبٌ رَاحِمٌ
وَآزَرُ قِيلَ مَعْنَاهُ يَا أَعْوَجُ وَقِيلَ هُوَ اسْمُ صَنَمٍ وَانْتُصِبَ
عَلَى إضْمَارِ الْفِعْلِ فِي التّلَاوَةِ وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِأَبِيهِ كَانَ
يُسَمّى تارِح وَآزَرُ وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ لِمَجِيئِهِ فِي الْحَدِيثِ
مَنْسُوبًا إلَى آزَرَ وَأُمّهِ نُونًا ، وَيُقَالُ فِي اسْمِهَا . لُيُوثِي ،
أَوْ نَحْوِ هَذَا وَمَا بَعْدَ إبْرَاهِيمَ أَسْمَاءٌ سُرْيَانِيّةٌ فَسّرَ أَكْثَرَهَا
بِالْعَرَبِيّةِ ابْنُ هِشَامٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَذَكَرَ أَنّ فَالَع
مَعْنَاهَا : الْقَسّامُ وَشَالَخ مَعْنَاهَا : الرّسُولُ أَوْ الْوَكِيلُ
وَذَكَرَ أَنّ إسْمَاعِيلَ تَفْسِيرُهُ مُطِيعُ اللّهِ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ
بَيْنَ فَالَع وَعَابِرِ أَبًا اسْمُهُ قَيّنَن أُسْقِطَ اسْمُهُ فِي التّوْرَاةِ
، لِأَنّهُ كَانَ سَاحِرًا ، وأرفخشذ تَفْسِيرُهُ مِصْبَاحٌ مُضِيءٌ وَشَاذّ
مُخَفّفٌ بالسريانية " الضّيَاءُ وَمِنْهُ حم شَاذّ " بالسريانية وَهُوَ
رَابِعُ الْمُلُوكِ بَعْدَ " جيومرث " ، وَهُوَ الّذِي قَتَلَهُ
الضّحّاكُ ، وَاسْمُهُ " بيوراسب بْنِ إندراسب " وَالضّحّاكُ مُغَيّرٌ
مِنْ ازدهاق . قَالَ حَبِيبٌ
وَكَأَنّهُ الضّحّاكُ فِي فَتَكَاتِهِ ... بِالْعَالَمِينَ وَأَنْتَ أفريدون
لِأَنّ أفريدون هُوَ الّذِي قَتَلَ الضّحّاكَ ، بَعْدَ أَنْ عَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ
فِي جَوْرٍ وَعُتُوّ وَطُغْيَانٍ عَظِيمٍ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ عَلَى التّفْصِيلِ
فِي تَارِيخِ الطّبَرِيّ وَغَيْرِهِ .
نُوحِ
بْنِ لَمْكِ بْنِ مَتّوشَلَخ بْنِ أخنوخ ، وَهُوَ إدْرِيسُ النّبِيّ - فِيمَا
يَزْعُمُونَ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ أَوّلَ بَنِي آدَمَ أُعْطِيَ النّبُوّةَ
وَخَطّ بِالْقَلَمِ - ابْنِ يَرْدِ بْنِ مهْلَيِل بْنِ قَيّنَن بْنِ يانِشَ بْنِ
شيثَ بْنِ آدَمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 35 ] [ ص 36 ] قَالَ أَبُو
مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ
الْبَكّائِيّ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ بِهَذَا الّذِي ذَكَرْت
مِنْ نَسَبِ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ وَآلِهِ وَسَلّمَ إلَى آدَمَ
عَلَيْهِ السّلَامُ وَمَا فِيهِ مِنْ حَدِيثِ إدْرِيسَ وَغَيْرِهِ . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي خَلّادُ بْنُ قُرّةَ بْنِ خَالِدٍ السّدُوسِيّ ، عَنْ
شَيْبَانَ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ شَقِيقِ بْنِ ثَوْرٍ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ دِعَامَةَ
أَنّهُ قَالَ [ ص 37 ] تارِح - وَهُوَ آزَرُ - بْنُ نَاحُورِ بْنِ أسرغ بْنِ
أَرْغُو بْنِ فَالَخ بْنِ عَابِرِ بْنِ شالَخ بْنِ أرْفَخْشَذ بْنِ سَامِ بْنِ
نُوحِ بْنِ لَمْكِ بْنِ مَتّوشَلَخ بْنِ أخنوخ بْنِ يُرِدْ بْنِ مهْلائِيل بْنِ
قاين بْنِ أَنُوشِ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
عَمَلُ ابْنِ هِشَامٍ فِي سِيرَةِ ابْنِ إسْحَاقَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَنَا إنْ شَاءَ اللّهُ مُبْتَدِئٌ هَذَا الْكِتَابَ
بِذِكْرِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَمَنْ - 38 - وَلَدَ رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - مِنْ وَلَدِهِ وَأَوْلَادِهِمْ
لِأَصْلَابِهِمْ الْأَوّلَ فَالْأَوّلَ مِنْ إسْمَاعِيلَ إلَى رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - وَمَا يَعْرِضُ مِنْ حَدِيثِهِمْ
وَتَارِكٌ ذِكْرَ غَيْرِهِمْ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ
لِلِاخْتِصَارِ إلَى حَدِيثِ سِيرَةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلّمَ - وَتَارِكٌ بَعْضَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا
الْكِتَابِ مِمّا لَيْسَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلّمَ - فِيهِ ذِكْرٌ وَلَا نَزَلَ فِيهِ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ وَلَيْسَ
سَبَبًا لِشَيْءِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَلَا تَفْسِيرًا لَهُ وَلَا شَاهِدًا
عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْت مِنْ الِاخْتِصَارِ وَأَشْعَارًا ذَكَرَهَا لَمْ أَرَ
أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يَعْرِفُهَا ، وَأَشْيَاءَ بَعْضُهَا
يَشْنُعُ الْحَدِيثُ بِهِ وَبَعْضٌ يَسُوءُ بَعْضَ النّاسِ ذِكْرُهُ وَبَعْضٌ لَمْ
يُقِرّ لَنَا الْبَكّائِيّ بِرِوَايَتِهِ وَمُسْتَقْصٍ - إنْ شَاءَ اللّهُ
تَعَالَى - مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْهُ بِمَبْلَغِ الرّوَايَةِ لَهُ وَالْعِلْمِ بِهِ
.Sنُوحٌ
وَمَنْ قَبْلَهُ
وَذَكَرَ نُوحًا - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَاسْمُهُ عَبْدُ الْغَفّارِ وَسُمّيَ
نُوحًا لِنَوْحِهِ عَلَى ذَنْبِهِ وَأَخُوهُ صَابِئُ بْنُ لَامَك ، إلَيْهِ
يُنْسَبُ دِينُ الصّابِئِينَ فِيمَا ذَكَرُوا وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَذُكِرَ أَنّ
لَامَك وَالِدُ نُوحٍ عَلَيْهِ السّلَامُ . وَلَامَك أَوّلُ مَنْ اتّخَذَ الْعُودَ
لِلْغِنَاءِ بِسَبَبِ يَطُولُ ذِكْرُهُ وَاِتّخَذَ مَصَانِعَ الْمَاءِ . وَأَبُوهُ
مَتّوشَلَخ . وَذَكَرَهُ النّاشِئُ فِي قَصِيدَتِهِ فَقَالَ مَتّوشَلَخ ،
وَتَفْسِيرُهُ مَاتَ الرّسُولُ لِأَنّ أَبَاهُ كَانَ رَسُولًا وَهُوَ خنوخ ؟
وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ هُوَ [ ص 36 ] ابْنُ إسْحَاقَ فِي الْكِتَابِ
الْكَبِيرِ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي ذَرّ عَنْ النّبِيّ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَالَ أَوّلُ مَنْ كَتَبَ بِالْقَلَمِ إدْرِيسُ
" وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ - أَنّهُ قَالَ أَوّلُ مَنْ
كَتَبَ بِالْعَرَبِيّةِ إسْمَاعِيلُ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ وَهَذِهِ الرّوَايَةُ
أَصَحّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى : أَنّ أَوّلَ مَنْ تَكَلّمَ بِالْعَرَبِيّةِ
إسْمَاعِيلُ وَالْخِلَافُ كَثِيرٌ فِي أَوّلِ مَنْ تَكَلّمَ بِالْعَرَبِيّةِ .
وَفِي أَوّلِ مَنْ أَدْخَلَ الْكِتَابَ الْعَرَبِيّ أَرْضَ الْحِجَازِ . فَقِيلَ
حَرْبُ بْنُ أُمَيّةَ . قَالَهُ الشّعْبِيّ . وَقِيلَ هُوَ شَعْبَانُ بْنُ
أُمَيّةَ . وَقِيلَ عَبْدُ بْنُ قُصَيّ تَعَلّمَهُ بِالْحِيرَةِ أَهْلُ الْحِيرَةِ
مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ .
إدْرِيسُ
قَالَ الْمُؤَلّفُ ثُمّ نَرْجِعُ الْآنَ إلَى مَا كُنّا بِصَدَدِهِ . فَنَقُولُ
إنّ إدْرِيسَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - قَدْ قِيلَ إنّهُ إلْيَاسُ وَإِنّهُ لَيْسَ
بِجَدّ لِنُوحِ . وَلَا هُوَ فِي عَمُودِ هَذَا النّسَبِ . وَكَذَلِكَ سَمِعْت
شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللّهُ - يَقُولُ - وَيَسْتَشْهِدُ
بِحَدِيثِ الْإِسْرَاءِ - فَإِنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
كُلّمَا لَقِيَ نَبِيّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الّذِينَ لَقِيَهُمْ لَيْلَةَ
الْإِسْرَاءِ قَالَ مَرْحَبًا بِالنّبِيّ الصّالِحِ وَالْأَخِ الصّالِحِ . وَقَالَ
لَهُ آدَمُ مَرْحَبًا بِالنّبِيّ الصّالِحِ وَالِابْنِ الصّالِحِ . كَذَلِكَ قَالَ
لَهُ إبْرَاهِيمُ . وَقَالَ لَهُ إدْرِيسُ وَالْأَخُ الصّالِحُ . فَلَوْ كَانَ فِي
عَمُودِ نَسَبِهِ لَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لَهُ أَبُوهُ إبْرَاهِيمُ وَأَبُوهُ
آدَمُ وَلِخَاطِبِهِ بِالْبُنُوّةِ وَلَمْ يُخَاطِبْهُ بِالْأُخُوّةِ . وَهَذَا
الْقَوْلُ عِنْدِي أَنْبَلُ وَالنّفْسُ إلَيْهِ أَمْيَلُ لَمّا عَضّدَهُ مِنْ
هَذَا الدّلِيلِ . وَقَالَ إدْرِيسُ بْنُ يُرِدْ وَتَفْسِيرُهُ الضّابِطُ . ابْنُ
مهْلائِيل ، وَتَفْسِيرُهُ الْمُمَدّحُ وَفِي زَمَنِهِ كَانَ بَدْءُ عِبَادَةِ
الْأَصْنَامِ . [ ص 37 ] ابْنِ قَيْنَانَ " وَتَفْسِيرُهُ الْمُسْتَوَى .
" ابْنِ أَنُوشِ " وَتَفْسِيرُهُ الصّادِقُ وَهُوَ بِالْعَرَبِيّةِ
أَنَشّ وَهُوَ أَوّلُ مَنْ غَرَسَ النّخْلَةَ وَبَوّبَ الْكَعْبَةَ وَبَذَرَ الْحَبّةَ
فِيمَا ذَكَرُوا ، " ابْنِ شيث " وَهُوَ بالسريانية : شاث . وبالعبرانية
: شيث . وَتَفْسِيرُهُ عَطِيّةُ اللّهِ " ابْنُ آدَمَ " .
آدَمُ
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ قِيلَ هُوَ اسْمٌ سُرْيَانِيّ وَقِيلَ هُوَ أَفْعَلُ
مِنْ الْأُدْمَةِ . وَقِيلَ أُخِذَ مِنْ لَفْظِ الْأَدِيمِ . لِأَنّهُ خُلِقَ مِنْ
أَدِيمِ الْأَرْضِ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ . وَذَكَرَ قَاسِمُ بْنُ
ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْمُسْتَنِيرِ . وَهُوَ قُطْرُبٌ
أَنّهُ قَالَ لَوْ كَانَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ لَكَانَ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ
وَكَانَتْ الْهَمْزَةُ أَصْلِيّةً فَلَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُ مِنْ الصّرْفِ مَانِعٌ
وَإِنّمَا هُوَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ مِنْ الْأُدْمَةِ . وَلِذَلِكَ جَاءَ غَيْرَ
مُجْرًى . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِشَيْءِ ؛ لِأَنّهُ لَا
يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَدِيمِ وَيَكُونَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ .
تَدْخُلُ الْهَمْزَةُ الزّائِدَةُ عَلَى الْهَمْزَةِ الْأَصْلِيّةِ كَمَا تَدْخُلُ
عَلَى هَمْزَةِ الْأُدْمَةِ . فَأَوّلُ الْأُدْمَةِ هَمْزَةٌ أَصْلِيّةٌ .
فَكَذَلِكَ أَوّلُ الْأَدِيمِ هَمْزَةٌ أَصْلِيّةٌ . فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ
يُبْنَى مِنْهَا أَفْعَلُ . فَيَكُونُ غَيْرَ مُجْرًى . كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ
أَعْيَنُ وَأَرْأَسُ مِنْ الْعَيْنِ وَالرّأْسِ . وَأَسْوَقُ وَأَعْنَقُ مِنْ
السّاقِ وَالْعُنُقِ . مَعَ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِقَوْلِ
السّلَفِ الّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ مِنْهُ لِسَانًا ، وَأَذْكَى جِنَانًا .
حُكْمُ التّكَلّمِ فِي الْأَنْسَابِ
قَالَ الْمُؤَلّفُ وَإِنّمَا تَكَلّمْنَا فِي رَفْعِ هَذَا النّسَبِ عَلَى
مَذْهَبِ مَنْ رَأَى ذَلِكَ مِنْ الْعُلَمَاءِ . [ ص 38 ] وَالطّبَرِيّ وَالْبُخَارِيّ
والزبيريين ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَأَمّا مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللّهُ
- فَقَدْ سُئِلَ عَنْ الرّجُلِ يَرْفَعُ نَسَبَهُ إلَى آدَمَ فَكَرِهَ ذَلِكَ .
قِيلَ لَهُ فَإِلَى إسْمَاعِيلَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا . وَقَالَ وَمَنْ
يُخْبِرْهُ بِهِ ؟ وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يَرْفَعَ فِي نَسَبِ الْأَنْبِيَاءِ
مِثْلَ أَنْ يُقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ . قَالَ وَمَنْ
يُخْبِرْهُ بِهِ ؟ وَقَعَ هَذَا الْكَلَامُ لِمَالِكِ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ
الْمَنْسُوبِ إلَى الْمُعَيْطِيّ وَإِنّمَا أَصْلُهُ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ
مُحَمّدِ بْنِ حُنَيْنٍ . وَتَمّمَهُ الْمُعَيْطِيّ ، فَنَسَبَ إلَيْهِ . وَقَوْلُ
مَالِكٍ هَذَا نَحْوُ مِمّا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ أَنّهُ قَالَ
مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْرِفُ مَا بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ وَعَنْ ابْنِ
عَبّاسٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - قَالَ بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ
ثَلَاثُونَ أَبًا لَا يُعْرَفُونَ .
سِيَاقَةُ
النّسَبِ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ
أَبْنَاءُ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : [ ص 39 ] زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ ، عَنْ
مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ وَلَدَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ
- عَلَيْهِمْ السّلَامُ - اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا : نَابِتًا - وَكَانَ
أَكْبَرَهُمْ - وقيدر ، وَأَذْبُلَ وَمَنَشّا ، وَمِسْمَعًا ، وَمَاشَى ، وَدَمًا
، وَأَذَر ، وطيما ، وَيُطَوّرَا ، وَنُبِشَ وقيذما . وَأُمّهُمْ بِنْتُ مُضَاضِ
بْنِ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيّ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ مُضَاضٌ .
وَجُرْهُمُ بْنُ قَحْطَانَ - وَقَحْطَانُ أَبُو الْيَمَنِ كُلّهَا ، وَإِلَيْهِ
يَجْتَمِعُ نَسَبُهَا - ابْنُ عَابِرِ بْنِ شالَخ بْنِ أرْفَخْشَذ بْنِ سَامِ بْنِ
نُوحٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : جُرْهُمُ بْنُ يَقْطُنَ بْنِ عَيْبَرَ بْنِ شالَخ
، وَيَقْطُنُ هُوَ قَحْطَانُ بْنُ عَيْبَرَ بْنِ شالَخ . [ ص 40 ]
وَفَاةُ إسْمَاعِيلَ وَمَوْطِنُ أُمّهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ عُمْرُ إسْمَاعِيلَ - فِيمَا يَذْكُرُونَ -
مِائَةَ سَنَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمّ مَاتَ - رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ
عَلَيْهِ - وَدُفِنَ فِي الْحِجْرِ مَعَ أُمّهِ هَاجَرَ ، رَحِمَهُمْ اللّهُ
تَعَالَى . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَقُولُ الْعَرَبُ : هَاجَرُ وَآجَرُ
فَيُبْدِلُونَ الْأَلِفَ مِنْ الْهَاءِ كَمَا قَالُوا : هَرَاقَ الْمَاءَ
وَأَرَاقَ الْمَاءَ وَغَيْرَهُ وَهَاجَرُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ .S[ ص 39 ]
ذِكْرُ إسْمَاعِيلَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَبَنِيهِ
وَقَدْ كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - بَنُونَ سِوَى إسْحَاقَ
وَإِسْمَاعِيلَ مِنْهُمْ سِتّةٌ مِنْ قَطُورَا بِنْتِ يَقْطُرَ وَهُمْ مَدْيَانُ
وَزَمِرَانِ وَسُرُج بِالْجِيمِ وَنَقْشَانِ - وَمِنْ وَلَدِ نَقْشَانِ
الْبَرْبَرُ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ - وَأُمّهُمْ رِغْوَةُ . وَمِنْهُمْ نُشِقّ وَلَهُ
بَنُونَ آخَرُونَ مِنْ حَجّونِ بِنْتِ أَهَيّن ، وَهُمْ كَيْسَانُ وسورج
وَأُمَيْمُ وَلَوّطَانِ وَنَافِسُ . هَؤُلَاءِ بَنُو إبْرَاهِيمَ . [ ص 40 ]
ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَسْمَاءَ بَنِي إسْمَاعِيلَ وَلَمْ يَذْكُرْ بِنْتَه ،
وَهِيَ نَسْمَةُ بِنْتُ إسْمَاعِيلَ وَهِيَ امْرَأَةُ عيصو بْنِ إسْحَاقَ
وَوَلَدَتْ لَهُ الرّومَ وَفَارِسَ - فِيمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ - وَقَالَ أَشُكّ
فِي الْأَشْبَانِ هَلْ هِيَ أُمّهُمْ أَمْ لَا ؟ وَهُمْ مِنْ وَلَدِ عيصو ،
وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا : عِيصَا ، وَذَكَرَ فِي وَلَدِ إسْمَاعِيلَ طيما ،
وَقَيّدَهُ الدّارَقُطْنِيّ : ظُمْيًا بِظَاءِ مَنْقُوطَةٍ بَعْدَهَا مِيمٌ
كَأَنّهَا تَأْنِيثُ أَظْمَى ، وَالظّمَى مَقْصُورٌ سُمْرَةٌ فِي الشّفَتَيْنِ .
وَذَكَرَ دَمًا ، وَرَأَيْت لِلْبَكْرِيّ أَنّ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ عُرِفَتْ
بدوما بْنِ إسْمَاعِيلَ وَكَانَ نَزَلَهَا ، فَلَعَلّ دَمًا مُغَيّرٌ مِنْهُ
وَذُكِرَ أَنّ الطّورَ سُمّيَ بيطور بْنِ إسْمَاعِيلَ فَلَعَلّهُ مَحْذُوفُ
الْيَاءِ أَيْضًا - إنْ كَانَ صَحّ مَا قَالَهُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَأَمّا
الّذِي قَالَهُ أَهْلُ التّفْسِيرِ فِي الطّورِ ، فَهُوَ كُلّ جَبَلٍ يُنْبِتُ
الشّجَرَ فَإِنْ لَمْ يُنْبِتْ شَيْئًا فَلَيْسَ بِطُورِ وَأَمّا قيدر
فَتَفْسِيرُهُ عِنْدَهُمْ صَاحِبُ الْإِبِلِ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ صَاحِبَ إبِلِ
إسْمَاعِيلَ . قَالَ وَأُمّهُ هَاجَرُ . وَيُقَالُ فِيهَا : آجَرُ وَكَانَتْ
سُرّيّةً لِإِبْرَاهِيمَ وَهَبَتْهَا لَهُ سَارّةُ بِنْتُ عَمّهِ وَهِيَ سَارّةُ
بِنْتُ توبيل بْنِ نَاحُورٍ وَقِيلَ بِنْتُ هَارَانِ بْن نَاحُورٍ وَقِيلَ
هَارَانِ بِنْتُ تارِح . وَهِيَ بِنْتُ أَخِيهِ عَلَى هَذَا ، وَأُخْتُ لُوطٍ .
قَالَهُ الْقُتَبِيّ فِي الْمَعَارِفِ وَقَالَهُ النّقّاشُ فِي التّفْسِيرِ
وَذَلِكَ أَنّ نِكَاحَ بِنْتِ الْأَخِ كَانَ حَلّالَا إذْ ذَاكَ فِيمَا ذُكِرَ
ثُمّ نَقَضَ النّقّاشُ هَذَا الْقَوْلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : {
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ مَا وَصّى بِهِ نُوحًا } [ الشّورَى : 13 ] . إنّ
هَذَا يَدُلّ عَلَى تَحْرِيمِ بِنْتِ الْأَخِ عَلَى لِسَانِ نُوحٍ - عَلَيْهِ
السّلَامُ - وَهَذَا هُوَ الْحَقّ ، وَإِنّمَا تَوَهّمُوا [ ص 41 ] أَخِيهِ لِأَنّ
هَارَانِ أَخُوهُ وَهُوَ هَارَانِ الْأَصْغَرُ وَكَانَتْ هِيَ بِنْتُ هَارَانِ
الْأَكْبَرِ وَهُوَ عَمّهُ وَبَهَارَانِ سُمّيَتْ مَدِينَةُ حَرّانَ لِأَنّ
الْحَاءَ هَاءٌ بِلِسَانِهِمْ وَهُوَ سُرْيَانِيّ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ
إبْرَاهِيمَ إنّمَا نَطَقَ بالعبرانية حِينَ عَبَرَ النّهْرَ فَارّا مِنْ النمروذ
، وَكَانَ النمروذ قَدْ قَالَ لِلطّلَبِ الّذِينَ أَرْسَلَهُمْ فِي طَلَبِهِ إذَا
وَجَدْتُمْ فَتًى يَتَكَلّمُ بالسريانية ، فَرُدّوهُ فَلَمّا أَدْرَكُوهُ
اسْتَنْطَقُوهُ فَحَوّلَ اللّهُ لِسَانَهُ عِبْرَانِيّا ، وَذَلِكَ حِينَ عَبَرَ
النّهْرَ فَسُمّيَتْ الْعِبْرَانِيّةُ بِذَلِكَ وَأَمّا السّرْيَانِيّةُ فِيمَا
ذَكَرَ ابْنُ سَلَامٍ - فَسُمّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنّ اللّهَ - سُبْحَانَهُ - لَمّا
عَلّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلّهَا ، عَلّمَهُ سِرّا مِنْ الْمَلَائِكَةِ
وَأَنْطَقَهُ بِهَا حِينَئِذٍ وَكَانَتْ هَاجَرُ قَبْلَ ذَلِكَ لِمَلِكِ
الْأُرْدُنّ ، وَاسْمُهُ صَادُوقٌ - فِيمَا ذَكَرَ الْقُتَبِيّ - دَفَعَهَا إلَى
سَارّةَ حِينَ أَخَذَهَا مِنْ إبْرَاهِيمَ عَجَبًا مِنْهُ بِجَمَالِهَا ، فَصُرِعَ
مَكَانَهُ فَقَالَ اُدْعِي اللّهَ أَنْ يُطْلِقَنِي . الْحَدِيثَ وَهُوَ مَشْهُورٌ
فِي الصّحَاحِ ، فَأَرْسَلَهَا ، وَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ ، وَكَانَتْ هَاجَرُ
قَبْلَ ذَلِكَ الْمَلِكِ بِنْتِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكٍ الْقِبْطِ بِمِصْرِ ذَكَرَهُ
الطّبَرِيّ مِنْ حَدِيثِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ أَوْ غَيْرِهِ أَنّ عَمْرَو بْنَ
الْعَاصِ حِينَ حَاصَرَ مِصْرَ ، قَالَ لِأَهْلِهَا : إنّ نَبِيّنَا عَلَيْهِ
السّلَامُ قَدْ وَعَدَنَا بِفَتْحِهَا ، وَقَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَسْتَوْصِيَ
بِأَهْلِهَا خَيْرًا ، فَإِنّ لَهُمْ نَسَبًا وَصِهْرًا ، فَقَالُوا لَهُ هَذَا
نَسَبٌ لَا يَحْفَظُ حَقّهُ إلّا نَبِيّ ، لِأَنّهُ نَسَبٌ بَعِيدٌ . وَصَدَقَ
كَانَتْ أُمّكُمْ امْرَأَةً لِمَلِكِ مِنْ مُلُوكِنَا ، فَحَارَبْنَا أَهْلَ
عَيْنِ شَمْسٍ فَكَانَتْ لَهُمْ عَلَيْنَا دَوْلَةٌ فَقَتَلُوا الْمَلِكَ
وَاحْتَمَلُوهَا ، فَمِنْ هُنَاكَ تَصَيّرَتْ إلَى أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ - أَوْ
كَمَا قَالُوا - وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ الْمَلِكَ الّذِي أَرَادَ سَارّةَ هُوَ
سِنَانُ بْنُ عِلْوَانَ وَأَنّهُ أَخُو الضّحّاكِ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ وَفِي
كِتَابِ التّيجَانِ لِابْنِ هِشَامٍ أَنّهُ عَمْرُو بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ
بَابِلْيُونَ بْنِ سَبَأٍ ، وَكَانَ عَلَى مِصْرَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَهَاجَرُ
أَوّلُ امْرَأَةٍ ثَقَبَتْ أُذُنَاهَا ، وَأَوّلُ مَنْ خُفِضَ مِنْ النّسَاءِ
وَأَوّلُ مَنْ جَرّتْ ذَيْلَهَا ، وَذَلِكَ أَنّ سَارّةَ غَضِبَتْ عَلَيْهَا ،
فَحَلَفَتْ أَنْ تَقْطَعَ ثَلَاثَةَ أَعْضَاءٍ مِنْ أَعْضَائِهَا ، فَأَمَرَهَا
إبْرَاهِيمُ [ ص 42 ] تَبَرّ قَسَمَهَا بِثَقْبِ أُذُنَيْهَا وَخِفَاضِهَا ،
فَصَارَتْ سُنّةً فِي النّسَاءِ وَمِمّنْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ ابْنُ أَبِي
زَيْدٍ فِي نَوَادِرِهِ . وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ نَبِيّ مُرْسَلٌ
أَرْسَلَهُ اللّهُ تَعَالَى إلَى أَخْوَالِهِ مِنْ جُرْهُمٍ وَإِلَى الْعَمَالِيقِ
الّذِينَ كَانُوا بِأَرْضِ الْحِجَازِ ، فَآمَنَ بَعْضٌ وَكَفَرَ بَعْضٌ .
وَقَوْلُهُ وَأُمّهُمْ بِنْتُ مُضَاضٍ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَهَا . وَاسْمُهَا :
السّيّدَةُ ذَكَرَهُ الدّارَقُطْنِيّ . وَقَدْ كَانَ لَهُ امْرَأَةٌ سِوَاهَا مِنْ
جُرْهُمٍ ، وَهِيَ الّتِي أَمَرَهُ أَبُوهُ بِتَطْلِيقِهَا حِينَ قَالَ لَهَا
إبْرَاهِيمُ قُولِي لِزَوْجِك : فَلْيُغَيّرْ عَتَبَتَهُ يُقَالُ اسْمُهَا :
جِدَاءُ بِنْتُ سَعْدٍ ثُمّ تَزَوّجَ أُخْرَى ، وَهِيَ الّتِي قَالَ لَهَا
إبْرَاهِيمُ فِي الزّوْرَةِ الثّانِيَةِ قُولِي لِزَوْجِك : فَلْيُثَبّتْ عَتَبَةَ
بَيْتِهِ الْحَدِيثَ وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي الصّحَاحِ أَيْضًا يُقَالُ اسْمُ هَذِهِ
الْآخِرَةِ سَامَةُ بِنْتُ مُهَلْهِلٍ ذَكَرَهُمَا ، وَذَكَرَ الّتِي قَبْلَهَا
الْوَاقِدِيّ فِي كِتَابِ " انْتِقَالِ النّورِ " وَذَكَرَهَا الْمَسْعُودِيّ
أَيْضًا وَقَدْ قِيلَ فِي الثّانِيَةِ عَاتِكَةُ .
حَدِيثٌ
فِي الْوَصَاةِ بِأَهْلِ مِصْرَ
[ ص 41 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ لَهِيعَةَ ، عَنْ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - قَالَ اللّهَ اللّهَ فِي أَهْلِ
الذّمّةِ ، أَهْلِ الْمَدَرَةِ السّوْدَاءِ السّحْمِ الْجِعَادِ فَإِنّ لَهُمْ
نَسَبًا وَصِهْرًا [ ص 42 ] قَالَ عُمَرُ مَوْلَى غُفْرَةَ : نَسَبُهُمْ أَنّ أُمّ
إسْمَاعِيلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْهُمْ . وَصِهْرُهُمْ
أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - تَسَرّرَ فِيهِمْ
. قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ أُمّ إسْمَاعِيلَ هَاجَرُ ، مِنْ " أُمّ الْعَرَبِ
" قَرْيَةٍ كَانَتْ أَمَامَ الفَرَما مِنْ مِصْرَ وَأُمّ إبْرَاهِيمَ :
مَارِيَةُ سُرّيّةُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - الّتِي
أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ مِنْ حَفْنٍ ، مِنْ كُورَةِ أَنَصّنَا . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ
شِهَابٍ الزّهْرِيّ : أَنّ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ الْأَنْصَارِيّ ثُمّ السّلَمِيّ حَدّثَهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - قَالَ إذَا افْتَتَحْتُمْ مِصْرَ ،
فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا ، فَإِنّ لَهُمْ ذِمّةً وَرَحِمًا "
فَقُلْت لِمُحَمّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزّهْرِيّ : مَا الرّحِمُ الّتِي ذَكَرَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - لَهُمْ ؟ فَقَالَ
كَانَتْ هَاجَرُ أُمّ إسْمَاعِيلَ مِنْهُمْ [ ص 43 ]Sهَدَايَا
الْمُقَوْقِسِ
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ ، وَغُفْرَةُ هَذِهِ هِيَ أُخْتُ
بِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ . وَقَوْلُ مَوْلَى غُفْرَةَ هَذَا : إنّ صِهْرَهُمْ
لِكَوْنِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - تَسَرّرَ مِنْهُمْ
يَعْنِي : مَارِيَةَ بِنْتَ شمعون الّتِي أَهْدَاهَا إلَيْهِ الْمُقَوْقِسُ ،
وَاسْمُهُ جُرَيْجُ بْنُ مِينَاءٍ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ أَرْسَلَ إلَيْهِ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ
وَجَبْرًا مَوْلَى أَبِي رُهْمٍ الْغِفَارِيّ فَقَارَبَ الْإِسْلَامَ وَأَهْدَى
مَعَهُمَا إلَى النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَغْلَتَهُ الّتِي
يُقَالُ لَهَا دُلْدُلُ وَالدّلْدُلُ الْقُنْفُذُ الْعَظِيمُ وَأَهْدَى إلَيْهِ
مَارِيَةَ بِنْتَ شمعون ، وَالْمَارِيَةُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ الْبَقَرَةُ
الْفَتِيّةُ بِخَطّ ابْنِ سِرَاجٍ يَذْكُرُهُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْمُطَرّزِ .
وَأَمّا الْمَارِيّةُ بِالتّشْدِيدِ فَيُقَالُ قَطَاةٌ مَارِيّةٌ أَيْ مَلْسَاءُ
قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبِ الْمُصَنّفِ . وَأَهْدَى إلَيْهِ أَيْضًا
قَدَحًا مِنْ قَوَارِيرَ فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- يَشْرَبُ فِيهِ . رَوَاهُ ابْنُ عَبّاسٍ ، فَيُقَالُ أَنّ هِرْقِلَ عَزَلَهُ
لَمّا رَأَى مِنْ مَيْلِهِ إلَى الْإِسْلَامِ . وَمَعْنَى الْمُقَوْقِسِ :
الْمُطَوّلُ لِلْبِنَاءِ وَالْقُوسُ الصّوْمَعَةُ الْعَالِيَةُ ، يُقَالُ فِي
مَثَلٍ أَنَا فِي الْقُوسِ وَأَنْتَ فِي الْقَرَقوُسِ مَتَى نَجْتَمِعُ ؟ وَقَوْلُ
ابْنِ لَهِيعَةَ بِالْفَرَمَا مِنْ مِصْرَ . الفَرَما : مَدِينَةٌ كَانَتْ
تُنْسَبُ إلَى صَاحِبِهَا الّذِي بَنَاهَا ، وَهُوَ الفَرَما بْنُ قيلقوس ،
وَيُقَالُ فِيهِ ابْنُ قَلِيس ، وَمَعْنَاهُ مُحِبّ الْغَرْسِ وَيُقَالُ فِيهِ
ابْنُ بِلِيسِ . ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيّ . وَالْأَوّلُ قَوْلُ الطّبَرِيّ ،
وَهُوَ أَخُو الْإِسْكَنْدَرِ بْنِ قَلِيس الْيُونَانِيّ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ
الْإِسْكَنْدَرَ حِينَ بَنَى مَدِينَةَ الإسكندرية قَالَ أَبْنِي مَدِينَةً
فَقِيرَةً إلَى اللّهِ غَنِيّةً [ ص 44 ] وَقَالَ الْفَرْمَا : أُبْنَى مَدِينَةٌ
فَقِيرَةٌ إلَى النّاسِ غَنِيّةٌ عَنْ اللّهِ فَسَلّطَ اللّهُ عَلَى مَدِينَةِ
الْفَرْمَا الْخَرَابَ سَرِيعًا ، فَذَهَبَ رَسْمُهَا ، وَعَفَا أَثَرُهَا ،
وَبَقِيَتْ مَدِينَةُ الْإِسْكَنْدَرِ إلَى الْآنَ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ
عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ حِينَ افْتَتَحَ مِصْرَ ، وَقَفَ عَلَى آثَارِ مَدِينَةِ
الْفَرْمَا ، فَسَأَلَ عَنْهَا ، فَحَدّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَاَللّهُ أَعِلْمُ
.
مِصْرُ وَحَفّنِ
وَأَمّا مِصْرُ فَسُمّيَتْ بِمِصْرِ بْنِ النّبَيْطِ وَيُقَالُ ابْنُ قِبْطِ بْنُ
النّبَيْطِ مِنْ وَلَدِ كُوشِ بْنِ كَنْعَانَ . وَأَمّا حَفّنِ الّتِي ذَكَرَ
أَنّهَا قَرْيَةُ أُمّ إبْرَاهِيمَ بْنِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - فَقَرْيَةٌ بِالصّعِيدِ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ الّتِي كَلّمَ الْحَسَنُ
بْنُ عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا - مُعَاوِيَةَ أَنْ يَضَعَ الْخَرَاجَ عَنْ
أَهْلِهَا ، فَفَعَلَ مُعَاوِيَةُ ذَلِكَ حِفْظًا لِوَصِيّةِ رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِهِمْ وَرِعَايَةً لِحُرْمَةِ الصّهْرِ
ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ وَذَكَرَ " أَنَصّنَا
" وَهِيَ قَرْيَةٌ بِالصّعِيدِ يُقَالُ إنّهَا كَانَتْ مَدِينَةَ السّحَرَةِ
. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا يَنْبُتُ اللّبْخُ إلّا بأنصنا ، وَهُوَ عُودٌ
تُنْشَرُ مِنْهُ أَلْوَاحٌ لِلسّفُنِ وَرُبّمَا ، رَعَفَ نَاشِرُهَا ، وَيُبَاعُ
اللّوْحُ مِنْهَا بِخَمْسِينَ دِينَارًا ، أَوْ نَحْوِهَا ، وَإِذَا شُدّ لَوْحٌ
مِنْهَا بِلَوْحِ وَطُرِحَ فِي الْمَاءِ سَنَةً الْتَأَمَا ، وَصَارَا لَوْحًا
وَاحِدًا .
أَصْلُ
الْعَرَبِ وَأَوْلَادُ عَدْنَانَ وَمَعَدّ وَقُضَاعَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [ ص 43 ] أَهْلِ الْيَمَنِ يَقُولُ قَحْطَانُ مِنْ وَلَدِ
إسْمَاعِيلَ وَيَقُولُ إسْمَاعِيلُ أَبُو الْعَرَبِ كُلّهَا . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : عَادُ بْنُ عَوْصِ بْنِ إرَمِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَثَمُودُ وجديس
ابْنَا عَابِرِ بْنِ إرَمِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَطسم وَعِمْلَاق وَأُمَيْمُ
بَنُو لَاوِذْ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ . عَرَبٌ كُلّهُمْ فَوَلَدُ نَابِتِ بْنِ
إسْمَاعِيلَ : يَشْجُبُ بْنُ نَابِتٍ فَوَلَدَ يَشْجُبُ يَعْرُبَ بْنَ يَشْجُبَ
فَوَلَدُ يَعْرُبَ تَيْرَح بْنُ يَعْرُبَ فَوَلَدَ تَيْرَح : ناحورَ بْنِ تَيْرَح
، فَوَلَدَ ناحورَ مُقَوّمَ بْنَ نَاحُورٍ : فَوَلَدَ مُقَوّمٌ أُدَدَ بْنَ
مُقَوّمٍ فَوَلَدَ أُدَدُ عَدْنَانَ بْنَ أُدَدٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَيُقَالُ عَدْنَانَ بْنَ أُدّ . [ ص 44 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَمِنْ
عَدْنَانَ تَفَرّقَتْ الْقَبَائِلُ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ -
عَلَيْهِمَا السّلَامُ - فَوَلَدَ عَدْنَانُ رَجُلَيْنِ مَعَدّ بْنَ عَدْنَانَ ،
وَعَكّ بْنَ عَدْنَانَ . [ ص 45 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَصَارَتْ عَكّ فِي دَارِ
الْيَمَنِ ، وَذَلِكَ أَنّ عَكّا تَزَوّجَ فِي الْأَشْعَرِيّينَ فَأَقَامَ فِيهِمْ
فَصَارَتْ الدّارُ وَاللّغَةُ وَاحِدَةً والأشعريون : بَنُو أَشْعَرِ بْنِ نَبْتِ
بْنِ أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ همَيْسَع بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ يَشْجُبَ
بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانِ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ
قَحْطَانَ وَيُقَالُ أَشْعَرُ نَبْتُ بْنُ أُدَدٍ وَيُقَالُ أَشْعَرُ بْنُ مَالِكٍ
وَمَالِكٌ مُذْحِجُ بْنُ أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ همَيْسَع . وَيُقَالُ أَشْعَرُ
بْنُ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ . [ ص 46 ] أَبُو مُحْرِزٍ خَلَفٌ الْأَحْمَرُ ،
وَأَبُو عُبَيْدَةَ لِعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَحَدِ بَنِي سُلَيْمِ بْنِ
مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ
بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَانَ ، يَفْخَرُ بِعَكّ
وَعَكّ بْنُ عَدْنَانَ الّذِينَ تَلَقّبُوا ... بِغَسّانِ حَتّى طُرّدُوا كُلّ
مَطْرَدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَغَسّانُ : مَاءٌ بِسَدّ مَأْرَبٍ
بِالْيَمَنِ كَانَ شِرْبًا لِوَلَدِ مَازِنِ بْنِ الْأَسَدِ بْنِ الْغَوْثِ ،
فَسُمّوا بِهِ وَيُقَالُ غَسّانُ : مَاءٌ بِالْمُشَلّلِ قَرِيبٌ مِنْ الْجُحْفَةِ
، وَاَلّذِينَ شَرِبُوا مِنْهُ تَحَزّبُوا ، فَسُمّوا بِهِ قَبَائِلَ مِنْ وَلَدِ
مَازِنِ بْنِ الْأَشَدّ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
كَهْلَانَ ، بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ . [ ص 47 ]Sعِكْ
فَصْلٌ وَذَكَرَ عِكْ بْنَ عَدْنَانَ ، وَأَنّ بَعْضَ أَهْلِ الْيَمَنِ يَقُولُ
فِيهِ عِكْ بْنُ عَدْنَانَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، بْنِ الْأَزْدِ ، وَذَكَرَ
الدّارَقُطْنِيّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَنْ ابْنِ الْحُبَابِ أَنّهُ قَالَ فِيهِ
عَكّ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُدْثَانَ بِالثّاءِ الْمُثَلّثَةِ وَلَا خِلَافَ
فِي الْأَوّلِ أَنّهُ بِنُونَيْنِ كَمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِي دَوْسِ بْنِ
عُدْثَانَ أَنّهُ بِالثّاءِ وَهِيَ قَبِيلَةٌ مِنْ الْأَزْدِ أَيْضًا ، وَاسْمُ
عَكّ عَامِرٌ . وَالدّيْثُ الّذِي ذَكَرَهُ هُوَ بِالثّاءِ وَقَالَهُ الزّبَيْرُ الذّيْبُ
بِالذّالِ وَالْيَاءِ وَلِعَدْنَانَ أَيْضًا ابْنٌ اسْمُهُ الْحَارِثُ وَآخَرُ
يُقَالُ لَهُ الْمُذَهّبُ وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي الْمَثَلِ أَجْمَل من الْمُذَهّبِ
وَقَدْ ذَكَرَ أَيْضًا فِي بَنِيهِ الضّحّاكَ وَقِيلَ فِي الضّحّاكِ إنّهُ ابْنُ
مَعَدّ لَا ابْنَ عَدْنَانَ وَقِيلَ إنّ عَدَنَ الّذِي تُعْرَفُ بِهِ مَدِينَةُ [
ص 45 ] عَدَنٍ ، وَكَذَلِكَ أَبْيَنُ هُمَا : ابْنَا عَدْنَانَ قَالَهُ الطّبَرِيّ
. وَلِعَدْنَانَ بْنِ أُدَدٍ أَخَوَانِ نَبْتُ بْنُ أُدَدٍ وَعَمْرُو بْنُ أُدَدٍ
. قَالَهُ الطّبَرِيّ أَيْضًا .
ذِكْرُ قَحْطَانَ وَالْعَرَبِ الْعَارِبَةِ
أَمّا قَحْطَانُ فَاسْمُهُ مِهْزَمٌ - فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ مَاكُولَا - وَكَانُوا
أَرْبَعَةَ إخْوَةٍ فِيمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مُنَبّهٍ قَحْطَانُ وَقَاحِطٌ
وَمِقْحَطٌ وَفَالِغٌ . وَقَحْطَانُ أَوّلُ مَنْ قِيلَ لَهُ أَبَيْت اللّعْنَ
وَأَوّلُ مَنْ قِيلَ لَهُ عِمْ صَبَاحًا ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ هُوَ ابْنُ
عَابِرِ بْنِ شالَخ ، وَقِيلَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللّهِ أَخُو هُودٍ ، وَقِيلَ
هُوَ هُودٌ نَفْسُهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ إرَمِ بْنِ سَامٍ وَمَنْ
جَعَلَ الْعَرَبَ كُلّهَا مِنْ إسْمَاعِيلَ قَالُوا فِيهِ هُوَ ابْنُ تَيْمَنَ
بْنِ قَيْذَرَ بْنِ إسْمَاعِيلَ . وَيُقَالُ هُوَ ابْنُ الْهَمَيْسَعِ بْنِ يَمَنِ
وَبِيَمَنِ سُمّيَتْ الْيَمَنُ فِي قَوْلٍ وَقِيلَ بَلْ سُمّيَتْ بِذَلِكَ
لِأَنّهَا عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ . وَتَفْسِيرُ الْهَمَيْسَعِ الصّرّاعُ .
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يَمَنُ هُوَ . يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ سُمّيَ بِذَلِكَ
لِأَنّ هُودًا عَلَيْهِ السّلَامُ قَالَ لَهُ أَنْتَ أَيْمَنُ وَلَدَيْ نَقِيبَةَ
فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ . قَالَ وَهُوَ أَوّلُ مَنْ قَالَ الْقَرِيضَ وَالرّجَزَ
وَهُوَ الّذِي أَجْلَى بَنِي حَام ٍ إلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا
يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِنْ وَلَدِ قُوطَةَ بْنِ يَافِثٍ . قَالَ وَهِيَ أَوّلُ
جِزْيَةٍ وَخَرَاجٍ أُخِذَتْ فِي بَنِي آدَمَ . وَقَدْ احْتَجّوا لِهَذَا
الْقَوْلِ أَعْنِي : أَنّ قَحْطَانَ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ
يَقُولُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ارْمُوا يَا بَنِي
إسْمَاعِيلَ فَإِنّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لِقَوْمِ مِنْ
أَسْلَمَ بْنِ أَفْصَى ، وَأَسْلَمُ أَخُو خُزَاعَةَ وَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، وَهُمْ مِنْ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ
يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ ، وَلَا حُجّةَ عِنْدِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِأَهْلِ
هَذَا الْقَوْلِ لِأَنّ الْيَمَنَ لَوْ كَانَتْ مِنْ إسْمَاعِيلَ - مَعَ أَنّ
عَدْنَانَ كُلّهَا مِنْ إسْمَاعِيلَ بِلَا شَكّ - لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ
هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِالنّسَبِ إلَى إسْمَاعِيلَ مَعْنًى ، لِأَنّ غَيْرَهُمْ
مِنْ الْعَرَبِ أَيْضًا أَبُوهُمْ إسْمَاعِيلُ وَلَكِنْ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ [
ص 46 ] أَعْلَمُ - عَلَى أَنّ خُزَاعَةَ مِنْ بَنِي قَمَعَةَ أَخِي مُدْرِكَةَ
بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ
عِنْدَ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ لُحَيّ - إنْ شَاءَ اللّهُ - وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي
هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - هِيَ أُمّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السّمَاءِ
يَعْنِي : هَاجَرَ ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَأَوّلَ فِي قَحْطَانَ مَا
تَأَوّلَهُ غَيْرُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَسَبُهُمْ إلَى " مَاءِ
السّمَاءِ عَلَى زَعْمِهِمْ " فَإِنّهُمْ يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ كَمَا يَنْتَسِبُ
كَثِيرٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ إلَى حَاضِنَتِهِمْ وَإِلَى رَابّهِمْ أَيْ
زَوْجِ أُمّهِمْ - كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِ قُضَاعَةَ إنْ شَاءَ
اللّهُ .
سَبَأُ وَأُمَيْمٌ وَوِبَارٌ
وَسَبَأٌ اسْمُهُ عَبْدُ شَمْسٍ - كَمَا ذُكِرَ - وَكَانَ أَوّلَ مَنْ تَتَوّجَ
مِنْ مُلُوكِ الْعَرَبِ ، وَأَوّلَ مَنْ سَبَى فَسُمّيَ سَبَأً ، وَلَسْت مِنْ
هَذَا الِاشْتِقَاقِ عَلَى يَقِينٍ لِأَنّ سَبَأَ مَهْمُوزٌ وَالسّبْيُ غَيْرُ
مَهْمُوزٍ . وَذَكَرَ أُمَيْمًا ، وَيُقَالُ فِيهِ أَمِيمٌ وَوَجَدْت بِخَطّ
أَشْيَاخٍ مَشَاهِيرَ أَمّيمٌ وَأَمّيمٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ
الْمِيمِ مَكْسُورَةً وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْكَلَامِ وَالْعَرَبُ تَضْطَرِبُ
فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْقَدِيمَةِ قَالَ الْمَعْرِيّ :
يَرَاهُ بَنُو الدّهْرِ الْأَخِيرِ بِحَالِهِ ... كَمَا قَدْ رَأَتْهُ جُرْهُمٌ وَأَمِيمُ
فَجَاءَ بِهِ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَأُمَيْمٌ - فِيمَا
ذَكَرُوا - أَوّلُ مَنْ سَقّفَ الْبُيُوتَ بِالْخَشْبِ الْمَنْشُورِ وَكَانَ
مَلِكًا ، وَكَانَ يُسَمّى : آدَمَ وَهُوَ عِنْدَ الْفُرْسِ : آدَمُ الصّغِيرُ
وَوَلَدُهُ [ ص 47 ] هَالَتْ الرّيَاحُ الرّمْلَ عَلَى فِجَاجِهِمْ
وَمَنَاهِلِهِمْ فَهَلَكُوا . قَالَ الشّاعِرُ
وَكَرّ دَهْرٌ عَلَى وَبَارٍ ... فَأُهْلِكَتْ عَنْوَةً وَبَارُ
وَالنّسَبُ إلَيْهِ أَبَارِيّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَمِنْ الْعَمَالِيقِ مُلُوكُ
مِصْرَ الْفَرَاعِنَةُ مِنْهُمْ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبٍ صَاحِبُ مُوسَى
وَقَابُوسُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ إرَاشَةَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ بْنِ عِمْليق أَخُو الْأَوّلِ وَمِنْهُمْ الرّيّانُ بْنُ الْوَلِيدِ
صَاحِبُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَيُقَالُ فِيهِ ابْنُ دومع فِيمَا ذَكَرَ
الْمَسْعُودِيّ . وَأَمّا طَسْمٌ وَجَدِيسٌ فَأَفْنَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَتَلَتْ
طَسْمٌ جَدِيسًا لِسُوءِ مَلَكَتِهِمْ إيّاهُمْ وَجَوْرِهِمْ فِيهِمْ فَأَفْلَتْ
مَعَهُمْ رَجُلٌ اسْمُهُ رَبَاحُ بْنُ مُرّةَ فَاسْتَصْرَخَ بِتُبّعِ وَهُوَ
حَسّانُ بْنُ تُبّانَ أَسْعَدَ وَكَانَتْ أُخْتُهُ الْيَمَامَةُ ، وَاسْمُهَا
عَنَزُ نَاكِحًا فِي طَسْمٍ وَكَانَ هَوَاهَا مَعَهُمْ فَأَنْذَرَتْهُمْ فَلَمْ
يَقْبَلُوا ، فَصَبّحَتْهُمْ جُنُودُ تُبّعٍ فَأَفَنُوهُمْ قَتْلًا ، وَصَلَبُوا
الْيَمَامَةَ الزّرْقَاءَ بِبَابِ جَوّ وَهِيَ الْمَدِينَةُ ، فَسُمّيَتْ جَوّ
بِالْيَمَامَةِ مِنْ هُنَالِكَ إلَى الْيَوْمِ وَذَلِكَ فِي أَيّامِ مُلُوكِ
الطّوَائِفِ وَبَقِيَتْ بَعْدَ طَسْمٍ يَبَابًا لَا يَأْكُلُ ثَمَرَهَا إلّا
عَوَافِي الطّيْرِ وَالسّبَاعِ حَتّى وَقَعَ عَلَيْهَا عُبَيْدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ
الْحَنَفِيّ ، وَكَانَ رَائِدًا لِقَوْمِهِ فِي الْبِلَادِ فَلَمّا أَكَلَ
الثّمَرَ قَالَ إنّ هَذَا لَطَعَامٌ وَحَجّرَ بِعَصَاهُ عَلَى مَوْضِعِ قَصَبَةِ
الْيَمَامَةِ ، فَسُمّيَتْ حِجْرًا ، وَهِيَ مَنَازِلُ حَنِيفَةَ إلَى الْيَوْمِ
وَخَبَرُ طَسْمٍ وَجَدِيسٍ مَشْهُورٌ اقْتَصَرْنَا مَعَهُ عَلَى هَذِهِ النّبْذَةِ
لِشُهْرَتِهِ عِنْدَ الْإِخْبَارِيّينَ .
نَسَبُ
الْأَنْصَارِ
قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ [ ص 48 ] وَالْأَنْصَارُ بَنُو
الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، ابْنَيْ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو ، بْنِ
عَامِرِ ، بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ
بْنِ الْأَسَدِ بْنِ الْغَوْثِ :
إمّا سَأَلْتِ فَإِنّا مَعْشَرٌ نُجُبٌ ... الْأَسْدُ نِسْبَتُنَا وَالْمَاءُ
غَسّانُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . [ ص 49 ]Sذِكْرُ
نَسَبِ الْأَنْصَارِ
[ ص 48 ] الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ ، وَالْأَوْسُ : الذّئْبُ وَالْعَطِيّةُ أَيْضًا
، وَالْخَزْرَجُ : الرّيحُ الْبَارِدَةُ وَلَا أَحْسَبُ الْأَوْسَ فِي اللّغَةِ
إلّا الْعَطِيّةَ خَاصّةً وَهِيَ مَصْدَرُ أُسْته وَأَمّا أَوْسٌ الّذِي هُوَ
الذّئْبُ فَعَلَمٌ كَاسْمِ الرّجُلِ وَهُوَ كَقَوْلِك : أُسَامَةَ فِي اسْمِ
الْأَسَدِ . وَلَيْسَ أَوْسٌ إذَا أَرَدْت الذّئْبَ كَقَوْلِك : ذِئْبٌ وَأَسَدٌ ،
وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجُمِعَ وَعُرّفَ - قَالَ - كَمَا يُفْعَلُ بِأَسْمَاءِ
الْأَجْنَاسِ وَلَقِيلَ فِي الْأُنْثَى : أَوْسَةٌ كَمَا يُقَالُ ذِئْبَةٌ وَفِي
الْحَدِيثِ مَا يُقَوّي هَذَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ " هَذَا
أُوَيْسٌ يَسْأَلُكُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ " فَقَالُوا : " لَا تَطِيبُ
لَهُ أَنْفُسُنَا بِشَيْءِ " وَلَمْ يَقُلْ هَذَا الْأَوْسُ فَتَأَمّلْهُ
وَلَيْسَ أَوْسٌ عَلَى هَذَا مِنْ الْمُسَمّيْنَ بِالسّبَاعِ وَلَا مَنْقُولًا
مِنْ الْأَجْنَاسِ إلّا مِنْ الْعَطِيّةِ خَاصّةً [ ص 49 ] مُزَيْقِيَاءُ لِأَنّهُ
- فِيمَا ذَكَرُوا - كَانَ يُمَزّقُ كُلّ يَوْمٍ حُلّةً . ابْنُ عَامِرٍ وَهُوَ
مَاءُ السّمَاءِ . ابْنُ حَارِثَةَ الْغِطْرِيفُ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَهُوَ
الْبُهْلُولُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الصّنَمُ بْنِ مَازِنِ السّرَاجِ ابْنِ الْأَسَدِ
وَيُقَالُ لِثَعْلَبَةَ أَبِيهِ الصّنَمُ وَكَانَ يُقَالُ لِثَعْلَبَةَ ابْنُ
عَمْرٍو جَدّ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ : ثَعْلَبَةُ الْعَنْقَاءُ وَكَأَنّهُمْ
مُلُوكٌ مُتَوَجّونَ وَمَاتَ حَارِثَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الْعَنْقَاءُ وَالِدُ
الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ ظُهُورِهِمْ عَلَى الرّومِ
بِالشّامِ وَمُصَالَحَةِ غَسّانَ لِمَلِكِ الرّومِ ، وَكَانَ مَوْتُ حَارِثَةَ
وَجِذْعِ بْنِ سِنَانٍ مِنْ صَيْحَةٍ كَانَتْ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ سَمِعَ
فِيهِ صَهِيلَ الْخَيْلِ وَبَعْدَ مَوْتِ حَارِثَةَ كَانَ مَا كَانَ مِنْ نَكْثِ
يَهُودِ الْعُهُودِ حَتّى ظَهَرَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ عَلَيْهِمْ بِمَنْ
اسْتَنْصَرُوا بِهِ مِنْ مُلُوكِ جَفْنَةَ وَيُقَالُ فِي الْأَسْدِ الْأَزْدُ
بِالسّينِ وَالزّايِ وَاسْمُهُ الِازْدِرَاءُ بْنُ الْغَوْثِ . قَالَهُ وَثِيمَةُ
بْنُ مُوسَى بْنِ الْفُرَاتِ . وَقَالَ غَيْرُهُ سُمّيَ أَسْدًا لِكَثْرَةِ مَا
أَسْدَى إلَى النّاسِ مِنْ الْأَيَادِي . وَرُفِعَ فِي النّسَبِ إلَى كَهْلَانَ
بْنِ سَبَأٍ ، وَكَهْلَانُ كَانَ مَلِكًا بَعْدَ حِمْيَرَ ، وَعَاشَ - فِيمَا
ذَكَرُوا - ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ ثُمّ تَحَوّلَ الْمُلْكُ إلَى أَخِيهِ حِمْيَرَ
، ثُمّ فِي بَنِيهِمْ وَهُمْ وَائِلٌ وَمَالِكٌ وَعَمْرٌو وَعَامِرٌ وَسَعْدٌ
وَعَوْفٌ . وَذَكَرَ لَطْمَةَ وَلَدِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ لِأَبِيهِ وَأَنّهُ
كَانَ أَصْغَرَ وَلَدِهِ . قَالَ الْمَسْعُودِيّ : وَاسْمُهُ مَالِكٌ وَقَالَ
غَيْرُهُ ثَعْلَبَةُ . وَقَالَ وَيُقَالُ إنّهُ كَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِهِ .
وَقَوْلُ حَسّانَ
مّا سَأَلْتِ فَإِنّا مَعْشَرٌ أُنُفٌ ... الْأَسْدُ نِسْبَتُنَا ، وَالْمَاءُ
غَسّانُ
يَا أُخْتَ آلِ فِرَاسٍ إنّنِي رَجُلٌ ... مِنْ مَعْشَرٍ لَهُمْ فِي الْمَجْدِ
بُنْيَانُ
وَاشْتِقَاقُ غَسّانَ اسْمُ ذَلِكَ الْمَاءِ مِنْ الْغَسّ وَهُوَ الضّعِيفُ كَمَا
قَالَ غُسّ الْأَمَانَةِ صُنْبُورٌ فَصُنْبُورُ
[ ص 50 ] وَيُقَالُ لِلْهِرّ إذَا زُجِرَ غِسْ بِتَخْفِيفِ السّينِ قَالَهُ
صَاحِبُ الْعَيْنِ . وَالْغَسِيسَةُ مِنْ الرّطْبِ الّتِي يَبْدَؤُهَا
الْإِرْطَابُ مِنْ قِبَلِ مِغْلَاقِهَا ، وَلَا تَكُونُ إلّا ضَعِيفَةً سَاقِطَةً
. سَبَأٌ وَسَيْلُ الْعَرِمِ :
فَقَالَتْ
الْيَمَنُ [ ص 50 ] عَدْنَانَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ ،
وَيُقَالُ عُدْثَانُ بْنِ الدّيثِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ
الْغَوْثِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ مَعَدّ بْنُ عَدْنَانَ أَرْبَعَةَ
نَفَرٍ نِزَارُ بْنُ مَعَدّ وَقُضَاعَةُ بْنُ مَعَدّ وَكَانَ قُضَاعَةُ بِكْرَ
مَعَدّ الّذِي بِهِ يُكَنّى - فِيمَا يَزْعُمُونَ - وَقُنُصُ بْنُ مَعَدّ
وَإِيَادُ بْنُ مَعَدّ . فَأَمّا قُضَاعَةُ فَتَيَامَنَتْ إلَى حِمْيَرَ بْنِ
سَبَأٍ - وَكَانَ اسْمُ سَبَأٍ : عَبْدُ شَمْسٍ ، وَإِنّمَا سُمّيَ سَبَأً ؟
لِأَنّهُ أَوّلُ مَنْ سَبَى فِي الْعَرَبِ - ابْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ
قَحْطَانَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَقَالَتْ الْيَمَنُ وَقُضَاعَةُ : قُضَاعَةُ
بْنُ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرَ . وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مُرّةَ الْجُهَنِيّ ،
وَجُهَيْنَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سَوْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، بْنِ الْحَافِ
بْنِ قُضَاعَةَ :
نَحْنُ بَنُو الشّيْخِ الْهِجَانِ الْأَزْهَرِ ... قُضَاعَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ
حِمْيَرِ
النّسَبُ الْمَعْرُوفُ غَيْرُ الْمُنْكَرِ ... فِي الْحَجَرِ الْمَنْقُوشِ تَحْتَ
الْمِنْبَرِSفَصْلٌ
وَذَكَرَ تَفَرّقَ سَبَأٍ . وَالْعَرَبُ تَقُولُ تَفَرّقُوا أَيْدِي سَبَأً
وَأَيَادِي سَبَأً نَصْبًا عَلَى الْحَالِ وَإِنْ كَانَ مَعْرِفَةً فِي الظّاهِرِ
لِأَنّ مَعْنَاهُ مِثْلَ أَيْدِي سَبَأٍ وَالْيَاءُ سَاكِنَةٌ فِيهِ فِي مَوْضِعِ
النّصْبِ لِأَنّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ اسْمَيْنِ جُعِلَا اسْمًا وَاحِدًا مِثْلَ
مَعْدِي كَرِبَ وَلَمْ يُسَكّنُوهَا فِي ثَمَانِي عَشْرَةَ لِأَنّهَا مُتَحَرّكَةٌ
فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ . فَصْلٌ وَذَكَرَ سَيْلَ الْعَرِمِ ، وَفِي الْعَرِمِ
أَقْوَالٌ قِيلَ هُوَ الْمُسَنّاةُ أَيْ السّدّ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ ، وَقِيلَ
هُوَ اسْمٌ لِلْوَادِي ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَقِيلَ هُوَ الْجُرَذُ الّذِي
خَرّبَ السّدّ وَقِيلَ هُوَ صِفَةٌ لِلسّيْلِ مِنْ الْعَرَامَةِ وَهُوَ مَعْنَى
رِوَايَةِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَقَالَ الْبُخَارِيّ
: الْعَرِمُ : مَاءٌ أَحْمَرُ حُفِرَ فِي الْأَرْضِ حَتّى ارْتَفَعَتْ عَنْهُ
الْجَنّتَانِ فَلَمْ يَسْقِهِمَا ، حَتّى يَبِسَتْ وَلَيْسَ الْمَاءُ الْأَحْمَرُ
مِنْ السّدّ وَلَكِنّهُ كَانَ عَذَابًا أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ . انْتَهَى كَلَامُ
الْبُخَارِيّ . [ ص 51 ] وَالْعَرَبُ تُضِيفُ الِاسْمَ إلَى وَصْفِهِ لِأَنّهُمَا
اسْمَانِ فَتُعَرّفُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ . وَحَقِيقَةُ إضَافَةِ الْمُسَمّى
إلَى الِاسْمِ الثّانِي ، أَيْ صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ كَمَا تَقُولُ ذُو زَيْدٍ
أَيْ . الْمُسَمّى بِزَيْدِ وَمِنْهُ سَعْدُ نَاشِرَةٍ وَعَمْرُو بَطّةَ .
وَقَوْلُ الْأَعْشَى : وَمَأْرِبٌ عَفّى عَلَيْهَا الْعَرِمْ
يَقْوَى أَنّهُ السّيْلُ . وَمَأْرِبٌ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ اسْمٌ لِقَصْرِ كَانَ
لَهُمْ وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِكُلّ مَلِكٍ كَانَ يَلِي سَبَأَ ، كَمَا أَنّ تُبّعًا
اسْمٌ لِكُلّ مَنْ وَلِيَ الْيَمَنَ ، وَحَضْرَمَوْتَ وَالشّجَرَ . قَالَهُ
الْمَسْعُودِيّ . وَكَانَ هَذَا السّدّ مِنْ بِنَاءِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ
يَعْرُبَ وَكَانَ سَاقَ إلَيْهِ سَبْعِينَ وَادِيًا ، وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ
يَسْتَتِمّهُ فَأَتَمّتْهُ مُلُوكُ حِمْيَرَ بَعْدَهُ . وَقَالَ الْمَسْعُودِيّ :
بَنَاهُ لُقْمَانُ بْنُ عَادٍ ، وَجَعَلَهُ فَرْسَخًا ، وَجَعَلَ لَهُ ثَلَاثِينَ
مَثْقَبًا . وَقَوْلُ الْأَعْشَى : إذَا جَاءَ مَوّارُهُ لَمْ يَرِمْ
مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { يَوْمَ تَمُورُ السّمَاءُ مَوْرًا } فَهُوَ مَفْتُوحُ
الْمِيمِ وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ مَضْمُومَ الْمِيمِ وَالْفَتْحُ أَصَحّ .
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ دَمٌ مَائِرٌ أَيْ سَائِلٌ . وَفِي الْحَدِيثِ " أَمِرّ
الدّمَ بِمَا شِئْت " أَيْ أَرْسِلْهُ وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَمْرِ
بِسُكُونِ الْمِيمِ جَعَلَهُ مِنْ مَرَيْت الضّرْعَ . وَالنّفْسُ إلَى الرّوَايَةِ
الْأُولَى أَمْيَلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ النّقّاشُ
وَفَسّرَهُ . وَقَوْلُهُ لَمْ يَرِمْ أَيْ لَمْ يُمْسِكْهُ السّدّ حَتّى
يَأْخُذُوا مِنْهُ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ . وَقَوْلُهُ فَأَرْوِي الزّرُوعَ
وَأَعْنَابَهَا أَيْ أَعْنَابَ تِلْكَ الْبِلَادِ لِأَنّ الزّرُوعَ لَا عِنَبَ
لَهَا . وَأَنْشَدَ لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ
مِنْ سَبَأِ الْحَاضِرِينَ مَأْرِب إذْ ... يَبْنُونَ مِنْ سَيْلِهِ الْعَرِمَا
[ ص 52 ] الْعَرِمَ هُوَ السّدّ ، وَاسْمُ أَبِي الصّلْتِ رَبِيعَةُ بْنُ وَهْبِ
بْنِ عِلَاجٍ الثّقَفِيّ وَأُمّهُ رُقَيّةُ بِنْتُ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ
مَنَافٍ .
ذَكَرَ مَعَدّ وَوَلَدِهِ
قَوْلُهُ وَوَلَدَ مَعَدّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ أَمّا نِزَازٌ فَمُتّفَقٌ عَلَى
أَنّهُ ابْنُ مَعَدّ وَسَائِرُ وَلَدِ مَعَدّ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمِنْهُمْ
جُشَمُ بْنُ مَعَدّ وَسِلْهِمُ بْنُ مَعَدّ وَجُنَادَةُ بْنُ مَعَدّ وَقُنَاصَةُ
بْنُ مَعَدّ وَقُنُصُ بْنُ مَعَدّ وَسَنَامُ بْنُ مَعَدّ وَعَوْفٌ - وَقَدْ
انْقَرَضَ عَقِبُهُ - وَحَيْدَانُ وَهُمْ الْآنَ فِي قُضَاعَةَ ، وَأَوْدٌ وَهُمْ
فِي مُذْحِجٍ يَنْسُبُونَ بَنِي أَوْدِ بْنِ عَمْرٍو ، وَمِنْهُمْ عُبَيْدٌ
الرّمّاحُ وَحَيْدَةُ وَحَيَادَةُ وَجُنَيْدٌ وَقَحْمٌ فَأَمّا قُضَاعَةَ
فَأَكْثَرُ النّسّابِينَ يَذْهَبُونَ إلَى أَنّ قُضَاعَةَ هُوَ ابْنُ مَعَدّ
وَهُوَ مَذْهَبُ الزّبَيْرِيّينَ وَابْنِ هِشَامٍ ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - أَنّهُ سُئِلَ عَنْ قُضَاعَةَ ، فَقَالَ هُوَ ابْنُ مَعَدّ وَكَانَ بِكْرَهُ
. قَالَ أَبُو عُمَرَ وَلَيْسَ دُونَ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ مَنْ يُحْتَجّ بِهِ
فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ عَارَضَهُ حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ
الْجُهَنِيّ . وَجُهَيْنَةُ : [ ص 53 ] ابْنُ زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سَوْدِ بْنِ
أَسْلُمِ - بِضَمّ اللّامِ - ابْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ أَنّهُ قَالَ يَا
رَسُولَ اللّهِ لِمَنْ نَحْنُ ؟ فَقَالَ " أَنْتُمْ بَنُو مَالِكِ بْنِ
حِمْيَرَ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مُرّةَ - وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَيُكَنّى أَبَا مَرْيَمَ :
يَأَيّهَا الدّاعِي اُدْعُنَا وَأَبْشِرْ ... وَكُنْ قُضَاعِيّا وَلَا تَنَزّرْ
نَحْنُ بَنُو الشّيْخِ الْهِجَانِ الْأَزْهَرِ ... قُضَاعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ
حِمْيَرِ
قَالَ ذُو الْحَسَبَيْنِ قَالَ الزّبَيْرُ الشّعْرُ لِأَفْلَحَ بْنِ الْيَعْبُوبِ .
وَعَمْرُو بْنُ مُرّةَ هَذَا لَهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - حَدِيثَانِ أَحَدُهُمَا : فِي أَعْلَامِ النّبُوّةِ وَالْآخَرُ مَنْ
وَلِيَ أَمْرَ النّاسِ فَسَدّ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلّةِ
وَالْمَسْكَنَةِ سَدّ اللّهُ بَابَهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلّتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَمِمّا احْتَجّ بِهِ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوّلِ
أَيْضًا قَوْلُ زُهَيْرٍ
قُضَاعِيّةٌ أَوْ أُخْتُهَا مُضَرِيّةٌ ... يُحَرّقُ فِي حَافّاتِهَا الْحَطَبُ
الْجَزْلُ
فَجَعَلَ قُضَاعَةَ وَمُضَرَ أَخَوَيْنِ وَأَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ لِلَبِيدٍ
وَغَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ الْكُمَيْتُ يُعَاتِبُ قُضَاعَةَ فِي انْتِسَابِهِمْ إلَى
الْيَمَنِ :
عَلَامَ نَزَلْتُمْ مِنْ غَيْرِ فَقْرٍ ... وَلَا ضَرّاءَ مَنْزِلَةَ الْحَمِيلِ
وَالْحَمِيلُ الْمَسْبِيّ لِأَنّهُ يَحْمِلُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ . قَالَ
الْأَعْمَشُ : كَانَ أَبِي حَمِيلًا فَوَرّثَهُ مَسْرُوقٌ . أَرَادَ أَنّ
مَسْرُوقًا كَانَ يَرَى التّوَارُثَ بِوِلَادَةِ الْأَعَاجِمِ . وَقَالَ ابْنُ
الْمَاجِشُونِ كَانَ أَبِي وَمَالِكٌ وَابْنُ دِينَارٍ وَالْمُغِيرَةُ يَقُولُونَ
فِي الْحَمِيلِ - وَهُوَ الْمَسْبِيّ - يَقُولُ ابْنُ هُرْمُزَ ثُمّ رَجَعَ
مَالِكٌ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَسِيرِ إلَى قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ ، وَأَنّهُمْ
يَتَوَارَثُونَ بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ وَلَمّا تَعَارَضَ الْقَوْلَانِ فِي
قُضَاعَةَ ، وَتَكَافَأَتْ الْحِجَاجُ نَظَرْنَا فَإِذَا بَعْضُ النّسّابِينَ -
وَهُوَ الزّبَيْرُ - قَدْ ذَكَرَ مَا يَدُلّ عَلَى صِدْقِ الْفَرِيقَيْنِ وَذَكَرَ
عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ أَوْ غَيْرِهِ أَنّ امْرَأَةَ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرَ ، [ ص
54 ] اسْمُهَا : عُكْبُرَةُ آمَتْ مِنْهُ وَهِيَ تُرْضِعُ قُضَاعَةَ ،
فَتَزَوّجَهَا مَعَدّ ، فَهُوَ رَابّهُ فَتَبَنّاهُ وَتُكَنّى بِهِ وَيُقَالُ بَلْ
وَلَدَتْهُ عَلَى فِرَاشِهِ فَنُسِبَ إلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الزّبَيْرِ كَمَا
نُسِبَ بَنُو عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ إلَى عَلِيّ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنِ
بْنِ الذّئْبِ الْأَسَدِيّ لِأَنّهُ كَانَ حَاضِنَ أَبِيهِمْ وَزَوْجَ أُمّهِمْ
فَيُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَلِيّ إلَى الْآنِ وَكَذَلِكَ عُكْلٌ ، وَهُوَ حَاضِنُ
بَنِي عَوْفِ بْنِ وُدّ بْنِ طَابِخَةَ وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُونَ إلّا بِعُكْلِ
وَكَذَلِكَ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ إنّمَا هُمْ بَنُو سَعْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
قُضَاعَةَ ، وَهُذَيْمٌ كَانَ حَاضِنَ سَعْدٍ فَنُسِبَ إلَيْهِ وَهَذَا كَثِيرٌ
فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَسَيَأْتِي مِنْهُ فِي الْكِتَابِ زِيَادَةٌ - إنْ
شَاءَ اللّهُ - وَتَفْسِيرُ قُضَاعَةَ فِيمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْعَيْنِ كَلْبُ
الْمَاءِ فَهُوَ اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنْهُ وَهُوَ لَقَبٌ لَهُ وَاسْمُهُ عَمْرٌو ،
وَيُكَنّى أَبَا حَسَنٍ وَكُنْيَتُهُ أَبَا حُكْمٍ فِيمَا ذَكَرُوا . وَقَوْلُ
ابْنِ إسْحَاقَ : كَانَ بِكْرَ مَعَدّ فَالْبِكْرُ أَوّلُ وَلَدِ الرّجُلِ وَأَبُوهُ
بِكْرٌ وَالثّنْيُ وَلَدُهُ الثّانِي ، وَأَبُوهُ ثَنْيٌ وَالثّلْثُ وَلَدُهُ
الثّالِثُ وَلَا يُقَالُ لِلْأَبِ ثِلْثٌ وَلَا يُقَالُ فِيمَا بَعْدَ الثّالِثِ
شَيْءٌ مِنْ هَذَا ، قَالَهُ الْخَطّابُ . وَمِمّا عُوتِبَتْ بِهِ قُضَاعَةُ فِي
انْتِسَابِهِمْ إلَى الْيَمَنِ قَوْلُ أَعْشَى بَنِي تَغْلِبَ ، وَقِيلَ هِيَ
لِرَجُلِ مِنْ كَلْبٍ ، وَكَلْبٌ مِنْ قُضَاعَةَ :
أَزَنّيْتُمْ عَجُوزَكُمْ وَكَانَتْ ... قَدِيمًا لَا يُشَمّ لَهَا خِمَارُ
عَجُوزٌ لَوْ دَنَا مِنْهَا يَمَانٌ ... لَلَاقَى مِثْلَ مَا لَاقَى يَسَارُ
يُرِيدُ يَسَارَ الْكَوَاعِبِ الّذِي هَمّ بِهِنّ فَخَصَيْنَهُ وَقَالَ بَعْضُ
شُعَرَاءِ حِمْيَرَ فِي قُضَاعَةَ :
مَرَرْنَا عَلَى حَيّيْ قُضَاعَةَ غَدْوَةً ... وَقَدْ أَخَذُوا فِي الزّفْنِ
وَالزّفَنَانِ
فَقُلْت لَهُمْ مَا بَالُ زَفْنِكُمْ كَذَا ... لِعُرْسِ نَرَى ذَا الزّفْنَ أَوْ
لِخِتَانِ
فَقَالُوا : أَلَا إنّا وَجَدْنَا لَنَا أَبًا ... فَقُلْت : لِيَهْنِئْكُمْ
بِأَيّ مَكَانِ ؟
فَقَالُوا : وَجَدْنَاهُ بِجَرْعَاءِ مَالِكٍ ... فَقُلْت : إذَا مَا أُمّكُمْ
بِحَصَانِ
فَمَا مَسّ خُصْيَا مَالِكٍ فَرْجَ أُمّكُمْ ... وَلَا بَاتَ مِنْهُ الْفَرْجُ
بِالْمُتَدَانِي
فَقَالُوا : بَلَى وَاَللّهِ حَتّى كَأَنّمَا ... خُصْيَاهُ فِي بَابِ اسْتِهَا
جُعَلَانِ
ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ - رَحِمَهُ اللّهُ - فِي كِتَابِ الْإِنْبَاهِ لَهُ وَقَالَ
جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي حُنّ بْنِ رَبِيعَةَ مِنْ قُضَاعَةَ
يَصِفُ بُثَيْنَةَ وَهِيَ مِنْ حُنّ أَيْضًا :
رَبَتْ فِي الرّوَابِي مِنْ مَعَدّ وَفُضّلَتْ ... عَلَى الْمُحْصَنَاتِ الْبِيضِ
وَهْيَ وَلِيدُ
وَقَالَ جَمِيلٌ أَيْضًا وَهُوَ يَحْدُو بِالْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
أَنَا جَمِيلٌ فِي السّنَامِ مِنْ مَعَدّ ... الضّارِبِينَ النّاسَ فِي الرّكْنِ
الْأَشَدْ
قُنُصُ
بْنُ مَعَدّ وَنَسَبُ النّعْمَانِ
[ ص 52 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا قُنُصُ بْنُ مَعَدّ فَهَلَكَتْ
بَقِيّتُهُمْ - فِيمَا يَزْعُمُ نَسّابُ مَعَدّ - وَكَانَ مِنْهُمْ النّعْمَانُ
بْنُ الْمُنْذِرِ مَلِكُ الْحِيرَةِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ
بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ : أَنّ النّعْمَانَ
بْنَ الْمُنْذِرِ كَانَ مِنْ وَلَدِ قُنُصِ بْنِ مَعَدّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَيُقَالُ قُنُصٌ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ
بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي
زُرَيْقٍ أَنّهُ حَدّثَهُ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ -
حِينَ أَتَى بِسَيْفِ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، دَعَا جُبَيْرَ بْنَ
مُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ - وَكَانَ
جُبَيْرٌ مِنْ أَنْسَبِ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشِ وَلِلْعَرَبِ قَاطِبَةً وَكَانَ
يَقُولُ إنّمَا أَخَذْت النّسَبَ مِنْ أَبِي بَكْرِ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
وَكَانَ أَبُو بَكْرِ الصّدّيقُ أَنْسَبَ الْعَرَبِ - فَسَلّحَهُ إيّاهُ ثُمّ
قَالَ مِمّنْ كَانَ يَا جُبَيْرٌ النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ ؟ فَقَالَ كَانَ
مِنْ أَشْلَاءِ قُنُصِ بْنِ مَعَدّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَمّا سَائِرُ
الْعَرَبِ فَيَزْعُمُونَ أَنّهُ كَانَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ ، مِنْ وَلَدِ
رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ . [ ص 53 ] [ ص 54
] [ ص 54 ] [ ص 56 ]
لَخْمُ بْنُ عَدِيّ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : لَخْمُ بْنُ عَدِيّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُرّةَ بْنِ
أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ همَيْسَع بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ
زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ لَخْمُ بْنُ عَدِيّ بْنِ عَمْرِو
بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو
بْنِ عَامِرٍ ، وَكَانَ تَخَلّفَ بِالْيَمَنِ بَعْدَ خُرُوجِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ
مِنْ الْيَمَنِ .
أَمْرُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فِي خُرُوجِهِ مِنْ الْيَمَنِ وَقِصّةُ سَدّ مَأْرِبٍ
وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنْ الْيَمَنِ - فِيمَا حَدّثَنِي
أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ أَنّهُ رَأَى جُرَذًا يَحْفِرُ فِي سَدّ مَأْرِبٍ
الّذِي كَانَ يَحْبِسُ عَلَيْهِمْ الْمَاءَ فَيَصْرِفُونَهُ حَيْثُ شَاءُوا مِنْ
أَرْضِهِمْ فَعَلِمَ أَنّهُ لَا بَقَاءَ لِلسّدّ عَلَى ذَلِكَ فَاعْتَزَمَ عَلَى
النّقْلَةِ مِنْ الْيَمَنِ ، فَكَادَ قَوْمَهُ فَأَمَرَ أَصْغَرَ وَلَدِهِ إذَا
أَغْلَظَ لَهُ وَلَطَمَهُ أَنْ يَقُومَ إلَيْهِ فَيَلْطِمَهُ فَفَعَلَ ابْنُهُ مَا
أَمَرَهُ بِهِ فَقَالَ [ ص 57 ] لَا أُقِيمُ بِبَلَدِ لَطَمَ وَجْهِي فِيهِ
أَصْغَرُ وَلَدِي ، وَعَرَضَ أَمْوَالَهُ فَقَالَ أَشْرَافٌ مِنْ أَشْرَافِ
الْيَمَنِ : اغْتَنِمُوا غَضْبَةَ عَمْرٍو فَاشْتَرُوا مِنْهُ أَمْوَالَهُ .
وَانْتَقَلَ فِي وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ . وَقَالَتْ الْأَزْدُ : لَا
نَتَخَلّفُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، فَبَاعُوا أَمْوَالَهُمْ وَخَرَجُوا
مَعَهُ فَسَارُوا حَتّى نَزَلُوا بِلَادَ عَكّ مُجْتَازِينَ يَرْتَادُونَ
الْبُلْدَانَ . فَحَارَبَتْهُمْ عَكّ ، فَكَانَتْ حَرْبُهُمْ سِجَالًا . فَفِي
ذَلِكَ قَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ الْبَيْتَ الّذِي كَتَبْنَا ، ثُمّ
ارْتَحَلُوا عَنْهُمْ فَتَفَرّقُوا فِي الْبُلْدَانِ فَنَزَلَ آلُ جَفْنَةَ بْنِ
عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الشّامَ ، وَنَزَلَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ يَثْرِبَ ،
وَنَزَلَتْ خُزَاعَةُ مَرّا ، وَنَزَلَتْ أَزْدُ السّرَاةِ السّرَاةَ . وَنَزَلَتْ
أَزْدُ عُمَانَ عُمَانَ . ثُمّ أَرْسَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَى السّدّ السّيْلَ
فَهَدَمَهُ فَفِيهِ أَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ
مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي
مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبّكُمْ
وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدّلْنَاهُمْ بِجَنّتَيْهِمْ جَنّتَيْنِ ذَوَاتَيْ
أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } [ سَبَأِ : 15ْ 16 ] .
وَالْعَرِمُ : السّدّ ، وَاحِدَتُهُ عَرِمَةٌ فِيمَا حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ .
قَالَ الْأَعْشَى : أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ
صَعْبِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفْصَى بْنِ
جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَفْصَى بْنِ دُعْمِيّ بْنِ جَدِيلَةَ وَاسْمُ الْأَعْشَى :
مَيْمُونُ بْنُ قَيْسِ بْنِ جَنْدَلِ بْنِ شَرَاحيل بْنِ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
ضُبَيْعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
وَفِي ذَاكَ لِلْمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ ... وَمَأْرِبُ عَفّى عَلَيْهَا الْعَرِمْ
رُخَامٌ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرٌ ... إذَا جَاءَ مَوّارُهُ لَمْ يَرِمْ
فَأَرْوَى الزّرُوعَ وَأَعْنَابَهَا ... عَلَى سِعَةٍ مَاؤُهُمْ إذْ قُسِمْ
فَصَارُوا أَيَادِي مَا يَقْدِرُو ... نَ مِنْهُ عَلَى شُرْبِ طِفْلٍ فُطِمْ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ
الثّقَفِيّ - وَاسْمُ ثَقِيفٍ : قَسِيّ بْنُ مُنَبّهِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ
بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ
مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَانَ .
مِنْ سَبَأِ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبَ إذْ ... يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِهِ
الْعَرِمَا
[ ص 58 ] قَصِيدَةٍ لَهُ . وَتُرْوَى لِلنّابِغَةِ الْجَعْدِيّ وَاسْمُهُ قَيْسُ
بْنُ عَبْدِ اللّهِ أَحَدُ بَنِي جَعْدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ . وَهُوَ
حَدِيثٌ طَوِيلٌ مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ مَا ذَكَرْت مِنْ الِاخْتِصَارِ .Sذِكْرُ
قُنُصِ بْنِ مَعَدّ
وَكَانَ قُنُصُ بْنُ مَعَدّ قَدْ انْتَشَرَ وَلَدُهُ بِالْحِجَازِ فَوَقَعَتْ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِيهِمْ حَرْبٌ وَتَضَايَقُوا فِي الْبِلَادِ وَأَجْدَبَتْ
لَهُمْ الْأَرْضُ فَسَارُوا نَحْوَ سَوَادِ الْعِرَاقِ ، وَذَلِكَ أَيّامَ مُلُوكِ
الطّوَائِفِ فَقَاتَلَهُمْ الْأَرْدَانِيّونَ وَبَعْضُ مُلُوكِ الطّوَائِفِ
وَأَجْلَوْهُمْ عَنْ السّوَادِ وَقَتَلُوهُمْ إلّا أَشْلَاءَ لَحِقَتْ بِقَبَائِلِ
الْعَرَبِ ، وَدَخَلُوا فِيهِمْ وَانْتَسَبُوا إلَيْهِمْ . فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ
إسْحَاقَ حَدِيثَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمً حِينَ أُتِيَ عُمَرُ بِسَيْفِ
النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، وَكَانَ جُبَيْرٌ أَنْسَبَ النّاسِ - الْحَدِيثُ .
وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ سَيْفَ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ إنّمَا [ ص 56 ]
أُتِيَ بِهِ عُمَرَ حِينَ اُفْتُتِحَتْ الْمَدَائِنُ - وَكَانَتْ بِهَا خَرَائِبُ
كِسْرَى وَذَخَائِرُهُ فَلَمّا غُلِبَ عَلَيْهَا فَرّ إلَى إصْطَخْرَ فَأَخَذَتْ
أَمْوَالَهُ وَنَفَائِسَ عُدَدِهِ وَأَخَذَ لَهُ خَمْسَةَ أَسْيَافٍ لَمْ يُرَ
مِثْلُهَا . أَحَدُهَا : سَيْفُ كِسْرَى أبرويز ، وَسَيْفُ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ
وَسَيْفُ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ الّذِي كَانَ اسْتَلَبَهُ مِنْهُ حِينَ
قَتَلَهُ غَضَبًا عَلَيْهِ وَأَلْقَاهُ إلَى الْفِيَلَةِ فَخَبَطَتْهُ بِأَيْدِيهَا
، حَتّى مَاتَ . وَقَالَ الطّبَرِيّ : إنّمَا مَاتَ فِي سِجْنِهِ فِي الطّاعُونِ
الّذِي كَانَ فِي الْفُرْسِ ، وَسَيْفُ خَاقَانَ مَلِكِ التّرْكِ ، وَسَيْفِ
هِرَقْلَ ، وَكَانَ تَصَيّرَ إلَى كِسْرَى أَيّامَ غَلَبَتِهِ عَلَى الرّومِ فِي
الْمُدّةِ الّتِي ذَكَرَهَا اللّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { الم غُلِبَتِ الرّومُ
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ } الْآيَةَ . فَهَذَا كَانَ سَبَبُ تَصَيّرِ سَيْفِ
النّعْمَانِ إلَى كِسْرَى أبرويز ، ثُمّ إلَى كِسْرَى يَزْدَجْرِدْ ثُمّ إلَى
عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَكَانَ الّذِي قَتَلَ النّعْمَانَ مِنْهُمْ
أبرويز بْنُ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ وَكَانَ لأبرويز فِيمَا ذُكِرَ أَلْفُ
فِيلٍ وَخَمْسُونَ أَلْفَ فَرَسٍ وَثَلَاثَةُ آلَافِ امْرَأَةٍ - فِيمَا ذَكَرَ
الطّبَرِيّ - وَتَفْسِيرُ أَنُوشِرْوَانَ بِالْعَرَبِيّةِ مُجَدّدُ الْمُلْكِ -
فِيمَا ذَكَرُوا وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ أبرويز : الْمُظَفّرُ
. قَالَهُ الْمَسْعُودِيّ وَالطّبَرِيّ أَيْضًا ، وَزَادَ الطّبَرِيّ فِي حَدِيثِ
جُبَيْرٍ حِينَ سَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ نَسَبِ النّعْمَانِ قَالَ كَانَتْ الْعَرَبُ
تَقُولُ إنّهُ مِنْ أَشْلَاءِ قُنُصِ بْنِ مَعَدّ وَهُوَ وَلَدُ عَجْمِ بْنِ
قُنُصٍ إلّا أَنّ النّاسَ لَمْ يَدْرُوا مَا عَجْمٌ فَجَعَلُوا مَكَانَهُ لَخْمًا
: فَقَالُوا : هُوَ مِنْ لَخْمٍ ، وَنَسَبُوا إلَيْهِ . وأبرويز هُوَ الّذِي
كَتَبَ إلَيْهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَمَزّقَ كِتَابَهُ
فَدَعَا عَلَيْهِمْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ يُمَزّقُوا
كُلّ مُمَزّقٍ . [ ص 57 ]
حَدِيثُ
رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ وَرُؤْيَاهُ
رُؤْيَا رَبِيعَةَ : قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ مَلِكُ
الْيَمَنِ بَيْنَ أَضْعَافِ مُلُوكِ التّبَابِعَةِ ، فَرَأَى رُؤْيَا هَالَتْهُ
وَفَظِعَ بِهَا ، فَلَمْ يَدَعْ كَاهِنًا ، وَلَا سَاحِرًا ، وَلَا عَائِفًا ،
وَلَا مُنَجّمًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ إلّا جَمَعَهُ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ
إنّي قَدْ رَأَيْت رُؤْيَا هَالَتْنِي ، وَفَظِعْت بِهَا ، فَأَخْبِرُونِي بِهَا
وَبِتَأْوِيلِهَا ، قَالُوا لَهُ اُقْصُصْهَا عَلَيْنَا نُخْبِرْك بِتَأْوِيلِهَا
، قَالَ إنّي إنْ أَخْبَرْتُكُمْ بِهَا لَمْ أَطْمَئِنّ إلَى خَبَرِكُمْ عَنْ
تَأْوِيلِهَا ، فَإِنّهُ لَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَهَا إلّا مَنْ عَرَفَهَا قَبْلَ
أَنْ أُخْبِرَهُ بِهَا ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ
يُرِيدُ هَذَا فَلْيَبْعَثْ إلَى سَطِيحٍ وَشِقّ فَإِنّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ
مِنْهُمَا ، فَهُمَا يُخْبِرَانِهِ بِمَا سَأَلَ عَنْهُ . وَاسْمُ سَطِيحٍ رَبِيعُ
بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنِ بْنِ ذِئْبِ بْنِ عَدِيّ بْنِ مَازِنِ
غَسّانَ . [ ص 59 ] رُهْمِ بْنِ أَفْرَكَ بْنِ قَسْرِ بْنِ عَبْقَرَ بْنِ
أَنْمَارِ بْنِ نِزَارٍ ، وَأَنْمَارُ أَبُو بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ .
نَسَبُ بَجِيلَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَتْ الْيَمَنُ : وَبَجِيلَةُ : بَنُو أَنْمَارِ ،
بْنِ إرَاشِ بْنِ لِحْيَانَ ، بْنِ عَمْرِو ، بْنِ الْغَوْثِ ، بْنِ نَبْتِ بْنِ
مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ إرَاشُ بْنُ عَمْرِو
بْنِ لِحْيَانَ بْنِ الْغَوْثِ . وَدَارُ بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ يَمَانِيّةٌ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَبَعَثَ إلَيْهِمَا ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ سَطِيحٌ قَبْلَ
شِقّ فَقَالَ لَهُ إنّي رَأَيْت رُؤْيَا هَالَتْنِي ، وَفَظِعْت بِهَا ،
فَأَخْبِرْنِي بِهَا ، فَإِنّك إنْ أَصَبْتهَا أَصَبْت تَأْوِيلَهَا . قَالَ
أَفْعَلُ . رَأَيْت حُمَمَهُ خَرَجَتْ مِنْ ظُلُمَهْ فَوَقَعَتْ بِأَرْضِ تَهَمَهْ
فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلّ ذَاتِ جُمْجُمَهْ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا أَخْطَأْت
مِنْهَا شَيْئًا يَا سَطِيحٌ ، مَا عِنْدَك فِي تَأْوِيلِهَا ، فَقَالَ احْلِفْ
بِمَا [ ص 60 ] أَرْضَكُمْ الْحَبَشُ فَلَيَمْلِكُنّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى
جُرَشَ ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ وَأَبِيك يَا سَطِيحٌ إنّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ
مُوجِعٌ فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ ؟ أَفِي زَمَانِي هَذَا ، أَمْ بَعْدَهُ ؟ قَالَ لَا
، بَعْدَهُ بِحِينِ أَكْثَرَ مِنْ سِتّينَ أَوْ سَبْعِينَ يَمْضِينَ مِنْ
السّنِينَ قَالَ أَفَيَدُومُ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِمْ أَمْ يَنْقَطِعُ ؟ قَالَ لَا
، بَلْ يَنْقَطِعُ لِبِضْعِ وَسَبْعِينَ مِنْ السّنِينَ ثُمّ يُقْتَلُونَ
وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا هَارِبِينَ قَالَ وَمَنْ يَلِي ذَلِكَ مِنْ قَتْلِهِمْ
وَإِخْرَاجِهِمْ ؟ . [ ص 61 ] قَالَ يَلِيهِ إرَمُ ذِي يَزَنَ ، يَخْرُجُ
عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنٍ ، فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ . قَالَ
أَفَيَدُوم ذَلِكَ مِنْ سُلْطَانِهِ أَمْ يَنْقَطِعُ ؟ قَالَ لَا ، بَلْ
يَنْقَطِعُ . قَالَ وَمَنْ يَقْطَعُهُ ؟ قَالَ نَبِيّ زَكِيّ ، يَأْتِيهِ
الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيّ قَالَ وَمِمّنْ هَذَا النّبِيّ ؟ . قَالَ رَجُلٌ
مِنْ وَلَدِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ ، يَكُونُ الْمُلْكُ
فِي قَوْمِهِ إلَى آخِرِ الدّهْرِ . [ ص 62 ] قَالَ وَهَلْ لِلدّهْرِ مِنْ آخِرٍ ؟
قَالَ نَعَمْ يَوْمٌ يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوّلُونَ وَالْآخَرُونَ يَسْعَدُ فِيهِ
الْمُحْسِنُونَ وَيَشْقَى فِيهِ الْمُسِيئُونَ قَالَ أَحَقّ مَا تُخْبِرُنِي ؟
قَالَ نَعَمْ . وَالشّفَقِ وَالْغَسَقِ وَالْفَلَقِ إذَا اتّسَقَ إنّ مَا
أَنْبَأْتُك بِهِ لَحَقّ . ثُمّ قَدِمَ عَلَيْهِ شِقّ ، فَقَالَ لَهُ كَقَوْلِهِ
لِسَطِيحِ وَكَتَمَهُ مَا قَالَ سَطِيحٌ لِيَنْظُرَ أَيَتّفِقَانِ أَمْ
يَخْتَلِفَانِ فَقَالَ نَعَمْ رَأَيْت حُمَمَةً خَرَجَتْ مِنْ ظُلْمَةٍ فَوَقَعَتْ
بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلّ ذَاتِ نَسَمَةٍ . قَالَ
فَلَمّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَرَفَ أَنّهُمَا قَدْ اتّفَقَا ، وَأَنّ قَوْلَهُمَا
وَاحِدٌ إلّا أَنّ سَطِيحًا قَالَ " وَقَعَتْ بِأَرْضِ تَهَمَهْ فَأَكَلَتْ
مِنْهَا كُلّ ذَاتِ جُمْجُمَهْ " . [ ص 63 ] وَقَالَ شِقّ : " وَقَعَتْ
بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلّ ذَاتِ نَسَمَةٍ . فَقَالَ
لَهُ الْمَلِكُ مَا أَخْطَأْت يَا شِقّ مِنْهَا شَيْئًا ، فَمَا عِنْدَك فِي
تَأْوِيلِهَا ؟ . قَالَ أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرّتَيْنِ مِنْ إنْسَانٍ
لَيَنْزِلَن أَرْضَكُمْ السّودَانُ ، فَلَيَغْلِبُنّ عَلَى كُلّ طَفْلَةِ
الْبَنَانِ وَلَيَمْلِكُنّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى نَجْرَانَ . [ ص 64 ] فَقَالَ
لَهُ الْمَلِكُ وَأَبِيك يَا شِقّ ، إنّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ فَمَتَى
هُوَ كَائِنٌ ؟ أَفِي زَمَانِي ، أَمْ بَعْدَهُ ؟ قَالَ لَا ، بَلْ بَعْدَهُ
بِزَمَانِ ثُمّ يَسْتَنْقِذُكُمْ مِنْهُمْ عَظِيمٌ ذُو شَأْنٍ وَيُذِيقُهُمْ
أَشَدّ الْهَوَانِ . [ ص 65 ] قَالَ وَمَنْ هَذَا الْعَظِيمُ الشّأْنُ ؟ قَالَ
غُلَامٌ لَيْسَ بَدَنِيّ وَلَا مُدَنّ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ ذِي يَزَنَ
فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ . [ ص 66 ] قَالَ أَفَيَدُومُ
سُلْطَانُهُ أَمْ يَنْقَطِعُ ؟ قَالَ بَلْ يَنْقَطِعُ بِرَسُولِ مُرْسَلٍ يَأْتِي
بِالْحَقّ وَالْعَدْلِ بَيْنَ أَهْلِ الدّينِ وَالْفَضْلِ يَكُونُ الْمُلْكُ فِي
قَوْمِهِ إلَى يَوْمِ الْفَصْلِ قَالَ وَمَا يَوْمُ الْفَصْلِ ؟ قَالَ يَوْمٌ
تُجْزَى فِيهِ الْوُلَاةْ وَيُدْعَى فِيهِ مِنْ السّمَاءِ بِدَعَوَاتْ يَسْمَعُ
مِنْهَا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتْ وَيُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ النّاسِ
لِلْمِيقَاتْ يَكُونُ فِيهِ لِمَنْ اتّقَى الْفَوْزُ وَالْخَيْرَاتْ . [ ص 67 ] قَالَ
أَحَقّ مَا تَقُولُ ؟ قَالَ إي وَرَبّ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
مِنْ رَفْعٍ وَخَفْضٍ إنّ مَا أَنْبَأْتُك بِهِ لَحَقّ مَا فِيهِ أَمْضٌ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : أَمْضٌ . يَعْنِي : شَكّا ، هَذَا بِلُغَةِ حِمْيَرَ ، وَقَالَ
أَبُو عَمْرٍو . أَمْضٌ أَيْ بَاطِلٌ .S[ ص 58 ]
حَدِيثُ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ وَرُؤْيَاهُ
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ نَصْرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَهُوَ فِي قَوْلِ نُسّابِ
الْيَمَنِ : رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نُمَارَةَ بْنِ لَخْمٍ .
وَقَالَ الزّبَيْرُ فِي هَذَا النّسَبِ نَصْرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ شَعْوَذِ بْنِ
مَالِكِ بْنِ عَجْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُمَارَةَ بْنِ لَخْمٍ وَلَخْمٌ أَخُو
جُذَامٍ ، وَسُمّيَ لَخْمًا لِأَنّهُ لَخَمَ أَخَاهُ أَيْ لَطَمَهُ فَعَضّهُ
الْآخَرُ فِي يَدِهِ فَجَذَمَهَا ، فَسُمّيَ جُذَامًا ، وَقَالَ قُطْرُبٌ اللّخْمُ
سَمَكَةٌ فِي الْبَحْرِ بِهَا سُمّيَ الرّجُلُ لَخْمًا وَأَكْثَرُ الْمُؤَرّخِينَ
يَقُولُونَ فِيهِ نَصْرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَقَدْ تَقَدّمَ مَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ فِي نَسَبِ النّعْمَانِ وَهُوَ مِنْ وَلَدِ رَبِيعَةَ ، وَأَنّ لَخْمًا فِي
نَسَبِهِ تَصْحِيفٌ مِنْ عَجْمِ بْنِ قُنُصٍ . وَذَكَرَ رُؤْيَاهُ وَسَطِيحًا
الْكَاهِنَ وَنَسَبَهُ وَقَدْ خَالَفَهُ مُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ النّسّابَةُ فِي
شَيْءٍ [ ص 59 ] وَكَانَ سَطِيحٌ جَسَدًا مُلْقًى لَا جَوَارِحَ لَهُ - فِيمَا
يَذْكُرُونَ - وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْجُلُوسِ إلّا إذَا غَضِبَ انْتَفَخَ
فَجَلَسَ وَكَانَ شِقّ شِقّ إنْسَانٍ - فِيمَا يَذْكُرُونَ - إنّمَا لَهُ يَدٌ
وَاحِدَةٌ وَرِجْلٌ وَاحِدَةٌ وَعَيْنٌ وَاحِدَةٌ وَيُذْكَرُ عَنْ وَهْبِ بْنِ
مُنَبّهٍ أَنّهُ قَالَ قِيلَ لِسَطِيحِ أَنّى لَك هَذَا الْعِلْمُ ؟ فَقَالَ لِي
صَاحِبٌ مِنْ الْجِنّ اسْتَمَعَ أَخْبَارَ السّمَاءِ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ حِينَ
كَلّمَ اللّهُ تَعَالَى مِنْهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السّلَامُ - فَهُوَ يُؤَدّي
إلَيّ مِنْ ذَلِكَ مَا يُؤَدّيهِ . وَوُلِدَ سَطِيحٌ وَشِقّ فِي الْيَوْمِ الّذِي مَاتَتْ
فِيهِ طَرِيفَةُ الْكَاهِنَةُ امْرَأَةُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، وَهِيَ بِنْتُ
الْخَيْرِ الْحِمْيَرِيّةُ وَدَعَتْ بِسَطِيحِ قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ فَأَتَيْت بِهِ
فَتَفَلَتْ فِي فِيهِ وَأَخْبَرَتْ أَنّهُ سَيَخْلُفُهَا فِي عِلْمِهَا ،
وَكَهَانَتِهَا ، وَكَانَ وَجْهُهُ فِي صَدْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْسٌ وَلَا
عُنُقٌ وَدَعَتْ بِشِقّ فَفَعَلَتْ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَتْ بِسَطِيحِ ثُمّ
مَاتَتْ وَقَبْرُهَا " الْجُحْفَةُ " ، وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ أَنّ
خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ الْقَسْرِيّ كَانَ مِنْ وَلَدِ شِقّ هَذَا ، فَهُوَ
خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَسَدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ كُرْزٍ وَذَكَرَ أَنّ
كُرْزًا كَانَ دَعِيّا ، وَأَنّهُ كَانَ مِنْ الْيَهُودِ ، فَجَنَى جِنَايَةً
فَهَرَبَ إلَى بَجِيلَةَ ، فَانْتَسَبَ فِيهِمْ وَيُقَالُ كَانَ عَبْدًا لِعَبْدِ
الْقَيْسِ وَهُوَ ابْنُ عَامِرٍ ذِي الرّقْعَةِ ، وَسُمّيَ بِذِي الرّقْعَةِ ؛
لِأَنّهُ كَانَ أَعْوَرَ يُغَطّي عَيْنَهُ بِرُقْعَةِ . ابْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ
جُوَيْنِ بْنِ شِقّ الْكَاهِنِ بْنِ صَعْبٍ . [ ص 60 ] أَكَلَتْ مِنْهَا كُلّ
ذَاتِ جُمْجُمَهْ وَكُلّ ذَاتِ نَسَمَهْ . نَصْبُ كُلّ أَصَحّ فِي الرّوَايَةِ
وَفِي الْمَعْنَى ؛ لِأَنّ الْحُمَمَةَ نَارٌ فَهِيَ تَأْكُلُ وَلَا تُؤْكَلُ
عَلَى أَنّ فِي رِوَايَةِ الشّيْخِ بِرَفْعِ كُلّ وَلَهَا وَجْهٌ لَكِنْ فِي
حَاشِيَةِ كِتَابِهِ أَنّ فِي نُسْخَةِ الْبَرْقِيّ الّتِي قَرَأَهَا عَلَى ابْنِ
هِشَامٍ : كُلّ ذَاتِ بِنَصْبِ اللّامِ . وَقَوْلُهُ " خَرَجَتْ مِنْ
ظُلُمَهْ " أَيْ مِنْ ظُلْمَةٍ وَذَلِكَ أَنّ الْحُمَمَةَ قِطْعَةٌ مِنْ
نَارٍ وَخُرُوجُهَا مِنْ ظُلْمَةٍ يُشْبِهُ خُرُوجَ عَسْكَرِ الْحَبَشَةِ مِنْ
أَرْضِ السّودَانِ ، وَالْحُمَمَةُ الْفَحْمَةُ وَقَدْ تَكُونُ جَمْرَةً
مُحْرِقَةً كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَيَكُونُ لَفْظُهَا مِنْ الْحَمِيمِ
وَمِنْ الْحُمّى أَيْضًا لِحَرَارَتِهَا ، وَقَدْ تَكُونُ مُنْطَفِئَةً فَيَكُونُ
لَفْظُهَا مِنْ الْحُمّةِ وَهِيَ السّوَادُ يُقَالُ حَمّمْت وَجْهَهُ إذَا
سَوّدْته ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَاصِلٌ فِي لَفْظِ الْحُمَمَةِ هَهُنَا .
وَقَوْلُهُ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ لِأَنّهَا وَقَعَتْ بَيْنَ صَنْعَاءَ
وَأَحْوَازِهَا . وَقَوْلُهُ فِي أَرْضِ تَهَمَهْ أَيْ مُنْخَفِضَةً وَمِنْهُ
سُمّيَتْ تِهَامَةٌ . وَقَوْلُهُ أَكَلَتْ مِنْهَا كُلّ ذَاتِ جُمْجُمَهْ وَلَمْ
يَقُلْ كُلّ ذِي جُمْجُمَةٍ وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى سُبْحَانَهُ
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلَى حِمْلِهَا
لَا يُحْمَلُ مِنْهُ شَيْءٌ [ فَاطِرِ 18 ] . لِأَنّ الْقَصْدَ إلَى النّفْسِ
وَالنّسَمَةِ فَهُوَ أَعَمّ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ
وَلَوْ جَاءَ بِالتّذْكِيرِ لَكَانَ إمّا خَاصّا بِالْإِنْسَانِ أَوْ عَامّا فِي
كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَوْ جَمَادٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- " [ تَنَحّ عَنّي ، فَإِنّ ] كُلّ بَائِلَةٍ تَفْيُخُ " ، أَيْ
يَكُونُ مِنْهَا إفَاخَةٌ وَهِيَ الْحَدَثُ وَقَالَ النّحّاسُ هُوَ تَأْنِيثُ
الصّفَةِ وَالْخِلْقَةِ . وَقَوْلُهُ لَيَهْبِطَن أَرْضَكُمْ الْحَبَشُ هُمْ بَنُو
حَبَشِ بْنِ كُوشِ بْنِ حَامِ بْنِ نُوحٍ وَبِهِ سُمّيَتْ الْحَبَشَةُ . [ ص 61 ]
أَبْيَنَ إلَى جُرَشَ ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى مِثْلِ
إصْبَعٍ وَجَوّزَ فِيهِ الْفَتْحَ وَكَذَلِكَ تَقَيّدَ فِي هَذَا الْكِتَابِ
وَفَالَ ابْنُ مَاكُولَا : هُوَ أَبْيَنُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَيْمَنَ بْنِ
الْهَمَيْسَعِ مِنْ حِمْيَرَ ، أَوْ مِنْ ابْنِ حِمْيَرَ سُمّيَتْ بِهِ
الْبَلْدَةُ وَقَدْ تَقَدّمَ قَوْلُ الطّبَرِيّ أَنّ أَبْيَنَ وَعَدَنَ ابْنَا
عَدَنٍ ، سُمّيَتْ بِهِمَا الْبَلْدَتَانِ . وَقَوْلُهُ بِغُلَامِ لَا دَنِيّ
وَلَا مُدَنّ . الدّنِيّ مَعْرُوفٌ وَالْمُدَنّ الّذِي جَمَعَ الضّعْفَ مَعَ
الدّنَاءَةِ . قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ . وَقَوْلُهُ لَحَقّ مَا فِيهِ أَمْضٌ
أَيْ مَا فِيهِ شَكّ وَلَا مُسْتَرَابٌ وَقَدْ عَمّرَ سَطِيحٌ زَمَانًا طَوِيلًا
بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ حَتّى أَدْرَكَ مَوْلِدَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَرَأَى كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ بْنَ قَبَاذِ بْنِ فَيْرُوزَ
مَا رَأَى مِنْ ارْتِجَاسِ الْإِيوَانِ وَخُمُودِ النّيرَانِ وَلَمْ تَكُنْ
خَمَدَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ عَامٍ وَسَقَطَتْ مِنْ قَصْرِهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ
شُرْفَةٌ وَأَخْبَرَهُ الْمُوبَذَانُ وَمَعْنَاهُ الْقَاضِي ، أَوْ الْمُفْتِي
بِلُغَتِهِمْ أَنّهُ رَأَى إبِلًا صِعَابًا ، تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا ،
فَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهِمْ وَغَارَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ فَأَرْسَلَ كِسْرَى
عَبْدَ الْمَسِيحِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَيّانَ بْنِ نُفَيْلَةَ الْغَسّانِيّ إلَى
سَطِيحٍ وَكَانَ سَطِيحٌ مِنْ أَخْوَالِ عَبْدِ الْمَسِيحِ وَلِذَلِكَ أَرْسَلَهُ
كِسْرَى فِيمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ إلَى سَطِيحٍ يَسْتَخْبِرُهُ عِلْمَ ذَلِكَ
وَيَسْتَعْبِرُهُ رُؤْيَا الْمُوبَذَانِ فَقَدِمَ عَلَيْهِ وَقَدْ أَشْفَى عَلَى
الْمَوْتِ فَسَلّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَحُرْ إلَيْهِ سَطِيحٌ جَوَابًا فَأَنْشَأَ
عَبْدُ الْمَسِيحِ يَقُولُ
أَصَمّ أَمْ يَسْمَعُ غِطْرِيفُ الْيَمَنْ ... أَمْ فَادَ فَازْلَمّ بِهِ شَأْوُ
الْعَنَنْ
يَا فَاصِلَ الْخُطّةِ أَعْيَتْ مَنْ وَمَنْ ... أَتَاك شَيْخُ الْحَيّ مِنْ آلِ
سَنَنْ
وَأُمّهُ مِنْ آلِ ذِئْبِ بْنِ حَجَنْ ... أَبْيَضُ فَضْفَاضُ الرّدَاءِ
وَالْبَدَنْ
رَسُولُ قَيْلِ الْعُجْمِ يَسْرِي لِلْوَسَنْ ... لَا يَرْهَبْ الرّعْدَ وَلَا
رَيْبَ الزّمَنْ
تَجُوبُ بِي الْأَرْضُ عَلَنْدَاةٌ شَزَنْ ... تَرْفَعُنِي وَجْنًا وَتَهْوِي بِي
وَجَنْ
حَتّى أَتَى عَارِيَ الجآجي وَالْقَطَنْ ... تَلُفّهُ فِي الرّيحِ بَوْغَاءُ
الدّمَنْ
كَأَنّمَا حُثْحِثَ مِنْ حِضْنَيْ ثَكَنْ
ثَكَنٌ اسْمُ جَبَلٍ فَلَمّا سَمِعَ سَطِيحٌ شِعْرَهُ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ
عَبْدُ الْمَسِيحِ عَلَى جَمَلٍ مُشِيحٍ جَاءَ إلَى سَطِيحٍ حِينَ أَوْفَى عَلَى
الضّرِيحِ بَعَثَك مَلِكُ بَنِي سَاسَانَ لِارْتِجَاسِ الْإِيوَانِ وَخُمُودِ
النّيرَانِ وَرُؤْيَا الْمُوبَذَانِ . رَأَى إبِلًا صِعَابًا ، تَقُودُ خَيْلًا
عِرَابًا ، قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَةَ ، وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا . يَا عَبْدَ
الْمَسِيحِ إذَا كَثُرَتْ التّلَاوَةُ وَظَهَرَ صَاحِبُ الْهِرَاوَةِ وَخَمَدَتْ
نَارُ فَارِسَ ، وَغَارَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ وَفَاضَ وَادِي السّمَاوَةِ
فَلَيْسَتْ الشّامُ لِسَطِيحِ شَامًا ، يَمْلِكُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ وَمَلِكَاتٌ
عَلَى عَدَدِ الشّرُفَاتِ وَكُلّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ ثُمّ قَضَى سَطِيحٌ مَكَانَهُ .
وَقَوْلُهُ فَازْلَمّ بِهِ مَعْنَاهُ قُبِضَ قَالَهُ ثَعْلَبٌ ، وَقَوْلُهُ شَأْوُ
الْعَنَنْ . يُرِيدُ الْمَوْتَ وَمَا عَنّ مِنْهُ قَالَهُ الْخَطّابِيّ . وَفَادَ مَاتَ
. يُقَالُ مِنْهُ فَادَ يَفُودُ وَأَمّا يَفِيدُ فَمَعْنَاهُ يَتَبَخْتَرُ .
فَوَقَعَ
فِي نَفْسِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ مَا قَالَا ، فَجَهّزَ بَنِيهِ وَأَهْلَ
بَيْتِهِ إلَى الْعِرَاقِ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَكَتَبَ لَهُمْ إلَى مَلِكٍ مِنْ
مُلُوكِ فَارِسَ يُقَالُ لَهُ سَابُورُ بْنُ خُرّزاذ فَأَسْكَنَهُمْ الْحِيرَةَ .
نَسَبُ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ
فَمِنْ بَقِيّةِ وَلَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ ،
فَهُوَ فِي نَسَبِ الْيَمَنِ وَعِلْمِهِمْ النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ
النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
نَصْرٍ ، ذَلِكَ الْمَلِكُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ
بْنِ الْمُنْذِرِ فِيمَا أَخْبَرَنِي خَلَفٌ الْأَحْمَرُ .Sوَقَوْلُ
ابْنِ إسْحَاقَ فِي خَبَرِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ ، فَجَهّزَ أَهْلَهُ وَبَنِيهِ
إلَى الْحِيرَةِ ، وَكَتَبَ لَهُمْ إلَى مَلِكٍ يُقَالُ لَهُ سَابُورُ بْنُ
خُرّزاذ . [ ص 63 ]
مِنْ تَارِيخِ مُلُوكِ الْفُرْسِ
قَالَ الْمُؤَلّفُ الشّيْخُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ - عَفَا اللّهُ عَنْهُ -
وَلَا يُعْرَفُ خُرّزاذ فِي مُلُوكِ بَنِي سَاسَانَ مِنْ الْفُرْسِ ، وَهُمْ مِنْ
عَهْدِ أَزْدَشِيرِ بْنِ بَابِك إلَى يَزْدَجْرِدْ الّذِي قُتِلَ فِي أَوّلِ
خِلَافَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - مَعْرُوفُونَ مُسَمّوْنَ
بِأَسْمَائِهِمْ وَبِمَقَادِيرِ مُدَدِهِمْ . مَشْهُورٌ ذَلِكَ عِنْدَ
الْإِخْبَارِيّينَ وَالْمُؤَرّخِينَ وَلَكِنّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ
خُرّزاذ هَذَا مَلِكًا دُونَ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ مِنْهُمْ أَوْ يَكُونُ أَحَدَ
مُلُوكِ الطّوَائِفِ وَهُوَ الظّاهِرُ فِي مُدّةِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ لِأَنّهُ
جَدّ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ وَابْنُ أُخْتِ جَذِيمَةَ الْأَبْرَشِ وَكَانَ مُلْكُ
جَذِيمَةَ أَوّلَهُ فِيمَا أَحْسَبُ فِي مُدّةِ مُلُوكِ الطّوَائِفِ وَآخِرُهُ فِي
مُدّةِ السّاسَانِيّينَ وَأَوّلُ مَنْ مَلَكَ الْحِيرَةَ مِنْ السّاسَانِيّةِ
سَابُورُ بْنُ أَزْدَشِيرِ وَهُوَ الّذِي خَرّبَ الْحَضَرَ وَكَانَتْ مُلُوكُ
الطّوَائِفِ مُتَعَادّينَ يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ قَدْ تَحَصّنَ كُلّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حِصْنٍ وَتَحَوّزَ إلَى حَيّزٍ مِنْهُمْ عَرَبٌ . وَمِنْهُمْ
أشغانيون عَلَى دِينِ الْفُرْسِ ، وَأَكْثَرُهُمْ يَنْتَسِبُونَ إلَى الْفُرْسِ
مِنْ ذُرّيّةِ دَارَا بْنِ دَارَا ، وَكَانَ الّذِي فَرّقَهُمْ وَشَتّتْ
شَمْلَهُمْ وَأَدْخَلَ بَعْضَهُمْ بَيْنَ بَعْضٍ لِئَلّا يَسْتَوْثِقَ لَهُمْ
مُلْكٌ وَلَا يَقُومُ لَهُمْ سُلْطَانٌ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ فيلبش الْيُونَانِيّ
، حِينَ ظَهَرَ عَلَى دَارَا ، وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِ مَمْلَكَتِهِ
وَتَزَوّجَ بِنْتَه رَوْشَنك . بِوَصِيّةِ أَبِيهَا دَارَا لَهُ بِذَلِكَ حِينَ
وَجَدَهُ مُثْخَنًا فِي الْمَعْرَكَةِ وَلَمْ يَكُنْ الْإِسْكَنْدَرُ أَرَادَ
قَتْلَهُ لِأَنّهُ كَانَ أَخَاهُ لِأُمّهِ فِيمَا زَعَمُوا ، فَوَضَعَ
الْإِسْكَنْدَرُ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِهِ - فِيمَا ذَكَرُوا - وَقَالَ يَا سَيّدَ
النّاسِ لَمْ أُرِدْ قَتْلَك ، وَلَا رَضِيته ، فَهَلْ لَك مِنْ حَاجَةٍ ؟ قَالَ
نَعَمْ . تَزَوّجْ ابْنَتِي رَوْشَنك ، وَتَقْتُلُ مَنْ قَتَلَنِي ، ثُمّ قَضَى دَارَا
، فَفَعَلَ ذَلِكَ الْإِسْكَنْدَرُ وَفَرّقَ الْفُرْسَ ، وَأَدْخَلَ بَيْنَهُمْ
الْعَرَبَ . فَتَحَاجَزُوا ، وَسُمّوا : مُلُوكَ الطّوَائِفِ لِأَنّ كُلّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ كَانَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْأَرْضِ ثُمّ دَامَ أَمْرُهُمْ كَذَلِكَ
أَرْبَعمِائَةِ وَثَمَانِينَ سَنَةً فِي قَوْلِ الطّبَرِيّ ، وَقَدْ قِيلَ أَقَلّ
مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ الْمَسْعُودِيّ : خَمْسمِائَةِ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَفِي
أَيّامِهِمْ بُعِثَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَذَلِكَ بَعْدَ
مَوْتِ الْإِسْكَنْدَرِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ . فَابْنُ خُرّزاذ هَذَا -
وَاَللّهُ أَعْلَمُ - مِنْ أُولَئِكَ . وَبَنُو سَاسَانَ الْقَائِمُونَ بَعْدَ
مُلُوكِ الطّوَائِفِ وَبَعْدَ مُلُوكِ الأشغانيين : هُمْ بَنُو [ ص 64 ] سَاسَانَ
بْنِ بهمن . وَهُوَ مِنْ الْكِينِيّةِ وَإِنّمَا قِيلَ لَهُمْ الْكِينِيّةُ لِأَنّ
كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُضَافُ إلَى كَيْ وَهُوَ الْبَهَاءُ . وَيُقَالُ مَعْنَاهُ
إدْرَاكُ الثّأْرِ . وَأَوّلُ مَنْ تَسَمّى بِكَيْ أَفْرِيذُونُ بْنُ أَثَفَيَانِ
قَاتِلُ الضّحّاكِ بِثَأْرِ جَدّهِ جَمّ ثُمّ صَارَ الْمُلْكُ فِي عَقِبِهِ إلَى
منوشهر الّذِي بُعِثَ مُوسَى - عَلَيْهِ السّلَامُ - فِي زَمَانِهِ إلَى كَيْ
قاووس . وَكَانَ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَسَيَأْتِي
طَرَفٌ مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْكِتَابِ إلَى كَيْ يستاسب الّذِي وَلِيَ بُخْتَنَصّرَ
وَمَلّكَهُ . وَبُخْتُنَصّرَ هُوَ الّذِي حَيّرَ الْحِيرَةَ حِينَ جَعَلَ فِيهَا
سَبَايَا الْعَرَبِ ، فَتَحَيّرُوا هُنَاكَ فَسُمّيَتْ الْحِيرَةُ ، وَأَخَذَ
اسْمَهُ مِنْ بوخت وَهِيَ النّخْلَةُ لِأَنّهُ وُلِدَ فِي أَصْلِ نَخْلَةٍ . ثُمّ
كَانَ بَعْدَ كَيْ يستاسب بهمن بْنِ إسبندياذ بْن يستاسب . وَكَانَ لَهُ ابْنَانِ
دَارَا وَسَاسَانَ وَكَانَ سَاسَانُ هُوَ الْأَكْبَرُ فَكَانَ قَدْ طَمِعَ فِي
الْمُلْكِ بَعْدَ أَبِيهِ فَصَرَفَ بهمن الْأَمْرَ عَنْهُ إلَى دَارَا لِخَبَرِ
يَطُولُ ذِكْرُهُ حَمَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ " خُمّانَا أُمّ دَارَا " ،
فَخَرَجَ " سَاسَانُ " سَائِحًا فِي الْجِبَالِ وَرَفَضَ الدّنْيَا ،
وَهَانَتْ عَلَيْهِ وَعَهِدَ إلَى بَنِيهِ مَتَى كَانَ لَهُمْ الْأَمْرُ أَنْ
يَقْتُلُوا كُلّ أَشْغَانِي وَهُمْ نَسْلُ " داراء " فَلَمّا قَامَ
" أَزْدَشِيرُ بْنُ بَابِك " وَقَيّدَهُ الدّارَقُطْنِيّ " أردشير
" بِالرّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَدَعَا مُلُوكَ الطّوَائِفِ إلَى الْقِيَامِ
مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ حَتّى يَنْتَظِمَ لَهُ مُلْكُ فَارِسَ ، وَأَجَابَهُ
إلَى ذَلِكَ أَكْثَرُهُمْ وَكَانُوا يَدًا عَلَى الْأَقَلّ حَتّى أَزَالُوهُ
وَجَعَلَ " أَزْدَشِيرُ " يَقْتُلُ كُلّ مَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ
أُولَئِكَ الأشغانيين ، فَقَتَلَ مَلِكًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ الْأَرْدَوَانُ
وَاسْتَوْلَى عَلَى قَصْرِهِ فَأَلْقَى فِيهِ امْرَأَةً جَمِيلَةً رَائِعَةَ
الْحَسَنِ فَقَالَ لَهَا : مَا أَنْتِ ؟ فَقَالَتْ أَمَةٌ مِنْ إمَاءِ الْمَلِكِ
وَكَانَتْ بِنْتُ الْمَلِكِ الْأَرْدَوَانِ لَاذَتْ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ مِنْ
الْقَتْلِ لِأَنّهُ كَانَ لَا يُبْقِي مِنْهُمْ ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى ، فَصَدّقَ
قَوْلَهَا ، وَاسْتَسَرّهَا فَحَمَلَتْ مِنْهُ فَلَمّا أَثْقَلَتْ اسْتَبْشَرَتْ
بِالْأَمَانِ مِنْهُ فَأَقَرّتْ أَنّهَا بِنْتُ الأشغاني الّذِي قُتِلَ وَاسْمُهُ
أردوان - فِيمَا ذَكَرُوا - فَدَعَا وَزِيرًا لَهُ نَاصِحًا - وَقَدْ سَمّاهُ
الطّبَرِيّ فِي التّارِيخِ - فَقَالَ اسْتَوْدِعْ هَذِهِ بَطْنَ الْأَرْضِ
فَكَرِهَ الْوَزِيرُ أَنْ يَقْتُلَهَا ، وَفِي بَطْنِهَا ابْنٌ لِلْمَلِكِ
وَكَرِهَ أَنْ يَعْصِيَ أَمْرَهُ فَاِتّخَذَ لَهَا قَصْرًا تَحْتَ الْأَرْضِ ثُمّ
خَصَى نَفْسَهُ وَصَبّرَ مَذَاكِيرَهُ وَجَعَلَهَا فِي حَرِيرَةٍ وَوَضَعَ
الْحَرِيرَةَ فِي حُقّ وَخَتَمَ عَلَيْهِ ثُمّ جَاءَ بِهِ الْمَلِكُ فَاسْتَوْدَعَهُ
إيّاهُ وَجَعَلَ لَا يَدْخُلُ إلَى الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ الْقَصْرِ سِوَاهُ
وَلَا تَرَاهَا إلّا عَيْنُهُ [ ص 65 ] أَبِيهِ فَسَمّاهُ شاهَبُور ، وَمَعْنَاهُ
ابْنُ الْمَلِكِ فَكَانَ الصّبِيّ يُدْعَى بِهَذَا ، وَلَا يَعْرِفُ لِنَفْسِهِ
اسْمًا غَيْرَهُ فَلَمّا قَبِلَ التّعْلِيمَ نَظَرَ فِي تَعْلِيمِهِ وَتَقْوِيمِ
أَوَدِهِ . وَاجْتَهَدَ فِي كُلّ مَا يُصْلِحُهُ إلَى أَنْ تَرَعْرَعَ الْغُلَامُ
. فَدَخَلَ الْوَزِيرُ يَوْمًا عَلَى أَزْدَشِيرِ وَهُوَ وَاجِمٌ فَقَالَ لَا
يَسُوءُك اللّهُ أَيّهَا الْمَلِكُ فَقَدْ سَاءَنِي إطْرَاقُك وَوُجُومُك ،
فَقَالَ كَبِرَتْ سِنّي ، وَلَيْسَ لِي وَلَدٌ أُقَلّدُهُ الْأَمْرَ بَعْدِي ،
وَأَخَافُ انْتِثَارَ الْأَمْرِ بَعْدَ انْتِظَامِهِ وَافْتِرَاقَ الْكَلِمَةِ
بَعْدَ اجْتِمَاعِهَا ، فَقَالَ لَهُ إنّ لِي عِنْدَك وَدِيعَةً أَيّهَا الْمَلِكُ
وَقَدْ احْتَجْت إلَيْهَا ، فَأَخْرَجَ إلَيْهِ الْحُقّةَ بِخَاتَمِهَا ، فَفَضّ
الْخَاتَمَ وَأَخْرَجَ الْمَذَاكِيرَ مِنْهَا ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا هَذَا
؟ فَقَالَ كَرِهْت أَنْ أَعْصِيَ الْمَلِكَ حِينَ أَمَرَنِي فِي الْجَارِيَةِ
بِمَا أَمَرَ فَاسْتَوْدَعْتهَا بَطْنَ الْأَرْضِ حَيّةً حَتّى أَخْرَجَ اللّهُ
مِنْهَا سَلِيلَ الْمَلِكِ حَيّا ، وَأَرْضَعَتْهُ وَحَضَنَتْهُ وَهَا هُوَ ذَا
عِنْدِي ، فَإِنْ أَمَرَ الْمَلِكُ جِئْته بِهِ فَأَمَرَهُ أَزْدَشِيرُ
بِإِحْضَارِهِ فِي مِائَةِ غُلَامٍ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ ، بِأَيْدِيهِمْ
الصّوَالِجُ يَلْعَبُونَ الْكُرَةَ فَلَعِبُوا فِي الْقَصْرِ فَكَانَتْ الْكُرَةُ
تَقَعُ فِي إيوَانِ الْمَلِكِ فَيَتَهَيّبُونَ أَخْذَهَا حَتّى طَارَتْ
لِلْغُلَامِ فَوَقَعَتْ فِي سَرِيرِ الْمَلِكِ فَتَقَدّمَ حَتّى أَخَذَهَا ،
وَلَمْ يَهَبْ ذَلِكَ فَقَالَ الْمَلِكُ ابْنِي وَالشّمْسِ مُتَعَجّبًا مِنْ
عِزّةِ نَفْسِهِ وَصَرَامَتِهِ ثُمّ قَالَ لَهُ مَا اسْمُك يَا غُلَامُ ؟ فَقَالَ
لَهُ شاهَبُور ، فَقَالَ لَهُ صَدَقْت أَنْتَ ابْنِي . وَقَدْ سَمّيْتُك بِهَذَا
الِاسْمِ وَبُورُ هُوَ الِابْنُ وَشَاهَ هُوَ الْمَلِكُ بِلِسَانِهِمْ
وَإِضَافَتُهُمْ مَقْلُوبَةٌ يُقَدّمُونَ الْمُضَافَ إلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ
كَمَا تَقَدّمَ فِي " الْكَيّ " الْكَلِمَةُ الّتِي كَانَتْ فِي
أَوَائِلِ أَسْمَاءِ الْمُلُوكِ الْكِينِيّةِ فَكَانُوا يُضَافُونَ إلَى الْكَيّ
ثُمّ إنّ أَزْدَشِيرَ عَهِدَ إلَى ابْنِهِ شاهَبُور ، وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ
فِي قَوْلِ الْأَعْشَى :
أَقَامَ بِهِ شاهَبُور الْجُنُودَ ... حَوْلَيْنِ يَضْرِبُ فِيهِ الْقُدُم
ثُمّ غَيّرَتْ الْعَرَبُ هَذَا الِاسْمَ فَقَالُوا : سَابُورُ وَتَسَمّى بِهِ
مُلُوكُ بَنِي سَاسَانَ مِنْهُمْ سَابُورُ ذُو الْأَكْتَافِ الّذِي وَطِئَ أَرْضَ
الْعَرَبِ ، وَكَانَ يَخْلَعُ أَكْتَافَهُمْ حَتّى مَرّ بِأَرْضِ بَنِي تَمِيمٍ
فَفَرّوا مِنْهُ وَتَرَكُوا عَمْرَو بْنَ تَمِيمٍ . وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثمِائَةِ
سَنَةٍ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْفِرَارِ وَكَانَ فِي قُفّةٍ مُعَلّقًا مِنْ عَمُودِ
الْخَيْمَةِ مِنْ الْكِبَرِ فَأُخِذَ وَجِيءَ بِهِ الْمَلِكُ فَاسْتَنْطَقَهُ
سَابُورُ فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَأْيًا وَدَهَاءً فَقَالَ لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ
لِمَ تَفْعَلُ هَذَا بِالْعَرَبِ ؟ فَقَالَ يَزْعُمُونَ أَنّ مُلْكَنَا يَصِلُ
إلَيْهِمْ عَلَى يَدِ نَبِيّ يُبْعَثُ فِي آخِرِ الزّمَانِ فَقَالَ عَمْرٌو :
فَأَيْنَ حِلْمُ الْمُلُوكِ وَعَقْلُهُمْ ؟ إنْ يَكُنْ هَذَا الْأَمْرُ بَاطِلًا
فَلَا يَضُرّك ، وَإِنْ يَكُنْ حَقّا أَلْفَاك ، وَقَدْ اتّخَذْت عِنْدَهُمْ يَدًا
، يُكَافِئُونَك عَلَيْهَا ، [ ص 66 ] فَيُقَالُ إنّ سَابُورَ انْصَرَفَ عَنْهُمْ
وَاسْتَبْقَى بَقِيّتَهُمْ وَأَحْسَنَ إلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ
. وَأَمّا أبرويز بْنُ هُرْمُزَ - وَتَفْسِيرُهُ بِالْعَرَبِيّةِ مُظَفّرٌ -
فَهُوَ الّذِي كَتَبَ إلَيْهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
وَسَيَأْتِي طَرَفٌ مِنْ ذِكْرِهِ وَهُوَ الّذِي عُرِضَ عَلَى اللّهِ تَعَالَى فِي
الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ سَلّمْ مَا فِي يَدَيْك إلَى صَاحِبِ الْهِرَاوَةِ فَلَمْ
يَزَلْ مَذْعُورًا مِنْ ذَلِكَ حَتّى كَتَبَ إلَيْهِ النّعْمَانُ بِظُهُورِ
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِتِهَامَةَ فَعَلِمَ أَنّ الْأَمْرَ
سَيَصِيرُ إلَيْهِ حَتّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ وَهُوَ الّذِي سُئِلَ
عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا حُجّةُ اللّهِ
عَلَى كِسْرَى ؟ فَقَالَ إنّ اللّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ إلَيْهِ مَلَكًا ، فَسَلَكَ
يَدَهُ فِي جِدَارِ مَجْلِسِهِ حَتّى أُخْرِجهَا إلَيْهِ وَهِيَ تَتَلَأْلَأُ
نُورًا ، فَارْتَاعَ كِسْرَى ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ لِمَ تَرْعَ يَا كِسْرَى .
إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولَهُ فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ [ دُنْيَاك وَآخِرَتَك ] ،
فَقَالَ سَأَنْظُرُ ذَكَرَهُ الطّبَرِيّ ، فِي أَعْلَامٍ كَثِيرَةٍ مِنْ
النّبُوّةِ عُرِضَتْ عَلَى أبرويز أَضْرَبْنَا عَنْ الْإِطَالَةِ بِهَا ، فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ وَتَسَمّى أَيْضًا سَابُورُ بَعْدَ هَذَا سَابُورُ بْنِ أبرويز
أَخُو شِيرَوَيْه ، وَقَدْ مَلَكَ نَحْوًا مِنْ شَهْرَيْنِ فِي مُدّةِ النّبِيّ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَلَكَ أَخُوهُ شِيرَوَيْه نَحْوًا مِنْ
سِتّةِ أَشْهُرٍ ثُمّ مَلَكَتْ بُورَانُ أُخْتُهُمَا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النّبِيّ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ مَلَكَتْهُمْ
امْرَأَةٌ فَمَلَكَتْ سَنَةً وَهَلَكَتْ وَتَشَتّتَ أَمْرُهُمْ كُلّ الشّتَاتِ .
ثُمّ اجْتَمَعُوا عَلَى يَزْدَجْرِدْ بْنِ شَهْرَيَارَ وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ
غَلَبُوا عَلَى أَطْرَافِ أَرْضِهِمْ ثُمّ كَانَتْ حُرُوبُ الْقَادِسِيّةِ
مَعَهُمْ إلَى أَنْ قَهَرَهُمْ الْإِسْلَامُ وَفُتِحَتْ بِلَادُهُمْ عَلَى يَدَيْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَاسْتُؤْصِلَ أَمْرُهُمْ
وَالْحَمْدُ لِلّهِ . وَسَابُورُ تُنْسَبُ إلَيْهِ الثّيَابُ السّابِرِيّةُ قَالَهُ
الْخَطّابِيّ ، وَزَعَمَ أَنّهُ مِنْ النّسَبِ الّذِي غُيّرَ فَإِذَا نَسَبُوا
إلَى نَيْسَابُورَ الْمَدِينَةِ ، قَالُوا : نَيْسَابُورِيّ عَلَى الْقِيَاسِ
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنّ نِيّ هِيَ الْقَصَبُ وَكَانَتْ مَقْصَبَةً فَبَنَاهَا
سَابُورُ مَدِينَة ، فَنُسِبَتْ إلَيْهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 67 ]
رُجُوعُهُ إلَى حَدِيثِ سَطِيحٍ وَذِي يَزَنَ
فَصْلٌ وَقَوْلُ سَطِيحٍ فِي حَدِيثِ رَبِيعَةَ : إرَمَ ذِي يَزَنَ ، الْمَعْرُوفُ
سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ ، وَلَكِنْ جَعَلَهُ إرَمًا ، إمّا لِأَنّ الْإِرَمَ هُوَ
الْعَلَمُ فَمَدَحَهُ بِذَلِكَ وَإِمّا شَبّهَهُ بِعَادِ إرَمَ فِي عِظَمِ
الْخَلْقِ وَالْقُوّةِ قَالَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } وَرَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ هَذَا
هُوَ أَحَدُ مُلُوكِ الْحِيرَةِ ، وَهُمْ آلُ الْمُنْذِرِ وَالْمُنْذِرُ هُوَ
ابْنُ مَاءِ السّمَاءِ وَهِيَ أُمّهُ عُرِفَ بِهَا ، وَهِيَ مِنْ النّمِرِ بْنِ
قَاسِطٍ وَابْنُهُ عَمْرُو بْنُ هِنْدٍ عُرِفَ بِأُمّهِ أَيْضًا ، وَهِيَ بِنْتُ
الْحَارِثِ آكِلِ الْمِرَارِ جَدّ امْرِئِ الْقَيْسِ الشّاعِرِ وَيُعْرَفُ عَمْرٌو
بِمُحَرّقِ لِأَنّهُ حَرّقَ مَدِينَة ، يُقَالُ لَهَا : مَلْهَمٌ وَهِيَ عِنْدَ
الْيَمَامَةِ ، وَقَالَ الْمُبَرّدُ وَالْقُتَبِيّ سُمّيَ مُحَرّقًا ، لِأَنّهُ
حَرّقَ مِائَةً مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَذَكَرَ خَبَرَهُمْ . وَوَلَدُ نَصْرِ بْنِ رَبِيعَةَ
هُوَ عَدِيّ ، وَكَانَ كَاتِبًا لِجَذِيمَةَ الْأَبْرَشِ وَابْنُهُ عَمْرٌو ،
وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ جَذِيمَةَ وَيُكَنّى جَذِيمَةُ أَبَا مَالِكٍ فِي قَوْلِ
الْمَسْعُودِيّ ، وَهُوَ مُنَادِمُ الْفَرْقَدَيْنِ وَاسْمُ أُخْتِ جَذِيمَةَ
رَقَاشُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ فَهْمِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دَوْسٍ ، وَهُوَ الّذِي
اخْتَطَفَتْهُ الْجِنّ ، وَفِيهِ [ ص 68 ] شَبّ عَمْرٌو عَنْ الطّوْقِ . وَهُوَ
قَاتِلُ الزّبّاءِ بِنْتِ عَمْرٍو وَاسْمُهَا : نَائِلَةُ فِي قَوْلِ الطّبَرِيّ
وَيَعْقُوبَ بْنِ السّكّيتِ وَمَيْسُونُ فِي قَوْلِ دُرَيْدٍ وَاسْتَشْهَدَ
الطّبَرِيّ بِقَوْلِ الشّاعِرِ
أَتَعْرِفُ مَنْزِلًا بَيْنَ الْمُنَقّى
وَبَيْنَ مَجَرّ نَائِلَةَ الْقَدِيم
وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي غَيْرِ هَذَاالْمَوْضِعِ ذِكْرَ نَسَبِهَا وَطَرَفًا مِنْ
أَخْبَارِهَا . وَأَخُو عَمْرُو بْنُ هِنْدٍ : النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ ،
وَهُوَ ابْنُ مَامَةَ وَكَانَ مُلْكُهُ بَعْدَ عَمْرٍو ، وَفِي مُلْكُ عَمْرٍو
وُلِدَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِي زَمَنِ كِسْرَى
أَنُوشِرْوَانَ بْنِ قَبَاذٍ . وَأَسْقَطَ ابْنُ إسْحَاقَ مِنْ هَذَا النّسَبِ
رَجُلَيْنِ وَهُمَا : النّعْمَانُ بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ وَأَبُوهُ امْرُؤُ
الْقَيْسِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ . وَقَدْ قِيلَ إنّ النّعْمَانَ هَذَا هُوَ
أَخُو امْرِئِ الْقَيْسِ وَمَلَكَ بَعْدَهُ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ النّعْمَانِ بَعْدَ
هَذَا عِنْدَ ذِكْرِ صَاحِبِ الْحَضْرِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ، وَأَنّهُ
الّذِي بَنَى الْخَوَرْنَقَ وَالسّدِيرَ .
اسْتِيلَاءُ
أَبِي كَرِبَ تُبّانَ أَسْعَدَ عَلَى مُلْكِ الْيَمَنِ وَغَزْوُهُ إلَى يَثْرِبَ
[ ص 68 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا هَلَكَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ رَجَعَ
مُلْكُ الْيَمَنِ كُلّهُ إلَى حَسّانِ بْنِ تُبّانَ أَسْعَدَ أَبِي كَرِبَ -
وَتُبّانُ أَسْعَدُ هُوَ تُبّعٌ الْآخِرُ - ابْنُ كُلْكِي كَرِبَ بْنِ زَيْدٍ
وَزَيْدٌ هُوَ تُبّعٌ [ ص 69 ] الْأَذْعَارِ بْنِ أَبْرَهَةَ ذِي الْمَنَارِ بْنِ
الرّيشِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ الرّائِشِ - قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
بْنِ عَدِيّ بْنِ صَيْفِيّ بْنِ سَبَأٍ الْأَصْغَرِ بْنِ كَعْبِ كَهْفِ الظّلْمِ
بْنِ زَيْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ جُشَمَ
بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ وَائِلِ بْنِ الْغَوْثِ ، بْنِ قَطَنِ ، بْنِ عَرِيبِ
بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَيْمَنَ بْنِ الْهَمَيْسَعِ بْنِ العَرَنجَج ، والعَرَنْجَج :
حِمْيَرُ بْنُ سَبَأٍ الْأَكْبَرِ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ قَحْطَانَ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يَشْجُبُ بْنُ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَتُبّانُ أَسْعَدَ أَبُو كَرِبَ الّذِي قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، وَسَاقَ
الْحَبْرَيْنِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ إلَى الْيَمَنِ ، وَعَمّرَ الْبَيْتَ
الْحَرَامَ وَكَسَاهُ وَكَانَ مُلْكُهُ قَبْلَ مُلْكِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ . [ ص
70 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ
لَيْتَ حَظّي مِنْ أَبِي كَرِبَ ... أَنْ يَسُدّ خَيْرُهُ خَبَلَهُSقَوْمُ
تُبّعٍ
فَصْلٌ وَقَوْلُهُ فِي نَسَبِ حَسّانِ بْنِ تُبّانَ أَسْعَدَ : هُوَ تُبّانُ
أَسْعَدَ . اسْمَانِ جُعِلَا اسْمًا وَاحِدًا ، وَإِنْ شِئْت أَضَفْت كَمَا
تُضِيفُ مَعْدِي كَرِبَ وَإِنْ شِئْت جَعَلْت الْإِعْرَابَ فِي الِاسْمِ الْآخِرِ
وَتُبّانُ مِنْ التّبَانَةِ وَهِيَ الذّكَاءُ وَالْفِطْنَةُ . يُقَالُ رَجُلٌ
تَبِنٌ وَطَبِنٌ . وَكُلْكِي كَرِبَ اسْمٌ مُرَكّبٌ أَيْضًا وَسَيَأْتِي مَعْنَى
الْكَرِبِ فِي لُغَةِ حِمْيَرَ عِنْدَ ذِكْرِ مَعْدِي كَرِبَ - إنْ شَاءَ اللّهُ
تَعَالَى - وَكَانَ مُلْكُ كُلْكِي كَرِبَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَكَانَ
مُضْعِفًا سَاقِطَ الْهِمّةِ لَمْ يَغْزُ قَطّ . وَقَوْلُهُ فِي نَسَبِ حَسّانِ
ابْنِ تُبّانَ أَسْعَدَ وَتُبّانُ الْأَسْعَدُ [ هُوَ ] تُبّعٌ [ الْآخِرُ ]
نَقّصَ مِنْ النّسَبِ أَسْمَاءَ كَثِيرَةً وَمُلُوكًا ؛ فَإِنّ عَمْرًا ذَا
الْأَذْعَارِ كَانَ بَعْدَهُ نَاشِرُ بْنُ عَمْرٍو ، وَيُقَالُ لَهُ [ ص 69 ]
يَعْفُرَ ] وَإِنّمَا قِيلَ لَهُ نَاشِرٌ لِأَنّهُ نَشَرَ الْمُلْكَ وَاسْمُهُ
مَالِكٌ . مَلَكَ بَعْدَ قَتْلِ رجعيم بْنِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ
بِالشّامِ ، وَهُوَ الّذِي انْتَهَى إلَى وَادِي الرّمْلِ ، وَمَاتَتْ فِيهِ
طَائِفَةٌ مِنْ جُنْدِهِ جَرَتْ عَلَيْهِمْ الرّمَالُ وَبَعْدَهُ تُبّعٌ
الْأَقْرَنُ وأفريقيس بْنُ قَيْسٍ الّذِي بَنَى إفْرِيقِيّةَ وَبِهِ سُمّيَتْ
وَسَاقَ إلَيْهَا الْبَرْبَرَ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ وَتُبّعُ بْنُ الْأَقْرَنِ
وَهُوَ التّبّعُ الْأَوْسَطُ وَشِمْرُ بْنُ مَالِكٍ الّذِي سُمّيَتْ بِهِ مَدِينَة
سَمَرْقَنْدَ ، وَمَالِكٌ هُوَ الْأُمْلُوكُ وَفِي بَنِي الْأُمْلُوكِ يَقُولُ
الشّاعِرُ
فَنَقّبْ عَنْ الْأُمْلُوكِ وَاهْتِفْ بِيَعْفُرٍ ... وَعِشْ جَارَ عِزّ لَا
يُغَالِبُهُ الدّهْرُ
وَقَدْ قِيلَ إنّ الْأُمْلُوكَ كَانَ عَلَى عَهْدِ منوشهر ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ
مُوسَى - عَلَيْهِ السّلَامُ - كُلّ هَؤُلَاءِ مَذْكُورُونَ بِأَخْبَارِهِمْ فِي
غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ . وَعَمْرُو ذُو الْأَذْعَارِ كَانَ عَلَى عَهْدِ
سُلَيْمَانَ ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلِ وَكَانَ أَوْغَلَ فِي دِيَارِ الْمَغْرِبِ
وَسَبَى أُمّةً وُجُوهُهَا فِي صُدُورِهَا ، فَذُعِرَ النّاسُ مِنْهُمْ فَسُمّيَ
ذَا الْأَذْعَارِ وَبَعْدَهُ مَلَكَتْ بِنْتُ بِلْقِيسَ هَدَاهِدُ بْنُ
شُرَحْبِيلَ صَاحِبَةُ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَاسْمُ أُمّهَا
يَلْمُقهُ بِنْتُ جِنّي ، وَقِيلَ رَوَاحَةُ بِنْتُ سُكَين . قَالَهُ ابْنُ
هِشَامٍ . وَزَعَمَ أَيْضًا أَنّهَا قَتَلَتْ عَمْرًا ذَا الْأَذْعَارِ بِحِيلَةِ
ذَكَرَهَا ، وَأَنّهُ سُمّيَ ذَا الْأَذْعَارِ لِكَثْرَةِ مَا ذُعِرَ النّاسُ
مِنْهُ لِجَوْرِهِ وَأَنّهُ ابْنُ أَبْرَهَةَ ذِي الْمَنَارِ بْنِ الصّعْبِ وَهُوَ
ذُو الْقَرْنَيْنِ بْنُ ذِي مَرَاثِلَ الْحِمْيَرِيّ ، وَأَبُوهُ أَبْرَهَةُ ذُو
الْمَنَارِ سُمّيَ [ ص 70 ] نِيرَانًا فِي جِبَالٍ لِيَهْتَدِيَ بِهَا . وَأَمّا
حَسّانُ الّذِي ذُكِرَ فَهُوَ الّذِي اسْتَبَاحَ طَسْمًا ، وَصَلَبَ الْيَمَامَةَ
الزّرْقَاءَ وَذَلِكَ حِينَ اسْتَصْرَخَهُ عَلَيْهِمْ رَبَاحُ بْنُ مُرّةَ أَخُو
الزّرْقَاءِ ، وَهُوَ مِنْ فَلّ جَدِيسٍ وَقَدْ تَقَدّمَ الْإِيمَاءُ إلَى
خَبَرِهِمْ . وَمَعْنَى تُبّعٍ فِي لُغَةِ الْيَمَنِ : الْمَلِكُ الْمَتْبُوعُ
وَقَالَ الْمَسْعُودِيّ : لَا يُقَالُ لِلْمَلَكِ تُبّعٌ حَتّى يَغْلِبَ الْيَمَنَ
وَالشّحْرَ وَحَضْرَمَوْتَ . وَأَوّلُ التّبَابِعَةِ : الْحَارِثُ الرّائِشُ
وَهُوَ ابْنُ هَمّالِ بْنِ ذِي شَدَدٍ وَسُمّيَ الرّائِشَ لِأَنّهُ رَاشَ النّاسَ
بِمَا أَوْسَعَهُمْ مِنْ الْعَطَاءِ وَقَسَمَ فِيهِمْ مِنْ الْغَنَائِمِ وَكَانَ
أَوّلَ مَنْ غَنِمَ فِيمَا ذَكَرُوا . وَأَمّا الْعَرَنْجَجُ الّذِي ذَكَرَ أَنّهُ
حِمْيَرُ بْنُ سَبَأٍ ، فَمَعْنَاهُ بِالْحِمْيَرِيّةِ الْعَتِيقُ . قَالَهُ ابْنُ
هِشَامٍ ، وَفِي عَهْدِ زَمَنِ تُبّعِ الْأَوْسَطِ - وَهُوَ حَسّانُ بْنُ تُبّان
أَسَعْدُ - كَانَ خُرُوجُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنْ الْيَمَنِ مِنْ أَجْلِ سَيْلِ
الْعَرِمِ ، فِيمَا ذَكَرَ الْقُتَبِيّ . وَأَمّا عَمْرٌو أَخُو حَسّانَ الّذِي
ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قِصّتَهُ وَقَتَلَهُ لِأَخِيهِ . فَهُوَ الْمَعْرُوفُ
بِمَوْثَبَانَ . سُمّيَ بِذَلِكَ لِلُزُومِهِ الْوِثَابِ وَهُوَ [ السّرِيرُ ]
الْفِرَاشُ وَقِلّةُ غَزْوِهِ . قَالَهُ الْقُتَبِيّ .
سَبَبُ
غَضَبِ تُبّانٍ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ قَدْ جَعَلَ طَرِيقَهُ - حِينَ أَقْبَلَ مِنْ
الْمَشْرِقِ - عَلَى الْمَدِينَةِ ، وَكَانَ قَدْ مَرّ بِهِ فِي بَدْأَتِهِ فَلَمْ
يَهِجْ أَهْلَهَا ، وَخَلّفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ابْنًا لَهُ فَقُتِلَ غِيلَةً
فَقَدِمَهَا وَهُوَ مُجْمِعٌ لِإِخْرَابِهَا ، وَاسْتِئْصَالِ أَهْلِهَا ،
وَقَطْعِ نَخْلِهَا ، فَجُمِعَ لَهُ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ ،
وَرَئِيسُهُمْ عَمْرُو بْنُ طَلّةَ أَخُو بَنِي النّجّارِ ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي
عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ ، وَاسْمُ مَبْذُولٍ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ
، وَاسْم النّجّارِ تَيْمُ اللّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ ، بْنِ عَمْرِو ، بْنِ
الْخَزْرَجِ ، بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو ، بْنِ عَامِرٍ . [ ص
71 ] طَلّةَ وَنَسَبُهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَمْرُو ابْنُ طَلّةَ عَمْرُو بْنُ
مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ ، وَطَلّةُ
أُمّهُ وَهِيَ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ ، بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ
عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْب بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ .Sوَأَمّا
مَا ذَكَرَهُ مِنْ غَزْوِ تُبّعٍ الْمَدِينَةِ ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقُتَبِيّ أَنّهُ
لَمْ يَقْصِدْ غَزَوْهَا ، وَإِنّمَا قَصَدَ قَتْلَ الْيَهُودِ الّذِينَ كَانُوا
فِيهَا ، وَذَلِكَ أَنّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانُوا نَزَلُوهَا مَعَهُمْ
حِينَ خَرَجُوا مِنْ الْيَمَنِ عَلَى شُرُوطٍ وَعُهُودٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فَلَمْ
يَفِ لَهُمْ بِذَلِكَ يَهُودُ وَاسْتَضَامُوهُمْ فَاسْتَغَاثُوا [ ص 71 ] قِيلَ
بَلْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ لِأَبِي جُبَيْلَة الْغَسّانِيّ وَهُوَ الّذِي
اسْتَصْرَخَتْهُ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ عَلَى يَهُودَ فَاَللّهُ أَعْلَمُ .
وَالرّجُلُ الّذِي عَدَا عَلَى عَذْقِ الْمَلِكِ وَجَدّهُ مِنْ بَنِي النّجّارِ
هُوَ مَالِكُ بْنُ الْعَجْلَانِ فِيمَا قَالَ الْقُتَبِيّ ، وَلَا يَصِحّ هَذَا
عِنْدِي فِي الْقِيَاسِ لِبُعْدِ عَهْدِ تُبّعٍ مِنْ مُدّةِ مَلِكِ بْنِ
الْعَجْلَانِ . وَخَبَرُ مَلِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ إنّمَا هُوَ مَعَ أَبِي
جُبَيْلَة الْغَسّانِيّ حِينَ اسْتَصْرَخَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ عَلَى الْيَهُودِ ،
فَجَاءَ حَتّى قَتَلَ وُجُوهًا مِنْ يَهُودَ . وَأَمّا تُبّعٌ فَحَدِيثُهُ أَقْدَمُ
مِنْ ذَلِكَ . يُقَالُ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِسَبْعِمِائَةِ عَامٍ
وَالصّحِيحُ فِي اسْمِ أَبِي جُبَيْلَة : جُبَيْلَة غَيْرُ مُكَنّى ، ابْنُ
عَمْرِو بْنِ جَبَلة بْنِ جَفْنَةَ وَجَفْنَةُ هُوَ غَلَبَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
عَامِرٍ مَاءِ السّمَاءِ . وَجُبَيْلَةُ هُوَ جَدّ جَبَلة بْنِ الْأَيْهَمِ آخِرُ
مُلُوكِ بَنِي جَفْنَةَ وَمَاتَ جُبَيْلَة الْغَسّانِيّ مِنْ عَلَقَةٍ شَرِبَهَا
فِي مَاءٍ وَهُوَ مُنْصَرَفٍ عَنْ الْمَدِينَةِ . وَذَكَرَ أَنّ تُبّعًا أَرَادَ
تَخْرِيبَ الْمَدِينَةِ ، وَاسْتِئْصَالَ الْيَهُودِ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ
مِنْهُمْ لَهُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ سَنَةً الْمَلِكُ أَجَلّ مِنْ أَنْ يَطِيرَ
بِهِ نَزَقٌ . أَوْ يَسْتَخْفِهِ غَضَبٌ وَأَمْرُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَضِيقَ
عَنّا حِلْمُهُ أَوْ نُحْرَمُ صَفْحَهُ مَعَ أَنّ هَذِهِ الْبَلْدَةَ مُهَاجَرُ نَبِيّ
يُبْعَثُ بِدِينِ إبْرَاهِيمَ . وَهَذَا الْيَهُودِيّ هُوَ أَحَدُ الْحَبْرَيْنِ
اللّذَيْنِ ذَكَرَ ابْن إسْحَاقَ ، قَالَ وَاسْمُ الْحَبْرَيْنِ سُحَيْتٌ
وَالْآخَرُ مُنَبّهٌ . ذَكَرَ ذَلِكَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ وَفِي
رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، قَالَ وَاسْمُ الْحَبْرِ الّذِي كَلّمَ
الْمَلِكَ بليامين ، وَذَكَرَ أَنّ امْرَأَةً اسْمُهَا : فُكَيْهَةُ مِنْ بَنِي
زُرَيْقٍ كَانَتْ تَحْمِلُ لَهُ الْمَاءَ مِنْ بِئْرِ رُومَةَ بَعْدَمَا قَالَ
لَهُ الْحَبْرَانِ مَا قَالَا ، وَكَفّ عَنْ قِتَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ،
وَدَخَلُوا عَسْكَرَهُ فَأَعْطَى فُكَيْهَةَ حَتّى أَغْنَاهَا ، فَلَمْ تَزَلْ
هِيَ وَعَشِيرَتُهَا مِنْ أَغْنَى الْأَنْصَارِ حَتّى [ ص 72 ] آمَنَ الْمَلِكُ
بِمُحَمّدِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأُعْلِمَ بِخَبَرِهِ قَالَ
شَهِدْت عَلَى أَحْمَدَ أَنّهُ ... نَبِيّ مِنْ اللّهِ بَارِي النّسَمْ
فَلَوْ مُدّ عُمْرِي إلَى عُمْرِهِ ... لَكُنْت وَزِيرًا لَهُ وَابْنُ عَمْ
وَجَاهَدْت بِالسّيْفِ أَعْدَاءَهُ ... وَفَرّجْت عَنْ صَدْرِهِ كُلّ هَمْ
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدّنْيَا فِي كِتَابِ الْقُبُورِ وَذَكَرَهُ أَيْضًا أَبُو
إسْحَاقَ الزّجّاجُ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي لَهُ أَنّ قَبْرًا حُفِرَ بِصَنْعَاءَ
فَوُجِدَ فِيهِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا لَوْحٌ مِنْ فِضّةٍ مَكْتُوبٌ بِالذّهَبِ
وَفِيهِ هَذَا قَبْرُ لَمِيسَ وَحُبّى ابْنَتَيْ تُبّعٍ مَاتَا ، وَهُمَا
تَشْهَدَانِ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيك لَهُ وَعَلَى ذَلِكَ مَاتَ
الصّالِحُونَ قَبْلَهُمَا ، وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - لَا أَدْرِي أَتُبّعٌ لَعِينٌ أَمْ لَا وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَالَ لَا تَسُبّوا تُبّعًا ؛ فَإِنّهُ كَانَ
مُؤْمِنًا فَإِنْ صَحّ هَذَا الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ فَإِنّمَا هُوَ بَعْدَمَا
أُعْلِمَ بِحَالِهِ وَلَا نَدْرِي : أَيّ التّبَايِعَةِ أَرَادَ غَيْرَ أَنّ فِي
حَدِيثِ مَعْمَرٍ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لَا تَسُبّوا أَسْعَدَ
الْحِمْيَرِيّ ، فَإِنّهُ أَوّلُ مَنْ كَسَا الْكَعْبَةَ فَهَذَا أَصَحّ مِنْ
الْحَدِيثِ الْأَوّلِ وَأَبْيَنُ حَيْثُ ذَكَرَ فِيهِ أَسَعْدَ . وَتُبّانُ أَسْعَدُ
الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ وَقَدْ كَانَ تُبّعٌ الْأَوّلُ مُؤْمِنًا أَيْضًا
بِالنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ الرّائِشُ وَقَدْ قَالَ
شِعْرًا يُنْبِئُ فِيهِ بِمَبْعَثِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
يَقُولُ فِيهِ
وَيَأْتِي بَعْدَهُمْ رَجُلٌ عَظِيمٌ ... نَبِيءٌ لَا يُرَخّصُ فِي الْحَرَامِ
وَقَدْ قِيلَ أَنّهُ الْقَائِلُ
مَنَعَ الْبَقَاءَ تَصَرّفُ الشّمْسِ ... وَطُلُوعُهَا مِنْ حَيْثُ لَا تُمْسِي
الْيَوْمَ أَعْلَمُ مَا يَجِيءُ بِهِ ... وَمَضَى بِفَصْلِ قَضَائِهِ أَمْسِ
وَطُلُوعُهَا بَيْضَاءُ مُشْرِقَةٌ ... وَغُرُوبُهَا صَفْرَاءُ كَالْوَرْسِ
تَجْرِي عَلَى كَبِدِ السّمَاءِ كَمَا ... يَجْرِي حِمَامُ الْمَوْتِ فِي النّفْسِ
[ ص 73 ] قِيلَ إنّ هَذَا الشّعْرَ لِتُبّعِ الْآخَرُ [ وَقِيلَ لِأُسْقُفِ
نَجْرَانَ ] ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ وَمِنْ هَذَا أَخَذَ أَبُو تَمَامٍ قَوْلَهُ
أَلْقَى إلَى كَعْبَةِ الرّحْمَنِ أَرْحُلَهُ ... وَالشّمْسُ قَدْ نَفَضَتْ
وَرْسًا عَلَى الْأُصُلِ
قِصّةُ
مُقَاتَلَةِ تُبّانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 73 ] كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ ،
يُقَالُ لَهُ أَحْمَرُ عَدَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ تُبّعٍ حِينَ نَزَلَ
بِهِمْ فَقَتَلَهُ وَذَلِكَ أَنّهُ وَجَدَهُ فِي عَذْقٍ لَهُ يَجُدّهُ فَضَرَبَهُ
بِمِنْجَلِهِ فَقَتَلَهُ وَقَالَ إنّمَا التّمْرُ لِمَنْ أَبَرّهُ ، فَزَادَ
ذَلِكَ تُبّعًا حَنَقًا عَلَيْهِمْ فَاقْتَتَلُوا ، فَتُزْعِمُ الْأَنْصَارُ
أَنّهُمْ كَانُوا يُقَاتِلُونَهُ بِالنّهَارِ وَيُقِرّونَهُ بِاللّيْلِ
فَيُعْجِبُهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَيَقُولُ وَاَللّهِ إنّ قَوْمَنَا لَكِرَامٌ .
فَبَيْنَا تُبّعٌ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِتَالِهِمْ إذْ جَاءَهُ حَبْرَانِ مِنْ
أَحْبَارِ الْيَهُودِ ، مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ - وَقُرَيْظَةُ وَالنّضِيرُ
وَالنّجّامُ وَعَمْرٌو - وَهُوَ هَدْلٌ - بَنُو الْخَزْرَجِ بْنِ الصّرِيحِ بْنِ
التّوْمَانِ بْنِ السّبْطِ بْنِ الْيَسَعَ بْنِ سَعْدِ بْنِ لَاوِيّ بْنِ خَيْرِ
بْنِ النّجّامِ ، بْنِ تَنْحوم ، بْنِ عازَر ، بْنِ [ ص 74 ] عِزْرَى ، بْنُ
هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ ، بْنِ يَصْهَرُ بْنِ قَاهِث ، بْنِ لَاوِيّ بْنِ
يَعْقُوبَ - وَهُوَ إسْرَائِيلُ - بْنُ إسْحَاق بْنِ إبْرَاهِيمَ خَلِيلُ
الرّحْمَنِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِمْ - عَالِمَانِ رَاسِخَانِ فِي الْعِلْمِ
حِينَ سَمِعَا بِمَا يُرِيدُ مِنْ إهْلَاكِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا ، فَقَالَا
لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ لَا تَفْعَلْ فَإِنّك إنْ أَبَيْت إلّا مَا تُرِيدُ حِيلَ
بَيْنَك وَبَيْنَهَا ، وَلَمْ نَأْمَنْ عَلَيْك عَاجِلَ الْعُقُوبَةِ فَقَالَ لَهُمَا
: وَلِمَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَا : هِيَ مُهَاجَرُ نَبِيّ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا
الْحَرَمِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي آخِرِ الزّمَانِ تَكُونُ دَارَهُ وَقَرَارَهُ
فَتَنَاهَى عَنْ ذَلِكَ وَرَأَى أَنّ لَهُمَا عِلْمًا ، وَأَعْجَبَهُ مَا سَمِعَ
مِنْهُمَا ، فَانْصَرَفَ عَنْ الْمَدِينَةِ ، وَأَتْبَعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا ،
فَقَالَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ غَزِيّة بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ بْنِ
عَوْفِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ يَفْخَرُ بِعَمْرِو بْنِ طَلّةَ [
ص 75 ]
أَصَحَا أَمْ قَدْ نَهَى ذُكَرَه ... أَمْ قَضَى مِنْ لَذّةٍ وَطَرَهْ
أَمْ تَذَكّرْت الشّبَابَ وَمَا ... ذِكْرُك الشّبَابَ أَوْ عُصُرَهْ
إنّهَا حَرْبٌ رَبَاعِيَةٌ ... مِثْلُهَا آتَى الْفَتَى عِبَرَهْ
فَاسْأَلَا عِمْرَانَ أَوْ أَسَدًا ... إذْ أَتَتْ عَدْوًا مَعَ الزّهَرَهْ
فَيْلَقٌ فِيهَا أَبُو كَرِب ... سُبّغ أَبْدَانُهَا ذَفِرَهْ
ثُمّ قَالُوا : مِنْ نَؤُمّ بِهَا ... ابْنَيْ عَوْفٍ أُمّ النّجَره ؟
بَلْ بَنِي النّجّارُ إنّ لَنَا ... فِيهِمْ قَتْلَى ، وَإِنّ تِرَه
فَتَلَقّتْهُمْ مُسَايَفَةٌ ... مُدّهَا كالغَبْية النّثِره
فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ طَلّةَ م ... لّى الْإِلَهُ قَوْمَهُ عُمُرَهْ
سَيّدٌ سَامَى الْمُلُوكَ وَمَنْ ... رَامَ عَمْرًا لَا يَكُنْ قَدَرَهْ
[ ص 76 ] الْأَنْصَارِ يَزْعُمُونَ أَنّهُ إنّمَا كَانَ حَنَقَ تُبّعٍ عَلَى هَذَا
الْحَيّ مِنْ يَهُودَ [ ص 77 ] كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَإِنّمَا أَرَادَ
هَلَاكَهُمْ فَمَنَعُوهُمْ مِنْهُ حَتّى انْصَرَفَ عَنْهُمْ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي
شِعْرِهِ
حَنَقًا عَلَى سِبْطَيْنِ حَلّا يَثْرِبَا ... أَوْلَى لَهُمْ بِعِقَابِ يَوْمٍ
مُفْسِدِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الشّعْرُ الّذِي فِيهِ هَذَا الْبَيْتُ مَصْنُوعٌ فَذَلِكَ
الّذِي مَنَعَنَا مِنْ إثْبَاتِهِ .Sغَرِيبُ
حَدِيثِ تُبّعٍ
ذَكَرَ فِيهِ فَجَدّ عَذْق الْمَلِكِ . الْعَذْقُ النّخْلَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ
وَالْعِذْق بِالْكَسْرَةِ الْكِبَاسَةُ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ التّمْرِ وَذَكَرَ
فِي نَسَبِ قُرَيْظَةَ وَالنّضِيرِ عَمْرًا ، وَهُوَ هَدَلٌ بِفَتْحِ الدّالّ
وَالْهَاءُ كَأَنّهُ مَصْدَرُ هَدَلَ هَدْلًا إذَا اسْتَرْخَتْ شَفَتُهُ
وَذَكَرَهُ الْأَمِيرُ ابْنُ مَاكُولَا عَنْ أَبِي عَبْدَةَ النّسّابَةِ فَقَالَ
فِيهِ هَدْلٌ بِسُكُونِ الدّالِ . وَذَكَرَ فِيهِ ابْنُ التّوْمَانِ عَلَى وَزْنِ
فَعَلَانِ كَأَنّهُ مِنْ لَفْظِ التّوَمِ وَهُوَ الدّرّ أَوْ نَحْوُهُ . وَفِيهِ
ابْنُ السّبْطِ بِكَسْرِ السّينِ وَفِيهِ ابْنُ تَنْحوم بِفَتْحِ التّاءِ
وَسُكُونِ النّونِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ عِبْرَانِيّ ، وَكَذَلِكَ
عازَر ، وَعِزْرَى بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِنْ عِزْري . وقاهث ، وَبِالتّاءِ
الْمَنْقُوطَةِ بِاثْنَتَيْنِ . وَهَكَذَا وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ أَبِي
بَحْرٍ . وَفِي غَيْرِهَا بِالثّاءِ الْمُثَلّثَةِ وَكُلّهَا عِبْرَانِيّةٌ .
وَكَذَلِكَ إسْرَائِيلُ وَتَفْصِيلُهُ بِالْعَرَبِيّةِ سَرِيّ اللّهِ . [ ص 74 ]
عَبْدِ الْعُزّى : أَصَحَا أَمْ قَدْ نَهَى ذُكَرَه . الذّكَرُ جَمْعُ ذِكْرَةٍ .
كَمَا تَقُولُ بُكْرَةٌ وَبُكَر ، وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى ذِكْرَى
بِالْأَلْفِ وَقَلّمَا يُجْمَعُ فِعْلى عَلَى فُعَل ، وَإِنّمَا يُجْمَعُ عَلَى فِعَالٍ
فَإِنْ كَانَ أَرَادَ فِي هَذَا الْبَيْتِ جَمْعَ : ذِكْرَى ، وَشَبّهَ أَلِفَ
التّأْنِيثِ بِهَاءِ التّأْنِيثِ فَلَهُ وَجْهٌ قَدْ يَحْمِلُونَ الشّيْءَ عَلَى
الشّيْءِ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ . وَقَوْلُهُ ذِكْرُك الشّبَابَ أَوْ عُصُرَهْ
أَرَادَ أَوْ عُصُرَهْ . وَالْعَصْرُ وَالْعُصُر لُغَتَانِ . وَحُرّكَ الصّادَ
بِالضّمّ قَالَ ابْنُ جِنّي : لَيْسَ شَيْءٌ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ بِسُكُونِ
الْعَيْنِ يَمْتَنِعُ فِيهِ فُعُل . وَقَوْلُهُ إنّهَا حَرْبٌ رَبَاعِيَةٌ .
مَثَلٌ . أَيْ لَيْسَتْ بِصَغِيرَةِ وَلَا جَذَعَةٍ . بَلْ هِيَ فَوْقَ ذَلِكَ
وَضُرِبَ سِنّ الرّبَاعِيَةِ مَثَلًا ، كَمَا يُقَالُ حَرْبٌ عَوَانٌ . لِأَنّ
الْعَوَانَ أَقْوَى مِنْ الْفِتْيَةِ وَأَدْرَبُ . وَقَوْلُهُ عَدْوًا مَعَ
الزّهَرَهْ . يُرِيدُ صَبّحَهُمْ بِغَلَسِ قَبْلَ مَغِيبِ الزّهَرَةِ وَقَوْلُهُ أَبْدَانُهَا
ذَفِرَهْ [ ص 75 ] الرّائِحَةِ طَيّبَةً كَانَتْ أَوْ كَرِيهَةً . وَأَمّا
الدّفْرُ بِالدّالِ الْمُهْمَلَةِ فَإِنّمَا هُوَ فِيمَا كَرِهَ مِنْ الرّوَائِحِ
وَمِنْهُ قِيلَ لِلدّنْيَا : أُمّ دَفْرٍ وَذَكَرَهُ الْقَالِيّ فِي الْأَمَالِي
بِتَحْرِيكِ الْفَاءِ وَغَلِطَ فِي ذَلِكَ وَالدّفْرُ بِالسّكُونِ أَيْضًا :
الدّفْعُ . وَقَوْلُهُ أَمّ النّجِرَةِ . جَمْعُ نَاجِرٍ وَالنّاجِرُ وَالنّجّارُ
بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَهَذَا كَمَا قِيلَ الْمَنَاذِرَة فِي بَنِي الْمُنْذِرِ
وَالنّجّارُ وَهُمْ تَيْمُ اللّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ
، وَسُمّيَ النّجّارَ لِأَنّهُ نَجَرَ وَجْهَ رَجُلٌ بِقَدّومِ فِيمَا ذَكَرَ
بَعْضُ أَهْلِ النّسَبِ . وَقَوْلُهُ فِيهِمْ قَتْلَى وَإِنّ تِرَه . أَظَهَرَ إنّ
بَعْدَ الْوَاوِ . أَرَادَ إنّ لَنَا قَتْلَى وَتِرَةٌ وَالتّرَةُ الْوِتْرُ
فَأَظْهَرَ الْمُضْمَرَ وَهَذَا الْبَيْتُ شَاهِدٌ عَلَى أَنّ حُرُوفَ الْعَطْفَ
يُضْمَرُ بَعْدَهَا الْعَامِلُ الْمُتَقَدّمُ نَحْوُ قَوْلِك : إنّ زَيْدًا
وَعَمْرًا فِي الدّارِ فَالتّقْدِيرُ إنّ زَيْدًا ، وَإِنّ عَمْرًا فِي الدّارِ
وَدَلّتْ الْوَاوُ عَلَى مَا أَرَدْت ، وَإِنْ احْتَجْت إلَى الْإِظْهَارِ
أُظْهِرَتْ كَمَا فِي هَذَا الْبَيْتِ إلّا أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ الْجَامِعَةُ
فِي نَحْوِ اخْتَصَمَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو ، فَلَيْسَ ثَمّ إضْمَارٌ لِقِيَامِ
الْوَاوِ مَقَامَ صِيغَةِ التّثْنِيَةِ كَأَنّك قُلْت : اخْتَصَمَ هَذَانِ وَعَلَى
هَذَا تَقُولُ طَلَعَ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ فَتُغَلّبُ الْمُذَكّرَ كَأَنّك قُلْت
: طَلَعَ هَذَانِ النّيرَانِ فَإِنْ جَعَلْت الْوَاوَ هِيَ الّتِي تُضْمَرُ
بَعْدَهَا الْفِعْلُ قُلْت : طَلَعَتْ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَتَقُولُ فِي نَفْيِ
الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى : مَا طَلَعَ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَنَفْيِ
الْمَسْأَلَةِ الثّانِيَةِ مَا طَلَعَتْ الشّمْسُ وَلَا الْقَمَرُ تُعِيدُ حَرْفَ
النّفْيِ . لِيَنْتَفِيَ بِهِ الْفِعْلُ الْمُضْمَرُ . وَيَتَفَرّعُ مِنْ هَذَا
الْأَصْلِ فِي النّحْوِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ لَا نُطَوّلُ بِذِكْرِهَا .
وَقَوْلُهُ فَتَلَقّتْهُمْ مُسَايِفَةٌ بِكَسْرِ الْيَاءِ أَيْ كَتِيبَةٌ
مُسَايِفَةٌ . وَلَوْ فَتَحْت الْيَاءَ فَقُلْت : مُسَايَفَةٌ لَكَانَ حَالًا مِنْ
الْمَصْدَرِ الّتِي تَكُونُ أَحْوَالًا مِثْلَ كَلّمْته مُشَافَهَةً وَلَعَلّ
هَذِهِ الْحَالُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ذِكْرٌ فِي الْكِتَابِ فَنَكْشِفُ عَنْ
سِرّهَا ، وَنُبَيّنُ مَا خَفِيَ عَلَى النّاسِ مِنْ أَمْرِهَا ، وَفِي غَيْرِ
نُسْخَةٍ الشّيْخُ فَتَلَقّتْهُمْ مُسَابَقَةً بِالْبَاءِ وَالْقَافِ .
وَالْغَبْيَةُ الدّفْعَةُ مِنْ الْمَطَرِ . وَقَوْلُهُ النّثِرَةِ أَيْ
الْمُنْتَثِرَةِ وَهِيَ الّتِي لَا تُمْسِكُ مَاءً . وَقَوْلُهُ [ مَلّى ]
الْإِلَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ [ ص 76 ] قَالَ ابْنُ أَحْمَرَ
أَلَا يَا دِيَارَ الْحَيّ بِالسّبُعَانِ ... أَمَلّ عَلَيْهَا بِالْبِلَى
الْمَلَوَانِ
أَلَا يَا دِيَارَ الْحَيّ لَا هَجْرَ بَيْنَنَا ... وَلَا كُنّ رَوْعَاتٍ مِنْ
الْحَدَثَانِ
نَهَارٌ وَلَيْلٌ دَائِبٌ مَلَوَاهُمَا ... عَلَى كُلّ حَالِ النّاسِ
يَخْتَلِفَانِ
مَعْنَى قَوْلِ الشّاعِرِ دَائِبٌ مَلَوَاهُمَا . وَالْمَلَوَانِ اللّيْلُ
وَالنّهَارُ . وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنّ الشّيْءَ لَا يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ .
لَكِنّهُ جَازَ هَهُنَا لِأَنّ الْمَلَا هُوَ الْمُتّسَعُ مِنْ الزّمَانِ
وَالْمَكَانِ وَسُمّيَ اللّيْلُ وَالنّهَارُ مَلَوَيْنِ لِانْفِسَاحِهِمَا ،
فَكَأَنّهُ وَصْفٌ لَهُمَا ، لَا عِبَارَةَ عَنْ ذَاتَيْهِمَا ؛ وَلِذَلِكَ
جَازَتْ إضَافَتُهُ إلَيْهَا ، فَقَالَ دَائِبٌ مَلَوَاهُمَا أَيْ مُدّاهُمَا
وَانْفِسَاحُهُمَا . وَقَدْ رَأَيْت مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَيْتِ
بِعَيْنِهِ لِأَبِي عَلِيّ الفسوري فِي بَعْضِ مَسَائِلِهِ الشّيرَازِيّةِ .
وَقَوْلُهُ لَا يَكُنْ قَدَرُهُ . دُعَاءُ عَلَيْهِ وَالْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى
عَمْرٍو . أَرَادَ لَا يَكُنْ قَدَرٌ عَلَيْهِ . وَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرّ
فَتَعَدّى الْفِعْلُ فَنَصَبَ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرّ فِي كُلّ
فِعْلٍ وَإِنّمَا جَازَ فِي هَذَا ، لِأَنّهُ فِي مَعْنَى : اسْتَطَاعَهُ أَوْ
أَطَاعَهُ فَحَمَلَ عَلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ
وَالْبَيْتُ الّذِي أَنْشَدَهُ
لَيْتَ حَظّي مِنْ أَبِي كَرِب ... أَنْ يَسُدّ خَيْرُهُ خَبَلَهْ
قَالَ الْبَرْقِيّ : نُسِبَ هَذَا الْبَيْتُ إلَى الْأَعْشَى ، وَلَمْ يَصِحّ
قَالَ وَإِنّمَا هُوَ لِعَجُوزِ مِنْ بَنِي سَالِمٍ . أَحَبّهُ قَالَ فِي اسْمِهَا
: جَمِيلَةُ قَالَتْهُ حِينَ جَاءَ مَالِكُ بْنُ الْعَجْلَانِ بِخَبَرِ تُبّعٍ ،
فَدَخَلَ سِرّا ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ قَدْ جَاءَ تُبّعٌ ، فَقَالَتْ الْعَجُوزُ الْبَيْتَ
. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ تُبّعٍ : وَقَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنّ حَنَقَهُ إنّمَا
كَانَ عَلَى هَذَيْنِ السّبْطَيْنِ مِنْ يَهُودَ يُقَوّي مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ
هَذَا عَنْهُ . [ ص 77 ] زَعَمَ ابْنُ هِشَامٍ أَنّهُ مَصْنُوعٌ قَدْ ذَكَرَهُ فِي
كِتَابِ التّيجَانِ وَهُوَ قَصِيدٌ مُطَوّلٌ أَوّلُهُ
مَا بَالُ عَيْنِك لَا تَنَامُ كَأَنّمَا ... كُحِلَتْ مَآقِيُهَا بِسُمّ
الْأَسْوَدِ
حَنَقًا عَلَى سِبْطَيْنِ حَلّا يَثْرِبَا ... أَوْلَى لَهُمْ بِعِقَابِ يَوْمٍ
مُفْسِدِ
وَذَكَرَ فِي الْقَصِيدَةِ ذَا الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ الصّعْبُ بْنُ ذِي مَرَاثِدَ
فَقَالَ فِيهِ
وَلَقَدْ أَذَلّ الصّعْبُ صَعْبَ زَمَانِهِ ... وَأَنَاطَ عُرْوَةَ عِزّهُ
بِالْفَرْقَدِ
لَمْ يَدْفَعْ الْمَقْدُورَ عَنْهُ قُوّةً ... عِنْدَ الْمَنُونِ وَلَا سُمُوّ
الْمَحْتِدِ
وَالصّنْعَةُ بَادِيَةٌ فِي هَذَا الْبَيْتِ وَفِي أَكْثَرِ شِعْرِهِ وَفِيهِ
يَقُولُ
فَأَتَى مَغَارَ الشّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا ... فِي عَيْنِ ذِي خُلُبٍ وَثَأْطَ
حَرْمَدِ
وَالْخُلُبُ الطّينُ وَالثّأَطُ الْحَرْمَدُ وَهُوَ الْحَمَأُ الْأَسْوَدُ وَرَوَى
نَقَلَةُ الْأَخْبَارِ أَنّ تُبّعًا لَمّا عَمِدَ إلَى الْبَيْتِ يُرِيدُ
إخْرَابَهُ رُمِيَ بِدَاءِ تَمَخّضَ مِنْهُ رَأْسُهُ قَيْحًا وَصَدِيدًا يَثُجّ
ثَجّا ، وَأَنْتَنَ حَتّى لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُ قَيْدَ
الرّمْحِ وَقِيلَ بَلْ أُرْسِلَتْ عَلَيْهِ رِيحٌ كَتّعَتْ مِنْهُ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ
وَأَصَابَتْهُمْ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ حَتّى دَفّتْ خَيْلُهُمْ فَسُمّيَ ذَلِكَ
الْمَكَانُ الدّفّ فَدَعَا بِالْحُزَاةِ وَالْأَطِبّاءِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ دَائِهِ
فَهَالَهُمْ مَا رَأَوْا مِنْهُ وَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ فَرَجًا . فَعِنْدَ
ذَلِكَ قَالَ لَهُ الْحَبْرَانِ : لَعَلّك هَمَمْت بِشَيْءِ فِي أَمْرِ هَذَا
الْبَيْتِ فَقَالَ نَعَمْ أَرَدْت هَدْمَهُ . فَقَالَا لَهُ تُبْ إلَى اللّهِ
مِمّا نَوَيْت فَإِنّهُ بَيْتُ اللّهِ وَحَرَمُهُ وَأَمَرَاهُ بِتَعْظِيمِ
حُرْمَتِهِ فَفَعَلَ فَبَرِئَ مِنْ دَائِهِ وَصَحّ مِنْ وَجَعِهِ . وَأَخْلِقْ
بِهَذَا الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فَإِنّ اللّهَ - سُبْحَانَهُ - يَقُولُ {
وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [
الْحَجّ : 25 ] . أَيْ وَمَنْ يُسْهِمُ فِيهِ بِظُلْمِ . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ
بِظُلْمِ تَدُلّ عَلَى صِحّةِ الْمَعْنَى ، وَأَنّ مَنْ هَمّ فِيهِ بِالظّلْمِ -
وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ - عُذّبَ تَشْدِيدًا فِي حَقّهِ وَتَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ
وَكَمَا فَعَلَ اللّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَهْلَكَهُمْ قَبْلَ الْوُصُولِ
إلَيْهِ .
تُبّعٌ
يَعْتَنِقُ النّصْرَانِيّةَ وَيَدْعُو قَوْمَهُ إلَيْهَا
[ ص 78 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ تُبّعٌ وَقَوْمُهُ أَصْحَابُ أَوْثَانٍ
يَعْبُدُونَهَا ، فَتَوَجّهَ إلَى مَكّةَ ، وَهِيَ طَرِيقُهُ إلَى الْيَمَنِ ،
حَتّى إذَا كَانَ بَيْنَ عُسْفان ، وَأَمَجَ ، أَتَاهُ نَفَرٌ مِنْ هُذَيل بْنِ
مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ ، فَقَالُوا لَهُ
أَيّهَا الْمَلِكُ أَلَا نَدُلّك عَلَى بَيْتِ مَالٍ دَائِرٍ أَغَفَلَتْهُ
الْمُلُوكُ قَبْلَك ، فِيهِ اللّؤْلُؤُ وَالزّبَرْجَدُ وَالْيَاقُوتُ وَالذّهَبُ وَالْفِضّةُ
؟ قَالَ بَلَى ، قَالُوا : بَيْتُ بِمَكّةَ يَعْبُدُهُ أَهْلُهُ وَيُصَلّونَ
عِنْدَهُ . وَإِنّمَا أَرَادَ الُهُذَلِيّونَ هَلَاكَهُ بِذَلِكَ لَمّا عَرَفُوا
مِنْ هَلَاكِ مَنْ أَرَادَهُ مِنْ الْمُلُوكِ وَبَغَى عِنْدَهُ . فَلِمَا أَجْمَعَ
لِمَا قَالُوا ، أَرْسَلَ إلَى الْحَبْرَيْنِ فَسَأَلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَا
لَهُ مَا أَرَادَ الْقَوْمُ إلّا هَلَاكَك وَهَلَاكَ جُنْدَك . مَا نَعْلَمُ
بَيْتًا لِلّهِ اتّخَذَهُ فِي الْأَرْضِ لِنَفْسِهِ غَيْرَهُ وَلَئِنْ فَعَلْت مَا
دَعَوْك إلَيْهِ لَتَهْلِكَنّ وَلَيَهْلِكَنّ مَنْ مَعَك جَمِيعًا ، قَالَ
فَمَاذَا تَأْمُرَانِنِي أَنْ أَصْنَعَ إذَا أَنَا قَدِمْت عَلَيْهِ ؟ قَالَا :
تَصْنَعُ عِنْدَهُ مَا يَصْنَعُ أَهْلُهُ تَطُوفُ بِهِ وَتُعَظّمُهُ وَتُكْرِمُهُ
وَتَحْلِقُ رَأْسَك عِنْدَهُ وَتَذِلّ لَهُ حَتّى تَخْرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ
فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْتُمَا مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَا : أَمَا وَاَللّهِ إنّهُ
لَبَيْتُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ وَإِنّهُ لَكُمَا أَخْبَرْنَاك ، وَلَكِنْ أَهْلُهُ
حَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ بِالْأَوْثَانِ الّتِي نَصَبُوهَا حَوْلَهُ
وَبِالدّمَاءِ الّتِي يُهْرِيقُونَ عِنْدَهُ وَهُمْ نَجَسٌ أَهْلُ شِرْكٍ - أَوْ
كَمَا قَالَا لَهُ - فَعَرَفَ نُصْحَهُمَا وَصَدّقَ حَدِيثَهُمَا فَقَرّبَ
النّفَرَ مِنْ هُذَيل ، فَقَطّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ ثُمّ مَضَى حَتّى
قَدِمَ مَكّةَ ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَنَحَرَ عِنْدَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ
وَأَقَامَ بِمَكّةَ سِتّةَ أَيّامٍ - فِيمَا يَذْكُرُونَ - يَنْحَرُ بِهَا
لِلنّاسِ وَيُطْعِمُ أَهْلَهَا ، وَيَسْقِيهِمْ الْعَسَلَ وَأُرِيَ فِي الْمَنَامِ
أَنْ يَكْسُوَ الْبَيْتَ فَكَسَاهُ الْخَصَفَ ثُمّ أُرِي أَنْ يَكْسُوهُ أَحْسَنَ مِنْ
ذَلِكَ فَكَسَاهُ الْمَعَافِرَ ثُمّ أُرِي أَنْ يَكْسُوَهُ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ
فَكَسَاهُ الْمُلَاءَ وَالْوَصَائِلَ فَكَانَ تُبّعٌ - فِيمَا يَزْعُمُونَ -
أَوّلَ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ وَأَوْصَى بِهِ وُلَاتُهُ مِنْ جُرْهُمٍ ،
وَأَمَرَهُمْ بِتَطْهِيرِهِ وَأَلّا يُقَرّبُوهُ دَمًا ، وَلَا مَيْتَةً وَلَا [ ص
79 ] مِئْلَاتٍ وَهِيَ الْمَحَايِضُ وَجَعَلَ لَهُ بَابًا وَمِفْتَاحًا ،
وَقَالَتْ سُبَيعة بِنْتُ الْأَحَبّ بْنِ زَبِينة ، بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ عَوْفِ
بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ ، بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ
بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ وَكَانَتْ عِنْدَ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ
كَعْبِ ، بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ
غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ ، بْنِ كِنَانَةَ لِابْنِ لَهَا
مِنْهُ يُقَالُ لَهُ خَالِدٌ تُعُظّمَ عَلَيْهِ حُرْمَةُ مَكّةَ ، وَتَنْهَاهُ
عَنْ الْبَغْيِ فِيهَا ، وَتَذْكُرُ تُبّعًا وَتُذَلّلُهُ لَهَا ، وَمَا صَنَعَ
بِهَا :
أَبُنَيّ لَا تَظْلِمْ بِمَكّةَ لَاالصّغِيرَ وَلَا الْكَبِيرَ ... وَاحْفَظْ
مَحَارِمَهَا بُنَيّ وَلَا يَغُرّنّكَ الْغَرُورْ
أَبُنَيّ مَنْ يَظْلِمْ بِمَكّةَ يَلْقَ أَطْرَافَ الشّرُورْ ... أَبُنَيّ
يُضْرَبْ وَجْهُهُ وَيَلُحْ بِخَدّيْهِ السّعيرْ
أَبُنَيّ قَدْ جَرّبْتهَا فَوَجَدْت ظَالِمَهَا يَبُورْ ... اللّهُ أَمّنَهَا ،
وَمَا بُنِيَتْ بِعَرْصَتِهَا قُصورْ
وَلَقَدْ غَزَاهَا تُبّعٌ فَكَسَا بَنِيّتَهَا الْحَبِيرْ ... وَأَذَلّ رَبّي
مُلْكَهُ فِيهَا فَأَوْفَى بالنّذُورْ
يَمْشِي إلَيْهَا - حَافِيًا بِفِنَائِهَا - أَلْفَا بَعِيرْ ... يَسْقِيهِمْ
الْعَسَلَ الْمُصَفّى وَالرّحِيضَ مِنْ الشّعِيرْ
وَالْفِيلُ أَهْلَكَ جَيْشَهُ يُرْمُونَ فِيهَا بِالصّخُورْ ... وَالْمُلْكُ فِي
أَقْصَى الْبِلَادِ وَفِي الْأَعَاجِمِ وَالْخَزِيرْ
فَاسْمَعْ إذَا حُدّثْت ، وَافْهَمْ كَيْفَ عَاقِبَةُ الْأُمُورْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يُوقَفُ عَلَى قَوَافِيهَا لَا تُعْرَبُ .S[ ص 78 ] فَكَسَا
الْبَيْتَ الْخَصَفَ . جَمَعَ : خَصَفَةً وَهِيَ شَيْءٌ يُنْسَجُ مِنْ الْخَوْصِ
وَاللّيفِ وَالْخَصَفُ أَيْضًا : ثِيَابٌ غُلَاظٌ . وَالْخَصَفُ لُغَةٌ فِي
الْخَزَفِ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ . وَالْخُصْفُ بِضَمّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الصّاد
هُوَ الْجَوْزُ . وَيُرْوَى أَنّ تُبّعًا لَمّا كَسَا الْبَيْتَ الْمُسُوحَ
وَالْأَنْطَاعَ . انْتَفَضَ الْبَيْتَ فَزَالَ ذَلِكَ عَنْهُ وَفَعَلَ ذَلِكَ
حِينَ كَسَاهُ الْخَصَفَ فَلَمّا كَسَاهُ الْمُلَاءَ وَالْوَصَائِلَ قَبْلَهَا .
وَمِمّنْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ : قَاسِمٌ فِي الدّلَائِلِ . وَأَمّا
الْوَصَائِلُ فَثِيَابٌ مُوَصّلَةٌ مِنْ ثِيَابِ الْيَمَنِ . وَاحِدَتُهَا :
وَصِيلَةٌ . وَقَوْلُهُ وَلَا تَقْرَبُوهُ بِمِئْلَاتٍ وَهِيَ الْمَحَائِضُ . لَمْ
يُرِدْ النّسَاءَ الْحُيّضَ لِأَنّ حَائِضًا لَا [ ص 79 ] مَحَائِضٍ وَإِنّمَا
هِيَ جَمْعُ مَحِيضَة ، وَهِيَ خِرْقَةُ الْمَحِيضِ وَيُقَالُ لِلْخِرْقَةِ
أَيْضًا : مِئْلَاةٌ وَجَمْعُهَا : الْمَآلِي قَالَ الشّاعِرُ
كَأَنّ مُصَفّحَاتٍ فِي ذُرَاهُ ... وَأَنْوَاحًا عَلَيْهِنّ الْمَآلِي
[ ص 80 ] النّوّاحَاتُ بِأَيْدِيهِنّ فَكَانَ الْمِئْلَاتُ كُلّ خِرْقَةٍ دَنِسَةٍ
لِحَيْضِ كَانَتْ أَوْ لِغَيْرِهِ وَزْنُهَا مِفْعَلَة مِنْ أَلَوْت : إذَا
قَصّرْت وَضَيّعْت ، وَجَعَلَهَا صَاحِبُ الْعَيْنِ فِي بَابِ الْإِلْيَةِ
وَالْأَلِيّةِ فَلَامُ الْفِعْلِ عِنْدَهُ يَاءٌ عَلَى هَذَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ
وَيُرْوَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِئْلَاثًا بِثَاءِ مُثَلّثَةٍ وَمِنْ قَوْلِهِ
حِينَ كَسَا الْبَيْتَ
وَكَسَوْنَا الْبَيْتَ الّذِي حَرّمَ اللّهُ ... مُلَاءً مُعَضّدًا وَبُرُودَا
فَأَقَمْنَا بِهِ مِنْ الشّهْرِ عَشْرًا ... وَجَعَلْنَا لُبَابَهُ إقْلِيدًا
وَنَحَرْنَا بِالشّعْبِ سِتّةَ أَلْفٍ ... فَتَرَى النّاسَ نَحْوَهُنّ وُرُودَا
ثُمّ سِرْنَا عَنْهُ نَؤُمّ سُهَيْلًا ... فَرَفَعْنَا لِوَاءَنَا مَعْقُودَا
وَقَالَ الْقُتَبِيّ ، كَانَتْ قِصّةُ تُبّعٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِسَبْعِمِائَةِ
عَامٍ . وَقَوْلُهُ بِنْت الْأَحَبّ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ابْنُ زَبِينَةَ
بِالزّايِ وَالْبَاءِ وَالنّونِ فَعِيلَة مِنْ [ ص 81 ] زَبَانِيّ عَلَى غَيْرِ
قِيَاسٍ . وَلَوْ سُمّيَ بِهِ رَجُلٌ لَقِيلَ فِي النّسَبِ إلَيْهِ . زَبْنِيّ
عَلَى الْقِيَاسِ . قَالَ سِيبَوَيْهِ : الْأَحَبّ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ .
يَقُولُهُ أَهْلُ النّسَبِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ يَقُولُهُ بِالْجِيمِ وَإِنّمَا
قَالَتْ بِنْتُ الْأَحَبّ هَذَا الشّعْرَ فِي حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَ بَنِي
السّبّاقِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ ، وَبَيْنَ بَنِي عَلِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَمِيمٍ
حَتّى تَفَانَوْا . وَلَحِقَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي السّبّاقِ بِعَكّ . فَهُمْ
فِيهِمْ . قَالَ وَهُوَ أَوّلُ بَغْيٍ كَانَ فِي قُرَيْشٍ . وَقَدْ قِيلَ أَوّلُ
بَغْيٍ كَانَ فِي قُرَيْشٍ بَغْيُ الْأَقَايِشِ وَهُمْ بَنُو أُقَيْشٍ مِنْ بَنِي
سَهْمٍ بَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَلَمّا كَثُرَ بَغْيُهُمْ عَلَى النّاسِ
أَرْسَلَ اللّهُ عَلَيْهِمْ فَأْرَةً تَحْمِلُ فَتِيلَةً فَأَخْرَقَتْ الدّارَ
الّتِي كَانَتْ فِيهَا مَسَاكِنُهُمْ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ عَقِبٌ .
كِسْوَةُ الْكَعْبَةِ
وَقَوْلُهَا : وَكَسَا بَنِيّتَهَا الْحَبِيرُ . تُرِيدُ الْحَبِرَاتِ وَالرّحِيضُ
مِنْ الشّعِيرِ أَيْ الْمُنَقّى وَالْمُصَفّى مِنْهُ وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي
غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَوّلُ مَنْ كَسَا الْكَعْبَةَ الدّيبَاجَ الْحَجّاجُ
وَذَكَرَ جَمَاعَةً سِوَاهُ مِنْهُمْ الدّارَقُطْنِيّ . فُتَيْلَةُ بِنْتُ جَنَابٍ
أُمّ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ . كَانَتْ قَدْ أَضَلّتْ الْعَبّاسَ
صَغِيرًا ، فَنَزَرَتْ إنْ وَجَدَتْهُ أَنْ تَكْسُو الْكَعْبَةَ الدّيبَاجَ
فَفَعَلَتْ ذَلِكَ حِينَ وَجَدَتْهُ . وَكَانَتْ مِنْ بَيْتِ مَمْلَكَةٍ
وَسَيَأْتِي ذِكْرُ نَسَبِهَا فِيمَا بَعْدُ - إنْ شَاءَ اللّهُ . وَقَالَ
الزّبَيْرُ النّسّابَةُ بَلْ أَوّلُ مَنْ كَسَاهَا الدّيبَاجَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
الزّبَيْرِ .
أَصْلُ
الْيَهُودِيّةِ بِالْيَمَنِ
[ ص 80 ] خَرَجَ مِنْهَا مُتَوَجّهًا إلَى الْيَمَنِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِهِ
وَبِالْحَبْرَيْنِ حَتّى إذَا دَخَلَ الْيَمَنَ دَعَا قَوْمَهُ إلَى الدّخُولِ
فِيمَا دَخَلَ فِيهِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ حَتّى يُحَاكِمُوهُ إلَى النّارِ الّتِي
كَانَتْ بِالْيَمَنِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي أَبُو مَالِكِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ القُرظِيّ قَالَ سَمِعْت إبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمّدِ
بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ يُحَدّثُ أَنّ تُبّعًا لَمّا دَنَا مِنْ
الْيَمَنِ لِيَدْخُلَهَا حَالَتْ حِمْيَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَقَالُوا :
لَا تَدْخُلْهَا عَلَيْنَا ، وَقَدْ فَارَقْت دِينَنَا ، فَدَعَاهُمْ إلَى دِينِهِ
وَقَالَ إنّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِكُمْ فَقَالُوا : فَحَاكَمَنَا إلَى النّارِ .
قَالَ نَعَمْ . قَالَ وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ - فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْيَمَنِ -
نَارٌ تَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ تَأْكُلُ الظّالِمَ وَلَا
تَضُرّ الْمَظْلُومَ فَخَرَجَ قَوْمُهُ بِأَوْثَانِهِمْ وَمَا يَتَقَرّبُونَ بِهِ
فِي دِينِهِمْ وَخَرَجَ الْحَبْرَانِ بِمَصَاحِفِهِمَا فِي أَعْنَاقِهِمَا
مُتَقَلّدِيهَا ، حَتّى قَعَدُوا لِلنّارِ عِنْدَ مَخْرَجِهَا الّذِي تَخْرَجُ
مِنْهُ فَخَرَجَتْ النّارُ إلَيْهِمْ فَلَمّا أَقْبَلَتْ نَحْوَهُمْ حَادُوا
عَنْهَا وَهَابُوهَا ، فذَمَرهم مَنْ حَضَرَهُمْ مِنْ النّاسِ وَأَمَرُوهُمْ
بِالصّبْرِ لَهَا ، فَصَبَرُوا حَتّى غَشِيَتْهُمْ فَأَكَلَتْ الْأَوْثَانَ وَمَا
قَرّبُوا مَعَهَا ، وَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ مِنْ [ ص 81 ] حِمْيَرَ ، وَخَرَجَ
الْحَبْرَانِ بِمَصَاحِفِهِمَا فِي أَعْنَاقِهِمَا تَعْرَقُ جِبَاهُهُمَا لَمْ
تَضُرّهُمَا ، فَأَصْفَقَتْ عِنْدَ ذَاكَ حِمْيَرُ عَلَى دِينِهِ فَمِنْ هُنَالِكَ
وَعَنْ ذَلِكَ كَانَ أَصْلُ الْيَهُودِيّةِ بِالْيَمَنِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَقَدْ حَدّثَنِي مُحَدّثٌ أَنّ الْحَبْرَيْنِ وَمَنْ خَرَجَ مِنْ حِمْيَرَ ،
إنّمَا اتّبَعُوا النّارَ لِيَرُدّوهَا ، وَقَالُوا : مَنْ رَدّهَا فَهُوَ أَوْلَى
بِالْحَقّ ، فَدَنَا مِنْهَا رِجَالٌ مِنْ حِمْيَرَ بِأَوْثَانِهِمْ لِيَرُدّوهَا
فَدَنَتْ مِنْهُمْ لِتَأْكُلَهُمْ فَحَادُوا عَنْهَا وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا رَدّهَا
، وَدَنَا مِنْهَا الْحَبْرَانِ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَعَلَا يَتْلُوَانِ التّوْرَاةَ
وَتَنْكُصُ عَنْهُمَا ، حَتّى رَدّاهَا إلَى مَخْرَجِهَا الّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ
فَأَصْفَقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ حِمْيَرُ عَلَى دِينِهِمَا . وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ
ذَلِكَ كان .
مَصِيرُ
رِئَامٍ
[ ص 82 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رِئَامٌ بَيْتًا لَهُمْ يُعَظّمُونَهُ
وَيَنْحَرُونَ عِنْدَهُ وَيُكَلّمُونَ مِنْهُ إذْ كَانُوا عَلَى شِرْكِهِمْ
فَقَالَ الْحَبْرَانِ لِتُبّعِ إنّمَا هُوَ شَيْطَانٌ يَفْتِنُهُمْ بِذَلِكَ
فَخَلّ بَيْننَا وَبَيْنه ، قَالَ فَشَأْنُكُمَا بِهِ فَاسْتَخْرَجَا مِنْهُ -
فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْيَمَنِ - كَلْبًا أَسْوَدَ فَذَبَحَاهُ ثُمّ هَدَمَا
ذَلِكَ الْبَيْتَ فَبَقَايَاهُ الْيَوْمَ - كَمَا ذُكِرَ لِي - بِهَا آثَارُ
الدّمَاءِ الّتِي كَانَتْ تُهْرَاق عَلَيْهِ .Sرِئَامٌ
[ ص 82 ] وَذَكَرَ الْبَيْتَ الّذِي كَانَ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ رِئَامٌ ، وَهُوَ
فِعَالٌ مِنْ رَئِمَتْ الْأُنْثَى وَلَدَهَا تَرْأَمهُ رِئْمًا وَرِئَامًا : إذَا
عَطَفَتْ عَلَيْهِ وَرَحِمَتْهُ . فَاشْتَقّوا لِهَذَا الْبَيْتِ اسْمًا لِمَوْضِعِ
الرّحْمَةِ الّتِي كَانُوا يَلْتَمِسُونَ فِي عِبَادَتِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ رِئَامًا كَانَ فِيهِ شَيْطَانٌ
وَكَانُوا يَمْلَئُونَ لَهُ حِيَاضًا مِنْ دِمَاءِ الْقُرْبَانِ فَيَخْرَجُ
فَيُصِيبُ مِنْهَا ، وَيُكَلّمُهُمْ وَكَانُوا يَعْبُدُونَهُ فَلَمّا جَاءَ
الْحَبْرَانِ مَعَ تُبّعٍ نَشَرَا التّوْرَاةَ عِنْدَهُ وَجَعَلَا يَقْرَآنِهَا ؛
فَطَارَ ذَلِكَ الشّيْطَانُ حَتّى وَقَعَ فِي الْبَحْرِ .
مُلْكُ
حَسّانَ بْنِ تُبّانٍ وَقَتْلُ عَمْرٍو أَخِيهِ لَهُ
فَلَمّا مَلَكَ ابْنُهُ حَسّانُ بْنُ تُبّانَ أَسَعْدَ أَبِي كَرِب ، سَارَ
بِأَهْلِ الْيَمَنِ ، يُرِيدُ أَنْ يَطَأَ بِهِ أَرْضَ الْعَرَبِ ، وَأَرْضَ
الْأَعَاجِمِ ، حَتّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ أَرْضِ الْعِرَاقِ - قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : بِالْبَحْرَيْنِ ، فِيمَا ذَكَر لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ - كَرِهَتْ
حِمْيَرُ وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ الْمَسِيرَ مَعَهُ وَأَرَادُوا الرّجْعَةَ إلَى
بِلَادِهِمْ وَأَهْلِهِمْ فَكَلّمُوا أَخًا لَهُ يُقَالُ لَهُ عَمْرٌو ، وَكَانَ
مَعَهُ فِي جَيْشِهِ فَقَالُوا لَهُ اُقْتُلْ أَخَاك حَسّانَ وَنُمَلّك عَلَيْنَا
، وَتَرْجِعُ بِنَا إلَى بِلَادِنَا ، فَأَجَابَهُمْ فَاجْتَمَعْت عَلَى ذَلِكَ
إلّا ذَا رُعَيْن الْحِمْيَرِيّ ، فَإِنّهُ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْبَل
مِنْهُ . فَقَالَ ذُو رَعَيْنَ [ ص 83 ]
أَلَا مَنْ يَشْتَرِي سَهَرًا بِنَوْمِ ... سَعِيدٌ مَنْ يَبِيت قَرِيرَ عَيْنٍ
فَإِمّا حِميَرٌ غَدَرَتْ وَخَانَتْ ... فَمَعْذِرَةُ الْإِلَهِ لِذِي رُعَيْن
ثُمّ كَتَبَهُمَا فِي رُقْعَةٍ وَخَتَمَ عَلَيْهَا ، ثُمّ أَتَى بِهِمَا عَمْرًا ،
فَقَالَ لَهُ ضَعْ لِي هَذَا الْكِتَابَ عِنْدَك ، فَفَعَلَ ثُمّ قَتَلَ عَمْرٌو
أَخَاهُ حَسّانَ وَرَجَعَ بِمَنْ مَعَهُ إلَى الْيَمَنِ . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ
حِمْيَرَ [ ص 84 ]
لَاهِ عَيْنًا الّذِي رَأَى مِثْلَ حَسّانَ ... قَتِيلًا فِي سَالِفِ الْأَحْقَابِ
قَتَلَتْهُ مَقَاوِلُ خَشْيَةَ الْحَبْسِ ... غَدَاةً قَالُوا : لِبَابِ لِبَابِ
مَيْتُكُمْ خَيْرُنَا وَحَيّكُمْ رَبّ ... عَلَيْنَا ، وَكُلّكُمْ أَرْبَابِي
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَوْلُهُ لِبَابِ لِبَابِ لَا بَأْسَ لَا بَأْسَ
بِلُغَةِ حِمْيَرَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : لِبَابِ لِبَابِ .
هَلَاكُ عَمْرٍو
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا نَزَلَ عَمْرُو بْنُ تُبّانَ الْيَمَنَ مُنِعَ
مِنْهُ النّوْمِ وَسُلّطَ عَلَيْهِ السّهَرَ فَلَمّا جَهَدَهُ ذَلِكَ سَأَلَ
الْأَطِبّاءَ والحُزاة مِنْ الْكُهّانِ وَالْعَرّافِينَ عَمّا بِهِ فَقَالَ لَهُ
قَائِلٌ مِنْهُمْ إنّهُ مَا قَتَلَ رَجُلٌ قَطّ أَخَاهُ أَوْ ذَا رَحِمِهِ بَغْيًا
عَلَى مِثْلِ مَا قَتَلْت أَخَاك عَلَيْهِ إلّا ذَهَبَ نَوْمُهُ وَسُلّطَ عَلَيْهِ
السّهَرُ فَلَمّا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ جَعَلَ يَقْتُلُ كُلّ مَنْ أَمَرَهُ بِقَتْلِ
أَخِيهِ حَسّانَ مِنْ أَشْرَافِ الْيَمَنِ ، حَتّى خَلَصَ إلَى ذِي رُعَيْن ،
فَقَالَ لَهُ ذُو رُعَيْن : إنّ لِي عِنْدَك بَرَاءَةٌ فَقَالَ وَمَا هِيَ ؟ قَالَ
الْكِتَابُ الّذِي دَفَعْت إلَيْك ، فَأَخْرَجَهُ فَإِذَا الْبَيْتَانِ فَتَرَكَهُ
وَرَأَى أَنّهُ قَدْ نَصَحَهُ . وَهَلَكَ عَمْرٌو ، فَمَرَجَ أَمْرُ حِمْيَرَ عِنْدَ
ذَلِكَ وَتَفَرّقُوا .Sلُغَةً
وَنَحْوُ وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَمْرٍو أَخِي حَسّانَ وَهُوَ الّذِي كَانَ
يُقَالُ لَهُ مَوْثَبَانُ وَقَدْ تَقَدّمَ لِمَ لُقّبَ بِذَلِكَ . وَقَوْلُ ذِي
رُعَيْن لَهُ فِي الْبَيْتَيْنِ
أَلَا مَنْ يَشْتَرِي سَهَرًا بِنَوْمِ ... سَعِيدٌ مِنْ يَبِيتُ قَرِيرَ عَيْنٍ
[ ص 83 ] أَحَارِ تَرَى بَرْقًا أُرِيك وَمِيضَهُ . أَرَادَ أَتَرَى وَفِي
الْبَيْتِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ بَلْ مَنْ يَبِيتُ قَرِيرَ عَيْنٍ هُوَ السّعِيدُ .
فَحَذَفَ الْخَبَرَ لِدَلَالَةِ أَوّلِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ . وَفِي كِتَابِ ابْنِ
دُرَيْدٍ سَعِيدٌ أَمْ يَبِيتُ بِحَذْفِ مَنْ وَهَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ
الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصّفّةِ مَقَامَهُ لِأَنّ مَنْ هَاهُنَا نَكِرَةٌ
مَوْصُوفَةٌ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الرّاجِزِ
لَوْ قُلْت مَا فِي قَوْمِهَا لَمْ تَأْثَمْ ... يَفْضُلُهَا فِي حَسَبٍ وَمِيسَمِ
أَيْ مَنْ يَفْضُلُهَا ، وَهَذَا ، إنّمَا يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ إذَا كَانَ
الْفِعْلُ مُضَارِعًا لَا مَاضِيًا ، قَالَهُ ابْنُ السّرّاجِ وَغَيْرُهُ . وَذُو
رُعَيْن تَصْغِيرُ رَعْنٍ وَالرّعْنُ أَنْفُ الْجَبَلِ وَرُعَيْن جَبَلٌ
بِالْيَمَنِ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ ذُو رُعَيْن .
وَقَوْلُهُ فِي الْأَبْيَاتِ بَعْدَ هَذَا : لَاهِ مَنْ رَأَى مِثْلَ حَسّانَ
أَرَادَ لِلّهِ وَحَذَفَ لَامَ الْجَرّ وَاللّامّ الْأُخْرَى مَعَ أَلِفِ
الْوَصْلِ وَهَذَا حَذْفٌ كَثِيرٌ . وَلَكِنّهُ جَازَ فِي هَذَا الِاسْمِ خَاصّةً
لِكَثْرَةِ دَوْرِهِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ . مِثْلُ قَوْلِ الْفَرّاءِ لِهَنّكَ
مِنْ بَرَقٍ عَلَيّ كَرِيمٌ . أَرَادَ وَاَللّهِ إنّك . وَقَالَ بَعْضُهُمْ
أَرَادَ لِأَنّك وَأَبْدَلَ الْهَمْزَةَ هَاءً . وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنّ اللّامّ لَا
تُجْمَعُ مَعَ إنّ إلّا أَنْ تُؤَخّرَ اللّامّ إلَى الْخَبَرِ ، لِأَنّهُمَا
حَرْفَانِ مُؤَكّدَانِ وَلَيْسَ انْقِلَابُ الْهَمْزَةِ هَاءً بِمُزِيلِ الْعِلّةِ
الْمَانِعَةِ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا . [ ص 84 ]
الْمَقَاوِلُ
وَقَوْلُهُ قَتَلَتْهُ الْمَقَاوِلُ يُرِيدُ الْأَقْيَالَ وَهُمْ الّذِينَ دُونَ
التّبَابِعَةِ وَاحِدُهُمْ قَيّلٌ مِثْلُ سَيّدٍ ثُمّ خُفّفَ وَاسْتُعْمِلَ
بِالْيَاءِ فِي إفْرَادِهِ وَجَمْعِهِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ الْوَاوَ لِأَنّ
مَعْنَاهُ الّذِي يَقُولُ وَيَسْمَعُ قَوْلَهُ وَلَكِنّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَقُولُوا
: أَقْوَالُ فَيَلْتَبِسُ بِجَمْعِ قَوْلٍ كَمَا قَالُوا : عِيدٌ وَأَعْيَادٌ
وَإِنْ كَانَ مِنْ عَادَ يَعُودُ لَكِنْ أَمَاتُوا الْوَاوَ فِيهِ إمَاتَةً كَيْ
لَا يُشْبِهُ جَمْعَ الْعَوْدِ وَإِذَا أَرَادُوا إحْيَاءَ الْوَاوِ فِي جَمْعِ
قَيّلٌ قَالُوا : مَقَاوِلُ كَأَنّهُ جَمْعُ مِقْوَلٍ أَوْ جَمْعُ : مَقَالٍ
وَمَقَالَةٍ فَلَمْ يَبْعُدُوا مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ وَأَمِنُوا اللّبْسَ وَقَدْ
قَالُوا : مُحَاسِنُ وَمُذَاكِرُ لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا ، وَكَأَنّهُمْ
ذَهَبُوا أَيْضًا فِي مُقَاوِلٍ مَذْهَبَ الْمَرَازِبِ وَهُمْ مُلُوكُ الْعَجَمِ ،
وَاَللّهُ أَعْلَمُ . عَلَى أَنّهُمْ قَالُوا : أَقْيَالٌ وَأَقْوَالٌ وَلَمْ
يَقُولُوا فِي جَمْعِ عِيدٍ إلّا أَعْيَاد ، وَمِثْلُ عِيدٍ وَأَعْيَادٍ . رِيحٌ
وَأَرْيَاحٌ فِي لُغَةِ بَنِي أَسَدٍ وَقَدْ صَرّفُوا مِنْ الْقَيّلِ فِعْلًا ،
وَقَالُوا : قَالَ عَلَيْنَا فُلَانٌ أَيْ مَلَكَ وَالْقِيَالَةُ الْإِمَارَةُ
وَمِنْهُ قَوْلُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي تَسْبِيحِهِ
الّذِي رَوَاهُ التّرْمِذِيّ [ ص 85 ] سُبْحَانَ الّذِي لَبِسَ الْعَزّ وَقَالَ
بِهِ أَيْ مَلَكَ بِهِ وَقَهَرَ . كَذَا فَسّرَهُ الْهَرَوِيّ فِي الْغَرِيبَيْنِ
.
خَبَرٌ
لخنيعة وَذِي نُوَاسٍ
[ ص 85 ] حِمْيَرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ بُيُوتِ الْمَمْلَكَةِ يُقَالُ لَهُ لخنيعة
يَنُوفُ ذُو شَنَاتِرَ فَقَتَلَ خِيَارَهُمْ وَعَبَثَ بِبُيُوتِ أَهْلِ
الْمَمْلَكَةِ مِنْهُمْ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ حِمْيَرَ للخنيعة :
تَقْتُلُ أَبْنَاءَهَا وَتَنْفِي سَرَاتَهَا ... وَتَبْنِي بِأَيْدِيهَا لَهَا
الذّلّ حِمْيَرُ
تُدَمّرُ دُنْيَاهَا بِطَيْشِ حُلُومُهَا ... وَمَا ضَيّعْت مِنْ دِينِهَا فَهُوَ
أَكْثَرُ
كَذَلِكَ الْقُرُونُ قَبْلَ ذَاكَ بِظُلْمِهَا ... وَإِسْرَافِهَا تَأْتِي
الشّرُورُ فَتَخْسَرُ
فَسُوقُ لخنيعة
[ ص 86 ] وَكَانَ لخنيعة امْرِئِ فَاسِقًا يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ، فَكَانَ
يُرْسِلُ إلَى الْغُلَامِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ فَيَقَعُ عَلَيْهِ فِي
مَشْرَبَةٍ لَهُ قَدْ صَنَعَهَا لِذَلِكَ لِئَلّا يَمْلِكُ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمّ
يَطْلُعُ مِنْ مَشْرَبَتِهِ تِلْكَ إلَى حَرَسِهِ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ جُنْدِهِ
قَدْ أَخَذَ مِسْوَاكًا ، فَجَعَلَهُ فِي فِيهِ أَيْ لِيُعْلِمَهُمْ أَنّهُ قَدْ
فَرَغَ مِنْهُ حَتّى بَعَثَ إلَى زُرْعَةَ ذِي نُوَاسِ بْنِ تُبّانَ أَسَعْد أَخِي
حَسّانَ وَكَانَ صَبِيّا صَغِيرًا حِينَ قُتِلَ حَسّانُ ثُمّ شَبّ غُلَامًا
جَمِيلًا وَسِيمًا ، ذَا هَيْئَةٍ وَعَقْلٍ فَلَمّا أَتَاهُ رَسُولُهُ عَرَفَ مَا
يُرِيدُ مِنْهُ فَأَخَذَ سِكّينًا جَدِيدًا لَطِيفًا ، فَخَبَأَهُ بَيْنَ قَدَمِهِ
وَنَعْلِهِ ثُمّ أَتَاهُ فَلَمّا خَلَا مَعَهُ وَثَبَ إلَيْهِ فَوَاثَبَهُ ذُو
نُوَاسٍ ، فَوَجْأَهُ حَتّى قَتَلَهُ . ثُمّ حَزّ رَأْسَهُ فَوَضَعَهُ فِي
الْكُوّةِ الّتِي كَانَ يُشْرِفُ مِنْهَا ، وَوَضَعَ مِسْوَاكَهُ فِي فِيهِ ثُمّ
خَرَجَ عَلَى النّاسِ فَقَالُوا لَهُ ذَا نُوَاسٍ أَرَطْبٌ أَمْ يَبَاسٌ ؟ فَقَالَ
سَلْ نَخْمَاس اسْتُرْطُبَان ذُو نُوَاسٍ . اسْتُرْطُبَان لَا بَأْسَ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا كَلَامُ حِمْيَرَ . وَنَخْمَاس : الرّأْسُ . فَنَظَرُوا
إلَى الْكُوّةِ فَإِذَا رَأْسُ لخنيعة مَقْطُوعٌ فَخَرَجُوا فِي إثْرِ ذِي نُوَاسٍ
حَتّى أَدْرَكُوهُ فَقَالُوا : مَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكُنَا غَيْرُك ، إذْ
أَرَحْتنَا مِنْ هَذَا الْخَبِيثِ . [ ص 87 ]
مُلْكُ ذِي نُوَاسٍ
فَمَلّكُوهُ وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ حِمْيَرُ وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ ، فَكَانَ
آخِرَ مُلُوكِ حِمْيَرَ . وَهُوَ صَاحِبُ الْأُخْدُودِ ، وَتَسَمّى : يُوسُفَ
فَأَقَامَ فِي مُلْكِهِ زَمَانًا .Sخَبَرُ
لخنيعة وَذِي نُوَاسٍ
وَقَالَ فِيهِ ابْنُ دُرَيْدٍ لخنيعة وَقَالَ هُوَ مِنْ اللّخَعِ وَهُوَ
اسْتِرْخَاءٌ فِي الْجِسْمِ وَذُو شَنَاتِرَ . الشّنَاتِرُ الْأَصَابِعُ بِلُغَةِ
حِمْيَرَ ، وَاحِدُهَا : شَنْتَرَةٍ وَذُو نُوَاسٍ اسْمُهُ زُرْعَةُ وَهُوَ مِنْ
قَوْلِهِمْ لِلْغُلَامِ زَرَعَكَ اللّهُ أَيْ أَنْبَتَكَ وَسَمّوْا بِزَارِعِ
كَمَا سَمّوْا بِنَابِتِ وَقَالَ اللّهُ تَعَالَى : { أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ
نَحْنُ الزّارِعُونَ } [ الْوَاقِعَةُ 64 ] أَيْ تُنْبِتُونَهُ وَفِي مُسْنَدِ
وَكِيعِ بْنِ الْجَرّاحِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ الْجَبَلِيّ أَنّهُ كَانَ
يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرّجُلُ زَرَعْت فِي أَرْضِي كَذَا وَكَذَا ، لِأَنّ
اللّهَ هُوَ الزّارِعُ وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ - مَرْفُوعًا - إلَى النّبِيّ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - النّهْيُ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا ، وَقَدْ
تَكَلّمْنَا عَلَى وَجْهِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ هَذَا الْإِمْلَاءِ فَقَدْ
جَاءَ فِي الصّحِيحِ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا ، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا
الْحَدِيثَ . وَفِي كِتَابِ اللّهِ أَيْضًا قَالَ { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ
دَأَبًا } [ يُوسُفُ 47 ] ، وَسُمّيَ ذَا نُوَاسٍ بِغَدِيرَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ
تَنُوسَانِ أَيْ ضَفِيرَتَانِ مِنْ شَعْرٍ وَالنّوْسُ الْحَرَكَةُ وَالِاضْطِرَابُ
فِيمَا كَانَ مُتَعَلّقًا ، قَالَ الرّاجِزُ
لَوْ رَأَتْنِي وَالنّعَاسُ غَالِبِي ... عَلَى الْبَعِيرِ نَائِسًا ذَبَاذِبِي
[ ص 86 ] وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : أَرَادَ بِالذّبَاذِبِ مَذَاكِيرَهُ
وَالْأَوّلُ أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى . وَذَكَرَ قَوْلَ ذِي نُوَاسٍ لِلْحَرَسِ
حِينَ قَالُوا لَهُ أَرَطْبٌ أَمْ يَبَاسٌ وَالْيَبَاسُ وَالْيَبِيسُ مِثْلُ
الْكِبَارِ وَالْكَبِيرِ فَقَالَ لَهُمْ سَلْ نَخْمَاس ، وَالنّخْمَاس فِي
لُغَتِهِمْ هُوَ الرّأْسُ كَمَا ذَكَرَ وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ أَبِي بَحْرٍ الّتِي
قَيّدَهَا عَلِيّ أَبُو الْوَلِيدِ الْوَقْشِي : نَخْمَاس بِنُونِ وَخَاءٍ
مَنْقُوطَةٍ وَلَعَلّ هَذَا هُوَ الصّحِيحُ إذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
النّخْمَاس فِي لُغَتِهِمْ هُوَ الرّأْسُ ثُمّ صُحّفَ وَقَيّدَهُ كُرَاعٌ
بِالتّاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقٍ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ -
فِيمَا ذَكَرَ لِي - وَقَوْلُهُ اسْتُرْطُبَان إلَى آخِرِ الْكَلَامِ مُشْكِلٌ
يُفَسّرُهُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرْجِ فِي الْأَغَانِي قَالَ كَانَ الْغُلَامُ
إذَا خَرَجَ مِنْ عِنْدَ لخنيعة ، وَقَدْ لَاطَ بِهِ قَطَعُوا مَشَافِرَ نَاقَتِهِ
وَذَنَبَهَا : وَصَاحُوا بِهِ أَرَطْبٌ أَمْ يَبَاسٌ فَلَمّا خَرَجَ ذُو نُوَاسٍ
مِنْ عِنْدِهِ وَرَكِبَ نَاقَةً لَهُ يُقَالُ لَهَا : السّرَابُ قَالُوا : ذَا
نُوَاسٍ أَرَطْبٌ أَمْ يَبَاسٌ فَقَالَ " سَتَعْلَمُ الْأَحْرَاسُ اسْت ذِي
نُوَاسٍ اسْتَ رَطْبَانِ أَمْ يَبَاسٍ " فَهَذَا اللّفْظُ مَفْهُومٌ .
وَاَلّذِي وَقَعَ فِي الْأَصْلِ هَذَا مَعْنَاهُ وَلَفْظُهُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا ،
وَلَعَلّهُ تَغْيِيرٌ فِي اللّفْظِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَكَانَ مُلْك لخنيعة
سَبْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَمُلْكُ ذُو نُوَاسٍ بَعْدَهُ ثَمَانِيّا وَسِتّينَ
سَنَةً . قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ .
بَقَايَا
مِنْ أَهْلِ دِينِ عِيسَى بِنَجْرَانَ
وَبِنَجْرَانَ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ
السّلَامُ عَلَى الْإِنْجِيلِ . أَهْلُ فَضْلٍ وَاسْتِقَامَةٍ مِنْ أَهْلِ دِينهمْ
لَهُمْ رَأْسٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الثّامِرِ . وَكَانَ مَوْقِعَ
أَصْلِ ذَلِكَ الدّينِ بِنَجْرَانَ وَهِيَ بِأَوْسَطِ أَرْضِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ
الزّمَانِ وَأَهْلُهَا وَسَائِرُ الْعَرَبِ كُلّهَا أَهْلُ أَوْثَانٍ
يَعْبُدُونَهَا ، وَذَلِكَ أَنّ رَجُلًا مِنْ بَقَايَا أَهْلِ ذَلِكَ الدّينِ
يُقَالُ لَهُ فَيْمِيون ، وَقَعَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَحَمَلَهُمْ عَلَيْهِ .
فَدَانُوا بِهِ .
[ ابْتِدَاءُ وُقُوعِ النّصْرَانِيّةِ بِنَجْرَانَ ]
حَدِيثُ فَيْمِيون
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي لَبِيَدِ مَوْلَى
الْأَخْنَسِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبّهٍ الْيَمَانِيّ أَنّهُ حَدّثَهُمْ أَنّ
مَوْقِعَ ذَلِكَ الدّينِ بِنَجْرَانَ كَانَ أَنّ رَجُلًا مِنْ بَقَايَا أَهْلِ
دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يُقَالُ لَهُ فَيْمِيون ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا
مُجْتَهِدًا زَاهِدًا فِي الدّنْيَا ، مُجَابَ الدّعْوَةِ [ ص 88 ] وَكَانَ
سَائِحًا يَنْزِلُ بَيْنَ الْقُرَى ، لَا يُعْرَفُ بَقَرِيّةٍ إلّا خَرَجَ مِنْهَا
إلَى قَرْيَةٍ لَا يُعْرَفُ بِهَا ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إلّا مِنْ كَسْبِ
يَدَيْهِ . وَكَانَ بَنّاءً يَعْمَلُ الطّينَ وَكَانَ يُعَظّمُ الْأَحَدَ فَإِذَا
كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ شَيْئًا ، وَخَرَجَ إلَى فَلَاةٍ مِنْ
الْأَرْضِ يُصَلّي بِهَا حَتّى يُمْسِيَ . قَالَ وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى
الشّامِ يَعْمَلُ عَمَلَهُ ذَلِكَ مُسْتَخْفِيًا ، فَفَطِنَ لِشَأْنِهِ رَجُلٌ
مِنْ أَهْلِهَا يُقَالُ لَهُ صَالِحٌ فَأَحَبّهُ صَالِحٌ حُبّا لَمْ يُحِبّهُ
شَيْئًا كَانَ قَبْلَهُ . فَكَانَ يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ . وَلَا يَفْطِنُ لَهُ
فَيْمِيون ، حَتّى خَرَجَ مَرّةً فِي يَوْمِ الْأَحَدِ إلَى فَلَاةٍ مِنْ
الْأَرْضِ . كَمَا كَانَ يَصْنَعُ وَقَدْ اتّبَعَهُ صَالِحٌ وفَيْمِيون لَا
يَدْرِي - فَجَلَسَ صَالِحٌ مِنْهُ مَنْظَرَ الْعَيْنِ مُسْتَخْفِيًا مِنْهُ . لَا
يُحِبّ أَنْ يَعْلَمَ بِمَكَانِهِ وَقَامَ فَيْمِيون يُصَلّي ، فَبَيْنَمَا هُوَ
يُصَلّي إذْ أَقْبَلَ نَحْوَهُ التّنّينُ - الْحَيّةُ ذَاتُ الرّءُوسِ السّبْعَةِ
- فَلَمّا رَآهَا فَيْمِيون دَعَا عَلَيْهَا فَمَاتَتْ وَرَآهَا صَالِحٌ وَلَمْ
يَدْرِ مَا أَصَابَهَا ، فَخَافَهَا عَلَيْهِ . فَعِيلَ عَوْلُهُ . فَصَرَخَ يا
فَيْمِيون التّنّينُ قَدْ أَقْبَلَ نَحْوَك ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ
وَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ حَتّى فَرَغَ مِنْهَا وَأَمْسَى ، فَانْصَرَفَ
وَعَرَفَ أَنّهُ قَدْ عَرَفَ وَعَرَفَ صَالِحٌ أَنّهُ قَدْ رَأَى مَكَانَهُ .
فَقَالَ لَهُ يَا فَيْمِيون تَعْلَمُ وَاَللّهِ أَنّي مَا أَحْبَبْت شَيْئًا قَطّ
حُبّك ، وَقَدْ أَرَدْت صُحْبَتَك ، وَالْكَيْنُونَةَ مَعَك حَيْثُ كُنْت ،
فَقَالَ مَا شِئْت . أَمْرِي كَمَا تَرَى ، فَإِنْ عَلِمْت أَنّك تَقْوَى عَلَيْهِ
فَنَعَمْ فَلَزِمَهُ صَالِحٌ وَقَدْ كَادَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ يَفْطِنُونَ
لِشَأْنِهِ وَكَانَ إذَا فَاجَأَهُ الْعَبْدَ بِهِ الضّرّ دَعَا لَهُ فَشُفِيَ
وَإِذَا دُعِيَ إلَى أَحَدٍ بِهِ ضُرّ لَمْ يَأْتِهِ وَكَانَ لِرَجُلِ مِنْ أَهْلِ
الْقَرْيَةِ ابْنٌ ضَرِيرٌ فَسَأَلَ عَنْ شَأْنِ فَيْمِيون ، فَقِيلَ لَهُ إنّهُ
لَا يَأْتِي أَحَدًا دَعَاهُ وَلَكِنّهُ رَجُلٌ يَعْمَلُ لِلنّاسِ الْبُنْيَانَ
بِالْأَجْرِ فَعَمِدَ الرّجُلُ إلَى ابْنِهِ ذَلِكَ فَوَضَعَهُ فِي حُجْرَتِهِ
وَأَلْقَى عَلَيْهِ ثَوْبًا ، ثُمّ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ يَا فَيْمِيون ، إنّي
قَدْ أَرَدْت أَنْ أَعْمَلَ فِي بَيْتِي عَمَلًا ، فَانْطَلِقْ مَعِي إلَيْهِ
حَتّى تَنْظُرَ إلَيْهِ فأُشارِطك عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ مَعَهُ حَتّى دَخَلَ
حُجْرَتَهُ ثُمّ قَالَ لَهُ مَا تُرِيدُ أَنْ تَعْمَلَ فِي بَيْتِك هَذَا ؟ قَالَ
كَذَا وَكَذَا ، ثُمّ انْتَشَطَ الرّجُلُ الثّوْبَ عَنْ الصّبِيّ ثُمّ قَالَ لَهُ
يَا فَيْمِيون ، عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللّهِ أَصَابَهُ مَا تَرَى ، فَادْعُ اللّهَ
لَهُ فَدَعَا لَهُ فَيْمِيون ، فَقَامَ الصّبِيّ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَعَرَفَ
فَيْمِيون أَنّهُ قَدْ عَرَفَ فَخَرَجَ مِنْ الْقَرْيَةِ وَاتّبَعَهُ صَالِحٌ
فَبَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي فِي بَعْضِ [ ص 89 ] الشّامِ ، إذْ مَرّ بِشَجَرَةِ عَظِيمَةٍ
فَنَادَاهُ مِنْهَا رَجُلٌ فَقَالَ يَا فَيْمِيون . قَالَ نَعَمْ . قَالَ مَا
زِلْت أَنْظُرُك ، وَأَقُولُ مَتَى هُوَ جَاءَ ؟ حَتّى سَمِعْت صَوْتَك ،
فَعَرَفَتْ أَنّك هُوَ . لَا تَبْرَحْ حَتّى تَقُومَ عَلَيّ فَإِنّي مَيّتٌ الْآنَ
. قَالَ فَمَاتَ وَقَامَ عَلَيْهِ حَتّى وَارَاهُ ثُمّ انْصَرَفَ وَتَبِعَهُ
صَالِحٌ حَتّى وَطِئَا بَعْضَ أَرْضِ الْعَرَبِ ، فَعَدَوْا عَلَيْهِمَا ،
فَاخْتَطَفَتْهُمَا سَيّارَةٌ مِنْ بَعْضِ الْعَرَبِ ، فَخَرَجُوا بِهِمَا ، حَتّى
بَاعُوهُمَا بِنَجْرَانَ وَأَهْلُ نَجْرَانَ يَوْمئِذٍ عَلَى دِينِ الْعَرَبِ ،
يَعْبُدُونَ نَخْلَةً طَوِيلَةً بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لَهَا عِيدٌ فِي كُلّ سَنَةٍ
إذَا كَانَ ذَلِكَ الْعِيدُ عَلّقُوا عَلَيْهَا كُلّ ثَوْبٍ حَسَنٍ وَجَدُوهُ
وَحُلِيّ النّسَاءِ ثُمّ خَرَجُوا إلَيْهَا ، فَعَكَفُوا عَلَيْهَا يَوْمًا . فَابْتَاعَ
فَيْمِيون رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَابْتَاعَ صَالِحًا آخَرُ فَكَانَ فَيْمِيون
إذَا قَامَ مِنْ اللّيْلِ - يَتَهَجّدُ فِي بَيْتٍ لَهُ أَسْكَنَهُ إيّاهُ
سَيّدُهُ - يُصَلّي ، اسْتَسْرَجَ لَهُ الْبَيْتَ نُورًا ، حَتّى يُصْبِحَ مِنْ
غَيْرِ مِصْبَاحٍ فَرَأَى ذَلِكَ سَيّدُهُ فَأَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْهُ
فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِ فَأَخْبَرَهُ بِهِ وَقَالَ لَهُ فَيْمِيون : إنّمَا
أَنْتُمْ فِي بَاطِلٍ . إنّ هَذِهِ النّخْلَةَ لَا تَضُرّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْ
دَعَوْت عَلَيْهَا إلَهِي الّذِي أَعْبُدُهُ لَأَهْلَكَهَا ، وَهُوَ اللّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَ فَقَالَ لَهُ سَيّدُهُ فَافْعَلْ فَإِنّك إنْ
فَعَلْت دَخَلْنَا فِي دِينِك ، وَتَرَكْنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ . قَالَ فَقَامَ
فَيْمِيون ، فَتَطَهّرَ وَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمّ دَعَا اللّهَ عَلَيْهَا ، فَأَرْسَلَ
اللّهُ عَلَيْهَا رِيحًا فَجَعَفَتْهَا مِنْ أَصْلِهَا فَأَلْقَتْهَا فَاتّبَعَهُ
عِنْدَ ذَلِكَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِهِ فَحَمَلَهُمْ عَلَى الشّرِيعَةِ
مِنْ دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ ثُمّ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ
الْأَحْدَاثُ الّتِي دَخَلَتْ عَلَى أَهْلِ دِينَهُمْ بِكُلّ أَرْضٍ فَمِنْ
هُنَالِكَ كَانَتْ النّصْرَانِيّةُ بِنَجْرَانَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَهَذَا حَدِيثُ وَهْبِ بْنِ مُنَبّهٍ عَنْ أَهْلِ نَجْرَانَ .Sحَدِيثُ
فَيُمْؤُنّ
[ ص 87 ] الطّبَرِيّ أَنّهُ قَالَ فِيهِ قيمؤن بِالْقَافِ وَشَكّ فِيهِ وَقَالَ
الْقُتَبِيّ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ آلِ جَفْنَةَ مِنْ غَسّانَ جَاءَهُمْ مِنْ الشّامِ
، فَحَمَلَهُمْ عَلَى دِينِ عِيسَى - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَلَمْ يُسَمّهِ
وَقَالَ فِيهِ النّقّاشُ اسْمُهُ يَحْيَى ، وَكَانَ أَبُوهُ مَلِكًا فَتُوُفّيَ
وَأَرَادَ قَوْمَهُ أَنْ يُمَلّكُوهُ بَعْدَ أَبِيهِ فَفَرّ مِنْ الْمُلْكِ
وَلَزِمَ السّيَاحَةَ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ قِصّةَ الرّجُلِ الّذِي دَعَا لِابْنِهِ
فَشُفِيَ بِأَتَمّ مِمّا ذَكَرَهَا ابْنُ إسْحَاقَ ، قَالَ فَيُمْؤُنّ حِينَ
دَخَلَ مَعَ الرّجُلِ وَكَشَفَ لَهُ عَنْ ابْنِهِ " اللّهُمّ عَبْدٌ مِنْ
عِبَادِك دَخَلَ عَلَيْهِ عَدُوّك فِي نِعْمَتِك ، لِيُفْسِدَهَا عَلَيْهِ
فَاشْفِهِ وَعَافِهِ وَامْنَعْهُ مِنْهُ " ، فَقَامَ الصّبِيّ : لَيْسَ بِهِ
بَأْسٌ فَتَبَيّنَ مِنْ هَذَا أَنّ الصّبِيّ كَانَ مَجْنُونًا لِقَوْلِهِ دَخَلَ
عَلَيْهِ عَدُوّك ، يَعْنِي : الشّيْطَانَ وَلَيْسَ هَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ
إسْحَاقَ . [ ص 88 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي الرّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ
مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرظِيّ ، وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ ، وَمَا ذَكَرُوهُ
مِنْ خَبَرِ فَيُمْؤُنّ قَالَ وَلَمْ يُسَمّوهُ لِي بِالِاسْمِ الّذِي سَمّاهُ
ابْنُ مُنَبّهٍ . قَالَ الْمُؤَلّفُ رَحِمَهُ اللّهُ يَحْتَمِلُ أَنّهُمْ سَمّوْهُ
يَحْيَى ، وَهُوَ الِاسْمُ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ وَمَا قَالَهُ النّقّاشُ
وَالْقُتَبِيّ . وَفِيهِ ذِكْرُ قَرْيَةِ نَجْرَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
وَنَجْرَانُ اسْمُ رَجُلٍ كَانَ أَوّلَ مَنْ نَزَلَهَا ، فَسُمّيَتْ بِهِ وَهُوَ
نَجْرَانُ بْنُ زَيْدِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ . قَالَهُ
الْبَكْرِيّ . [ ص 89 ] وَذَكَرَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ، وَمَا أَنَزَلَ اللّهُ
تَعَالَى فِيهِمْ وَقَدْ رَوَى ابْنُ سَنْجَرٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ
الّذِينَ خَدّدُوا الْأُخْدُودَ ثَلَاثَةٌ تُبّعٌ صَاحِبُ الْيَمَنِ ،
وَقُسْطَنْطِين ابْنُ هِلَانِي - وَهِيَ أُمّهُ حِينَ صَرَفَ النّصَارَى عَنْ التّوْحِيدِ
وَدِينِ الْمَسِيحِ إلَى عِبَادَةِ الصّلِيبِ وَبُخْتُنَصّرَ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ
حِينَ أَمَرَ النّاسَ أَنْ يَسْجُدُوا إلَيْهِ فَامْتَنَعَ دَانْيَالُ
وَأَصْحَابُهُ فَأَلْقَاهُمْ فِي النّارِ فَكَانَتْ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَيْهِمْ
وَحَرَقَ الّذِينَ بَغَوْا عَلَيْهِمْ .
أَمْرُ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ وَقِصّةُ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ
فَيْمِيون وَالسّاحِرُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 90 ] يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ
القُرظِيّ ، وَحَدّثَنِي أَيْضًا بَعْضُ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ أَهْلِهَا : أَنّ
أَهْلَ نَجْرَانَ كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَكَانَ فِي
قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا قَرِيبًا مِنْ نَجْرَانَ - وَنَجْرَانُ : الْقَرْيَةُ
الْعُظْمَى الّتِي إلَيْهَا جِمَاعُ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ - سَاحِرٌ يُعَلّمُ
غِلْمَانَ أَهْلِ نَجْرَانَ السّحْرَ فَلَمّا نَزَلَهَا فَيْمِيون - وَلَمْ
يُسَمّوهُ لِي بِاسْمِهِ الّذِي سَمّاهُ بِهِ وَهْبُ بْنُ مُنَبّهٍ ، قَالُوا :
رَجُلٌ نَزَلَهَا - ابْتَنَى خَيْمَةً بَيْنَ نَجْرَانَ ، وَبَيْنَ تِلْكَ
الْقَرْيَةِ الّتِي بِهَا السّاحِرُ فَجَعَلَ أَهْلُ نَجْرَانَ يُرْسِلُونَ
غِلْمَانَهُمْ إلَى ذَلِكَ السّاحِرِ يُعَلّمُهُمْ السّحْرَ فَبَعَثَ إلَيْهِ
الثّامِرُ ابْنَهُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الثّامِرِ مَعَ غِلْمَانِ أَهْلِ نَجْرَانَ
، فَكَانَ إذَا مَرّ بِصَاحِبِ الْخَيْمَةِ أَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْهُ مِنْ
صَلَاتِهِ وَعِبَادَتِهِ فَجَعَلَ يَجْلِسُ إلَيْهِ وَيَسْمَعُ مِنْهُ حَتّى
أَسْلَمَ ، فَوَحّدَ اللّهَ وَعَبَدَهُ وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ شَرَائِعِ
الْإِسْلَامِ حَتّى إذَا فَقِهَ فِيهِ جَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ الِاسْمِ
الْأَعْظَمِ - وَكَانَ يُعَلّمُهُ - فَكَتَمَهُ إيّاهُ وَقَالَ لَهُ يَا بْنَ
أَخِي إنّك لَنْ تَحْمِلَهُ [ ص 91 ] أَخْشَى عَلَيْك ضَعْفَك عَنْهُ -
وَالثّامِرُ أَبُو عَبْدِ اللّهِ لَا يَظُنّ إلّا أَنّ ابْنَهُ يَخْتَلِفُ إلَى
السّاحِرِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْغِلْمَانُ فَلَمّا رَأَى عَبْدُ اللّهِ أَنّ
صَاحِبَهُ قَدْ ضَنّ بِهِ عَنْهُ وَتَخَوّفَ ضَعْفَهُ فِيهِ عَمِدَ إلَى قِدَاحٍ
فَجَمَعَهَا ، ثُمّ لَمْ يُبْقِ لِلّهِ اسْمًا يَعْلَمُهُ إلّا كَتَبَهُ فِي
قِدْحٍ لِكُلّ اسْمٍ قِدْحٌ حَتّى إذَا أَحْصَاهَا أَوْقَدَ لَهَا نَارًا ، ثُمّ
جَعَلَ يَقْذِفُهَا فِيهَا قِدْحًا قِدْحًا ، حَتّى إذَا مَرّ بِالِاسْمِ
الْأَعْظَمِ قَذَفَ فِيهَا بِقِدْحِهِ فَوَثَبَ الْقِدْحُ حَتّى خَرَجَ مِنْهَا
لَمْ تَضُرّهُ شَيْئًا فَأَخَذَهُ ثُمّ أَتَى صَاحِبَهُ [ ص 92 ] فَأَخْبَرَهُ
بِأَنّهُ قَدْ عَلِمَ الِاسْمَ الّذِي كَتَمَهُ فَقَالَ وَمَا هُوَ ؟ قَالَ هُوَ
كَذَا وَكَذَا ، قَالَ وَكَيْفَ عَلِمْته ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ قَالَ أَيْ
ابْنَ أَخِي ، قَدْ أَصَبْته فَأَمْسِكْ عَلَى نَفْسِك ، وَمَا أَظُنّ أَنْ
تَفْعَلَ .Sخَبَرُ
ابْنِ الثّامِرِ
التّفَاضُلُ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ الْإِلَهِيّةِ
[ ص 90 ] وَذَكَرَ فِيهِ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ وَقَوْلُ الرّاهِبِ لَهُ إنّك لَنْ
تُطِيقَهُ . أَيْ لَنْ تُطِيقَ شُرُوطَهُ وَالِانْتِهَاضَ بِمَا يَجِبُ مِنْ
حَقّهِ وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِ اللّهِ تَعَالَى : { قَالَ الّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ
مِنَ الْكِتَابِ } [ النّمْلُ 40 ] إنّهُ أُوتِيَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ الّذِي
إذَا دُعِيَ اللّهُ بِهِ أَجَابَ وَهُوَ آصَفُ بْنُ برخيا فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ . وَأَعْجَبُ مَا قِيلَ فِيهِ إنّهُ ضَبّةُ بْنُ أُدّ بْنِ
طَابِخٍ قَالَهُ النّقّاشُ وَلَا يَصِحّ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا
الْعُلَمَاءُ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى تَرْكِ التّفْضِيلِ بَيْنَ أَسْمَاءِ
اللّهِ تَعَالَى ، وَقَالُوا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ
أَعْظَمَ مِنْ الِاسْمِ الْآخَرِ وَقَالُوا : إذَا أَمَرَ فِي خَبَرٍ أَوْ أَثَرَ
ذِكْرَ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ فَمَعْنَاهُ الْعَظِيمُ كَمَا قَالُوا : إنّي
لَأُوجِلَ أَيْ وَجِلًا ، وَكَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي أَكْبَرِ مِنْ قَوْلِك :
اللّهُ أَكْبَرُ إنّ أَكْبَرَ بِمَعْنَى كَبِيرٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ
سِيبَوَيْهِ ، وَذَكَرُوا أَنّ أَهْوَنَ بِمَعْنَى : هَيّنٍ مِنْ قَوْلِهِ عَزّ
وَجَلّ { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الرّومُ : 27 ] وَأَكْثَرُوا
الِاسْتِشْهَادَ عَلَى هَذَا وَنَسَبَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطّالٍ هَذَا
الْقَوْلَ إلَى جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ ، وَالْقَابِسِيّ وَغَيْرُهُمَا
، وَمِمّا احْتَجّوا بِهِ أَيْضًا : أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - لَمْ يَكُنْ لِيُحَرّمَ الْعِلْمَ بِهَذَا الِاسْمِ وَقَدْ عَلِمَهُ
مَنْ هُوَ دُونَهُ مَنْ لَيْسَ بِنَبِيّ وَلَمْ يَكُنْ لِيَدْعُوَ حِينَ اجْتَهَدَ
فِي الدّعَاءِ لِأُمّتِهِ أَلّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ وَهُوَ رَءُوفٌ
بِهِمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ عَنَتُهُمْ إلّا بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ لِيُسْتَجَابَ
لَهُ فِيهِ فَلَمّا مُنِعَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنّهُ لَيْسَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ
اللّهِ إلّا وَهُوَ [ ص 91 ] كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ فِي الْحُكْمِ وَالْفَضِيلَةِ
يَسْتَجِيبُ اللّهُ إذَا دُعِيَ بِبَعْضِهَا إنْ شَاءَ وَيَمْنَعُ إذَا شَاءَ
وَقَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرّحْمَنَ أَيّا
مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ الْإِسْرَاءُ 115 ] ، وَظَاهِرُ
هَذَا الْكَلَامِ التّسْوِيَةُ بَيْنَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى ، وَكَذَلِكَ ذَهَبَ
هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ
اللّهِ تَعَالَى أَفَضْلَ مِنْ شَيْءٍ لِأَنّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ مِنْ رَبّ وَاحِدٍ
فَيَسْتَحِيلُ التّفَاضُلُ فِيهِ . قَالَ الشّيْخُ الْفَقِيهُ الْحَافِظُ أَبُو
الْقَاسِمِ - عَفَا اللّهُ عَنْهُ وَجْهُ اسْتِفْتَاحِ الْكَلَامِ مَعَهُمْ أَنْ
يُقَالَ هَلْ يَسْتَحِيلُ هَذَا عَقْلًا ، أَمْ يَسْتَحِيلُ شَرْعًا ؟ وَلَا
يَسْتَحِيلُ عَقْلًا أَنْ يُفَضّلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ عَمَلًا مِنْ الْبِرّ عَلَى
عَمَلٍ وَكَلِمَةً مِنْ الذّكْرِ عَلَى كَلِمَةٍ فَإِنّ التّفْضِيلَ رَاجِعٌ إلَى
زِيَادَةِ الثّوَابِ وَنُقْصَانِهِ وَقَدْ فُضّلَتْ الْفَرَائِضُ عَلَى
النّوَافِلِ بِإِجْمَاعِ وَفُضّلَتْ الصّلَاةُ وَالْجِهَادُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ
الْأَعْمَالِ وَالدّعَاءِ وَالذّكْرُ عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ فَلَا يَبْعُدُ
أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ مِنْ بَعْضٍ وَأَجْزَلَ
ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ مِنْ بَعْضٍ وَالْأَسْمَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسَمّى ،
وَهِيَ مِنْ كَلَامِ اللّهِ سُبْحَانَهُ الْقَدِيمِ وَلَا نَقُولُ فِي كَلَامِ
اللّهِ هُوَ هُوَ وَلَا هُوَ غَيْرُهُ كَذَلِكَ لَا نَقُولُ فِي أَسْمَائِهِ
الّتِي تَضَمّنَهَا كَلَامُهُ إنّهَا هُوَ وَلَا هِيَ غَيْرُهُ فَإِنْ تَكَلّمْنَا
نَحْنُ بِهَا بِأَلْسِنَتِنَا الْمَخْلُوقَةِ وَأَلْفَاظِنَا الْمُحْدَثَةِ
فَكَلَامُنَا عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِنَا ، وَاَللّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -
يَقُولُ { وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصّافّاتُ 3 ] ، وَقُبْحًا
لِلْمُعْتَزِلَةِ ؛ فَإِنّهُمْ زَعَمُوا أَنّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَأَسْمَاؤُهُ
عَلَى أَصْلِهِمْ الْفَاسِدِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ الْمُسَمّى بِهَا ، وَسَوّوْا
بَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِ فِي [ ص 92 ] ثَبَتَ هَذَا ،
وَصَحّ جَوَازُ التّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ إذَا دَعَوْنَا بِهَا ،
فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَفْضِيلِ السّوَرِ وَالْآيِ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ
فَإِنّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى التّلَاوَةِ الّتِي هِيَ عَمَلُنَا ، لَا إلَى
الْمَتْلُوّ الّذِي هُوَ كَلَامُ رَبّنَا ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الْقَدِيمَةِ
وَقَدْ قَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأُبَيّ أَيّ آيَةٍ مَعَك فِي
كِتَابِ اللّهِ أَعْظَمُ ؟ فَقَالَ اللّهُ لَا إلَهَ إلّا هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ
فَقَالَ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ وَمُحَالٌ أَنْ يُرِيدَ
بِقَوْلِهِ أَعْظَمُ مَعْنًى عَظِيمٌ لِأَنّ الْقُرْآنَ كُلّهُ عَظِيمٌ فَكَيْفَ
يَقُولُ لَهُ أَيّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ عَظِيمَةٌ وَكُلّ آيَةٍ فِيهِ عَظِيمَةٌ
كَذَلِكَ ؟ وَكُلّ مَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَكْبَرُ بِمَعْنَى
كَبِيرٍ وَأَهْوَنُ بِمَعْنَى هَيّنٍ بَاطِلٍ عِنْدَ حُذّاقِ النّحَاةِ وَلَوْلَا
أَنْ نَخْرُجَ عَمّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ لَأَوْضَحْنَا بُطْلَانَهُ بِمَا لَا
قِبَلَ لَهُمْ بِهِ وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا فِي الْعَرَبِيّةِ مَا جَازَ أَنْ
يُحْمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ " أَيّ آيَةٍ مَعَك فِي كِتَابِ اللّهِ أَعْظَمُ
" ، لِأَنّ الْقُرْآنَ كُلّهُ عَظِيمٌ وَإِنّمَا سَأَلَهُ عَنْ الْأَعْظَمِ
مِنْهُ وَالْأَفْضَلِ فِي ثَوَابِ التّلَاوَةِ وَقُرْبِ الْإِجَابَةِ وَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى ثُبُوتِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ وَأَنّ لِلّهِ
اسْمًا هُوَ أَعْظَمُ أَسْمَائِهِ وَمُحَالٌ أَنْ يَخْلُو الْقُرْآنُ عَنْ ذَلِكَ الِاسْمِ
وَاَللّهُ تَعَالَى يَقُولُ { مَا فَرّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [
الْأَنْعَامُ 38 ] ، فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ لَا مُحَالَةَ . وَمَا كَانَ اللّهُ
لِيُحَرّمَهُ مُحَمّدًا ، وَأُمّتَهُ وَقَدْ فَضّلَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ
وَفَضّلَهُمْ عَلَى الْأُمَمِ فَإِنْ قُلْت : فَأَيْنَ هُوَ فِي الْقُرْآنِ ؟
فَقَدْ قِيلَ إنّهُ أُخْفِيَ فِيهِ كَمَا أُخْفِيَتْ السّاعَةُ فِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ لِيَجْتَهِدَ النّاسُ وَلَا
يَتّكِلُوا . قَالَ الْفَقِيهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ - رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ - فِي قَوْلِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأُبَيّ أَيّ
آيَةٍ مَعَك فِي كِتَابِ اللّهِ أَعْظَمُ وَلَمْ يَقُلْ أَفَضْلُ إشَارَةً إلَى
الِاسْمِ الْأَعْظَمِ أَنّهُ فِيهَا ، إذْ لَا يُتَصَوّرُ أَنْ تَكُونَ هِيَ
أَعْظَمُ آيَةً وَيَكُونُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ فِي أُخْرَى دُونَهَا . بَلْ
إنّمَا صَارَتْ أَعْظَمَ الْآيَاتِ لِأَنّ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ فِيهَا . أَلَا
تَرَى كَيْفَ هَنّأَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أُبَيّا ،
بِمَا أَعْطَاهُ اللّهُ تَعَالَى مِنْ الْعِلْمِ وَمَا هَنّأَهُ إلّا بِعَظِيمِ
بِأَنْ عَرَفَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ وَالْآيَةُ الْعُظْمَى الّتِي كَانَتْ
الْأُمَمُ قَبْلَنَا لَا يَعْلَمُهُ مِنْهُمْ إلّا الْأَفْرَادُ عَبْدُ اللّهِ
بْنُ الثّامِرِ ، وآصف صَاحِبُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَبُلْعُوم قَبْلَ
أَنْ يَتّبِعَهُ الشّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ وَقَدْ جَاءَ مَنْصُوصًا
فِي حَدِيثِ أُمّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - الّذِي خَرّجَهُ
التّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُدَ ، وَيُرْوَى أَيْضًا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ
- وَكُنْيَتُهَا : أُمّ سَلَمَةَ [ ص 93 ] سَأَلَتْ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِي هَاتِينَ الْآيَتَيْنِ { اللّهُ لَا إِلَهَ
إِلّا هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ } و { الم اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ الْحَيّ
الْقَيّومُ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ { هُوَ الْحَيّ لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ
فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ } الْآيَةَ أَيْ فَادْعُوهُ بِهَذَا الِاسْمِ
ثُمّ قَالَ { الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } تَنْبِيهًا لَنَا عَلَى
حَمْدِهِ وَشُكْرِهِ إذْ عَلِمْنَا مِنْ هَذَا الِاسْمِ الْعَظِيمِ مَا لَمْ
نَكُنْ نَعْلَمُ فَإِنْ قُلْت : فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتّرْمِذِيّ
أَيْضًا أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَمِعَ رَجُلًا -
وَهُوَ زَيْدٌ أَبُو عَيّاشٍ الزّرَقِيّ - ذَكَرَ اسْمَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي
أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ - يَقُولُ " اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُك ، بِأَنّ لَك
الْحَمْدُ لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ الْمَنّانُ بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ذُو
الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فَقَالَ لَقَدْ دَعَا اللّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ .
وَيُرْوَى أَنّهُ قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَفَرَ اللّهُ لَهُ غَفَرَ
اللّهُ لَهُ . وَرَوَى التّرْمِذِيّ نَحْوَ هَذَا فِيمَنْ قَالَ اللّهُمّ إنّي
أَسْأَلُك ؛ فَإِنّك اللّهُ الّذِي لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصّمَدُ الّذِي
لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُولَدْ وَهَذَا مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ أُمّ سَلَمَةَ قُلْنَا :
لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذَا ، وَبَيْنَ مَا تَقَدّمَ فَإِنّا لَمْ نَقُلْ إنّ
الِاسْمَ الْأَعْظَمَ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ بَلْ الْحَيّ الْقَيّومُ صِفَتَانِ
تَابِعَتَانِ لِلِاسْمِ الْأَعْظَمِ . وَتَتْمِيمٌ لِذِكْرِهِ وَكَذَلِكَ
الْمَنّانُ . وَذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَقَدْ
خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ أَيْضًا فِي الدّعَوَاتِ وَكَذَلِكَ الْأَحَدُ الصّمَدُ فِي
حَدِيثِ التّرْمِذِيّ . وَقَوْلُك : اللّهُ لَا إلَهَ إلّا هُوَ هُوَ الِاسْمُ
لِأَنّهُ لَا سَمِيّ لَهُ وَلَمْ يَتّسِمْ بِهِ غَيْرُهُ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ فِي التّسْعَةِ وَالتّسْعِينَ اسْمًا : إنّهَا كُلّهَا تَابِعَةٌ
لِلِاسْمِ الّذِي هُوَ اللّهُ وَهُوَ تَمَامُ الْمِائَةِ فَهِيَ مِائَةٌ عَلَى
عَدَدِ دَرَجِ الْجَنّةِ إذْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصّحِيحِ أَنّهَا مِائَةُ دَرَجَةٍ
بَيْنَ كُلّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ وَقَالَ فِي الْأَسْمَاءِ
" مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنّةَ " فَهِيَ عَلَى عَدَد دَرَجِ
الْجَنّةِ وَأَسْمَاؤُهُ تَعَالَى [ ص 94 ] تُحْصَى ، وَإِنّمَا هَذِهِ
الْأَسْمَاءُ هِيَ الْمُفَضّلَةُ عَلَى غَيْرِهَا ، وَالْمَذْكُورَةِ فِي
الْقُرْآنِ . يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الصّحِيحِ أَسْأَلُك بِأَسْمَائِك
الْحُسْنَى مَا عَلِمْت مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ وَوَقَعَ فِي جَامِعِ ابْنِ
وَهْبٍ : سُبْحَانَك لَا أُحْصِي أَسَمَاءَك وَمِمّا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ الِاسْمُ
الْأَعْظَمُ أَنّك تُضِيفُ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ إلَيْهِ وَلَا تُضِيفُهُ إلَيْهَا
. تَقُولُ الْعَزِيزُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللّهِ وَلَا تَقُلْ اللّهُ اسْمٌ مِنْ
أَسْمَاءِ الْعَزِيزِ وَفُخّمَتْ اللّامّ مِنْ اسْمِهِ - وَإِنْ كَانَتْ لَا
تُفَخّمُ لَامٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إلّا مَعَ حُرُوفِ الْإِطْبَاقِ نَحْوُ
الطّلَاقِ وَلَا تُفَخّمُ لَامٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ
الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي أَسْمَائِهِ الّتِي لَيْسَتْ بِمُسْتَعْلِيَةِ إلّا
فِي هَذَا الِاسْمِ الْعَظِيمِ الْمُنْتَظَمِ مِنْ أَلِفٍ وَلَامَيْنِ وَهَاءٍ .
فَالْأَلِفُ مِنْ مَبْدَأِ الصّوْتِ وَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إلَى مَخْرَجِ الْأَلِفِ
فَشَاكَلَ اللّفْظ الْمَعْنَى ، وَطَابَقَهُ لِأَنّ الْمُسَمّى بِهَذَا الِاسْمِ
مِنْهُ الْمَبْدَأُ وَإِلَيْهِ الْمَعَادُ . وَالْإِعَادَةُ أَهْوَنُ مِنْ
الِابْتِدَاءِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ فَكَذَلِكَ الْهَاءُ أَخَفّ وَأَلْيَنُ فِي
اللّفْظِ مِنْ الْهَمْزَةِ الّتِي هِيَ مَبْدَأُ الِاسْمِ . أُخْبِرْت بِهَذَا
الْكَلَامِ أَوْ نَحْوِهِ فِي الِاسْمِ وَحُرُوفِهِ عَنْ ابْنِ فَوْرَكٍ رَحِمَهُ
اللّهُ . ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ شَيْخُنَا فِي كِتَابِ شَرْحِ الْأَسْمَاءِ
الْحُسْنَى لَهُ . فَإِنْ قِيلَ فَأَيْنَ مَا ذَكَرُوهُ عَنْ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ
وَأَنّهُ لَا يُدْعَى اللّهُ بِهِ إلّا أَجَابَ وَلَا يُسْأَلُ بِهِ شَيْئًا إلّا
أَعْطَاهُ . قُلْنَا : عَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّ هَذَا الِاسْمَ
كَانَ عِنْدَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا - إذَا عَلِمَهُ - مَصُونًا غَيْر مُبْتَذَلٍ
مُعَظّمًا لَا يَمَسّهُ إلّا طَاهِرٌ وَلَا يَلْفِظُ بِهِ إلّا طَاهِرٌ وَيَكُونُ
الّذِي يَعْرِفُهُ عَامِلًا بِمُقْتَضَاهُ مُتَأَلّهًا مُخْبِتًا ، قَدْ امْتَلَأَ
قَلْبُهُ بِعَظَمَةِ الْمُسَمّى بِهِ لَا يَلْتَفِتُ إلَى غَيْرِهِ وَلَا يَخَافُ
سِوَاهُ فَلَمّا اُبْتُذِلَ وَتُكُلّمَ بِهِ فِي مَعْرِضِ الْبَطَالَاتِ وَالْهَزْلِ
وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ ذَهَبَتْ مِنْ الْقُلُوبِ هَيْبَتُهُ فَلَمْ يَكُنْ
فِيهِ مِنْ سُرْعَةِ الْإِجَابَةِ وَتَعْجِيلِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ لِلدّاعِي مَا
كَانَ قَبْلُ . أَلَا تَرَى قَوْلَ أَيّوبَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي بَلَائِهِ
" قَدْ كُنْت أَمُرّ بِالرّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللّهَ -
يَعْنِي فِي تَنَازُعِهِمَا ، أَيْ تَخَاصُمِهِمَا - فَأَرْجِعُ إلَى بَيْتِي ،
فَأُكَفّرُ عَنْهُمَا كَرَاهَةَ أَنْ يُذْكَرَ اللّهُ إلّا فِي حَقّ وَفِي
الْحَدِيثِ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَرِهْت أَنْ
أَذْكُرَ اللّهَ إلّا عَلَى طُهْرٍ فَقَدْ لَاحَ لَك تَعْظِيمُ الْأَنْبِيَاءِ
لَهُ . [ ص 95 ] الثّانِي : أَنّ الدّعَاءَ بِهِ إذَا كَانَ مِنْ الْقَلْبِ وَلَمْ
يَكُنْ بِمُجَرّدِ اللّسَانِ اُسْتُجِيبَ لِلْعَبْدِ غَيْرَ أَنّ الِاسْتِجَابَةَ تَنْقَسِمُ
كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - إمّا أَنْ يُعَجّلَ لَهُ مَا سَأَلَ وَإِمّا
أَنْ يَدّخِرَ لَهُ وَذَلِكَ خَيْرٌ مِمّا طَلَبَ وَإِمّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ
مِنْ الْبَلَاءِ بِقَدْرِ مَا سَأَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَأَمّا دُعَاءُ النّبِيّ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأُمّتِهِ أَلّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ
بَيْنَهُمْ فَمَنَعَهَا ، فَقَدْ أُعْطِيَ عِوَضًا لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الشّفَاعَةِ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ قَالَ أُمّتِي هَذِهِ أُمّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ
عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَذَابُهَا فِي الدّنْيَا : الزّلَازِلُ
وَالْفِتَنُ خَرّجَهُ أَبُو دَاوُدَ ، فَإِذَا كَانَتْ الْفِتَنُ سَبَبًا لِصَرْفِ
عَذَابِ الْآخِرَةِ عَنْ الْأُمّةِ فَمَا خَابَ دُعَاؤُهُ لَهُمْ . عَلَى أَنّنِي
تَأَمّلْت هَذَا الْحَدِيثَ وَتَأَمّلْت حَدِيثَهُ الْآخَرَ حِينَ نَزَلَتْ { قُلْ
هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } [
الْأَنْعَامُ 65 ] . فَقَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِك . فَلَمّا سَمِعَ { أَوْ مِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِك ، فَلَمّا سَمِعَ { أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قَالَ هَذِهِ أَهْوَنُ
فَمِنْ هَاهُنَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أُعِيذَتْ أُمّتُهُ مِنْ الْأُولَى
وَالثّانِيَةِ وَمُنِعَ الثّالِثَةُ حِينَ سَأَلَهَا بَعْدُ . وَقَدْ عَرَضْت
هَذَا الْكَلَامَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ فُقَهَاءِ زَمَانِنَا ، فَقَالَ هَذَا حَسَنٌ
جِدّا ، غَيْرَ أَنّا لَا [ ص 96 ] أَكَانَتْ مَسْأَلَتُهُ بَعْدَ نُزُولِ
الْآيَةِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ فَأَخْلِقْ بِهَذَا
النّظَرِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا . قُلْت لَهُ أَلَيْسَ فِي الْمُوَطّأِ أَنّهُ دَعَا
بِهَا فِي مَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ ، وَلَا خِلَافَ
أَنّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ مَكّيّةٌ ؟ فَقَالَ نَعَمْ وَسَلّمَ وَأَذْعَنَ
لِلْحَقّ وَأَقَرّ بِهِ . رَحِمَهُ اللّهُ .
هَلْ الشّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ ؟
فَصْلٌ وَذَكَرَ مِنْ وَجْدَانِ عَبْدِ اللّهِ فِي خَرِبَةٍ مِنْ خِرَبِ نَجْرَانَ
. يُصَدّقُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَا تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ } [ آلُ عِمْرَانَ : 169 ] الْآيَةَ
وَمَا وُجِدَ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ ، وَغَيْرِهِمْ
عَلَى هَذِهِ الصّورَةِ لَمْ يَتَغَيّرُوا بَعْدَ الدّهُورِ الطّوِيلَةِ
كَحَمْزَةِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فَإِنّهُ وُجِدَ
حِينَ حَفَرَ مُعَاوِيَةُ الْعَيْنَ صَحِيحًا لَمْ يَتَغَيّرْ وَأَصَابَتْ الْفَأْسُ
أُصْبُعَهُ فَدَمِيَتْ وَكَذَلِكَ أَبُو جَابِرٍ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حَرَامٍ
وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ ، وَطَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ - رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُمْ - اسْتَخْرَجَتْهُ بِنْتُهُ عَائِشَةُ مِنْ قَبْرِهِ حِينَ رَأَتْهُ فِي
الْمَنَامِ فَأَمَرَهَا أَنْ تَنْقُلَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ فَاسْتَخْرَجَتْهُ مِنْ
مَوْضِعِهِ بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَمْ يَتَغَيّرْ . ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ
فِي الْمَعَارِفِ . وَالْأَخْبَارُ بِذَلِكَ صَحِيحَةٌ . وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ
طَرِيقِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ يُصَلّونَ فِي قُبُورِهِمْ .
انْفَرَدَ بِهِ ثَابِتٌ الْبُنَانِيّ عَنْ أَنَسٍ وَقَدْ رُوِيَ أَنّ ثَابِتًا
اُلْتُمِسَ فِي قَبْرِهِ بَعْدَمَا دُفِنَ فَلَمْ يُوجَدْ فَذَكَرَ ذَلِكَ
لَبِنْتِهِ . فَقَالَتْ كَانَ يُصَلّي فَلَمْ تَرَوْهُ لِأَنّي كُنْت أَسْمَعُهُ
إذَا تَهَجّدَ بِاللّيْلِ يَقُولُ " اللّهُمّ اجْعَلْنِي مِمّنْ يُصَلّي فِي
قَبْرِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ " . وَفِي الصّحِيحِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ مَرَرْت بِمُوسَى - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَهُوَ
يُصَلّي فِي قَبْرِهِ .
ابْنُ
الثّامِرِ يَدْعُو إلَى الْإِسْلَامِ
[ ص 93 ] فَجَعَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الثّامِرِ إذَا دَخَلَ نَجْرَانَ لَمْ
يَلْقَ أَحَدًا بِهِ ضُرّ إلّا قَالَ يَا عَبْدَ اللّهِ أَتُوَحّدُ اللّهَ
وَتَدْخُلُ فِي دِينِي ، وَادَعْو اللّهَ فَيُعَافِيَك مِمّا أَنْتَ فِيهِ مِنْ
الْبَلَاءِ ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُوَحّدُ اللّهَ وَيُسْلِمُ وَيَدْعُو لَهُ
فَيُشْفَى ، حَتّى لَمْ يَبْقَ بِنَجْرَانَ أَحَدٌ بِهِ ضُرّ إلّا أَتَاهُ
فَاتّبَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ وَدَعَا لَهُ فَعُوفِيَ حَتّى رُفِعَ شَأْنُهُ إلَى
مَلِكِ نَجْرَانَ ، فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَفْسَدْت عَلَيّ [ ص 94 ] دِينِي
وَدِينَ آبَائِي ، لَأُمَثّلَنّ بِك ، قَالَ لَا تَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ
فَجَعَلَ يُرْسِلُ بِهِ إلَى الْجَبَلِ الطّوِيلِ فَيُطْرَحُ عَلَى رَأْسِهِ
فَيَقَعُ إلَى الْأَرْضِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَجَعَلَ يَبْعَثُ بِهِ إلَى مِيَاهٍ
بِنَجْرَانَ بُحُورٍ لَا يَقَعُ فِيهَا شَيْءٌ إلّا هَلَكَ فَيُلْقَى فِيهَا ،
فَيَخْرَجُ [ ص 95 ] غَلَبَهُ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الثّامِرِ : إنّك وَاَللّهِ
لَنْ تَقْدِرَ عَلَى قَتْلِي حَتّى تُوَحّدَ اللّهَ فَتُؤْمِنَ بِمَا آمَنْت بِهِ
فَإِنّك إنْ فَعَلْت ذَلِكَ سُلّطْت عَلَيّ فَقَتَلَتْنِي . قَالَ فَوَحّدَ اللّهَ
تَعَالَى ذَلِكَ الْمَلِكُ وَشَهِدَ شَهَادَةَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ ،
ثُمّ ضَرَبَهُ بِعَصَا فِي يَدِهِ فَشَجّهُ شَجّةً غَيْرَ كَبِيرَةٍ فَقَتَلَهُ
ثُمّ هَلَكَ الْمَلِكُ مَكَانَهُ وَاسْتَجْمَعَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ - وَكَانَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ مِنْ الْإِنْجِيلِ وَحُكْمِهِ - ثُمّ أَصَابَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ
أَهْلَ دِينِهِمْ مِنْ الْأَحْدَاثِ فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ أَصْلُ
النّصْرَانِيّةِ بِنَجْرَانَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ
: فَهَذَا حَدِيثُ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرظِيّ وَبَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ .
أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَمَعْنَاهُ
[ ص 96 ] [ ص 97 ] فَسَارَ إلَيْهِمْ ذُو نُوَاسٍ بِجُنُودِهِ فَدَعَاهُمْ إلَى
الْيَهُودِيّةِ وَخَيّرَهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ وَالْقَتْلِ فَاخْتَارُوا الْقَتْلَ
فَخَدّ لَهُمْ الْأُخْدُودَ ، فَحَرَقَ مَنْ حَرَقَ بِالنّارِ وَقَتَلَ مَنْ
قَتَلَ بِالسّيْفِ وَمَثّلَ بِهِمْ حَتّى قَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ
أَلْفًا ، فَفِي ذِي نُوَاسٍ وَجُنْدِهِ تِلْكَ أَنَزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَى
رَسُولِهِ سَيّدِنَا مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { قُتِلَ أَصْحَابُ
الْأُخْدُودِ النّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى
مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلّا أَنْ
يُؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ الْبُرُوجُ ] . [ ص 100 ] قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : الْأُخْدُودُ : الْحَفْرُ الْمُسْتَطِيلُ فِي الْأَرْضِ
كَالْخَنْدَقِ وَالْجَدْوَلِ وَنَحْوِهِ وَجَمْعُهُ أَخَادِيدُ . قَالَ ذُو
الرّمّةِ - وَاسْمُهُ غَيْلَانُ بْنُ عُقْبَةَ أَحَدُ بَنِي عَدِيّ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ
بْنِ أُدّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ . مِنْ الْعِرَاقِيّةِ
اللّاتِي يُحِيلُ لَهَا بَيْنَ الْغَلَاةِ وَبَيْنَ النّخْلِ أَخُدُودُ
[ ص 101 ]
مَصِيرُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَيُقَالُ كَانَ فِيمَنْ قَتَلَ ذُو نُوَاسٍ ، عَبْدُ
اللّهِ بْنُ الثّامِرِ رَأْسُهُمْ وَإِمَامُهُمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ أَنّهُ حَدّثَ أَنّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ كَانَ فِي زَمَانِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - حَفَرَ خَرِبَةً مِنْ خَرِبِ
نَجْرَانَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَوَجَدُوا عَبْدَ اللّهِ بْنَ الثّامِرِ تَحْتَ
دَفْنٍ مِنْهَا قَاعِدًا ، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى ضَرْبَةٍ فِي رَأْسِهِ مُمْسِكًا
عَلَيْهَا بِيَدِهِ فَإِذَا أَخّرْت يَدَهُ عَنْهَا تَنْبَعِثُ دما ، وإذا
أَرْسَلْت يَدَهُ رَدّهَا عَلَيْهَا ، فَأَمْسَكَتْ دَمَهَا ، وَفِي يَدِهِ
خَاتَمٌ مَكْتُوبٌ فِيهِ " رَبّي اللّهُ " فَكَتَبَ فِيهِ إلَى عُمَرَ
بْنِ الْخَطّابِ يُخْبِرُ بِأَمْرِهِ فَكَتَبَ إلَيْهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
أَنْ أَقِرّوهُ عَلَى حَالِهِ وَرُدّوا عَلَيْهِ الدّفْنَ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ
فَفَعَلُواSأَصْحَابُ
الْأُخْدُودِ
[ ص 97 ] عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ إنّمَا رَوَاهُ ابْنُ إسْحَاقَ مَوْقُوفًا
عَلَى مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرظِيّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ ، لِيَصِلَ
بِهِ حَدِيثَ فَيُمْؤُنّ وَهُوَ حَدِيثُ ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيب عَنْ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَهُوَ أَوْلَى أَنْ
يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُخَالِفُ حَدِيثَ ابْنِ إسْحَاقَ فِي أَلْفَاظٍ
كَثِيرَةٍ . قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إذَا
حَدّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَعْنِي حَدِيثًا تَقَدّمَ قَبْلَ هَذَا الْحَدِيثِ
يُحَدّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْآخَرِ . قَالَ كَانَ مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ
وَكَانَ لِذَلِكَ الْمَلِكِ كَاهِنٌ يَكْهُنُ لَهُ فَقَالَ الْكَاهِنُ اُنْظُرُوا
لِي غُلَامًا فَهُمَا أَوْ قَالَ فَطِنًا لَقِنًا ؛ فَأَعْلَمَهُ عِلْمِي هَذَا ،
فَإِنّي أَخَافُ أَنْ أَمَوْتَ فَيَنْقَطِعُ مِنْكُمْ هَذَا الْعِلْمُ وَلَا يَكُونُ
فِيكُمْ مَنْ يَعْلَمُهُ قَالَ فَنَظَرُوا لَهُ غُلَامًا عَلَى مَا وَصَفَ
فَأَمَرُوهُ أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الْكَاهِنُ وَأَنْ يَخْتَلِفَ إلَيْهِ فَجَعَلَ
يَخْتَلِفُ إلَيْهِ وَكَانَ عَلَى طَرِيقِ الْغُلَامِ رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَةٍ
قَالَ مَعْمَرٌ أَحْسَبُ أَنّ أَصْحَابَ الصّوَامِعِ يَوْمئِذٍ كَانُوا
مُسْلِمِينَ . قَالَ فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَسْأَلُ الرّاهِبَ كُلّمَا مَرّ بِهِ
فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتّى أَخْبَرَهُ فَقَالَ إنّمَا أَعْبُدُ اللّهَ قَالَ
فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَمْكُثُ عِنْدَ الرّاهِبِ وَيُبْطِئُ عَلَى الْكَاهِنِ
فَأَرْسَلَ الْكَاهِنُ إلَى أَهْلِ الْغُلَامِ أَنّهُ لَا يَكَادُ يَحْضُرُنِي ،
فَأَخْبَرَ الْغُلَامُ الرّاهِبَ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ الرّاهِبُ إذَا قَالَ لَك
الْكَاهِنُ أَيْنَ كُنْت ، فَقُلْ كُنْت عِنْدَ أَهْلِي ، فَإِذَا قَالَ لَك
أَهْلُك : أَيْنَ كُنْت ؟ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّك كُنْت عِنْدَ الْكَاهِنِ قَالَ
فَبَيْنَمَا الْغُلَامُ عَلَى ذَلِكَ إذْ مَرّ بِجَمَاعَةِ مِنْ النّاسِ كَثِيرٍ
قَدْ حَبَسَتْهُمْ دَابّةٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إنّ تِلْكَ الدّابّةَ كَانَتْ
أَسَدًا ، فَأَخَذَ الْغُلَامُ حَجَرًا ، فَقَالَ اللّهُمّ إنْ كَانَ مَا يَقُولُ
الرّاهِبُ حَقّا فَأَسْأَلُك أَنْ تَقْتُلَهُ قَالَ ثُمّ رَمَى ، فَقَتَلَ
الدّابّةَ فَقَالَ النّاسُ مَنْ قَتَلَهَا ؟ فَقَالُوا : الْغُلَامُ فَفَزِعَ
النّاسُ وَقَالُوا : لَقَدْ عَلِمَ هَذَا الْغُلَامُ عِلْمًا لَمْ يَعْلَمْهُ
أَحَدٌ . قَالَ فَسَمِعَ بِهِ أَعْمَى ، فَقَالَ لَهُ إنْ أَنْتَ رَدَدْت بَصَرِي
فَلَك كَذَا وَكَذَا ، فَقَالَ لَهُ لَا أُرِيدُ مِنْك هَذَا ، وَلَكِنْ أَرَأَيْت
إنْ رَجَعَ إلَيْك بَصَرُك أَتُؤْمِنُ بِاَلّذِي رَدّهُ ؟ [ ص 98 ] قَالَ نَعَمْ .
قَالَ فَدَعَا اللّهَ فَرَدّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ فَآمَنَ الْأَعْمَى ، فَبَلَغَ
الْمَلِكَ أَمْرُهُمْ فَبَعَثَ إلَيْهِمْ فَأَتَى بِهِمْ فَقَالَ لَأَقْتُلَنّ
كُلّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ قِتْلَةً لَا أَقْتُلُ بِهَا صَاحِبَهُ فَأَمَرَ
بِالرّاهِبِ وَبِالرّجُلِ الّذِي كَانَ أَعْمَى ، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ عَلَى
مَفْرِقِ أَحَدِهِمَا فَقَتَلَهُ ثُمّ قَتَلَ الْآخَرَ بِقِتْلَةِ أُخْرَى ، ثُمّ
أَمَرَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ انْطَلِقُوا بِهِ إلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا ،
فَأَلْقُوهُ مِنْ رَأْسِهِ فَانْطَلَقُوا بِهِ إلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ فَلَمّا انْتَهَوْا
إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الّذِي أَرَادُوا أَنْ يَلْقَوْهُ مِنْهُ جَعَلُوا
يَتَهَافَتُونَ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ وَيَتَرَدّوْنَ مِنْهُ حَتّى لَمْ يَبْقَ
مِنْهُمْ إلّا الْغُلَامُ قَالَ ثُمّ رَجَعَ فَأَمَرَ بِهِ الْمَلِكَ أَنْ
يَنْطَلِقُوا بِهِ إلَى الْبَحْرِ فَيَلْقَوْنَهُ فِيهِ فَانْطَلَقَ بِهِ إلَى
الْبَحْرِ فَغَرّقَ اللّهُ الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وَأَنْجَاهُ فَقَالَ
الْغُلَامُ لِلْمَلِكِ إنّك لَا تَقْتُلُنِي حَتّى تَصْلُبَنِي وَتَرْمِيَنِي ،
وَتَقُولَ إذَا رَمَيْتنِي : " بِاسْمِ اللّهِ رَبّ هَذَا الْغُلَامِ "
. قَالَ فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ ثُمّ رَمَاهُ فَقَالَ بِاسْمِ اللّهِ رَبّ هَذَا
الْغُلَامِ فَوَضَعَ الْغُلَامُ يَدَهُ عَلَى صُدْغِهِ حِينَ رُمِيَ ثُمّ مَاتَ
فَقَالَ النّاسُ لَقَدْ عَلِمَ هَذَا الْغُلَامُ عِلْمًا مَا عَلِمَهُ أَحَدٌ ،
فَإِنّا نُؤْمِنُ بِرَبّ هَذَا الْغُلَامِ قَالَ فَقِيلَ لِلْمَلِكِ أَجَزِعْت
أَنّ خَالَفَك ثَلَاثَةً فَهَذَا الْعَالَمُ كُلّهمْ قَدْ خَالَفُوك ، قَالَ
فَخَدّ أَخُدُودًا ، ثُمّ أَلْقَى فِيهِ الْحَطَبَ وَالنّارَ ثُمّ جَمَعَ النّاسَ
فَقَالَ مَنْ رَجَعَ عَنْ ذَنْبِهِ تَرَكْنَاهُ وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ
أَلْقَيْنَاهُ فِي هَذِهِ النّارِ فَجَعَلَ يُلْقِيهِمْ فِي ذَلِكَ الْأُخْدُودِ .
قَالَ يَقُولُ اللّهُ سُبْحَانَهُ - { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النّارِ
ذَاتِ الْوَقُودِ } حَتّى بَلَغَ { الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ الْبُرُوجُ ] . قَالَ
فَأَمّا الْغُلَامُ فَإِنّهُ دُفِنَ . قَالَ فَيُذْكَرُ أَنّهُ أُخْرِجَ فِي
زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَأُصْبُعُهُ عَلَى
صُدْغِهِ كَمَا وَضَعَهَا حِينَ قُتِلَ . رَوَاهُ التّرْمِذِيّ عَنْ مَحْمُودِ
بْنِ غَيْلَانَ عَنْ عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ
هَدّابِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، ثُمّ اتّفَقَا عَنْ ثَابِتٍ
عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيب غَيْرَ أَنّ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ أَنّ
الْأَعْمَى الّذِي شُفِيَ كَانَ جَلِيسًا لِلْمَلِكِ وَأَنّهُ جَاءَهُ بَعْدَ مَا
شُفِيَ فَجَلَسَ مِنْ الْمَلِكِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ مَنْ رَدّ عَلَيْك
بَصَرَك ، قَالَ رَبّي ، قَالَ وَهَلْ لَك رَبّ غَيْرِي ؟ فَقَالَ اللّهُ رَبّي
وَرَبّك ، فَأَمَرَ بِالْمِنْشَارِ فَجُعِلَ عَلَى رَأْسِهِ حَتّى وَقَعَ شِقّاهُ
وَأَمَرَ بِالرّاهِبِ فَفُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي آخِرِ
الْحَدِيثِ . قَالَ فَأُتِيَ بِامْرَأَةِ لِتُلْقَى فِي النّارِ وَمَعَهَا صَبِيّ
يَرْضَعُ فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ يَا أُمّهْ لَا تَجْزَعِي ، فَإِنّك عَلَى
الْحَقّ وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنّ الْغُلَامَ الرّضِيعَ كَانَ مِنْ سَبْعَةِ
أَشْهُرٍ .
أَمْرُ
دَوْسٍ ذِي ثُعْلُبَانٍ وَابْتِدَاءُ مُلْكِ الْحَبَشَةِ
وَذِكْرُ أَرْيَاطٍ الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْيَمَنِ
دَوْسٌ يَسْتَنْصِرُ بِقَيْصَرَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَفْلَتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ سَبَأٍ ، يُقَالُ لَهُ
دَوْسٌ ذُو ثُعْلُبَانٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فَسَلَكَ الرّمْلَ فَأَعْجَزَهُمْ
فَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ حَتّى أَتَى قَيْصَرَ مَلِكَ الرّومِ ،
فَاسْتَنْصَرَهُ عَلَى ذِي نُوَاسٍ وَجُنُودِهِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا بَلَغَ
مِنْهُمْ فَقَالَ لَهُ بَعُدَتْ بِلَادُك مِنّا ، وَلَكِنْ سَأَكْتُبُ لَك إلَى
مَلِكِ الْحَبَشَةِ فَإِنّهُ عَلَى هَذَا الدّينِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى بِلَادِك ،
وَكَتَبَ إلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِنَصْرِهِ وَالطّلَبِ بِثَأْرِهِ .
هَزِيمَةُ ذِي نُوَاسٍ وَانْتِحَارُهُ
فَقَدِمَ دَوْسٌ عَلَى النّجَاشِيّ بِكِتَابِ قَيْصَرَ فَبَعَثَ مَعَهُ سَبْعِينَ
أَلْفًا مِنْ الْحَبَشَةِ ، وَأَمّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ
أَرْيَاطٌ - وَمَعَهُ فِي جُنْدِهِ أَبْرَهَةُ الْأَشْرَمُ - فَرَكِبَ أَرْيَاطٌ
الْبَحْرَ حَتّى نَزَلَ بِسَاحِلِ الْيَمَنِ ، وَمَعَهُ دَوْسٌ ذُو ثُعْلُبَانٍ
وَسَارَ إلَيْهِ ذُو نُوَاسٍ فِي حِمْيَرَ ، وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَبَائِلِ
الْيَمَنِ ، فَلَمّا الْتَقَوْا انْهَزَمَ ذُو نُوَاسٍ وَأَصْحَابُهُ فَلَمّا
رَأَى ذُو نُوَاسٍ مَا نَزَلَ [ ص 102 ] فَرَسَهُ فِي الْبَحْرِ ثُمّ ضَرَبَهُ
فَدَخَلَ بِهِ فَخَاضَ بَهْ ضَحْضَاحَ الْبَحْرِ حَتّى أَفْضَى بِهِ إلَى غَمْرِهِ
فَأَدْخَلَهُ فِيهِ وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ . وَدَخَلَ أَرْيَاطٌ الْيَمَنِ
، فَمَلَكَهَا .Sحَدِيثُ
الْحَبَشَةِ
وَذَكَرَ فِيهِ دَوْسًا ذَا ثَعْلَبَانِ الّذِي أَتَى قَيْصَرَ . وَدَوْسٌ : هُوَ
ابْنُ تُبّعٍ الّذِي قَتَلَهُ أَخُوهُ قَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ
رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ . [ ص 99 ] وَذَكَرَ فِيهِ قَيْصَرَ وَكِتَابَهُ
لَلنّجَاشِيّ . وَقَيْصَرُ اسْمُ عَلَمٍ لِكُلّ مَنْ وَلِيَ الرّومَ وَتَفْسِيرُهُ
بِلِسَانِهِمْ الْبُقَيْرُ الّذِي بُقِرَ بَطْنُ أُمّهِ عَنْهُ وَكَانَ أَوّلُ
مَنْ تَسَمّى بِهِ بُقَيْرًا ، فَلَمّا مُلّكَ وَعُرِفَ بِهِ تَسَمّى بِهِ كُلّ
مَنْ مُلّكَ بَعْدَهُ . قَالَهُ الْمَسْعُودِيّ . وَإِنّمَا كَتَبَ بِذَلِكَ إلَى
النّجَاشِيّ ، لِأَنّهُ عَلَى دِينِهِ وَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الْيَمَنِ مِنْهُ
وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ ذَا نُوَاسٍ أُدْخِلَ الْحَبَشَةَ صَنْعَاءَ
الْيَمَنِ ، حِينَ رَأَى أَنْ لَا قِبَلَ لَهُ بِهِمْ بَعْدَ أَنْ اسْتَنْفَرَ
جَمِيعَ الْمَقَاوِلِ لِيَكُونُوا مَعَهُ يَدًا وَاحِدَةً عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا
إلّا أَنْ يُحْمَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَوْزَتَهُ عَلَى حِدَتِهِ فَخَرَجَ
إلَيْهِمْ وَمَعَهُ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِهِ وَأَمْوَالُهُ عَلَى أَنْ يُسَالِمُوهُ
وَمَنْ مَعَهُ وَلَا يَقْتُلُوا أَحَدًا فَكَتَبُوا إلَى النّجَاشِيّ بِذَلِكَ
فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ فَدَخَلُوا صَنْعَاءَ وَدَفَعَ
إلَيْهِمْ الْمَفَاتِيحَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقْبِضُوا مَا فِي بِلَادِهِ مِنْ
خَزَائِنِ أَمْوَالِهِ ثُمّ كَتَبَ هُوَ إلَى كُلّ مَوْضِعٍ مِنْ أَرْضِهِ أَنْ
اُقْتُلُوا كُلّ ثَوْرٍ أَسْوَدَ فَقُتِلَ أَكْثَرُ الْحَبَشَةِ ، فَلَمّا بَلَغَ
ذَلِكَ النّجَاشِيّ وَجّهَ جَيْشًا إلَى أَبْرَهَةَ وَعَلَيْهِمْ أَرِيَاطٌ
وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْتُلَ ذَا نُوَاسٍ وَيُخَرّبَ ثُلُثَ بِلَادِهِ وَيَقْتُلُ
ثُلُثَ الرّجَالِ وَيَسْبِي ثُلُثَ النّسَاءِ وَالذّرّيّةِ فَفَعَلَ ذَلِكَ
أَبْرَهَةُ . وَأَبْرَهَةُ بِالْحَبَشَةِ هُوَ الْأَبْيَضُ الْوَجْهِ وَفِي هَذَا
قُوّةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنّ أَبْرَهَةَ هَذَا هُوَ أَبْرَهَةُ بْنُ الصّبَاحِ
الْحِمْيَرِيّ وَلَيْسَ بِأَبِي يكْسوم الْحَبَشِيّ وَإِنّ الْحَبَشَةَ كَانُوا قَدْ
أَمّرُوا أَبْرَهَةَ بْنَ الصّبَاحِ عَلَى الْيَمَنِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَهُ
ابْنُ سَلّام فِي تَفْسِيرِهِ وَاقْتَحَمَ ذُو نُوَاسٍ الْبَحْرَ فَهَلَكَ وَقَامَ
بِأَمْرِهِ مِنْ بَعْدَهُ ذُو جَدَن ، وَاسْمُهُ عَلَسُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو
سُبَيْع بْنِ الْحَارِثِ ، وَالْجَدَنُ حُسْنُ الصّوْتِ يُقَالُ إنّهُ أَوّلُ مَنْ
أَظَهَرَ الْغِنَاءَ بِالْيَمَنِ فَسُمّيَ بِهِ وَجَدَنُ أَيْضًا : مَفَازَةٌ
بِالْيَمَنِ زَعَمَ الْبَكْرِيّ أَنّ ذَا جَدَن إلَيْهَا يُنْسَبُ فَحَارَبَ
الْحَبَشَةَ بَعْدَ ذِي نُوَاسٍ فَكَسَرُوا جُنْدَهُ وَغَلَبُوهُ عَلَى أَمْرِهِ
فَفَرّ إلَى الْبَحْرِ كَمَا فَعَلَ ذُو نُوَاسٍ ، فَهَلَكَ فِيهِ وَذَكَرُوا
سَبَبَ مُنَازَعَةِ أَبْرَهَةَ لِأَرْيَاطٍ وَأَنّ ذَلِكَ إنّمَا كَانَ لِأَنّ
أَبْرَهَةَ بَلّغَ النّجَاشِيّ أَنّهُ اسْتَبَدّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يُرْسِلْ
إلَيْهِ مِنْ جِبَايَةِ الْيَمَنِ شَيْئًا ، فَوَجّهَ أَرْيَاطًا إلَى خَلْعِهِ
فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَاهُ أَبْرَهَةُ إلَى الْمُبَارَزَةِ - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ
إسْحَاقَ - وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ عَتْوَدة الْغُلَامَ الّذِي قَتَلَ
أَرْيَاطًا . وَالْعَتْوَدَةُ الشّدّةُ وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِهِ أَرْيَجْدَةُ .
قَالَ لَهُ أَبْرَهَةُ احْتَكِمْ عَلَيّ قَالَ أَحْتَكِمُ أَنْ لَا تَزِفّ
امْرَأَةً إلَى بَعْلِهَا ، حَتّى أَكُونَ أَنَا الّذِي أَبَدَأَ بِهَا قَبْلَهُ
فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبْرَهَةُ وَغَبَرَ الْعَبْدُ زَمَانًا يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَمّا
اشْتَدّ الْغَيْظُ بِأَهْلِ الْيَمَنِ ، قَتَلُوا عَتْوَدة غِيلَةً فَقَالَ لَهُمْ
الْمَلِكُ قَدْ أَنّى لَكُمْ يَأْهَلَ الْيَمَنِ أَنْ تَفْعَلُوا فِعْلَ
الْأَحْرَارِ وَأَنْ تَغْضَبُوا لَحَرَمَكُمْ وَلَوْ عَلِمْت أَنّ هَذَا الْعَبْدَ
يَسْأَلُنِي هَذَا الّذِي سَأَلَ مَا حَكّمْته ، وَلَكِنْ وَاَللّهِ لَا يُؤْخَذُ
مِنْكُمْ فِيهِ دِيَةٌ وَلَا تُطْلَبُونَ بِذَخْلٍ [ ص 100 ] وَقَعَ اسْمُ أرْياط
فِي رِوَايَةِ يُونُسَ لَمْ يُسَمّهِ بِهَذَا الِاسْمِ إنّمَا سَمّاهُ رَوْزَنَةً
أَوْ نَحْوُ هَذَا . وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ سَيْفَ بْنَ ذِي يَزَنَ لَمّا
فَعَلَ ذُو نُوَاسٍ بِالْحَبَشَةِ مَا فَعَلَ ثُمّ ظَفَرُوا بِهِ بَعَثَ
عَظِيمُهُمْ " إلَى أَبِي مُرّةَ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ ، فَانْتَزَعَ
مِنْهُ رَيْحَانَةَ بِنْتَ عَلْقَمَةَ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ لَهُ
مَعْدِي كَرِب . فَمَلَكَهَا أَبْرَهَةُ . وَأَوْلَدَهَا مَسْرُوقَ بْنَ
أَبْرَهَةَ وَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَجّهَ سَيْفٌ إلَى كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ يَطْلُبُ
مِنْهُ الْغَوْثَ عَلَى الْحَبَشَةِ ، فَوَعَدَهُ بِذَلِكَ وَأَقَامَ عِنْدَهُ
سِنِينَ ثُمّ مَاتَ وَخَلّفَهُ ابْنه مَعْدِي كَرِب فِي طَلَبِ الثّأْرِ
فَأَدْخَلَ عَلَى كِسْرَى ، فَقَالَ لَهُ مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ يَطْلُبُ
إرْثَ أَبِيهِ وَهُوَ وَعْدُ الْمَلِكِ الّذِي وَعَدَ بِهِ فَسَأَلَ عَنْهُ
كِسْرَى : أَهُوَ مِنْ بَيْتِ مَمْلَكَةٍ أَمْ لَا ؟ فَأُخْبِرَ أَنّهُ مِنْ
بَيْتِ مُلْكٍ فَوَجّهَ مَعَهُ وَهْرَزَ الْفَارِسَ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ
وَخَمْسِمِائَةِ مِنْ الْفُرْسِ ، وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فِي ثَمَانِمِائَةِ
غَرِقَ مِنْهُمْ مِائَتَانِ وَسَلِمَ سِتّمِائَةٍ وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ قَوْلُ
ابْنِ قُتَيْبَةَ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصّوَابِ إذْ يَبْعُدُ مُقَاوَمَةُ
الْحَبَشَةِ بِسِتّمِائَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ إلَيْهِمْ مِنْ الْعَرَبِ -
كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ - مَا جَمَعَ . ثُمّ إنّ مَعْدِ يَكْرُبَ بْنِ سَيْفٍ
لَمّا قَتَلَ الْحَبَشَةَ وَمَلَكَ هُوَ وَوَهْرَزَ الْيَمَنَ أَقَامَ فِي ذَلِكَ
نَحْوَ أَرْبَعِ سِنِينَ . ثُمّ قَتَلَتْهُ عَبِيدٌ لَهُ كَانَ قَدْ اتّخَذَهُمْ
مِنْ أُولَئِكَ الْحَبَشَةِ ، خَرَجَ بِهِمْ إلَى الصّيْدِ فَزَرَقُوهُ
بِحِرَابِهِمْ ثُمّ هَرَبُوا فَأُتْبِعُوا فَقُتِلُوا . وَتَفَرّقَ أَمْرُ
الْيَمَنِ بَعْدَهُ إلَى مَخَالِف عَلَيْهَا مُقَاوِلٌ كَمُلُوكِ الطّوَائِفِ لَا
يَدِينُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ إلّا مَا كَانَ مِنْ صَنْعَاءَ ، وَكَوْنُ
الْأَبْنَاءِ فِيهَا ، حَتّى جَاءَ الْإِسْلَامُ .
فَصْلٌ
وَاسْتَشْهَدَ ابْنُ هِشَامٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ عَلَى الْأُخْدُودِ بِبَيْتِ ذِي
الرّمّةِ وَهُوَ غَيْلَانُ بْنُ عُقْبَةُ بْنِ بُهَيْش بِضَمّ الْبَاءِ وَالشّينِ
وَسُمّيَ ذَا الرّمّةِ بِبَيْتِ قَالَهُ فِي الْوَتَدِ أَشْعَثَ بَاقِي رُمّةِ
التّقْلِيدِ . وَقِيلَ إنّ مَيّةَ سَمّتْهُ بِذَلِكَ وَكَانَ قَدْ قَالَ لَهَا :
اُصْلُحِي لِي هَذَا الدّلْوَ فَقَالَتْ لَهُ إنّي خَرْقَاءُ فَوَلّى وَهِيَ عَلَى
عُنُقِهِ بِرُمّتِهَا ، فَنَادَتْهُ يَا ذَا الرّمّةِ إنْ كُنْت خَرْقَاءَ فَإِنّ
لِي أُمّةٌ صُنّاعًا ؛ فَلِذَلِكَ سَمّاهَا بِخَرْقَاءَ كَمَا سَمّتْهُ بِذِي
الرّمّةِ . [ ص 101 ] [ ص 102 ]
فَصْلٌ
وَقَوْلُهُ فَخَاضَ ضَحْضَاحَ الْبَحْرِ إلَى غِمْرِهِ . الضّحْضَاحُ مِنْ
الْمَاءِ الّذِي يَظْهَرُ مَعَهُ الْقَعْرُ وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ الضّحّ وَهُوَ
حَرّ الشّمْسِ كَأَنّ الشّمْسَ تُدَاخِلُهُ لِقِلّتِهِ فَقُلِبَتْ فِيهِ إحْدَى
الْحَاءَيْنِ ضَادًا ، كَمَا قَالُوا فِي ثَرّةٍ ثَرْثَارَةٌ وَفِي تَمَلّلَ
تَمَلْمَلٌ وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيّينَ مِنْ النّحْوِيّينَ وَلَسْت أَعْرِفُ
أَصْلًا يَدْفَعُهُ وَلَا دَلِيلًا يَرُدّهُ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا : الرّقْرَاقُ
وَالضّهْلُ وَقَدْ يُسْتَعَارُ فِي غَيْرِ الْمَاءِ كَقَوْلِ النّبِيّ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ
هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النّارِ وَلَوْلَا مَكَانِي لَكَانَ فِي الطّمْطَامِ
وَفِي الْبُخَارِيّ : وَجَدْته فِي غَمْرَةٍ مِنْ النّارِ فَأَخْرَجْته إلَى
الضّحْضَاحِ وَالْغَمْرُ هُوَ الطّمْطَامُ
مَا
قِيلَ مِنْ شِعْرٍ فِي دَوْسٍ
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ - وَهُوَ يَذْكُرُ مَا سَاقَ إلَيْهِمْ
دَوْسٌ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ : لَا كَدَوْسِ وَلَا كَأَعْلَاقِ رَحْلِهِ
فَهِيَ مَثَلٌ بِالْيَمَنِ إلَى هَذَا الْيَوْمِ . وَقَالَ ذُو جَدَنٍ
الْحِمْيَرِيّ :
هَوْنُك لَيْسَ يَرُدّ الدّمْعَ مَا فَاتَا ... لَا تُهْلِكِي أَسَفًا فِي إثْرِ
مَنْ مَاتَا
أَبَعْدَ بَيْنَونَ لَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ ... وَبَعْدَ سَلْحِينَ يَبْنِي
النّاسُ أَبْيَاتًا
[ ص 103 ] بَيْنُونُ وَسَلْحِينُ وَغُمْدَانُ : مِنْ حُصُونِ الْيَمَنِ الّتِي
هَدَمَهَا أَرْيَاطٌ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي النّاسِ [ ص 104 ] وَقَالَ ذُو جَدَنٍ
أَيْضًا :
دَعِينِي - لَا أَبَا لَك - لَنْ تُطِيقِي ... لِحَاك اللّهُ قَدْ أَنْزَفْتِ
رِيقِي
لَدَى عَزْفِ الْقِيَانِ إذْ انْتَشَيْنَا ... وَإِذْ نُسْقَى مِنْ
الْخَمْرِالرّحِيقُ
وَشُرْبُ الْخَمْرِ لَيْسَ عَلَيّ عَارًا ... إذَا لَمْ يَشْكُنِي فِيهَا رَفِيقِي
فَإِنّ الْمَوْتَ لَا يَنْهَاهُ نَاهٍ ... وَلَوْ شَرِبَ الشّفَاءَ مَعَ النّشُوقِ
وَلَا مُتَرَهّبٌ فِي أُسْطُوَانٍ ... يُنَاطِحُ جُدُرَهُ بَيْضِ الْأَنُوقِ
وَغُمْدَانُ الّذِي حُدّثْت عَنْهُ ... بَنَوْهُ مُسَمّكًا فِي رَأْسِ نِيقِ
بِمَنْهَمَةِ وَأَسْفَلَهُ جُرُونُ ... وَحُرّ الْمَوْحَلِ اللّثِقِ الزّلِيقِ
مَصَابِيحُ السّلِيطِ تَلُوحُ فِيهِ ... إذَا يُمْسِي كَتَوْمَاضِ الْبُرُوقِ
وَنَخْلَتُهُ الّتِي غُرِسَتْ إلَيْهِ ... يَكَادُ الْبُسْرُ يَهْصِرُ
بِالْعُذُوقِ
فَأَصْبَحَ بَعْدَ جِدّتِهِ رَمَادًا ... وَغَيّرَ حُسْنَهُ لَهَبُ الْحَرِيقِ
وَأَسْلَمَ ذُو نُوَاسٍ مُسْتَكِينًا ... وَحَذّرَ قَوْمَهُ ضَنْكَ الْمَضِيقِS[ ص 105 ] [ ص 106 ]
جَدَنٍ هَوْنك لَسْنَ يَرُدّ الدّمْعَ مَا فَاتَا
وَهَكَذَا رُوِيَ هَذَا الْقَسِيمُ نَاقِصًا قَالَهُ الْبَرْقِيّ ، وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ : هَوْنُكُمَا لَسْنَ
يَرُدّ . قَالَ وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْعَرَبِ لِلْوَاحِدِ افْعَلَا ، وَهُوَ
كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْكَلَامِ . وَفِيهِ
أَبَعْدَ بَيْنَونَ لَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ ... وَبَعْدَ سَلْحِينَ يَبْنِي
النّاسُ أَبْيَاتًا
[ ص 103 ] فَبَيْنُونُ وَسَلْحِينُ مَدِينَتَانِ خَرّبَهُمَا أَرْيَاطٌ كَمَا ذَكَرَ
. قَالَ الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ " مُعْجَمِ مَا اسْتَعْجَمَ " :
سُمّيَتْ بَيْنُونَ لِأَنّهَا كَانَتْ بَيْنَ عُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ ، فَهِيَ
إذًا عَلَى قَوْلِهِ فَعْلُونَ مِنْ الْبَيْنِ وَالْيَاءُ أَصْلِيّةٌ وَقِيَاسُ
النّحْوِيّينَ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا ، لِأَنّ الْإِعْرَابَ إذَا كَانَ فِي النّونِ
لَزِمَتْ الِاسْمَ الْيَاءُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ كَقِنّسْرِينَ وَفِلَسْطِينَ
أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ فِي آخِرِ الْبَيْتِ وَبَعْدَ سَلْحِينَ ، فَكَذَلِكَ
كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ عَلَى هَذَا : أَبَعْدَ بَيْنِينَ وَعَلَى مَذْهَبِ
مَنْ جَعَلَهُ مِنْ الْعَرَبِ بِالْوَاوِ فِي الرّفْعِ وَبِالْيَاءِ فِي الْخَفْضِ
وَالنّصْبِ . يَقُولُ أَيْضًا : أَبَعْدَ بَيْنِينَ وَلَيْسَ لِلْعَرَبِ فِيهِ
مَذْهَبٌ ثَالِثٌ فَثَبَتَ أَنّهُ لَيْسَ مِنْ الْبَيْنِ إنّمَا هُوَ فَيْعُولٌ وَالْوَاوُ
زَائِدَةٌ مِنْ أَبَنّ بِالْمَكَانِ وَبَنّ إذَا أَقَامَ فِيهِ لَكِنّهُ لَا
يَنْصَرِفُ لِلتّعْرِيفِ وَالتّأْنِيثِ غَيْرَ أَنّ أَبَا سَعِيدٍ السّيْرَافِيّ
ذَكَرَ وَجْهًا ثَالِثًا لِلْعَرَبِ فِي تَسْمِيَةِ الِاسْمِ بِالْجَمْعِ
الْمُسْلِمِ فَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِعْرَابُ فِي النّونِ وَتَثْبُتُ الْوَاوُ
وَقَالَ فِي زَيْتُونٍ إنّهُ فَعْلُونٌ مِنْ الزّيْتِ وَأَجَازَ أَبُو الْفَتْحِ
بْنُ جِنّيّ أَنْ يَكُونَ الزّيْتُونُ فَيْعُولًا مِنْ الزّيْتِ وَلَكِنْ مِنْ
قَوْلِهِمْ زَتَنَ الْمَكَانُ إذَا أَنْبَتَ الزّيْتُونُ فَإِنْ صَحّتْ هَذِهِ
الْحِكَايَةُ عَنْ الْعَرَبِ ، وَإِلّا فَالظّاهِرُ أَنّهُ مِنْ الزّيْتِ وَأَنّهُ
فَعْلُونٌ وَقَدْ كَثُرَ هَذَا فِي كَلَامِ النّاسِ غَيْرَ أَنّهُ لَيْسَ فِي
كَلَامِ الْعَرَبِ الْقُدَمَاءِ فَفِي الْمَعْرُوفِينَ مِنْ أَسْمَاءِ النّاسِ
سُحْنُونٌ وَعَبْدُونٌ قَالَ الشّاعِرُ - وَهُوَ ابْنُ الْمُعْتَزّ
سَقَى الْجَزِيرَةَ ذَاتَ الظّلّ وَالشّجَرِ ... وَدَيْرَ عَبْدُونَ هَطّالٌ مِنْ
الْمَطَرِ
وَدَيْرُ عَبْدُونَ مَعْرُوفٌ بِالشّامِ وَكَذَلِك دَيْرُ فَيْنُونَ غَيْرَ أَنّ
فَيْنُونَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَيْعُولًا ، فَلَا يَكُونُ مِنْ هَذَا
الْبَابِ كَمَا قُلْنَا فِي بَيْنُونَ ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ . وَأَمّا حَلَزُونٌ -
وَهُوَ دُودٌ يَكُونُ بِالْعُشْبِ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الرّمَثِ - فَلَيْسَ
مِنْ بَابِ فِلَسْطِينَ وَقِنّسْرِينَ وَلَكِنّ النّونَ فِيهِ أَصْلِيّةٌ
كَزَرَجُونَ وَلِذَلِكَ أَدْخَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي بَابِ فَعْلُونٍ وَكَذَلِكَ
فَعَلَ صَاحِبُ كِتَابِ الْعَيْنِ أَدْخَلَهُ فِي بَابِ الرّبَاعِيّ فَدَلّ عَلَى
أَنّ النّونَ عِنْدَهُ فِيهِ أَصْلِيّةٌ وَأَنّهُ فَعَلُولٌ بِلَامَيْنِ .
وَقَوْلُ ذِي جَدَنٍ وَبَعْدَ سَلْحِينَ يُقْطَعُ عَلَى أَنّ بَيْنُونَ :
فَيْعُولٌ عَلَى كُلّ حَالٍ لِأَنّ الّذِي ذَكَرَهُ السّيْرَافِيّ مِنْ
الْمَذْهَبِ الثّالِثِ إنْ صَحّ فَإِنّمَا هِيَ لُغَةٌ أُخْرَى غَيْرُ لُغَةِ ذِي
جَدَنٍ الْحِمْيَرِيّ ، إذْ لَوْ كَانَ مِنْ لُغَتِهِ لَقَالَ سَلْحُونٌ
وَأَعْرَبَ النّونَ مَعَ بَقَاءِ الْوَاوِ فَلَمّا لَمْ [ ص 104 ] بَيْنُونَ :
زِيَادَةُ الْيَاءِ وَأَنّ النّونَيْنِ أَصْلِيّتَانِ كَمَا تَقَدّمَ . وَقَوْلُهُ
دَعِينِي - لَا أَبَا لَك - لَنْ تُطِيقِي
أَيْ لَنْ تُطِيقِي صَرْفِي بِالْعَذْلِ عَنْ شَأْنِي ، وَحَذَفَ النّونَ مِنْ
تُطِيقِينَ لِلنّصْبِ أَوْ لِلْجَزْمِ عَلَى لُغَةِ مَنْ جَزَمَ بِلَنْ إنْ كَانَ
ذَلِكَ مِنْ لُغَتِهِ وَالْيَاءُ الّتِي بَعْدَ الْقَافِ اسْمٌ مُضْمَرٌ فِي
قَوْلِ سِيبَوَيْهِ ، وَحَرْفُ عَلَامَةِ تَأْنِيثٍ فِي قَوْلِ الْأَخْفَشِ
وَلِلْحُجّةِ لَهُمَا ، وَعَلَيْهِمَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا . وَقَوْلُهُ قَدْ
أَنْزَفْتِ رِيقِي . أَيْ أَكْثَرْت عَلَيّ مِنْ الْعَذْلِ حَتّى أَيْبَسْتِ
رِيقِي فِي فَمِي ، وَقِلّةُ الرّيقِ مِنْ الْحَصَرِ ، وَكَثْرَتُهُ مِنْ قُوّةِ النّفْسِ
وَثَبَاتِ الْجَأْشِ قَالَ الرّاجِزُ
إنّي إذَا زَبّبَتْ الْأَشْدَاقُ ... وَكَثُرَ اللّجَاجُ وَاللّقْلَاقُ
ثَبْتُ الْجَنَانِ مِرْجَمٌ وَدّاقُ
[ ص 105 ] كَثْرَةِ الْكَلَامِ وَقَوْلُهُ وَدّاقُ أَيْ يَسِيلُ كَالْوَدْقِ .
يُرِيدُ سَيَلَانَ الرّيقِ وَكَثْرَةَ الْقَوْلِ كَمَا قَالَ أَبُو الْمُخَشّ فِي
ابْنِهِ كَانَ أَشْدَقَ خُرْطُمَانِيّا إذَا تَكَلّمَ سَالَ لُعَابُهُ .
وَقَوْلُهُ وَلَوْ شَرِبَ الشّفَاءَ مَعَ النّشُوقِ
أَيْ لَوْ شَرِبَ كُلّ دَوَاءٍ يُسْتَشْفَى بِهِ وَتَنَشّقَ كُلّ نَشُوقٍ يُجْعَلُ
فِي الْأَنْفِ لِلتّدَاوِي بِهِ مَا نَهَى ذَلِكَ الْمَوْتُ عَنْهُ . وَقَوْلُهُ
وَلَا مُتَرَهّبٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفَعَهُ عَطْفًا عَلَى نَاهٍ أَيْ لَا
يَرُدّ الْمَوْتَ نَاهٍ وَلَا مُتَرَهّبٌ . أَيْ دُعَاءُ مُتَرَهّبٍ يَدْعُو لَك ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَرَهّبٌ رَفْعًا عَلَى مَعْنَى : وَلَا يَنْجُو مِنْهُ
مُتَرَهّبٌ . كَمَا قَالَ تَاللّهِ يَبْقَى عَلَى الْأَيّامِ ذُو حِيَدٍ .
الْبَيْتُ . وَالْأُسْطُوَانُ أُفْعُوَالٌ . النّونُ أَصْلِيّةٌ لِأَنّ جَمْعَهُ
أَسَاطِينُ وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ أَفَاعِينُ . وَقَوْلُهُ يُنَاطِحُ جُدْرَهُ
بَيْضُ الْأَنُوقِ
جُدْرُهُ جَمْعُ جِدَارٍ وَهُوَ مُخَفّفٌ مِنْ جُدُورٍ وَفِي التّنْزِيلِ أَوْ
مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ تُقَيّدُ بِضَمّ الْجِيمِ وَالْجَدْرُ أَيْضًا بِفَتْحِ
الْجِيمِ الْحَائِطُ ، وَلَكِنّ الرّوَايَةَ فِي الْكِتَابِ هَكَذَا كَمَا
ذَكَرْنَا . وَالْأَنُوقُ الْأُنْثَى مِنْ الرّخَمِ يُقَالُ فِي الْمَثَلِ أَعَزّ
مِنْ بَيْضِ الْأَنُوقِ إذَا أَرَادَ مَا لَا يُوجَدُ لِأَنّهَا تَبْيَضّ حَيْثُ
لَا يُدْرَكُ بِيضُهَا مِنْ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ . هَذَا قَوْلُ الْمُبَرّدِ فِي
الْكَامِلِ وَلَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ فَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ الْأَنُوقُ الذّكَرُ
مِنْ الرّخَمِ وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى ، لِأَنّ الذّكَرَ لَا يَبْيَضّ ،
فَمَنْ أَرَادَ بَيْضَ الْأَنُوقِ فَقَدْ أَرَادَ الْمُحَالَ كَمَنْ أَرَادَ
الْأَبْلَقَ الْعَقُوقَ وَقَدْ قَالَ الْقَالِي فِي الْأَمَالِي : الْأَنُوقُ
يَقَعُ عَلَى الذّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ الرّخَمِ . وَقَوْلُهُ وَغُمْدَانُ
الّذِي حُدّثْت عَنْهُ
هُوَ الْحِصْنُ الّذِي كَانَ لِهَوْذَةَ بْنِ عَلِيّ مَلِكِ الْيَمَامَةَ ،
وَسَيَأْتِي طَرَفٌ مِنْ ذِكْرِهِ . وَمُسَمّكًا : مُرَفّعًا مِنْ قَوْلِهِ سَمَكَ
السّمَاءَ وَالنّيقُ أَعْلَى الْجَبَلِ . وَقَوْلُهُ بِمَنْهَمَةِ هُوَ مَوْضِعُ
الرّهْبَانِ . وَالرّاهِبُ يُقَالُ لَهُ النّهَامِيّ وَيُقَالُ لِلنّجّارِ أَيْضًا
: نِهَامِيّ ، فَتَكُونُ الْمَنْهَمَةُ أَيْضًا عَلَى هَذَا مَوْضِعَ نَجْرٍ . [ ص
106 ] وَأَسْفَلَهُ جُرُونٌ . جَمْعُ جُرْنٍ وَهُوَ النّقِيرُ مِنْ جَرَنَ
الثّوْبُ إذَا لَانَ [ وَانْسَحَقَ ] . وَرِوَايَةُ أَبِي الْوَلِيدِ الْوَقْشِيّ
جُرُوبٌ بِالْبَاءِ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الطّبَرِيّ بِالْبَاءِ أَيْضًا . وَفِي
حَاشِيَةِ كِتَابِ الْوَقْشِيّ الْجُرُوبُ حِجَارَةٌ سُودٌ . كَذَا نَقَلَ أَبُو
بَحْرٍ عَنْهُ فِي نُسْخَةِ كِتَابِهِ فَإِنْ صَحّ هَذَا فِي اللّغَةِ وَإِلّا
فَالْجُرُوبُ جَمْعُ جَرِيبٍ عَلَى حَذْفِ الْيَاءِ مِنْ جَرِيبٍ فَقَدْ يُجْمَعُ
الِاسْمُ عَلَى حَذْفِ الزّوَائِدِ كَمَا جَمَعُوا صَاحِبًا عَلَى أَصْحَابٍ .
وَقَالُوا : طَوِيّ وَأَطْوَاءٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَالْجَرِيبُ وَالْجِرْبَةُ
الْمَزْرَعَةُ . وَقَوْلُهُ وَحُرّ الْمَوْحَلِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَهُوَ
الْقِيَاسُ لِأَنّهُ مِنْ وَحِلَ يَوْحَلُ . وَلَوْ كَانَ الْفِعْلُ مِنْهُ وَحَلَ
عَلَى مِثْلِ وَعَدَ لَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْمَوْحِلِ الْكَسْرُ لَا غَيْرُ
وَقَدْ ذَكَرَ الْقُتَبِيّ فِيهِ اللّغَتَيْنِ الْكَسْرَ وَالْفَتْحَ وَالْأَصْلُ
مَا قَدّمْنَاهُ . وَقَوْلُهُ وَحُرّ بِضَمّ الْحَاءِ وَهُوَ خَالِصُ كُلّ شَيْءٍ
وَفِي كِتَابِ أَبِي بَحْرٍ عَنْ الْوَقْشِيّ وَحَرّ الْمَوْحَلِ بِفَتْحِ
الْحَاءِ وَالْجِيمُ مِنْ الْمَوْجَلِ مَفْتُوحَةٌ وَفَسّرَ الْمَوْجَلَ فَقَالَ
حِجَارَةٌ مُلْسٌ لَيّنَةٌ وَاَلّذِي أَذْهَبُ إلَيْهِ أَنّ الْمَوْجَلَ هَهُنَا
وَاحِدُ الْمَوَاجِلِ وَهِيَ مَنَاهِلُ الْمَاءِ وَفُتِحَتْ الْجِيمُ لِأَنّ
الْأَصْلَ مَأْجَلٌ كَذَلِكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هِيَ الْمَآجِلُ وَوَاحِدُهَا
: مَأْجَلٌ . وَفِي آثَارِ الْمُدَوّنَةِ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللّهُ - عَنْ
مَوَاجِلِ بُرْقَةَ يَعْنِي : الْمَنَاهِلَ فَلَوْ كَانَتْ الْوَاوُ فِي
الْكَلِمَةِ أَصْلًا لَقِيلَ فِي الْوَاحِدِ مَوْجِلٌ مِثْلُ مَوْضِعٍ إلّا أَنْ
يُرَادَ بِهِ مَعْنَى الْوَجَلِ فَيَكُونُ الْمَاضِي مِنْ الْفِعْلِ مَكْسُورَ
الْجِيمِ وَالْمُسْتَقْبَلُ مَفْتُوحًا ، فَيُفْتَحُ الْمَوْجَلُ حِينَئِذٍ وَلَا
مَعْنَى لَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَوْلُهُ اللّثِقُ الزّلِيقُ . اللّثِقُ
مِنْ اللّثَقِ وَهُوَ أَنْ يُخْلَطَ الْمَاءُ بِالتّرَابِ فَيَكْثُرُ مِنْهُ
الزّلَقُ قَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ غَابَ الشّفَقُ وَطَالَ الْأَرَقُ وَكَثُرَ
اللّثَقُ فَلِيَنْطِقْ مَنْ نَطَقَ . وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ أَبِي بَحْرٍ
اللّبِقُ بِالْبَاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِوَاحِدَةِ وَذَكَرَ أَنّهُ هَكَذَا وُجِدَ
فِي أَصْلِ ابْنِ هِشَامٍ ، وَلَا مَعْنَى لِلّبِقِ هَهُنَا ، وَأَظُنّهُ
تَصْحِيفًا مِنْ الرّاوِي - وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ فِي الشّعْرِ يَكَادُ
الْبُسْرُ يَهْصِرُ بِالْعُذُوقِ . أَيْ تَمِيلُ بِهَا ، وَهُوَ جَمْعُ عِذْقٍ
بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهِيَ الْكِبَاسَةُ أَوْ جَمْعُ عَذْقٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ
وَهِيَ النّخْلَةُ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي وَصْفِهَا بِالْإِيقَارِ أَنْ يَكُونَ
جَمْعُ عَذْقٍ بِالْفَتْحِ . وَقَوْلُهُ وَأَسْلَمَ ذُو نُوَاسٍ مُسْتَكِينًا .
أَيْ خَاضِعًا ذَلِيلًا ، وَفِي التّنْزِيلِ { فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبّهِمْ } [
الْمُؤْمِنُونَ 76 ] ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا :
أَنْ يَكُونَ مِنْ السّكُونِ ، وَيَكُونُ الْأَصْلُ اسْتَكَنّ عَلَى [ ص 107 ]
فَصَارَتْ أَلِفًا كَمَا قَالَ الشّاعِرُ
وَإِنّنِي حَيْثُمَا يَثْنِي الْهَوَى بَصَرِي ... مِنْ حَيْثُ مَا سَلَكُوا
أَدْنَوْ فَأَنْظُورُ
وَقَالَ آخَرُ يَا لَيْتَهَا جَرَتْ عَلَى الْكَلْكَالِ . أَرَادَ الْكَلْكَلَ .
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ اسْتَفْعَلَ مِنْ كَانَ يَكُونُ مِثْلُ
اسْتَقَامَ مِنْ قَامَ يَقُومُ . قَالَ الْمُؤَلّفُ رَحِمَهُ اللّهُ هَذَا
الْقَوْلُ الْأَخِيرُ جَيّدٌ فِي التّصْرِيفِ مُسْتَقِيمٌ فِي الْقِيَاسِ لَكِنّهُ
بَعِيدٌ فِي الْمَعْنَى عَنْ بَابِ الْخُضُوعِ وَالذّلّةِ وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ
قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى ، لَكِنّهُ بَعِيدٌ عَنْ قِيَاسِ التّصْرِيفِ إذْ لَيْسَ
فِي الْكَلَامِ فِعْلٌ عَلَى وَزْنِ افْتِعَالٍ بِأَلِفِ وَلَكِنْ وَجَدْت
لِغَيْرِ ابْنِ الْأَنْبَارِيّ قَوْلًا ثَالِثًا : إنّهُ اسْتَفْعَلَ مِنْ الْكَيْنِ
وَكَيْنُ الْإِنْسَانِ عَجُزُهُ وَمُؤَخّرُهُ وَكَأَنّ الْمُسْتَكِينَ قَدْ حَنَا
ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا يُقَالُ صَلّى ، أَيْ حَنَا صَلَاهُ وَالصّلَا : أَسْفَلُ
الظّهْرِ وَهَذَا الْقَوْلُ جَيّدٌ فِي التّصْرِيفِ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنْ
الْخُضُوعِ .
[
ص 107 ] وَقَالَ ابْنُ الذّئْبَةِ الثّقَفِيّ فِي ذَلِكَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
الذّئْبَةُ أُمّهُ وَاسْمُهُ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ يالَيْل بْنِ سَالِمِ بْنِ
مَالِكِ بْنِ حُطَيْطِ بْنِ جُشَمِ بْنِ قَسِيّ [ ص 108 ]
لَعَمْرُك مَا لِلْفَتَى مِنْ مَفَرّ ... مَعَ الْمَوْتِ يَلْحَقُهُ وَالْكِبَرُ
لَعَمْرُك مَا لِلْفَتَى صُحُرَةٌ ... لَعَمْرُك مَا إنْ لَهُ مِنْ وَزَرْ
أَبَعْدَ قَبَائِلَ مِنْ حِمْيَرَ ... أُبِيدُوا صَبَاحًا بِذَاتِ الْعَبَرْ
بِأَلْفِ أُلُوفٍ وَحَرّابَةٍ ... كَمِثْلِ السّمَاءِ قُبَيْلَ الْمَطَرْ
يُصِمّ صِيَاحَهُمْ الْمُقْرَبَاتِ ... وَيَنْفُونَ مَنْ قَاتَلُوا بِالذّفَرْ
سَعَالِيَ مِثْلُ عَدِيدِ التر ... اب تَيْبَسُ مِنْهُمْ رِطَابُ الشّجَرِSوَذَكَرَ
قَوْلَ ابْنِ الذّئْبَةِ وَاسْمُهُ وَهُوَ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ يالَيْل ،
وَقَالَ فِيهِ لَعَمْرُك مَا لِلْفَتَى صُحُرَةٌ وَهُوَ الْمُتّسَعُ أُخِذَ مِنْ
لَفْظِ الصّحْرَاءِ وَالْوِزْرُ الْمَلْجَأُ وَمِنْهُ اُشْتُقّ الْوَزِيرُ لِأَنّ
الْمَلِكَ يَلْجَأُ إلَى رَأْيِهِ وَقَدْ قِيلَ مِنْ الْوِزْرِ لِأَنّهُ يَحْمِلُ
عَنْ الْمَلِكِ أَثْقَالًا ، وَالْوِزْرُ الثّقْلُ وَلَا يَصِحّ قَوْلُ مَنْ قَالَ
هُوَ مِنْ أَزَرَهُ إذَا أَعَانَهُ لِأَنّ فَاءَ الْفِعْلِ فِي الْوَزِيرِ وَاوٌ
وَفِي الْأُزُرِ الّذِي هُوَ الْعَوْنُ هَمْزَةٌ . وَذَاتُ الْعَبَرِ أَيْ ذَاتُ
الْحُزْنِ يُقَالُ عَبَرَ الرّجُلُ إذَا حَزِنَ وَيُقَالُ لِأُمّهِ الْعُبْرُ ، كَمَا
يُقَالُ لِأُمّهِ الثّكْلُ . وَالْمُقَرّبَاتُ الْخَيْلُ الْعِتَاقُ الّتِي لَا
تَسْرَحُ فِي الْمَرْعَى ، وَلَكِنْ تُحْبَسُ قُرْبَ الْبُيُوتِ مُعَدّةً
لِلْعَدُوّ . وَقَوْلُهُ وَيَنْفُونَ مَنْ قَاتَلُوا بِالذّفَرِ . أَيْ
بِرِيحِهِمْ وَأَنْفَاسِهِمْ يَنْفُونَ مَنْ قَاتَلُوا ، وَهَذَا إفْرَاطٌ فِي
وَصْفِهِمْ بِالْكَثْرَةِ قَالَ الْبَرْقِيّ : أَرَادَ يَنْفُونَ مَنْ قَاتَلُوا
بِذَفَرِ آبَاطِهِمْ أَيْ [ ص 108 ] قَالَ الْمُؤَلّفُ - رَحِمَهُ اللّهُ - فَإِنْ
كَانَ أَرَادَ هَذَا فَإِنّمَا قَصَدَهُ لِأَنّ السّودَانَ أَنْتَنُ النّاسِ
آبَاطًا وَأَعْرَاقًا . وَقَوْلُهُ سَعَالِيَ شَبّهَهُمْ بِالسّعَالِيِ مِنْ
الْجِنّ جَمْعُ سِعْلَاةٍ [ أَوْ سِعْلَاءٍ ] . وَيُقَالُ بَلْ هِيَ السّاحِرَةُ
مِنْ الْجِنّ ، وَقَوْلُهُ كَمِثْلِ السّمَاءِ أَيْ كَمِثْلِ السّحَابِ
لِاسْوِدَادِ السّحَابِ وَظُلْمَتِهِ قُبَيْلَ الْمَطَرِ .
وَقَالَ
عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ الزّبَيْدِيّ فِي شَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
قَيْسِ بْنِ مَكْشُوحٍ الْمُرَادِيّ فَبَلَغَهُ أَنّهُ يَتَوَعّدُهُ فَقَالَ
يَذْكُرُ حِمْيَرَ وَعِزّهَا ، وَمَا زَالَ مِنْ مُلْكِهَا عَنْهَا :
أَتُوعِدُنِي كَأَنّك ذُو رُعَيْنٍ ... بِأَفْضَلِ عِيشَةٍ أَوْ ذُو نُوَاسٍ
وَكَائِنٌ كَانَ قَبْلَك مِنْ نَعِيمٍ ... وَمُلْكٍ ثَابِتٍ فِي النّاسِ رَاسِي
قَدِيمٍ عَهْدُهُ مِنْ عَهْدِ عَادٍ ... عَظِيمٍ قَاهِرِ الْجَبَرُوتِ قَاسِي
فَأَمْسَى أَهْلُهُ بَادُوا ، وَأَمْسَى ... يَحُولُ مِنْ أُنَاسٍ فِي أُنَاسٍ
نَسَبُ زُبَيْدٍ
[ ص 109 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : زُبَيْدُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ
مُنَبّهِ بْنِ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ ، وَيُقَالُ
زُبَيْدُ بْنُ مُنَبّهِ بْنِ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ وَيُقَالُ زُبَيْدُ
بْنُ صَعْبٍ . وَمُرَادٌ يُحَابِرُ بْنُ مَذْحِجَ .
عَوْدٌ إلَى شِعْرِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - إلَى سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيّ
، وَبَاهِلَةُ بْنُ يَعْصُرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ . وَهُوَ
إرْمِينِيّةُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُفَضّلَ أَصْحَابَ الْخَيْلِ الْعِرَابِ عَلَى
أَصْحَابِ الْخَيْلِ الْمَقَارِفِ فِي الْعَطَاءِ فَعَرَضَ الْخَيْلَ فَمَرّ بِهِ
فَرَسُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ فَرَسُك هَذَا
مُقْرِفٌ فَغَضِبَ عَمْرٌو ، وَقَالَ هَجِينٌ عَرَفَ هَجِينًا مِثْلَهُ فَوَثَبَ
إلَيْهِ قَيْسٌ فَتَوَعّدَهُ فَقَالَ عَمْرٌو هَذِهِ الْأَبْيَاتِ . [ ص 110 ]
عَوْدٌ إلَى شِقّ وَسَطِيحٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَهَذَا الّذِي عَنَى سَطِيحٌ الْكَاهِنُ بِقَوْلِهِ
لَيَهْبِطَن أَرْضَكُمْ الْحَبَشُ ، فَلَيَمْلِكُنّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى
جُرَشٍ وَاَلّذِي عَنَى شِقّ الْكَاهِنِ بِقَوْلِهِ " لَيَنْزِلَن أَرْضَكُمْ
السّودَانُ ، فَلَيَغْلِبُنّ عَلَى كُلّ طَفْلَةٍ الْبَنَانَ وَلْيَمْلِكُنّ مَا
بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى نَجْرَانَ " .Sفَصْلٌ
وَقَوْلُهُ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ ، وَمَعْدِي كَرِبَ بِالْحِمْيَرِيّةِ
وَجْهُ الْفَلّاحِ . الْمَعْدِي هُوَ الْوَجْهُ بِلُغَتِهِمْ وَالْكَرِبُ هُوَ
الْفَلّاحُ وَقَدْ تَقَدّمَ أَبُو كَرِبَ فَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا : أَبُو
الْفَلّاحِ . قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ . وَكَذَلِكَ
تَقَدّمَ كَلْكِي كَرِبَ وَلَا أَدْرِي مَا كَلْكِي . وَقَوْلُهُ قَيْسُ بْنُ
مَكْشُوحٍ الْمُرَادِيّ ، إنّمَا هُوَ حَلِيفٌ لِمُرَادِ وَاسْمُ مُرَادٍ
يُحَابِرُ بْنُ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ ، وَنَسَبُهُ فِي بَجِيلَةَ ،
ثُمّ فِي بَنِي أَحْمَسَ وَأَبُوهُ مَكْشُوحٌ اسْمُهُ هُبَيْرَةُ بْنُ هِلَالٍ
وَيُقَالُ عَبْدُ يَغُوثَ بْنُ هُبَيْرَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
عَامِرِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ أَحْمَسَ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ أَنْمَارٍ ،
وَأَنْمَارٌ : هُوَ وَالِدُ بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ ، وَسُمّيَ أَبُوهُ مَكْشُوحًا ،
لِأَنّهُ ضُرِبَ بِسَيْفِ عَلَى كَشْحِهِ وَيُكَنّى قَيْسَ : أَبَا شَدّادٍ وَهُوَ
قَاتِلُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيّ الْكَذّابِ هُوَ وَذَادَوَيْهِ وَفَيْرُوزُ
وَكَانَ قَيْسٌ بَطَلًا بَئِيسًا قُتِلَ مَعَ عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ -
يَوْمَ صَفّينَ وَلَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَوَاقِفُ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا
عَنْ بُهْمَةٍ مِنْ الْبُهْمِ وَكَذَلِكَ لَهُ فِي حُرُوبِ الشّامِ مَعَ الرّومِ
وَقَائِعُ وَمَوَاقِفُ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ خَالِدِ
بْنِ الْوَلِيدِ . [ ص 109 ] وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ - رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ - يُكَنّى : أَبَا ثَوْرٍ تُضْرَبُ الْأَمْثَالُ بِفُرُوسِيّتِهِ
وَبَسَالَتِهِ وَفِيهِ يَقُولُ الشّاعِرُ حِينَ مَاتَ
فَقُلْ لِزُبَيْدِ بَلْ لِمَذْحِجَ كُلّهَا ... رُزِيتُمْ أَبَا ثَوْرٍ
قَرِيعَكُمْ عَمْرًا
وَصَمْصَامَتُهُ الْمَشْهُورَةُ كَانَتْ مِنْ حَدِيدَةٍ وُجِدَتْ عِنْدَ
الْكَعْبَةِ مَدْفُونَةً فِي الْجَاهِلِيّةِ فَصُنِعَ مِنْهَا ذُو الْفَقَارِ
وَالصّمْصَامَةُ ثُمّ تَصَيّرَتْ إلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي .
يُقَالُ إنّ عَمْرًا وَهَبَهَا لَهُ لِيَدِ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنّ
رَيْحَانَةَ أُخْت عَمْرٍو الّتِي يَقُولُ فِيهَا عَمْرٌو :
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدّاعِي السّمِيعُ ... يُؤَرّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعٌ
كَانَ أَصَابَهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ فِي سَبْيٍ سَبَاهُ فَمَنّ عَلَيْهَا ،
وَخَلّى سَبِيلَهَا ، فَشَكَرَ ذَلِكَ لَهُ عَمْرٌو أَخُوهَا ، وَفِي آخِرِ
الْكِتَابِ مِنْ خَبَرِ قَيْسِ بْنِ مَكْشُوحٍ وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ
أَكْثَرُ مِمّا وَقَعَ هَهُنَا ، وَالشّعْرُ السّينِيّ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ
إسْحَاقَ وَأَوّلُهُ أَتُوعِدُنِي كَأَنّك ذُو رُعَيْنٍ . ذَكَرَ الْمَسْعُودِيّ
أَنّ عَمْرًا قَالَهُ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - حِينَ
أَرَادَ ضَرْبَهُ بِالدّرّةِ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ وَفِي الشّعْرِ زِيَادَةٌ لَمْ
تَقَعْ فِي السّيرَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ
فَلَا يَغْرُرْك مُلْكُك ، كُلّ مُلْكٍ ... يَصِيرُ لِذِلّةِ بَعْدَ الشّمَاسِ
[ ص 110 ] وَذَكَرَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ حِينَ هَجَنَ فَرَسَ عَمْرٍو ،
وَنَسَبَهُ إلَى بَاهِلَةَ بْنِ أَعْصُرَ وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ
بَاهِلِيّ ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي قُتَيْبَةَ بْنِ مَعْنٍ وَبَاهِلَةُ : أُمّهُمْ
وَهِيَ بِنْتُ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ ، وَأَبُوهُمْ
يَعْصُرُ وَهُوَ مُنَبّهُ بْنُ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ وَسُمّيَ
يَعْصُرَ لِقَوْلِهِ
أَعُمَيْرٌ إنّ أَبَاك غَيّرَ لَوْنَهُ ... مَرّ اللّيَالِي وَاخْتِلَافُ
الْأَعْصُرِ
فَيُقَالُ لَهُ أَعْصُرُ وَيَعْصُرُ وَكَانَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ قَاضِيًا
لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - عَلَى الْكُوفَةِ ، وَيُقَالُ
سَلْمَانُ الْخَيْلِ لِأَنّهُ كَانَ يَتَوَلّى النّظَرَ فِيهَا ، قَالَ أَبُو
وَائِلٍ : اخْتَلَفْت إلَى سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ،
وَهُوَ قَاضٍ فَمَا وَجَدْت عِنْدَهُ أَحَدًا يَخْتَصِمُ إلَيْهِ وَاسْتُشْهِدَ
سَلْمَانُ بِأَرْمِينِيّةَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ .
غَلَبُ
أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمِ عَلَى أَمْرِ الْيَمَنِ وَقَتْلُ أَرْيَاطٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ أَرْيَاطٌ بِأَرْضِ الْيَمَنِ سِنِينَ فِي
سُلْطَانِهِ ذَلِكَ ثُمّ نَازَعَهُ فِي أَمْرِ الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ أَبْرَهَةُ
الْحَبَشِيّ ، حَتّى تَفَرّقَتْ الْحَبَشَةُ عَلَيْهِمَا ، فَانْحَازَ إلَى كُلّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ثُمّ سَارَ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ
فَلَمّا تَقَارَبَ النّاسُ أَرْسَلَ أَبْرَهَةُ إلَى أَرْيَاطٍ : إنّك لَا
تَصْنَعُ بِأَنْ تَلْقَى الْحَبَشَةُ بَعْضُهَا بِبَعْضِ حَتّى تُفْنِيهَا شَيْئًا
، فَابْرُزْ إلَيّ وَأَبْرُزُ إلَيْك ، فَأَيّنَا أَصَابَ صَاحِبَهُ انْصَرَفَ
إلَيْهِ جُنْدُهُ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ أَرْيَاطٌ : أَنْصَفْت فَخَرَجَ إلَيْهِ أَبْرَهَةُ
- وَكَانَ رَجُلًا قَصِيرًا لَحِيمًا ، وَكَانَ ذَا دِينٍ فِي النّصْرَانِيّةِ -
وَخَرَجَ إلَيْهِ أَرْيَاطٌ وَكَانَ رَجُلًا جَمِيلًا عَظِيمًا طَوِيلًا ، وَفِي
يَدِهِ حَرْبَةٌ لَهُ وَخَلْفَ أَبْرَهَةَ غُلَامٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ عَتْوَدَةُ
يَمْنَعُ ظَهْرَهُ فَرَفَعَ أَرْيَاطٌ الْحَرْبَةَ فَضَرَبَ أَبْرَهَةَ يُرِيدُ
يَافُوخَهُ فَوَقَعَتْ الْحَرْبَةُ عَلَى جَبْهَةِ أَبْرَهَةَ فَشَرَمَتْ [ ص 111
] وَأَنْفَهُ وَعَيْنَهُ وَشَفَتَهُ فَبِذَلِكَ سُمّيَ أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمَ ،
وَحَمَلَ عَتْوَدَةُ عَلَى أَرْيَاطٍ مِنْ خَلْفِ أَبْرَهَةَ فَقَتَلَهُ
وَانْصَرَفَ جُنْدُ أَرْيَاطٍ إلَى أَبْرَهَةَ فَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَبَشَةُ
بِالْيَمَنِ وَوَدَى أَبْرَهَةُ أَرِيَاطًا .
مَوْقِفُ النّجَاشِيّ
مِنْ أَبْرَهَةَ فَلَمّا بَلَغَ النّجَاشِيّ غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَ
عَدَا عَلَى أَمِيرِي ، فَقَتَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِي ، ثُمّ حَلَفَ لَا يَدَعُ
أَبْرَهَةَ حَتّى يَطَأَ بِلَادَهُ وَيَجُزّ نَاصِيَتَهُ فَحَلَقَ أَبْرَهَةُ
رَأْسَهُ وَمَلَأَ جِرَابًا مِنْ تُرَابِ الْيَمَنِ ، ثُمّ بَعَثَ إلَى
النّجَاشِيّ ، ثُمّ كَتَبَ إلَيْهِ " أَيّهَا الْمَلِكُ إنّمَا كَانَ
أَرْيَاطٌ عَبْدَك ، وَأَنَا عَبْدُك ، فَاخْتَلَفْنَا فِي أَمْرِك ، وَكُلّ
طَاعَتُهُ لَك ، إلّا أَنّي كُنْت أَقْوَى عَلَى أَمْرِ الْحَبَشَةِ ، وَأَضْبَطَ
لَهَا ، وَأَسْوَسَ مِنْهُ وَقَدْ حَلَقْت رَأْسِي كُلّهُ حِينَ بَلَغَنِي قَسَمُ
الْمَلِكِ وَبَعَثْت إلَيْهِ بِجِرَابِ تُرَابٍ مِنْ أَرْضِي ؛ لِيَضَعَهُ تَحْتَ
قَدَمَيْهِ فَيَبَرّ قَسَمَهُ فِيّ " . فَلَمّا انْتَهَى ذَلِكَ إلَى
النّجَاشِيّ رَضِيَ عَنْهُ وَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ اُثْبُتْ بِأَرْضِ الْيَمَنِ
حَتّى يَأْتِيَك أَمْرِي ، فَأَقَامَ أَبْرَهَةُ بِالْيَمَنِ .Sوَذَكَرَ
خَبَرَ عَتْوَدَةَ غُلَامَ أَبْرَهَةَ وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ حَدِيثِهِ فِيمَا
مَضَى ، وَمَا زَادَ فِيهِ الطّبَرِيّ وَغَيْرُهُ وَأَنّ الْعَتْوَدَةَ الشّدّةُ
فِي الْحَرْبِ . وَذَكَرَ أَنّ أَرْيَاطًا عَلَا بِالْحَرْبَةِ أَبْرَهَةَ فأخطأ
يَافُوخَهُ . وَالْيَافُوخُ وَسَطُ الرّأْسِ . وَيُقَالُ لَهُ [ ص 111 ] سُمّيَ
يَأْفُوخًا بِالْهَمْزِ عَلَى وَزْنِ يَفْعُولٍ وَجَمْعُهُ يَآفِيخٌ قَالَ
الْعَجّاجُ ضَرِبٌ إذَا صَابَ الْيَآفِيخَ حَفَرَ
وَقَوْلُهُ شَرَمَ أَنْفَهُ وَشَفَتَهُ أَيْ شَقّهُمَا .
أَمْرُ
الْفِيلِ وَقِصّةُ النّسْأَةِ
كَنِيسَةُ أَبْرَهَةَ
ثُمّ إنّ أَبْرَهَةَ بَنَى الْقُلّيْسَ بِصَنْعَاءَ فَبَنَى كَنِيسَةً لَمْ يُرَ
مِثْلُهَا فِي زَمَانِهَا بِشَيْءِ مِنْ [ ص 112 ] كَتَبَ إلَى النّجَاشِيّ : إنّي
قَدْ بَنَيْت لَك أَيّهَا الْمَلِكُ كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ مِثْلُهَا لِمَلِكِ
كَانَ قَبْلَك ، وَلَسْت بِمُنْتَهٍ حَتّى أَصْرِفَ إلَيْهَا حَجّ الْعَرَبِ ،
فَلَمّا تَحَدّثَتْ الْعَرَبُ بِكِتَابِ أَبْرَهَةَ ذَلِكَ إلَى النّجَاشِيّ ،
غَضِبَ رَجُلٌ مِنْ النّسْأَةِ ، أَحَدُ بَنِي فُقَيْمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرِ
بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ
بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ .Sخَبَرُ
الْقُلّيْسِ مَعَ الْفِيلِ وَذِكْرُ بُنْيَانِ أَبْرَهَةَ لِلْقُلّيْسِ
وَهِيَ الْكَنِيسَةُ الّتِي أَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ إلَيْهَا حَجّ الْعَرَبِ ،
وَسُمّيَتْ هَذِهِ الْكَنِيسَةُ الْقُلّيْسَ لِارْتِفَاعِ بِنَائِهَا وَعُلْوِهَا
، وَمِنْهُ الْقَلَانِسُ لِأَنّهَا فِي أَعْلَى الرّءُوسِ وَيُقَالُ تَقَلْنَسَ
الرّجُلُ وَتَقَلّسَ [ ص 112 ] وَكَانَ أَبْرَهَةُ قَدْ اسْتَذَلّ أَهْلَ
الْيَمَنِ فِي بُنْيَانِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ وَجَشّمَهُمْ فِيهَا أَنْوَاعًا مِنْ
السّخْرِ وَكَانَ يَنْقُلُ إلَيْهَا الْعَدَدَ مِنْ الرّخَامِ الْمُجَزّعِ
وَالْحِجَارَةُ الْمَنْقُوشَةُ بِالذّهَبِ مِنْ قَصْرِ بِلْقِيسَ صَاحِبَةِ
سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَكَانَ فِي مَوْضِعِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ
عَلَى فَرَاسِخَ وَكَانَ فِيهِ بَقَايَا مِنْ آثَارِ مُلْكِهَا ، فَاسْتَعَانَ
بِذَلِكَ عَلَى مَا أَرَادَهُ فِي هَذِهِ الْكَنِيسَةِ مِنْ بَهْجَتِهَا
وَبِهَائِهَا ، وَنَصَبَ فِيهَا صُلْبَانًا مِنْ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَمَنَابِرَ
مِنْ الْعَاجِ وَالْآبُنُسِ وَكَانَ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ فِي بِنَائِهَا حَتّى
يُشْرِفَ مِنْهَا عَلَى عَدَنَ ، وَكَانَ حُكْمُهُ فِي الْعَامِلِ إذَا طَلَعَتْ
عَلَيْهِ الشّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي عَمَلِهِ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ فَنَامَ
رَجُلٌ مِنْهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ حَتّى طَلَعَتْ الشّمْسُ فَجَاءَتْ مَعَهُ أُمّهُ
وَهِيَ امْرَأَةٌ عَجُوزٌ فَتَضَرّعَتْ إلَيْهِ تَسْتَشْفِعُ لِابْنِهَا ، فَأَبَى
إلّا أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ فَقَالَتْ اضْرِبْ بِمِعْوَلِك الْيَوْمَ فَالْيَوْمُ
لَك ، وَغَدًا لِغَيْرِك ، فَقَالَ وَيْحَك مَا قُلْت ؟ فَقَالَتْ نَعَمْ كَمَا
صَارَ هَذَا الْمُلْكُ مِنْ غَيْرِك إلَيْك ، فَكَذَلِكَ يَصِيرُ مِنْك إلَى
غَيْرِك ، فَأَخَذَتْهُ مَوْعِظَتُهَا ، وَأَعْفَى النّاسَ مِنْ الْعَمَلِ فِيهَا
بَعْدُ . فَلَمّا هَلَكَ وَمُزّقَتْ الْحَبَشَةُ كُلّ مُمَزّقٍ وَأُقْفِرَ مَا
حَوْلَ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ فَلَمْ يَعْمُرْهَا أَحَدٌ ، وَكَثُرَتْ حَوْلَهَا
السّبَاعُ وَالْحَيّاتُ وَكَانَ كُلّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهَا
أَصَابَتْهُ الْجِنّ ، فَبَقِيَتْ مِنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ بِمَا فِيهَا مِنْ
الْعُدَدِ وَالْخَشَبِ الْمُرَصّعِ بِالذّهَبِ وَالْآلَاتِ الْمُفَضّضَةِ الّتِي
تُسَاوِي قَنَاطِيرَ مِنْ الْمَالِ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا
شَيْئًا إلَى زَمَنِ أَبِي الْعَبّاسِ فَذُكِرَ لَهُ أَمْرُهَا ، وَمَا يُتَهَيّبُ
مِنْ جِنّهَا وَحَيّاتِهَا ، فَلَمْ يَرُعْهُ ذَلِكَ . وَبَعَثَ إلَيْهَا بِابْنِ
الرّبِيعِ عَامِلِهِ عَلَى الْيَمَنِ مَعَهُ أَهْلُ الْحَزْمِ وَالْجَلَادَةِ
فَخَرّبَهَا ، وَحَصَلُوا مِنْهَا مَالًا كَثِيرًا بِبَيْعِ مَا أَمْكَنَ بَيْعُهُ
مِنْ رُخَامِهَا وَآلَاتِهَا ، فَعَفَا بَعْدَ ذَلِكَ رَسْمُهَا ، وَانْقَطَعَ
خَبَرُهَا ، وَدُرِسَتْ آثَارُهَا ، وَكَانَ الّذِي يُصِيبُهُمْ مِنْ الْجِنّ
يَنْسُبُونَهُ إلَى كُعَيْبٍ وَامْرَأَتِهِ صَنَمَيْنِ كَانَتْ الْكَنِيسَةُ
عَلَيْهِمَا ، فَلَمّا كُسِرَ كُعَيْبٌ وَامْرَأَتُهُ أُصِيبَ الّذِي كَسَرَهُ
بِجُذَامِ فَافْتُتِنَ بِذَلِكَ رَعَاعُ الْيَمَنِ وَطَغَامُهُمْ وَقَالُوا :
أَصَابَهُ كُعَيْبٌ وَذَكَرَ أَبُو الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيّ أَنّ كُعَيْبًا كَانَ
مِنْ خَشَبٍ طُولُهُ سِتّونَ ذِرَاعًا .
النّسِيءُ
وَالنّسَأَةُ
الّذِينَ كَانُوا [ ص 113 ] الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَيُحِلّونَ الشّهْرَ
مِنْ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ، وَيُحَرّمُونَ مَكَانَهُ الشّهْرَ مِنْ أَشْهُرِ
الْحِلّ وَيُؤَخّرُونَ ذَلِكَ الشّهْرَ فَفِيهِ أَنَزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى : { إِنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ
كَفَرُوا يُحِلّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ مَا
حَرّمَ اللّهُ } [ التّوْبَةُ 37 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : لِيُوَاطِئُوا :
لِيُوَافِقُوا ، وَالْمُوَاطَأَةُ الْمُوَافَقَةُ تَقُولُ الْعَرَبُ : وَاطَأْتُك
عَلَى هَذَا الْأَمْرِ أَيْ وَافَقْتُك عَلَيْهِ وَالْإِيطَاءُ فِي الشّعْرِ
الْمُوَافَقَةُ وَهُوَ اتّفَاقُ الْقَافِيَتَيْنِ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ وَجَنْسٍ
وَاحِدٍ نَحْوَ قَوْلِ الْعَجّاجِ - وَاسْمُ الْعَجّاجِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
رُؤْبَةَ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمِ بْنِ مُرّ بْنِ
أُدّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ : فِي أُثْعُبَانِ
الْمَنْجَنُونِ الْمُرْسَلِ
ثُمّ قَالَ مُدّ الْخَلِيجَ فِي الْخَلِيجِ الْمُرْسَلِ
" وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ " : قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَكَانَ أَوّلَ مَنْ نَسَأَ الشّهُورَ عَلَى الْعَرَبِ ، حَلّتْ
مِنْهَا مَا أَحَلّ وَحَرّمَتْ مِنْهَا مَا حَرّمَ الْقَلَمّسُ وَهُوَ حُذَيْفَةُ
بْنُ عَبْدِ بْنِ فُقَيْمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ ، ثُمّ قَامَ بَعْدَهُ
عَلَى ذَلِكَ ابْنُهُ عَبّادُ بْنُ حُذَيْفَةَ ثُمّ قَامَ بَعْدَ عَبّادٍ قَلَعُ
بْنُ عَبّادٍ ثُمّ قَامَ بَعْدَ قَلَعٍ أُمَيّةُ بْنُ قَلَعٍ ثُمّ قَامَ بَعْدَ
أُمَيّةَ [ ص 114 ] جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ . وَكَانَ آخِرَهُمْ وَعَلَيْهِ قَامَ [
ص 115 ] وَكَانَتْ الْعَرَبُ إذَا فَرَغَتْ مِنْ حَجّهَا اجْتَمَعَتْ إلَيْهِ
فَحَرّمَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ الْأَرْبَعَةَ رَجَبًا ، وَذَا الْقَعْدَةِ وَذَا
الْحَجّةِ وَالْمُحَرّمَ . فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِلّ شَيْئًا أَحَلّ الْمُحَرّمَ
فَأَحَلّوهُ [ ص 116 ] مَكَانَهُ صَفَرًا فَحَرّمُوهُ لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ
الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ . فَإِذَا أَرَادُوا الصّدْرَ قَامَ فِيهِمْ
فَقَالَ " اللّهُمّ إنّي قَدْ أَحَلَلْت لَك أَحَدَ الصّفَرَيْنِ الصّفَرَ
الْأَوّلَ وَنَسَأْت الْآخَرَ لِلْعَامِ الْمُقْبِلِ " . فَقَالَ فِي ذَلِكَ
عُمَيْرُ بْنُ قَيْسٍ " جِذْلُ الطّعَانِ " أَحَدُ بَنِي فِرَاسِ بْنِ
غَنَمِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ ، يَفْخَرُ بِالنّسَأَةِ
عَلَى الْعَرَبِ :
لَقَدْ عَلِمَتْ مَعَدّ أَنّ قَوْمِي ... كِرَامُ النّاسِ أَنّ لَهُمْ كِرَامَا
فَأَيّ النّاسِ فَاتُونَا بِوِتْرِ ... وَأَيّ النّاسِ لَمْ نُعْلِك لِجَامَا
أَلَسْنَا النّاسِئِينَ عَلَى مَعَدّ ... شُهُورَ الْحِلّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَوّلُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ : الْمُحَرّمُ .Sالنّسِيءُ
وَالنّسَأَةُ
[ ص 113 ] وَذَكَرَ النّسَأَةَ وَالنّسِيءَ مِنْ الْأَشْهُرِ . فَأَمّا النّسَأَةُ
فَأَوّلُهُمْ الْقَلَمّسُ وَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ بْنِ فُقَيْمٍ وَقِيلَ
لَهُ الْقَلَمّسُ لِجُودِهِ إذْ الْقَلَمّسُ مِنْ أَسْمَاءِ الْبَخْرِ وَأَنْشَدَ
قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ
إلَى نَضَدٍ مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ كَأَنّهُمْ ... هِضَابُ أَجَا أَرْكَانُهُ لَمْ
تَقَصّفْ
قَلَامِسَةٌ سَاسُوا الْأُمُورَ فَأُحْكِمَتْ ... سِيَاسَتُهَا حَتّى أَقَرّتْ
لِمُرْدِفِ
[ ص 114 ] وَذَكَرَ أَبُو عَلِيّ الْقَالِي فِي الْأَمَالِي أَنّ الّذِي نَسَأَ
الشّهُورَ مِنْهُمْ نُعَيْمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَلَيْسَ هَذَا بِمَعْرُوفِ وَأَمّا
نَسَؤُهُمْ لِلشّهْرِ فَكَانَ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا : مَا ذَكَرَ ابْنُ
إسْحَاقَ مِنْ تَأْخِيرِ شَهْرِ الْمُحَرّمِ إلَى صَفَرٍ لِحَاجَتِهِمْ إلَى شَنّ
الْغَارَاتِ وَطَلَبِ الثّارّاتِ وَالثّانِي : تَأْخِيرُهُمْ الْحَجّ عَنْ
وَقْتِهِ تَحَرّيًا مِنْهُمْ لِلسّنَةِ الشّمْسِيّةِ فَكَانُوا يُؤَخّرُونَهُ فِي
كُلّ عَامٍ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ، أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا ، حَتّى يَدُورَ
الدّوْرُ إلَى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَيَعُودُ إلَى وَقْتِهِ وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ : إنّ الزّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ
كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَكَانَتْ حَجّةُ
الْوَدَاعِ فِي السّنَةِ الّتِي عَادَ فِيهَا الْحَجّ إلَى وَقْتِهِ وَلَمْ يَحُجّ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكّةَ
غَيْرَ تِلْكَ الْحَجّةِ وَذَلِكَ لِإِخْرَاجِ الْكُفّارِ الْحَجّ عَنْ وَقْتِهِ
وَلِطَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - إذْ كَانَتْ مَكّةُ بِحُكْمِهِمْ
حَتّى فَتَحَهَا اللّهُ عَلَى نَبِيّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ
شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ نَرَى أَنّ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ { يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْأَهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجّ } [ الْبَقَرَةُ 189 ]
. وَخَصّ الْحَجّ بِالذّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقّتَةِ
بِالْأَوْقَاتِ تَأْكِيدًا لِاعْتِبَارِهِ بِالْأَهِلّةِ دُونَ حِسَابِ
الْأَعَاجِمِ مِنْ أَجْلِ مَا كَانُوا أَحْدَثُوا فِي الْحَجّ مِنْ الِاعْتِبَارِ
بِالشّهُورِ الْعَجَمِيّةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ قَوْلَ
الْعَجّاجِ فِي أُثْعُبَانِ الْمَنْجَنُونِ الْمُرْسَلِ . الْأُثْعُبَانُ مَا
يَنْدَفِعُ مِنْ الْمَاءِ مِنْ شُعَبِهِ . وَالْمَنْجَنُونُ أَدَاةُ السّانِيَةِ
وَالْمِيمُ فِي الْمَنْجَنُونِ أَصْلِيّةٌ فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ ، وَكَذَلِكَ
النّونُ لِأَنّهُ يُقَالُ فِيهِ مَنْجَنِينُ مِثْلُ عَرْطَلِيلٍ وَقَدْ ذَكَرَ
سِيبَوَيْهِ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ أَنّ النّونَ زَائِدَةٌ
إلّا أَنّ بَعْضَ رُوَاةِ الْكِتَابِ قَالَ فِيهِ مُنْحَنُونَ بِالْحَاءِ فَعَلَى
هَذَا لَمْ يَتَنَاقَضْ كَلَامُهُ - رَحِمَهُ اللّهُ - وَفِي أَدَاةِ السّانِيَةِ
الدّولَابُ بِضَمّ الدّالِ وَفَتْحِهَا ، وَالشّهْرَقُ وَهُوَ الّذِي يُلْقَى
عَلَيْهِ حَبْلُ الْأَقْدَاسِ وَاحِدُهَا : قُدْسٌ وَالْعَامّةُ تَقُولُ قَادُوسٌ
وَالْعَصَامِيرُ عِيدَانُ السّانِيَةِ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ : وَقَالَ صَاحِبُ
الْعَيْنِ الْعُصْمُورُ عُودُ السّانِيَةِ . وَقَوْلُهُ مَدّ الْخَلِيجُ .
الْخَلِيجُ : الْجَبَلُ وَالْخَلِيجُ أَيْضًا : خَلِيجُ الْمَاءِ . وَذَكَرَ اسْمَ
الْعَجّاجِ وَلَمْ يُكَنّهِ وَكُنْيَتُهُ أَبُو الشّعْثَاءِ ، وَسُمّيَ الْعَجّاجُ
بِقَوْلِهِ حَتّى يَعِجّ عِنْدَهَا مَنْ عَجّجَا . [ ص 115 ] وَقَالَ عُمَيْرُ
بْنُ قَيْسٍ : كِرَامُ النّاسِ أَنّ لَهُمْ كِرَامًا . أَيْ آبَاءً كِرَامًا ،
وَأَخْلَاقًا كِرَامًا . وَقَوْلُهُ وَأَيّ النّاسِ لَمْ نُعْلِك لِجَامًا . أَيْ
لَمْ نَقْدَعْهُمْ وَنَكْفِهِمْ كَمَا يُقْدَعُ الْفَرَسُ بِاللّجَامِ . تَقُولُ
أَعْلَكْت الْفَرَسَ لِجَامَهُ إذَا رَدَدْته عَنْ تَنَزّعِهِ فَمَضَغَ اللّجَامَ
كَالْعِلْكِ مِنْ نَشَاطِهِ فَهُوَ مَقْدُوعٌ قَالَ الشّاعِرُ
وَإِذَا احْتَبَى قَرَبُوسَهُ بِعِنَانِهِ ... عَلَكَ اللّجَامُ إلَى انْصِرَافِ
الزّائِرِ
وَكَانَ عُمَيْرٌ هَذَا مِنْ أَطْوَلِ النّاسِ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي مُقْبِلِي
الظّعُنِ وَسُمّيَ جِذْلَ الطّعّانِ لِثَبَاتِهِ فِي الْحَرْبِ كَأَنّهُ جِذْلُ
شَجَرَةٍ وَاقِفٍ وَقِيلَ لِأَنّهُ كَانَ يُسْتَشْفَى بِرَأْيِهِ وَيُسْتَرَاحُ
إلَيْهِ كَمَا تَسْتَرِيحُ الْبَهِيمَةُ الْجَرْبَاءُ إلَى الْجَذِلِ تَحْتَكّ
بِهِ وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ الْحُبَابِ [ ابْنِ الْمُنْذِرِ ] : أَنَا
جُذَيْلُهَا الْمُحَكّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرْجِبُ وَقَوْلُ الْأَعْرَابِيّ
يَصِفُ ابْنَهُ إنّهُ لِجَذْلُ حِكَاكٍ وَمِدْرَهُ لِكَاكٍ . وَاللّكَاكُ
الزّحَامُ .
فَصْلٌ
وَذَكَرَ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ مِنْ النّسَأَةِ ، وَعَلَيْهِ قَامَ الْإِسْلَامُ
وَلَمْ يَذْكُرْ هَلْ أَسْلَمَ أَمْ لَا ، وَقَدْ وَجَدْت لَهُ خَبَرًا يَدُلّ
عَلَى إسْلَامِهِ حَضَرَ الْحَجّ فِي زَمَنِ عُمَرَ فَرَأَى النّاسَ يَزْدَحِمُونَ
عَلَى الْحَجّ فَنَادَى : أَيّهَا النّاسُ إنّي قَدْ أَجَرْته مِنْكُمْ فَخَفَقَهُ
عُمَرُ بِالدّرّةِ وَقَالَ وَيْحَك : إنّ اللّهَ قَدْ أَبْطَلَ أَمْرَ
الْجَاهِلِيّةِ . وَذَكَرَ الْبَرْقِيّ عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ قَالَ فَنَسَأَ
قَلَعُ بْنُ عَبّادٍ سَبْعَ سِنِينَ وَنَسَأَ بَعْدَهُ أُمَيّةُ بْنُ قَلَعٍ
إحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً ثُمّ نَسَأَ مِنْ بَعْدِهِ جُنَادَةُ وَهُوَ أَبُو
أُمَامَةَ وَهُوَ الْقَلَمّسُ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ
وَقَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ : أَوّلُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ : الْمُحَرّمُ قَوْلٌ
وَقَدْ قِيلَ أَوّلُهَا ذُو الْقَعْدَةِ لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَدَأَ بِهِ حِينَ ذَكَرَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ ، وَمَنْ
قَالَ الْمُحَرّمُ أَوّلُهَا ، احْتَجّ بِأَنّهُ أَوّلُ السّنَةِ وَفِقْهُ هَذَا
الْخِلَافِ أَنّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ، فَيُقَالُ لَهُ
عَلَى الْأَوّلِ ابْدَأْ بِالْمُحَرّمِ ثُمّ بِرَجَبِ ثُمّ بِذِي الْقَعْدَةِ
وَذِي الْحَجّةِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يُقَالُ لَهُ ابْدَأْ بِذِي الْقَعْدَةِ
حَتّى يَكُونَ آخِرُ صِيَامِك فِي رَجَبٍ مِنْ الْعَامِ الثّانِي .
سَبَبُ
حَمْلَةِ أَبْرَهَةَ عَلَى الْكَعْبَةِ
[ ص 117 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَخَرَجَ الْكِنَانِيّ حَتّى أَتَى الْقُلّيْسَ
فَقَعَدَ فِيهَا - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يَعْنِي أَحْدَثَ فِيهَا - قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : ثُمّ خَرَجَ فَلَحِقَ بِأَرْضِهِ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبْرَهَةُ
فَقَالَ مَنْ صَنَعَ هَذَا ؟ فَقِيلَ لَهُ صَنَعَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ
مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ الّذِي تَحُجّ الْعَرَبُ إلَيْهِ بِمَكّةَ لَمّا
سَمِعَ قَوْلَك : " أَصْرِفُ إلَيْهَا حَجّ الْعَرَبِ " غَضِبَ فَجَاءَ
فَقَعَدَ فِيهَا ، أَيْ أَنّهَا لَيْسَتْ لِذَلِكَ بِأَهْلِ . فَغَضِبَ عِنْدَ
ذَلِكَ أَبْرَهَةُ وَحَلَفَ لَيَسِيرَن إلَى الْبَيْتِ حَتّى يَهْدِمَهُ ثُمّ
أَمَرَ الْحَبَشَةَ فَتَهَيّأَتْ وَتَجَهّزَتْ ثُمّ سَارَ وَخَرَجَ مَعَهُ
بِالْفِيلِ وَسَمِعَتْ بِذَلِكَ الْعَرَبُ ، فَأَعْظَمُوهُ وَفَظِعُوا بِهِ
وَرَأَوْا جِهَادَهُ حَقّا عَلَيْهِمْ حِينَ سَمِعُوا بِأَنّهُ يُرِيدُ هَدْمَ
الْكَعْبَةِ ، بَيْتِ اللّهِ الْحَرَامِ .Sالْقُعُودُ
عَلَى الْمَقَابِرِ
[ ص 116 ] خَرَجَ الْكِنَانِيّ حَتّى قَعَدَ فِي الْقُلّيْسِ أَيْ أَحْدَثَ فِيهَا
، وَفِيهِ شَاهِدٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي تَفْسِيرِ
الْقُعُودِ عَلَى الْمَقَابِرِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ وَأَنّ ذَلِكَ لِلْمَذَاهِبِ
كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
ذُو
نَفْرٍ وَنُفَيْلٌ يُحَاوِلَانِ حِمَايَةَ الْبَيْتِ
[ ص 118 ] فَخَرَجَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَمُلُوكِهِمْ
يُقَالُ لَهُ ذُو نَفْرٍ ، فَدَعَا قَوْمَهُ وَمَنْ أَجَابَهُ مِنْ سَائِرِ
الْعَرَبِ إلَى حَرْبِ أَبْرَهَةَ وَجِهَادُهُ عَنْ بَيْتِ اللّهِ الْحَرَامِ
وَمَا يُرِيدُ مِنْ هَدْمِهِ وَإِخْرَابِهِ فَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ مَنْ
أَجَابَهُ ثُمّ عَرَضَ لَهُ فَقَاتَلَهُ فَهُزِمَ ذُو نَفْرٍ وَأَصْحَابُهُ
وَأَخَذَ لَهُ ذُو نَفْرٍ ، فَأُتِيَ بِهِ أَسِيرًا ، فَلَمّا أَرَادَ قَتْلَهُ قَالَ
لَهُ ذُو نَفْرٍ : أَيّهَا الْمَلِكُ لَا تَقْتُلْنِي فَإِنّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ
بَقَائِي مَعَك خَيْرًا لَك مِنْ قَتْلِي ، فَتَرَكَهُ مِنْ الْقَتْلِ وَحَبَسَهُ
عِنْدَهُ فِي وَثَاقٍ وَكَانَ أَبْرَهَةُ رَجُلًا حَلِيمًا . ثُمّ مَضَى
أَبْرَهَةُ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ يُرِيدُ مَا خَرَجَ لَهُ حَتّى إذَا كَانَ
بِأَرْضِ خَثْعَمَ عَرَضَ لَهُ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيّ فِي قَبِيلَيْ
خَثْعَمَ شَهْرَانَ وَنَاهِسَ ، وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ ،
فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أَبْرَهَةُ وَأَخَذَ لَهُ نُفَيْلٌ أَسِيرًا ، فَأُتِيَ
بِهِ فَلَمّا هَمّ بِقَتْلِهِ قَالَ لَهُ نُفَيْلٌ أَيّهَا الْمَلِكُ لَا
تَقْتُلْنِي فَإِنّي دَلِيلُك بِأَرْضِ الْعَرَبِ ، وَهَاتَانِ يَدَايَ لَك عَلَى
قَبِيلَيْ خَثْعَمَ : شَهْرَانَ وَنَاهِسَ بِالسّمْعِ وَالطّاعَةِ فَخَلّى سَبِيلَهُ
.Sأَنْسَابٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ نُفَيْلٍ الْخَثْعَمِيّ وَهَاتَانِ يَدَايَ لَك عَلَى شَهْرَانَ
وَنَاهِسَ ، وَهُمَا قَبِيلَا خَثْعَمَ ، أَمَا خَثْعَمُ : فَاسْمُ جَبَلٍ سُمّيَ
بِهِ بَنُو عِفْرِسِ بْنِ خُلْفِ بْنِ أَفْتَلَ بْنِ أَنْمَارٍ ، لِأَنّهُمْ
نَزَلُوا عِنْدَهُ وَقِيلَ إنّهُمْ تَخَثْعَمُوا بِالدّمِ عِنْدَ حِلْفٍ عَقَدُوهُ
بَيْنَهُمْ أَيْ تَلَطّخُوا ، وَقِيلَ بَلْ خَثْعَمُ ثَلَاثٌ شَهْرَانُ وَنَاهِسُ
وَأَكْلُبُ غَيْرَ أَنّ أَكْلُبَ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ هُوَ ابْنُ رَبِيعَةَ
بْنِ نِزَارٍ وَلَكِنّهُمْ دَخَلُوا فِي خَثْعَمَ ، وَانْتَسَبُوا إلَيْهِمْ
فَاَللّهُ أَعْلَمُ . قَالَ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ :
مَا أَكْلُبُ مِنّا ، وَلَا نَحْنُ مِنْهُمْ ... وَمَا خَثْعَمُ يَوْمَ الْفَخَارِ
وَأَكْلُبُ
قَبِيلَةُ سُوءٍ مِنْ رَبِيعَةَ أَصْلُهَا ... فَلَيْسَ لَهَا عَمّ لَدَيْنَا ،
وَلَا أَبٌ
فَأَجَابَهُ الْأَكْلَبِيّ فَقَالَ
إنّي مِنْ الْقَوْمِ الّذِينَ نَسَبْتنِي ... إلَيْهِمْ كَرِيمُ الْجَدّ وَالْعَمّ
وَالْأَبِ
فَلَوْ كُنْت ذَا عِلْمٍ بِهِمْ مَا نَفَيْتنِي ... إلَيْهِمْ تَرَى أَنّي
بِذَلِكَ أُثْلَبُ
فَإِنْ لَا يَكُنْ عَمّايَ خُلْفًا وَنَاهِسًا ... فَإِنّي امْرِئِ عَمّايَ بَكْرٌ
وَتَغْلِبُ
أَبُونَا الّذِي لَمْ تُرْكَبُ الْخَيْلُ قَبْلَهُ ... وَلَمْ يَدْرِ مَرْءٌ
قَبْلَهُ كَيْفَ يَرْكَبُ
[ ص 117 ] رَبِيعَةَ ، وَرَبِيعَةُ كَانَ يُقَالُ لَهُ رَبِيعَةُ الْفَرَسِ .
وَأَمّا ثَقِيفٌ وَمَا ذُكِرَ مِنْ اخْتِلَافِ النّسّابِينَ فِيهِمْ فَبَعْضُهُمْ
يَنْسُبُهُمْ إلَى إيَادٍ ، وَبَعْضُهُمْ يَنْسُبُهُمْ إلَى قَيْسٍ ، وَقَدْ
نُسِبُوا إلَى ثَمُودَ أَيْضًا . وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْهُ -
عَلَيْهِ السّلَامُ - رَوَاهُ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ فِي جَامِعِهِ وَكَذَلِكَ
أَيْضًا رُوِيَ فِي الْجَامِعِ أَنّ أَبَا رِغَالٍ مِنْ ثَمُودَ ، وَأَنّهُ كَانَ
بِالْحَرَمِ حِينَ أَصَابَ قَوْمَهُ الصّيْحَةُ فَلَمّا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ
أَصَابَهُ مِنْ الْهَلَاكِ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ فَدُفِنَ هُنَاكَ وَدُفِنَ مَعَهُ
غُصْنَانِ مِنْ ذَهَبٍ وَذُكِرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - مَرّ بِالْقَبْرِ وَأَمَرَ بِاسْتِخْرَاجِ الْغُصْنَيْنِ مِنْهُ
فَاسْتَخْرَجَا . وَقَالَ جَرِيرٌ أَوْ غَيْرُهُ
إذَا مَاتَ الْفَرَزْدَقُ فَارْجُمُوهُ ... كَرَجْمِكُمْ لِقَبْرِ أَبِي رِغَالِ
وَوَقَعَ فِي هَذِهِ النّسْخَةِ فِي نَسَبِ ثَقِيفٍ الْأَوّلِ ابْنُ إيَادِ بْنِ
مَعَدّ . وَفِي الْحَاشِيَةِ أَنّ الْقَاضِيَ أَبَا الْوَلِيدِ غَيّرَهُ فَجَعَلَ
مَكَانَ ابْنِ مَعَدّ مِنْ مَعَدّ وَذَلِكَ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - لِأَنّ إيَادَ
هَذَا هُوَ ابْنُ نِزَارٍ وَلَيْسَ بِابْنِ مَعَدّ لِصُلْبِهِ وَلِمَعَدّ ابْنٌ
اسْمُهُ إيَادٌ ، وَهُوَ ابْنُهُ لِصُلْبِهِ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ ،
وَقَدْ قَدّمْنَا ذِكْرَهُ مَعَ بَنِي مَعَدّ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ وَهُوَ عَمّ
إيَادٍ ، وَالْإِيَادُ فِي اللّغَةِ التّرَابُ الّذِي يُضَمّ إلَى الْخِبَاءِ
لِيَقِيَهُ مِنْ السّيْلِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَيْدِ وَهِيَ
الْقُوّةُ لِأَنّ فِيهِ قُوّةً لِلْخِبَاءِ وَهُوَ بَيْنَ النّؤْيِ وَالْخِبَاءِ
وَالنّؤْيُ يُشْتَقّ مِنْ النّائِي ، لِأَنّهُ حَفِيرٌ يَنْأَى بِهِ الْمَطَرُ
أَيْ يَبْعُدُ عَنْ الْخِبَاءِ . وَأَنْشَدَ لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ
وَاسْمُ أَبِي الصّلْتِ رَبِيعَةُ بْنُ وَهْبٍ فِي قَوْلِ الزّبَيْرِ
قَوْمِي إيَادٌ لَوْ أَنّهُمْ أُمَمٌ ... أَوَلَوْ أَقَامُوا ، فَتُهْزَلَ
النّعَمُ
[ ص 118 ] أَقَامُوا بِالْحِجَازِ وَإِنْ هَزَلَتْ نَعَمُهُمْ لِأَنّهُمْ
انْتَقَلُوا عَنْهَا ، لِأَنّهَا ضَاقَتْ عَنْ مَسَارِحِهِمْ فَصَارُوا إلَى رِيفِ
الْعِرَاقِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ وَالْقِطّ وَالْقَلَمُ وَالْقِطّ : مَا قُطّ مِنْ
الْكَاغَدِ وَالرّقّ وَنَحْوِهِ وَذَلِكَ أَنّ الْكِتَابَةَ كَانَتْ فِي تِلْكَ
الْبِلَادِ الّتِي سَارُوا إلَيْهَا ، وَقَدْ قِيلَ لِقُرَيْشِ مِمّنْ
تَعَلّمْتُمْ الْقِطّ ؟ فَقَالُوا : تَعَلّمْنَاهُ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ ،
وَتَعَلّمَهُ أَهْلُ الْحِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ [ ص 119 ] وَنَصَبَ
قَوْلَهُ فَتُهْزَلَ النّعَمُ بِالْفَاءِ عَلَى جَوَابِ التّمَنّي الْمُضَمّنِ فِي
لَوْ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَوْ أَنّ لَنَا كَرّةً فَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ } [ الشّعَرَاءُ 102 ] وَأَمّا تَسْمِيَةُ قَسِيّ بِثَقِيفِ
فَسَيَأْتِي سَبَبُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الطّائِفِ - إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى .
بَيْنَ
ثَقِيفٍ وَأَبْرَهَةَ
وَخَرَجَ بِهِ مَعَهُ يَدُلّهُ حَتّى إذَا مَرّ بِالطّائِفِ خَرَجَ إلَيْهِ
مَسْعُودُ بْنُ مُعَتّبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ
عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ فِي رِجَالِ ثَقِيفٍ . وَاسْمُ ثَقِيفٍ : قَسِيّ بْنُ
النّبِيتِ بْنِ مُنَبّهِ بْنِ مَنْصُور ِ بْنِ يَقْدُمَ بْنِ أَفْصَى بْنِ
دُعْمِيّ بْنِ إيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَانَ . قَالَ أُمَيّةُ
بْنُ أَبِي الصّلْتِ الثّقَفِيّ :
قَوْمِي إيَادٌ لَوْ أَنّهُمْ أُمَمُ ... أَوْ لَوْ أَقَامُوا فَتُهْزَلَ النّعَمُ
قَوْمٌ لَهُمْ سَاحَةُ الْعِرَاقِ إذَا ... سَارُوا جَمِيعًا وَالْقِطّ
وَالْقَلَمُ
[ ص 119 ] وَقَالَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ أَيْضًا :
فَإِمّا تَسْأَلِي عَنّي - لُبَيْنَى ... وَعَنْ نَسَبِي - أُخَبّرْك الْيَقِينَا
فَإِنّا لِلنّبِيتِ أَبِي قَسِيّ ... لِمَنْصُورِ بْنِ يَقْدُمَ الْأَقْدَمِينَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : ثَقِيفٌ : قَسِيّ بْنُ مُنَبّهِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ
بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْس ِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ
مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَان َ ، وَالْبَيْتَانِ الْأَوّلَانِ
وَالْآخَرَانِ فِي قَصِيدَتَيْنِ لِأُمَيّةِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالُوا
لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ إنّمَا نَحْنُ عَبِيدُك سَامِعُونَ لَك مُطِيعُونَ لَيْسَ
عِنْدَنَا لَك خِلَافٌ وَلَيْسَ بَيْتُنَا هَذَا الْبَيْتَ الّذِي تُرِيدُ -
يَعْنُونَ اللّاتِي - إنّمَا يُرِيدُ الْبَيْتَ الّذِي بِمَكّةَ ، وَنَحْنُ
نَبْعَثُ مَعَك مَنْ يَدُلّك عَلَيْهِ فَتَجَاوَزْ عَنْهُمْ . وَاللّاتِ : بَيْتٌ
لَهُمْ بِالطّائِفِ كَانُوا يُعَظّمُونَهُ نَحْوَ تَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النّحْوِيّ لِضِرَارِ بْنِ
الْخَطّابِ الْفِهْرِيّ
وَفَرّتْ ثَقِيفٌ إلَى لَاتِهَا ... بِمُنْقَلَبِ الْخَائِبِ الْخَاسِرِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ .
قِصّةُ أَبِي رِغَالٍ وَقَبْرِهِ الْمَرْجُومِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَبَعَثُوا مَعَهُ أَبَا رِغَالٍ يَدُلّهُ عَلَى الطّرِيقِ
إلَى مَكّةَ ، فَخَرَجَ أَبْرَهَةُ وَمَعَهُ أَبُو رِغَالٍ حَتّى أَنَزَلَهُ
الْمُغَمّسَ ، فَلَمّا أَنْزَلَهُ بِهِ مَاتَ أَبُو رِغَالٍ هُنَالِكَ فَرَجَمَتْ
قَبْرُهُ الْعَرَبَ ، فَهُوَ الْقَبْرُ الّذِي يَرْجُمُ النّاسُ بِالْمُغَمّس ِ .Sالْمُغَمّسُ
: وَقَوْلُهُ فَلَمّا نَزَلَ أَبْرَهَةُ الْمُغَمّسَ هَكَذَا أَلْفَيْته فِي
نُسْخَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ الْمُقَيّدَةِ عَلَى أَبِي الْوَلِيدِ الْقَاضِي
بِفَتْحِ الْمِيمِ الْآخِرَةِ مِنْ الْمُغَمّسِ . وَذَكَرَ الْبَكْرِيّ فِي
كِتَابِ الْمُعْجَمِ عَنْ ابْنِ دُرَيْدٍ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَئِمّةِ اللّغَةِ
أَنّهُ الْمُغَمّسُ . بِكَسْرِ الْمِيم الْآخِرَةِ وَأَنّهُ أَصَحّ مَا قِيلَ
فِيهِ وَذَكَرَ أَيْضًا أَنّهُ يُرْوَى بِالْفَتْحِ فَعَلَى رِوَايَةِ الْكَسْرِ
هُوَ مُغَمّسٌ مُفَعّلٌ مِنْ غَمّسْت ، كَأَنّهُ اُشْتُقّ مِنْ الْغَمِيسِ وَهُوَ
الْغَمِيرُ ، وَهُوَ النّبَاتُ الْأَخْضَرُ الّذِي يَنْبُتُ فِي الْخَرِيفِ تَحْتَ
الْيَابِسِ يُقَالُ [ ص 120 ] الْمَكَانُ وَغَمّرَ إذَا نَبَتَ فِيهِ ذَلِكَ كَمَا
يُقَالُ صَوّحَ وَشَجّرَ وَأَمّا عَلَى رِوَايَةِ الْفَتْحِ فَكَأَنّهُ مِنْ
غَمَسْت الشّيْءَ إذَا غَطّيْته ، وَذَلِكَ أَنّهُ مَكَانٌ مَسْتُورٌ إمّا
بِهِضَابِ وَإِمّا بِعَضَاهٍ وَإِنّمَا قُلْنَا هَذَا ؛ لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إذْ كَانَ بِمَكّةَ كَانَ إذَا أَرَادَ حَاجَةَ
الْإِنْسَانِ خَرَجَ إلَى الْمُغَمّسِ ، وَهُوَ عَلَى ثُلُثِ فَرْسَخٍ مِنْهَا ،
كَذَلِكَ رَوَاهُ عَلِيّ بْنُ السّكَنِ فِي كِتَابِ السّنَنِ لَهُ وَفِي السّنَنِ
لِأَبِي دَاوُدَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ
إذَا أَرَادَ الْبَرَازَ أَبْعَد وَلَمْ يُبَيّنْ مِقْدَارَ الْبُعْدِ وَهُوَ
مُبَيّنٌ فِي حَدِيثِ ابْنِ السّكَنِ - كَمَا قَدّمْنَا - وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِيَأْتِيَ مَكَانًا لِلْمَذْهَبِ إلّا
وَهُوَ مَسْتُورٌ مُنْخَفِضٌ فَاسْتَقَامَ الْمَعْنَى فِيهِ عَلَى الرّوَايَتَيْنِ
جَمِيعًا .
عُدْوَانُ
الْأَسْوَدِ عَلَى مَكّةَ
[ ص 120 ] نَزَلَ أَبْرَهَةُ الْمُغَمّسَ ، بَعَثَ رَجُلًا مِنْ الْحَبَشَةِ
يُقَالُ لَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ مَقْصُودٍ عَلَى خَيْلٍ لَهُ حَتّى انْتَهَى إلَى
مَكّةَ ، فَسَاقَ إلَيْهِ أَمْوَالَ تِهَامَةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ
وَأَصَابَ فِيهَا مِئَتَيْ بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ وَهُوَ
يَوْمَئِذٍ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيّدُهَا ، فَهَمّتْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَهُذَيْلٌ
، وَمَنْ كَانَ بِذَلِكَ الْحَرَمِ بِقِتَالِهِ ثُمّ عَرَفُوا أَنّهُمْ لَا
طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ فَتَرَكُوا ذَلِكَ .
رَسُولُ أَبْرَهَةَ إلَى عَبْدِ الْمُطّلِبِ
وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ حُنَاطَةَ الْحِمْيَرِيّ إلَى مَكّةَ ، وَقَالَ لَهُ سَلْ
عَنْ سَيّدِ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ وَشَرِيفِهَا ، ثُمّ قُلْ لَهُ إنّ الْمَلِكَ
يَقُولُ لَك : إنّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ إنّمَا جِئْت لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ
فَإِنْ لَمْ تَعْرِضُوا دُونَهُ بِحَرْبِ فَلَا حَاجَةَ لِي بِدِمَائِكُمْ فَإِنْ
هُوَ لَمْ يُرِدْ حَرْبِي ، فَأْتِنِي بِهِ فَلَمّا دَخَلَ حُنَاطَةُ مَكّةَ ،
سَأَلَ عَنْ سَيّدِ قُرَيْشٍ وَشَرِيفِهَا ، فَقِيلَ لَهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ
هَاشِمٍ فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَبْرَهَةُ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ
الْمُطّلِبِ : وَاَللّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ
هَذَا بَيْتُ اللّهِ الْحَرَامِ وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السّلَامُ - أَوْ كَمَا قَالَ - فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ
وَحَرَمُهُ وَإِنْ يُخَلّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَوَاَللّهِ مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ
عَنْهُ فَقَالَ لَهُ حُنَاطَةُ فَانْطَلِقْ مَعِي إلَيْهِ فَإِنّهُ قَدْ أَمَرَنِي
أَنْ آتِيَهُ بِك .
الشّافِعُونَ عِنْدَ أَبْرَهَةَ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ
فَانْطَلَقَ مَعَهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ ، وَمَعَهُ بَعْضُ بَنِيهِ حَتّى أَتَى
الْعَسْكَرَ فَسَأَلَ عَنْ ذِي نَفْرٍ وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا ، حَتّى دَخَلَ
عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَحْبِسِهِ فَقَالَ لَهُ يَا ذَا نَفْرٍ هَلْ عِنْدَك مِنْ [
ص 121 ] نَزَلَ بِنَا ؟ فَقَالَ لَهُ ذُو نَفْرٍ : وَمَا غَنَاءُ رَجُلٍ أَسِيرٍ
بِيَدَيْ مَلِكٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَقْتُلَهُ غُدُوّا أَوْ عَشِيّا ؟ مَا عِنْدَنَا
غَنَاءٌ فِي شَيْءٍ مِمّا نَزَلَ بِك إلّا أَنّ أُنَيْسًا سَائِسَ الْفِيلِ
صَدِيقٌ لِي ، وَسَأُرْسِلُ إلَيْهِ فَأُوصِيهِ بِك ، وَأُعْظِمُ عَلَيْهِ حَقّك ،
وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَك عَلَى الْمَلِكِ فَتُكَلّمُهُ بِمَا بَدَا لَك
. وَيَشْفَعُ لَك عِنْدَهُ بِخَيْرِ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ حَسْبِي .
فَبَعَثَ ذُو نَفْرٍ إلَى أُنَيْسٍ فَقَالَ لَهُ إنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ سَيّدُ
قُرَيْشٍ ، وَصَاحِبُ عِيرِ مَكّةَ ، يُطْعِمُ النّاسَ بِالسّهْلِ وَالْوُحُوشَ
فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ وَقَدْ أَصَابَ لَهُ الْمَلِكُ مِئَتَيْ بَعِيرٍ
فَاسْتَأْذِنْ لَهُ عَلَيْهِ وَانْفَعْهُ عِنْدَهُ بِمَا اسْتَطَعْت ، فَقَالَ
أَفْعَلُ . فَكَلّمَ أُنَيْسٌ أَبْرَهَةَ فَقَالَ لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ هَذَا
سَيّدُ قُرَيْشٍ بِبَابِك يَسْتَأْذِنُ عَلَيْك ، وَهُوَ صَاحِبُ عِيرِ مَكّةَ ،
وَهُوَ يُطْعِمُ النّاسَ فِي السّهْلِ وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ
فَأْذَنْ لَهُ عَلَيْك ، فَيُكَلّمْك فِي حَاجَتِهِ قَالَ فَأَذِنَ لَهُ
أَبْرَهَةُ .
عَبْدُ الْمُطّلِبِ وَأَبْرَهَةُ
قَالَ وَكَانَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ أَوْسَمَ النّاسِ وَأَجْمَلَهُمْ وَأَعْظَمَهُمْ
فَلَمّا رَآهُ أَبْرَهَةُ أَجَلّهُ وَأَعْظَمَهُ وَأَكْرَمَهُ عَنْ أَنْ
يُجْلِسَهُ تَحْتَهُ وَكَرِهَ أَنْ تَرَاهُ الْحَبَشَةُ يَجْلِسُ مَعَهُ عَلَى
سَرِيرِ مُلْكِهِ فَنَزَلَ أَبْرَهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطِهِ
وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَيْهِ إلَى جَنْبِهِ ثُمّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ
حَاجَتُك ؟ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ التّرْجُمَانُ فَقَالَ حَاجَتِي أَنْ يَرُدّ
عَلَيّ الْمَلِكُ مِئَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي ، فَلَمّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ
قَالَ أَبْرَهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ قَدْ كُنْت أَعْجَبْتنِي [ ص 122 ]
وَدِينُ آبَائِك قَدْ جِئْت لِهَدْمِهِ لَا تُكَلّمُنِي فِيهِ ؟ قَالَ لَهُ عَبْدُ
الْمُطّلِبِ : إنّي أَنَا رَبّ الْإِبِلِ وَإِنّ لِلْبَيْتِ رَبّا سَيَمْنَعُهُ
قَالَ مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنّي ، قَالَ أَنْتَ وَذَاكَ . وَكَانَ - فِيمَا
يَزْعُمُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ - قَدْ ذَهَبَ مَعَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ إلَى
أَبْرَهَةَ حِينَ بَعَثَ إلَيْهِ حُنَاطَةَ يَعْمُرُ بْنُ نُفَاثَةَ بْنِ عَدِيّ
بْنِ الدّئْلِ بْنِ بَكْرِ بْنِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيّدُ
بَنِي بَكْرٍ - وَخُوَيْلِدُ بْنُ وَاثِلَةَ الْهُذَلِيّ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ
سَيّدُ هُذَيْلٍ - فَعَرَضُوا عَلَى أَبْرَهَةَ ثُلُثَ أَمْوَالِ تِهَامَةَ ،
عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُمْ وَلَا يَهْدِمَ الْبَيْتَ فَأَبَى عَلَيْهِمْ .
وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَكَانَ ذَلِكَ أَمْ لَا ، فَرَدّ أَبْرَهَةُ عَلَى عَبْدِ
الْمُطّلِبِ الْإِبِلَ الّتِي أَصَابَ لَهُ .Sوَسَامَةُ
عَبْدِ الْمُطّلِبِ
[ ص 121 ] عَبْدِ الْمُطّلِبِ : أَوْسَمُ النّاسِ وَأَجْمَلُهُ . ذَكَرَ
سِيبَوَيْهِ هَذَا الْكَلَامَ مَحْكِيّا عَنْ الْعَرَبِ ، وَوَجْهُهُ عِنْدَهُمْ
أَنّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى ، فَكَأَنّك قُلْت : أَحْسَنُ رَجُلٍ
وَأَجْمَلُهُ فَأَفْرَدَ الِاسْمَ الْمُضْمَرَ الْتِفَاتًا إلَى هَذَا الْمَعْنَى
، وَهُوَ عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَى الْجِنْسِ كَأَنّهُ حِينَ ذَكَرَ النّاسَ قَالَ
هُوَ أَجْمَلُ هَذَا الْجَنْسِ مِنْ الْخَلْقِ وَإِنّمَا عَدَلْنَا عَنْ ذَلِكَ
التّقْدِيرِ الْأَوّلِ لِأَنّ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ " خَيْرُ نِسَاءٍ
رَكِبْنَ الْإِبِلَ صَوَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ : أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدِهِ فِي
صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ " ، وَلَا يَسْتَقِيمُ
هَهُنَا حَمْلُهُ عَلَى الْإِفْرَادِ لِأَنّ الْمُفْرَدَ هَهُنَا امْرَأَةٌ فَلَوْ
نَظَرَ إلَى وَاحِدِ النّسَاءِ لَقَالَ أَحْنَاهَا عَلَى وَلَدِهِ فَإِذًا
التّقْدِيرُ أَحْنَى هَذَا الْجَنْسِ الّذِي هُوَ النّسَاءُ وَهَذَا الصّنْفُ وَنَحْوُ
هَذَا .
عَبْدُ
الْمُطّلِبِ يَسْتَغِيثُ بِاَللّهِ
فَلَمّا انْصَرَفُوا عَنْهُ انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ إلَى قُرَيْشٍ ،
فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكّةَ ، وَالتّحَرّزِ
فِي شَعَفِ الْجِبَالِ وَالشّعَابِ تَخَوّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرّةِ الْجَيْشِ
[ ص 123 ] عَبْدُ الْمُطّلِبِ ، فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ ، وَقَامَ
مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللّهَ ويستنصرونه عَلَى أَبْرَهَةَ
وَجُنْدِهِ فَقَالَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ
:
لَا هُمّ إنّ الْعَبْدَ يَمْ ... نَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حَلَالَك
لَا يَغْلِبَن صَلِيبَهُمْ ... وَمِحَالُهُمْ غَدْوًا مَحَالُك
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا مَا صَحّ لَهُ مِنْهَا .
شَاعِرٌ يَدْعُو عَلَى الْأَسْوَدِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ
مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ :
لَا هُمّ أَخْزِ الْأَسْوَدَ بْنَ مَقْصُودٍ ... الْآخِذَ الْهَجْمَةِ فِيهَا
التّقْلِيدُ
بَيْنَ حِرَاءَ وثَبِيرٍ فَالْبِيدُ ... يَحْبِسُهَا وَهِيَ أُولَاتُ التّطْرِيدِ
فَضَمّهَا إلَى طَمَاطِمٍ سُود ... أَخْفِرْهُ يَا رَبّ وَأَنْتَ مَحْمُودُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا مَا صَحّ لَهُ مِنْهَا ، وَالطّمَاطِمُ الْأَعْلَاجُ
. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَرْسَلَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ حَلْقَةَ بَابِ
الْكَعْبَةِ ، وَانْطَلَقَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى شَعَفِ
الْجِبَالِ فَتَحَرّزُوا فِيهَا يَنْتَظِرُونَ مَا أَبْرَهَةُ فَاعِلٌ بِمَكّةَ
إذَا دَخَلَهَا .S[ ص 122 ] وَذَكَرَ قَوْلَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ :
لَا هُمّ إنّ الْمَرْءَ يَمْ ... نَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَك
الْعَرَبُ تَحْذِفُ الْأَلِفَ وَاللّامَ مِنْ اللّهُمّ وَتَكْتَفِي بِمَا بَقِيَ
وَكَذَلِكَ تَقُولُ لَاهٍ أَبُوك تُرِيدُ لِلّهِ أَبُوك ، وَقَدْ تَقَدّمَ قَوْلُ
مَنْ قَالَ فِي لِهَنّكَ [ أَوْ لَهِنّك ] ، وَأَنّ الْمَعْنَى : وَاَللّهِ إنّك ،
وَهَذَا لِكَثْرَةِ دَوْرِ هَذَا الِاسْمِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَقَدْ قَالُوا
فِيمَا هُوَ دُونَهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَجِنّك تَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا . أي
مِنْ أجل أَنّك تَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا وَالْحَلَالُ فِي هَذَا الْبَيْتِ
الْقَوْمُ الْحُلُولُ فِي الْمَكَانِ وَالْحَلَالُ مَرْكَبٌ مِنْ مَرَاكِبِ
النّسَاءِ . قَالَ الشّاعِرُ بِغَيْرِ حِلَالٍ غَادَرَتْهُ مُجَحْفَلِ
وَالْحِلَالُ أَيْضًا : مَتَاعُ الْبَيْتِ وَجَائِزٌ أَنْ يَسْتَعِيرَهُ هَهُنَا ،
وَفِي الرّجَزِ بَيْتٌ ثَالِثٌ لَمْ يَقَعْ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ
وَانَصْر عَلَى آلِ الصّلِيبِ ... وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَك
وَفِيهِ حُجّةٌ عَلَى النّحّاسِ وَالزّبَيْدِيّ حَيْثُ زَعَمَا ، وَمَنْ قَالَ
بِقَوْلِهِمَا أَنّهُ لَا يُقَالُ اللّهُمّ صَلّ عَلَى مُحَمّدٍ وَعَلَى آلَهُ
لِأَنّ الْمُضْمَرَ يَرُدّ الْمُعْتَلّ إلَى أَصْلِهِ وَأَصْلُهُ أَهْلٌ فَلَا
يُقَالُ إلّا : وَعَلَى أَهْلِهِ وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَتَمَ النّحّاسُ
كِتَابَهُ الْكَافِي . وَقَوْلُهُمَا خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ وَغَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي
[ ص 123 ] قِيَاسٍ وَلَا سَمَاعٍ وَمَا وَجَدْنَا قَطّ مُضْمَرًا يَرُدّ مُعْتَلّا
إلَى أَصْلِهِ إلّا قَوْلُهُمْ أَعْطَيْتُكُمُوهُ بِرَدّ الْوَاوِ وَلَيْسَ هُوَ
مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدَرٍ وَلَا نَقُولُ أَيْضًا : إنّ آلًا
أَصْلُهُ أَهْلٌ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَلَا نَقُولُ إنّ أُهَيْلًا تَصْغِيرُ
آلٍ كَمَا ظَنّ بَعْضُهُمْ وَلِتَوْجِيهِ الْحِجَاجِ عَلَيْهِمْ مَوْضِعٌ غَيْرُ
هَذَا ، وَفِي الْكَامِلِ مِنْ قَوْلِ الْكِتَابِيّ لِمُعَاوِيَةَ حِينَ ذَكَرَ
عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ آلِك ، وَلَيْسَ مِنْك . وَقَوْلُ عِكْرِمَةَ بْنِ عَامِرٍ
: الْآخِذُ الْهَجْمَةَ فِيهَا التّقْلِيدُ الْهَجْمَةُ هِيَ مَا بَيْنَ
التّسْعِينَ إلَى الْمِائَةِ وَالْمِائَةُ مِنْهَا : هُنَيْدَةٌ وَالْمِائَتَانِ
هِنْدٌ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ والثلاثمائة أُمَامَةُ وَأَنْشَدُوا : تَبَيّنْ
رُوَيْدًا مَا أُمَامَةُ مِنْ هِنْد ِ وَكَأَنّ اشْتِقَاقَ الْهَجْمَةِ مِنْ
الْهَجِيمَةِ وَهُوَ الثّخِينُ مِنْ اللّبَنِ لِأَنّهُ لَمّا كَثُرَ لَبَنُهَا
لِكَثْرَتِهَا ، لَمْ يُمْزَجْ بِمَاءِ وَشُرِبَ صِرْفًا ثَخِينًا ، وَيُقَالُ
لِلْقَدَحِ الّذِي يُحْلَبُ فِيهِ إذَا كَانَ كَبِيرًا : هَجْمٌ .
أَبْرَهَةُ
وَالْفِيلُ وَالْكَعْبَةُ
فَلَمّا [ ص 124 ] أَصْبَحَ أَبْرَهَةُ تَهَيّأَ لِدُخُولِ مَكّةَ ، وَهَيّأَ
فِيلَهُ وَعَبّى جَيْشَهُ - وَكَانَ اسْمُ الْفِيلِ مَحْمُودًا - وَأَبْرَهَةُ
مُجْمِعٌ لِهَدْمِ الْبَيْتِ ثُمّ الِانْصِرَافِ إلَى الْيَمَنِ . فَلَمّا
وَجّهُوا الْفِيلَ إلَى مَكّةَ ، أَقْبَلَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ حَتّى قَامَ إلَى
جَنْبِ الْفِيلِ ثُمّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ فَقَالَ اُبْرُكْ مَحْمُودُ أَوْ ارْجِعْ
رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْت ، فَإِنّك فِي بَلَدِ اللّهِ الْحَرَامِ ثُمّ أَرْسَلَ
أُذُنَهُ . فَبَرَكَ الْفِيلُ وَخَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ يَشْتَدّ حَتّى أُصْعِدَ
فِي الْجَبَلِ وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى ، فَضَرَبُوا فِي رَأْسِهِ
بِالطّبَرْزِينِ لِيَقُومَ فَأَبَى ، فَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ لَهُمْ فِي مَرَاقّهِ
فَبَزَغُوهُ بِهَا لِيَقُومَ فَأَبَى ، فَوَجّهُوهُ رَاجِعًا إلَى الْيَمَنِ
فَقَامَ يُهَرْوِلُ وَوَجّهُوهُ إلَى الشّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَوَجّهُوهُ
إلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَوَجّهُوهُ إلَى مَكّةَ فَبَرَكَ
فَأَرْسَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنْ الْبَحْرِ أَمْثَالَ
الْخَطَاطِيفِ وَالْبَلَسَانِ مَعَ كُلّ طَائِرٍ مَعَهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ
يَحْمِلُهَا : حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ أَمْثَالُ
الْحِمّصِ وَالْعَدَسِ لَا تُصِيبُ مِنْهُمْ أَحَدًا إلّا هَلَكَ وَلَيْسَ
كُلّهُمْ أَصَابَتْ وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطّرِيقَ الّذِي مِنْهُ
جَاءُوا ، وَيَسْأَلُونَ عَنْ نُفَيْلِ بْنِ حَبِيبٍ لِيَدُلّهُمْ عَلَى الطّرِيقِ
إلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ نُفَيْلٌ حِينَ رَأَى مَا أَنَزَلَ اللّهُ بِهِمْ مِنْ
نِقْمَتِهِ
أَيْنَ الْمَفَرّ وَالْإِلَهُ الطّالِبُ ... وَالْأَشْرَمُ الْمَغْلُوبُ لَيْسَ
الْغَالِبُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " لَيْسَ الْغَالِبُ " عَنْ غَيْرِ
ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ نُفَيْلٌ أَيْضًا :
أَلَا حُيّيت عَنّا يَا رُدَيْنَا ... نَعِمْنَاكُمْ مَعَ الْإِصْبَاحِ عَيْنَا
رُدَيْنَةُ لَوْ رَأَيْت - وَلَا تَرَيْهِ ... لَذِي جَنْبِ الْمُحَصّبِ مَا
رَأَيْنَا
إذًا لَعَذَرْتنِي وَحَمِدْت أَمْرِي ... وَلَمْ تَأْسَى عَلَى مَا فَاتَ بَيْنَا
حَمِدْت اللّهَ إذْ أَبْصَرْت طَيْرًا ... وَخِفْت حِجَارَةً تُلْقَى عَلَيْنَا
وَكُلّ الْقَوْمِ يَسْأَلُ عَنْ نُفَيْلٍ ... كَأَنّ عَلَيّ لِلْحُبْشَانِ دَيْنَا
[ ص 125 ] مَهْلِك عَلَى كُلّ مَنْهَلٍ وَأُصِيبَ أَبْرَهَةُ فِي جَسَدِهِ
وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ يَسْقُطُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً كَلَمّا سَقَطَتْ
أُنْمُلَةٌ أَتّبَعَتْهَا مِنْهُ مِدّةٌ تَمُثّ قَيْحًا وَدَمًا ، حَتّى قَدِمُوا
بِهِ صَنْعَاءَ وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطّائِرِ فَمَا مَاتَ حَتّى انْصَدَعَ
صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ فِيمَا يَزْعُمُونَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي
يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ أَنّهُ حَدّثَ أَنّ أَوّلَ مَا رُئِيَتْ الْحَصْبَةُ
وَالْجُدَرِيّ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ذَلِكَ الْعَامَ وَأَنّهُ أَوّلُ مَا رُئِيَ
بِهَا مَرَائِرُ الشّجَرِ الْحَرْمَلُ وَالْحَنْظَلُ وَالْعُشَرُ ذَلِكَ الْعَامَ
.Sفِي
حَدِيثِ الْفِيلِ
[ ص 124 ] أَخْفِرْهُ يَا رَبّ . أَيْ اُنْقُضْ عَزْمَهُ وَعَهْدَهُ فَلَا
تُؤَمّنْهُ يُقَالُ أَخَفَرْت الرّجُلَ إذَا نَقَضْت عَهْدَهُ وَخَفَرْته
أَخْفِرُهُ إذَا أَجَرْته ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُضْبَطَ هَذَا إلّا بِقَطْعِ
الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا ، لِئَلّا يَصِيرَ الدّعَاءُ عَلَيْهِ دُعَاءً لَهُ .
وَقَوْلُهُ إلَى طَمَاطِمِ سُودٍ . يَعْنِي : الْعُلُوجَ . وَيُقَالُ لِكُلّ
أَعْجَمِيّ طُمْطُمَانِيّ وَطُمْطُمٌ وَيُذْكَرُ عَنْ الْأَخْفَشِ طَمْطَمُ
بِفَتْحِ الطّاءِ . [ ص 125 ] وَقَوْلُهُ عَبّى جَيْشَهُ . يُقَالُ عَبّيْت
الْجَيْشَ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ وَعَبّأَتْ الْمَتَاعَ بِالْهَمْزِ وَقَدْ حُكِيَ
عَبَأْت الْجَيْشَ بِالْهَمْزِ وَهُوَ قَلِيلٌ . [ ص 126 ] وَقَوْلُهُ فَبَرَكَ
الْفِيلُ . فِيهِ نَظَرٌ لِأَنّ الْفِيلَ لَا يَبْرُكُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
بُرُوكُهُ سُقُوطَهُ إلَى الْأَرْضِ لِمَا جَاءَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ سُبْحَانَهُ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ فِعْلَ الْبَارِكِ الّذِي يَلْزَمُ مَوْضِعَهُ
وَلَا يَبْرَحُ فَعَبَرَ بِالْبُرُوكِ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ سَمِعْت مَنْ يَقُولُ
إنّ فِي الْفِيَلَةِ صِنْفًا مِنْهَا يَبْرُكُ كَمَا يَبْرُكُ الْجَمَلُ فَإِنْ
صَحّ وَإِلّا فَتَأْوِيلُهُ مَا قَدّمْنَاهُ . وَالْأَسْوَدُ بْنُ مَقْصُودٍ
صَاحِبُ الْفِيلِ هُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ مَقْصُودِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُنَبّهِ
بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِلّةَ
وَيُقَالُ فِيهِ عُلَهْ عَلَى وَزْنِ عُمَرَ ابْنُ خَالِدِ بْنِ مَذْجِجَ وَكَانَ
الْأَسْوَدُ قَدْ بَعَثَهُ النّجَاشِيّ مَعَ الْفِيَلَةِ وَالْجَيْشِ وَكَانَتْ
الْفِيَلَةُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فِيلًا ، فَهَلَكَتْ كُلّهَا إلّا مَحْمُودًا ،
وَهُوَ فِيلُ النّجَاشِيّ ؛ مِنْ أَجْلِ أَنّهُ أَبَى مِنْ التّوَجّهِ إلَى
الْحَرَمِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَنُفَيْلٌ الّذِي ذَكَرَهُ هُوَ نُفَيْلُ بْنُ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُزْءِ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ وَاهِبِ بْنِ جَلِيحَةَ
بْنِ أَكْلُبَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عِفْرِسِ بْنِ جِلْفِ بْنِ أَفْتَلَ وَهُوَ
خَثْعَمُ . كَذَلِكَ نَسَبَهُ الْبَرْقِيّ . وَفِي الْكِتَابِ نُفَيْلُ بْنُ
حَبِيبٍ وَنُفَيْلٌ مِنْ الْمُسَمّينَ بِالنّبَاتِ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ هُوَ تَصْغِيرُ نَفَلٍ وَهُوَ نَبْت مُسْلَنْطِحٌ عَلَى الْأَرْضِ .
وَذَكَرَ النّقّاشُ أَنّ الطّيْرَ كَانَتْ أَنْيَابُهَا كَأَنْيَابِ السّبُعِ
وَأَكُفّهَا كَأَكُفّ الْكِلَابِ وَذَكَرَ الْبَرْقِيّ أَنّ ابْنَ عَبّاسٍ قَالَ
أَصْغَرُ الْحِجَارَةِ كَرَأْسِ الْإِنْسَانِ وَكِبَارُهَا كَالْإِبِلِ وَهَذَا
الّذِي ذَكَرَهُ الْبَرْقِيّ ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ
عَنْهُ . وَفِي تَفْسِيرِ النّقّاشِ أَنّ السّيْلَ احْتَمَلَ جُثَثَهُمْ [ ص 127 ]
فَأَلْقَاهَا فِي الْبَحْرِ وَكَانَتْ قِصّةُ الْفِيلِ أَوّلَ الْمُحَرّمِ مِنْ
سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ مِنْ تَارِيخِ ذِي
الْقَرْنَيْنِ . وَقَوْلُهُ فَضَرَبُوا رَأْسَهُ بِالطّبْرَزِينِ هَكَذَا تُقَيّدُ
فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ بِسُكُونِ الْبَاءِ وَذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ
فِي الْمُعْجَمِ وَأَنّ الْأَصْلَ فِيهِ طَبَرْزِينُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَقَالَ
طَبَرٌ هُوَ الْفَأْسُ وَذَكَرَ طَبَرَسْتَانَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَقَالَ
مَعْنَاهُ شَجَرٌ قُطِعَ بِفَأْسِ لِأَنّهَا قَبْلَ أَنْ تُبْنَى كَانَتْ
شَجْرَاءَ فَقُطِعَتْ وَلَمْ يَقُلْ فِي طَبَرِيّةَ مِثْلُ هَذَا . قَالَ
وَلَكِنّهَا نُسِبَتْ إلَى طَبَارَاءَ وَهُوَ اسْمُ الْمَلِكِ الّذِي بَنَاهَا ،
وَقَدْ أَلْفَيْته فِي شِعْرٍ قَدِيمٍ طَبَرْزِينُ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - كَمَا
قَالَ الْبَكْرِيّ ، وَجَائِزٌ فِي طَبَرْزِينَ - وَإِنْ كَانَ مَا ذُكِرَ أَنْ
تُسَكّنَ الْبَاءُ - لِأَنّ الْعَرَبَ تَتَلَاعَبُ بِالْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيّةِ
تَلَاعُبًا لَا يُقِرّهَا عَلَى حَالٍ . قَالَهُ ابْنُ جِنّيّ . وَقَوْلُهُ
فَبَزَغُوهُ أَيْ أَدْمَوْهُ وَمِنْهُ سُمّيَ الْمِبْزَغُ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ
عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ الْفِيلَ رَبَضَ فَجَعَلُوا يَقْسِمُونَ بِاَللّهِ
أَنّهُمْ رَادّوهُ إلَى الْيَمَنِ ، فَحَرّكَ لَهُمْ أُذُنَيْهِ كَأَنّهُ يَأْخُذُ
عَلَيْهِمْ عَهْدًا بِذَلِكَ فَإِذَا أَقْسَمُوا لَهُ قَامَ يُهَرْوِلُ
فَيَرُدّونَهُ إلَى مَكّةَ ، فَيَرْبِضُ فَيَحْلِفُونَ لَهُ فَيُحَرّكُ لَهُمْ
أُذُنَيْهِ كَالْمُؤَكّدِ عَلَيْهِمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ مِرَارًا . وَقَوْلُهُ
أَمْثَالُ الْحِمّصِ وَالْعَدَسِ يُقَالُ حِمّصٌ ، وَحِمّصٌ ، كَمَا يُقَالُ
جِلّقٌ وَجِلّقٍ قَالَهُ الزّبَيْدِيّ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو حَنِيفَةَ فِي
الْحِمّصِ إلّا الْفَتْحَ وَلَيْسَ لَهُمَا نَظِيرٌ فِي الْأَبْنِيَةِ إلّا
الْحِلّزَةُ وَهُوَ الْقَصِيرُ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ الْحِلّزُ الْبَخِيلُ
بِتَشْدِيدِ الزّاي ، وَصَوّبَ الْقَالِي هَذِهِ الرّوَايَةَ فِي الْغَرِيبِ
الْمُصَنّفِ لِأَنّ فِعْلًا بِالتّشْدِيدِ لَيْسَ مِنْ الصّفَاتِ عِنْدَ
سِيبَوَيْهِ . وَيَعْنِي بِمُمَاثَلَةِ الْحِجَارَةِ لِلْحِمّصِ أَنّهَا عَلَى
شَكْلِهَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - لِأَنّهُ قَدْ رُوِيَ أَنّهَا كَانَتْ ضِخَامًا
تَكْسِرُ الرّءُوسَ وَرُوِيَ أَنّ مَخَالِبَ الطّيْرِ كَانَتْ كَأَكُفّ الْكِلَابِ
- وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ قَالَ
جَاءَتْهُمْ طَيْرٌ مِنْ الْبَحْرِ كَرِجَالِ الْهِنْدِ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى
عَنْهُ أَنّهُمْ اسْتَشْعَرُوا الْعَذَابَ فِي لَيْلَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ
لِأَنّهُمْ نَظَرُوا إلَى النّجُومِ كَالِحَةً إلَيْهِمْ تَكَادُ تُكَلّمُهُمْ
مِنْ اقْتِرَابِهَا مِنْهُمْ فَفَزِعُوا لِذَلِكَ . وَقَوْلُ نُفَيْلٍ وَلَمْ
تَأْسَى عَلَى مَا فَاتَ بَيْنَا نَصَبَ بَيْنًا نَصْبَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكّدِ
لِمَا قَبْلَهُ إذْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى لَفْظِهِ لِأَنّ
فَاتَ مَعْنَى : فَارَقَ وَبَانَ كَأَنّهُ قَالَ عَلَى مَا فَاتَ فَوْتًا ، أَوْ
بَانَ بَيْنًا ، وَلَا يَصِحّ لِأَنْ يَكُونَ [ ص 128 ] أَجْلِهِ يَعْمَلُ فِيهِ
تَأَسّى ، لِأَنّ الْأَسَى بَاطِنٌ فِي الْقَلْبِ وَالْبَيْنُ ظَاهِرٌ وَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مِنْ أَجْلِهِ إلّا بِعَكْسِ هَذَا . تَقُولُ
بَكَى أَسَفًا ، وَخَرَجَ خَوْفًا ، وَانْطَلَقَ حِرْصًا عَلَى كَذَا ، وَلَوْ
عَكَسْت الْكَلَامَ كَانَ خَلَفًا مِنْ الْقَوْلِ وَهَذَا أَحَدُ شُرُوطِ
الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ وَلَعَلّ لَهُ مَوْضِعًا مِنْ الْكِتَابِ فَنَذْكُرُهُ
فِيهِ . وَقَوْلُهُ نَعِمْنَاكُمْ مَعَ الْإِصْبَاحِ عَيْنًا : دُعَاءٌ أَيْ
نَعِمْنَا بِكُمْ فَعَدّى الْفِعْلَ لَمّا حَذَفَ حَرْفَ الْجَرّ وَهَذَا كَمَا
تَقُولُ أَنْعَمَ اللّهُ بِك عَيْنًا . وَقَوْلُهُ فِي أَوّلِ الْبَيْتِ أَلَا
حُيّيت عَنّا يَا رُدَيْنَا . هُوَ اسْمُ امْرَأَةٍ كَأَنّهَا سُمّيَتْ
بِتَصْغِيرِ رُدْنَةَ وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْ الرّدَنِ وَهُوَ الْحَرِيرُ .
وَيُقَالُ لِمُقَدّمِ الْكُمّ رُدْنٌ وَلَكِنّهُ مُذَكّرٌ وَأَمّا دُرَيْنَةُ
بِتَقْدِيمِ الدّالِ عَلَى الرّاءِ فَهُوَ اسْمٌ لِلْأَحْمَقِ قَالَهُ الْخَلِيلُ
. وَقَوْلُهُ فِي خَبَرِ أَبْرَهَةَ تَبِعَتْهَا مِدّةٌ تَمُثّ قَيْحًا وَدَمًا .
أَلْفَيْته فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ تَمُثّ ، وَتَمِثّ بِالضّمّ وَالْكَسْرِ .
فَعَلَى رِوَايَةِ الضّمّ يَكُونُ الْفِعْلُ مُتَعَدّيًا ، وَنَصَبَ قَيْحًا عَلَى
الْمَفْعُولِ وَعَلَى رِوَايَةِ الْكَسْرِ يَكُونُ غَيْرَ مُتَعَدّ وَنَصَبَ
قَيْحًا عَلَى التّمْيِيزِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ وَهُوَ عِنْدَنَا عَلَى
الْحَالِ وَهُوَ مِنْ بَابِ تَصَبّبَ عَرَقًا ، وَتَفَقّأَ شَحْمًا ، وَكَذَلِكَ
كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا أَبُو الْحُسَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا ، وَقَدْ أَفْصَحَ
سِيبَوَيْهِ فِي لَفْظِ الْحَالِ فِي : ذَهَبْنَ كَلَاكِلًا وَصُدُورًا .
وَأَشْرَقَ كَاهِلًا ، وَهَذَا مِثْلُهُ وَلِكَشْفِ الْقِنَاعِ عَنْ حَقِيقَةِ
هَذَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا وَإِنّمَا قُلْنَا : إنّ مَنْ رَوَاهُ تَمُثّ بِضَمّ
الْمِيمِ فَهُوَ مُتَعَدّ كَأَنّهُ مُضَاعَفٌ وَالْمُضَاعَفُ إذَا كَانَ
مُتَعَدّيًا كَانَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَضْمُومًا نَحْوَ رَدّهُ يَرُدّهُ إلّا
مَا شَذّ مِنْهُ نَحْوَ عَلّ يَعُلّ وَيَعِلّ ، وَهَرّ الْكَأْسُ يَهُرّ وَيَهِرّ
، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَعَدّ كَانَ مَكْسُورًا فِي الْمُسْتَقْبِلِ نَحْوَ
خَفّ يَخِفّ ، وَفَرّ يَفِرّ إلّا سِتّةَ أَفْعَالٍ جَاءَتْ فِيهَا اللّغَتَانِ
جَمِيعًا ، وَهِيَ فِي أَدَبِ الْكَاتِبِ وَغَيْرِهِ فَغُنِينَا بِذَلِكَ عَنْ
ذِكْرِهَا . عَلَى أَنّهُمْ قَدْ أَغْفَلُوا : هَبّ يَهُبّ وَخَبّ يَخُبّ وَأَجّ
يَؤُجّ إذَا أَسْرَعَ وَشَكّ فِي الْأَمْرِ يَشُكّ ، وَمَعْنَى تَمُثّ قَيْحًا :
أَيْ تَسِيلُ يُقَالُ فُلَانٌ يَمُثّ كَمَا يَمُثّ الزّقّ . وَقَوْلُهُ يَسْقُطُ
أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً أَيْ يَنْتَثِرُ جِسْمُهُ وَالْأُنْمُلَةُ طَرَفُ
الْأُصْبُعِ وَلَكِنْ قَدْ يُعَبّرُ بِهَا عَنْ طَرَفٍ غَيْرِ الْأُصْبُعِ
وَالْجُزْءُ الصّغِيرُ . فَفِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ رَسُولِ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إنّ فِي الشّجَرَةِ شَجَرَةً هِيَ
مِثْلُ الْمُؤْمِنِ لَا تَسْقُطُ لَهَا أُنْمُلَةٌ . ثُمّ قَالَ هِيَ النّخْلَةُ
وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ لَا تَسْقُطُ لَهُ دَعْوَة [ ص 129 ] وَقَوْلُهُ مَرَائِرُ
الشّجَرِ يُقَالُ شَجَرَةٌ مُرّةٌ ثُمّ تُجْمَعُ عَلَى مَرَائِرَ كَمَا تُجْمَعُ
حُرّةٌ عَلَى حَرَائِرَ وَلَا تُعْرَفُ فِعْلَةٌ تُجْمَعُ عَلَى فَعَائِلَ إلّا
فِي هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ وَقِيَاسُ جَمْعِهِمَا فُعَلٌ نَحْوَ دُرّةٌ وَدُرَرٌ
وَلَكِنّ الْحُرّةَ مِنْ النّسَاءِ فِي مَعْنَى : الْكَرِيمَةِ وَالْعَقِيلَةِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ فَأَجْرَوْهَا مَجْرَى مَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا مِنْ الْفَعِيلَةِ
وَكَذَلِكَ الْمُرّ قِيَاسُهُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ مَرِيرٌ لِأَنّ الْمَرَارَةَ فِي
الشّيْءِ طَبِيعَةٌ فَقِيَاسُ فِعْلِهِ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ كَمَا تَقُولُ عَذُبَ
الشّيْءُ وَقَبُحَ . وَعَسِرُ إذَا صَارَ عَسِيرًا ، وَإِذَا كَانَ قِيَاسُهُ
فَعُلَ فَقِيَاسُ الصّفَةِ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ عَلَى فَعِيلٍ وَالْأُنْثَى :
فَعَيْلَةٌ وَالشّيْءُ الْمُرّ عَسِيرٌ أَكْلُهُ شَدِيدٌ فَأَجْرَوْا الْجَمْعَ
مَجْرَى هَذِهِ الصّفَاتِ الّتِي هِيَ عَلَى فَعِيلٍ لِأَنّهَا طِبَاعٌ وَخِصَالٌ
وَأَفْعَالُ الطّبَاعِ وَالْخِصَالِ كُلّهَا تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى . وَذَكَرَ
الْعُشَرَ . وَهُوَ شَجَرٌ مُرّ يَحْمِلُ ثَمَرًا كَالْأُتْرُجّ وَلَيْسَ فِيهِ
مُنْتَفَعٌ وَلَبَنُ الْعُشَرِ تُعَالَجُ بِهِ الْجُلُودُ قَبْلَ أَنْ تُجْعَلَ
فِي الْمَنِيئَةِ وَهِيَ الْمَدْبَغَةُ كَمَا تُعَالَجُ بِالْغَلْقَةِ وَهِيَ
شَجَرَةٌ وَفِي الْعُشَرِ الْخُرْفُعُ وَالْخِرْفِعُ وَهُوَ شَبَهُ الْقُطْنِ
وَيُجْنَى مِنْ الْعُشَرِ الْمَغَافِيرُ وَاحِدُهَا : مُغْفُورٌ وَمَغَافِرُ
وَوَاحِدُهَا : مِغْفَرٌ وَيُقَالُ لَهَا : سُكّرُ الْعُشَرِ وَلَا تَكُونُ
الْمَغَافِيرُ إلّا فِيهِ وَفِي الرّمْثِ وَفِي الثّمَامِ وَالثّمَامُ أَكْثَرُهَا
لَثًى ، وَفِي الْمِثْلِ هَذَا الْجَنَى لَا أَنْ يُكَدّ الْمِغْفَرُ مِنْ كِتَابِ
أَبِي حَنِيفَةَ .
قِصّةُ
الْفِيلِ فِي الْقُرْآنِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا بَعَثَ اللّهُ تَعَالَى مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ مِمّا يَعُدّ اللّهُ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ نِعْمَتِهِ
عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِ مَا رَدّ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ لِبَقَاءِ
أَمْرِهِمْ وَمُدّتِهِمْ فَقَالَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ
كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي
تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ
سِجّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } . وَقَالَ { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ
إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشّتَاءِ وَالصّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذَا الْبَيْتِ
الّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } . أَيْ لِئَلّا
يُغَيّرَ شَيْئًا مِنْ حَالِهِمْ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ، لِمَا أَرَادَ اللّهُ
بِهِمْ مِنْ الْخَيْرِ لَوْ قَبِلُوهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْأَبَابِيلُ
الْجَمَاعَاتُ وَلَمْ تَتَكَلّمْ لَهَا الْعَرَبُ بِوَاحِدِ عَلِمْنَاهُ وَأَمّا
السّجّيلُ فَأَخْبَرَنِي يُونُسُ النّحْوِيّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنّهُ عِنْدَ
الْعَرَبِ : الشّدِيدُ الصّلْبُ قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ :
وَمَسّهُمْ مَا مَسّ أَصْحَابَ الْفِيلِ ... تَرْمِيهِمْ حِجَارٌ مِنْ سِجّيلْ
وَلُعّبَتْ طَيْرٌ بِهِمْ أَبَابِيلْ وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ
. ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسّرِينَ أَنّهُمَا كَلِمَتَانِ بِالْفَارِسِيّةِ
جَعَلَتْهُمَا الْعَرَبُ كَلِمَةً وَاحِدَةً وَإِنّمَا هُوَ سِنْجٌ وَجِلّ يَعْنِي
بِالسّنْجِ الْحَجَرَ ، وَبِالْجِلّ الطّينَ يَعْنِي : الْحِجَارَةَ مِنْ هَذَيْنِ
الْجِنْسَيْنِ الْحَجَرِ وَالطّينِ . وَالْعَصْفُ وَرَقُ الزّرْعِ الّذِي [ ص 126
] لَمْ يُعْصَفْ وَوَاحِدَتُهُ عَصْفَةٌ . قَالَ وَأَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ
النّحْوِيّ أَنّهُ يُقَالُ لَهُ الْعُصَافَةُ وَالْعَصِيفَةُ . وَأَنْشَدَنِي
لِعَلْقَمَةَ بْنِ عَبَدَةَ أَحَدِ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ
مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ :
تَسْقَى مَذَانِبَ قَدْ مَالَتْ عَصِيفَتُهَا ... جَدُورُهَا مِنْ أَتِيّ الْمَاءِ
مَطْمُومُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ الرّاجِزُ فَصُيّرُوا مِثْلَ
كَعَصْفِ مَأْكُولٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلِهَذَا الْبَيْتِ تَفْسِيرٌ فِي
النّحْوِ . [ ص 127 ] [ ص 128 ] [ ص 129 ]Sوَذَكَرَ
ابْنُ هِشَامٍ : الْأَبَابِيلَ وَقَالَ لَمْ يُسْمَعْ لَهَا بِوَاحِدِ وَقَالَ
غَيْرُهُ وَاحِدُهَا : إبّالُهُ وَإِبّوْلٌ وَزَادَ ابْنُ عَزِيزٍ وَإِبّيلٌ
وَأَنْشَدَ ابْنُ هِشَامٍ لِرُؤْبَةَ وَصُيّرُوا مِثْلَ كَعَصْفِ مَأْكُولٍ
وَقَالَ وَلِهَذَا الْبَيْتِ تَفْسِيرٌ فِي النّحْوِ وَتَفْسِيرُهُ أَنّ الْكَافَ
تَكُونُ حَرْفَ جَرّ وَتَكُونُ اسْمًا بِمَعْنَى : مِثْلُ وَيَدُلّك أَنّهَا
حَرْفٌ وُقُوعُهَا صِلَةً لِلّذِي ؛ لِأَنّك تَقُولُ رَأَيْت الّذِي كَزَيْدِ
وَلَوْ قُلْت : الّذِي مِثْلُ زَيْدٍ لَمْ يُحْسِنْ وَيَدُلّك أَنّهَا تَكُونُ
اسْمًا دُخُولُ حَرْفِ الْجَرّ عَلَيْهَا ، كَقَوْلِهِ وَرُحْنَا بِكَابْنِ
الْمَاءِ يَنْفُضُ رَأْسَهُ . وَدُخُولُ الْكَافِ عَلَيْهَا ، وَأَنْشَدُوا :
وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفَيْنِ [ أَوْ يُؤْثَفَيْنِ ] . وَإِذَا دَخَلَتْ
عَلَى مِثْلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشّورَى : 11
] فَهِيَ إذًا حَرْفٌ إذْ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ مِثْلُ مِثْلِهِ
وَكَذَلِكَ هِيَ حَرْفُ فِي [ ص 130 ] تُعْطِي بِنَفْسِهَا مَعْنَى الْإِضَافَةِ
فَلَمْ تُغَيّرْ مَعْنَاهَا ، وَكَذَلِكَ الْكَافُ تُعْطِي مَعْنَى التّشْبِيهِ
فَأُقْحِمَتْ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ غَيْرَ أَنّ دُخُولَ مِثْلٍ
عَلَيْهَا كَمَا فِي بَيْتِ رُؤْبَةَ قَبِيحٌ وَدُخُولُهَا عَلَى مِثْلٍ كَمَا فِي
الْقُرْآنِ أَحْسَنُ شَيْءٍ لِأَنّهَا حَرْفُ جَرّ تَعْمَلُ فِي الِاسْمِ
وَالِاسْمُ لَا يَعْمَلُ فِيهَا ، فَلَا يَتَقَدّمُ عَلَيْهَا إلّا أَنْ
يُقْحِمَهَا كَمَا أُقْحِمَتْ اللّامُ . وَأَنْشَدَ شَاهِدًا عَلَى الْعَصِيفَةِ
قَوْلَ عَلْقَمَةَ وَآخِرَهُ جَدُورُهَا مِنْ أَتِيّ الْمَاءِ مَطْمُومِ . وَهَذَا
الْبَيْتُ أَنْشَدَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النّبَاتِ جُدُورُهَا : هُوَ جَمْعُ
جَدْرٍ بِالْجِيمِ وَهِيَ الْحَوَاجِزُ الّتِي تَحْبِسُ الْمَاءَ وَيُقَالُ
لِلْجَدْرِ حُبّاسٌ أَيْضًا : وَفِي الْحَدِيثِ " أَمْسِكْ الْمَاءَ حَتّى
يَبْلُغَ الْجَدْرَ ثُمّ أَرْسِلْهُ " . وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ رِوَايَةَ
الْجِيمِ وَقَالَ إنّمَا قَالَ جُدُورُهَا مِنْ أَتِيّ الْمَاءِ مَطْمُومُ .
وَأَفْرَدَ الْخَبَرَ ، لِأَنّهُ رَدّهُ عَلَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَدْرِ كَمَا
قَالَ الْآخَرُ تَرَى جَوَانِبَهَا بِالشّحْمِ مَفْتُوقَا أَيْ تَرَى كُلّ جَانِبٍ
فِيهَا .
فَصْلٌ
وَيُقَالُ لِلْعَصِيفَةِ أَيْضًا : أَذَنَةٌ وَلَمّا تُحِيطُ بِهِ الْجُدُورُ
الّتِي تُمْسِكُ الْمَاءَ دَبْرَةَ وَحِبْسَ وَمَشَارَةَ وَلِمَفْتَحِ الْمَاءِ
مِنْهَا : آغِيَةٌ بِالتّخْفِيفِ وَالتّثْقِيلِ [ أَوْ أُتِيّ ] .
[
ص 130 ] وَإِيلَافُ قُرَيْشٍ : إيلَافُهُمْ الْخُرُوجُ إلَى الشّامِ فِي
تِجَارَتِهِمْ وَكَانَتْ لَهُمْ خَرْجَتَانِ خَرْجَةٌ فِي الشّتَاءِ وَخَرْجَةٌ
فِي الصّيْفِ . أَخْبَرَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ : أَنّ الْعَرَبَ تَقُولُ
أَلِفْت الشّيْءَ إلْفًا ، وَآلَفْتُهُ إيلَافًا ، فِي مَعْنًى وَاحِدٍ
وَأَنْشَدَنِي لِذِي الرّمّةِ
مِنْ الْمُؤْلِفَاتِ الرّمْلَ أَدْمَاءُ حُرّةٍ ... شُعَاعُ الضّحَى فِي لَوْنِهَا
يَتَوَضّحُ
[ ص 131 ] قَصِيدَةٍ لَهُ وَقَالَ مَطْرُودُ بْنُ كَعْبٍ الْخُزَاعِيّ :
الْمُنْعِمِينَ إذَا النّجُومُ تَغَيّرَتْ ... وَالظّاعِنِينَ لِرِحْلَةِ
الْإِيلَافِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ
اللّهُ تَعَالَى . وَالْإِيلَافُ أَيْضًا : أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ أَلْفٌ
مِنْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . يُقَالَ آلَفَ
فُلَانٌ إيلَافًا . قَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ ، أَحَدُ بَنِي أَسَدِ بْنِ
خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ مَعَدّ
بِعَامِ يَقُولُ لَهُ الْمُؤْلِفُو ... نَ هَذَا الْمُعِيمَ لَنَا الْمُرْجِلُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْإِيلَافُ أَيْضًا : أَنْ يَصِيرَ
الْقَوْمُ أَلْفًا ، يُقَالُ آلَفَ الْقَوْمَ إيلَافًا . قَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ
زَيْدٍ : [ ص 132 ]
وَآلُ مُزَيْقِيَاءَ غَدَاةَ لَاقَوْا ... بَنِي سَعْدِ بْنِ ضَبّةَ مُؤْلِفِينَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْإِيلَافُ أَيْضًا : أَنْ تُؤَلّفَ
الشّيْءَ إلَى الشّيْءِ فَيَأْلَفَهُ وَيَلْزَمَهُ يُقَالُ آلَفْتُهُ إيّاهُ
إيلَافًا . وَالْإِيلَافُ أَيْضًا : أَنْ تَصِيرَ مَا دُونَ الْأَلْفِ أَلْفًا ،
يُقَالُ آلَفْتُهُ إيلَافًا .Sوَذَكَرَ
إيلَافَ قُرَيْشٍ لِلرّحْلَتَيْنِ وَقَالَ هُوَ مَصْدَرُ أَلِفْت الشّيْءَ
وَآلَفْتُهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الْإِلْفِ لِلشّيْءِ وَفِيهِ تَفْسِيرٌ آخَرُ
أَلْيَقُ لِأَنّ السّفَرَ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ وَلَا تَأْلَفُهُ النّفْسُ
وَإِنّمَا تَأْلَفُ الدّعَةَ وَالْكَيْنُونَةَ مَعَ الْأَهْلِ . قَالَ الْهَرَوِيّ
: هِيَ حِبَالٌ أَيْ عُهُودٌ كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُلُوكِ الْعَجَمِ ،
فَكَانَ هَاشِمٌ يُؤَالِفُ إلَى مَلِكِ الشّامِ ، وَكَانَ الْمُطّلِبُ يُؤَالِفُ
إلَى كِسْرَى ، وَالْآخَرَانِ يُؤَالِفَانِ أَحَدُهُمَا إلَى مَلِكِ مِصْرَ ،
وَالْآخَرُ إلَى مَلِكِ الْحَبَشَةِ ، وَهُمَا : عَبْدُ شَمْسٍ وَنَوْفَلٌ . قَالَ
[ ص 131 ] وَمَعْنَى يُؤَالِفُ يُعَاهِدُ وَيُصَالِحُ وَنَحْوُ هَذَا ، فَيَكُونُ
الْفِعْلُ مِنْهُ أَيْضًا آلَفَ عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ وَالْمَصْدَرُ إلَافًا
بِغَيْرِ يَاءٍ مِثْلُ قِتَالًا ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ مِنْهُ أَيْضًا آلَفَ عَلَى
وَزْنِ أَفْعَلَ مِثْلُ آمَنَ وَيَكُونُ الْمَصْدَرُ إيلَافًا بِالْيَاءِ مِثْلُ
إيمَانًا ، وَقَدْ قُرِئَ لِإِلَافِ قُرَيْشٍ بِغَيْرِ يَاءٍ وَلَوْ كَانَ مِنْ
آلَفْت الشّيْءَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلْت إذَا أَلِفْته لَمْ تَكُنْ هَذِهِ
الْقِرَاءَةُ صَحِيحَةً وَقَدْ قَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ فَدَلّ هَذَا عَلَى صِحّةِ
مَا قَالَهُ الْهَرَوِيّ ، وَقَدْ حَكَاهُ عَمّنْ تَقَدّمَهُ . وَظَاهِرُ كَلَامِ
ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ اللّامَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ }
مُتَعَلّقَةٌ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } وَقَدْ
قَالَهُ غَيْرُهُ وَمَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ : أَنّهَا مُتَعَلّقَةٌ
بِقَوْلِهِ { فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذَا الْبَيْتِ } أَيْ فَلْيَعْبُدُوهُ مِنْ
أَجْلِ مَا فَعَلَ بِهِمْ . وَقَالَ قَوْمٌ هِيَ لَامُ التّعَجّبِ وَهِيَ مُتَعَلّقَةٌ
بِمُضْمَرِ كَأَنّهُ قَالَ اعْجَبْ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ، كَمَا قَالَ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ -
حِينَ دُفِنَ " سُبْحَانَ اللّهِ لَهَذَا الْعَبْدُ الصّالِحُ ضُمّ فِي
قَبْرِهِ حَتّى فَرّجَ اللّهُ عَنْهُ " . وَقَالَ فِي عَبْدٍ حَبَشِيّ مَاتَ
بِالْمَدِينَةِ " لَهَذَا الْعَبْدُ الْحَبَشِيّ جَاءَ مِنْ أَرْضِهِ
وَسَمَائِهِ إلَى الْأَرْضِ الّتِي خُلِقَ مِنْهَا " . أَيْ اعْجَبُوا
لِهَذَا الْعَبْدِ الصّالِحِ . وَأُنْشِدَ لِلْكُمَيْتِ
بِعَامِ يَقُولُ لَهُ الْمُؤْلِفُو ... نَ أَهَذَا الْمُعِيمُ لَنَا الْمُرْجِلُ
الْمُؤْلِفُ صَاحِبُ الْأَلْفِ مِنْ الْإِبِلِ كَمَا ذُكِرَ وَالْمُعِيمُ
بِالْمِيمِ مِنْ الْعَيْمَةِ أَيْ تَجْعَلُ تِلْكَ السّنَةُ صَاحِبَ الْأَلْفِ
مِنْ الْإِبِلِ يَعَامُ إلَى اللّبَنِ وَتُرْجِلُهُ فَيَمْشِي رَاجِلًا ، لِعَجِفِ
الدّوَابّ [ ص 132 ] وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ الزّبَعْرَى : تَنَكّلُوا عَنْ بَطْنِ
مَكّةَ الْبَيْتُ وَنَسَبَهُ إلَى عَدِيّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمٍ وَكَرّرَ هَذَا
النّسَبَ فِي كِتَابِهِ مِرَارًا وَهُوَ خَطَأٌ وَالصّوَابُ سَعْدُ بْنُ سَهْمٍ
وَإِنّمَا سَعِيدٌ أَخُو سَعْدٍ وَهُوَ فِي نَسَبِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ
وَائِلٍ وَقَدْ أَنْشَدَ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلّ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ وَهُوَ
قَوْلُ الْمُبْرِقِ وَهُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدٍ
فَإِنْ تَكُ كَانَتْ فِي عَدِيّ أَمَانَةٌ ... عَدِيّ بْنِ سَعْدٍ فِي الْخُطُوبِ
الْأَوَائِلِ
فَقَالَ عَدِيّ بْنُ سَعْدٍ وَلَمْ يَقُلْ سُعَيْدٌ وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ
الْوَاقِدِيّ وَالزّبَيْرِيّون وَغَيْرُهُمْ .
مَصِيرُ
الْفِيلِ وَسَائِسُهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ
عَمْرَةَ ابْنَةِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ عَائِشَةَ -
رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - قَالَتْ " لَقَدْ رَأَيْت قَائِدَ الْفِيلِ
وَسَائِسَهُ بِمَكّةَ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ النّاسَ " .
مَا قِيلَ فِي صِفَةِ الْفِيلِ مِنْ الشّعْرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا رَدّ اللّهُ الْحَبَشَةَ عَنْ مَكّةَ ،
وَأَصَابَهُمْ بِمَا أَصَابَهُمْ بِهِ مِنْ النّقْمَةِ أَعْظَمَتْ الْعَرَبُ
قُرَيْشًا ، وَقَالُوا : هُمْ أَهْلُ اللّهِ قَاتَلَ اللّهُ عَنْهُمْ وَكَفَاهُمْ
مَئُونَةَ عَدُوّهِمْ فَقَالُوا فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا يَذْكُرُونَ فِيهَا مَا
صَنَعَ اللّهُ بِالْحَبَشَةِ وَمَا رَدّ عَنْ قُرَيْشٍ مِنْ كَيْدِهِمْ . فَقَالَ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى بْنِ عَدِيّ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعِيدِ
بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ
بْنِ فِهْرٍ [ ص 133 ]
تَنَكّلُوا عَنْ بَطْنِ مَكّةَ إنّهَا ... كَانَتْ قَدِيمًا لَا يُرَامُ
حَرِيمُهَا
لَمْ تُخْلَقْ الشّعْرَى لَيَالِيَ حُرّمَتْ ... إذْ لَا عَزِيزَ مِنْ الْأَنَامِ
يَرُومُهَا
سَائِلْ أَمِيرَ الْجَيْشِ عَنْهَا مَا رَأَى ... وَلَسَوْفَ يُنْبِي
الْجَاهِلِينَ عَلِيمُهَا
سِتّونَ أَلْفًا لَمْ يَئُوبُوا أَرْضَهُمْ ... وَلَمْ يَعِشْ بَعْدَ الْإِيَابِ
سَقِيمُهَا
كَانَتْ بِهَا عَادٌ وَجُرْهُمُ قَبْلَهُمْ ... وَاَللّهُ مِنْ فَوْقِ الْعِبَادِ
يُقِيمُهَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : يَعْنِي ابْنُ الزّبَعْرَى بِقَوْلِهِ بَعْدَ الْإِيَابِ
سَقِيمُهَا
أَبْرَهَةَ ، إذْ حَمَلُوهُ مَعَهُمْ حِينَ أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ حَتّى مَاتَ
بِصَنْعَاءَ . وَقَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ الْأَنْصَارِيّ ثُمّ
الْخَطْمِيّ ، وَاسْمُهُ صَيْفِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَبُو قَيْسٍ :
صَيْفِيّ بْنُ الْأَسْلَتِ بْنِ جُشَمِ بْنِ وَائِلِ بْنِ زَيْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ
عَامِرَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ :
وَمِنْ صُنْعِهِ يَوْمَ فِيلِ الْحَبُو ... شِ إذْ كُلّمَا بَعَثُوهُ رَزَمْ
مَحَاجِنُهُمْ تَحْتَ أَقْرَابِهِ ... وَقَدْ شَرّمُوا أَنْفَهُ فَانْخَرَمْ
وَقَدْ جَعَلُوا سَوْطَهُ مِغْوَلًا ... إذَا يَمّمُوهُ قَفَاهُ كُلِمْ
فَوَلّى وَأَدْبَرَ أَدْرَاجَهُ ... وَقَدْ بَاءَ بِالظّلْمِ مَنْ كَانَ ثَمْ
فَأَرْسَلَ مَنْ فَوْقَهُمْ حَاصِبًا ... فَلَفّهُمْ مِثْلَ لَفّ الْقُزُمْ
تُجَضّ عَلَى الصّبْرِ أَحْبَارُهُمْ ... وَقَدْ ثَأَجُوا كَثُؤَاجِ الْغَنَمْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْقَصِيدَةُ
أَيْضًا تُرْوَى لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ
أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ
فَقُومُوا فَصَلّوا رَبّكُمْ وَتَمَسّحُوا ... بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ
الْأَخَاشِبِ
فَعِنْدَكُمْ مِنْهُ بَلَاءٌ مُصَدّقٌ ... غَدَاةَ أَبِي يَكْسُومَ هَادِي
الْكَتَائِبِ
كَتِيبَتُهُ بِالسّهْلِ تُمْسِي ، وَرَجْلُهُ ... عَلَى الْقَادِفَاتِ فِي رُءُوسِ
الْمَنَاقِبِ
فَلَمّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدّهُمْ ... جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ
سَافَ وَحَاصِبِ
فَوَلّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ يَؤُبْ ... إلَى أَهْلِهِ مِلْحِبْشِ غَيْرُ
عَصَائِبِ
[ ص 134 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ
قَوْلَهُ عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ الْمَنَاقِبِ وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي
قَصِيدَةٍ لِأَبِي قَيْسٍ ، سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللّهُ .
وَقَوْلُهُ " غَدَاةَ أَبِي يَكْسُومَ " : يَعْنِي : أَبْرَهَةَ كَانَ
يُكَنّى أَبَا يَكْسُومَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ طَالِبُ بْنُ أَبِي
طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ :
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ ... وَجَيْشِ أَبِي يَكْسُومَ إذْ
مَلَئُوا الشّعْبَا
فَلَوْلَا دِفَاعُ اللّهِ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ... لَأَصْبَحْتُمْ لَا تَمْنَعُونَ
لَكُمْ سِرْبًا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ فِي يَوْمِ
بَدْرٍ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَقَالَ أَبُو الصّلْتِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الثّقَفِيّ فِي شَأْنِ
الْفِيلِ وَيَذْكُرُ الْحَنِيفِيّةَ دِينَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : تُرْوَى لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ
الثّقَفِيّ
إنّ آيَاتِ رَبّنَا ثَاقِبَاتٌ ... لَا يُمَارِي فِيهِنّ إلّا الْكَفُورُ
خُلِقَ اللّيْلُ وَالنّهَارُ فَكُلّ ... مُسْتَبِينٌ حِسَابُهُ مَقْدُورُ
ثُمّ يَجْلُو النّهَارَ رَبّ رَحِيمٌ ... بِمَهَاةِ شُعَاعُهَا مَنْشُورُ
حُبِسَ الْفِيلُ بِالْمُغَمّسِ حَتّى ... ظَلّ يَحْبُو كَأَنّهُ مَعْقُورُ
لَازِمًا حَلْقَةَ الْجِرَانِ كَمَا قُطّ ... رَ مِنْ صَخْرِ كَبْكَبٍ مَحْدُورُ
حَوْلَهُ مِنْ مُلُوكِ كِنْدَةَ أَبْطَا ... لُ مَلَاوِيثٌ فِي الْحُرُوبِ صُقُورُ
خَلّفُوهُ ثُمّ ابْذَعَرّوا جَمِيعًا ... كُلّهُمْ عَظْمُ سَاقِهِ مَكْسُورُ
كُلّ دِينٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ الل ... ه إلّا دِينَ الْحَنِيفَةِ بُورُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ - وَاسْمُهُ هِشَامُ بْنُ غَالِبِ
أَحَدُ بَنِي مُجَاشِعِ بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ
بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ - يَمْدَحُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مَرْوَانَ ، وَيَهْجُو الْحَجّاجَ بْنَ يُوسُفَ وَيَذْكُرُ الْفِيلَ [ ص 135
]
فَلَمّا طَغَى الْحَجّاجُ حِينَ طَغَى بِهِ غِنًى ... قَالَ إنّي مُرْتَقٍ فِي
السّلَالِمِ
فَكَانَ كَمَا قَالَ ابْنُ نُوحٍ سَأَرْتَقِي ... إلَى جَبَلٍ مِنْ خَشْيَةِ
الْمَاءِ عَاصِمِ
رَمَى اللّهُ فِي جُثْمَانِهِ مِثْلَ مَا رَمَى ... عَنْ الْقِبْلَةِ الْبَيْضَاءِ
ذَاتِ الْمَحَارِمِ
جُنُودًا تَسُوقُ الْفِيلَ حَتّى أَعَادَهُمْ ... هَبَاءً وَكَانُوا مُطْرَخِمّي
الطّرَاخِمِ
نُصِرْت كَنَصْرِ الْبَيْتِ إذْ سَاقَ فِيلَهُ ... إلَيْهِ عَظِيمُ الْمُشْرِكِينَ
الْأَعَاجِمِ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ عَبْدُ
اللّهِ بْنُ قَيْسِ الرّقَيّاتِ . أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِب ِ
يَذْكُرُ أَبْرَهَةَ - وَهُوَ الْأَشْرَمُ - وَالْفِيلُ
كَادَهُ الْأَشْرَمُ الّذِي جَاءَ بِالْفِي ... لِ فَوَلّى وَجَيْشَهُ مَهْزُومُ
وَاسْتَهَلّتْ عَلَيْهِمْ الطّيْرُ بِالْجَ ... نَدْلِ حَتّى كَأَنّهُ مَرْجُومُ
ذَاكَ مَنْ يَغْزُهُ مِنْ النّاسِ يَرْجِعُ وَهُوَ فَلّ مِنْ الْجُيُوشِ ذَمِيمُ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَلَدَا أَبْرَهَةَ قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : فَلَمّا هَلَكَ أَبْرَهَةُ ، مَلَكَ الْحَبَشَةَ ابْنُهُ يَكْسُومُ
بْنُ أَبْرَهَةَ وَبَهْ كَانَ يُكَنّى ، فَلَمّا هَلَكَ يَكْسُومُ بْنُ أَبْرَهَةَ
مَلَكَ الْيَمَنَ فِي الْحَبَشَةِ أَخُوهُ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةَ . [ ص 136 ]
[ ص 137 ]Sحَوْلَ
الشّعْرِ الّذِي قِيلَ فِي الْفِيلِ
وَقَوْلُهُ تَنَكّلُوا عَنْ بَطْنِ مَكّةَ إنّهَا . وَهَذَا خَرْمٌ فِي الْكَامِلِ
وَقَدْ وُجِدَ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَيْتِ [ ص 133 ] [ ص 134 ] [ ص 135 ] فِي
أَشْعَارِ هَذَا الْكِتَابِ الْخَرْمُ فِي الْكَامِلِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ
يَدْخُلَ الْخَرْمُ فِي مُتَفَاعَلٍ فَيُحْذَفُ مِنْ السّبَبِ حَرْفٌ كَمَا حُذِفَ
مِنْ الْوَتِدِ فِي الطّوِيلِ حَرْفٌ وَإِذَا وُجِدَ حَذْفُ السّبَبِ الثّقِيلِ
كُلّهِ فَأَحْرَى أَنْ يَجُوزَ حَذْفُ حَرْفٍ مِنْهُ وَذَلِكَ فِي قَوْلِ ابْنِ
مُفَرّغٍ
هَامَةٌ تَدْعُو صَدَى ... بَيْنَ الْمُشَقّرِ وَالْيَمَامَةِ
وَهُوَ مِنْ الْمُرَفّلِ وَالْمُرَفّلُ مِنْ الْكَامِلِ . أَلَا تَرَى أَنّ
قَبْلَهُ
وَشَرَيْت بُرْدًا لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْت هَامَة
فَالْمَحْذُوفُ مِنْ الطّوِيلِ إذَا خَرُمَ حَرْفٌ مِنْ وَتَدٍ مَجْمُوعٍ
وَالْمَحْذُوفُ مِنْ الْكَامِلِ إذَا خَرُمَ حَرْفٌ مِنْ سَبَبٍ ثَقِيلٍ بَعْدَهُ
سَبَبٌ خَفِيفٌ وَلَمّا كَانَ الْإِضْمَارُ فِيهِ كَثِيرًا ، وَهُوَ إسْكَانُ
التّاءِ مِنْ مُتَفَاعِلُنْ فَمِنْ ثَمّ قَالَ أَبُو عَلِيّ لَا يَجُوزُ فِيهِ
الْخَرْمُ لِأَنّ ذَلِكَ يَئُولُ إلَى الِابْتِدَاءِ بِسَاكِنِ وَهَذَا الْكَلَامُ
لِمَنْ تَدَبّرَهُ بَارِدٌ غَثّ ؛ لِأَنّ الْكَلِمَةَ الّتِي يَدْخُلُهَا
الْخَرْمُ لَمْ يَكُنْ قَطّ فِيهَا إضْمَارٌ نَحْوَ تَنَكّلُوا عَنْ بَطْنِ مَكّةَ
، وَاَلّتِي يَدْخُلُهَا الْإِضْمَارُ لَا يُتَصَوّرُ فِيهَا الْخَرْمَ نَحْوَ لَا
[ ص 136 ] يَبْعَدْنَ قَوْمِي ، وَنَحْوَ قَوْلِهِ " لَمْ تُخْلَقْ الشّعْرَى
لَيَالِيَ حُرّمَتْ " فَتَعْلِيلُهُ فِي هَذَا الشّعْرِ إذًا لَا يَفِيدُ
شَيْئًا ، وَمَا أَبْعَدَ الْعَرَبَ مِنْ الِالْتِفَاتِ إلَى هَذِهِ الْأَغْرَاضِ
الّتِي يَسْتَعْمِلُهَا بَعْضُ النّحَاةِ وَهِيَ أَوْهَى مِنْ نَسْجِ
الْخَزَرْنَقِ . وَقَوْلُهُ لَمْ تُخْلَقْ الشّعْرَى لَيَالِيَ حُرّمَتْ إنْ كَانَ
ابْنُ الزّبَعْرَى قَالَ هَذَا فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُنْتَزِعٌ مِنْ قَوْلِ
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " إنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ ،
وَلَمْ يُحَرّمْهَا النّاسُ " . وَمِنْ قَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ "
إنّ اللّهَ حَرّمَهَا يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ " ،
وَالتّرْبَةُ خُلِقَتْ قَبْلَ خَلْقِ الْكَوَاكِبِ وَإِنْ كَانَ ابْنُ الزّبَعْرَى
، قَالَ هَذَا فِي الْجَاهِلِيّةِ فَإِنّمَا أَخَذَهُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - مِنْ
الْكِتَابِ الّذِي وَجَدُوهُ فِي الْحَجَرِ بِالْخَطّ الْمُسْنَدِ حِينَ بَنَوْا
الْكَعْبَةَ ، وَفِيهِ أَنَا اللّهُ رَبّ مَكّةَ خَلَقْتهَا يَوْمَ خَلَقْت
السّمَوَاتِ وَالْأَرْض الْحَدِيثُ . وَقَوْلُهُ " وَلَمْ يَعِشْ بَعْدَ
الْإِيَابِ سَقِيمُهَا " هَكَذَا فِي النّسْخَةِ الْمُقَيّدَةِ عَلَى أَبِي
الْوَلِيدِ الْمُقَابَلَةِ بِالْأَصْلَيْنِ اللّذَيْنِ كَانَا عِنْدَهُ
وَقَابَلَهَا أَبُو بَحْرٍ - رَحِمَهُ اللّهُ - بِهِمَا مَرّتَيْنِ وَحَسِبَ
بَعْضُهُمْ أَنّهُ كَسْرٌ فِي الْبَيْتِ فَزَادَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَقَالَ
بَلْ لَمْ يَعِشْ . فَأَفْسَدَ الْمَعْنَى ، وَإِنّمَا هُوَ خَرْمٌ فِي أَوّلِ
الْقَسَمِ مِنْ عَجُزِ الْبَيْتِ كَمَا كَانَ فِي الصّدْرِ مِنْ أَوّلِ بَيْتٍ
مِنْهَا . وَقَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ مِثْلُ لَفّ الْقُزُمْ . الْقُزُمُ
صِغَارُ الْغَنَمِ . وَيُقَالُ رُذَالُ الْمَالِ وَرَزَمٌ ثَبَتَ وَلَزِمَ
مَوْضِعُهُ وَأَرْزَمَ مِنْ الرّزِيمِ وَهُوَ صَوْتٌ لَيْسَ بِالْقَوِيّ
وَكَذَلِكَ صَوْتُ الْفِيلِ ضَئِيلٌ عَلَى عِظَمِ خِلْقَتِهِ وَيَفْرَقُ مِنْ
الْهِرّ وَيَنْفِرُ مِنْهُ وَقَدْ اُحْتِيلَ عَلَى الْفِيَلَةِ فِي بَعْضِ
الْحُرُوبِ مَعَ الْهِنْدِ . أُحْضِرَتْ لَهَا الْهِرّةُ فَذَعَرَتْ وَوَلّتْ
وَكَانَ سَبَبًا لِهَزِيمَةِ الْقَوْمِ . ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيّ ، وَنَسَبُ
هَذِهِ الْحِيلَةِ إلَى هَارُونَ بْنِ مُوسَى حِينَ غَزَا بِلَادَ الْهِنْدِ ،
وَأَوّلُ مَنْ ذَلّلَ الْفِيَلَةَ - فِيمَا قَالَ الطّبَرِيّ - أَفْرِيدُونُ بْنُ
أَثْفِيَانَ وَمَعْنَى أَثْفِيَانَ صَاحِبُ الْبَقَرِ وَهُوَ أَوّلُ مَنْ نَتَجَ
الْبِغَالَ وَاِتّخَذَ لِلْخَيْلِ السّرُوجَ وَالْوُكُفَ - فِيمَا ذَكَرُوا -
وَأَمّا أَوّلُ مَنْ سَخّرَ الْخَيْلَ وَرَكِبَهَا " فطمهورث " وَهُوَ
الثّالِثُ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ - فِيمَا زَعَمُوا - وَثُؤَاجُ الْغَنَمِ
صَوْتُهَا ، وَوَقَعَ فِي النّسْخَةِ ثَجّوا ، وَعَلَيْهِ مَكْتُوبٌ الصّوَابُ
ثَأَجُوا كَثُؤَاجِ الْغَنَمِ . [ ص 137 ] وَقَوْلُ ابْنِ الْأَسْلَتِ فَقُومُوا ،
فَصَلّوْا رَبّكُمْ وَتَمَسّخُوا . سَيَأْتِي شَرْحُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ فِي
الْقَصِيدَةِ حَيْثُ يَذْكُرُهَا ابْنُ إسْحَاقَ بِكَمَالِهَا - إنْ شَاءَ اللّهُ
. وَذَكَرَ قَوْلَ طَالِبِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : " فَأَصْبَحْتُمْ لَا
تَمْنَعُونَ لَكُمْ سَرْبًا " وَيُرْوَى سِرْبًا بِالْكَسْرِ وَالسّرْبُ
بِالْفَتْحِ الْمَالُ الرّاعِي ، وَالسّرْبُ بِالْكَسْرِ الْقَطِيعُ مِنْ
الْبَقَرِ وَالظّبَاءِ وَمِنْ النّسَاءِ أَيْضًا . قَالَ الشّاعِرُ
فَلَمْ تَرَ عَيْنِي مِثْلَ سِرْبٍ رَأَيْته ... خَرَجْنَ عَلَيْنَا مِنْ زُقَاقِ
ابْنِ وَاقِفٍ
وَطَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَانَ أَسَنّ مِنْ عَقِيلٍ بِعَشَرَةِ أَعْوَامٍ
وَكَانَ عَقِيلٌ أَسَنّ من جَعْفَرٍ بِعَشَرَةِ أَعْوَامٍ وَجَعْفَرٌ أَسَنّ مِنْ
عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - بِمِثْلِ ذَلِكَ وَذَكَرُوا أَنّ طَالِبًا
اخْتَطَفَتْهُ الْجِنّ ، فَذَهَبَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنّهُ أَسْلَمَ . وَذَكَرَ
شِعْرَ أَبِي الصّلْتِ وَاسْمُهُ رَبِيعَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عِلَاجٍ . وَفِيهِ
حَبْسُ الْفِيلِ بِالْمُغَمّسِ وَأَنّ كَسْرَ الْمِيمِ الْآخِرَةِ أَشْهَرُ فِيهِ
. وَفِيهِ بِمَهَاةِ شُعَاعُهَا مَنْشُورُ . وَالْمَهَاةُ الشّمْسُ سُمّيَتْ
بِذَلِكَ لِصَفَائِهَا ، وَالْمَهَامِنُ الْأَجْسَامُ الصّافِي الّذِي يَرَى
بَاطِنَهُ مِنْ ظَاهِرِهِ . وَالْمَهَاةُ الْبِلّوْرَةُ وَالْمَهَاةُ الظّبْيَةُ .
وَمِنْ أَسْمَاءِ الشّمْسِ الْغَزَالَةُ إذَا ارْتَفَعَتْ فَهَذَا فِي مَعْنَى
الْمَهَاةِ . وَمِنْ أَسْمَائِهَا : الْبُتَيْرَاءُ . سُئِلَ عَلِيّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ - رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ - عَنْ وَقْتِ صَلَاةِ الضّحَى ، فَقَالَ
حَتّى تَرْتَفِعَ الْبُتَيْرَاءُ ذَكَرَهُ الْهَرَوِيّ وَالْخَطّابِيّ ، وَمِنْ
أَسْمَائِهَا : حَنَاذٍ وَبَرَاحٍ وَالضّحّ وَذُكَاءٍ وَالْجَارِيَةُ
وَالْبَيْضَاءُ وَبُوحٌ وَيُقَالُ يُوحٌ بِالْيَاءِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَارِسِيّ
وَبِالْبَاءِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ وَالشّرْقُ وَالسّرَاجُ . وَقَوْلُهُ
" حَلْقَهُ الْجِرَانُ " الْجِرَانُ الْعُنُقُ يُرِيدُ أَلْقَى
بِجِرَانِهِ إلَى الْأَرْضِ وَهَذَا يُقَوّي أَنّهُ بَرَكَ كَمَا تَقَدّمَ أَلَا
تَرَاهُ يَقُولُ كَمَا قُطّرَ مِنْ صَخْرِ كَبْكَبٍ ، وَهُوَ جَبَلٌ . مَحْدُورٌ
أَيْ حَجَرٌ حُدِرَ حَتّى بَلَغَ الْأَرْضَ . وَقَوْلُهُ ابْذَعَرّوا : تَفَرّقُوا
مِنْ ذُعْرٍ وَهِيَ كَلِمَةٌ مَنْحُوتَةٌ مِنْ أَصْلَيْنِ مِنْ الْبَذْرِ
وَالذّعْرِ . وَقَوْلُهُ إلّا دِينَ الْحَنِيفَةِ . يُرِيدُ بِالْحَنِيفَةِ
الْأُمّةَ الْحَنِيفَةَ أَيْ الْمُسْلِمَةَ الّتِي عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ
الْحَنِيفِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَذَلِكَ أَنّهُ حَنَفَ عَنْ
الْيَهُودِيّةِ والنصرانية ، أَيْ عَدَلَ عَنْهَا ، فَسُمّيَ حَنِيفًا ، أَوْ
حَنَفَ عَمّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُ وَقَوْمُهُ . [ ص 138 ] وَقَوْلُهُ فِي
شِعْرِ الْفَرَزْدَقِ : كَمَا قَالَ ابْنُ نُوحٍ . اسْمُهُ يَام ، وَقِيلَ
كَنْعَانُ . وَقَوْله : " مُطْرَخِمّي الطّرَاخِمِ " الْمُطْرَخِمّ :
الْمُمْتَلِئُ كِبَرًا أَوْ غَضَبًا . وَالطّرَاخِمُ جَمْعُ مُطَرَخِمّ عَلَى
قِيَاسِ الْجَمْعِ فَإِنّ الْمُطَرَخِمّ اسْمٌ مِنْ سِتّةِ أَحْرُفٍ فَيُحْذَفُ
مِنْهُ فِي الْجَمْعِ وَالتّصْغِيرِ مَا فِيهِ مِنْ الزّوَائِدِ وَفِيهِ
زَائِدَتَانِ الْمِيمُ الْأُولَى ، وَالْمِيمُ الْمُدْغَمَةُ فِي الْمِيمِ الْآخِرَةِ
لِأَنّ الْحَرْفَ الْمُضَاعَفَ حَرْفَانِ يُقَالُ فِي تَصْغِيرِ مُطَرَخِمّ
طُرَيْخِمٌ وَفِي جَمْعِهِ طَرَاخِمٌ وَفِي مُسْبَطِرّ سَبَاطِرٌ وَذَكَرَهُ
يَعْقُوبُ فِي الْأَلْفَاظِ بِالْغَيْنِ فَقَالَ اطْرَغَمّ الرّجُلُ وَلَمْ
يَذْكُرْ الْخَاءَ . وَذَكَرَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ قَيْسِ الرّقَيّاتِ .
وَاخْتُلِفَ فِي تَلْقِيبِهِ قَيْسَ الرّقَيّاتِ فَقِيلَ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ
جَدّاتٍ كُلّهُنّ رُقَيّةُ فَمَنْ قَالَ فِيهِ ابْنَ الرّقَيّاتِ فَإِنّهُ
نَسَبَهُ إلَى جَدّاتِهِ وَمَنْ قَالَ قَيْسَ الرّقَيّاتِ دُونَ ذِكْرِ ابْنٍ
فَإِنّهُ نِسْبَةٌ وَقِيلَ بَلْ شَبّبَ بِثَلَاثِ نِسْوَةٍ كُلّهُنّ تُسَمّى :
رُقَيّةَ وَقِيلَ بَلْ بِبَيْتِ قَالَهُ وَهُوَ " رُقَيّةُ مَا رُقَيّةُ مَا
رُقَيّةُ أَيّهَا الرّجُلُ " . وَقَالَ الزّبَيْرُ كَانَ يُشَبّبُ بِرُقَيّةَ
بِنْتِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي السّرْحِ مِنْ بَنِي ضِبَابِ بْنِ حُجَيْرِ
بْنِ عَبْدِ بْنِ مَعِيصٍ وَبِابْنَةِ عَمّ لَهَا اسْمُهَا رُقَيّةُ وَهُوَ ابْنُ
قَيْسِ بْنِ شُرَيْحٍ مِنْ بَنِي حُجَيْرٍ أَيْضًا ، وَحُجَيْرٌ أَخُو حَجَرِ بْنِ
عَبْدِ بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرٍ رَهْطِ عَمْرِو بْنِ أُمّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى
. وَقَوْلُهُ " حَتّى كَأَنّهُ مَرْجُومٌ " وَهُوَ قَدْ رُجِمَ فَكَيْفَ
شَبَهُهُ بِالْمَرْجُومِ وَهُوَ مَرْجُومٌ بِالْحِجَارَةِ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ
يُقَالَ فِي مَقْتُولٍ كَأَنّهُ مَقْتُولٌ ؟ فَنَقُولُ لَمّا ذَكَرَ اسْتِهْلَالَ
الطّيْرِ وَجَعَلَهَا كَالسّحَابِ يَسْتَهِلّ بِالْمَطَرِ وَالْمَطَرُ لَيْسَ
بِرَجْمِ وَإِنّمَا الرّجْمُ بِالْأَكُفّ وَنَحْوِهَا ، شَبَهُهُ بِالْمَرْجُومِ
الّذِي يَرْجُمُهُ الْآدَمِيّونَ أَوْ مَنْ يَعْقِلُ وَيَتَعَمّدُ الرّجْمَ مِنْ
عَدُوّ وَنَحْوِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْمَقْتُولُ بِالْحِجَارَةِ
مَرْجُومًا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَمّا لَمْ يَكُنْ جَيْشُ الْحَبَشَةِ كَذَلِكَ
وَإِنّمَا أُمْطِرُوا حِجَارَةً فَمِنْ ثَمّ قَالَ كَأَنّهُ مَرْجُومٌ .
خُرُوجُ
سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ وَمَلِكِ وَهْرِزَ عَلَى الْيَمَنِ
[ ص 138 ] لِقَيْصَرَ فَلَمّا طَالَ الْبَلَاءُ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ ، خَرَجَ
سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيّ وَكَانَ يُكَنّى [ ص 139 ] بِأَبِي مُرّةَ
حَتّى قَدِمَ عَلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرّومِ ، فَشَكَا إلَيْهِ مَا هُمْ فِيهِ
وَسَأَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهُمْ عَنْهُ وَيَلِيهِمْ هُوَ وَيَبْعَثُ إلَيْهِمْ مَنْ
شَاءَ مِنْ الرّومِ ، فَيَكُونُ لَهُ مَلِكُ الْيَمَنِ ، فَلَمْ يَشْكُهُ .
شَفَاعَةَ النّعْمَانِ لَدَى كِسْرَى
فَخَرَجَ حَتّى أَتَى النّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ - وَهُوَ عَامِلُ كِسْرَى
عَلَى الْحِيرَةِ ، وَمَا يَلِيهَا مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ - فَشَكَا إلَيْهِ
أَمْرَ الْحَبَشَةِ ، فَقَالَ لَهُ النّعْمَانُ إنّ لِي عَلَى كِسْرَى وِفَادَةً
فِي كُلّ عَامٍ فَأَقِمْ حَتّى يَكُونَ ذَلِكَ فَفَعَلَ ثُمّ خَرَجَ مَعَهُ
فَأَدْخَلَهُ عَلَى كِسْرَى ، وَكَان َ كِسْرَى يَجْلِسُ فِي إيوَانِ مَجْلِسِهِ
الّذِي فِيهِ تَاجُهُ وَكَانَ تَاجُهُ مِثْلَ الْقَنْقَلِ الْعَظِيمِ - فِيمَا
يَزْعُمُونَ - يُضْرَبُ فِيهِ الْيَاقُوتُ وَاللّؤْلُؤُ وَالزّبَرْجَدُ بِالذّهَبِ
وَالْفِضّةِ مُعَلّقًا بِسَلْسَلَةِ مِنْ ذَهَبٍ فِي رَأْسِ طَاقَةٍ فِي
مَجْلِسِهِ ذَلِكَ وَكَانَتْ عُنُقُهُ لَا تَحْمِلُ تَاجَهُ إنّمَا يُسْتَرُ
بِالثّيَابِ حَتّى يَجْلِسَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ ثُمّ يُدْخِلُ رَأْسَهُ فِي
تَاجِهِ فَإِذَا اسْتَوَى فِي مَجْلِسِهِ كُشِفَتْ عَنْهُ الثّيَابُ فَلَا يَرَاهُ
رَجُلٌ لَمْ يَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ إلّا بَرَكَ هَيْبَةً لَهُ فَلَمّا دَخَلَ
عَلَيْهِ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ بَرَكَ .
كِسْرَى يُعَاوِنُ ابْنَ ذِي يَزَنَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ سَيْفًا لَمّا دَخَلَ
عَلَيْهِ طَأْطَأَ رَأْسَهُ فَقَالَ الْمَلِكُ إنّ هَذَا الْأَحْمَقَ يَدْخُلُ
عَلَيّ مِنْ هَذَا الْبَابِ الطّوِيلِ ثُمّ يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ ؟ فَقِيلَ ذَلِكَ
لِسَيْفِ فَقَالَ إنّمَا فَعَلْت هَذَا لِهَمّي ، لِأَنّهُ يَضِيقُ عَنْهُ كُلّ
شَيْءٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَالَ لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ غَلَبَتْنَا
عَلَى بِلَادِنَا الْأَغْرِبَةُ ، فَقَالَ لَهُ كِسْرَى : أَيّ الْأَغْرِبَةِ :
الْحَبَشَةُ أَمْ السّنَدُ ؟ فَقَالَ بَلْ الْحَبَشَةُ ، فَجِئْتُك لِتَنْصُرَنِي
، وَيَكُونُ مُلْكُ بِلَادِي لَك ، قَالَ بَعُدَتْ بِلَادُك مَعَ قِلّةِ خَيْرِهَا
، فَلَمْ أَكُنْ لِأُوَرّطَ جَيْشًا مِنْ فَارِسَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ، لَا
حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ ثُمّ أَجَازَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَافٍ وَكَسَاهُ
كِسْوَةً حَسَنَةً فَلَمّا قَبَضَ ذَلِكَ مِنْهُ سَيْفٌ خَرَجَ فَجَعَلَ يَنْثُرُ
ذَلِكَ الْوَرِقَ لِلنّاسِ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَلِكَ فَقَالَ إنّ لِهَذَا
لَشَأْنًا ، ثُمّ بَعَثَ إلَيْهِ فَقَالَ عَمَدْت إلَى حِبَاءِ الْمَلِكِ
تَنْثُرُهُ لِلنّاسِ فَقَالَ وَمَا أَصْنَعُ بِهَذَا ؟ مَا جِبَالُ أَرْضِي الّتِي
جُثْتُ مِنْهَا إلّا ذَهَبٌ وَفِضّةٌ - يُرَغّبُهُ فِيهَا [ ص 140 ] فَجَمَعَ
كِسْرَى مَرَازِبَتَهُ فَقَالَ لَهُمْ مَاذَا تَرَوْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ
وَمَا جَاءَ لَهُ ؟ فَقَالَ قَائِلٌ أَيّهَا الْمَلِكُ إنّ فِي سُجُونِك رِجَالًا
قَدْ حَبَسْتهمْ لِلْقَتْلِ فَلَوْ أَنّك بَعَثْتهمْ مَعَهُ فَإِنْ يَهْلِكُوا
كَانَ ذَلِكَ الّذِي أَرَدْت بِهِمْ وَإِنْ ظَفِرُوا كَانَ مُلْكًا ازْدَدْته ،
فَبَعَثَ مَعَهُ كِسْرَى مَنْ كَانَ فِي سُجُونِهِ وَكَانُوا ثَمَانَمِائَةِ
رَجُلٍ .Sسَيْفُ
بْنُ ذِي يَزَنَ وَكِسْرَى وَذِكْرُ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ وَخَبَرِهِ مَعَ
النّعْمَانِ وَكِسْرَى ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصّتَهُ فِي أَوّلِ حَدِيثِ
الْحَبَشَةِ ، وَأَنّهُ مَاتَ عِنْدَ كِسْرَى ، وَقَامَ ابْنُهُ مَقَامَهُ فِي
الطّلَبِ وَهُوَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ بْنِ ذِي أَصْبَحَ بْنِ مَالِكِ بْنِ
زَيْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ جُشَمِ بْنِ
عَبْدِ شَمْسِ بْنِ وَائِلِ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ قُطْنِ بْنِ عَرِيبِ بْنِ
زُهَيْرِ بْنِ أَيْمَنَ بْنِ الْهَمَيْسَعِ بْنِ الْعَرَنْجَحِ [ ص 139 ] حِمْيَرُ
بْنُ سَبَأٍ ، وَكِسْرَى هَذَا هُوَ أَنُوشِرْوَانَ بْنُ قُبَاذٍ وَمَعْنَاهُ
مُجَدّدُ الْمُلْكِ لِأَنّهُ جَمَعَ مُلْكَ فَارِسَ بَعْدَ شَتَاتٍ .
وَالنّعْمَانُ اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنْ النّعْمَانِ الّذِي هُوَ الدّمُ . قَالَهُ
صَاحِبُ الْعَيْنِ وَالْقَنْقَلُ الّذِي شَبّهَ بِهِ التّاجَ هُوَ مِكْيَالٌ
عَظِيمٌ . قَالَ الرّاجِزُ يَصِفُ الْكَمْأَةَ
مَا لَك لَا تَجْرُفُهَا بِاْلَقَنْقَلِ ... لَا خَيْرَ فِي الْكَمْأَةِ إنْ لَمْ
تَفْعَلْ
[ ص 140 ] لِلْهَرَوِيّ الْقَنْقَلُ مِكْيَالٌ يَسَعُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ
مَنًا ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَمْ الْمَنَا ، وَأَحْسَبُهُ وَزْنَ رِطْلَيْنِ وَهَذَا
التّاجُ قَدْ أَتَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - حِينَ
اسْتَلَبَ مَنْ يَزْدَجِرْدَ بْنِ شَهْرَيَارَ تَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ جَدّهِ
أَنُوشِرْوَانَ الْمَذْكُورِ فَلَمّا أَتَى بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
دَعَا سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيّ ، فَحَلّاهُ بِأَسْوِرَةِ كِسْرَى ،
وَجَعَلَ التّاجَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ لَهُ " قُلْ الْحَمْدُ لِلّهِ
الّذِي نَزَعَ تَاجَ كِسْرَى ، مَلِكَ الْأَمْلَاكِ مِنْ رَأْسِهِ وَوَضَعَهُ فِي
رَأْسِ أَعْرَابِيّ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ وَذَلِكَ بِعِزّ الْإِسْلَامِ وَبَرَكَتِهِ
لَا بِقُوّتِنَا " وَإِنّمَا خَصّ عُمَرُ سُرَاقَةَ بِهَذَا ؛ لِأَنّ رَسُولَ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ قَالَ لَهُ " يَا سُرَاقُ
كَيْفَ بِك إذَا وُضِعَ تَاجُ كِسْرَى عَلَى رَأْسِك وَإِسْوَارُهُ فِي يَدَيْك
" أَوْ كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
انْتِصَارُ
سَيْفٍ وَقَوْلُ الشّعَرَاءِ فِيهِ
وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ وَهْرِزُ وَكَانَ ذَا سِنّ فِيهِمْ
وَأَفْضَلَهُمْ حَسَبًا وَبَيْتًا ، فَخَرَجُوا فِي ثَمَانِ سَفَائِنَ فَغَرِقَتْ
سَفِينَتَانِ وَوَصَلَ إلَى سَاحِلِ عَدَنٍ سِتّ سَفَائِنَ فَجَمَعَ سَيْفٌ إلَى
وَهْرِزَ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْ قَوْمِهِ وَقَالَ لَهُ رَجُلِي مَعَ رَجُلِك حَتّى
نَمُوتَ جَمِيعًا ، أَوْ نَظْفَرَ جَمِيعًا . قَالَ لَهُ وَهْرِزُ أَنْصَفْت ،
وَخَرَجَ إلَيْهِ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةَ مَلِكُ الْيَمَنِ ، وَجَمَعَ إلَيْهِ
جُنْدَهُ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ وَهْرِزُ ابْنًا لَهُ لِيُقَاتِلَهُمْ فَيَخْتَبِرَ
قِتَالَهُمْ فَقُتِلَ ابْنُ وَهْرِزَ فَزَادَهُ ذَلِكَ حَنَقًا عَلَيْهِمْ فَلَمّا
تَوَاقَفَ النّاسُ عَلَى مَصَافّهِمْ قَالَ وَهْرِزُ أَرُونِي مُلْكَهُمْ فَقَالُوا
لَهُ أَتَرَى رَجُلًا عَلَى الْفِيلِ عَاقِدًا تَاجَهُ عَلَى رَأْسِهِ بَيْنَ
عَيْنَيْهِ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالُوا : ذَاكَ مَلِكُهُمْ
فَقَالَ اُتْرُكُوهُ قَالَ فَوَقَفُوا طَوِيلًا ، ثُمّ قَالَ عَلَامَ هُوَ ؟
قَالُوا : قَدْ تَحَوّلَ عَلَى الْفَرَسِ ، قَالَ اُتْرُكُوهُ . فَوَقَفُوا
طَوِيلًا ، ثُمّ قَالَ عَلَامَ هُوَ ؟ قَالُوا : قَدْ تَحَوّلَ عَلَى الْبَغْلَةِ
. قَالَ وَهْرِزُ بِنْتُ الْحِمَارِ ذَلّ وَذَلّ مُلْكُهُ إنّي سَأَرْمِيهِ فَإِنْ
رَأَيْتُمْ أَصْحَابَهُ لَمْ يَتَحَرّكُوا ، فَاثْبُتُوا حَتّى أُوذِنَكُمْ
فَإِنّي قَدْ أَخْطَأْت الرّجُلَ وَإِنْ رَأَيْتُمْ الْقَوْمَ قَدْ اسْتَدَارُوا
وَلَاثُوا بِهِ فَقَدْ أَصَبْت الرّجُلَ فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ . ثُمّ وَتّرَ
قَوْسَهُ وَكَانَتْ فِيمَا يَزْعُمُونَ لَا يُوتِرُهَا غَيْرُهُ مِنْ شِدّتِهَا ،
وَأَمَرَ بِحَاجِبَيْهِ فَعُصّبَا لَهُ ثُمّ رَمَاهُ فَصَكّ الْيَاقُوتَةَ الّتِي
بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَتَغَلْغَلَتْ النّشّابَةُ فِي رَأْسِهِ حَتّى خَرَجَتْ مِنْ
قَفَاهُ [ ص 141 ] وَنُكِسَ عَنْ دَابّتِهِ وَاسْتَدَارَتْ الْحَبَشَةُ وَلَاثَتْ
بِهِ وَحَمَلَتْ عَلَيْهِمْ الْفُرْس ُ ، وَانْهَزَمُوا ، فَقُتِلُوا وَهَرَبُوا
فِي كُلّ وَجْهٍ وَأَقْبَلَ وَهْرِزُ لِيَدْخُلَ صَنْعَاءَ ، حَتّى إذَا أَتَى
بَابَهَا ، قَالَ لَا تَدْخُلُ رَايَتِي مُنَكّسَةً أَبَدًا ، اهْدِمُوا الْبَابَ
فَهَدَمَ ثُمّ دَخَلَهَا نَاصِبًا رَايَتَهُ فَقَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ
الْحِمْيَرِيّ :
يَظُنّ النّاسَ بِالْمَلِكَيْنِ ... أَنّهُمَا قَدْ الْتَأَمَا
وَمَنْ يَسْمَعْ بِلَأْمِهِمَا ... فَإِنّ الْخَطَبَ قَدْ فَقُمَا
قَتَلْنَا الْقَيْلَ مَسْرُوقًا ... وَرَوّيْنَا الْكَثِيبَ دَمَا
وَإِنّ الْقَيْلَ قَيْلُ النّا ... سِ وَهْرِزَ مُقْسِمٌ قَسَمَا
يَذُوقُ مُشَعْشَعًا حَتّى ... يَفِيءَ السّبْيُ وَالنّعَمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَأَنْشَدَنِي
خَلّادُ بْنُ قُرّةَ السّدُوسِيّ آخِرَهَا بَيْتًا لِأَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ
يُنْكِرُهَا لَهُ .Sوَذَكَرَ
قُدُومَ سَيْفٍ مَعَ وَهْرِزَ عَلَى صَنْعَاءَ فِي سِتّمِائَةِ وَقَدْ قَدّمْنَا
قَوْلَ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَنّهُمْ كَانُوا سَبْعَةَ آلَافٍ وَخَمْسَمِائَةٍ وَانْضَافَتْ
إلَيْهِمْ قَبَائِلُ مِنْ الْعَرَبِ .
صَنْعَاءُ
وَذَكَرَ دُخُولَ وَهْرِزَ صَنْعَاءَ وَهَدْمَهُ بَابَهَا ، وَإِنّمَا كَانَتْ
تُسَمّى قَبْلَ ذَلِكَ أَوَالٍ . قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيّ وَسُمّيَتْ صَنْعَاءَ
لِقَوْلِ وَهْرِزَ حِينَ دَخَلَهَا : صَنْعَةً صَنْعَةً يُرِيدُ أَنّ الْحَبَشَةَ
أَحْكَمَتْ صَنْعَهَا ، قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ يَذْكُرُ أَوَالٍ :
عَمَدَ الْحُدَاةُ بِهَا لِعَارِضِ قَرْيَةٍ ... وَكَأَنّهَا سُفُنٌ بِسَيْفِ
أَوَاَلْ
وَقَالَ جَرِيرٌ
وَشَبّهَتْ الْحُدُوجَ غَدَاةَ قَوّ ... سَفِينَ الْهِنْدِ رَوّحَ مَنْ أَوَالَا
وَقَالَ الْأَخْطَلُ
خَوْصٍ كَأَنّ شَكِيمَهُنّ مُعَلّقٌ ... بِقَنَا رُدَيْنَةَ أَوْ جُذُوعٍ أَوَاَلْ
وَقَدْ قِيلَ إنّ صَنْعَاءَ اسْمُ الّذِي بَنَاهَا ، وَهُوَ صَنْعَاءُ بْنُ
أَوَاَلْ بْنِ عَبِيرِ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالِخَ فَكَانَتْ تُعْرَفُ تَارَةً
بِأَوَالِ وَتَارَةً بِصَنْعَاءَ .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 142 ] وَقَالَ أَبُو الصّلْتِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الثّقَفِيّ
، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَتُرْوَى لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ
لِيَطْلُبَ الْوِتْرَ أَمْثَالُ ابْنِ ذِي يَزَنَ ... رَيّمَ فِي الْبَحْرِ
لِلْأَعْدَاءِ أَحْوَالَا
يَمّمَ قَيْصَرَ لَمّا حَانَ رِحْلَتُهُ ... فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ بَعْضَ الّذِي
سَالَا
ثُمّ انْثَنَى نَحْوَ كِسْرَى بَعْدَ عَاشِرَةٍ ... مِنْ السّنِينَ يُهِينُ
النّفْسَ وَالْمَالَا
مَتَى أَتَى بِبَنِي الْأَحْرَارِ يَحْمِلُهُمْ ... إنّك عَمْرِي لَقَدْ
أَسْرَعَتْ قِلْقَالَا
لِلّهِ دَرّهُمْ مِنْ عُصْبَةٍ خَرَجُوا ... مَا إنْ أَرَى لَهُمْ فِي النّاسِ
أَمْثَالَا
بِيضًا مَرَازِبَةً غُلْبًا أَسَاوِرَةً ... أُسْدًا تُرَبّبُ فِي الْغَيْضَاتِ
أَشْبَالَا
يَرْمُونَ عَنْ شُدُفٍ كَأَنّهَا غُبُطٌ ... بِزَمْخَرٍ يُعَجّلُ الْمَرْمِيّ
إعْجَالَا
أَرْسَلْت أُسْدًا عَلَى سُودِ الْكِلَابِ فَقَدْ ... أَضْحَى شَرِيدُهُمْ فِي
الْأَرْضِ فُلّالَا
فَاشْرَبْ هَنِيئًا عَلَيْك التّاجُ مُرْتَفِقًا ... فِي رَأْسِ غُمْدَانَ دَارًا
مِنْك مِحْلَالَا
وَاشْرَبْ هَنِيئًا فَقَدْ شَالَتْ نَعَامَتُهُمْ ... وَأَسْبِلْ الْيَوْمَ فِي
بُرْدَيْك إسْبَالَا
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قُعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شَيْبًا بِمَاءِ فَعَادَا
بَعْدَ أَبْوَالَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا مَا صَحّ لَهُ مِمّا رَوَى ابْنُ إسْحَاقَ مِنْهَا ،
إلّا آخِرَهَا بَيْتًا قَوْلُهُ تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ [
ص 143 ] لِلنّابِغَةِ الْجَعْدِيّ . وَاسْمُهُ [ حِبّانُ بْنُ ] عَبْدِ اللّهِ
بْنِ قَيْسٍ ، أَحَدُ بَنِي جَعْدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ
بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ ، فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ . [ ص 144 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَدِيّ بْنُ زَيْدٍ الْحِيرِيّ ،
وَكَانَ أَحَدَ بَنِي تَمِيمٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : ثُمّ أَحَدُ بَنِي امْرِئِ
الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَيُقَالُ عَدِيّ مِنْ الْعِبَادِ
مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ :
مَا بَعْدَ صَنْعَاءَ كَانَ يَعْمُرُهَا ... وُلَاةُ مُلْكٍ جَزْلٍ مَوَاهِبُهَا
رَفّعَهَا مَنْ بَنَى لَدَى قَزَعِ الْ ... مُزْنِ وَتَنْدَى مِسْكًا مَحَارِبُهَا
مَحْفُوفَةٌ بِالْجِبَالِ دُونَ عُرَى الْ ... كَائِدِ مَا تُرْتَقَى غَوَارِبُهَا
يَأْنِسُ فِيهَا صَوْتُ النّهَامِ إذَا ... جَاوَبَهَا بِالْعَشِيّ قَاصِبُهَا
سَاقَتْ إلَيْهِ الْأَسْبَابُ جُنْدَ بَنِي الْأَحَ ... رَارِ فُرْسَانُهَا
مَوَاكِبُهَا
وَفَوّزَتْ بِالْبِغَالِ تُوسَقُ بِالْ ... حَتْفِ وَتَسْعَى بِهَا تَوَالِبُهَا
حَتّى رَآهَا الْأَقْوَالُ مِنْ طَرَفِ الْ ... مَنْقَلِ مُخْضَرّةً كَتَائِبُهَا
يَوْمَ يُنَادُونَ آلَ بَرْبَرَ وَاَلْ ... يَكْسُومَ لَا يُفْلِحَن هَارِبُهَا
وَكَانَ يَوْمَ بَاقِي الْحَدِيثِ وَزَا ... لَتْ إمّةٌ ثَابِتٌ مَرَاتِبُهَا
وَبُدّلَ الْفَيْجُ بِالزّرَافَةِ وَالْأَيَا ... مُ جُونٌ جَمّ عَجَائِبُهَا
بَعْدَ بَنِي تُبّعٍ نَخَاوِرَةٌ ... قَدْ اطْمَأَنّتْ بِهَا مَرَازِبُهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَأَنْشَدَنِي
أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ وَرَوَاهُ لِي عَنْ الْمُفَضّلِ الضّبّيّ قَوْلُهُ
يَوْمَ يُنَادِنّ آلَ بَرْبَرَ وَالْيَكْسُومَ وَهَذَا الّذِي عَنَى سَطِيحٌ
بِقَوْلِهِ " يَلِيهِ إرَمُ ذِي يَزَنَ ، يَخْرَجُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنٍ ،
فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ " . وَاَلّذِي عَنَى شِقّ
بِقَوْلِهِ " غُلَامٌ لَيْسَ بِدَنِيّ وَلَا مُدْنٍ يَخْرَجُ عَلَيْهِمْ مِنْ
بَيْتِ ذِي يَزَنَ " [ ص 145 ]Sشَرْحٌ
لَامِيّةِ ابْنِ أَبِي الصّلْتِ
[ ص 142 ] أُمَيّةَ بْنِ أَبِي الصّلْتِ : رَيّمَ فِي الْبَحْرِ . أَيْ أَقَامَ
فِيهِ وَمِنْهُ الرّوَايِمُ وَهِيَ الْأَثَافِي ، كَذَلِكَ وَجَدْته فِي حَاشِيَة
الشّيْخِ الّتِي عَارَضَهَا بِكِتَابَيْ " أَبِي الْوَلِيدِ الْوَقْشِيّ
" ، وَهُوَ عِنْدِي غَلَطٍ لِأَنّ الرّوَايِمَ مِنْ رَأَمَتْ إذَا عَطَفَتْ
وَرَيّمَ لَيْسَ مِنْ رَأَمَ وَإِنّمَا هُوَ مِنْ الرّيْمِ وَهُوَ الدّرَجُ أَوْ
مِنْ الرّيْمِ الّذِي هُوَ الزّيَادَةُ وَالْفَضْلُ أَوْ مِنْ رَامَ يَرِيمُ إذَا
بَرِحَ كَأَنّهُ يُرِيدُ غَابَ زَمَانًا ، وَأَحْوَالًا ، ثُمّ رَجَعَ
لِلْأَعْدَاءِ وَارْتَقَى فِي دَرَجَاتِ الْمَجْدِ أَحْوَالًا إنْ كَانَ مِنْ
الرّيْمِ الّذِي هُوَ الدّرْجُ وَوَجَدْته فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ خَيّمَ
مَكَانَ رَيّمَ فَهَذَا مَعْنَاهُ أَقَامَ . وَقَوْلُهُ عَمْرِي . أَرَادَ
لَعَمْرِي وَقَدْ قَالَ الطّائِيّ :
عَمْرِي لَقَدْ نَصَحَ الزّمَانُ وَإِنّهُ ... لَمِنْ الْعَجَائِبِ نَاصِحٌ لَا
يُشْفَقُ
وَقَوْلُهُ أَسْرَعَتْ قِلْقَالًا بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا ، وَكَقَوْلِ
الْآخَرِ " وَقَلْقَلَ يَبْغِي الْعِزّ كُلّ مُقَلْقَلٍ " وَهِيَ شِدّةُ
الْحَرَكَةِ . [ ص 143 ] شُدُفٍ كَأَنّهَا غُبُطٌ " الشّدَفُ الشّخْصُ
وَيُجْمَعُ عَلَى شُدُفٍ وَلَمْ يُرِدْ هَهُنَا إلّا الْقِسِيّ وَلَيْسَ شُدُفٌ
جَمْعًا لِشَدَفٍ وَإِنّمَا هُوَ جَمْعُ شَدُوفٌ وَهُوَ النّشِيطُ الْمَرِحُ
يُقَالُ شَدِفَ فَهُوَ شَدِفٌ ثُمّ تَقُولُ شَدُوفٌ كَمَا تَقُولُ مَرُوحٌ وَقَدْ
يُسْتَعَارُ الْمَرَحُ وَالنّشَاطُ لِلْقِسِيّ لِحُسْنِ تَأَتّيهَا وَجَوْدَةِ
رَمْيِهَا وَإِصَابَتِهَا ، وَإِنّمَا احْتَجْنَا إلَى هَذَا التّأْوِيلِ لِأَنّ
فَعَلًا لَا يُجْمَعُ عَلَى فُعُلٍ إلّا وَثَنٌ وَوُثُنٌ فَإِنْ قُلْت :
فَيُجْمَعُ عَلَى فُعُولٍ مِثْلُ أُسُودٍ فَتَقُولُ شَدُوفٌ ثُمّ تَجْمَعُ
الْجَمْعَ فَتَقُولُ شُدُفٌ قُلْنَا : الْجَمْعُ الْكَثِيرُ لَا يُجْمَعُ
وَإِنّمَا يُجْمَعُ مِنْهُ أَبْنِيَةُ الْقَلِيلِ . نَحْوَ أَفْعَالٍ وَأَفْعُلٍ
وَأَفْعِلَةٍ وَأَشْبَهُ مَا يُقَالُ فِي هَذَا الْبَيْتِ إنّهُ جَمْعٌ عَلَى
غَيْرِ قِيَاسٍ هَذَا إنْ كَانَ الشّدُفُ الْقِسِيّ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
جَمَعَ شَدَفًا عَلَى شُدْفٍ مِثْلُ أَسَدٍ وَأُسْدٍ ، ثُمّ حَرّكَ الدّالَ
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْمَرِحَ مِنْ الْخَيْلِ كَمَا تَقَدّمَ .
وَجَعَلَهَا كَالْغُبُطِ لِإِشْرَافِ ظُهُورِهَا وَعُلُوّهَا . وَقَوْلُهُ
يَرْمُونَ عَنْ شُدُفٍ أَيْ يَدْفَعُونَ عَنْهَا بِالرّمْيِ وَيَكُونُ الزّمْخَرُ
الْقَسِيّ ، أَوْ النّبْلُ . وَالْغُبُطُ الْهَوَادِجُ وَالزّمْخَرُ الْقَصَبُ
الْفَارِسِيّ . وَقَوْلُهُ فِي رَأْسِ غُمْدَانَ . ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنّ
غُمْدَانَ أَسّسَهُ يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ وَأَكْمَلَهُ بَعْدَهُ وَاحْتَلّهُ
وَائِلُ بْنُ حِمْيَرَ بْنِ سَبَأٍ ، وَكَانَ مَلِكًا مُتَوّجًا كَأَبِيهِ
وَجَدّهِ . وَقَوْلُهُ شَالَتْ نَعَامَتُهُمْ أَيْ هَلَكُوا ، وَالنّعَامَةُ
بَاطِنُ الْقَدَمِ وَشَالَتْ ارْتَفَعَتْ وَمَنْ هَلَكَ ارْتَفَعَتْ رِجْلَاهُ وَانْتَكَسَ
رَأْسُهُ فَظَهَرَتْ نَعَامَةُ قَدَمِهِ تَقُولُ الْعَرَبُ : تَنَعّمْت إذَا
مَشَيْت حَافِيًا ، قَالَ الشّاعِرُ
تَنَعّمْت لَمّا جَاءَنِي سُوءُ فِعْلِهِمْ ... أَلَا إنّمَا الْبَأْسَاءُ
لِلْمُتَنَعّمِ
وَالنّعَامَةُ أَيْضًا : الظّلْمَةُ وَالنّعَامَةُ الدّعَامَةُ الّتِي تَكُونُ
عَلَيْهَا الْبَكَرَةُ وَالنّعَامَةُ الْجَمَاعَةُ مِنْ النّاسِ وَابْنُ
النّعَامَةِ عِرْقٌ فِي بَاطِنِ الْقَدَمِ .
النّابِغَةُ وَعَدِيّ بْنُ زَيْدٍ
وَذَكَرَ النّابِغَةَ الْجَعْدِيّ وَاسْمُهُ قَيْسُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَقِيلَ
إنّ اسْمَهُ حِبّانُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ وَحْوَحَ وَالْوَحْوَحُ
فِي اللّغَةِ وَسَطُ الْوَادِي ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ
أَحَدُ [ ص 144 ] ذَكَرَهُمْ الْبَكْرِيّ ، وَذَكَرَ الْأَعَاشِي وَهُمْ خَمْسَةَ
عَشَرَ . وَالنّابِغَةُ شَاعِرٌ مُعَمّرٌ عَاشَ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً
أَكْثَرُهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَقُدُومُهُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَإِنْشَادُهُ إيّاهُ وَدُعَاءُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَلّا يَفُضّ اللّهُ فَاهُ مَشْهُورٌ وَفِي كُتُبِ الْأَدَبِ
وَالْخَبَرِ مَسْطُورٌ فَلَا مَعْنَى لِلْإِطَالَةِ بِهِ . [ ص 145 ] وَذَكَرَ
شِعْرَ عَدِيّ بْنِ زَيْدٍ الْعِبَادِيّ ، نُسِبَ إلَى الْعِبَادِ وَهُمْ مِنْ
عَبْدِ الْقَيْسِ بْنِ أَفْصَى بْنِ دُعْمِيّ بْن جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ
، قِيلَ إنّهُمْ انْتَسَلُوا مِنْ أَرْبَعَةٍ عَبْدِ الْمَسِيحِ وَعَبْدِ كُلَالٍ
وَعَبْدِ اللّهِ وَعَبْدِ يالَيْل ، وَكَذَلِكَ سَائِرُهُمْ فِي اسْمِ كُلّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَبْدٌ وَكَانُوا قَدِمُوا عَلَى مَلِكٍ فَتَسَمّوْا لَهُ
فَقَالَ أَنْتُمْ الْعِبَادُ فَسُمّوا بِذَلِكَ وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ هَذَا . وَفِي
الْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ أَبْعَدُ النّاسِ عَنْ الْإِسْلَامِ الرّومُ وَالْعِبَادُ
وَأَحْسَبُهُمْ هَؤُلَاءِ لِأَنّهُمْ تَنَصّرُوا ، وَهُمْ مِنْ رَبِيعَةَ ، ثُمّ
مِنْ بَنِي عَبْدِ الْقَيْسِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَاَلّذِي ذَكَرَهُ الطّبَرِيّ
فِي نَسَبِ عَدِيّ بْنِ زَيْدٍ أَنّهُ ابْنُ زَيْدِ بْنِ حَمّادِ بْنِ أَيّوبَ
بْنِ مَجْرُوفِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عُصَيّةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ
مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ . وَقَدْ دَخَلَ بَنُو امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ
مَنَاةَ فِي الْعِبَادِ . فَلِذَلِكَ يُنْسَبُ عَدِيّ إلَيْهِمْ . وَقَوْلُهُ
صَوْتُ النّهَامِ يُرِيدُ ذِكْرَ الْيَوْمِ وَقَاصِبُهَا : الّذِي يُزَمّرُ فِي
الْقَصَبِ . وَقَوْلُهُ فِيهَا : دُونَ عُرَى الْكَائِدِ يُرِيدُ عُرَى السّمَاءِ
وَأَسْبَابُهَا ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ عَرَى بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَهِيَ
النّاحِيَةُ وَأَضَافَهَا إلَى الْكَائِدِ وَهُوَ الّذِي كَادَهُمْ وَالْبَارِي -
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - كَيْدُهُ مَتِينٌ . وَقَوْلُهُ فَوّزَتْ بِالْبِغَالِ
أَيْ رَكِبَتْ الْمَفَاوِزَ . وَقَوْلُهُ تُوسَقُ بِالْحَتْفِ أَيْ أَوْسَقَ
الْبِغَالَ الْحُتُوف ، وَتَوَالِبُهَا : جَمْعُ تَوْلَبٍ وَهُوَ وَلَدُ
الْحِمَارِ وَالتّاءُ فِي تَوْلَبٍ بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ كَمَا فِي تَوْأَمٌ
وَتَوْلَجٌ وَفِي تَوْرَاةٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنّ اشْتِقَاقَ التّوْلَبِ
مِنْ الْوَالِبَةِ وَهِيَ مَا يُوَلّدُهُ الزّرْعُ وَجَمْعُهَا : أَوَالِبُ .
وَقَوْلُهُ مِنْ طَرَفِ الْمَنْقَلِ أَيْ مِنْ أَعَالِي حُصُونِهَا ،
وَالْمِنْقَالُ الْخَرْجُ يُنْقَلُ إلَى الْمُلُوكِ مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ
فَكَأَنّ الْمَنْقَلَ مِنْ هَذَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ مُخْضَرّةٌ
كَتَائِبُهَا . يَعْنِي مِنْ الْحَدِيدِ وَمِنْهُ الْكَتِيبَةُ الْخَضْرَاءُ .
وَقَوْلُهُ يُنَادَوْنَ آلَ بَرْبَرَ ؛ لِأَنّ الْبَرْبَرَ وَالْحَبَشَةَ مِنْ
وَلَدِ حَامٍ . وَقَدْ قِيلَ إنّهُمْ مِنْ وَلَدِ جَالُوتَ مِنْ الْعَمَالِيقِ . [
ص 146 ] قِيلَ فِي جَالُوتَ إنّهُ مِنْ الْخَزَرِ ، وَإِنّ أفريقس لَمّا خَرَجَ
مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ سَمِعَ لَهُمْ بَرْبَرَةً وَهِيَ اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ
فَقَالَ مَا أَكْثَرَ بَرْبَرَتَهُمْ فَسُمّوا بِذَلِكَ وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا . وَقَوْلُهُ
وَالْغُرُبُ أَرَادَ الْغُرُبَ بِضَمّ الرّاءِ جَمْعُ : غُرَابٍ وَإِنْ كَانَ
الْمَعْرُوفُ أَغْرِبَةً وَغِرْبَانٌ وَلَكِنّ الْقِيَاسَ لَا يَدْفَعُهُ وَعَنَى
بِهِمْ السّودَانَ . وَقَوْلُهُ وَبُدّلَ الْفَيْجُ بِالزّرَافَةِ وَهُوَ
الْمُنْفَرِدُ فِي مِشْيَتِهِ وَالزّرَافَةُ الْجَمَاعَةُ وَقِيلَ فِي الزّرَافَةِ
الّتِي هِيَ حَيَوَانٌ طَوِيلُ الْعُنُقِ إنّهُ اخْتَلَطَ فِيهَا النّسْلُ بَيْنَ
الْإِبِلِ الْوَحْشِيّةِ وَالْبَقَرِ الْوَحْشِيّةِ وَالنّعَامِ وَإِنّهَا
مُتَوَلّدَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الثّلَاثَةِ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ
الزّبَيْدِيّ وَغَيْرُهُ وَأَنْكَرَ الْجَاحِظُ هَذَا فِي كِتَابِ الْحَيَوَانِ
لَهُ وَقَالَ إنّمَا دَخَلَ هَذَا الْغَلَطُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَسْمِيَةِ الْفُرْسِ
لَهَا " اشْتَرِ - كَاوِ - مَاهَ " . وَالْفُرْسُ إنّمَا سَمّتْهُ
بِذَلِكَ لِأَنّ فِي خِلْقَتِهَا شَبَهًا مِنْ جَمَلٍ وَنَعَامَةٍ وَبَقَرَةٍ
فَاشْتَرِ هُوَ الْجَمَلُ وَكَاوِ النّعَامَةُ وَمَاهُ الْبَقَرَةُ وَالْفُرْسُ
تُرَكّبُ الْأَسْمَاءَ وَتُمْزَجُ الْأَلْفَاظُ إذَا كَانَ فِي الْمُسَمّى شَبَهٌ
مِنْ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ وَيُقَالُ زَرَافّةٌ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ حَكَاهُ
أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ الْقَنَانِيّ . وَقَوْلُهُ بَعْدَ بَنِي تُبّعٍ بَجَاوِرَةٌ .
هَكَذَا فِي نُسْخَةِ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الْأَسَدِيّ مُصَحّحًا
عَلَيْهِ وَقَدْ كَتَبَ فِي الْحَاشِيَةِ نَخَاوَرَةٌ فِي الْأَمِينِ وَفِي
الْحَاشِيَةِ النّخَاوِرَةُ الْكِرَامُ وَكَذَلِكَ فِي الْمَسْمُوعَةِ عَلَى ابْنِ
هِشَامٍ يَعْنِي نُسْخَتَيْ أَبِي الْوَلِيدِ الْوَقْشِيّ اللّتَيْنِ قَابَلَ
بِهِمَا مَرّتَيْنِ وَيَعْنِي بِالْحَاشِيَةِ حَاشِيَة " تِينك الْأَمِين
" وَأَنّ فِيهِمَا : نَخَاوَرَةً بِالنّونِ وَالْخَاءِ الْمَنْقُوطَةِ وَهُمْ
الْكِرَامُ كَمَا ذُكِرَ .
ذِكْرُ
مَا انْتَهَى إلَيْهِ أَمْرُ الْفُرْسِ بِالْيَمَنِ
مُدّةُ مُلْكِ الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ
[ ص 146 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ وَهْرِزُ وَالْفُرْسُ بِالْيَمَنِ ،
فَمِنْ بَقِيّةِ ذَلِكَ الْجَيْشِ مِنْ الْفُرْسِ : الْأَبْنَاءُ الّذِينَ
بِالْيَمَنِ الْيَوْمَ . وَكَانَ مَلِكُ الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ ، فِيمَا بَيْنَ
أَنْ دَخَلَهَا أَرْيَاطُ إلَى أَنْ قَتَلَتْ الْفُرْسُ مَسْرُوقَ بْنَ أَبْرَهَةَ
وَأَخْرَجَتْ الْحَبَشَةَ ، اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً تَوَارَثَ ذَلِكَ
مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ أَرْيَاطٌ ، ثُمّ أَبْرَهَةُ ، ثُمّ يَكْسُومُ بْنُ
أَبْرَهَةَ ثُمّ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةَ .
أُمَرَاءُ الْفُرْسِ عَلَى الْيَمَنِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : ثُمّ مَاتَ وَهْرِزُ فَأَمَرَ كِسْرَى ابْنَهُ
الْمَرْزُبَانِ بْنِ وَهْرِزَ عَلَى الْيَمَنِ ، ثُمّ [ ص 147 ] فَأَمَرَ كِسْرَى
ابْنَهُ التّيْنُجَانَ بْنَ الْمَرْزُبَانِ عَلَى الْيَمَنِ ، ثُمّ مَاتَ
التّيْنُجَانُ فَأَمَرَ كِسْرَى ابْنَ التّيْنُجَانِ عَلَى الْيَمَنِ ، ثُمّ
عَزَلَهُ وَأَمّرَ بَاذَانَ فَلَمْ يَزَلْ بَاذَانُ عَلَيْهَا حَتّى بَعَثَ اللّهُ
مُحَمّدًا النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
حَدِيثٌ يَتَنَبّأُ بِقَتْلِ كِسْرَى
فَبَلَغَنِي عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ كَتَبَ كِسْرَى إلَى بَاذَانَ : أَنّهُ
بَلَغَنِي أَنّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ خَرَجَ بِمَكّةَ ، يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ ،
فَسِرْ إلَيْهِ فَاسْتَتِبْهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلّا فَابْعَثْ إلَيّ بِرَأْسِهِ
فَبَعَثَ بَاذَانُ بِكِتَابِ كِسْرَى إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - فَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
إنّ اللّهَ قَدْ وَعَدَنِي أَنْ يَقْتُلَ كِسْرَى فِي يَوْمِ كَذَا مِنْ شَهْرِ
كَذَا فَلَمّا أَتَى بَاذَانَ الْكِتَابُ تَوَقّفَ لِيَنْظُرَ وَقَالَ إنْ كَانَ
نَبِيّا ، فَسَيَكُونُ مَا قَالَ فَقَتَلَ اللّهُ كِسْرَى فِي الْيَوْمِ الّذِي
قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
قُتِلَ عَلَى يَدَيْ ابْنِهِ شِيرَوَيْهِ وَقَالَ خَالِدُ بْنُ حَقّ الشّيْبَانِيّ
:
وَكِسْرَى إذْ تَقَسّمَهُ بَنُوهُ ... بِأَسْيَافِ كَمَا اُقْتُسِمَ اللّحَامُ
تَمَخّضَتْ الْمَنُونُ لَهُ بِيَوْمِ ... أَنَى ، وَلِكُلّ حَامِلَةٍ تِمَامُ
بَاذَانُ يُسْلِمُ
قَالَ الزّهْرِيّ : فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ بَاذَانَ بَعَثَ بِإِسْلَامِهِ
وَإِسْلَامِ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْفُرْسِ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَتْ الرّسُلُ مِنْ الْفُرْسِ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى مَنْ نَحْنُ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ أَنْتُمْ
مِنّا وَإِلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَبَلَغَنِي عَنْ
الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ فَمِنْ ثَمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَلْمَانُ مِنّا أَهْلَ الْبَيْتِ . [ ص 148 ] [ ص 149 ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَهُوَ الّذِي عَنَى سَطِيحٌ بِقَوْلِهِ " نَبِيّ
زَكِيّ ، يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيّ " . وَاَلّذِي عَنَى
شِقّ بِقَوْلِهِ " بَلْ يَنْقَطِعُ بِرَسُولِ مُرْسَلٍ يَأْتِي بِالْحَقّ
وَالْعَدْلِ مِنْ أَهْلِ الدّينِ وَالْفَضْلِ يَكُونُ الْمَلِكُ فِي قَوْمِهِ إلَى
يَوْمِ الْفَصْلِ " .Sبَاذَانُ
وَكِسْرَى
[ ص 147 ] وَذَكَرَ قِصّةَ بَاذَانَ ، وَمَا كَتَبَ بِهِ إلَى كِسْرَى ، وَكِسْرَى
هَذَا هُوَ أَبَرْوَيْزُ بْنُ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ ، وَمَعْنَى
أَبْرَوَيْزَ بِالْعَرَبِيّةِ الْمُظَفّرُ وَهُوَ الّذِي غَلَبَ الرّومَ حِينَ
أَنَزَلَ اللّهُ { الم غُلِبَتِ الرّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ } [ أَوّلُ الرّومِ
] وَهُوَ الّذِي عُرِضَ عَلَى اللّهِ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ [ ص 148 ] صَاحِبِ
الْهِرَاوَةِ فَلَمْ يَزَلْ مَذْعُورًا مِنْ ذَلِكَ حَتّى كَتَبَ إلَيْهِ
النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ بِظُهُورِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - بِتِهَامَةَ ، فَعَلِمَ أَنّ الْأَمْرَ سَيَصِيرُ إلَيْهِ حَتّى كَانَ
مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ وَهُوَ الّذِي كَتَبَ إلَيْهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَحَفِيدُهُ يَزْدَجِرْدُ بْنُ شَهْرَيَارَ بْنِ أَبْرَوَيْزَ
وَهُوَ آخِرُ مُلُوكِ الْفُرْسِ ، وَكَانَ سُلِبَ مُلْكُهُ وَهُدِمَ سُلْطَانُهُ
عَلَى يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ، ثُمّ قُتِلَ هُوَ فِي أَوّلِ خِلَافَةِ
عُثْمَانَ ، وُجِدَ مُسْتَخْفِيًا فِي رَحًى فَقُتِلَ وَطُرِحَ فِي قَنَاةِ
الرّحَى ، وَذَلِكَ بِمَرْوَ مِنْ أَرْضِ فَارِسَ . وَذَكَرَ حَدِيثَ بَاذَانَ
وَمَقْتَلَ كِسْرَى ، وَكَانَ مَقْتَلُ كِسْرَى حِينَ قَتَلَهُ بَنُوهُ لَيْلَةَ
الثّلَاثَاءِ لِعَشْرِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سَبْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ
وَأَسْلَمَ بَاذَانُ بِالْيَمَنِ فِي سَنَةِ عَشْرٍ وَفِيهَا بَعَثَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْأَبْنَاءِ يَدْعُوهُمْ إلَى
الْإِسْلَامِ فَمِنْ الْأَبْنَاءِ وَهْبُ بْنُ مُنَبّهِ بْنِ سَيْجِ بْنِ
ذُكْبَارٍ ، وَطَاوُوسٌ وَذَادَوَيْهِ وَفَيْرُوزُ اللّذَانِ قَتَلَا الْأَسْوَدَ
الْعَنْسِيّ الْكَذّابَ وَقَدْ قِيلَ فِي طَاوُوسٍ إنّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَبْنَاءِ
وَإِنّهُ مِنْ حِمْيَرَ ، وَقَدْ قِيلَ مِنْ فَارِسَ ، وَاسْمُهُ ذَكْوَانُ بْنُ
كَيْسَانَ وَهُوَ مَوْلَى بُجَيْرِ بْنِ رَيْسَانَ وَقَدْ قِيلَ مَوْلَى الْجَعْدِ
وَكَانَ يُقَالُ لَهُ طَاوُوسٌ الْقَرّاءُ لِجَمَالِهِ . وَقَوْلُ خَالِدِ بْنِ
حِقّ
تَمَخّضَتْ الْمَنُونُ لَهُ بِيَوْمِ ... أَنَى ؛ وَلِكُلّ حَامِلَةٍ تِمَامُ
الْمَنُونُ الْمَنِيّةُ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ أَسْمَاءِ الدّهْرِ وَهُوَ مِنْ
مَنَنْت الْحَبْلَ إذَا قَطَعْته ، وَفَعُولٌ إذَا كَانَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لَمْ
تَدْخُلْ التّاءُ فِي مُؤَنّثِهِ لِسِرّ بَدِيعٍ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا
الْكِتَابِ فَيُقَالُ امْرَأَةٌ صَبُورٌ وَشَكُورٌ فَمَعْنَى الْمَنُونِ
الْمَقْطُوعُ وَتَمَخّضَتْ أَيْ حَمَلَتْ وَالْمَخَاضُ الْحَمْلُ وَوَزْنُهُ
فَعَالٌ وَمَخَاضَةُ الْمَاءِ وَمَخَاضَةُ [ النّهْرِ ] وَزْنُهُ مَفْعَلٌ مِنْ
الْخَوْضِ . وَقَوْلُهُ أَنَى ، أَيْ حَانَ وَقَدْ قَلَبُوهُ فقالوا : آنَ يَئِينُ
وَالدّلِيلُ عَلَى أَنّ آنَ يَئِينُ مَقْلُوبٌ مِنْ أَنّى يَأْنَى ، قَوْلُهُ
آنَاءَ اللّيْلِ وَوَاحِدُهَا : إنًى وَأَنًى وَإِنْيٌ فَالنّونُ مُقَدّمَةٌ عَلَى
الْيَاءِ فِي كُلّ هَذَا ، وَفِي كُلّ مَا صُرِفَ مِنْهُ نَحْوَ الْإِنَاءِ
وَالْآنِي : الّذِي بَلَغَ أَنَاهٍ أَيْ مُنْتَهَى وَقْتِهِ فِي التّسْخِينِ
وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ الدّهْرُ حُبْلَى لَا يَدْرِي مَا
تَضَعُ إنْ كَانَ أَرَادَ [ ص 149 ] كَانَ أَرَادَ بِالْمَنُونِ الْمَنِيّةَ فَبَعِيدٌ
أَنْ يُقَالَ تَمَخّضَتْ الْمَنُونُ لَهُ بِهَذَا الْيَوْمِ الّذِي مَاتَ فِيهِ
فَإِنّ مَوْتَهُ مُنْيَتُهُ فَكَيْفَ تَتَمَخّضُ الْمُنْيَةُ بِالْمُنْيَةِ إلّا
أَنْ يُرِيدَ أَسِبَابَهَا ، وَمَا مُنِيَ لَهُ أَيْ قُدّرَ مِنْ وَقْتِهَا ،
فَتَصِحّ الِاسْتِعَارَةُ حِينَئِذٍ وَيَسْتَقِيمُ التّشْبِيهُ . وَقَوْلُ ابْنِ
حِقّ وَكِسْرَى إذْ تَقْسِمُهُ بَنُوهُ . وَإِنّمَا كَانَ قَتْلُهُ عَلَى يَدَيْ
ابْنِهِ شِيرَوَيْهِ لَكِنْ ذَكَرَ بَنِيهِ لِأَنّ بَدْءَ الشّرّ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمْ أَنّ فَرْخَانَ رَأَى فِي النّوْمِ أَنّهُ قَاعِدٌ عَلَى سَرِيرِ
الْمُلْكِ فِي مَوْضِعِ أَبِيهِ فَبَلَغَ أَبَاهُ ذَلِكَ فَكَتَبَ إلَى ابْنِهِ
شَهْرَيَارَ - وَكَانَ وَالِيًا لَهُ عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ أَنْ اُقْتُلْ
أَخَاك فَرْخَانَ فَأَخْفَى شَهْرَيَارُ الْكِتَابَ مِنْ أَخِيهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ
مَرّةً أُخْرَى ، فَأَبَى مِنْ ذَلِكَ فَعَزَلَهُ وَوَلّى فَرْخَانَ وَأَمَرَهُ
بِقَتْلِ شَهْرَيَارَ فَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ فَأَرَاهُ شَهْرَيَارُ الْكِتَابَ
الّذِي كَتَبَ لَهُ أَبُوهُ فِيهِ فَتَوَاطَآ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى الْقِيَامِ
عَلَى أَبِيهِمَا ، وَأَرْسَلَا إلَى مَلِكِ الرّومِ يَسْتَعِينَانِ بِهِ فِي
خَبَرٍ طَوِيلٍ فَكَانَ هَذَا بَدْءَ الشّرّ ثُمّ إنّ الْفُرْسَ خَلَعَتْ كِسْرَى
لِأَحْدَاثِ أَحْدَثَهَا ، وَوَلّتْ ابْنَهُ شِيرَوَيْهِ فَكَانَ كِسْرَى
أَبْرَوَيْزَ رُبّمَا أَشَارَ بِرَأْيِ مِنْ مَحْبِسِهِ فَقَالَتْ الْمَرَازِبَةُ
لِشِيرَوَيْهِ لَا يَسْتَقِيمُ لَك الْمُلْكُ إلّا أَنْ تَقْتُلَ أَبَاك ،
فَأَرْسَلَ إلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُهُ فَيُقَالُ إنّهُ كَانَ يَضْرِبُ بِالسّيْفِ
فَمَا يَعْمَلُ فِيهِ شَيْئًا ، فَفَتّشَ فَوَجَدَ عَلَى عَضُدِهِ حَجَرٌ مُعَلّقٌ
كَالْخَرَزَةِ فَنُزِعَ فَعَمِلَتْ فِيهِ السّلَاحُ وَكَانَ قَبْلُ يَقُولُ
لَابْنِهِ يَا قَصِيرَ الْعُمْرِ فَلَمْ يَدُمْ أَمْرُهُ بَعْدَهُ إلّا أَقَلّ
مِنْ سِتّةِ أَشْهُرٍ - فِيمَا ذَكَرُوا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ
الْحَجَرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ فِي حَجَرٍ بِالْيَمَنِ - فِيمَا يَزْعُمُونَ -
كِتَابٌ بِالزّبُورِ كُتِبَ فِي [ ص 150 ] ذِمَارٍ ؟ لِحِمْيَرَ الْأَخْيَارِ
لِمَنْ مُلْك ذِمَارَ ؟ لِلْحَبَشَةِ الْأَشْرَارِ لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارَ ؟
لِفَارِسَ الْأَحْرَارِ لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارَ ؟ لِقُرَيْشِ التّجّارِ " .
وَذِمَارُ : الْيَمَنُ أَوْ صَنْعَاءُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : ذَمَارُ :
بِالْفَتْحِ فِيمَا أَخْبَرَنِي يُونُسُ .
الْأَعْشَى وَنُبُوءَةُ شِقّ وَسُطَيْحٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ الْأَعْشَى - أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ فِي وُقُوعِ مَا قَالَ سَطِيحٌ وَصَاحِبُهُ
مَا نَظَرَتْ ذَاتُ أَشْفَارٍ كَنَظْرَتِهَا ... حَقّا كَمَا صَدَقَ الذّئْبِيّ
إذْ سَجَعَا
وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ لِسَطِيحِ الذّئْبِيّ ، لِأَنّهُ سَطِيحُ بْنُ
رَبِيعَةَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنَ بْنِ ذِئْبٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .Sذِمَارُ
وَحِمْيَرُ وَفَارِسُ وَالْحَبَشَةُ
[ ص 151 ] بِالْيَمَنِ : لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارَ ؟ وَحَكَى ابْنُ هِشَامٍ عَنْ
يُونُسَ ذَمَارَ بِفَتْحِ الذّالِ فَدَلّ عَلَى أَنّ رِوَايَةَ ابْنِ إسْحَاقَ
بِالْكَسْرِ [ ص 150 ] كَانَ بِكَسْرِ الذّالِ فَهُوَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ لِأَنّهُ
اسْمٌ لِمَدِينَةِ وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ التّأْنِيثُ وَيَجُوزُ صَرْفُهُ أَيْضًا
؛ لِأَنّهُ اسْمُ بَلَدٍ وَإِذَا فُتِحَتْ الذّالُ فَهُوَ مَبْنِيّ مِثْلُ رَقَاشِ
وَحَذَامِ وَبَنُو تَمِيمٍ يُعْرِبُونَ مِثْلَ هَذَا الْبِنَاءِ فَيَقُولُونَ
رَقَاشُ [ وَحَذَامُ ] فِي الرّفْعِ وَرَقَاشَ وَحَذَامَ فِي النّصْبِ وَالْخَفْضِ
يُعْرِبُونَهُ وَلَا يَصْرِفُونَهُ فَإِذَا كَانَ لَامُ الْفِعْلِ رَاءً اتّفَقُوا
مَعَ أَهْلِ الْحِجَازِ عَلَى الْبِنَاءِ وَالْكَسْرِ . وَذَمَارِ : مِنْ ذَمَرْتُ
الرّجُلَ إذَا حَرّضْته عَلَى الْحَرْبِ . وَقَوْلُهُ لِحِمْيَرَ الْأَخْيَارُ
لِأَنّهُمْ كَانُوا أَهْلَ دِينٍ كَمَا تَقَدّمَ فِي حَدِيثِ فَيْمُونَ وَابْنِ
الثّامِرِ . وَقَوْلُهُ لِفَارِسَ الْأَحْرَارُ فَلِأَنّ الْمُلْكَ فِيهِمْ مُتَوَارِثٌ
مِنْ أَوّلِ الدّنْيَا مِنْ عَهْدِ جيومرت فِي زَعْمِهِمْ إلَى أَنْ جَاءَ
الْإِسْلَامُ لَمْ يَدِينُوا لِمَلِكِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَا أَدّوْا الْأَتَاوَةَ
لِذِي سُلْطَانٍ مِنْ سِوَاهُمْ فَكَانُوا أَحْرَارًا لِذَلِكَ . وَأَمّا قَوْلُهُ
لِلْحَبَشَةِ الْأَشْرَارُ فَلَمّا أَحْدَثُوا فِي الْيَمَنِ مِنْ الْعَيْثِ
وَالْفَسَادِ وَإِخْرَابِ الْبِلَادِ حَتّى هَمّوا بِهَدْمِ بَيْتِ اللّهِ
الْحَرَامِ ، وَسَيَهْدِمُونَهُ فِي آخِرِ الزّمَانِ إذَا رَفَعَ الْقُرْآنَ
وَذَهَبَ مِنْ الصّدُورِ الْإِيمَانُ وَهَذَا الْكَلَامُ الْمُسَجّعُ ذَكَرَهُ
الْمَسْعُودِيّ مَنْظُومًا . [ ص 151 ]
حِينَ شِيدَتْ ذِمَارِ قِيلَ لِمَنْ أَنْ ... تَ فَقَالَتْ لِحِمْيَرَ
الْأَخْيَارِ
ثُمّ سِيلَتْ مِنْ بَعْدِ ذَاكَ ؟ فَقَالَتْ ... أَنَا لِلْحَبْشِ أَخْبَثِ
الْأَشْرَارِ
ثُمّ قَالُوا مِنْ بَعْدِ ذَاكَ لِمَنْ أَنْ ... تَ ؟ فَقَالَتْ لِفَارِسَ
الْأَحْرَارِ
ثُمّ قَالُوا مِنْ بَعْدِ ذَاكَ لِمَنْ أَنْ ... تَ فَقَالَتْ إلَى قُرَيْشٍ
التّجَارِ
وَهَذَا الْكَلَامُ الّذِي ذَكَرَ أَنّهُ وُجِدَ مَكْتُوبًا بِالْحَجَرِ هُوَ -
فِيمَا زَعَمُوا - مِنْ كَلَامِ هُودٍ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وُجِدَ مَكْتُوبًا
فِي مِنْبَرِهِ وَعِنْدَ قَبْرِهِ حِينَ كَشَفَتْ الرّيحُ الْعَاصِفَةَ عَنْ
مِنْبَرِهِ الرّمْلَ حَتّى طَهُرَ وَذَلِكَ قَبْلَ مُلْكِ بِلْقِيسَ بِيَسِيرِ
وَكَانَ خَطّهُ بِالْمُسْنَدِ وَيُقَالُ إنّ الّذِي بَنَى ذِمَارِ هُوَ شِمْرُ
بْنُ الْأُمْلُوكِ وَالْأُمْلُوكُ هُوَ مَالِكُ بْنُ ذِي الْمَنَارِ وَيُقَالُ
ذِمَارِ وَظَفَارِ ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ مَنْ دَخَلَ ظَفَارِ حَمّرَ أَيْ تَكَلّمَ
بِالْحِمْيَرِيّةِ .
زَرْقَاءُ الْيَمَامَةِ
وَذَكَرَ قَوْلَ الْأَعْشَى : مَا نَظَرْت ذَاتَ أَشْفَارٍ كَنَظْرَتِهَا
الْبَيْتَ . يُرِيدُ زَرْقَاءَ الْيَمَامَةِ ، وَكَانَتْ تُبْصَرُ عَلَى مَسِيرَةِ
ثَلَاثَةِ أَيّامٍ وَقَدْ تَقَدّمَ طَرَفٌ مِنْ ذِكْرِهَا فِي خَبَرِ جَدِيسٍ
وَطَسْمٍ وَقَبْلَ الْبَيْتِ
قَالَتْ أَرَى رَجُلًا فِي كَفّهِ كَتِفٌ ... أَوْ يَخْصِفُ النّعْلَ لَهْفِي
أَيّةً صَنَعَا
فَكَذّبُوهَا بِمَا قَالَتْ فَصَبّحَهُمْ ... ذُو آلِ حَسّانَ يُزْجِي الْمَوْتَ
وَالسّلَعَا
وَكَانَ جَيْشُ حَسّانَ هَذَا قَدْ أُمِرُوا أَنْ يُخَيّلُوا عَلَيْهَا بِأَنْ
يُمْسِكَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَعْلًا كَأَنّهُ يَخْصِفُهَا ، وَكَتِفًا
كَأَنّهُ يَأْكُلُهَا ، وَأَنْ يَجْعَلُوا عَلَى أَكْتَافِهِمْ أَغْصَانَ الشّجَرِ
فَلَمّا أَبْصَرَتْهُمْ قَالَتْ لِقَوْمِهَا : قَدْ جَاءَتْكُمْ الشّجَرُ أَوْ
قَدْ غَزَتْكُمْ حِمْيَرُ ، فَقَالُوا : قَدْ كَبِرْت وَخَرِفْت ، فَكَذّبُوهَا ،
فَاسْتُبِيحَتْ بَيْضَتُهُمْ وَهُوَ الّذِي ذَكَرَ الْأَعْشَى .
قِصّةُ
مَلِكِ الْحَضَرِ
[ ص 152 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي خَلّادُ بْنُ قُرّةَ بْنِ خَالِدٍ
السّدُوسِيّ عَنْ جَنّادٍ ، أَوْ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ
بِالنّسَبِ أَنّهُ يُقَالُ إنّ النّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ مِنْ وَلَدِ
سَاطِرُونَ مَلِكِ الْحَضَرِ . وَالْحَضَرُ حِصْنٌ عَظِيمٌ كَالْمَدِينَةِ ، كَانَ
عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ ، وَهُوَ الّذِي ذَكَرَ عَدِيّ بْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ
وَأَخُو الْحَضْرِ إذْ بَنَاهُ وَإِذْ دِجْ ... لَةُ يُجْبَى إلَيْهِ
وَالْخَابُورُ
شَادّهُ مَرْمَرًا وَجَلّلَهُ كِلْسًا ... فَلِلطّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ
لَمْ يَهَبْهُ رَيْبُ الْمَنُونِ فَبَانَ الْ ... مُلْكُ عَنْهُ فَبَابُهُ
مَهْجُورُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَاَلّذِي
ذَكَرَهُ أَبُو دُوَادَ الْإِيَادِيّ فِي قَوْلِهِ
وَأَرَى الْمَوْتَ قَدْ تَدَلّى مِنْ الْحَضْ ... رِ عَلَى رَبّ أَهْلِهِ
السّاطِرُونِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَيُقَالُ إنّهَا لِخَلَفِ الْأَحْمَرِ
وَيُقَالُ لِحَمّادِ الرّاوِيَةِ .Sخَبَرُ
الْحَضْرِ وَالسّاطِروُنِ
[ ص 152 ] ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنّ النّعْمَانَ مِنْ وَلَدِ
السّاطِرُونِ وَهُوَ صَاحِبُ الْحَضْرِ . قَالَ الْمُؤَلّفُ فَنَذْكُرُ شَرْحَ
قِصّةِ الْحَضَرِ وَصَاحِبِهِ وَمَا قِيلَ فِي ذَلِكَ مُلَخّصًا بِعَوْنِ اللّهِ .
السّاطِرُونُ بالسريانية : هُوَ الْمَلِكُ وَاسْمُ السّاطِرُونِ الضّيْزَنُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ . قَالَ الطّبَرِيّ : هُوَ جُرْمُقَانِيّ ، [ ص 153 ] وَقَالَ ابْنُ
الْكَلْبِيّ هُوَ قُضَاعِيّ مِنْ الْعَرَبِ الّذِينَ تَنَخُوا بِالسّوَادِ
فَسُمّوا : تَنُوخَ ، أَيْ أَقَامُوا بِهَا ، وَهُمْ قَبَائِلُ شَتّى ، وَنَسَبَهُ
ابْنُ الْكَلْبِيّ فَقَالَ هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُبَيْدٍ ، وَوَجَدْته
بِخَطّ أَبِي بَحْرٍ عُبَيْدٌ بِضَمّ الْعَيْنِ بْنُ أَجْرَمَ مِنْ بَنِي سَلِيحِ
بْنِ حُلْوَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ ، وَأُمّهُ جَيْهَلَةُ وَبِهَا كَانَ
يُعْرَفُ وَهِيَ أَيْضًا قُضَاعِيّةٌ مِنْ بَنِي تَزِيدَ الّذِينَ تُنْسَبُ
إلَيْهِمْ الثّيَابُ التّزِيدِيّةُ . وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي دُوَاد :
وَأَرَى الْمَوْتَ قَدْ تَدَلّى مِنْ الْحَضْ ـ ... رِ عَلَى رَبّ أَهْلِهِ
السّاطِرُونِ
وَاسْمُ أَبِي دُوَاد : جَارِيَةُ بْنُ حَجّاجٍ وَقِيلَ حَنْظَلَةُ بْنُ شَرْقِيّ
وَبَعْدَ هَذَا الْبَيْتِ
صَرَعَتْهُ الْأَيّامُ مِنْ بَعْدِ مُلْكٍ ... وَنَعِيمٍ وَجَوْهَرٍ مَكْنُونٍ
كَيْفَ
اسْتَوْلَى سَابُورُ عَلَى الْحَضْرِ
وَكَانَ كِسْرَى سَابُورُ ذُو الْأَكْتَافِ غَزَا سَاطِرُونَ مَلِكَ الْحَضْرِ ،
فَحَصَرَهُ سَنَتَيْنِ فَأَشْرَفَتْ بِنْتُ سَاطِرُونَ يَوْمًا ، فَنَظَرَتْ إلَى
سَابُورَ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ دِيبَاجٍ وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ ذَهَبٍ
مُكَلّلٍ بِالزّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ وَاللّؤْلُؤِ وَكَانَ جَمِيلًا ، فَدَسّتْ
إلَيْهِ أَتَتَزَوّجُنِي إنْ فَتَحْت لَك بَابَ الْحَضَرِ ؟ فَقَالَ نَعَمْ
فَلَمّا أَمْسَى سَاطِرُونَ شَرِبَ حَتّى سَكِرَ وَكَانَ لَا يَبِيتُ إلّا
سَكْرَانَ فَأَخَذَتْ مَفَاتِيحَ بَابِ الْحَضَرِ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ فَبَعَثَتْ
بِهَا مَعَ مَوْلًى لَهَا فَفَتَحَ الْبَابَ فَدَخَلَ سَابُورُ فَقَتَلَ
سَاطِرُونَ وَاسْتَبَاحَ الْحَضْرَ وَخَرّبَهُ وَسَارَ بِهَا فَتَزَوّجَهَا ،
فَبَيْنَا هِيَ نَائِمَةٌ عَلَى فِرَاشِهَا لَيْلًا إذْ جَعَلَتْ تَتَمَلْمَلُ لَا
تَنَامُ فَدَعَا لَهَا بِشَمْعِ فَفَتّشَ فِرَاشَهَا ، فَوَجَدَ عَلَيْهِ وَرَقَةَ
آسٍ فَقَالَ لَهَا سَابُورُ أَهَذَا الّذِي أَسْهَرَك ؟ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ
فَمَا كَانَ [ ص 153 ] أَبُوك يَصْنَعُ بِك ؟ قَالَتْ كَانَ يَفْرِشُ لِي
الدّيبَاجَ وَيُلْبِسُنِي الْحَرِيرَ وَيُطْعِمُنِي الْمُخّ وَيَسْقِينِي الْخَمْرَ
قَالَ أَفَكَانَ جَزَاءُ أَبِيك مَا صَنَعْت بِهِ ؟ أَنْتَ إلَيّ بِذَلِكَ
أَسْرَعُ ثُمّ أَمَرَ بِهَا ، فَرُبِطَتْ قُرُونُ رَأْسِهَا بِذَنَبِ فَرَسٍ ثُمّ
رَكَضَ الْفَرَسُ ، حَتّى قَتَلَهَا ، فَفِيهِ يَقُولُ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ
أَلَمْ تَرَ لِلْحَضْرِ إذْ أَهْلُهُ ... بِنُعْمَى ، وَهَلْ خَالِدٌ مَنْ نَعِمْ
أَقَامَ بِهِ شَاهَبُورُ الجنو ... د حَوْلَيْنِ تَضْرِبُ فِيهِ الْقُدُمْ
فَلَمّا دَعَا رَبّهُ دَعْوَةً ... أَنَابَ إلَيْهِ فَلَمْ يَنْتَقِمْ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ عَدِيّ بْنُ زَيْدٍ فِي
ذَلِكَ
وَالْحَضْرُ صَابَتْ عَلَيْهِ دَاهِيَةٌ ... مِنْ فَوْقِهِ أَيْدٌ مَنَاكِبُهَا
رَبِيّةٌ لَمْ تُوَقّ وَالِدَهَا ... لِحَيْنِهَا إذْ أَضَاعَ رَاقِبُهَا
إذْ غَبَقَتْهُ صَهْبَاءَ صَافِيَةً ... وَالْخَمْرُ وَهْلٌ يَهِيمُ شَارِبُهَا
فَأَسْلَمَتْ أَهْلَهَا بِلَيْلَتِهَا ... تَظُنّ أَنّ الرّئِيسَ خَاطِبُهَا
فَكَانَ حَظّ الْعَرُوسِ إذْ جَشَرَ الصّ ... بْحُ دِمَاءً تَجْرِي سَبَائِبُهَا
وَخُرّبَ الْحَضْرُ وَاسْتُبِيحَ وَقَدْ ... أُحْرِقَ فِي خِدْرِهَا مَشَاجِبُهَا
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص 154 ] [ ص 155 ] [ ص 156 ] [ ص
157 ] [ ص 158 ] [ ص 159 ] [ ص 154 ]Sوَكَانَ
الضّيْزَنُ مِنْ مُلُوكِ الطّوَائِفِ وَكَانَ يُقَدّمُهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا
لِحَرْبِ عَدُوّ مِنْ غَيْرِهِمْ وَكَانَتْ الْحَضْرُ بَيْنَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ
، وَكَانَ مُلْكُهُ يَبْلُغُ أَطْرَارَ الشّامِ ، وَكَانَ سَابُورُ قَدْ تَغَيّبَ
عَنْ الْعِرَاقِ إلَى خُرَاسَانَ ، فَأَغَارَ الضّيْزَنُ عَلَى بِلَادِهِ بِمَنْ
مَعَهُ مِنْ الْعَرَبِ ، فَلَمّا قَفَلَ سَابُورُ وَأُخْبِرَ بِصُنْعِ الضّيْزَنِ
نَهَدَ إلَيْهِ وَأَقَامَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ سِنِينَ . وَذَكَرَ الْأَعْشَى فِي
شِعْرِهِ حَوْلَيْنِ لَا يَقْدِرُ عَلَى فَتْحِ الْحِصْنِ وَكَانَ لِلضّيْزَنِ
بِنْتٌ اسْمُهَا : النّضِيرَةُ وَفِيهَا قِيلَ
أَقْفَرَ الْحَضْرُ مِنْ نَضِيرَةَ فَالْمِ ... رْبَاعُ مِنْهَا فَجَانِبُ الثّرْثَارِ
وَكَانَتْ سُنّتُهُمْ فِي الْجَارِيَةِ إذَا عَرَكَتْ أَيْ حَاضَتْ أَخَرَجُوهَا
إلَى رَبَضِ الْمَدِينَةِ ، فَعَرَكَتْ النّضِيرَةُ فَأُخْرِجَتْ إلَى رَبَضِ
الْحَضْرِ فَأَشْرَفَتْ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَبْصَرَتْ سَابُورَ - وَكَانَ مِنْ
أَجْمَلِ النّاسِ - فَهَوِيَتْهُ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ أَنْ يَتَزَوّجَهَا ،
وَتَفْتَحَ لَهُ الْحَضْرَ وَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ وَالْتَزَمَ لَهَا مَا
أَرَادَتْ ثُمّ اُخْتُلِفَ فِي السّبَبِ الّذِي دَلّتْ عَلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ مَا فِي الْكِتَابِ وَقَالَ الْمَسْعُودِيّ : دَلّتْهُ عَلَى نَهَرٍ
وَاسِعٍ [ اسْمُهُ الثّرْثَارُ ] كَانَ يَدْخُلُ مِنْهُ الْمَاءُ إلَى الْحَضْرِ
فَقَطَعَ لَهُمْ الْمَاءَ وَدَخَلُوا مِنْهُ . وَقَالَ الطّبَرِيّ : دَلّتْهُ
عَلَى طِلَسْمٍ [ أَوْ طِلّسْمٍ ] كَانَ فِي الْحَضْرِ وَكَانَ فِي عِلْمِهِمْ
أَنّهُ لَا يُفْتَحُ حَتّى تُؤْخَذَ حَمَامَةٌ وَرْقَاءُ وَتُخْضَبُ رِجْلَاهَا
بِحَيْضِ جَارِيَةٍ بِكْرٍ زَرْقَاءَ ثُمّ تُرْسَلُ الْحَمَامَةُ فَتَنْزِلُ عَلَى
سُورِ الْحَضْرِ فَيَقَعُ الطّلّسْمُ فَيُفْتَحُ الْحَضْرُ فَفَعَلَ سَابُورُ
ذَلِكَ فَاسْتَبَاحَ الْحَضْرَ وَأَبَادَ قَبَائِلَ مِنْ قُضَاعَةَ كَانُوا فِيهِ
مِنْهُمْ بَنُو عُبَيْدٍ رَهْطُ الضّيْزَنِ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ عَقِبٌ وَحَرَقَ
خَزَائِنَ الضّيْزَنِ وَاكْتَسَحَ مَا فِيهَا ، ثُمّ قَفَلَ بِنَضِيرَةَ مَعَهُ
وَذَكَرَ الطّبَرِيّ فِي قَتْلِهِ إيّاهَا حِين تَمَلْمَلَتْ عَلَى الْفِرَاشِ
الْوَثِيرِ وَلِينِ الْحَرِيرِ أَنّهُ قَالَ لَهَا : مَا كَانَ يَصْنَعُ بِك
أَبُوك ؟ فَقَالَتْ كَانَ يُطْعِمُنِي الْمُخّ وَالزّبْدَ وَشَهْدُ أَبْكَارَ
النّحْلِ وَصَفْوَ الْخَمْرِ . وَذَكَرَ أَنّهُ كَانَ يَرَى مُخّهَا مِنْ صَفَاءِ
بَشَرَتِهَا ، وَأَنّ وَرَقَةَ الْآسَ أَدْمَتْهَا فِي عُكْنَةٍ مِنْ عُكَنِهَا ،
وَأَنّ الْفِرَاشَ الّذِي نَامَتْ عَلَيْهِ كَانَ مِنْ حَرِيرٍ حَشْوُهُ الْقَزّ .
وَقَالَ الْمَسْعُودِيّ : كَانَ حَشْوُهُ زَغَبِ الطّيْرِ ثُمّ اتّفَقُوا فِي
صُورَةِ قَتْلِهَا كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ غَيْرَ أَنّ ابْنَ إسْحَاقَ قَالَ
كَانَ الْمُسْتَبِيحُ لِلْحَضْرِ سَابُورُ ذُو [ ص 155 ] وَجَعَلَهُ غَيْرُ
سَابُورَ بْنِ أَزْدَشِيرَ بْنِ بَابِك ، وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ أَزْدَشِيرَ هُوَ
أَوّلُ مَنْ جَمَعَ مُلْكَ فَارِسَ ، وَأَذَلّ مُلُوكَ الطّوَائِفِ حَتّى دَانَ
الْمُلْكُ لَهُ وَالضّيْزَنُ كَانَ مِنْ مُلُوكِ الطّوَائِفِ فَيَبْعُدُ أَنْ
تَكُونَ هَذِهِ الْقِصّةُ لِسَابُورَ ذِي الْأَكْتَافِ وَهُوَ سَابُورُ بْنُ
هُرْمُزَ وَهُوَ ذُو الْأَكْتَافِ لِأَنّهُ كَانَ بَعْدَ سَابُورَ الْأَكْبَرِ
بِدَهْرِ طَوِيلٍ وَبَيْنَهُمْ مُلُوكٌ مُسَمّوْنَ فِي كُتُبِ التّارِيخِ وَهُمْ
هُرْمُزُ بْنُ سَابُورَ وَبَهْرَامُ بْنُ هُرْمُزَ وَبَهْرَامُ بْنُ بَهْرَامَ
وَبَهْرَامُ الثّالِثُ وَنُرْسِي بْنُ بَهْرَامَ وَبَعْدَهُ كَانَ ابْنُهُ
سَابُورُ ذُو الْأَكْتَافِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُ الْأَعْشَى : شَاهَبُورُ
الْجُنُودِ بِخَفْضِ الدّالِ يَدُلّ عَلَى أَنّهُ لَيْسَ بِشَاهَبُورَ ذِي
الْأَكْتَافِ وَأَمّا إنْشَادُهُ لِأَبْيَاتِ عَدِيّ بْنِ زَيْدٍ :
وَأَخُو الْحَضْرِ إذْ بَنَاهُ وَإِذْ ... دِجْلَةُ يُجْبَى إلَيْهِ وَ الْخَابُورُ
فَلِلشّعْرِ خَبَرٌ عَجِيبٌ . حَدّثَنَا إجَازَةً الْقَاضِي الْحَافِظُ أَبُو
بَكْرٍ عَنْ ابْنِ أَيّوبَ عَنْ الْبُرْقَانِيّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيّ بْنِ
عُمَرَ قَالَ حَدّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْأَزْرَقُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ
إسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ قَالَ حَدّثَنِي جَدّي ، قَالَ حَدّثَنِي أَبِي ، عَنْ
إسْحَاقَ بْنِ زِيَادٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ بْنِ لُؤَيّ عَنْ شُبَيْبِ بْنِ
شَيْبَةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ الْأَهْتَمِ قَالَ أَوْفَدَنِي يُوسُفُ
بْنُ عُمَرَ إلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي وَفْدِ [ أَهْلِ ] الْعِرَاق
ِ قَالَ فَقَدِمْت عَلَيْهِ وَقَدْ خَرَجَ مُتَبَدّيًا بِقَرَابَتِهِ وَأَهْلِهِ
وَحَشَمِهِ وَغَاشِيَتِهِ مِنْ جُلَسَائِهِ فَنَزَلَ فِي أَرْضِ قَاعٍ صَحْصَحٍ
مُتَنَايِفٍ أَفْيَحَ فِي عَامٍ [ قَدْ ] بَكّرَ وَسْمِيّهُ وَتَتَابَعَ وَلِيّهُ
وَأَخَذَتْ الْأَرْضُ [ فِيهِ ] زِينَتِهَا مِنْ اخْتِلَافِ أَنْوَارِ نَبْتِهَا
مِنْ نُورِ رَبِيعٍ مُونِقٍ فَهُوَ أَحْسَنُ مَنْظَرًا ، وَأَحْسَنُ مُسْتَنْظَرًا
، وَأَحْسَنُ مُخْتَبَرًا بِصَعِيدِ كَأَنّ تُرَابَهُ قِطَعُ الْكَافُورِ حَتّى
لَوْ أَنّ قِطْعَةً أُلْقِيَتْ فِيهِ لَمْ تَتْرَبْ قَالَ وَقَدْ ضُرِبَ لَهُ
سُرَادِقٌ مِنْ حِبَرَةٍ كَانَ صَنَعَهُ لَهُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بِالْيَمَنِ ،
فِيهِ فُسْطَاطٌ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَفْرِشَةٍ مِنْ خَزّ أَحْمَرَ مِثْلُهَا
مَرَافِقُهَا وَعَلَيْهِ دُرّاعَةٌ مِنْ خَزّ أَحْمَرَ مِثْلُهَا عِمَامَتُهَا ،
قَالَ وَقَدْ أَخَذَ النّاسُ مَجَالِسَهُمْ فَأَخْرَجْت رَأْسِي مِنْ نَاحِيَةِ
الطّاقِ فَنَظَرَ إلَيّ شِبْهَ الْمُسْتَنْطَقِ [ لِي ] ؛ فَقُلْت : أَتَمّ اللّهُ
عَلَيْك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَةً سَوّغَكَهَا بِشُكْرِ وَجَعَلَ مَا
قَلّدَك مِنْ هَذَا الْأَمْرِ رُشْدًا ، وَعَاقِبَةً مَا تَئُول إلَيْهِ حَمْدًا ،
وَأَخْلَصَهُ لَك بِالتّقَى ، وَكَثّرَهُ لَك بِالنّمَاءِ وَلَا كَدَرَ عَلَيْك [
ص 156 ] صَفَا ، وَلَا خَالَطَ سُرُورَهُ الرّدَى ؛ فَقَدْ أَصْبَحَتْ لِلْمُسْلِمِينَ
ثِقَةٌ وَمُسْتَرَاحًا . إلَيْك يَقْصِدُونَ فِي أُمُورِهِمْ وَإِلَيْك
يَفْزَعُونَ فِي مَظَالِمِهِمْ وَمَا أَجِدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا -
جَعَلَنِي اللّهُ فِدَاءَك - هُوَ أَبْلَغُ فِي قَضَاءِ حَقّك وَتَوْقِيرِ
مَجْلِسِك مِمّا مَنّ اللّهِ [ جَلّ وَعَزّ ] بِهِ عَلَيّ مِنْ مُجَالَسَتِك ،
وَالنّظَرِ إلَى وَجْهِك مِنْ أَنْ أُذَكّرَك نِعَمَ اللّهِ عَلَيْك ، وَأُنَبّهَك
لِشُكْرِهَا ، وَمَا أَجِدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا هُوَ أَبْلَغُ
مِنْ حَدِيثِ مَنْ سَلَفَ قَبْلَك مِنْ الْمُلُوكِ فَإِنْ أَذِنَ لِي أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ أَخْبَرْته عَنْهُ . قَالَ فَاسْتَوَى جَالِسًا - وَكَانَ
مُتّكِئًا - ثُمّ قَالَ هَاتِ يَا ابْنَ الْأَهْتَمِ [ قَالَ ] : فَقُلْت : يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنّ مَلِكًا مِنْ الْمُلُوكِ قَبْلَك خَرَجَ فِي عَامٍ
مِثْلِ عَامِنَا هَذَا إلَى الْخَوَرْنَقِ وَالسّدِيرِ فِي عَامٍ قَدْ بَكّرَ
وَسْمِيّهُ وَتَتَابَعَ وَلِيّهُ وَأَخَذَتْ الْأَرْضُ فِيهِ زِينَتَهَا مِنْ
نُورِ رَبِيعٍ مُونِقٍ فَهُوَ فِي أَحْسَنِ مَنْظَرٍ وَأَحْسَنِ مُسْتَنْظَرٍ
وَأَحْسَنِ مُخْتَبَرٍ بِصَعِيدِ كَأَنّ تُرَابَهُ قِطَعُ الْكَافُورِ حَتّى لَوْ
أَنّ قِطْعَةً أُلْقِيَتْ فِيهِ لَمْ تَتْرَبْ . قَالَ وَقَدْ كَانَ أُعْطِيَ
فَتَاءَ السّنّ مَعَ الْكَثْرَةِ وَالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ قَالَ فَنَظَرَ
فَأَبْعَدَ النّظَرَ فَقَالَ لِجُلَسَائِهِ لِمَنْ [ مِثْلُ ] هَذَا ؟ هَلْ
رَأَيْتُمْ مِثْلَ مَا أَنَا فِيهِ ؟ [ و ] هَلْ أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا
أُعْطِيت ؟ قَالَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَقَايَا حَمَلَةِ الْحَجّةِ وَالْمُضِيّ
عَلَى أَدَبِ الْحَقّ وَمِنْهَاجِهِ . قَالَ وَلَنْ تَخْلُوَا الْأَرْضُ مِنْ
قَائِمٍ لِلّهِ بِحُجّتِهِ فِي عِبَادِهِ فَقَالَ أَيّهَا الْمَلِكُ إنّك قَدْ
سَأَلْت عَنْ أَمْرٍ أَفَتَأْذَنُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ
أَرَأَيْت مَا أَنْتَ فِيهِ أَشَيْءٌ لَمْ تَزَلْ فِيهِ أَمْ شَيْءٌ صَارَ إلَيْك
مِيرَاثًا مِنْ غَيْرِك ، وَهُوَ زَائِلٌ عَنْك ، وَصَائِرٌ إلَى غَيْرِك ، كَمَا
صَارَ إلَيْك مِيرَاثًا مِنْ لَدُنْ غَيْرِك ؟ قَالَ فَكَذَلِكَ هُوَ . قَالَ
فَلَا أَرَاك [ إلّا ] أُعْجِبْت بِشَيْءِ يَسِيرٍ تَكُونُ فِيهِ قَلِيلًا ،
وَتَغِيبُ عَنْهُ طَوِيلًا ، وَتَكُونُ غَدًا بِحِسَابِهِ مُرْتَهِنًا . قَالَ
وَيْحَك فَأَيْنَ الْمَهْرَبُ ؟ وَأَيْنَ الْمَطْلَبُ ؟ قَالَ إمّا أَنْ تُقِيمَ
فِي مُلْكِك ، تَعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَةِ [ اللّهِ ] رَبّك عَلَى مَا سَاءَك
وَسَرّك ، وَمَضّكَ وَأَرْمَضَكَ وَإِمّا أَنْ تَضَعَ تَاجَك ، وَتَضَعَ
أَطْمَارَك ، وَتَلْبَسَ أَفَسَاحَك ، وَتَعْبُدَ رَبّك فِي هَذَا الْجَبَلِ حَتّى
يَأْتِيَك أَجَلُك . قَالَ فَإِذَا كَانَ فِي السّحَرِ فَاقْرَعْ عَلَيّ بَابِي ،
فَإِنّي مُخْتَارٌ أَحَدَ الرّأْيَيْنِ فَإِنْ اخْتَرْت مَا أَنَا فِيهِ كُنْت
وَزِيرًا ، لَا تُعْصَى ، وَإِنْ اخْتَرْت خَلَوَاتِ الْأَرْضِ وَقَفْرَ
الْبِلَادِ كُنْت رَفِيقًا ، لَا تُخَالِفُ . قَالَ فَقَرَعَ عَلَيْهِ بَابَهُ
عِنْدَ السّحَرِ فَإِذَا هُوَ قَدْ وَضَعَ تَاجَهُ [ وَخَلَعَ أَطْمَارَهُ ]
وَلَبِسَ أَمْسَاحَهُ وَتَهَيّأَ لِلسّيَاحَةِ قَالَ فَلَزِمَا - وَاَللّهِ -
الْجَبَلَ حَتّى أَتَتْهُمَا آجَالُهُمَا ، وَهُوَ حَيْثُ يَقُولُ أَحَدُ بَنِي
تَمِيمٍ : عَدِيّ بْنُ [ زَيْدُ ] بْنُ سَالِمٍ الْمُرّيّ الْعَدَوِيّ [ ص 157 ]
أَيّهَا الشّامِتُ الْمُعِيرُ بِالدّ ... هْرِ أَأَنْتَ المبرأ الْمَوْفُورُ ؟
أَمْ لَدَيْك الْعَهْدُ الْوَثِيقُ مِنْ الْأَيّا ... مِ ؟ بَلْ أَنْتَ جَاهِلٌ
مَغْرُورُ
مَنْ رَأَيْت الْمَنُونَ خَلّدْنَ أَمْ مَنْ ... ذَا عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يُضَامَ
خَفِيرُ
أَيْنَ كِسْرَى كِسْرَى الْمُلُوكِ أَنُو ... شِرْوَانَ أَمْ أَيْنَ قَبْلَهُ
سَابُورُ ؟
وَبَنُو الْأَصْفَرِ الْكِرَامِ مُلُوكُ الرّ ... ومِ ؟ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ
مَذْكُورٌ
وَأَخُو الْحَضْرِ إذْ بَنَاهُ وَإِذْ دِجْ ... لَةُ تُجْبَى إلَيْهِ وَ
الْخَابُورُ
شَادَهُ مَرْمَرًا ، وَجَلّلَهُ كِلْس ... ا فَلِلطّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ
لَمْ يَهَبْهُ رَيْبُ الْمَنُونِ فَبَا نَ ... الْمُلْكُ عَنْهُ فَبَابُهُ
مَهْجُورُ
وَتَذَكّرْ رَبّ الْخَوَرْنَقِ إذْ ... أَشْرَفَ يَوْمًا ، وَلِلْهُدَى تَفْكِيرُ
سَرّهُ مَالُهُ وَكَثْرَةُ مَا يَمْلِكُ ... وَالْبَحْرُ مُعْرِضًا وَالسّدِيرُ
فَارْعَوَى قَلْبُهُ وَقَالَ وَمَا غِبْطَةُ ... حَيّ إلَى الْمَمَاتِ يَصِيرُ ؟
ثُمّ أَضْحَوْا كَأَنّهُمْ وَرَقٌ جَفّ ... فَأَلَوْت بِهِ الصّبَا وَالدّبُورُ
ثُمّ بَعْدَ الْفَلَاحِ وَالْمُلْكِ ... وَالْإِمّةِ وَارَتْهُمْ هُنَاكَ
الْقُبُورُ
قَالَ فَبَكَى [ وَاَللّهِ ] هِشَامٌ حَتّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ وَبَلّ
عِمَامَتَهُ وَأَمَرَ بِنَزْعِ أَبْنِيَتِهِ وَبِنُقْلَانِ قَرَابَتِهِ وَأَهْلِهِ
وَحَشَمِهِ وَغَاشِيَتِهِ مِنْ جُلَسَائِهِ وَلَزِمَ قَصْرَهُ . قَالَ
فَأَقْبَلَتْ الْمَوَالِي وَالْحَشَمُ عَلَى خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ
الْأَهْتَمِ وَقَالُوا : مَا أَرَدْت إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ؟ أَفْسَدْت
عَلَيْهِ لَذّتَهُ وَنَغّصْت عَلَيْهِ مَأْدُبَتَهُ . قَالَ إلَيْكُمْ عَنّي
فَإِنّي عَاهَدْت اللّهَ [ عَزّ وَجَلّ ] عَهْدًا أَلّا أَخْلُوَ بِمَلِكِ إلّا
ذَكّرْته اللّهَ عَزّ وَجَلّ . وَاَلّذِي ذَكَرَهُ عَدِيّ بْنُ زَيْدٍ فِي هَذَا
الشّعْرِ هُوَ النّعْمَانُ بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ جَدّ النّعْمَانِ بْنِ
الْمُنْذِرِ ، وَأَوّلُ هَذَا الشّعْرِ
أَرْوَاحٌ مُوَدّعٌ أَمْ بُكُورُ ... [ لَك ] فَانْظُرْ لِأَيّ ذَاكَ تَصِيرُ
[ ص 158 ] قَالَهُ عَدِيّ ، وَهُوَ فِي سِجْنِ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ،
وَفِيهِ قُتِلَ وَهُوَ عَدِيّ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَمّادِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَيّوبَ
بْنِ مَحْرُوبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عُصَيّةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ
بْنِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ آلَةَ بْنِ الْخَنْسَاءِ
أَلَمْ يُنَبّئْك وَالْأَنْبَاءُ تَنْمَى ... بِمَا لَاقَتْ سَرَاةَ بَنِي
الْعَبِيدِ
وَمَصْرَعُ ضَيْزَنٍ وَبَنِيّ أَبِيهِ ... وَأَحْلَاسُ الْكَتَائِبِ مِنْ تَزِيدَ
أَتَاهُمْ بِالْفُيُولِ مُجَلّلَاتٍ ... وَبِالْأَبْطَالِ سَابُورُ الْجُنُودِ
فَهَدّمَ مِنْ أَوَاسِي الْحَضْرِ صَخْرًا ... كَأَنّ ثِقَالَهُ زُبَرُ الْحَدِيدِ
وَقَالَ الْأَعْشَى :
أَقَامَ بِهِ شَاهَبُورُ الجنو ... د حَوْلَيْنِ تُضْرَبُ فِيهِ الْقُدُمُ
وَقَدْ قَدّمْنَا أَنّ شَاهَبُورَ مَعْنَاهُ ابْنُ الْمَلِكِ وَأَنّ بُورَ هُوَ
الِابْنُ بِلِسَانِهِمْ وَفِي هَذَا الْبَيْتِ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ
أَنّ سَابُورَ مُغَيّرٌ عَنْ شَاهَبُورَ . وَالْقُدُمُ جَمْعُ قَدُومٍ وَهُوَ
الْفَأْسُ وَنَحْوُهُ وَالْقَدُومُ : اسْمُ مَوْضِعٍ أَيْضًا اُخْتُتِنَ فِيهِ
إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السّلَام الّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنّ إبْرَاهِيمَ
اخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ مُخَفّفٌ أَيْضًا ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ التّشْدِيدُ .
وَبَعْدَهُ
فَهَلْ زَادَهُ رَبّهُ قُوّةً ... وَمِثْلُ مُجَاوِرِهِ لَمْ يَقُمْ
وَكَانَ دَعَا قَوْمَهُ دَعْوَةً ... هَلُمّوا إلَى أَمْرِكُمْ قَدْ صُرِمَ
فَمُوتُوا كِرَامًا بِأَسْيَافِكُمْ ... أَرَى الْمَوْتَ يَجْشَمُهُ مَنْ جَشِمْ
وَفِي الشّعْرِ وَهَلْ خَالِدٌ مَنْ نَعِمْ . يُقَالُ نَعِمَ يَنْعِمُ وَيَنْعَمُ
مِثْلُ حَسِبَ يَحْسِبُ وَيَحْسَبُ . وَفِي أَدَبِ الْكَاتِبِ أَنّهُ يُقَالُ
نَعِمَ يَنْعُمُ مِثْلُ فَضَلَ يَفْضُلُ . حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ سِيبَوَيْهِ ،
وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ الْقُتَبِيّ وَمَنْ تَأَمّلَهُ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ
تَبَيّنَ لَهُ غَلَطُ الْقُتَبِيّ وَأَنّ سِيبَوَيْهِ لَمْ يَذْكُرْ الضّمّ إلّا
فِي فَضَلَ يَفْضُلُ . [ ص 159 ] عَدِيّ بْنِ زَيْدٍ : رَبِيّةٌ لَمْ تُوَقّ
وَالِدَهَا . يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ فَعِيلَةً مِنْ رَبِيت إلّا أَنّ الْقِيَاسَ
فِي فَعَيْلَةٍ بِمَعْنَى : مَفْعُولَةٍ أَنْ تَكُونَ بِغَيْرِ هَاءٍ وَيَحْتَمِلُ
أَنّهُ أَرَادَ مَعْنَى الرّبْوِ وَالنّمَاءِ لِأَنّهَا رَبَتْ فِي نِعْمَةٍ
فَتَكُونُ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ وَيَكُونُ الْبِنَاءُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ
وَأَصَحّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ رَبِيئَةً بِالْهَمْزِ
وَسَهّلَ الْهَمْزَةَ فَصَارَتْ يَاءً وَجَعَلَهَا رَبِيئَةً لِأَنّهَا كَانَتْ
طَلِيعَةً حَيْثُ اطّلَعَتْ حَتّى رَأَتْ سَابُورَ وَجُنُودَهُ وَيُقَالُ
لِلطّلِيعَةِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى : رَبِيئَةٌ وَيُقَالُ لَهُ رَبَاءُ
عَلَى وَزْنِ فَعَالٍ وَأَنْشَدُوا : رَبَاءُ شَمّاءُ لَا يَأْوِي نَقْلَتُهَا ،
الْبَيْتُ . وَقَوْلُهُ أَضَاعَ رَاقِبُهَا ، أَيْ أَضَاعَ الْمَرْبَأَةُ الّذِي
يَرْقُبُهَا وَيَحْرُسُهَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ عَائِدَةً عَلَى
الْجَارِيَةِ أَيْ أَضَاعَهَا حَافِظُهَا . وَقَوْلُهُ وَالْخَمْرُ وَهْلٌ .
يُقَالُ وَهِلَ الرّجُلُ وَهْلًا وَوَهَلًا إذَا أَرَادَ شَيْئًا ، فَذَهَبَ
وَهْمُهُ إلَى غَيْرِهِ . وَيُقَالُ فِيهِ وَهَمَ أَيْضًا بِفَتْحِ الْهَاءِ
وَأَمّا وَهِمَ بِالْكَسْرِ فَمَعْنَاهُ غَلَطٌ وَأَوْهَمَ بِالْأَلِفِ مَعْنَاهُ
أَسْقَطَ . وَقَوْلُهُ سَبَائِبُهَا . السّبَائِبُ جَمْعُ : سَبِيبَةٍ وَهِيَ
كَالْعِمَامَةِ أَوْ نَحْوِهَا ، وَمِنْهُ السّبّ وَهُوَ الْخِمَارُ . وَقَوْلُهُ
فِي خِدْرِهَا مَشَاجِبُهَا . الْمَشَاجِبُ جَمْعُ مِشْجَبٍ وَهُوَ مَا تَعَلّقَ
مِنْهُ الثّيَابُ وَمِنْهُ قَوْلُ جَابِرٍ وَإِنّ ثِيَابِي لَعَلَى الْمِشْجَبِ
وَكَانُوا يُسَمّونَ الْقِرْبَةَ شَجْبًا ؛ لِأَنّهَا جِلْدُ مَاءٍ قَدْ شَجِبَ
أَيْ عَطِبَ وَكَانُوا لَا يُمْسِكُونَ الْقِرْبَةَ وَهِيَ الشّجْبُ إلّا
مُعَلّقَةً فَالْعَوْدُ الّذِي تَعَلّقَ بِهِ هُوَ الْمِشْجَبُ حَقِيقَةً ثُمّ
اتْسَعُوا ، فَسَمّوا مَا تَعَلّقَ بِهِ الثّيَابُ مِشْجَبًا تَشْبِيهًا بِهِ .
وَفِي شِعْرِ عَدِيّ الْمُتَقَدّمِ ذُكِرَ الْخَابُورُ ، وَهُوَ وَادٍ مَعْرُوفٌ
وَهُوَ فَاعُولٌ مِنْ خَبَرْت الْأَرْضَ إذَا حَرَثْتهَا ، وَهُوَ وَادٍ عَظِيمٌ
عَلَيْهِ مَزَارِعُ . قَالَتْ لَيْلَى أُخْتُ الْوَلِيدِ بْنِ طَرِيفٍ
الْخَارِجِيّ الشّيْبَانِيّ حِينَ قُتِلَ أَخُوهَا الْوَلِيدُ قَتَلَهُ يَزِيدُ
بْنُ مَزِيدٍ الشّيْبَانِيّ أَيّامَ الرّشِيدِ فَلَمّا قُتِلَ قَالَتْ أُخْتُهُ
أَيَا شَجَرَ الْخَابُورِ مَا لَك مُورِقًا
كَأَنّك لَمْ تَحْزَنْ عَلَى ابْنِ طَرِيفِ
فَقَدْنَاهُ فُقْدَانَ الرّبِيعِ وَلَيْتَنَا
فَدَيْنَاهُ مِنْ سَادَاتِنَا بِأُلُوفِ
[ ص 160 ] الْخَافُورُ بِالْفَاءِ فَنَبَاتٌ تَخْفِرُ رِيحُهُ أَيْ تَقْطَعُ
شَهْوَةَ النّسَاءِ كَمَا يَفْعَلُ الْحَبَقُ وَيُقَالُ لَهُ الْمَرْوُ وَبِهَذَا
الِاسْمِ يَعْرِفُهُ النّاسُ وَهُوَ الزّغْبُرُ أَيْضًا .
ذِكْرُ
وَلَدِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 160 ] فَوَلَدَ نِزَارُ بْنُ مَعَدّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ
مُضَرَ بْنَ نِزَارٍ ، وَرَبِيعَةَ بْنَ نِزَارٍ ، وَأَنْمَارَ بْنَ نِزَارٍ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَإِيَادُ بْنُ نِزَارٍ . قَالَ الْحَارِثُ بْنُ دَوْسٍ
الْإِيَادِيّ ، وَيُرْوَى لِأَبِي دُوَاد الْإِيَادِيّ وَاسْمُهُ جَارَةُ بْنُ
الْحَجّاجِ
وَفُتُوّ حَسَنٌ أَوْجُهُهُمْ ... مِنْ إيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . فَأُمّ مُضَرَ وَإِيَادٍ : سَوْدَةُ
بِنْتُ عَكّ بْنِ عَدْنَانَ . وَأُمّ رَبِيعَةَ وَأَنْمَارٍ : شَقِيقَةُ بِنْتُ
عَكّ بْنِ عَدْنَانَ ، وَيُقَالُ جُمُعَةُ بِنْتُ عَكّ بْنِ عَدْنَانَ .
أَوْلَادُ أَنْمَارٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَنْمَارٌ أَبُو خَثْعَمَ وَبَجِيلَةَ . قَالَ جَرِيرُ
بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَجَلِيّ وَكَانَ سَيّدَ بَجِيلَةَ ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ
لَهُ الْقَائِلُ
لَوْلَا جَرِيرٌ هَلَكَتْ بَجِيلَهْ ... نِعْمَ الْفَتَى ، وَبِئْسَ الْقَبِيلَهْ
وَهُوَ يُنَافِرُ الْفُرَافِصَةَ الْكَلْبِيّ إلَى الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ
التّمِيمِيّ .
يَا أَقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أَقَرْعُ ... إنّك إنْ تَصْرَعْ أَخَاك تُصْرَعُ
[ ص 161 ] فَقَالَ عَمْرٌو : بَلْ أَطْبُخُ فَلَحِقَ عَامِرٌ بِالْإِبِلِ فَجَاءَ
بِهَا ، فَلَمّا رَاحَا عَلَى أَبِيهِمَا حَدّثَاهُ بِشَأْنِهِمَا ، فَقَالَ
لِعَامِرِ أَنْتَ مُدْرِكَةٌ وَقَالَ لِعَمْرِو : وَأَنْتَ طَابِخَةٌ . وَأَمّا
قَمْعَةُ فَيَزْعُمُ نُسّابُ مُضَرَ : أَنّ خُزَاعَةَ مِنْ وَلَدِ عَمْرِو بْنِ
لُحِيّ بْنِ قَمْعَةَ بْنِ إلْيَاسَ . قَالَ
ابْنَيْ نِزَارٍ اُنْصُرَا أَخَاكُمَا ... إنّ أَبِي وَجَدْته أَبَاكُمَا
لَنْ يَغْلِبَ الْيَوْمَ أَخٌ وَالَاكُمَا وَقَدْ تَيَامَنْت ، فَلَحِقْت
بِالْيَمَنِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَتْ الْيَمَنُ : وَبَجِيلَةُ : أَنْمَارُ
بْنُ إرَاشَ بْنِ لِحْيَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْغَوْثِ بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ
بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ إرَاشُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
لِحْيَانَ بْنِ الْغَوْثِ . وَدَارُ بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ : يَمَانِيّةٌ .
أَوْلَادُ مُضَرَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ مُضَرُ بْنُ نِزَارٍ رَجُلَيْنِ إلْيَاسَ بْنَ
مُضَرَ ، وَعَيْلَانَ بْنَ مُضَرَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأُمّهُمَا :
جُرْهُمِيّةٌ .
أَوْلَادُ إلْيَاسَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ إلْيَاسُ بْنُ مُضَرَ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ
مُدْرِكَةَ بْنَ إلْيَاسَ ، وَطَابِخَةَ بْنَ إلْيَاسَ وَقَمْعَةَ بْنَ إلْيَاسَ
وَأُمّهُمْ خِنْدِفُ : امْرَأَةٌ مِنْ الْيَمَنِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : خِنْدِفُ
بِنْتُ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ
اسْمُ مُدْرِكَةَ عَامِرًا ، وَاسْمُ طَابِخَةَ عَمْرًا ، وَزَعَمُوا أَنّهُمَا
كَانَا فِي إبِلٍ لَهُمَا يَرْعَيَانِهَا ، فَاقْتَنَصَا صَيْدًا ، فَقَعَدَا
عَلَيْهِ يَطْبُخَانِهِ وَعَدَتْ عَادِيَةٌ عَلَى إبِلِهِمَا ، فَقَالَ عَامِرٌ
لِعَمْرِو : أَتُدْرِكُ الْإِبِلَ أَمْ تَطْبُخُ هَذَا الصّيْدَ ؟Sذَكَرَ
نِزَارُ بْنُ مَعَدّ وَمَنْ تَنَاسَلَ مِنْهُمْ
[ ص 162 ] [ ص 163 ] أَوْلَادَ مَعَدّ الْعَشَرَةَ فِيمَا تَقَدّمَ فَأَمّا مُضَرُ
فَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُهُ فِي عَمُودٍ نَسَبِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَذَكَرْنَا أَنّهُ أَوّلُ مَنْ سَنّ حُدَاءَ الْإِبِلِ وَسَبَبُهُ -
فِيمَا ذَكَرُوا - أَنّهُ سَقَطَ عَنْ بَعِيرٍ فَوَثَبَتْ يَدُهُ وَكَانَ أَحْسَنَ
النّاسِ صَوْتًا ، فَكَانَ يَمْشِي خَلْفَ الْإِبِلِ وَيَقُولُ وَايَدَيّاهُ
وَايَدَيّاهُ يَتَرَنّمُ بِذَلِكَ فَأَعْنَقَتْ الْإِبِلُ وَذَهَبَ كَلَالُهَا ؛
فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلُ الْحُدَاءِ عِنْدَ الْعَرَبِ ، وَذَلِكَ أَنّهَا تَنْشَطُ
بِحُدَائِهَا الْإِبِلُ فَتُسْرِعُ . [ ص 161 ] أَنْمَارُ بْنُ نِزَارٍ ، وَهُوَ
أَبُو بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ فَسُمّيَ بِالْأَنْمَارِ جَمْعُ نَمِرٍ كَمَا سُمّوا
بِسِبَاعِ وَكِلَابٍ وَأُمّ بَنِيهِ بَجِيلَةُ بِنْتُ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ
الْعَشِيرَةِ وُلِدَ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا أَفْتَلُ وَهُوَ خَثْعَمُ ، وَوَلَدَتْ
لَهُ عَبْقَرَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ سَمّاهُمْ أَبُو الْفَرَجِ عَنْهُمْ تَنَاسَلَتْ
قَبَائِلُ بَجِيلَةَ وَهُمْ وَدَاعَةُ وَخُزَيْمَةُ وَصُهَيْبَةُ [ فِي الْأَصْلِ
صُحَيْهِمْ ] وَالْحَارِثُ وَمَالِكُ وَشَيْبَةُ وَطُرَيْفَةُ وَفَهْمٌ [ ص 162 ]
وَالْغَوْثُ وَسَهْلٌ وَعَبْقَرٌ وَأَشْهَلُ كُلّهُمْ بَنُو أَنْمَارٍ ، وَيُقَالُ
إنّ بَجِيلَةَ حَبَشِيّةٌ حَضَنَتْ أَوْلَادَ أَنْمَارٍ الّذِينَ سَمّيْنَا ،
وَلَمْ تَحْضُنْ أَفْتَلَ وَهُوَ خَثْعَمُ ، فَلَمْ يُنْسَبْ إلَيْهَا . رَوَى
التّرْمِذِيّ مِنْ طَرِيقِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ أَنّهُ لَمَا أَنَزَلَ اللّهُ
فِي سَبَأٍ مَا أَنَزَلَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا سَبَأٌ : امْرَأَةٌ
أَمْ أَرْضٌ ؟ قَالَ " لَيْسَ بِامْرَأَةِ وَلَا أَرْضٍ وَلَكِنّهُ رَجُلٌ
وَلَدَ عَشَرَةً مِنْ الْعَرَبِ ، فَتَيَامَنْ مِنْهُمْ سِتّةً وَتَشَاءَمَ
أَرْبَعَةٌ فَأَمّا الّذِينَ تَشَاءَمُوا : فَلَخْمٌ وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ
وَغَسّانُ ، وَأَمّا الّذِينَ تَيَامَنُوا : فَالْأَزْدُ وَالْأَشْعَرُونَ
وَحِمْيَرُ وَمُذْحِجُ وَكِنْدَةُ وَأَنْمَارٌ " ، قَالَ الرّجُلُ وَمَنْ
أَنْمَارٌ ؟ قَالَ " الّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبَجِيلَةُ . وَقَوْلُهُ
لَوْلَا جَرِيرٌ هَلَكَتْ بَجِيلَةُ ... نِعْمَ الْفَتَى ، وَبَئِسَتْ
الْقَبِيلَهْ
قَالَ لَمّا سَمِعَ هَذَا : مَا مُدِحَ رَجُلٌ هُجِيَ قَوْمُهُ وَجَرِيرٌ هَذَا
هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَابِرٍ وَهُوَ الشّلَيْلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ
نَصْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ جُشَمِ بْنِ عُوَيْفِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ عَدِيّ
بْنِ مَالِكِ بْنِ سَعْدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ قَسْرٍ وَهُوَ مَالِكُ بْنُ عَبْقَرِ
بْنِ أَنْمَارٍ بْنِ إرَاشَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْغَوْثِ ، يُكَنّى : أَبَا
عَمْرٍو ، وَقِيلَ أَنَا عَبْدُ اللّهِ وَفِيهِ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ خَيْرُ ذِي يَمَنٍ ، عَلَيْهِ مَسْحَةُ
مُلْكٍ وَكَانَ عُمَرُ يُسَمّيهِ يُوسُفَ هَذِهِ الْأُمّةِ وَكَانَ مِنْ مُقْبِلِي
الظّعُنِ وَكَانَتْ نَعْلُهُ طُولُهَا : ذِرَاعٌ فِيمَا ذَكَرُوا . وَمِنْ
النّذِيرِ بْنِ قَسْرٍ الْعُرَنِيّونَ الّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ ، وَحَدِيثُهُمْ
مَشْهُورٌ وَهُمْ بَنُو عُرَيْنَةَ بْنِ النّذِيرِ ، أَوْ بَنُو عُرَيْنَةَ بْنِ
رَبِيعَةَ بْنِ نَذِيرٍ ، لِأَنّهُمَا عُرَيْنَتَانِ وَأَحَدُهُمَا : عَمّ
الْآخَرِ . وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي السّيرَةِ مِنْ بَنِي قَيْسٍ : كُبّةٌ مِنْ
بَجِيلَةَ . وَقَوْلُهُ وَهُوَ يُنَافِرُ الْفُرَافِصَةَ [ بْنَ الْأَحْوَصِ ]
الْكَلْبِيّ إلَى الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التّمِيمِيّ . يُنَافِرُ أَيْ
يُحَاكِمُ . قَالَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ لَفْظُ الْمُنَافَرَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ
النّفَرِ وَكَانُوا إذَا تَنَازَعَ الرّجُلَانِ وَادّعَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
أَنّهُ أَعَزّ نَفَرًا مِنْ صَاحِبِهِ تَحَاكَمُوا إلَى الْعَلّامَةِ فَمَنْ
فَضَلَ مِنْهُمَا قِيلَ نَفّرَهُ عَلَيْهِ أَيْ فَضّلَ نَفَرَهُ عَلَى نَفَرِ
الْآخَرِ فَمِنْ هَذَا أُخِذَتْ الْمُنَافَرَةُ [ ص 163 ] وَقَالَ زُهَيْرٌ :
فَإِنّ الْحَقّ مَقْطَعُهُ ثَلَاثٌ ... يَمِينٌ أَوْ نِفَارٌ أَوْ جَلَاءٌ
وَالْفُرَافِصَةُ بِالضّمّ اسْمُ الْأَسَدِ وَبِالْفَتْحِ اسْمُ الرّجُلِ وَقَدْ
قِيلَ كُلّ فُرَافِصَةٌ فِي الْعَرَبِ بِالضّمّ إلّا الْفُرَافِصَةَ أَبَا
نَائِلَةَ صِهْرَ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ فَإِنّهُ بِالْفَتْحِ . وَقَوْلُهُ إنّك
إنْ تَصْرَعْ أَخَاك تُصْرَعْ . وُجِدَتْ فِي حَاشِيَة أَبِي بَحْرٍ قَالَ
الْأَشْهُرُ فِي الرّوَايَةِ إنْ يُصْرَعْ أَخُوك ، وَإِنّمَا لَمْ يَنْجَزِمْ
الْفِعْلُ الْآخَرُ عَلَى جَوَابِ الشّرْطِ لِأَنّهُ فِي نِيّةِ التّقْدِيمِ
عِنْدَ سِيبَوَيْهِ ، وَهُوَ عَلَى إضْمَارِ الْفَاءِ عِنْدَ الْمُبَرّدِ وَمَا
ذُكِرَ فِي أَنْمَارٍ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْيَمَنِ يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ
التّرْمِذِيّ الْمُتَقَدّمُ . وَذَكَرَ أُمّ إلْيَاسَ وَقَالَ فِيهَا : امْرَأَةٌ
مِنْ جُرْهُمٍ ، وَلَمْ يُسَمّهَا ، وليست من جُرْهُمٍ ، وَإِنّمَا هِيَ الرّبَابُ
بِنْتُ حَيْدَةَ بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَانَ فِيمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ ، وَقَدْ
قَدّمْنَا ذَلِكَ فِي نَسَبِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَمّا
عَيْلَانُ أَخُو إلْيَاسَ فَقَدْ قِيلَ إنّهُ قَيْسٌ نَفْسُهُ لَا أَبُوهُ
وَسُمّيَ بِفَرَسِ لَهُ اسْمُهُ عَيْلَانُ وَكَانَ يُجَاوِرُهُ قَيْسُ كُبّةَ مِنْ
بَجِيلَةَ عُرِفَ بِكُبّةَ اسْمِ فَرَسِهِ فُرّقَ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ
الْإِضَافَةِ وَقِيلَ عَيْلَانُ اسْمُ كَلْبٍ لَهُ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ النّاسُ
وَلِأَخِيهِ إلْيَاسُ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ الْقَوْلُ فِي
عَمُودِ نَسَبِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَا فِيهِ غُنْيَةٌ
مِنْ شَرْحِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ . وَذَكَرَ مُدْرِكَةَ وَطَابِخَةَ وَقَمْعَةَ
وَسَبَبَ تَسْمِيَتِهِمْ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَفِي الْخَبَرِ زِيَادَةٌ وَهُوَ
أَنّ إلْيَاسَ قَالَ لِأُمّهِمْ - وَاسْمُهَا لَيْلَى ، وَأُمّهَا : ضَرِيّةُ
بِنْتُ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ الّتِي يُنْسَبُ إلَيْهَا : حِمَى ضَرِيّةَ ،
وَقَدْ أَقْبَلَتْ تُخَنْدِفُ فِي مِشْيَتِهَا : مَا لَك تُخَنْدِفِينَ ؟
فَسُمّيَتْ خِنْدِفَ ، وَالْخَنْدِفَةُ سُرْعَةٌ فِي مَشْيٍ وَقَالَ لِمُدْرِكَةَ
وَأَنْتَ قَدْ أَدْرَكْت مَا طَلَبْتَا
وَقَالَ لِطَابِخَةَ
وَأَنْتَ قَدْ أَنْضَجْت مَا طَبَخْتَا
وَقَالَ لِقَمْعَةَ وَهُوَ عُمَيْرٌ
وَأَنْتَ قَدْ قَعَدْت فَانْقَمَعْتَا
[ ص 164 ] وَخِنْدِفُ الّتِي عُرِفَ بِهَا بَنُو إلْيَاسَ وَهِيَ الّتِي ضَرَبَتْ
الْأَمْثَالَ بِحُزْنِهَا عَلَى إلْيَاسَ وَذَلِكَ أَنّهَا تَرَكَتْ بَنِيهَا ،
وَسَاحَتْ فِي الْأَرْضِ تَبْكِيهِ حَتّى مَاتَتْ كَمَدًا ، وَكَانَ مَاتَ يَوْمَ
خَمِيسٍ وَكَانَتْ إذَا جَاءَ الْخَمِيسُ بَكَتْ مِنْ أَوّلِ النّهَارِ إلَى
آخِرِهِ فَمِمّا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي ذَلِكَ
إذَا مُؤْنِسٌ لَاحَتْ خَرَاطِيمُ شَمْسِهِ ... بَكَتْهُ بِهِ حَتّى تَرَى
الشّمْسَ تَغْرُبُ
فَمَا رَدّ بَأْسًا حُزْنُهَا وَعَوِيلُهَا ... وَلَمْ يُغْنِهَا حُزْنٌ وَنَفْسٌ
تُعَذّبُ
وَكَانُوا يُسَمّونَ الْخَمِيسَ مُؤْنِسًا قَالَ الزّبَيْرُ وَإِنّمَا نُسِبَ
بَنُو إلْيَاسَ لِأُمّهِمْ لِأَنّهَا حِينَ تَرَكَتْهُمْ شُغْلًا لِحُزْنِهَا
عَلَى أَبِيهِمْ رَحِمَهُمْ النّاسُ فَقَالُوا : هَؤُلَاءِ أَوْلَادُ خِنْدِفَ
الّذِينَ تَرَكَتْهُمْ وَهُمْ صِغَارُ أَيْتَامٍ حَتّى عُرِفُوا بِبَنِي خِنْدِفَ
. وَأَمّا عَوَانَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ عَيْلَانَ فَسُمّيَتْ الْعَوَانَةُ
وَهِيَ النّاقَةُ الطّوِيلَةُ .
قِصّةُ
عَمْرِو بْنِ لُحَيّ وَذِكْرُ أَصْنَامِ الْعَرَبِ
حَدِيثُ جَرّ عَمْرٍو قُصْبَهُ فِي النّارِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 164 ] عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ حُدّثْت أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ رَأَيْت عَمْرَو بْنَ لُحَيّ يَجُرّ قُصْبَهُ
فِي النّارِ فَسَأَلْته عَمّنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنْ النّاسِ فَقَالَ هَلَكُوا
[ ص 165 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ
الْحَارِثِ التّيْمِيّ أَنّ أَبَا صَالِحٍ السّمّانِ حَدّثَهُ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا
هُرَيْرَةَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ . عَبْدُ اللّهِ
بْنُ عَامِرٍ ، وَيُقَالُ اسْمُهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ - يَقُولُ سَمِعْت
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ
الْخُزَاعِيّ يَا أَكْثَمُ رَأَيْت عَمْرَو بْنَ لُحَيّ بْنِ قَمْعَةَ بْنِ
خِنْدِفَ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ فَمَا رَأَيْت رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُلِ
مِنْك بِهِ وَلَا بِك مِنْهُ . فَقَالَ أَكْثَمُ عَسَى أَنْ يَضُرّنِي شَبَهُهُ
يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ لَا ، إنّك مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ إنّهُ كَانَ
أَوّلَ مَنْ غَيّرَ دِينَ إسْمَاعِيلَ فَنَصَبَ الْأَوْثَانَ وَبَحَرَ
الْبَحِيرَةَ وَسَيّبَ السّائِبَةَ وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ وَحَمَى الْحَامِيSوَذَكَرَ
حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ لُحَيّ بْنِ قَمْعَةَ بْنِ إلْيَاس َ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي
نَسَبِ خُزَاعَةَ وَأَسْلَمَ أَنّهُمَا ابْنَا حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَأَنّ
رَبِيعَةَ بْنِ حَارِثَةَ هُوَ أَبُو خُزَاعَةَ مِنْ بَنِي أَبِي حَارِثَةَ بْنِ عَامِرٍ
لَا مِنْ حَارِثَةَ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ . وَقَوْلُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأَسْلَمَ ارْمُوا يَا بَنِي إسْمَاعِيلَ فَإِنّ أَبَاكُمْ
كَانَ رَامِيًا وَهُوَ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ أَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ فِي الظّاهِرِ
إلّا أَنّ بَعْضَ أَهْلِ النّسَبِ ذَكَرَ أَنّ عَمْرَو بْنَ لُحَيّ كَانَ
حَارِثَةُ قَدْ خَلّفَ عَلَى أُمّهِ بَعْدَ أَنْ آمَتْ مِنْ قَمْعَةَ وَلُحَيّ
صَغِيرٌ . وَلُحَيّ هُوَ رَبِيعَةُ ، فَتَبَنّاهُ حَارِثَةُ وَانْتَسَبَ إلَيْهِ
فَيَكُونُ النّسَبُ صَحِيحًا بِالْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا : إلَى حَارِثَةَ
بِالتّبَنّي ، وَإِلَى قَمْعَةَ بِالْوِلَادَةِ وَكَذَلِكَ أَسْلَمُ بْنُ أَفْصَى
بْنِ حَارِثَةَ فَإِنّهُ أَخُو خُزَاعَةَ ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي
خُزَاعَةَ ، وَقِيلَ فِي أَسْلَمَ بْنِ أَفْصَى : إنّهُمْ مِنْ بَنِي أَبِي حَارِثَةَ
بْنِ عَامِرٍ [ ص 165 ] بَنِي حَارِثَةَ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ فِي
الْحَدِيثِ حُجّةٌ لِمَنْ نَسَبَ قَحْطَانَ إلَى إسْمَاعِيلَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
وَمِنْ حُجّةِ مَنْ نَسَبَ خُزَاعَةَ إلَى قَمْعَةَ مَعَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ
فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْمُعَطّلِ [ الْهُذَلِيّ ] يُخَاطِبُ قَوْمًا مِنْ خُزَاعَةَ
:
لَعَلّكُمْ مِنْ أُسْرَةٍ قَمْعِيّةٍ ... إذَا حَضَرُوا لَا يَشْهَدُونَ
الْمُعَرّفَا
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَكْثَمَ الّذِي يَرْوِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ . اسْمُ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو ، وَقِيلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ
وَقِيلَ هُوَ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ . وَقَالَ الْبُخَارِيّ اسْمُهُ
عَبْدُ شَمْسِ بْنُ عَبْدِ نُهْمٍ وَقِيلَ اسْمُهُ عَبْدُ غَنْمٍ وَيَحْتَمِلُ
أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْمُهُ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَبَدّلَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَمَا بَدّلَ كَثِيرًا مِنْ الْأَسْمَاءِ وَقَدْ قِيلَ
اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ عِشْرِقَةَ وَقِيلَ كُرْدُوسٌ وَقِيلَ سُكَيْنٌ . قَالَهُ
النّفْسُوِيّ ، [ لَعَلّهُ الْبَغَوِيّ أَوْ النّفُوسِيّ ] وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا .
وَكَنّاهُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
لِهِرّةِ رَآهَا مَعَه وَقَدْ ذَكَرَ أَنّ الْهِرّة كَانَتْ وَحْشِيّةً . وَأَمّا
أَكْثَمُ الّذِي ذَكَرَهُ فَقَدْ صَرّحَ فِي حَدِيثِهِ بِنَسَبِ عَمْرٍو وَالِدِ
خُزَاعَةَ ، وَذَكَرَهُ لَقُوّةِ الشّبَهِ بَيْنَ أَكْثَمَ وَبَيْنَهُ يَدُلّ
عَلَى أَنّهُ نَسَبُ وِلَادَةٍ - كَمَا تَقَدّمَ وَلَا سِيّمَا عَلَى رِوَايَةِ
الزّبَيْرِ فَإِنّ فِيهَا أَنّهُ قَالَ رَأَيْت عَمْرَو بْنَ لُحَيّ وَالِدَ
خُزَاعَةَ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ وَقَوْلُهُ لِأَكْثَمَ إنّك مُؤْمِنٌ
وَهُوَ كَافِرٌ قَدْ رَوَى الْحَدِيثَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي
مُسْنَدِهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ هَذِهِ
الْمَقَالَةَ فِي حَدِيثِ الدّجّالِ لِعَبْدِ الْعُزّى بْنِ س ، وَأَنّ عَبْدَ
الْعُزّى قَالَ أَيَضُرّنِي شَبَهِي بِهِ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ يَعْنِي :
الدّجّالَ فَقَالَ كَمَا قَالَ لِأَكْثَمَ إنّك مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ
وَأَحْسَبُ هَذَا وَهْمًا فِي الْحَدِيثِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ كَمَا ذَكَرَهُ
الْبُخَارِيّ عَنْ الزّهْرِيّ . قَالَ ابْنُ قَطَن ٍ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ هَلَكَ
فِي الْجَاهِلِيّةِ وَلِأَكْثَمَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - حَدِيثَانِ . أَحَدُهُمَا [ ص 166 ] قَطَنٍ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ
هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَلِأَكْثَمَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - حَدِيثَانِ . أَحَدُهُمَا [ ص 166 ] خَيْرُ الرّفَقَاءِ أَرْبَعَةٌ
وَقَدْ تَكَلّمْنَا عَلَى مَعْنَاهُ فِي كِتَابِ التّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ .
وَالْآخَرُ اُغْزُ مَعَ غَيْرِ قَوْمِك ، تَحْسُنْ خُلُقُك قَالَ الْإِسْكَافُ فِي
كِتَابِ فَوَائِدِ الْأَخْبَارِ مَعْنَى هَذَا لِأَنّ الرّجُلَ إذَا غَزَا مَعَ
غَيْرِ قَوْمِهِ تَحَفّظَ وَلَمْ يَسْتَرْسِلْ وَتَكَلّفَ مِنْ رِيَاضَةِ نَفْسِهِ
مَا لَا يَتَكَلّفُهُ فِي صُحْبَةِ مَنْ يَثِقُ بِاحْتِمَالِهِ لِنَظَرِهِمْ
إلَيْهِ بِعَيْنِ الرّضَى ، وَلِصِحّةِ إدْلَالِهِ فَلِذَلِكَ تَحْسُنُ خُلُقُهُ
لِرِيَاضَةِ نَفْسِهِ عَلَى الصّبْرِ وَالِاحْتِمَالِ فَهَذَا حَسَنٌ مِنْ
التّأْوِيلِ غَيْرَ أَنّ الْحَدِيثَ مُخْتَلَفٌ فِي لَفْظِهِ فَقَدْ رُوِيَ فِيهِ
سَافِرْ مَعَ قَوْمِك ، وَذَكَرَ الرّوَايَتَيْنِ أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ اللّه .
وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ عَمْرَو بْنَ لُحَيّ ، وَأَنّهُ أَوّلُ مَنْ بَحَرَ
الْبَحِيرَةَ وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنّ أَوّلَ مَنْ بَحَرَ الْبَحِيرَةَ رَجُلٌ
مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ كَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ فَجَدَعَ آذَانَهُمَا ، وَحَرّمَ
أَلْبَانَهُمَا . قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فَرَأَيْته فِي النّارِ يَخْبِطَانِهِ بِأَخْفَافِهِمَا ، وَيَعَضّانِهِ
بِأَفْوَاهِهِمَا وَقَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ قَدْ عَرَفْت أَوّلَ مَنْ سَيّبَ
السّائِبَةَ وَنَصَبَ النّصُبَ . عَمْرُو بْنُ لُحَيّ رَأَيْته يُؤْذِي أَهْلَ
النّارِ بِرِيحِ قُصْبِهِ رَوَاهُ ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ مُرْسَلًا ، وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ عَنْهُ .
أَوّلُ
مَا كَانَتْ عِبَادَةُ الْحِجَارَةِ
[ ص 166 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ عَمْرَو
بْنِ لُحَيّ خَرَجَ مِنْ مَكّةَ إلَى الشّامِ فِي بَعْضِ أُمُورِهِ فَلَمّا قَدِمَ
مَآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ ، وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ - وَهُمْ
وَلَدُ عِمْلَاقَ . وَيُقَال : عِمْلِيقُ بْنُ لَاوِذَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ -
رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَقَالَ لَهُمْ مَا [ ص 167 ] أَرَاكُمْ
تَعْبُدُونَ ؟ قَالُوا لَهُ هَذِهِ أَصْنَامٌ نَعْبُدُهَا ، فَنَسْتَمْطِرُهَا
فَتُمْطِرُنَا ، وَنَسْتَنْصِرُهَا فَتَنْصُرُنَا ، فَقَالَ لَهُمْ أَفَلَا
تُعْطُونَنِي مِنْهَا صَنَمًا ، فَأَسِيرُ بِهِ إلَى أَرْضِ الْعَرَبِ ،
فَيَعْبُدُوهُ ؟ فَأَعْطَوْهُ صَنَمًا يُقَالُ لَهُ هُبَلُ فَقَدِمَ بِهِ مَكّةَ ،
فَنَصَبَهُ وَأَمَرَ النّاسَ بِعِبَادَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ
: وَيَزْعُمُونَ أَنّ أَوّلَ مَا كَانَتْ عِبَادَةُ الْحِجَارَةِ فِي بَنِي
إسْمَاعِيلَ أَنّهُ كَانَ لَا يَظْعَنُ مِنْ مَكّةَ ظَاعِنٌ مِنْهُمْ حِينَ
ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ وَالْتَمَسُوا الْفُسَحَ فِي الْبِلَادِ إلّا حَمَلَ مَعَهُ
حَجَرًا مِنْ حِجَارَةِ الْحَرَمِ تَعْظِيمًا لِلْحَرَمِ فَحَيْثُمَا نَزَلُوا
وَضَعُوهُ فَطَافُوا بِهِ كَطَوَافِهِمْ بِالْكَعْبَةِ حَتّى سَلَخَ ذَلِكَ بِهِمْ
إلَى أَنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ مَا اسْتَحْسَنُوا مِنْ الْحِجَارَةِ
وَأَعْجَبَهُمْ حَتّى خَلَفَ الْخُلُوفُ وَنَسُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ
وَاسْتَبْدَلُوا بِدِينِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ غَيْرَهُ فَعَبَدُوا
الْأَوْثَانَ وَصَارُوا إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ مِنْ
الضّلَالَاتِ وَفِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ بَقَايَا مِنْ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ
يَتَمَسّكُونَ بِهَا : مِنْ تَعْظِيمِ الْبَيْتِ ، وَالطّوَافِ بِهِ وَالْحَجّ
وَالْعُمْرَةِ وَالْوُقُوفِ عَلَى عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةَ ، وَهَدْيِ
الْبُدْنِ وَالْإِهْلَالِ بِالْحَجّ وَالْعُمْرَةِ مَعَ إدْخَالِهِمْ فِيهِ مَا
لَيْسَ مِنْهُ . فَكَانَتْ كِنَانَةُ وَقُرَيْشٌ إذَا أَهَلّوا قَالُوا : "
لَبّيْكَ اللّهُمّ لَبّيْكَ لَبّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك ، إلّا شَرِيكَ هُوَ لَك ،
تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ " . فَيُوَحّدُونَهُ بِالتّلْبِيَةِ ثُمّ
يُدْخِلُونَ مَعَهُ أَصْنَامَهُمْ وَيَجْعَلُونَ مُلْكَهَا بِيَدِهِ . يَقُولُ
اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِمُحَمّدِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - {
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يُوسُفُ 106 ]
أَيْ مَا يُوَحّدُونَنِي لِمَعْرِفَةِ حَقّي إلّا جَعَلُوا مَعِي شَرِيكًا مِنْ
خَلْقِي .Sأَصْلُ
عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ
يُقَالُ لِكُلّ صَنَمٍ مِنْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ صَنَمٌ وَلَا يُقَالُ وَثَنٌ
إلّا لِمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ صَخْرَةٍ كَالنّحَاسِ وَنَحْوِهِ وَكَانَ عَمْرُو
بْنُ لُحَيّ حِينَ غَلَبَتْ خُزَاعَةُ عَلَى الْبَيْتِ ، وَنَفَتْ جُرْهُمُ عَنْ
مَكّةَ ، قَدْ جَعَلَتْهُ الْعَرَبُ رَبّا لَا يَبْتَدِعُ لَهُمْ بِدْعَةً إلّا
اتّخَذُوهَا شِرْعَةً لِأَنّهُ كَانَ يُطْعِمُ النّاسَ وَيَكْسُو فِي الْمَوْسِمِ
فَرُبّمَا نَحَرَ فِي الْمَوْسِمِ عَشَرَةَ آلَافِ بَدَنَةٍ وَكَسَا عَشَرَةَ
آلَافِ حُلّةٍ حَتّى [ قِيلَ ] إنّهُ اللّاتِي الّذِي ، يَلُتّ السّوِيقَ
لِلْحَجِيجِ عَلَى صَخْرَةٍ مَعْرُوفَةٍ تُسَمّى : صَخْرَةَ اللّاتِي ، وَيُقَالُ
إنّ الّذِي يَلُتّ كَانَ مِنْ ثَقِيفٍ ، فَلَمّا مَاتَ قَالَ لَهُمْ عَمْرٌو :
إنّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنْ دَخَلَ فِي الصّخْرَةِ ثُمّ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهَا
، وَأَنْ يَبْنُوا عَلَيْهَا بَيْتًا يُسَمّى : اللّاتِي ، وَيُقَالُ دَامَ
أَمْرُهُ وَأَمَرَ وَلَدَهُ [ ص 167 ] بِمَكّةَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ فَلَمّا
هَلَكَ سُمّيَتْ تِلْكَ الصّخْرَةُ اللّاتِي مُخَفّفَةَ التّاءِ وَاُتّخِذَ
صَنَمًا يُعْبَدُ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ ، أَنّهُ أَوّلُ مَنْ أَدْخَلَ
الْأَصْنَامَ الْحَرَمَ ، وَحَمَلَ النّاسَ عَلَى عِبَادَتِهَا ، وَسَيَأْتِي
ذِكْرُ إسَافٍ وَنَائِلَةَ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي أَمْرِهِمَا . وَذَكَرَ أَبُو
الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيّ فِي أَخْبَارِ مَكّةَ أَنّ عَمْرَو بْنَ لُحَيّ فَقَأَ
أَعْيُنِ عِشْرِينَ بَعِيرًا ، وَكَانُوا يَفْقَئُونَ عَيْنَ الْفَحْلِ إذَا
بَلَغَتْ الْإِبِلُ أَلْفًا ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَلْفَيْنِ فَقَئُوا الْعَيْنَ
الْأُخْرَى قَالَ الرّاجِزُ
وَكَانَ شُكْرُ الْقَوْمِ عِنْدَ الْمِنَنِ ... كَيّ الصّحِيحَاتِ وَفَقْأُ
الْأَعْيُنِ
وَكَانَتْ التّلْبِيَةُ مِنْ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ : لَبّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك
لَبّيْكَ حَتّى كَانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيّ ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُلَبّي تَمَثّلَ
لَهُ الشّيْطَانُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ يُلَبّي مَعَهُ فَقَالَ عَمْرٌو : لَبّيْكَ
لَا شَرِيك لَك ، فَقَالَ الشّيْخُ إلّا شَرِيكًا هُوَ لَك ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ
عَمْرٌو ، وَقَالَ مَا هَذَا ؟ فَقَالَ الشّيْخُ قُلْ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ
فَإِنّهُ لَا بَأْسَ بِهَذَا ، فَقَالَهَا عَمْرٌو ، فَدَانَتْ بِهَا الْعَرَبُ .
أَصْنَامُ
قَوْمِ نُوحٍ
وَقَدْ [ ص 168 ] كَانَتْ لِقَوْمِ نُوحٍ أَصْنَامٌ قَدْ عَكَفُوا عَلَيْهَا ،
قَصّ اللّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - خَبَرَهَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ { وَقَالُوا لَا تَذَرُنّ آلِهَتَكُمْ وَلَا
تَذَرُنّ وَدّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلّوا
كَثِيرًا } [ نُوحٌ 22 23 ]S[ ص 168 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ مَا كَانَ فِي قَوْمِ نُوحٍ
وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَتِلْكَ هِيَ الْجَاهِلِيّةُ
الْأُولَى الّتِي ذَكَرَ اللّهُ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ { وَلَا تَبَرّجْنَ
تَبَرّجَ الْجَاهِلِيّةِ الْأُولَى } [ الْأَحْزَاب : 33 ] وَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ
فِي عَهْدِ مهلايل بْنِ قَيْنَانَ فِيمَا ذَكَرُوا ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ
عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ صَارَتْ الْأَوْثَانُ الّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ
فِي الْعَرَبِ بَعْدُ وَهِيَ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ
فَلَمّا هَلَكُوا أَوْحَى الشّيْطَانُ إلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا فِي
مَجَالِسِهِمْ الّتِي كَانُوا يُجْلِسُونَهَا أَنْصَابًا ، وَسَمّوْهَا
بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتّى إذَا هَلَكَ أُولَئِكَ
وَتُنُوسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ هَذَا الْمَعْنَى وَزَادَ
أَنّ سُوَاعًا كَانَ ابْنَ شِيثَ وَأَنّ يَغُوثَ كَانَ ابْنَ سُوَاعٍ وَكَذَلِكَ
يَعُوقُ وَنَسْرُ كُلّمَا هَلَكَ الْأَوّلُ صُوّرَتْ صُورَتُهُ وَعُظّمَتْ
لِمَوْضِعِهِ مِنْ الدّينِ وَلَمّا عَهِدُوا فِي دُعَائِهِ مِنْ الْإِجَابَةِ
فَلَمْ يَزَالُوا هَكَذَا حَتّى خَلَفَتْ الْخُلُوفُ وَقَالُوا : مَا عَظّمَ
هَؤُلَاءِ آبَاؤُنَا إلّا لِأَنّهَا تَرْزُقُ وَتَنْفَعُ وَتَضُرّ ،
وَاِتّخَذُوهَا آلِهَةً وَهَذِهِ أَسْمَاءُ سُرْيَانِيّةٌ وَقَعَتْ إلَى الْهِنْدِ
، فَسَمّوْا بِهَا أَصْنَامَهُمْ الّتِي زَعَمُوا أَنّهَا صُوَرُ الدّرَارِيّ
السّبْعَةِ وَرُبّمَا كَلّمَتْهُمْ الْجِنّ مِنْ جَوْفِهَا فَفَتَنَتْهُمْ ثُمّ
أَدْخَلَهَا إلَى الْعَرَبِ عَمْرُو بْنُ لُحَيّ كَمَا ذُكِرَ أَوْ غَيْرُهُ
وَعَلّمَهُمْ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ وَأَلْقَاهَا الشّيْطَانُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ
مُوَافَقَةً لِمَا كَانُوا فِي عَهْدِ نُوحٍ .
أَصْنَامُ
الْقَبَائِلِ الْعَرَبِيّةِ
فَكَانَ الّذِينَ اتّخَذُوا تِلْكَ الْأَصْنَامَ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ
وَغَيْرِهِمْ وَسُمّوا بِأَسْمَائِهِمْ حِينَ فَارَقُوا دِينَ إسْمَاعِيلَ هُذَيْلَ
بْنَ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ ، اتّخَذُوا سُوَاعًا ، فَكَانَ لَهُمْ
بِرُهَاطٍ . وَكَلْبُ بْنُ وَبْرَةَ مِنْ قُضَاعَةَ ، اتّخَذُوا وَدّا بِدَوْمَةِ
الْجَنْدَلِ . [ ص 169 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ
الْأَنْصَارِيّ
وَنَنْسَى اللّاتِ وَالْعُزّى وَوَدّا ... وَنَسْلُبُهَا الْقَلَائِدَ
وَالشّنُوفَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي
مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللّهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَلْبُ بْنُ وَبْرَةَ
بْنِ تَغْلِبَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَنْعُمُ مِنْ طَيّئٍ ، وَأَهْلُ جُرَشَ مِنْ مَذْحِجَ
اتّخَذُوا يَغُوثَ بِجُرَشَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَنْعَمُ .
وَطَيّئُ بْنُ أُدَدِ بْنِ مَالِكٍ وَمَالِكٌ مَذْحِجُ بْنُ أُدَدٍ وَيُقَالُ
طَيّئُ بْنُ أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَخَيْوَانُ بَطْنٌ مِنْ هَمْدَانَ ، اتّخَذُوا يَعُوقَ بِأَرْضِ
هَمْدَانَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ . [ ص 170 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ
مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ الْهَمْدَانِيّ :
يَرِيشُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَيَبْرِي ... وَلَا يَبْرِي يَعُوقُ وَلَا يَرِيشُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : اسْمُ هَمْدَانَ :
أَوْسَلَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَوْسَلَةَ بْنِ الْخِيَارِ
بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ أَوْسَلَةُ بْنُ
زَيْدِ بْنِ أَوْسَلَةَ بْنِ الْخِيَارِ . وَيُقَالُ هَمْدَانُ بْنُ أَوْسَلَةَ
بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْخِيَارِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَذُو الْكُلَاعِ مِنْ حِمْيَرَ ،
اتّخَذُوا نَسْرًا بِأَرْضِ حِمْيَرَ . وَكَانَ لِخَوْلَانُ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ
عُمْيَانِسُ بِأَرْضِ خَوْلَانَ ، يَقْسِمُونَ لَهُ مِنْ أَنْعَامِهِمْ
وَحُرُوثِهِمْ قَسْمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللّهِ بِزَعْمِهِمْ فَمَا دَخَلَ فِي
حَقّ عُمْيَانِسَ مِنْ حَقّ اللّهِ تَعَالَى الّذِي سَمّوْهُ لَهُ تَرَكُوهُ لَهُ
وَمَا دَخَلَ فِي حَقّ اللّهِ تَعَالَى مِنْ حَقّ عُمْيَانِسَ رَدّوهُ عَلَيْهِ
وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ خَوْلَانَ ، يُقَالُ لَهُمْ الْأَدِيمُ وَفِيهِمْ أَنَزَلَ
اللّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فِيمَا يَذْكُرُونَ { وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا
ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلّهِ
بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ
إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا
يَحْكُمُونَ } [ الْأَنْعَامُ 136 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : خَوْلَانُ بْنُ
عَمْرِو بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ ، وَيُقَالُ خَوْلَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
مُرّةَ بْنِ أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مِهْسَعَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ
زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ خَوْلَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ . [ ص 171 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ
لِبَنِي مِلْكَانَ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ
بْنِ مُضَرَ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ سَعْدٌ صَخْرَةٌ بِفَلَاةِ مِنْ أَرْضِهِمْ
طَوِيلَةٌ فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مِلْكَانَ بِإِبِلِ لَهُ مُؤَبّلَةً
لِيَقِفَهَا عَلَيْهِ الْتِمَاسَ بَرَكَتِهِ - فِيمَا يَزْعُمُ - فَلَمّا رَأَتْهُ
الْإِبِلُ وَكَانَتْ مَرْعِيّةً لَا تُرْكَبُ وَكَانَ يُهْرَاقُ عَلَيْهِ
الدّمَاءُ نَفَرَتْ مِنْهُ فَذَهَبَتْ فِي كُلّ وَجْهٍ وَغَضِبَ رَبّهَا
الْمِلْكَانِيّ ، فَأَخَذَ حَجَرًا فَرَمَاهُ بِهِ ثُمّ قَالَ لَا بَارَكَ اللّهُ
فِيك ، نَفّرْت عَلَيّ إبِلِي ، ثُمّ خَرَجَ فِي طَلَبِهَا حَتّى جَمَعَهَا ،
فَلَمّا اجْتَمَعَتْ لَهُ قَالَ
أَتَيْنَا إلَى سَعْدٍ لِيَجْمَعَ شَمْلَنَا ... فَشَتّتَنَا سَعْدٌ فَلَا نَحْنُ
مِنْ سَعْدِ
وَهَلْ سَعْدُ إلّا صَخْرَةٌ بِتَنُوفَةِ ... مِنْ الْأَرْضِ لَا تَدْعُو لِغَيّ
وَلَا رُشْدٍ
وَكَانَ فِي دَوْسٍ صَنَمٌ لِعَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ الدّوْسِيّ . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : سَأَذْكُرُ حَدِيثَهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللّهُ . وَدَوْسُ بْنُ
عُدْثَانَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَهْرَانَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
كَعْبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَصْرِ بْنِ الْأَسَدِ بْنِ
الْغَوْثِ . وَيُقَال : دَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَهْرَانَ بْنِ الْأَسَدِ
بْنِ الْغَوْثِ .Sوَذَكَرَ
ابْنُ إسْحَاقَ أَنّ كَلْبَ بْنَ وَبْرَةَ مِنْ قُضَاعَةَ . وَبْرَةُ بِسُكُونِ
الْبَاءِ تُقَيّدُ فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ وَهِيَ الْأُنْثَى مِنْ الْوَبَرِ
اتّخَذُوا وَدّا فِي دُومَةِ الْجَنْدَلِ ، وَدُومَةُ هَذِهِ - بِضَمّ الدّالِ [ ص
169 ] بِدُومَى بَنِي إسْمَاعِيلَ كَانَ نَزَلَهَا ، وَدُومَةُ أُخْرَى بِضَمّ
الدّالِ عِنْدَ الْكُوفَةِ ، وَدَوْمَةُ - بِفَتْحِ الدّالِ - أُخْرَى مَذْكُورَةٌ
فِي أَخْبَارِ الرّدّةِ كَذَا وَجَدْته لِلْبَكْرِيّ [ فِي مُعْجَمِ مَا
اُسْتُعْجِمَ ] مُقَيّدًا فِي أَسْمَاءِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ . وَذَكَرَ طَيّئَ
بْنَ أُدَدٍ أَوْ ابْنَ مَالِكِ بْنِ أُدَدٍ عَلَى الْخِلَافِ وَمَالِكٌ هُوَ
مَذْحِجُ ، وَسُمّوا مَذْحِجًا بِأَكَمَةِ نَزَلُوا إلَيْهَا . [ وَطَيّ ] مِنْ
الطّاءَةِ وَهِيَ بَعْدَ الذّهَابِ فِي الْأَرْضِ . قَالَهُ ابْنُ جِنّيّ ، وَلَمْ
يَرْضَ قَوْلَ الْقُتَبِيّ إنّهُ أَوّلُ مَنْ طَوَى الْمَنَاهِلَ لِأَنّ طَيّئًا
مَهْمُوزٌ وَطَوَيْت غَيْرُ مَهْمُوزٍ . وَذَكَرَ جُرَشَ فِي مَذْحِجَ .
وَالْمَعْرُوفُ أَنّهُمْ فِي حِمْيَرَ ، وَأَنّ مَذْحِجَ مِنْ كَهْلَانَ بْنِ
سَبَأٍ ، وَيُقَالُ إنّ الْمُلْكَ كَانَ لِكَهْلَانَ بَعْدَ حِمْيَرَ ، وَأَنّ
مُلْكَهُ دَامَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ ثُمّ عَادَ فِي بَنِي حِمْيَرَ ، قَالَهُ
الْمَسْعُودِيّ . وَذَكَرَ الدّارَقُطْنِيّ أَنّ جُرَشَ وَحُرَشَ بِالْحَاءِ
أَخَوَانِ وَأَنّهُمَا ابْنَا عُلَيْمِ بْنِ جَنَابٍ الْكَلْبِيّ ، فَهُمَا
قَبِيلَانَ مِنْ كَلْبٍ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 170 ] وَذَكَرَ مَالِكُ بْنُ
نَمَطٍ الْهَمْدَانِيّ [ الْخَارِفِيّ ] ، وَهُوَ أَبُو ثَوْرٍ يُلَقّبُ ذَا
الْمِشْعَارِ وَهُوَ مِنْ بَنِي خَارِفٍ ، وَقَدْ قِيلَ . إنّهُ مِنْ يَام بْنِ
أَصِي ، وَكِلَاهُمَا مِنْ هَمْدَانَ وَقَوْلُهُ يَرِيشُ اللّهُ فِي الدّنْيَا
وَيَبْرِي
هُوَ مِنْ رِشْت السّهْمَ وَبَرَيْته ، اُسْتُعِيرَ فِي النّفْعِ وَالضّرّ . قَالَ
سُوَيْدٌ :
فَرِشْنِي طَالَمَا قَدْ بَرَيْتنِي ... وَخَيْرُ الْمَوَالِي مَنْ يَرِيشُ وَلَا
يَبْرِي
[ ص 171 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ الْمِلْكَانِيّ وَقَوْلَهُ فَشَتّتَنَا سَعْدٌ فَلَا
نَحْنُ مِنْ سَعْدِ
وَيَمْتَنِعُ فِي الْعَرَبِيّةِ دُخُولُ لَا عَلَى الِابْتِدَاءِ الْمُعْرِفَةِ
وَالْخَبَرِ إلّا مَعَ تَكْرَارٍ لَا ، مِثْلَ أَنْ تَقُولَ لَا زَيْدٌ فِي
الدّارِ وَلَا عَمْرٌو ، وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَهُمْ لَا نَوْلُك أَنْ
تَفْعَلَ وَقَالَ إنّمَا جَازَ هَذَا ؛ لِأَنّ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْفِعْلِ أَيْ
لَا يَنْبَغِي لَك أَنْ تَفْعَلَ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي بَيْتِ
الْمِلْكَانِيّ أَيْ لَمْ يَقُلْهَا عَلَى جِهَةِ الْخَبَرِ ، وَلَكِنْ عَلَى
قَصْدِ التّبَرّي مِنْهُ فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ فَلَا نَتَوَلّى سَعْدًا ،
وَلَا نَدِينُ بِهِ فَهَذَا الْمَعْنَى حَسّنَ دُخُولَ لَا عَلَى الِابْتِدَاءِ
كَمَا حَسُنَ لَا نَوْلُك . وَقَوْلُهُ إلّا صَخْرَةً بِتَنُوفَةِ . التّنُوفَةُ
الْقَفْرُ وَجَمْعُهَا : تَنَائِفُ بِالْهَمْزِ وَوَزْنُهَا : فَعُولَةٌ وَلَوْ
كَانَتْ تَفْعِلَةً مِنْ النّوْفِ وَهُوَ الِارْتِفَاعُ لَجُمِعَتْ تَنَاوُفَ
وَلَكِنّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْعِلَةً إلّا أَنْ تُحَرّكَ الْوَاوُ
بِالضّمّ لِئَلّا يُشْبِهَ بِنَاءُ الْفِعْلِ وَلَوْ قِيلَ فِيهَا : تُنُوفَةٌ
بِضَمّ التّاءِ لَاحْتَمَلَ حِينَئِذٍ أَنْ تَكُونَ فَعُولَةً أَوْ تَفْعِلَةً
عَلَى مِثَالِ تَنْفِلَةٍ إذْ لَيْسَ فِي الْأَفْعَالِ تُفْعَلُ بِالضّمّ وَهَذَا
مِنْ دَقِيقِ عِلْمِ التّصْرِيفِ . وَأَمّا مِلْكَانُ بْنُ كِنَانَةَ فَبِكَسْرِ
الْمِيمِ . قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ حَبِيبٍ النّسّابَةُ كُلّ شَيْءٍ فِي
الْعَرَبِ فَهُوَ مِلْكَانُ بِكَسْرِ الْمِيمِ سَاكِنِ اللّامِ غَيْرُ مَلَكَانَ
فِي قُضَاعَةَ ، وَمَلَكَانُ فِي السّكُونِ ، [ ص 172 ] فَمَلَكَانُ قُضَاعَةَ
هُوَ ابْنُ جَرْمِ بْنِ رَبّانَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ
قُضَاعَةَ ، وَمَلَكَانُ السّكُونِ هُوَ ابْنُ عَبّادِ بْنِ عِيَاضِ بْنِ عُقْبَةَ
بْنِ السّكُونِ بْنِ أَشْرَسَ مِنْ كِنْدَةَ ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْهَمْدَانِيّ
فِي مَلَكَانَ بْنِ جَرْمٍ ، وَقَالَ مِثْلُ غَطَفَانَ ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ
مَشَايِخُ خُزَاعَةَ يَقُولُونَ مَلَكَانُ بِفَتْحِ اللّامِ قَالَ أَبُو
الْوَلِيدِ يَعْنِي ابْنَ حَبِيبٍ مَلَكَانُ بْنُ أَفْصَى بْنِ حَارِثَةَ بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيّ الْقَالِي فِي
أَمَالِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَشْيَاخِهِ
أَنّ كُلّ مَلَكَانَ فِي الْعَرَبِ فَهُوَ مِلْكَانُ بِكَسْرِ الْمِيمِ إلّا
مَلَكَانَ فِي جَرْمِ بْنِ زَبّانَ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَابْنُ حَبِيبٍ
النّسّابَةُ مَصْرُوفٌ اسْمُ أَبِيهِ وَرَأَيْت لِابْنِ الْمَغْرِبِيّ قَالَ
إنّمَا هُوَ ابْنُ حَبِيبَ بِفَتْحِ الْبَاءِ غَيْرُ مُجْرًى ، لِأَنّهَا أُمّهُ وَأَنْكَرَ
ذَلِكَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَقَالُوا : هُوَ حَبِيبُ بْنُ الْمُحَبّرِ مَعْرُوفٌ
غَيْرُ مُنْكَرٍ وَإِنّمَا ذَكَرْنَاهُ هَاهُنَا لَمّا حَكَيْنَا قَوْلَهُ فِي
مِلْكَانَ .
هُبَلُ
وَإِسَافٌ وَنَائِلَةُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 172 ] وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ اتّخَذَتْ صَنَمًا عَلَى
بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ يُقَالُ لَهُ هُبَلُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
سَأَذْكُرُ حَدِيثَهُ إنْ شَاءَ اللّهُ فِي مَوْضِعِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَاِتّخَذُوا إسَافًا وَنَائِلَةَ عَلَى مَوْضِعِ زَمْزَمَ يَنْحَرُونَ عِنْدَهُمَا
، وَكَانَ إسَافٌ وَنَائِلَةُ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنْ جُرْهُمَ - هُوَ إسَافُ
بْنُ بَغْيٍ وَنَائِلَةُ بِنْتُ دِيكٍ - فَوَقَعَ إسَافٌ عَلَى نَائِلَةَ فِي
الْكَعْبَةِ ، فَمَسَخَهُمَا اللّهُ حَجَرَيْنِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ
أَنّهَا قَالَتْ سَمِعْت عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - تَقُولُ مَا زِلْنَا
نَسْمَعُ أَنّ إسَافًا وَنَائِلَةَ كَانَا رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنْ جُرْهُمَ ،
أَحْدَثَا فِي الْكَعْبَةِ ، فَمَسَخَهُمَا اللّهُ تَعَالَى حَجَرَيْنِ وَاَللّهُ
أَعْلَمُ . [ ص 173 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ
وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ ... بِمُفْضَى السّيُولِ مِنْ إسَافٍ
وَنَائِلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي
مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَاِتّخَذَ
أَهْلُ كُلّ دَارٍ فِي دَارِهِمْ صَنَمًا يَعْبُدُونَهُ فَإِذَا أَرَادَ الرّجُلُ
مِنْهُمْ سَفَرًا تَمَسّحَ بِهِ حِينَ يَرْكَبُ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرُ مَا يَصْنَعُ
حِينَ يَتَوَجّهُ إلَى سَفَرِهِ وَإِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ تَمَسّحَ بِهِ
فَكَانَ ذَلِكَ أَوّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى أَهْلِهِ
فَلَمّا بَعَثَ اللّهُ رَسُولَهُ مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
بِالتّوْحِيدِ قَالَتْ قُرَيْشٌ : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنّ
هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] وَكَانَتْ الْعَرَبُ قَدْ اتّخَذَتْ مَعَ
الْكَعْبَةِ طَوَاغِيتَ وَهِيَ بُيُوتٌ تُعَظّمُهَا كَتَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ ، لَهَا
سَدَنَةٌ وَحِجَابٌ وَتُهْدِي لَهَا كَمَا تُهْدِي لِلْكَعْبَةِ وَتَطُوفُ بِهَا
كَطَوَافِهَا بِهَا وَتَنْحَرُ عِنْدَهَا ، وَهِيَ تَعْرِفُ فَضْلَ الْكَعْبَةِ
عَلَيْهَا ؛ لِأَنّهَا كَانَتْ قَدْ عَرَفَتْ أَنّهَا بَيْتُ إبْرَاهِيمَ
الْخَلِيلِ وَمَسْجِدُهُ .
الْعُزّى وَاللّاتِ وَمَنَاةُ
[ ص 174 ] فَكَانَتْ لِقُرَيْشِ وَبَنِيّ كِنَانَةَ : الْعُزّى بِنَخْلَةَ ،
وَكَانَ سَدَنَتَهَا وَحُجّابَهَا بَنُو شَيْبَانَ مِنْ سُلَيْمٍ ، حُلَفَاءُ
بَنِي هَاشِمٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حُلَفَاءُ بَنِي أَبِي طَالِبٍ خَاصّةً
وَسُلَيْمٌ سُلَيْمُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصْفَةَ بْنِ قَيْسِ
بْنِ عَيْلَانَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ شَاعِرٌ مِنْ الْعَرَبِ :
لَقَدْ أُنْكِحَتْ أَسْمَاءُ رَأْسَ بُقَيْرَةٍ ... مِنْ الْأُدْمِ أَهْدَاهَا
امْرِئِ مِنْ بَنِي غَنْمِ
رَأَى قَدَعًا فِي عَيْنِهَا إذْ يَسُوقُهَا ... إلَى غَبْغَبِ الْعُزّى فَوَسّعَ
فِي الْقَسْمِ
وَكَذَلِكَ كَانُوا يَصْنَعُونَ إذَا نَحَرُوا هَدْيًا قَسّمُوهُ فِي مَنْ
حَضَرَهُمْ . وَالْغَبْغَبُ الْمَنْحَرُ وَمِهْرَاقُ الدّمَاءِ . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ لِأَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيّ وَاسْمُهُ
خُوَيْلِدُ بْنُ مُرّةَ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَالسّدَنَةُ الّذِينَ يَقُومُونَ
بِأَمْرِ الْكَعْبَةِ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ :
فَلَا وَرَبّ الْآمِنَاتِ الْقُطّنِ ... [ يَعْمُرْنَ أَمْنًا بِالْحَرَامِ الْمَأْمَنِ
]
بِمَحْبَسِ الْهَدْيِ وَبَيْتِ المَسْدَنِ وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ
لَهُ وَسَأَذْكُرُ حَدِيثَهَا إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ اللّاتِ لِثَقِيفِ بِالطّائِفِ ، وَكَانَ سَدَنَتُهَا
وَحُجّابُهَا بَنُو مُعَتّبٍ مِنْ ثَقِيفٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَسَأَذْكُرُ
حَدِيثَهَا إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ . [ ص 175 ] قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَكَانَتْ مَنَاةُ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، وَمَنْ دَانَ
بِدِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ ، عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ
الْمُشَلّلِ بِقُدَيْدٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ
أَحَدُ بَنِي أَسَدِ بْنِ مُدْرِكَةَ .
وَقَدْ آلَتْ قَبَائِلُ لَا تُوَلّي ... مَنَاةَ ظُهُورَهَا مُتَحَرّفِينَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَبَعَثَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَيْهَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ
فَهَدَمَهَا ، وَيُقَالُ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ .Sفَصْلٌ
وَذَكَرَ إسَافًا وَنَائِلَةَ وَأَنّهُمَا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ مِنْ جُرْهُمَ ،
وَأَنّ إسَافًا وَقَعَ عَلَيْهَا فِي الْكَعْبَةِ فَمُسِخَا ، وَأَخْرَجَهُ
رَزِينٌ فِي فَضَائِلِ مَكّةَ عَنْ بَعْضِ السّلَفِ مَا أَمْهَلُهُمَا اللّهُ إلَى
أَنْ يَفْجُرَا فِيهَا ، وَلَكِنّهُ قَبّلَهَا ، فَمُسِخَا حَجَرَيْنِ فَأُخْرِجَا
إلَى الصّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَنُصِبَا عَلَيْهِمَا ، لِيَكُونَا عِبْرَةً
وَمَوْعِظَةً فَلَمّا كَانَ عَمْرَو بْنَ لُحَيّ نَقَلَهُمَا إلَى الْكَعْبَةِ ،
وَنَصَبَهُمَا عَلَى زَمْزَمَ ، فَطَافَ النّاسُ بِالْكَعْبَةِ وَبِهِمَا ، حَتّى
عُبِدَا مِنْ دُونِ اللّهِ . [ ص 173 ] عَمْرَو بْنَ لُحَيّ جَاءَ بِهِ مِنْ هِيتَ
، وَهِيَ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ حَتّى وَضَعَهُ فِي الْكَعْبَةِ . وَذَكَرَ
الْوَاقِدِيّ أَنّ نَائِلَةَ حِينَ كَسَرَهَا النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - عَامَ الْفَتْحِ خَرَجَتْ مِنْهَا سَوْدَاءَ شَمْطَاءَ تَخْمُشُ
وَجْهَهَا ، وَتُنَادِي بِالْوَيْلِ وَالثّبُورِ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ .
وَقَوْلُ عَائِشَةَ أَحْدَثَا فِي الْكَعْبَةِ أَرَادَتْ الْحَدَثَ الّذِي هُوَ
الْفُجُورُ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - مَنْ أَحْدَثَ [ فِيهَا ] حَدَثًا
، أَوْ آوَى مُحْدِثًا ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللّهِ [ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنّاسِ
أَجْمَعِينَ ] وَقَالَ عُمَرُ حِينَ كَانَتْ الزّلْزَلَةُ بِالْمَدِينَةِ :
أَحْدَثْتُمْ . وَاَللّهِ لَئِنْ عَادَتْ لَأَخْرُجَن مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ
وَقَوْلُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ إسَافٍ وَنَائِلِ وَهُوَ تَرْخِيمٌ فِي غَيْرِ
النّدَاءِ لِلضّرُورَةِ كَمَا قَالَ أَمَالُ بْنُ حَنْظَلٍ . وَذَكَرَ قَوْلَ
الشّاعِرِ
رَأَى قَدَعًا فِي عَيْنِهَا وَالْقَدَعُ ... ضَعْفُ الْبَصَرِ مِنْ إدْمَانِ
النّظَرِ
وَقَوْلُهُ فِي الْغَبْغَبِ وَهُوَ الْمَنْحَرُ وَمَرَاقّ الدّمِ كَانَهُ سُمّيَ
بِحِكَايَةِ صَوْتِ الدّمِ عِنْدَ [ ص 174 ] يَكُونَ مَقْلُوبًا مِنْ قَوْلِهِمْ
بِئْرٌ بُغْبُغٌ وَبُغَيْبِغٌ إذَا كَانَتْ كَثِيرَةَ الْمَاءِ . قَالَ الرّاجِزُ
بُغَيْبِغٌ قَصِيرَةُ الرّشَاءِ . وَمِنْهُ قِيلَ لِعَيْنِ أَبِي نَيْزَرٍ الْبُغَيْبِغَةُ
. وَمَعْنَى هَذَا الْبَيْتِ الذّمّ وَتَشْبِيهُ هَذَا الْمَهْجُوّ بِرَأْسِ
بَقَرَةٍ قَدْ قَرُبَتْ أَنْ يَذْهَبَ بَصَرُهَا ، فَلَا تَصْلُحُ إلّا لِلذّبْحِ
وَالْقَسْمِ . وَذَكَرَ فَلْسًا فِي بِلَادِ طَيّئٍ بَيْنَ أَجَأٍ وَسَلْمَى .
وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ أَوْ غَيْرِهِ أَنّ أَجَأً اسْمُ رَجُلٍ
بِعَيْنِهِ وَهُوَ أَجَأُ بْنُ عَبْدِ الْحَيّ وَكَانَ فَجَرَ بِسَلْمَى بِنْتِ
حَامٍ ، أَوْ اُتّهِمَ بِذَلِكَ فَصُلِبَا فِي ذَيْنِك الْجَبَلَيْنِ
وَعِنْدَهُمَا جَبَلٌ يُقَالُ لَهُ الْعَوْجَاءُ ، وَكَانَتْ الْعَوْجَاءُ
حَاضِنَةَ سَلْمَى - فِيمَا ذُكِرَ - وَكَانَتْ السّفِيرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
أَجَأٍ ، فَصُلِبَتْ فِي الْجَبَلِ الثّالِثِ فَسُمّيَ بِهَا .
ذُو
الْخُلُصَةِ وَفَلْسٌ وَرُضَاءٌ وَذُو الْكَعَبَاتِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ ذُو الْخُلُصَةِ لِدَوْسِ وَخَثْعَمَ وَبَجِيلَة َ
، وَمَنْ كَانَ بِبِلَادِهِمْ مِنْ الْعَرَبِ بِتَبَالَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَيُقَال : ذُو الْخَلَصَةِ . قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ :
لَوْ كُنْت يَا ذَا الْخَلَصِ الْمَوْتُورَا ... مِثْلِي وَكَانَ شَيْخُك
الْمَقْبُورَا
لَمْ تَنْهَ عَنْ قَتْلِ الْعُدَاةِ زُورَا
قَالَ وَكَانَ أَبُوهُ قُتِلَ فَأَرَادَ الطّلَبَ بِثَأْرِهِ فَأَتَى ذَا
الْخَلَصَةِ فَاسْتَقْسَمَ عِنْدَهُ بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ السّهْمُ بِنَهْيِهِ
عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ . وَمِنْ النّاسِ مَنْ يُنْحِلُهَا
امْرَأَ الْقَيْسِ بْنِ حُجْرٍ الْكِنْدِيّ ، فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ الْبَجَلِيّ ،
فَهَدَمَهُ . [ ص 176 ] [ ص 177 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ فَلْسٌ
لِطَيّئٍ وَمَنْ يَلِيهَا بِجَبَلَيْ طَيّئٍ يَعْنِي سَلْمَى وَأَجَأً . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَعَثَ إلَيْهَا عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
فَهَدَمَهَا ، فَوَجَدَ فِيهَا سَيْفَيْنِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا : الرّسُوبُ ،
وَلِلْآخَرِ الْمِخْذَمُ . فَأَتَى بِهِمَا رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَوَهَبَهُمَا لَهُ فَهُمَا سَيْفَا عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ لِحِمْيَرَ وَأَهْلِ الْيَمَنِ بَيْتٌ
بِصَنْعَاءَ يُقَالُ لَهُ رِئَامٌ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَدْ ذَكَرْت حَدِيثَهُ
فِيمَا مَضَى .S[ ص 175 ] وَذَكَرَ ذَا الْخَلَصَةِ وَهُوَ بَيْتُ دَوْسٍ .
وَالْخَلَصُ فِي اللّغَةِ نَبَاتٌ طَيّبُ الرّيحِ يَتَعَلّقُ بِالشّجَرِ لَهُ حَبّ
كَعِنَبِ الثّعْلَبِ . وَجَمْعُ الْخَلَصَةِ خَلَصٌ . وَأَنّ الّذِي اسْتَقْسَمَ
بِالْأَزْلَامِ هُوَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حُجْرٍ . وَوَقَعَ فِي كِتَابِ أَبِي
الْفَرَجِ أَنّ امْرَأَ الْقَيْسِ بْنِ حُجْرٍ حِينَ وَتَرَتْهُ بَنُو أَسَدٍ
بِقَتْلِ أَبِيهِ اسْتَقْسَمَ عِنْدَ ذِي الْخَلَصَةِ بِثَلَاثَةِ أَزْلَامٍ
وَهِيَ الزّاجِرُ وَالْآمِرُ وَالْمُتَرَبّصُ فَخَرَجَ لَهُ الزّاجِرُ فَسَبّ
الصّنَمَ وَرَمَاهُ بِالْحِجَارَةِ وَقَالَ لَهُ اعْضُضْ بِبَظْرِ أُمّك ، وَقَالَ
الرّجَزَ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ : لَوْ كُنْت يَا ذَا الْخَلَصِ
الْمَوْتُورَا . إلَى آخِرِهِ وَلَمْ يَسْتَقْسِمْ أَحَدٌ عِنْدَ ذِي الْخَلَصَةِ
بَعْدُ حَتّى جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَوْضِعُهُ الْيَوْمَ مَسْجِدٌ جَامِعٌ
لِبَلْدَةِ يُقَالُ لَهَا : الْعَبَلَاتِ مِنْ [ ص 176 ] أَرْضِ خَثْعَمَ .
ذَكَرَهُ الْمُبَرّدُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ . وَاسْمُ امْرِئِ الْقَيْسِ حُنْدُجٌ
وَالْحُنْدُجُ بَقْلَةٌ تَنْبُتُ فِي الرّمْلِ . وَالْقَيْسُ الشّدّةُ
وَالنّجْدَةُ . قَالَ الشّاعِرُ
وَأَنْتَ عَلَى الْأَعْدَاءِ قَيْسٌ وَنَجْدَةٌ ... وَأَنْتَ عَلَى الْأَدْنَى
هِشَامٌ وَنَوْفَلُ
وَالنّسَبُ إلَيْهِ مَرْقَسِيّ ، وَإِلَى كُلّ امْرِئِ الْقَيْسِ سِوَاهُ
امْرِئِيّ . وَقَدْ قِيلَ إنّ حُنْدُجًا اسْمُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَابِسٍ
وَلَهُ صُحْبَةٌ وَهُوَ كِنْدِيّ مِثْلُ الْأَوّلِ فَوَقَعَ الْغَلَطُ مِنْ
هَهُنَا . وَقَوْلُهُ لَمْ تَنْهَ عَنْ قَتْلِ الْعُدَاةِ زُورَا . نصب : زورا
عَلَى الْحَالِ مِنْ الْمَصْدَرِ الّذِي هُوَ النّهْيُ . أَرَادَ نَهْيًا زُورَا .
وَانْتِصَابُ الْمَصْدَرِ عَلَى هَذِهِ الصّورَةِ إنّمَا هُوَ حَالٌ أَوْ
مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ فَإِذَا حَذَفْت الْمَصْدَرَ وَأَقَمْت الصّفَةَ مَقَامَهُ
لَمْ تَكُنْ إلّا حَالًا ، وَالدّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنّك تَقُولُ سَارُوا
شَدِيدًا ، وَسَارُوا رُوَيْدًا ، فَإِنْ رَدَدْته إلَى مَا لَمْ يُسَمّ فَاعِلُهُ
لَمْ يَجُزْ رَفْعُهُ لِأَنّهُ حَالٌ وَلَوْ لَفَظْت بِالْمَصْدَرِ فَقُلْت :
سَارُوا سَيْرًا رُوَيْدًا لَجَازَ أَنْ تَقُولَ فِيمَا لَمْ يُسَمّ فَاعِلُهُ
سِيرَ عَلَيْهِ سَيْرٌ رُوَيْدٌ هَذَا كُلّهُ مَعْنَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ ، فَدَلّ
عَلَى أَنّ حُكْمَهُ إذَا لُفِظَ بِهِ غَيْرُ حُكْمِهِ إذَا حُذِفَ وَالسّرّ فِي
ذَلِكَ أَنّ الصّفَةَ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْمَفْعُولِ إذَا حُذِفَ . لَا تَقُولُ
كَلّمْت شَدِيدًا ، وَلَا ضَرَبْت طَوِيلًا ، يَقْبُحُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ
الصّفَةُ عَامّةً وَالْحَالُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنّهَا تَجْرِي مَجْرَى
الظّرْفِ وَإِنْ كَانَتْ صِفّةً فَمَوْصُوفُهَا مَعَهَا ، وَهُوَ الِاسْمُ الّذِي
هِيَ حَالٌ لَهُ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى : أَفَحَسِبْتُمْ
أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا [ الْمُؤْمِنُونَ 115 ] . وَذَكَرَ بَعْثَ جَرِيرٍ
الْبَجَلِيّ إلَى هَدْمِ ذِي الْخَلَصَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ وَفَاةِ النّبِيّ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِشَهْرَيْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا ، قَالَ جَرِيرٌ
بَعَثَنِي رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي مِائَةٍ
وَخَمْسِينَ رَاكِبًا مِنْ أَحْمَسَ إلَى الْخَلَصَةِ فَقُلْت : يَا رَسُولَ
اللّهِ إنّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَدَعَا لِي ، وَقَالَ اللّهُمّ ثَبّتْهُ
وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيّا وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
" وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيّةُ وَالشّآمِيّةُ " ،
وَهَذَا مُشْكِلٌ وَمَعْنَاهُ كَانَ يُقَالُ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيّةُ
وَالشّآمِيّةُ يَعْنُونَ بِالشّآمِيّةِ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ، فَزِيَادَةٌ لَهُ
سَهْوٌ وَبِإِسْقَاطِهِ يَصِحّ الْمَعْنَى . قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَدّثِينَ
وَالْحَدِيثُ فِي جَامِعِ الْبُخَارِيّ بِزِيَادَةِ لَهُ كَمَا فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ ، وَلَيْسَ هَذَا عِنْدِي بِسَهْوِ وَإِنّمَا مَعْنَاهُ كَانَ يُقَالُ
لَهُ أَيْ يُقَالُ مِنْ أَجْلِهِ الْكَعْبَةُ الشّآمِيّةُ لِلْكَعْبَةِ وَهُوَ
الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيّةُ ، وَلَهُ بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِهِ لَا تُنْكَرُ كَمَا
قَالَ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ :
وَقُمَيْرٌ مِنْ آخِرِ اللّيْلِ قَدْ لَا ... حَ لَهُ قَالَتْ الْفَتَاتَانِ
قُومَا
[ ص 177 ] وَذُو الْخُلُصَةِ بِضَمّ الْخَاءِ وَاللّامِ فِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ
، وَبِفَتْحِهِمَا فِي قَوْلِ ابْنِ هِشَامٍ ، هُوَ صَنَمٌ سَيُعْبَدُ فِي آخِرِ
الزّمَانِ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنّهُ لَا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى تَصْطَفِقُ
أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ وَخَثْعَمَ حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ
رُضَاءٌ
وَالْمُسْتَوْغِرُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ رُضَاءٌ بَيْتًا لِبَنِي رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبِ
بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَلَهَا يَقُولُ المُسْتَوْغِرُ
بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ حِينَ هَدَمَهَا فِي الْإِسْلَامِ
وَلَقَدْ شَدَدْت عَلَى رُضَاءٍ شِدّةً ... فَتَرَكْتهَا قَفْرًا بِقَاعِ
أَسْحَمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ فَتَرَكْتهَا قَفْرًا بِقَاعِ أَسْحَمَا
عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَعْدٍ . [ ص 178 ] وَيُقَالُ إنّ الْمُسْتَوْغِرَ عُمّرَ
ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَكَانَ أَطْوَلَ مُضَرَ كُلّهَا
عُمْرًا ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ
وَلَقَدْ سَئِمْت مِنْ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا ... وَعَمِرْتُ مِنْ عَدَدِ
السّنِينَ مِئِينَا
مِائَةٌ حَدَتْهَا بَعْدَهَا مِئَتَانِ لِي ... وَازْدَدْت مِنْ عَدَدِ الشّهُورِ
سِنِينَا
هَلْ مَا بَقِيَ إلّا كَمَا قَدْ فَاتَنَا ... يَوْمَ يَمُرّ ، وَلَيْلَةٌ
تَحْدُونَا
وَبَعْضُ النّاسِ يَرْوِي هَذِهِ الْأَبْيَاتَ لِزُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ
الْكَلْبِيّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ ذُو الْكَعَبَاتِ لِبَكْرِ
وَتَغْلِبَ ابْنَيْ وَائِلٍ وَإِيَادٍ بِسِنْدَادَ وَلَهُ يَقُولُ أَعْشَى بَنِي
قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
بَيْنَ الْخَوَرْنَق ِ وَالسّدِير ِ وَبَارِقٍ ... وَالْبَيْتِ ذِي الْكَعَبَاتِ
مِنْ سِنْدَادِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا الْبَيْتُ لِلْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ النّهْشَلِيّ
نَهْشَلُ بْنُ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ
مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَأَنْشَدَنِيهِ أَبُو مُحْرِزٍ خَلَفُ
الْأَحْمَرِ :
أَهْلُ الْخَوَرْنَقِ وَالسّدِيرِ وَبَارِقٍ ... وَالْبَيْتِ ذِي الشّرُفَاتِ مِنْ
سِنْدَادِS[ ص 179 ] [ ص 180 ] وَذَكَرَ المُسْتَوْغِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ،
وَاسْمُهُ كَعْبٌ . قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ سُمّيَ مُسْتَوْغِرًا بِقَوْلِهِ
يَنِشّ الْمَاءُ فِي الرّبَلَاتِ مِنْهُ ... نَشِيشَ الرّضْفِ فِي اللّبَنِ
الْوَغِيرِ
وَالْوَغِيرُ فَعِيلٌ مِنْ وَغْرَةِ الْحَرّ وَهِيَ شِدّتُهُ وَذَكَرَ الْقُتَبِيّ
أَنّ الْمُسْتَوْغِرَ حَضَرَ سُوقَ عُكَاظٍ ، وَمَعَهُ ابْنُ ابْنِهِ وَقَدْ
هَرِمَ وَالْجَدّ يَقُودُهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ اُرْفُقْ بِهَذَا الشّيْخِ فَقَدْ
طَالَ [ ص 178 ] رَفَقَ بِك ، فَقَالَ وَمَنْ تَرَاهُ ؟ فَقَالَ هُوَ أَبُوك أَوْ
جَدّك ، فَقَالَ مَا هُوَ إلّا ابْنَ ابْنَيْ فَقَالَ مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ
وَلَا المُسْتَوْغِرُ بْنُ رَبِيعَةَ فَقَالَ أَنَا المُسْتَوْغِرُ .
وَالْأَبْيَاتُ الّتِي أَنْشَدَهَا لَهُ
وَلَقَدْ سَئِمْت مِنْ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا ... وَعَمَرْت مِنْ عَدَدِ السّنِينَ
مِئِينَا
إلَى آخِرِهِ . ذَكَرَ أَنّهَا تُرْوَى لِزُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ الْكَلْبِيّ
وَهُوَ زُهَيْرُ بْنُ جَنَابِ بْنِ هُبَلَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ
بَكْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ غُذْرَةَ بْنِ زَيْدِ اللّاتِ بْنِ رُفَيْدَةَ بْنِ
ثَوْرِ بْنِ كَلْبِ بْنِ وَبْرَةَ . وَزُهَيْرٌ هَذَا مِنْ الْمُعَمّرِينَ وَهُوَ
الّذِي يَقُولُ
أَبُنَيّ إنْ أَهْلِكْ فَإِنّي ... قَدْ بَنَيْت لَكُمْ بَنِيّهْ
وَتَرَكْتُكُمْ أَوْلَادَ سَادَا ... تِ زِنَادُهُمْ وَرِيّهْ
مِنْ كُلّ مَا نَالَ الْفَتَى ... قَدْ نِلْته إلّا التّحِيّهْ
يُرِيدُ بِالتّحِيّةِ الْبَقَاءَ وَقِيلَ الْمُلْكُ وَأَعْقَبَ هُوَ وَإِخْوَتُهُ
قَبَائِلَ فِي كَلْبٍ وَهُمْ زُهَيْرٌ وَعَدِيّ وَحَارِثَةُ وَمَالِكٌ وَيُعْرَفُ
مَالِكٌ هَذَا بِالْأَصَمّ لِقَوْلِهِ [ ص 179 ]
أَصَمّ عَنْ الْخَنَا إنْ قِيلَ يَوْمًا ... وَفِي غَيْرِ الْخَنَا أُلْفَى
سَمِيعَا
وَأَخُوهُ حَارِثَةُ بْنُ جَنَابٍ وَعُلَيْمُ بْنُ جَنَابٍ وَمِنْ بَنِي عُلَيْمٍ
بَنُو زَيْدَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ . عُرِفُوا بِأُمّهِمْ زَيْدُ بِنْتُ مَالِكٍ وَهُمْ
بَنُو كَعْبِ بْنِ عُلَيْمٍ مِنْهُمْ الرّبَابُ بِنْتُ امْرِئِ الْقَيْسِ
امْرَأَةُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ وَفِيهَا يَقُولُ
أُحِبّ لِحُبّهَا زَيْدًا جَمِيعًا ... وَنَثْلَةٌ كُلّهَا ، وَبَنِيّ الرّبَابِ
وَأُخْرَى لِأَنّهَا مِنْ آلِ لَأْمٍ ... أُحِبّهُمْ وَطُرّ بَنِي جَنَابِ
فَمِنْ الْمُعَمّرِينَ مِنْ الْعَرَبِ سِوَى الْمُسْتَوْغِرِ مِمّا زَادُوا عَلَى
الْمِائَتَيْنِ والثلاثمائة : زُهَيْرٌ هَذَا ، وَعُبَيْدُ بْنُ شَرْيَةَ
وَدَغْفَلُ بْنُ حَنْظَلَةَ النّسّابَةُ وَالرّبِيعُ بْنُ ضَبُعٍ الْفَزَارِيّ ،
وَذُو الْإِصْبَعِ [ حُرْثَانُ بْنُ مُحَرّثٍ ] الْعَدْوَانِيّ ، وَنَصْرُ بْنُ
دُهْمَانَ بْنُ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ ، وَكَانَ قَدْ اسْوَدّ
رَأْسُهُ بَعْدَ ابْيِضَاضِهِ وَتَقَوّمَ ظَهْرُهُ بَعْدَ انْحِنَائِهِ وَفِيهِ
يَقُولُ الْقَائِلُ
لِنَصْرِ بْنِ دُهْمَانَ الْهُنَيْدَةُ عَاشَهَا ... وَتِسْعِينَ حَوْلًا ثُمّ
قُوّمَ فَانْصَاتَا
وَعَادَ سَوَادُ الرّأْسِ بَعْدَ ابْيِضَاضِهِ ... وَلَكِنّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
قَدْ مَاتَا
وَأَمَرَهُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ وَمِنْ أَطْوَلِ
الْمُعَمّرِينَ عُمْرًا : ذُوَيْدٌ وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ نَهْدٍ مِنْ قُضَاعَةَ ،
وَأَبُوهُ نَهْدٌ إلَيْهِ يُنْسَبُ الْحَيّ الْمَعْرُوفُونَ مِنْ قُضَاعَةَ :
بَنُو نَهْدِ بْنِ زَيْدٍ عَاشَ ذُوَيْدٌ أَرْبَعَمِائَةِ عَامٍ - فِيمَا ذَكَرُوا
- وَكَانَ لَهُ آثَارٌ فِي الْعَرَبِ ، وَوَقَائِعُ وَغَارَاتٌ فَلَمّا جَاءَ
الْمَوْتُ قَالَ
الْيَوْمَ يُبْنَى لِذُوَيْدٍ بَيْتُهُ ... وَمَغْنَمٍ يَوْمَ الْوَغَى حَوَيْته
وَمِعْصَمٌ مُوَشّمٌ لَوَيْته ... لَوْ كَانَ لِلدّهْرِ بِلًى أَبْلَيْته
أَوْ كَانَ قِرْنِي وَاحِدًا كَفَيْته
وَقَوْلُ الْمُسْتَوْغِرِ :
وَلَقَدْ شَدَدْت عَلَى رُضَاءٍ شِدّةً ... فَتَرَكْتهَا قَفْرًا بِقَاعِ
أَسْحَمَا
يُرِيدُ تَرَكْتهَا سَحْمَاءَ مِنْ آثَارِ النّارِ وَبَعْدَهُ [ ص 180 ]
وَأَعَانَ عَبْدُ اللّهِ فِي مَكْرُوهِهَا ... وَبِمِثْلِ عَبْدِ اللّهِ أَغْشَى
الْمَحْرَمَا
ذَكَرَ ذَا الْكَعَبَاتِ بَيْتَ وَائِلٍ وَأَنْشَدَ لِلْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ
أَرْضُ الْخَوَرْنَقِ وَالسّدِيرِ وَدَارِمَ ... وَالْبَيْتُ ذِي الشّرُفَات مِنْ
سِنْدَادِ
وَالْخَوَرْنَقُ : قَصْرٌ بَنَاهُ النّعْمَانُ الْأَكْبَرُ مَلِكُ الْحِيرَةِ
لِسَابُورَ لِيَكُونَ وَلَدُهُ فِيهِ عِنْدَهُ وَبَنَاهُ بُنْيَانًا عَجَمِيّا
لَمْ تَرَ الْعَرَبُ مِثْلَهُ وَاسْمُ الّذِي بَنَاهُ لَهُ سِنِمّارُ وَهُوَ
الّذِي رُدّيَ مِنْ أَعْلَاهُ حَتّى قَالَتْ الْعَرَبُ : جَزَانِي جَزَاءَ
سِنِمّارِ وَذَلِكَ أَنّهُ لَمَا تَمّ الْخَوَرْنَقُ ، وَعَجِبَ النّاسُ مِنْ
حُسْنِهِ قَالَ سِنِمّارُ أَمَا وَاَللّهِ لَوْ شِئْت حِينَ بَنَيْته جَعَلْته
يَدُورُ مَعَ الشّمْسِ حَيْثُ دَارَتْ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَإِنّك لَتُحْسِنُ
أَنْ تَبْنِيَ أَجْمَلَ مِنْ هَذَا ؟ وَغَارَتْ نَفْسُهُ أَنْ يُبْتَنَى لِغَيْرِهِ
مِثْلُهُ وَأَمَرَ بِهِ فَطُرِحَ مِنْ أَعْلَاهُ وَكَانَ بَنَاهُ فِي عِشْرِينَ
سَنَةً قَالَ الشّاعِرُ [ عَبْدُ الْعُزّى بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ الْكَلْبِيّ ] :
جَزَانِي جَزَاهُ اللّهُ شَرّ جَزَائِهِ ... جَزَاءَ سِنِمّارِ وَمَا كَانَ ذَا
ذَنْبٍ
سِوَى رَصّهِ الْبُنْيَانَ عِشْرِينَ حِجّةً ... يُعَلّى عَلَيْهِ بِالْقَرَامِدِ
وَالسّكْبِ
فَلَمّا انْتَهَى الْبُنْيَانُ يَوْمًا تَمَامَهُ ... وَآضَ كَمِثْلِ الطّوْدِ
وَالْبَاذِخِ الصّعْبِ
وَظَنّ سِنِمّارُ بِهِ كُلّ حَبْوَةٍ ... وَفَازَ لَدَيْهِ بِالْمَوَدّةِ
وَالْقُرْبِ
رَمَى بِسِنِمّارِ عَلَى حَاقِ رَأْسِهِ ... وَذَاكَ لَعَمْرُ اللّهِ مِنْ
أَقْبَحِ الْخَطْبِ
ذَكَرَ هَذَا الشّعْرَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْحَيَوَانِ وَالسّنِمّارُ مِنْ
أَسْمَاءِ الْقَمَرِ وَأَوّلُ شِعْرِ الْأَسْوَدِ ذَهَبَ الرّقَادُ فَمَا أُحِسّ
رُقَادِي . وَفِيهَا يَقُولُ
وَلَقَدْ عَمِرْتُ وَإِنْ تَطَاوَلَ فِي الْمَدَى ... إنّ السّبِيلَ سَبِيلُ ذِي
الْأَعْوَادِ
قِيلَ يُرِيدُ بِالْأَعْوَادِ النّعْشَ وَقِيلَ أَرَادَ عَامِرَ بْنَ الظّرِبِ
الّذِي قُرِعَتْ لَهُ الْعَصَا بِالْعُودِ مِنْ الْهَرَمِ وَالْخَرَفِ وَفِيهَا
يَقُولُ [ ص 181 ]
مَاذَا أُؤَمّلُ بَعْدَ آلِ مُحَرّقٍ ... تَرَكُوا مَنَازِلَهُمْ وَبَعْدَ إيَادِ
نَزَلُوا بِأَنْقِرَةِ يَسِيلُ عَلَيْهِمْ ... مَاءُ الْفُرَاتِ يَجِيءُ مِنْ
أَطْوَادِ
أَرْضُ الْخَوَرْنَقِ وَالسّدِيرِ وَبَارِقٍ ... وَالْبَيْتِ ذِي الْكَعَبَاتِ
مِنْ سِنْدَادِ
جَرَتْ الرّيَاحُ عَلَى مَحَلّ دِيَارِهِمْ ... فَكَأَنّمَا كَانُوا عَلَى
مِيعَادٍ
وَأَرَى النّعِيمَ وَكُلّ مَا يُلْهَى بِهِ ... يَوْمًا يَصِيرُ إلَى بِلًى
وَنَفَادِ
وَمَعْنَى السّدِيرِ بِالْفَارِسِيّةِ بَيْتُ الْمُلْكِ . يَقُولُونَ لَهُ "
سِهْدِلِيّ " أَيْ لَهُ ثَلَاثُ شُعَبٍ وَقَالَ الْبَكْرِيّ : سُمّيَ
السّدِيرَ ؛ لِأَنّ الْأَعْرَابَ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَيْهِ
فَتَسْدَرُ مِنْ عُلْوِهِ يُقَالُ سَدِرَ بَصَرُهُ إذَا تَحَيّرَ .
أَمْرُ
الْبَحِيرَةِ وَالسّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 181 ] الْبَحِيرَةُ فَهِيَ بِنْتُ السّائِبَةِ
وَالسّائِبَةُ النّاقَةُ إذَا تَابَعَتْ بَيْنَ عَشَرِ إنَاثٍ لَيْسَ بَيْنَهُنّ
ذَكَرٌ سُيّبَتْ فَلَمْ يُرْكَبْ ظَهْرُهَا ، وَلَمْ يُجَزّ وَبَرُهَا ، وَلَمْ
يَشْرَبْ لَبَنُهَا إلّا ضَيْفٌ فَمَا نَتَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أُنْثَى شُقّتْ
أُذُنُهَا ، ثُمّ خُلّيَ سَبِيلُهَا مَعَ أُمّهَا ، فَلَمْ يُرْكَبْ ظُهْرُهَا ،
وَلَمْ يُجَزّ وَبَرُهَا ، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنُهَا إلّا ضَيْفٌ كَمَا فَعَلَ
بِأُمّهَا ، فَهِيَ الْبَحِيرَةُ بِنْتُ السّائِبَةِ . وَالْوَصِيلَةُ الشّاةُ
إذَا أَتْأَمَتْ عَشْرَ إنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَبْطُنٍ لَيْسَ
بَيْنَهُنّ ذَكَرٌ جُعِلَتْ وَصِيلَةً . قَالُوا : قَدْ وَصَلَتْ فَكَانَ مَا
وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِلذّكُورِ مِنْهُمْ دُونَ إنَاثِهِمْ إلّا أَنْ يَمُوتَ
مِنْهَا شَيْءٌ فَيَشْتَرِكُوا فِي أَكْلِهِ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : فَكَانَ مَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِذُكُورِ
بَنِيهِمْ دُونَ بَنَاتِهِمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَالْحَامِي : الْفَحْلُ
إذَا نُتِجَ لَهُ عَشْرُ إنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ لَيْسَ بَيْنَهُنّ ذَكَرٌ حُمِيَ
ظَهْرُهُ فَلَمْ يُرْكَبْ وَلَمْ يُجَزّ وَبَرُهُ وَخُلّيَ فِي إبِلِهِ يَضْرِبُ
فِيهَا ، لَا يَنْتَفِعُ مِنْهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا
عِنْدَ الْعَرَبِ عَلَى غَيْرِ هَذَا إلّا الْحَامِي ، فَإِنّهُ عِنْدَهُمْ عَلَى
مَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ . فَالْبَحِيرَةُ عِنْدَهُمْ النّاقَةُ تُشَقّ أُذُنُهَا
فَلَا يُرْكَبُ ظَهْرُهَا ، وَلَا يُجَزّ وَبَرُهَا ، وَلَا يَشْرَبُ لَبَنَهَا
إلّا ضَيْفٌ أَوْ يُتَصَدّقُ بِهِ وَتُهْمَلُ لِآلِهَتِهِمْ . وَالسّائِبَةُ
الّتِي يَنْذُرُ الرّجُلُ أَنْ يُسَيّبَهَا إنْ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ أَوْ إنْ
أَصَابَ أَمْرًا يَطْلُبُهُ . فَإِذَا كَانَ أَسَابَ [ ص 182 ] آلِهَتِهِمْ
فَسَابَتْ فَرَعَتْ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا . وَالْوَصِيلَةُ الّتِي تَلِدُ أُمّهَا
اثْنَيْنِ فِي كُلّ بَطْنٍ فَيَجْعَلُ صَاحِبُهَا لِآلِهَتِهِ الْإِنَاثَ مِنْهَا
، وَلِنَفْسِهِ الذّكُورَ مِنْهَا : فَتَلِدُهَا أُمّهَا وَمَعَهَا ذَكَرٌ فِي
بَطْنٍ فَيَقُولُونَ وَصَلَتْ أَخَاهَا ، فَيَسِيبُ أَخُوهَا مَعَهَا ، فَلَا
يُنْتَفَعُ بِهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي بِهِ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ
النّحْوِيّ وَغَيْرُهُ . رَوَى بَعْضٌ مَا لَمْ يَرْوِ بَعْضٌ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : فَلَمّا بَعَثَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمّدًا -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنَزَلَ عَلَيْهِ { مَا جَعَلَ اللّهُ مِنْ
بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنّ الّذِينَ
كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [
الْمَائِدَةُ 103 ] . وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ
هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ
يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنّهُ حَكِيمٌ
عَلِيمٌ } [ الْأَنْعَامُ 139 ] . وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا
أَنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ
آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ } [ يُونُسُ 59 ] .
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ { وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمّا
رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلَا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ
مُبِينٌ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ
اثْنَيْنِ قُلْ آلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمّا اشْتَمَلَتْ
عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذّكَرَيْنِ حَرّمَ
أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ
كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ
افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلّ النّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنّ اللّهَ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ } [ الْأَنْعَامُ 142 - 144 ] . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : قَالَ الشّاعِرُ
حُولُ الْوَصَائِلِ فِي شُرَيْفٍ حِقّةٌ ... وَالْحَامِيَاتُ ظُهُورُهَا
وَالسّيّبُ
[ ص 183 ] وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ أُبَيّ بْنِ مُقْبِلٍ أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ
صَعْصَعَةَ
فِيهِ مِنْ الْأَخْرَجِ الْمِرْبَاعِ قَرْقَرَةٌ ... هَدْرَ الدّيَافِيّ وَسْطَ
الْهَجْمَةِ الْبُحُرِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَجَمْعُ بَحِيرَةٍ بَحَائِرُ وَبُحُرٌ .
وَجَمْعُ وَصِيلَةٍ وَصَائِلُ وَوُصُلٌ . وَجَمْعُ سَائِبَةٍ الْأَكْثَرُ
سَوَائِبُ وَسُيّبٌ وَجَمْعُ حَامٍ الْأَكْثَرُ حَوَامّ .Sالْبَحِيرَةُ
وَالسّائِبَةُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ الْبَحِيرَةَ وَالسّائِبَةَ وَفَسّرَ ذَلِكَ وَفَسّرَهُ ابْنُ
هِشَامٍ بِتَفْسِيرِ آخَرَ . وَلِلْمُفَسّرِينَ فِي تَفْسِيرِهِمَا أَقْوَالٌ
مِنْهَا : مَا يَقْرُبُ وَمِنْهَا مَا يَبْعُدُ مِنْ قَوْلِهِمَا ، وَحَسْبُك
مِنْهَا مَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ لِأَنّهَا أُمُورٌ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيّةِ
قَدْ أَبْطَلَهَا الْإِسْلَامُ فَلَا تَمَسّ الْحَاجَةُ إلَى عِلْمِهَا . [ ص 182
] وَذَكَرَ مَا أَنَزَلَ اللّهُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : {
خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } [ الْأَنْعَامُ 139 ]
وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ الزّجْرُ عَنْ التّشَبّهِ بِهِمْ فِي تَخْصِيصِهِمْ
الذّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ بِالْهِبَاتِ . رَوَتْ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَالَ يَعْمِدُ
أَحَدُكُمْ إلَى الْمَالِ فَيَجْعَلُهُ عِنْدَ ذُكُورِ وَلَدِهِ . إنْ هَذَا إلّا
كَمَا قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ
خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا } رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي التّارِيخِ مِنْ حَدِيثِ
سُلَيْمَانَ بْنِ حَجّاجٍ . [ ص 183 ] الْبَحِيرَةِ
فِيهِ مِنْ الْأَخْرَجِ الْمِرْبَاعِ قَرْقَرَةٌ ... هَدْرَ الدّيَافِيّ وَسَطَ
الْهَجْمَةِ الْبُحُرِ
هَكَذَا الرّوَايَةُ الْمِرْبَاعُ بِالْبَاءِ مِنْ الرّبِيعِ وَالْمِرْبَاعُ هُوَ
الْفَحْلُ الّذِي يُبَكّرُ بِالْإِلْقَاحِ وَيُقَالُ لِلنّاقَةِ أَيْضًا :
مِرْبَاعٌ إذَا بَكّرَتْ بِالنّتَاجِ وَلِلرّوْضَةِ إذَا بَكّرَتْ بِالنّبَاتِ .
يَصِفُ فِي هَذَا الْبَيْتِ حِمَارَ وَحْشٍ يَقُولُ فِيهِ مِنْ الْأَخْرَجِ وَهُوَ
الظّلِيمُ الّذِي فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ أَيْ فِيهِ مِنْهُ قَرْقَرَةٌ أَيْ
صَوْتٌ وَهَدْرٌ مِثْلَ هَدْرِ الدّيَافِيّ أَيْ الْفَحْلُ الْمَنْسُوبُ إلَى
دِيَافَ بَلَدٌ بِالشّامِ وَالْهَجْمَةُ مِنْ الْإِبِلِ دُونَ الْمِائَةِ وَجَعَلَهَا
بَحْرًا لِأَنّهَا تَأْمَنُ مِنْ الْغَارَاتِ يَصِفُهَا بِالْمَنَعَةِ
وَالْحِمَايَةِ كَمَا تَأْمَنُ مِنْ الْبَحِيرَةِ مِنْ أَنْ تُذْبَحَ أَوْ
تُنْحَرَ وَرَأَيْت فِي شِعْرِ ابْنِ مُقْبِلٍ مِنْ الْأَخْرَجِ الْمِرْيَاعِ
بِالْيَاءِ أُخْتُ الْوَاوِ وَفَسّرَهُ فِي الشّرْحِ مِنْ رَاعَ يَرِيعُ إذَا
أَسْرَعَ الْإِجَابَةَ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ " تَرِيعُ إلَى صَوْتِ
الْمَهِيبِ وَتَتّقِي " . وَالنّفْسُ إلَى الرّوَايَةِ الْأُولَى أَسْكَنُ
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَنّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ هِيَ الْغَزِيرَاتُ اللّبَنِ
لَا جَمْعُ بَحِيرَةٍ كَأَنّهَا : جَمْعُ بُحُورٍ عِنْدَهُ فَظَنّ هَذَا يُذْهِبُ
الْمَعْنَى الّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَمْنِهَا وَمَنَعَتِهَا ؛ إذْ لَيْسَ هَذَا
الْمَعْنَى فِي الْغَزِيرَاتِ اللّبَنِ لَكِنّهُ أَظْهَرُ فِي الْعَرَبِيّةِ
لِأَنّ بَحِيرَةً فَعَيْلَةٌ وَفَعِيلَةٌ لَا تُجْمَعُ عَلَى فُعُلٍ إلّا أَنْ
تُشَبّهَ بِسَفِينَةِ وَسُفُنٍ وَخَرِيدَةٍ وَخُرُدٍ وَهُوَ قَلِيلٌ . وَقِيلَ
الْبَيْتُ فِي وَصْفِ رَوْضٍ
بِعَازِبِ النّبْتِ يَرْتَاحُ الْفُؤَادُ لَهُ ... رَأْدَ النّهَارِ لِأَصْوَاتِ
مِنْ النّغَرِ
وَبَعْدَ الْبَيْتِ الْوَاقِعِ فِي السّيرَةِ
وَالْأَزْرَقُ الْأَخْضَرُ السّرْبَالُ مُنْتَصِبٌ ... قَيْدُ الْعَصَا فَوْقَ
ذَيّالٍ مِنْ الزّهَرِ
يَعْنِي بِالْأَزْرَقِ ذُبَابُ الرّوْضِ وَكَذَلِكَ النّغَرُ . وَقَوْلُهُ فِي
الْبَيْتِ الْآخَرِ حَوْلُ الْوَصَائِلِ [ ص 184 ] جَمْعُ حَائِلٍ ، وَيُقَالُ فِي
جَمْعِهَا أَيْضًا : حُولَلٌ وَمِثْلُهُ عَائِطٌ وَعُوطَطٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ .
وَالشّرِيفُ اسْمُ مَوْضِعٍ .
عُدْنَا
إلَى سِيَاقَةِ النّسَبِ
نَسَبِ خُزَاعَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 184 ] وَخُزَاعَةُ تَقُولُ نَحْنُ بَنُو عَمْرِو بْنِ
عَامِرٍ مِنْ الْيَمَنِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَتَقُولُ خُزَاعَةُ : نَحْنُ
بَنُو عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ
حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأَسَدِ
بْنِ الْغَوْثِ ، وَخِنْدِفُ أُمّهَا ، فِيمَا حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ
وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَيُقَالُ خُزَاعَةُ : بَنُو حَارِثَةَ بْنِ
عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ . وَإِنّمَا سُمّيَتْ خُزَاعَةَ ، لِأَنّهُمْ تَخَزّعُوا
مِنْ وَلَدِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، حِينَ أَقْبَلُوا مِنْ الْيَمَنِ يُرِيدُونَ
الشّامَ ، فَنَزَلُوا بِمَرّ الظّهْرَانِ ، فَأَقَامُوا بِهَا . قَالَ عَوْنُ بْنُ
أَيّوبَ الْأَنْصَارِيّ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ
كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ مِنْ الْخَزْرَجِ فِي الْإِسْلَامِ
فَلَمّا هَبَطْنَا بَطْنَ مَرّ تَخَزّعَتْ ... خُزَاعَةُ مِنّا فِي خُيُولِ
كَرَاكِرِ
حَمَتْ كُلّ وَادٍ مِنْ تِهَامَةَ وَاحْتَمَتْ ... بِصُمّ الْفَنَا
وَالْمُرْهَفَاتِ الْبَوَاتِرِ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص 185 ] وَقَالَ أَبُو الْمُطّهِرِ
إسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيّ ، أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ :
فَلَمّا هَبَطْنَا بَطْنَ مَكّةَ أَحْمَدَتْ ... خُزَاعَةُ دَارَ الْآكِلِ
الْمُتَحَامِلِ
فَحَلّتْ أَكَارِيسًا ، وَشَتّتْ قَنَابِلًا ... عَلَى كُلّ حَيّ بَيْنَ نَجْدٍ
وَسَاحِلِ
نَفَوْا جُرْهُمًا عَنْ بَطْنِ مَكّةَ وَاحْتَبَوْا ... بِعِزّ خُزَاعِيّ شَدِيدِ
الْكَوَاهِلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَأَنَا إنْ
شَاءَ اللّهُ أَذْكُرُ نَفْيَهَا جُرْهُمًا فِي مَوْضِعِهِ .Sنَسَبُ
خُزَاعَةَ
وَقَوْلُهُ فِي نَسَبِ خُزَاعَةَ : تَقُولُ خُزَاعَةُ : نَحْنُ بَنُو عَمْرِو بْنِ
عَامِرِ إلَى آخِرِ النّسَبِ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ عَمْرًا يُقَالُ لَهُ
مُزَيْقِيَاءُ . وَأَمّا عَامِرٌ فَهُوَ مَاءُ السّمَاءِ سُمّيَ بِذَلِكَ
لِجُودِهِ وَقِيَامِهِ عِنْدَهُمْ مَقَامَ الْغَيْثِ . وَحَارِثَةُ بْنُ امْرِئِ
الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَهُوَ الْغِطْرِيفُ .
بَطْنُ مَرّ
وَقَوْلُ عَوْنٍ فَلَمّا هَبَطْنَا بَطْنَ مَرّ . يُرِيدُ مَرّ الظّهْرَانِ ،
وَسُمّيَ مَرّا لِأَنّ فِي عِرْقٍ مِنْ الْوَادِي مِنْ غَيْرِ لَوْنِ الْأَرْضِ
شِبْهُ الْمِيمِ الْمَمْدُودَةِ وَبَعْدَهَا را خُلِقَتْ كَذَلِكَ وَيُذْكَرُ عَنْ
كَثِيرٍ أَنّهُ قَالَ سُمّيَتْ مَرّا لِمَرَارَتِهَا ، وَلَا أَدْرِي مَا صِحّةُ
هَذَا . [ ص 185 ]
خُزَاعَتُنَا أَهْلُ اجْتِهَادٍ وَهِجْرَةٍ ... وَأَنْصَارُنَا جُنْدُ النّبِيّ
الْمُهَاجِرِ
وَسِرْنَا إلَى أَنْ قَدْ نَزَلْنَا بِيَثْرِبَ ... بِلَا وَهَنٍ مِنّا وَغَيْرَ
تَشَاجُرٍ
وَسَارَتْ لَنَا سَيّارَةٌ ذَاتُ مَنْظَرٍ ... بِكَوْمِ الْمَطَايَا وَالْخُيُولِ
الْجُمَاهِرِ
يَؤُمّونَ أَهْلَ الشّامِ حِينَ تَمَكّنُوا ... مُلُوكًا بِأَرْضِ الشّامِ فَوْقَ
الْبَرَابِرِ
أَوْلَاك بَنُو مَاءِ السّمَاءِ تَوَارَثُوا ... دِمَشْقًا بِمُلْكِ كَابِرًا
بَعْدَ كَابِرٍ
الْحُلُولُ جَمْعُ : حَالّ وَالْكَرَادِيسُ جَمْعُ : كُرْدُوسٍ الْخَيْلُ .
دِمَشْقُ
وَقَوْلُهُ دِمَشْقًا ، سُمّيَتْ مَدِينَةَ الشّامِ بِاسْمِ الرّجُلِ الّذِي
هَاجَرَ إلَيْهَا مَعَ إبْرَاهِيمَ وَهُوَ دَامِشْقُ بْنُ النّمْرُوذِ بْنِ
كَنْعَانَ أَبُوهُ الْمَلِكُ الْكَافِرُ عَدُوّ إبْرَاهِيمَ وَكَانَ ابْنُهُ
دَامِشْقُ قَدْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ وَهَاجَرَ مَعَهُ إلَى الشّامِ . كَذَلِكَ
ذَكَرَ بَعْضُ النّسّابِ وَذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ الْمُعْجَمِ .
وَالدّمَشْقُ فِي اللّغَةِ النّاقَةُ الْمُسِنّةُ - فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ -
وَكَانَ يُقَالُ لِدِمَشْقَ أَيْضًا : جَيْرُونُ سُمّيَتْ بِاسْمِ الّذِي بَنَاهَا
، وَهُوَ جَيْرُونُ بْنُ سَعْدِ [ بْنِ عَادٍ ] ، وَفِيهَا يَقُولُ أَبُو دَهْبَلَ
[ الْجُمَحِيّ ] :
صَاحِ حَيّا الْإِلَهُ حَيّا وَدَارَا ... عِنْدَ شَرْقِ الْقَنَاةِ مِنْ
جَيْرُونَ
أَوْلَادُ
مُدْرِكَةَ وَخُزَيْمَةَ وَكِنَانَةَ وَالنّضْرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 186 ] فَوَلَدَ مُدْرِكَةُ بْنُ إلْيَاسَ رَجُلَيْنِ
خُزَيْمَةَ بْنَ مُدْرِكَةَ وَهُذَيْلَ بْنَ مُدْرِكَةَ ، وَأُمّهُمَا : امْرَأَةٌ
مِنْ قُضَاعَةَ [ قِيلَ سَلْمَى بِنْتُ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ -
كَمَا فِي نَسَبِ قُرَيْشٍ ] . فَوَلَدَ خُزَيْمَةُ بْنُ مُدْرِكَةَ أَرْبَعَةَ
نَفَرٍ كِنَانَةَ بْنَ خُزَيْمَةَ ، وَأَسَدَ بْنَ خُزَيْمَةَ ، وَأَسَدَةَ بْنَ
خُزَيْمَةَ ، وَالْهَوْنَ بْنَ خُزَيْمَةَ ، فَأُمّ كِنَانَةَ عَوَانَةُ بِنْتُ
سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ
الْهَوْنُ بْنُ خُزَيْمَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ كِنَانَةُ بْنُ
خُزَيْمَةَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ النّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ ، وَمَالِكَ بْنَ كِنَانَةَ
، وَعَبْدَ مَنَاةَ بْنَ كِنَانَةَ وَمِلْكَانَ بْنَ كِنَانَةَ فَأُمّ النّضْرِ
بَرّةُ بِنْتُ مُرّ بْنِ أَدّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ ،
وَسَائِرُ بَنِيهِ لِامْرَأَةِ أُخْرَى . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أُمّ النّضْرِ
وَمَالِكٍ وَمِلْكَانَ . بَرّةُ بِنْتُ مُرّ وَأُمّ عَبْدِ مَنَاةَ هَالَةُ بِنْتُ
سُوَيْدِ بْنِ الْغِطْرِيفِ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ . وَشَنُوءَةُ عَبْدُ اللّهِ
بْنُ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَصْرِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ
الْغَوْثِ ، وَإِنّمَا سُمّوا شَنُوءَةَ لِشَنَآنِ كَانَ بَيْنَهُمْ . وَالشّنَآنُ
الْبُغْضُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : النّضْرُ قُرَيْشٌ ، فَمَنْ كَانَ مِنْ
وَلَدِهِ فَهُوَ قُرَشِيّ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَلَدِهِ فَلَيْسَ بِقُرَشِيّ
. قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيّةَ أَحَدُ بَنِي كُلَيْبِ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ
حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمِ يَمْدَحُ هِشَامَ بْنَ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ :
فَمَا الْأُمّ الّتِي وَلَدَتْ قُرَيْشًا ... بِمُقْرِفَةِ النّجّارِ وَلَا
عَقِيمِ
وَمَا قَرْمٌ بِأَنْجَبَ مِنْ أَبِيكُمْ ... وَمَا خَالٌ بِأَكْرَمَ مِنْ تَمِيمِ
[ ص 187 ] بَرّةَ بِنْتَ مُرّ أُخْتَ تَمِيمِ بْنِ مُرّ ، أُمّ النّضْرِ .
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص 188 ] وَيُقَالُ فِهْرُ بْنُ
مَالِكٍ : قُرَيْشٌ ، فَمَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِهِ فَهُوَ قُرَشِيّ ، وَمَنْ لَمْ
يَكُنْ مِنْ وَلَدِهِ فَلَيْسَ بِقُرَشِيّ وَإِنّمَا سُمّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا
مِنْ التّقَرّشِ وَالتّقَرّشُ التّجَارَةُ وَالِاكْتِسَابُ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ
الْعَجّاجِ :
قَدْ كَانَ يُغْنِيهِمْ عَنْ الشّغُوشِ ... وَالْخَشْلِ مِنْ تَسَاقُطِ الْقُرُوشِ
شَحْمٌ وَمَحْضٌ لَيْسَ بِالْمَغْشُوشِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَالشّغُوشُ قَمْحٌ يُسَمّى : الشّغُوشَ . وَالْخَشْلُ رُءُوسُ
الْخَلَاخِيلِ وَالْأَسْوِرَةِ وَنَحْوِهِ . وَالْقُرُوشُ التّجَارَةُ
وَالِاكْتِسَابُ يَقُولُ قَدْ كَانَ يُغْنِيهِمْ عَنْ هَذَا شَحْمٌ وَمَحْضٌ
وَالْمَحْضُ اللّبَنُ الْحَلِيبُ الْخَالِصُ . [ ص 189 ] وَقَالَ أَبُو جِلْدَةَ
الْيَشْكُرِيّ ، وَيَشْكُرُ بْنُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ :
إخْوَةٌ قَرَشُوا الذّنُوبَ عَلَيْنَا ... فِي حَدِيثٍ مِنْ عُمْرِنَا وَقَدِيمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَيُقَالُ إنّمَا
سُمّيَتْ قُرَيْشٌ : قُرَيْشًا لِتَجَمّعِهَا مِنْ بَعْدِ تُفَرّقْهَا . وَيُقَالُ
لِلتّجَمّعِ التّقَرّشُ . فَوَلَدَ النّضْرُ بْنُ كِنَانَةَ رَجُلَيْنِ مَالِكَ
بْنَ النّضْرِ ، وَيَخْلُدَ بْنَ النّضْرِ فَأُمّ مَالِكٍ عَاتِكَةُ بِنْتُ
عَدْوَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ وَلَا أَدْرِي أَهِيَ أَمْ
يَخْلُدَ أَمْ لَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَالصّلْتُ بْنُ النّضْرِ - فِيمَا
قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيّ - وَأُمّهُمْ جَمِيعًا : بِنْتُ سَعْدِ بْنِ
ظَرِبٍ الْعَدْوَانِيّ . وَعَدْوَانُ : بْنُ عُمَرَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ .
قَالَ كُثَيّرُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ - وَهُوَ كُثَيّرُ عَزّةَ أَحَدُ بَنِي
مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو ، مِنْ خُزَاعَةَ :
أَلَيْسَ أَبِي بِالصّلْتِ أَمْ لَيْسَ إخْوَتِي ... لِكُلّ هِجَانٍ مِنْ بَنِي
النّضْرِ أَزْهَرَا
رَأَيْت ثِيَابَ الْعَصْبِ مُخْتَلِطَ السّدَى ... بِنَا وَبِهِمْ وَالْحَضْرَمِيّ
الْمُخَصّرَا
[ إذَا مَا قَطَعْنَا مِنْ قُرَيْشٍ قَرَابَةً ... بِأَيّ نِجَادٍ يَحْمِلُ
السّيْفَ مَيْسَرًا ]
فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مِنْ بَنِي النّضْرِ فَاتْرُكُوا ... أَرَاكًا بِأَذْنَابِ
الْفَوَائِجِ أَخْضَرَا
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَاَلّذِينَ يُعْزَوْنَ إلَى الصّلْتِ
بْنِ النّضْرِ مِنْ خُزَاعَةَ : بَنُو مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو ، رَهْطُ كُثَيّرِ
عَزّةَ .S[ ص 186 ]
بَنُو كِنَانَةَ
وَذَكَرَ بَنِي كِنَانَةَ الْأَرْبَعَةَ مَالِكًا وَمِلْكَانَ وَالنّضْرَ وَعَبْدَ
مَنَاةَ . وَزَادَ الطّبَرِيّ فِي وَلَدِ كِنَانَةَ عَامِرًا وَالْحَارِثَ
وَالنّضِيرَ وَغَنْمًا وَسَعْدًا وَعَوْفًا وَجَرْوَلَ وَالْحُدَالَ وَغَزْوَانَ .
كُلّهُمْ بَنُو كِنَانَةَ .
قُرَيْشٌ
فَصْلٌ وَذَكَرَ النّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ ، وَقَوْلَ مَنْ قَالَ إنّهُ قُرَيْشٌ ،
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِي أَنّ فِهْرًا هُوَ قُرَيْشٌ ، وَقَدْ قِيلَ إنّ فِهْرًا
لَقَبٌ وَاسْمُهُ الّذِي سُمّيَ بِهِ قُرَيْشٌ . [ ص 187 ] فَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ
اللّهِ الزّبَيْرُ بْنُ بَكّارٍ فِي أَنْسَابِ قُرَيْشٍ لَهُ قَالَ قَالَ عَمّي :
وَأَمّا بَنُو يَخْلُدَ بْنِ النّضْرِ فَذُكِرُ [ وَا ] فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ مَلِكِ بْنِ كِنَانَةَ وَمِنْهُمْ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرِ بْنِ
يَخْلُدَ بْنِ النّضْرِ وَكَانَ دَلِيلُ بَنِي كِنَانَةَ فِي تِجَارَاتِهِمْ
فَكَانَ يُقَالُ قَدِمَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ ، فَسُمّيَتْ قُرَيْشٌ بِهِ وَأَبُوهُ
بَدْرُ بْنُ يَخْلُدَ صَاحِبُ بَدْرٍ الْمَوْضِعِ الّذِي لَقِيَ فِيهِ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قُرَيْشًا . وَقَالَ عَنْ غَيْرِ
عَمّهِ قُرَيْشُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ يَخْلُدَ وَابْنُهُ بَدْرٌ الّذِي سُمّيَتْ
بِهِ بَدْرٌ وَهُوَ احْتَفَرَهَا . قَالَ وَقَدْ قَالُوا : اسْمُ فِهْرِ بْنِ
مَالِكٍ : قُرَيْشٌ ، وَمَنْ لَمْ يَلِدْهُ فِهْرٌ ، فَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ ،
وَذُكِرَ عَنْ عَمّهِ أَنّ فِهْرًا هُوَ قُرَيْشٌ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ
حَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمّلِيّ عَنْ جَدّي عَبْدِ اللّهِ بْنِ
مُصْعَبٍ - رَحِمَهُ اللّهُ - أَنّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ اسْمُ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ
: قُرَيْشٌ ، وَإِنّمَا فِهْرٌ لَقَبٌ وَكَذَلِكَ حَدّثَهُ الْمُؤَمّلِيّ عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي اسْمِ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ : أَنّهُ قُرَيْشٌ
، وَمِثْلُ ذَلِكَ ذُكِرَ عَنْ الْمُؤَمّلِيّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ فِي اسْمِ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ : أَنّهُ قُرَيْشٌ . قَالَ وَحَدّثَنِي
إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ حَدّثَنَا أَبُو الْبَخْتَرِيّ وَهْبُ بْنُ
وَهْبٍ قَالَ حَدّثَنِي ابْنُ أَخِي ابْن شِهَابٌ عَنْ عَمّهِ أَنّ اسْمَ فِهْرِ
بْنِ مَالِكٍ الّذِي أَسْمَتْهُ أُمّهُ قُرَيْشٌ ، وَإِنّمَا نَبَزْته فِهْرًا ،
كَمَا يُسَمّى الصّبِيّ : غِزَارَةَ وَشَمْلَةَ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ قَالَ قَالَ
وَقَدْ أَجْمَعَ النّسّابُ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ أَنّ قُرَيْشًا إنّمَا
تَفَرّقَتْ عَنْ فِهْرٍ ، وَاَلّذِي عَلَيْهِ مَنْ أَدْرَكْته مِنْ نُسّابِ
قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ أَنّ وَلَدَ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ : قُرَيْشٌ ، وَأَنّ مَنْ
جَاوَزَ فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ بِنَسَبِهِ فَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ . وَذُكِرَ عَنْ
هِشَامِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ السّائِبِ الْكَلْبِيّ فِيمَا حَدّثَهُ أَبُو
الْحَسَنِ الْأَثْرَمُ عَنْهُ أَنّ النّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ هُوَ قُرَيْشٌ ،
وَذُكِرَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَلَدَ مَالِكُ بْنُ النّضْرِ
فِهْرًا ، وَهُوَ جِمَاعُ قُرَيْشٍ ، وَقَالَ قَالَ مُحَمّدُ بْنُ حَسَنٍ عَنْ
نَصْرِ بْنِ مُزَاحِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمّدٍ عَنْ الشّعْبِيّ ، قَالَ
النّضْرُ بْنُ كِنَانَةَ هُوَ قُرَيْشٌ ، وَإِنّمَا سُمّيَ قُرَيْشًا ؛ لِأَنّهُ
كَانَ يُقَرّشُ عَنْ خَلّةِ النّاسِ وَحَاجَتِهِمْ فَيَسُدّهَا بِمَالِهِ
وَالتّقْرِيشُ . هُوَ التّفْتِيشُ وَكَانَ بَنُوهُ يُقْرِشُونَ أَهْلَ الْمَوْسِمِ
عَنْ الْحَاجَةِ فَيَرْفِدُونَهُمْ بِمَا يَبْلُغُهُمْ فَسُمّوا بِذَلِكَ مِنْ
فِعْلِهِمْ وَقَرْشِهِمْ قُرَيْشًا . وَقَدْ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلّزَةَ فِي
بَيَانِ الْقَرْشِ
أَيّهَا النّاطِقُ الْمُقَرّشُ عَنّا ... عِنْدَ عَمْرٍو ، فَهَلْ لَهُ أَنُفَاءُ
وَحَدّثَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَثْرَمُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ
الْمُثَنّى [ التّيْمِيّ ] ، قَالَ مُنْتَهَى مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ قُرَيْشٍ
: النّضْرُ بْنُ كِنَانَةَ ، فَوَلَدُهُ قُرَيْشٌ دُونَ سَائِرِ بَنِي كِنَانَةَ
بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ [ ص 188 ] عَامِرُ بْنُ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ ، فَأَمّا مَنْ
وَلَدُ كِنَانَةَ سِوَى النّضْرِ فَلَا يُقَالُ لَهُمْ قُرَيْشٌ ، وَإِنّمَا
سُمّيَ بَنُو النّضْرِ قُرَيْشًا لِتَجَمّعِهِمْ لِأَنّ التّقَرّشَ هُوَ
التّجَمّعُ . قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ التّجّارُ يَتَقَارَشُونَ يَتّجِرُونَ
وَالدّلِيلُ عَلَى اضْطِرَابِ هَذَا الْقَوْلِ أَنّ قُرَيْشًا لَمْ يَجْتَمِعُوا
حَتّى جَمَعَهُمْ قُصَيّ بْنُ كِلَابٍ ، فَلَمْ يَجْمَعْ إلّا وَلَدَ فِهْرِ بْنِ
مَالِكٍ لَا مِرْيَةَ عِنْدَ أَحَدٍ فِي ذَلِكَ وَبَعْدَ هَذَا فَنَحْنُ أَعْلَمُ
بِأُمُورِنَا ، وَأَرْعَى لِمَآثِرِنَا ، وَأَحْفَظُ لِأَسْمَائِنَا ، لَمْ
نَعْلَمْ وَلَمْ نَدَعْ قُرَيْشًا ، وَلَمْ نُهْمِمْ إلّا وَلَدَ فِهْرِ بْنِ
مَالِكٍ . قَالَ الْمُؤَلّفُ فِي جَمِيعِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِ الزّبَيْرِ
وَمَا حَكَاهُ عَنْ النّسّابِينَ نَقَلْته مِنْ كِتَابِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ -
رَحِمَهُ اللّهُ - ثُمّ أَلْفَيْته فِي كِتَابِ الزّبَيْرِ كَمَا ذَكَرَهُ
وَرَأَيْت لِغَيْرِهِ أَنّ قُرَيْشًا تَصْغِيرُ الْقِرْشِ وَهُوَ حُوتٌ فِي
الْبَحْرِ يَأْكُلُ حِيتَانَ الْبَحْرِ سُمّيَتْ بِهِ الْقَبِيلَةُ أَوْ سُمّيَ
بِهِ أَبُو الْقَبِيلَةِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَرَدّ الزّبَيْرُ عَلَى ابْنِ
إسْحَاقَ فِي أَنّهَا سُمّيَتْ قُرَيْشًا لِتَجَمّعِهَا ، وَأَنّهُ لَا يُعْرَفُ قُرَيْشٌ
إلّا فِي بَنِي فِهْرٍ رَدّا لَا يُلْزِمُ لِأَنّ ابْنَ إسْحَاقَ لَمْ يَقُلْ
إنّهُمْ بَنُو قُصَيّ خَاصّةً وَإِنّمَا أَرَادَ أَنّهُمْ سُمّوا بِهَذَا الِاسْمِ
مُذْ جَمَعَهُمْ قُصَيّ ، وَكَذَا قَالَ الْمُبَرّدُ فِي الْمُقْتَضَبِ إنّ هَذِهِ
التّسْمِيَةَ إنّمَا وَقَعَتْ لِقُصَيّ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - غَيْرَ أَنّا
قَدّمْنَا فِي قَوْلِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ مَا يَدُلّ عَلَى أَنّهَا كَانَتْ
تُسَمّى قُرَيْشًا قَبْلَ مَوْلِدِ قُصَيّ وَهُوَ قَوْلُهُ إذَا قُرَيْشٌ تَبْغِي
الْحَقّ خِذْلَانًا . وَذَكَرَ قَوْلَ رُؤْبَةَ قَدْ كَانَ يُغْنِيهِمْ عَنْ
الشّغُوشِ . وَفَسّرَهُ ضَرْبٌ مِنْ الْقَمْحِ وَفَسّرَ الْخَشْلَ رُءُوسَ
الْخَلَاخِيلِ . وَفِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ قَالَ إنّمَا
الْخَشْلُ الْمُقْلُ [ ص 189 ] لُكَثَيّرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَلَيْسَ أَبِي
بِالصّلْتِ أَمْ لَيْسَ إخْوَتِي . الْبَيْتُ وَبَعْده :
رَأَيْت ثِيَابَ الْعَصْبِ مُخْتَلِطَ السّدَى ... بِنَا وَبِهِمْ وَالْحَضْرَمِيّ
الْمُخَصّرَا
وَالْعَصْبُ بُرُودُ الْيَمَنِ ، لِأَنّهَا تُصْبَغُ بِالْعَصْبِ وَلَا يَنْبُت
الْعَصْبُ وَلَا الْوَرْسُ إلّا بِالْيَمَنِ وَكَذَلِكَ اللّبَانُ . قَالَهُ أَبُو
حَنِيفَةَ . يُرِيدُ إنّ قُدُودَنَا مِنْ قُدُودِهِمْ فَسَدْيُ أَثْوَابِنَا ،
مُخْتَلِطٌ بِسَدْيِ أَثْوَابِهِمْ . وَالْحَضْرَمِيّ النّعَالُ الْمُخَصّرَةُ
الّتِي تَضِيقُ مِنْ جَانِبَيْهَا كَأَنّهَا نَاقِصَةٌ [ ص 190 ] يُقَالُ رَجُلٌ
مُبَطّنٌ أَيْ ضَامِرُ الْبَطْنِ وَجَاءَ فِي صِفَةِ نَعْلِ النّبِيّ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهَا كَانَتْ مُعَقّبَةً مُخَصّرَةً مُلَسّنَةً
مُخَثْرَمَةً . وَالْمُخَثْرَمَةُ الّتِي لَهَا خَثْرَمَةٌ وَهُوَ كَالتّحْدِيرِ فِي
مُقَدّمِهَا وَكَانَتْ نَعْلُهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - مِنْ سِبْتٍ وَلَا يَكُونُ
السّبْتُ إلّا مِنْ جِلْدِ بَقَرٍ مَدْبُوغٍ . قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ
الْأَصْمَعِيّ وَأَبِي زَيْدٍ .
أَوْلَادُ
مَالِكٍ وَابْنِهِ فِهْرٍ
[ ص 190 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ مَالِكُ بْنُ النّضْرِ : فِهْرَ بْنَ
مَالِكٍ ، وَأُمّهُ جَنْدَلَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيّ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلَيْسَ بِابْنِ مُضَاضٍ الْأَكْبَرِ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : فَوَلَدَ فِهْرُ بْنُ مَالِكٍ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ غَالِبَ بْنَ فِهْرٍ ،
وَمُحَارِبَ بْنَ فِهْرٍ ، وَالْحَارِثَ بْنَ فِهْرٍ ، وَأَسَدَ بْنَ فِهْرٍ ،
وَأُمّهُمْ لَيْلَى بِنْتُ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : وَجَنْدَلَةُ بِنْتُ فِهْرٍ ، وَهِيَ أُمّ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ
بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَأُمّهَا : لَيْلَى بِنْتُ
سَعْدٍ . قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيّةَ بْنِ الْخَطَفَى . وَاسْمُ الْخَطَفَى :
حُذَيْفَةُ بْنُ بَدْرِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ يَرْبُوعِ
بْنِ حَنْظَلَةَ .
وَإِذَا غَضِبْت رَمَى وَرَائِي بِالْحَصَى ... أَبْنَاءُ جَنْدَلَةٍ كَخَيْرِ
الْجَنْدَلِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .Sوَذَكَرَ
قَوْلَ جَرِيرِ بْنِ الْخَطَفَى :
يَرْفَعْنَ بِاللّيْلِ إذَا مَا أَسْدَفَا ... أَعْنَاقَ جِنّانٍ وَهَامًا رُجّفَا
وَعَنَقًا بَاقِي الرّسِيمِ خَيْطَفَا وَالْخَيْطَفَةُ سُرْعَةٌ فِي الْعَدْوِ
فَإِذَا وَصَفْت بِهِ الْعُنُقَ وَالْجَرْيَ قُلْت : عُنُقٌ خَيْطَفٌ وَإِذَا
سَمّيْت بِهِ الرّجُلَ قُلْت : خَطَفَى ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلْته اسْمًا
لِلْمِشْيَةِ فَهُوَ مِثْلُ الْجَمَزَى وَالْبَشَكَى .
غَالِبٌ
وَزَوْجَاتُهُ وَأَوْلَادُهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 191 ] فَوَلَدَ غَالِبُ بْنُ فِهْرٍ رَجُلَيْنِ لُؤَيّ
بْنَ غَالِبٍ ، وَتَيْمَ بْنَ غَالِبٍ ، وَأُمّهُمَا : سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو
الْخُزَاعِيّ - وَتَيْمُ بْنُ غَالِبٍ الّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو الْأَدْرَمِ
. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَيْسُ بْنُ غَالِبٍ ، وَأُمّهُ سَلْمَى بِنْتُ كَعْبِ
بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيّ وَهِيَ أُمّ لُؤَيّ وَتَيْمٍ ابْنَيْ غَالِبٍ .S[ ص 191 ]
بَنُو الْأَدْرَمِ
وَقَوْلُهُ وَتَيْمُ بْنُ غَالِبٍ وَهُمْ بَنُو الْأَدْرَمِ . وَالْأَدْرَمُ
الْمَدْفُونُ الْكَعْبَيْنِ مِنْ اللّحْمِ يُقَالُ امْرَأَةٌ دَرْمَاءُ وَكَعْبٌ
أَدْرَمُ . قَالَ الرّاجِزُ
قَامَتْ تُرِيهِ خَشْيَةَ أَنْ تُصْرَمَا ... سَاقًا بَخَنْدَاةَ وَكَعْبًا
أَدْرَمًا
وَكَفَلًا مِثْلُ النّقَا أَوْ أَعْظَمَا وَالْأَدْرَمُ أَيْضًا : الْمَنْقُوضُ
الذّقَنِ وَكَانَ تَيْمُ بْنُ غَالِبٍ كَذَلِكَ فَسُمّيَ الْأَدْرَمَ قَالَهُ
الزّبَيْرُ . وَبَنُو الْأَدْرَمِ هَؤُلَاءِ هُمْ أَعْرَابُ مَكّةَ ، وَهُمْ مِنْ
قُرَيْشٍ الظّوَاهِرِ ، لَا مِنْ قُرَيْشٍ الْبِطَاحِ ، وَكَذَلِكَ بَنُو
مُحَارِبٍ مِنْ فِهْرٍ ، وَبَنُو مَعِيصِ بْنِ عَامِرٍ .
نَسْلُ
لُؤَيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ لُؤَيّ بْنُ غَالِبٍ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ كَعْبَ
بْنَ لُؤَيّ ، وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيّ ، وَسَامَةَ بْنَ لُؤَيّ وَعَوْفَ بْنَ
لُؤَيّ فَأُمّ كَعْبٍ وَعَامِرٍ وَسَامَةُ مَاوِيّةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ الْقَيْنِ
بْنِ جَسْرٍ ، مِنْ قُضَاعَةَ . [ ص 192 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ
وَالْحَارِثُ بْنُ لُؤَيّ وَهُمْ جُشَمُ بْنُ الْحَارِثِ فِي هِزّانَ مِنْ
رَبِيعَةَ . قَالَ جَرِيرٌ
بَنِي جُشَمٍ لَسْتُمْ لِهَزّانَ فَانْتَمَوْا ... لِأَعْلَى الرّوَابِي مِنْ
لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ
وَلَا تَنْكِحُوا فِي آلِ ضَوْرٍ نِسَاءَكُمْ ... وَلَا فِي شُكَيْسٍ بِئْسَ
مَثْوَى الْغَرَائِبِ
وَسَعْدُ بْنُ لُؤَيّ وَهُمْ بَنَانَةُ فِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ
عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ ، مِنْ رَبِيعَةَ .
وَبُنَانَةُ حَاضِنَةٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ بْنِ جَسْرِ بْنِ شَيْعِ
اللّهِ وَيُقَالُ سَيْعُ اللّهِ بْنُ الْأَسَدِ بْنِ وَبْرَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ
بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ . وَيُقَالُ بِنْتُ [
ص 193 ] النّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ ، مِنْ رَبِيعَةَ . وَيُقَالُ بِنْتُ جَرْمِ بْنِ
رَبّانَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ .
وَخُزَيْمَةُ بْنُ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ، وَهُمْ عَائِذَةُ فِي شَيْبَانَ بْنِ
ثَعْلَبَةَ . وَعَائِذَةُ امْرَأَةٌ مِنْ الْيَمَنِ ، وَهِيَ أُمّ بَنِي
عُبَيْدَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ لُؤَيّ . وَأُمّ بَنِي لُؤَيّ كُلّهِمْ - إلّا
عَامِرَ بْنَ لُؤَيّ : مَاوِيّةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ الْقَيْنِ بْنِ جَسْرٍ .
وَأُمّ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ : مَخْشِيّةُ بِنْتُ شَيْبَانَ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ
فِهْرٍ ، وَيُقَالُ لَيْلَى بِنْتُ شَيْبَانَ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ .Sمَاوِيّةُ
امْرَأَةُ لُؤَيّ
وَذَكَرَ بَنِي لُؤَيّ فَقَالَ أُمّ عَامِرٍ مَاوِيّةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ
الْقَيْنِ . سُمّيَتْ بِالْمَاوِيّةِ وَهِيَ الْمِرْآةُ كَأَنّهَا نُسِبَتْ إلَى
الْمَاءِ لِصَفَائِهَا ، وَقُلِبَتْ هَمْزَةُ الْمَاءِ وَاوًا ، وَكَانَ
الْقِيَاسُ أَنْ تُقْلَبَ [ ص 192 ] فَيُقَال : مَاهِيّةٌ وَلَكِنْ شَبّهُوهُ
بِمَا الْهَمْزَةُ فِيهِ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ أَوْ وَاوٍ لَمّا كَانَ حُكْمُ
الْهَاءِ أَنْ لَا تُهْمَزَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلَمّا شُبّهَتْ بِحُرُوفِ
الْمَدّ وَاللّينِ فَهَمَزُوهَا لِذَلِكَ اُطّرِدَ فِيهَا ذَلِكَ الشّبَهُ
وَيَحْتَمِلُ اسْمُ الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَيْته ، إذَا ضَمَمْته
إلَيْك ، يُقَالُ أَوَيْت مِثْلُ ضَمَمْت ، وَآوَيْته مِثْلُ آذَيْته ، ثُمّ
يُقَالُ فِي الْمَفْعُولِ مِنْ أَوَيْته عَلَى وَزْنِ فَعَلْت : مَأْوِيّ
وَالْمَرْأَةُ مَأْوِيّةٌ ثُمّ تُسَهّلُ الْهَمْزَةُ فَتَكُونُ أَلِفًا سَاكِنَةً
. وَخَالَفَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي أُمّ عَامِرٍ فَقَالَ مَخْشِيّةُ بِنْتُ
شَيْبَانَ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ ، وَمَاوِيّةُ أُمّ سَائِرِ بَنِيهِ غَيْرَ
عَامِرٍ .
بُنَانَةُ وَعَائِذَةُ وَبَنُو نَاجِيَةَ وَذُبْيَانُ وَسَامَةُ
وَذَكَرَ سَعْدَ بْنَ لُؤَيّ وَأَنّهُمْ بُنَانَةُ فِي شَيْبَانَ عُرِفُوا
بِحَاضِنَةِ لَهُمْ اسْمُهَا : بُنَانَةُ وَكَانَ بَنُو ضُبَيْعَةَ قَدْ
ادّعَوْهُمْ وَهُوَ ضُبَيْعَةُ أَضْجَمُ بْنُ رَبِيعَةَ ، لَا ضُبَيْعَةُ بْنُ
أُقَيْشِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فَلَمّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ قَدِمُوا عَلَيْهِ
وَفِيهِمْ سَيّدٌ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ أَبُو الدّهْمَاءِ فَكَلّمَ أَبُو
الدّهْمَاءِ عُمَرَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ بِقُرَيْشِ فَأَنْكَرَ عُمَرُ ذَلِكَ
فَأَخْبَرَهُ عُثْمَانُ عَنْ أَبِيهِ عَفّانَ أَنّهُ حَدّثَهُ بِصِحّةِ نَسَبِهِمْ
إلَى قُرَيْشٍ ، وَسَبَبِ خُرُوجِهِمْ عَنْهُمْ فَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَأْتُوهُ
الْعَامَ الْقَابِلَ فَيَلْحَقَهُمْ فَقُتِلَ أَبُو الدّهْمَاءِ عِنْدَ
انْصِرَافِهِ وَشُغِلُوا بِأَمْرِهِ حَتّى مَاتَ عُمَرُ فَأَلْحَقَهُمْ عُثْمَانُ
بِقُرَيْشِ فَلَمّا كَانَ عَلِيّ نَفَاهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ ، وَرَدّهُمْ إلَى
شَيْبَانَ فَقَالَ الشّاعِرُ
ضَرَبَ التّجِيبِيّ الْمُضَلّلَ ضَرْبَةً ... رَدّتْ بُنَانَةُ فِي بَنِي
شَيْبَانَا
وَالْعَائِذِيّ لِمِثْلِهَا مُتَوَقّعٌ ... لِمَا يَكُنْ وَكَأَنّهُ قَدْ كَانَا
[ ص 193 ] الْخَبَرَ مِنْ حَدِيثٍ ذَكَرَهُ الْبَرْقِيّ عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ
وَالْبُنَانَةُ فِي اللّغَةِ الرّائِحَةُ الطّيّبَةُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْبُنَانَةُ
الرّوْضَةُ الْمُعْشِبَةُ الْحَالِيَةُ أَيْ قَدْ حُلّيَتْ بِالزّهْرِ . وَذَكَرَ
خُزَيْمَةَ بْنَ لُؤَيّ وَأَنّهُمْ انْتَسَبُوا فِي شَيْبَانَ وَيُعْرَفُونَ
بِأُمّهِمْ عَائِذَةَ قَالَ وَعَائِذَةُ مِنْ الْيَمَنِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ
بِنْتُ الْخِمْسِ بْنِ قُحَافَةَ مِنْ خَثْعَمَ وُلِدَتْ لِعُبَيْدِ بْنِ
خُزَيْمَةَ مَالِكًا وَحَارِثًا ، فَهُمْ بَنُو خُزَيْمَةَ عَائِذَةَ [ قُرَيْشٌ ]
، وَمِنْ بَنِي خُزَيْمَةَ أَيْضًا : بَنُو حَرْبِ بْنِ خُزَيْمَةَ ، قَتَلَتْهُمْ
الْمُسَوّدَةُ فِي قَرْيَتِهِمْ بِالشّامِ وَهُمْ يَحْسَبُونَهُمْ بَنِي حَرْبِ
بْنِ أُمَيّةَ . وَذَكَرَ بِنْتَ جَرْمِ بْنِ رَبّانَ . وَبِنْتُ جَرْمَ هِيَ
نَاجِيَةُ وَاسْمُهَا : لَيْلَى ، وَجَرْمُ أَبُو جُدّةَ الّذِي نَزَلَ جُدّةَ
مِنْ سَاحِلِ الْحِجَازِ ، فَعُرِفَتْ بِهِ كَمَا عُرِفَتْ كَثِيرٌ مِنْ
الْبِلَادِ بِمَنْ نَزَلَهَا مِنْ الرّجَالِ وَقَدْ تَقَدّمَ طَرَفٌ مِنْ ذَلِكَ
وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ كَثِيرٌ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . وَرَبّانُ هُوَ
عِلَافٌ الّذِي تُنْسَبُ إلَيْهِ الرّحَالُ الْعِلَافِيّةُ . وَذَكَرَ سَعْدَ بْنَ
ذُبْيَانَ وَقِصّتُهُ مَعَ عَوْفِ بْنِ لُؤَيّ وَذُبْيَانَ بْنِ بِغِيضِ بِكَسْرِ
الذّالِ وَضَمّهَا ، وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ وَهُمْ أَرْبَعَةُ أَحْيَاءٍ مِنْ
الْعَرَبِ : ذُبْيَانُ بْنُ بِغِيضِ فِي قَيْسٍ ، وَذُبْيَانُ بْنُ ثَعْلَبَةَ فِي
بَجِيلَةَ ، وَذُبْيَانُ فِي قُضَاعَةَ ، وَذُبْيَانُ فِي الْأَزْدِ . وَذَكَرَ
ابْنُ دُرَيْدٍ فِي كِتَابِ اشْتِقَاقِ الْأَسْمَاءِ لَهُ أَنّ ذُبْيَانَ
فُعْلَانُ [ أَوْ فِعْلَانُ ] مِنْ ذَبَى الْعُودُ يَذْبِي [ ذَبْيًا إذَا لَانَ
وَاسْتَرْخَى ] . يُقَالُ ذَبَى الْعُودُ وَذَوَى بِمَعْنَى وَاحِدٍ .
أَمْرُ
سَامَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَمّا سَامَةُ بْنُ لُؤَيّ فَخَرَجَ إلَى عُمَانَ ،
وَكَانَ بِهَا . وَيَزْعُمُونَ أَنّ عَامِرَ بْنَ لُؤَيّ أَخْرَجَهُ وَذَلِكَ
أَنّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ فَفَقَأَ سَامَةُ عَيْنَ عَامِرٍ فَأَخَافَهُ
عَامِرٌ [ ص 194 ] فَخَرَجَ إلَى عُمَانَ . فَيَزْعُمُونَ أَنّ سَامَةَ بْنَ
لُؤَيّ بَيْنَا هُوَ يَسِيرُ عَلَى نَاقَتِهِ إذْ وَضَعَتْ رَأْسَهَا تَرْتَعُ
فَأَخَذَتْ حَيّةٌ بِمِشْفَرِهَا ، فَهَصَرَتْهَا حَتّى وَقَعَتْ النّاقَةُ
لِشِقّهَا ، ثُمّ نَهَشَتْ سَامَةَ فَقَتَلَتْهُ . فَقَالَ سَامَةُ حِينَ أَحَسّ
بِالْمَوْتِ فِيمَا يَزْعُمُونَ [ ص 195 ]
عَيْنُ فَابْكِي لِسَامَةَ بْنِ لُؤَيّ ... عَلِقَتْ مَا بِسَامَةَ الْعَلّاقَهْ
لَا أَرَى مِثْلَ سَامَةَ بْنِ لُؤَيّ ... يَوْمَ حَلّوا بِهِ قَتِيلًا لِنَاقَهْ
بَلّغَا عَامِرًا وَكَعْبًا رَسُولًا ... أَنّ نَفْسِي إلَيْهِمَا مُشْتَاقَهْ
إنْ تَكُنْ فِي عُمَانَ دَارِي ، فَإِنّي ... غَالِبِيّ ، خَرَجْت مِنْ غَيْرِ
نَاقَهْ
رُبّ كَأْسٍ هَرَقَتْ يَا ابْنَ لُؤَيّ ... حَذَرَ الْمَوْتِ لَمْ تَكُنْ
مُهْرَاقَهْ
رُمْت دَفْعَ الْحُتُوفِ يَا ابْنَ لُؤَيّ ... مَا لِمَنْ رَامَ ذَاكَ بِالْحَتْفِ
طَاقَهْ
وَخُرُوسِ السّرَى تَرَكْت رَذِيّا ... بَعْدَ جِدّ وَجِدّةٍ وَرَشَاقَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي أَنّ بَعْضَ وَلَدِهِ أَتَى رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَانْتَسَبَ إلَى سَامَةَ بْنِ لُؤَيّ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " آلشّاعِرِ " ؟
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ كَأَنّك يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَدْت قَوْلَهُ
رُبّ كَأْسٍ هَرَقَتْ يَا بْنَ لُؤَيّ ... حَذَرَ المَوْتِ لَمْ تَكُنْ
مُهْرَاقَهْ
قَالَ أَجَلْ .Sوَذَكَرَ
حَدِيثَ سَامَةَ بْنِ لُؤَيّ حِينَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَحَدُ بَنِيهِ فَانْتَسَبَ لَهُ إلَى سَامَةَ فَقَالَ لَهُ
عَلَيْهِ السّلَامُ آلشّاعِرِ بِخَفْضِ الرّاءِ مِنْ الشّاعِرِ كَذَا قَيّدَهُ
أَبُو بَحْرٍ عَلَى أَبِي [ ص 194 ] كَلَامِ الْمُخَاطَبِ وَإِنْ كَانَ
الِاسْتِفْهَامُ لَا يَعْمَلُ مَا قَبْلَهُ فِيمَا بَعْدَهُ وَلَكِنّ الْعَامِلَ
مُقَدّرٌ بَعْدَ الْأَلِفِ فَإِذَا قَالَ لَك الْقَائِلُ قَرَأْت عَلَى زَيْدٍ
مَثَلًا ، فَقُلْت : آلْعَالِمِ بِالِاسْتِفْهَامِ كَأَنّك قُلْت لَهُ أَعَلَى
الْعَالِمِ وَنَظِيرُ هَذَا أَلِفُ الْإِنْكَارِ إذَا قَالَ الْقَائِلُ مَرَرْت
بِزَيْدِ فَأَنْكَرْت عَلَيْهِ فَقُلْت أَزَيْدَنِيهِ بِخَفْضِ الدّالِ
وَبِالنّصْبِ إذَا قَالَ رَأَيْت زَيْدًا ، قُلْت : أَزَيْدَنِيهِ وَكَذَلِكَ
الرّفْعُ . وَمِنْ بَنِي سَامَةَ هَذَا : مُحَمّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ بْنِ
الْيَزِيدِ شَيْخِ الْبُخَارِيّ ، وَبَنُو سَامَةَ بْنِ لُؤَيّ زَعَمَ بَعْضُ
النّسّابِ أَنّهُ أَدْعِيَاءٌ وَأَنّ سَامَةَ لَمْ يُعَقّبْ وَقَالَ الزّبَيْرُ
وَلَدَ سَامَةُ غَالِبًا وَالنّبِيتَ وَالْحَارِثَ . وَأُمّ غَالِبٍ نَاجِيَةُ
بِنْتُ جَرْمِ بْنِ زَبّانَ وَاسْمُهَا : لَيْلَى سُمّيَتْ نَاجِيَةً لِأَنّهَا
عَطِشَتْ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَجَعَلَ زَوْجُهَا يَقُولُ لَهَا : اُنْظُرِي إلَى
الْمَاءِ وَهُوَ يُرِيهَا السّرَابَ حَتّى نَجَتْ فَسُمّيَتْ نَاجِيَةً وَإِلَيْهَا
يُنْسَبُ [ بَكْرُ بْنُ قَيْسٍ ] أَبُو الصّدّيقِ النّاجِي الّذِي يَرْوِي عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ وَأَبُو الْمُتَوَكّلِ النّاجِي ، وَكَثِيرًا مَا
يُخَرّجُ عَنْهُ التّرْمِذِيّ ، وَكَانَ بَنُو سَامَةَ بِالْعِرَاقِ أَعْدَاءً
لِعَلِيّ - رَحِمَهُ اللّهُ - وَاَلّذِينَ خَالَفُوا عَلِيّا مِنْهُمْ بَنُو
عَبْدُ الْبَيْتِ وَمِنْهُمْ عَلِيّ بْنُ الْجَهْمِ الشّاعِرُ قِيلَ إنّهُ كَانَ
يَلْعَنُ أَبَاهُ لَمّا سَمّاهُ عَلِيّا بُغْضًا مِنْهُ فِي عَلِيّ - رَحِمَهُ
اللّهُ - ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيّ .
الرّسُولُ وَالْمُرْسَلُ
وَقَوْلُهُ بَلّغَا عَامِرًا وَكَعْبًا رَسُولًا . يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا
مَفْعُولٌ بِبَلّغَا إذَا جَعَلَتْ الرّسُولَ بِمَعْنَى : الرّسَالَةِ كَمَا قَالَ
الشّاعِرُ
لَقَدْ كَذّبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْت عِنْدهمْ ... بِلَيْلَى ، وَلَا أَرْسَلْتهمْ
بِرَسُولِ
أَيْ بِرِسَالَةِ وَإِنّمَا سَمّوْا الرّسَالَةَ رَسُولًا إذَا كَانَتْ كِتَابًا ،
أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْكِتَابِ مِنْ شِعْرٍ مَنْظُومٍ كَأَنّهُمْ كَانُوا
يُقِيمُونَ الشّعْرَ مَقَامَ الْكِتَابِ فَتَبْلُغُهُ الرّكْبَانُ كَمَا تَبْلُغُ
الْكِتَابَ يُعْرِبُ [ ص 195 ] فَسُمّيَ رَسُولًا . وَبَيْنَ الرّسُولِ
وَالْمُرْسَلِ مَعْنًى دَقِيقٌ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي فَهْمِ قَوْلِ اللّهِ عَزّ
وَجَلّ { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنّاسِ رَسُولًا } [ النّسَاءُ 79 ] فَإِنّهُ لَا
يَحْسُنُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُقَالَ أَرْسَلْنَاك مُرْسَلًا ، وَلَا
نَبّأْنَاك تَنْبِيئًا ، كَمَا لَا يَحْسُنُ ضَرَبْنَاك مَضْرُوبًا ، وَلِكَشْفِ
هَذَا الْمَعْنَى وَإِيضَاحِهِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا ، وَاخْتِصَارُ الْقَوْلِ
فِيهِ أَنْ لَيْسَ كُلّ مُرْسَلٍ رَسُولًا ، فَالرّيَاحُ مُرْسَلَاتٌ وَالْحَاصِبُ
مُرْسَلٌ وَكَذَلِكَ كُلّ عَذَابٍ أَرْسَلَهُ اللّهُ وَإِنّمَا الرّسُولُ اسْمٌ
لِلْمُبَلّغِ عَنْ الْمُرْسِلِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا حَالٌ مِنْ
قَوْلِهِ بَلّغَا عَامِرًا وَكَعْبًا رَسُولًا ؛ إذْ قَدْ يُعَبّرُ بِالْوَاحِدِ
عَنْ الِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ فِي مِثْلِ هَذَا اللّفْظِ تَقُولُ أَنْتُمْ
رَسُولِي ، وَهِيَ رَسُولِي ، تُسَوّي بَيْنَ الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ
وَالْمُذّكّرِ وَالْمُؤَنّثِ . وَفِي التّنْزِيلِ { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا
إِنّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ } [ الشّعَرَاءُ 16 ] فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ
عَلَى هَذَا : أَنّ نَفْسِي إلَيْهِمَا مُشْتَاقَةٌ وَيَكُونُ أَنْ عَلَى
الْقَوْلِ الْأَوّلِ بَدَلًا مِنْ رَسُولٍ أَيْ رِسَالَةً . وَقَوْلُهُ وَخَرُوسِ
السّرَى تَرَكْت رَذِيّا . إنْ خَفَضْت فَمَعْنَاهُ رُبّ خَرُوسِ السّرَى تَرَكْت
، فَتَرَكْت فِي مَوْضِعِ الصّفَةِ لِخَرُوسِ وَإِنْ نَصَبْت جَعَلْتهَا
مَفْعُولًا بِتَرَكْت ، وَلَمْ يَكُنْ تَرَكْت فِي مَوْضِعِ صِفَةٍ لِأَنّ
الصّفَةَ لَا تَعْمَلُ فِي الْمَوْصُوفِ وَالسّرَى : فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ
لِخَرُوسِ عَلَى الْمَجَازِ كَمَا تَقُولُ نَامَ لَيْلُك . يُرِيدُ نَاقَةً
صَمُوتًا صَبُورًا عَلَى السّرَى ، لَا تَضْجَرُ مِنْهُ فَسُرَاهَا كَالْأَخْرَسِ
وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ
كَتُومٌ إذَا ضَجّ الْمَطِيّ ، كَأَنّمَا ... تَكَرّمَ عَنْ أَخْلَاقِهِنّ
وَتَرْغَبُ
[ ص 196 ] الْأَعْشَى :
كَتُومُ الرّغَاءِ إذَا هَجّرَتْ ... وَكَانَتْ بَقِيّةُ ذَوْدٍ كُتُمْ
وَإِنّمَا قَالَ خَرُوسٌ فِي مَعْنَى الْأَخْرَسِ لِأَنّهُ أَرَادَ كَتُومًا ،
فَجَاءَ بِهِ عَلَى وَزْنِهِ . قَالَ الْبَرْقِيّ وَكُنْت مَاوِيّةُ بِنْتُ كَعْبٍ
تُحِبّ سَامَةَ أَكْثَرَ مِنْ إخْوَتِهِ وَكَانَتْ تَقُولُ وَهِيَ تُرْقِصُهُ
صَغِيرًا :
وَإِنّ ظَنّي بِابْنِي إنْ كَبَنْ ... أَنْ يَشْتَرِيَ الْحَمْدَ وَيُغْلِيَ
بِالثّمَنْ
وَيَهْزِمُ الْجَيْشَ إذَا الْجَيْشُ أَرْجَحَن ... وَيُرَوّي الْعَيْمَانَ مِنْ
مَحْضِ اللّبَنْ
يُقَالُ كَبَنَ وَأَكْبَنَ إذَا اشْتَدّ . [ ص 197 ] وَذَكَرَ قَوْلَ جَرِيرٍ
لِبَنِي جُشَمِ بْنِ لُؤَيّ
بَنِي جُشَمٍ لَسْتُمْ لِهَزّانَ فَانْتَمُوا ... لِأَعْلَى الرّوَابِي مِنْ
لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ
يُقَالُ إنّهُمْ أَعْطَوْا جَرِيرًا عَلَى هَذَا الشّعْرِ أَلْفَ عِيرٍ رُبَيّ
وَكَانُوا يَنْتَسِبُونَ إلَى رَبِيعَةَ ، فَمَا انْتَسَبُوا بَعْدُ إلّا
لِقُرَيْشِ .
أَمْرُ
عَوْفِ بْنِ لُؤَيّ وَنَقْلَتِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 196 ] خَرَجَ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - فِي رَكْبٍ مِنْ
قُرَيْشٍ ، حَتّى إذَا كَانَ بِأَرْضِ غَطَفَانَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ
عَيْلَانَ أُبْطِئَ بِهِ فَانْطَلَقَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَأَتَاهُ
ثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْدٍ وَهُوَ أَخُوهُ فِي نَسَبِ بَنِي ذُبْيَانَ - ثَعْلَبَةُ
بْنُ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بِغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ . وَعَوْفُ
بْنُ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بِغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ - فَحَبَسَهُ
وَزَوّجَهُ وَالْتَاطَهُ وَآخَاهُ فَشَاعَ نَسَبُهُ فِي بَنِي ذُبْيَانَ .
وَثَعْلَبَةُ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - الّذِي يَقُولُ لِعَوْفِ حِينَ أُبْطِئَ بِهِ
فَتَرَكَهُ قَوْمُهُ
احْبِسْ عَلَى ابْنِ لُؤَيّ جَمَلَك ... تَرَكَك الْقَوْمُ وَلَا مَتْرَك لَك
مَكَانَةُ مُرّةَ وَنَسَبُهُ وَسَادَاتُ مُرّةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنُ الزّبَيْرِ ،
أَوْ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حُصَيْنٍ أَنّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ قَالَ لَوْ كُنْت مُدّعِيًا حَيّا مِنْ الْعَرَبِ ، أَوْ
مُلْحِقُهُمْ بِنَا لَادّعَيْت بَنِي مُرّةَ بْنِ عَوْفٍ ، إنّا لَنَعْرِفُ
فِيهِمْ الْأَشْبَاهَ مَعَ مَا نَعْرِفُ مِنْ مَوْقِعِ ذَلِكَ الرّجُلِ حَيْثُ
وَقَعَ يَعْنِي : عَوْفَ بْنَ لُؤَيّ . [ ص 197 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَهُوَ
فِي نَسَبِ غَطَفَانَ : مُرّةُ بْنُ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ
بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ . وَهُمْ يَقُولُونَ إذَا ذُكِرَ لَهُمْ هَذَا
النّسَبُ مَا نُنْكِرُهُ وَمَا نَجْحَدُهُ وَإِنّهُ لَأَحَبّ النّسَبِ إلَيْنَا .
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ - قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : أَحَدُ بَنِي مُرّةَ بْنِ عَوْفِ حِينَ هَرَبَ مِنْ النّعْمَانِ بْنِ
الْمُنْذِرِ ، فَلَحِقَ بِقُرَيْشِ
فَمَا قَوْمِي بِثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدٍ ... وَلَا بِفَزَارَةَ الشّعْرِ
الرّقَابَا
وَقَوْمِي - إنْ سَأَلْت - بَنُو لُؤَيّ ... بِمَكّةَ عَلِمُوا مُضَرَ الضّرَابَا
سَفِهْنَا بِاتّبَاعِ نَبِيّ بَغِيضٍ ... وَتَرْكِ الْأَقْرَبِينَ لَنَا
انْتِسَابَا
سَفَاهَةَ مُخْلِفٍ لَمّا تَرَوّى ... هَرَاقَ الْمَاءَ وَاتّبَعَ السّرَابَا
فَلَوْ - طُووِعْت - عَمْرَك - كُنْت فِيهِمْ ... وَمَا أَلْفَيْت أَنْتَجِعُ
السّحَابَا
وَخَشّ رَوَاحَةُ الْقُرَشِيّ رَحْلِي ... بِنَاجِيَةِ وَلَمْ يَطْلُبْ ثَوَابَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا مَا أَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْهَا . [ ص 198 ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ [ أَبُو زَيْدٍ ] الْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ [
بْنُ رَبِيعَةَ ] الْمُرّيّ ثُمّ أَحَدُ بَنِي سَهْمِ بْنِ مُرّةَ يَرُدّ عَلَى
الْحَارِثِ بْنِ ظَالِمٍ ، وَيَنْتَمِي إلَى غَطَفَانَ :
أَلَا لَسْتُمْ مِنّا ، وَلَسْنَا إلَيْكُمْ ... بَرِئْنَا إلَيْكُمْ مِنْ لُؤَيّ
بْنِ غَالِبِ
أَقَمْنَا عَلَى عِزّ الْحِجَازِ وَأَنْتُمْ ... بِمُعْتَلَجِ الْبَطْحَاءِ بَيْنَ
الْأَخَاشِبِ
يَعْنِي : قُرَيْشًا . ثُمّ نَدِمَ الْحُصَيْنُ عَلَى مَا قَالَ وَعَرَفَ مَا
قَالَ الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمٍ ، فَانْتَمَى إلَى قُرَيْشٍ ، وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ
فَقَالَ
نَدِمْت عَلَى قَوْلٍ مَضَى كُنْت قُلْته ... تَبَيّنْت فِيهِ أَنّهُ قَوْلُ
كَاذِبٍ
فَلَيْتَ لِسَانِي كَانَ نِصْفَيْنِ مِنْهُمَا ... بَكِيمٌ وَنِصْفٌ عِنْدَ
مَجْرَى الْكَوَاكِبِ
أَبُونَا كِنَانِيّ بِمَكّةَ قَبْرُهُ ... بِمُعْتَلَجِ الْبَطْحَاءِ بَيْنَ
الْأَخَاشِبِ
لَنَا الرّبُعُ مِنْ بَيْتِ الْحَرَامِ وِرَاثَةً ... وَرُبْعُ الْبِطَاحِ عِنْدَ
دَارِ ابْنِ حَاطِبِ
أَيْ أَنّ بَنِي لُؤَيّ كَانُوا أَرْبَعَةً كَعْبًا ، وَعَامِرًا ، وَسَامَةَ
وَعَوْفًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ أَنّ عُمَرَ
بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ لِرِجَالِ مِنْ بَنِي مُرّةَ إنْ
شِئْتُمْ أَنْ تَرْجِعُوا إلَى نَسَبِكُمْ ، فَارْجِعُوا إلَيْهِ . [ ص 199 ]
ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ الْقَوْمُ أَشْرَافًا فِي غَطَفَانَ ، هُمْ سَادَتُهُمْ
وَقَادَتُهُمْ . مِنْهُمْ هَرَمُ بْنُ سِنَانِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ وَخَارِجَةُ
بْنُ سِنَانِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ
الْحُمَامِ ، وَهَاشِمُ بْنُ حَرْمَلَةَ الّذِي يَقُولُ لَهُ الْقَائِلُ أَحْيَا
أَبَاهُ هَاشِمُ بْنُ حَرْمَلَهْ
يَوْمَ الْهَبَاءَاتِ وَيَوْمَ الْيَعْمَلَهْ
تَرَى الْمُلُوكَ عِنْدَهُ مُغَرْبَلَهْ
يَقْتُلُ ذَا الذّنْبِ وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ
لِعَامِرِ الْخَصَفِيّ خَصَفَةُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ أَحْيَا أَبَاهُ
هَاشِمُ بْنُ حَرْمَلَهْ
يَوْمَ الْهَبَاءَاتِ وَيَوْمَ الْيَعْمَلَهْ
تَرَى الْمُلُوكَ عِنْدَهُ مُغَرْبَلَهْ
يَقْتُلُ ذَا الذّنْبِ وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهْ
وَرُمْحُهُ لِلْوَالِدَاتِ مَثْكَلَهْ
[ ص 200 ] قَالَ لِعَامِرِ قُلْ فِيّ بَيْتًا جَيّدًا أُثِبْك عَلَيْهِ فَقَالَ
عَامِرٌ الْبَيْتَ الْأَوّلَ فَلَمْ يُعْجِبْ هَاشِمًا ، ثُمّ قَالَ الثّانِي ،
فَلَمْ يُعْجِبْهُ ثُمّ قَالَ الثّالِثُ فَلَمْ يُعْجِبْهُ فَلَمّا قَالَ
الرّابِعُ
يَقْتُلُ ذَا الذّنْبِ ... وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهْ
أَعْجَبَهُ فَأَثَابَهُ عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَلِكَ الّذِي أَرَادَ
الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْأَخْنَسِ الْأَسَدِيّ فِي قَوْلِهِ
وَهَاشِمُ مُرّةَ الْمُفْنِي مُلُوكًا ... بِلَا ذَنْبٍ إلَيْهِ وَمُذْنِبِينَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَوْلُ عَامِرٍ يَوْمَ الْهَبَاءَاتِ .
عَنْ غَيْرِ أَبِي عُبَيْدٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْمٌ لَهُمْ صِيتٌ وَذِكْرٌ
فِي غَطَفَانَ وَقَيْسٍ كُلّهَا ، فَأَقَامُوا عَلَى نَسَبِهِمْ وَفِيهِمْ كَانَ
الْبَسْلُ .Sوَذَكَرَ
شِعْرَ الْحَارِثِ بْنِ ظَالِمٍ . وَقَوْلُهُ سَفَاهَةَ مُخْلِفٍ وَهُوَ
الْمُسْتَقِي [ لِلْمَاءِ ] ، وَفِيهِ لَمْ يَذْكُرْ
لَعَمْرُك إنّنِي لَأُحِبّ كَعْبًا ... وَسَامَةَ إخْوَتِي حُبّي الشّرَابَا
وَقَوْلُهُ وَخَشّ رَوَاحَةُ الْقُرَشِيّ رَحْلِي بِنَاجِيَةِ . أَيْ بِنَاقَةِ
سَرِيعَةٍ يُقَالُ خَشّ السّهْمَ بِالرّيْشِ إذَا رَاشَهُ بِهِ فَأَرَادَ رَاشَنِي
وَأَصْلَحَ رَحْلِي بِنَاجِيَةِ وَلَمْ يَطْلُبْ ثَوَابًا بِمَدْحِهِ بِذَلِكَ .
وَرَوَاحَةُ هَذَا : هُوَ رَوَاحَةُ بْنُ مُنْقِذِ بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ
كَانَ قَدْ رَبَعَ فِي الْجَاهِلِيّةِ أَيْ رَأَسَ وَأَخَذَ الْمِرْبَاعَ .
وَقَوْلُهُ لَوْ طُووِعْت عَمْرَك كُنْت فِيهِمْ وَنَصَبَ عَمْرَك عَلَى الظّرْفِ
. وَقَوْلُهُ وَمَا أَلْفَيْت أَنْتَجِعُ السّحَابَا . أَيْ كَانُوا يُغْنُونَنِي
بِسَيْبِهِمْ وَمَعْرُوفِهِمْ عَنْ انْتِجَاعِ السّحَابِ وَارْتِيَادِ الْمَرَاعِي
فِي الْبِلَادِ . [ ص 198 ] الْحَصِينِ بِمُعْتَلَجِ الْبَطْحَاءِ : أَيْ حَيْثُ
تَعْتَلِجُ السّيُولِ وَالِاعْتِلَاجُ عَمَلٌ بِقُوّةِ قَالَ الشّاعِرُ
لَوْ قُلْت لِلسّيْلِ دَعْ طَرِيقَك وَالٍ ... سّيْلُ كَمِثْلِ الْهِضَابِ
يَعْتَلِجُ
وَفِي الْحَدِيثِ إنّكُمَا عِلْجَانِ فَعَالِجَا عَنْ دِينِكُمَا ، وَفِي
الْحَدِيثِ إنّ الدّعَاءَ لَيَلْقَى الْبَلَاءَ نَازِلًا مِنْ السّمَاءِ
فَيَعْتَلِجَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْ يَتَدَافَعَانِ بِقُوّةِ .
وَقَوْلُهُ لَنَا الرّبُعُ بِضَمّ الرّاءِ يُرِيدُ أَنّ بَنِي لُؤَيّ كَانُوا
أَرْبَعَةً أَحَدُهُمْ أَبُوهُمْ وَهُوَ عَوْفٌ وَبَنُو لُؤَيّ هُمْ أَهْلُ
الْحَرَمِ ، وَلَهُمْ وِرَاثَةُ الْبَيْتِ . وَالْأَخَاشِبُ : جِبَالُ مَكّةَ ،
وَقَدْ يُقَالُ لِكُلّ جَبَلٍ أَخْشَبُ أَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدٍ : كَأَنّ فَوْقَ
مَنْكِبَيْهِ أَخْشَبَا
وَذَكَرَ خَارِجَةَ بْنَ سِنَانٍ الّذِي تَزْعُمُ قَيْسٌ أَنّ الْجِنّ
اخْتَطَفَتْهُ لِتَسْتَفْحِلَهُ نِسَاءَهَا لِبَرَاعَتِهِ [ ص 199 ] نَسْلِهِ
وَقَدْ قَدِمَتْ بِنْتُهُ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ لَهَا : مَا كَانَ أَبُوك أَعْطَى
زُهَيْرًا حِينَ مَدَحَهُ فَقَالَتْ أَعْطَاهُ مَالًا وَرَقِيقًا وَأَثَاثًا
أَفْنَاهُ الدّهْرُ فَقَالَ لَكِنْ مَا أَعْطَاكُمْ زُهَيْرٌ لَمْ يُفْنِهِ
الدّهْرُ وَكَانَ خَارِجَةُ بَقِيرًا أَمَرَتْ أُمّهُ عِنْدَ مَوْتِهَا أَنْ
يُبْقَرَ بَطْنُهَا عَنْهُ فَفَعَلُوا فَخَرَجَ حَيّا ، فَسُمّيَ خَارِجَةَ
وَيُقَالُ لِلْبَقِيرِ خِشْعَةُ قَالَ الْحَطِيئَةُ يَعْنِي خَارِجَةَ بْنِ
سِنَانٍ
لَقَدْ عَلِمَتْ خَيْلُ ابْنِ خِشْعَةَ أَنّهَا ... مَتَى مَا يَكُنْ يَوْمًا
جِلَادٌ تُجَالِدُ
وَقَوْلُ عَامِرٍ تَرَى الْمُلُوكَ حَوْلَهُ مُغَرْبَلَهْ . قِيلَ مَعْنَاهُ
مُنْتَفِخَةٌ وَذَكَرُوا أَنّهُ يُقَالُ غَرْبَلَ الْقَتِيلُ إذَا انْتَفَخَ
وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَإِنْ كَانَ أَبُو عُبَيْدٍ قَدْ ذَكَرَهُ فِي
الْغَرِيبِ الْمُصَنّفِ وَأَيْضًا : فَإِنّ الرّوَايَةَ بِفَتْحِ الْبَاءِ
مُغَرْبَلَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ يَتَخَيّرُ الْمُلُوكَ فَيَقْتُلُهُمْ
وَاَلّذِي أَرَاهُ فِي ذَلِكَ أَنّهُ يُرِيدُ بِالْغَرْبَلَةِ اسْتِقْصَاءَهُمْ
وَتَتْبَعُهُمْ كَمَا قَالَ مَكْحُولٌ الدّمَشْقِيّ : وَدَخَلَتْ الشّامَ ،
فَغَرْبَلْتهَا غَرْبَلَةً حَتّى لَمْ أَدَعْ عِلْمًا إلّا حَوَيْته ، فِي كُلّ
ذَلِكَ أَسْأَلُ عَنْ الْبَقْلِ . [ ص 200 ] وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَمَعْنَى هَذَا
: التّتَبّعُ وَالِاسْتِقْصَاءُ وَكَأَنّهُ مِنْ غَرْبَلْت الطّعَامَ . إذَا
تَتَبّعْته بِالِاسْتِخْرَاجِ حَتّى لَا تَبْقَى إلّا الْحُثَالَةُ . وَقَوْلُهُ
يَقْتُلُ ذَا الذّنْبِ وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهْ
إنّمَا أَعْجَبَ هَاشِمًا هَذَا الْبَيْتُ لِأَنّهُ وَصَفَهُ فِيهِ بِالْعِزّ
وَالِامْتِنَاعِ وَأَنّهُ لَا يَخَافُ حَاكِمًا يُعْدِي عَلَيْهِ وَلَا تِرَةً
مِنْ طَالِبِ ثَأْرٍ . وَهَاشِمُ بْنُ حَرْمَلَةَ هَذَا هُوَ جَدّ مَنْظُورُ بْنُ
زَبّانَ بْنِ يَسَارٍ الّذِي كَانَتْ بِنْتُهُ زُجْلَةَ عِنْدَ ابْنِ الزّبَيْرِ
فَهُوَ جَدّ مَنْظُورٍ لِأُمّهِ وَاسْمُهَا : قِهْطِمُ بِنْتُ هَاشِمٍ . كَانَتْ
قِهْطِمُ قَدْ حَمَلَتْ بِمَنْظُورِ أَرْبَعَ سِنِينَ وَوَلَدَتْهُ بِأَضْرَاسِهِ
فَسُمّيَ مَنْظُورًا لِطُولِ انْتِظَارِهِمْ إيّاهُ وَفِي زَبّانَ بْنِ سَيّارٍ
وَالِدِ مَنْظُورٍ يَقُولُ الْحُطَيْئَةُ
وَفِي آلِ زَبّانَ بْنِ سَيّارَ فِتْيَةٌ ... يَرَوْنَ ثَنَايَا الْمَجْدَ سَهْلًا
صِعَابُهَا
وَلَمْ يَصْرِفْ سَيّارًا لِمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ - إنْ شَاءَ اللّهُ .
مُزَيْنَةُ
وَذَكَرَ زُهَيْرًا وَنَسَبَهُ إلَى مُزَيْنَةَ ، وَهُمْ بَنُو عُثْمَانَ بْنِ
عَمْرِو بْنِ الْأُطُمِ بْنِ أَدّ بْنِ طَابِخَةَ . قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ :
فَإِنّك خَيْرُ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرٍو ... وَأَسْنَاهَا إذَا ذُكِرَ السّنَاءُ
[ ص 201 ] مُزَيْنَةَ ، وَمُزَيْنَةُ : أُمّهُمْ وَهِيَ بِنْتُ كَلْبِ بْنِ
وَبْرَةَ وَأُخْتُهَا : الْحَوْأَبُ بِنْتُ كَلْبٍ الّتِي يُعْرَفُ بِهَا مَاءُ
الْحَوْأَبِ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيّتُكُنّ صَاحِبَةُ الْجَمَلِ
الْأَدْبَبِ تَنْبَحُهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ .
أَمْرُ
الْبَسْلِ
[ ص 201 ] الْعَرَبِ قَدْ عَرَفَتْ ذَلِكَ لَهُمْ الْعَرَبُ لَا يُنْكِرُونَهُ
وَلَا يَدْفَعُونَهُ يَسِيرُونَ بِهِ إلَى أَيّ بِلَادِ الْعَرَبِ شَاءُوا ، لَا
يَخَافُونَ مِنْهُمْ شَيْئًا . قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى ، يَعْنِي بَنِي
مُرّةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : زُهَيْرٌ أَحَدُ بَنِي مُزَيْنَةَ بْنِ أُدّ بْنِ
طَابِخَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ ، وَيُقَالُ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى
مِنْ غَطَفَانَ ، وَيُقَالُ حَلِيفٌ فِي غَطَفَانَ .
تَأَمّلْ فَإِنْ تُقْوِ الْمَرَوْرَاةُ مِنْهُمْ ... وَدَارَاتُهَا لَا تُقْوِ
مِنْهُمْ إذًا نَخْلُ
بِلَادٌ بِهَا نَادَمْتهمْ وَأَلِفْتهمْ ... فَإِنْ تُقْوِيَا مِنْهُمْ فَإِنّهُمْ
بَسْلُ
أَيْ حَرَامٌ . يَقُولُ سَارُوا فِي حَرَمِهِمْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَانِ
الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ أَعْشَى بَنِي
قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
أَجَارَتُكُمْ بَسْلٌ عَلَيْنَا مُحَرّمٌ ... وَجَارَتُنَا حِلّ لَكُمْ
وَحَلِيلُهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .Sالْبَسْلُ
وَذَكَرَ الْبَسْلَ وَهُوَ الْحَرَامُ وَالْبَسْلُ أَيْضًا : الْحَلَالُ فَهُوَ
مِنْ الْأَضْدَادِ وَمِنْهُ بُسْلَةُ الرّاقِي ، أَيْ مَا يَحِلّ لَهُ أَنْ
يَأْخُذَهُ عَلَى الرّقْيَةِ وَبَسْلٌ فِي الدّعَاءِ بِمَعْنَى : آمِينَ قَالَ
الرّاجِزُ [ الْمُتَلَمّسُ ] :
لَا خَابَ مِنْ نَفْعِك مَنْ رَجَاك ... بَسْلًا ، وَعَادَى اللّهُ مَنْ عَادَاك
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يَقُولُ فِي أَثَرِ الدّعَاءِ آمِينَ وَبَسْلًا ،
أَيْ اسْتِجَابَةً . [ ص 202 ] الْمَرَوْرَاةُ مِنْهُمْ . الْبَيْتُ وَقَعَ فِي
بَعْضِ النّسَخِ الْمَرَوْرَاتُ بِتَاءِ مَمْدُودَةٍ كَأَنّهُ جَمْعُ مَرَوْرٍ
وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مِثْلُ هَذَا الْبِنَاءِ وَإِنّمَا هُوَ الْمَرَوْرَاةُ
بِهَاءِ مِمّا ضُوعِفَتْ فِيهِ الْعَيْنُ وَاللّامُ فَهُوَ فَعَلْعَلَةٌ مِثْلُ
صَمَحْمَحَةٍ وَالْأَلِفُ فِيهِ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ أَصْلِيّةٍ وَهَذَا
قَوْلُ سِيبَوَيْهِ جَعَلَهُ مِثْلَ شَجَوْجَاةٍ وَأَبْطَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ
بَابِ عَثَوْثَلٍ وَقَالَ ابْنُ السّرّاجِ فِي قَطَوْطَاةٍ وَهُوَ مِثْلُ
مَرَوْرَاةٍ هُوَ فَعَوْعَلٌ مِثْلُ عَثَوْثَلٍ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِيهِ إنّهُ
مِنْ بَابِ صَمَحْمَحَةٍ فَالْوَاوُ زَائِدَةٌ عَلَى قَوْلِ ابْنِ السّرّاجِ
وَوَزْنُهُ عِنْدَهُ فَعَوْعَلَةٌ .
أَوْلَادُ
كَعْبٍ وَمُرّةَ وَأُمّهَاتُهُمْ
[ ص 202 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ
مُرّةَ بْنَ كَعْبٍ ، وَعَدِيّ بْنَ كَعْبٍ ، وَهُصَيْصَ بْنَ كَعْبٍ . وَأُمّهُمْ
وَحْشِيّةُ بِنْتُ شَيْبَانَ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
النّضْرِ . فَوَلَدَ مُرّةُ بْنُ كَعْبٍ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ كِلَابَ بْنَ مُرّةَ ،
وَتَيْمَ بْنَ مُرّةَ وَيَقَظَةَ بْنَ مُرّةَ . فَأُمّ كِلَابٍ هِنْدُ بِنْتُ
سُرَيْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ [ فِهْرِ بْنِ ] مَالِكِ بْنِ
كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ . وَأُمّ يَقَظَةَ الْبَارِقِيّةُ امْرَأَةٌ مِنْ
بَارِقَ ، مِنْ الْأُسْدِ مِنْ الْيَمَنِ . وَيُقَالُ هِيَ أُمّ تَيْمٍ .
وَيُقَالُ تَيْمٌ هِنْدُ بِنْتُ سُرَيْرٍ أُمّ كِلَابٍ .Sأَعْلَامٌ
وَأَنْسَابٌ
وَذَكَرَ هُصَيْصَ بْنَ كَعْبٍ وَهُوَ فُعَيْلٌ مِنْ الْهَصّ وَهُوَ الْقَبْضُ
بِالْأَصَابِعِ . مِنْ كِتَابِ الْعَيْنِ . وَذَكَرَ يَقَظَةَ بْنَ مُرّةَ
بِفَتْحِ الْقَافِ وَقَدْ وَجَدْته بِسُكُونِ الْقَافِ فِي أَشْعَارٍ مُدِحَ بِهَا
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، فَمِنْهَا قَوْلُ الشّاعِرِ
وَأَنْتَ لِمَخْزُومِ بْنِ يَقْظَةَ جَنّةٌ ... كِلَا اسْمَيْك فِيهَا مَاجِدٌ
وَابْنُ مَاجِدِ
وَأُمّ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ جَدّ بَنِي مَخْزُومٍ كَلْبَةُ بِنْتُ عَامِرِ
بْنِ لُؤَيّ . قَالَهُ الزّبَيْرُ .
نَسَبُ
بَارِقَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [ ص 203 ] بَارِقُ : بَنُو عَدِيّ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ
عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ
مَازِنِ بْنِ الْأُسْدِ بْنِ الْغَوْثِ ، وَهُمْ فِي شَنُوءَةَ . قَالَ
الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ
وَأَزْدُ شَنُوءَةَ انْدَرَءُوا عَلَيْنَا ... بِجُمّ يَحْسَبُونَ لَهَا قَرُونَا
فَمَا قُلْنَا لِبَارِقَ : قَدْ أَسَأْتُمْ ... وَمَا قُلْنَا لِبَارِقَ :
أَعْتِبُونَا
قَالَ وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَإِنّمَا سُمّوا بِبَارِقَ ؛
لِأَنّهُمْ تَبِعُوا الْبَرْقَ .S[ ص 203 ] بَارِقَ ،
وَهُمْ بَنُو عَدِيّ بْنِ الْأَزْدِ ، وَقَالَ سُمّوا : بَارِقَ ؛ لِأَنّهُمْ
اتّبَعُوا الْبَرْقَ ، وَقَدْ قِيلَ إنّهُمْ نَزَلُوا عِنْدَ جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ
بَارِقُ ، فَسُمّوا بِهِ . وَقَوْلُ الْكُمَيْتِ بِجُمّ يَحْسَبُونَ لَهَا
قُرُونًا . أَيْ يُنَاطِحُونَ بِلَا عُدّةٍ وَلَا مِنّةٍ كَالْكِبَاشِ الْجُمّ
الّتِي لَا قُرُونَ لَهَا ، وَيَحْسَبُونَ أَنّ لَهُمْ قُوّةً . وَالْكُمَيْتُ
هَذَا هُوَ ابْنُ زَيْدِ أَبُو الْمُسْتَهِلّ مِنْ بَنِي أَسْدٍ . وَفِي أَسْدٍ :
الْكُمَيْتُ بْنُ مَعْرُوفٍ كَانَ قَبْلَ هَذَا ، وَفِيهِمْ أَيْضًا الْكُمَيْتُ
بْنُ ثَعْلَبَةَ وَهُوَ أَقْدَمُ الثّلَاثَةِ وَابْنُ مَعْرُوفٍ هُوَ الّذِي
يَقُولُ
خُذُوا الْعَقْلَ إنْ أَعْطَاكُمْ الْقَوْمُ عَقْلَكُمْ ... وَكُونُوا كَمَنْ
سِيمَ الْهَوَانَ فَأَرْبَعَا
وَلَا تُكْثِرُوا فِيهِ الضّجَاجَ فَإِنّهُ ... مَحَا السّيْفُ مَا قَالَ ابْنُ
دَارَةَ أَجْمَعَا
وَلَدَا
كِلَابٍ وَأُمّهُمَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ كِلَابُ بْنُ مُرّةَ رَجُلَيْنِ قُصَيّ بْنَ
كِلَابٍ ، وَزُهْرَةَ بْنَ كِلَابٍ . وَأُمّهُمَا : فَاطِمَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ
سَيَلٍ أَحَدُ الْجَدَرَةِ مِنْ جُعْثُمَةَ الْأَزْدِ ، مِنْ الْيَمَنِ ،
حُلَفَاءُ فِي بَنِي الدّيلِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ .
نَسَبُ جُعْثُمَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ جُعْثُمَةُ الْأَسْدُ وَجُعْثُمَةُ الْأَزْدِ ،
وَهُوَ جُعْثُمَةُ بْنُ يَشْكُرَ بْنِ [ ص 204 ] دُهْمَانَ بْنِ نَصْرِ بْنِ
زَهْرَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
نَصْرِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ ، وَيُقَالُ جُعْثُمَةُ بْنُ يَشْكُرَ بْنِ مُبَشّرِ
بْنِ صَعْبِ بْنِ نَصْرِ بْنِ زَهْرَانَ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ .
وَإِنّمَا سُمّوا الْجَدَرَةَ لِأَنّ عَامِرَ بْنَ عَمْرِو بْنِ جُعْثُمَةَ
تَزَوّجَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيّ وَكَانَتْ جُرْهُمٌ
أَصْحَابَ الْكَعْبَةِ . فَبَنَى لِلْكَعْبَةِ جِدَارًا ، فَسُمّيَ عَامِرٌ
بِذَلِك : الْجَادِرَ فَقِيلَ لِوَلَدِهِ الْجَدَرَةُ لِذَلِكَ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَلِسَعْدِ بْنِ سَيَلٍ يَقُولُ الشّاعِرُ
مَا نَرَى فِي النّاسِ شَخْصًا وَاحِدًا ... مَنْ عَلِمْنَاهُ كَسَعْدِ بْنِ
سَيَلْ
فَارِسًا أَضْبَطَ فِيهِ عُسْرَةٌ ... وَإِذَا مَا وَاقَفَ الْقِرْنَ نَزَلْ
فَارِسًا يَسْتَدْرِجُ الْخَيْلَ كَمَا اس ... تدرج الْحُرّ الْقَطَامِيّ
الْحَجَلْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ كَمَا اسْتَدْرَجَ الْحُرّ . عَنْ بَعْضِ أَهْلِ
الْعِلْمِ بِالشّعْرِ .Sالْجَدَرَةُ
وَذَكَرَ الْجَدَرَةَ وَقَالَ هُمْ بَنُو عَامِرِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ جُعْثُمَةَ
وَفِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ [ ص 204 ] زِيَادَةُ خُزَيْمَةَ خَطَأٌ
إنّمَا هُوَ عَمْرُو بْنُ جُعْثُمَةَ وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ
السّيْلَ ذَاتَ مَرّةٍ دَخَلَ الْكَعْبَةَ ، وَصَدّعَ بُنْيَانَهَا ، فَفَزِعَتْ
لِذَلِكَ قُرَيْشٌ ، وَخَافُوا انْهِدَادَهَا إنْ جَاءَ سَيْلٌ آخَرُ وَأَنْ
يَذْهَبَ شَرَفُهُمْ وَدِينُهُمْ فَبَنَى عَامِرٌ لَهَا جِدَارًا ، فَسُمّيَ
الْجَادِرَ . وَقَوْلُهُ فِي الْجَدَرَةِ حُلَفَاءِ بَنِي الدّيلِ . الْمَعْرُوفُ
عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ أَنّ الدّيلَ فِي عَبْدِ الْقَيْسِ وَهُوَ الدّيلُ بْنُ
عَمْرِو بْنِ وَدِيعَةَ [ بْنِ أَفْصَى بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ ] ، وَالدّيلُ
أَيْضًا فِي الْأَزْدِ ، وَهُوَ ابْنُ هَدْهَادَ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ وَالدّيلُ أَيْضًا
فِي تَغْلِبَ وَهُوَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ تَغْلِبَ ،
وَالدّيلُ أَيْضًا فِي إيَادٍ ، وَهُوَ ابْنُ أُمَيّةَ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ
زُهَيْرِ بْنِ إيَادٍ ، وَأَمّا الّذِي فِي كِنَانَةَ وَهُمْ الّذِينَ يُنْسَبُ
إلَيْهِمْ أَبُو الْأَسْوَدِ الدّؤَلِيّ ، وَهُوَ ظَالِمُ بْنُ عَمْرٍو ، وَهُمْ
حُلَفَاءُ الْجَدَرَةِ فَابْنُ الْكَلْبِيّ وَمُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ وَغَيْرُهُمَا
مِنْ أَهْلِ النّسَبِ يَقُولُونَ فِيهِ الدّئِلُ بِضَمّ الدّالِ وَهَمْزَةٍ
مَكْسُورَةٍ وَيَنْسُبُونَ إلَيْهِ دُؤَلِيّ ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اللّغَةِ
مِنْهُمْ الْكِسَائِيّ وَيُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ وَالْأَخْفَشُ يَقُولُونَ فِيهِ
الدّيلُ بِكَسْرِ الدّالِ وَيَنْسُبُونَ إلَيْهِ الدّيلِيّ ، وَاخْتَارَهُ أَبُو
عُبَيْدَةَ قَالَ مُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ ابْنُ الْكَلْبِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ
النّسَبِ أَقْعَدُ بِهَذَا ، وَإِلَيْهِمْ يُرْجَعُ فِيمَا أَشْكَلَ مِنْ هَذَا
الْبَابِ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَأَمّا الدّوَلُ فَالدّوَلُ بْنُ حَنِيفَةَ وَاسْمُ
حَنِيفَةَ أُثَالُ بْنُ لُجَيْمِ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ
وَائِلٍ ، وَهُمْ رَهْطُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذّابِ ، وَفِي رَبِيعَةَ أَيْضًا ،
ثُمّ فِي عَمْرَةَ الدّوَلُ بْنُ صَبَاحٍ وَفِي الرّبَابِ : الدّوَلُ بْنُ جَلّ
بْنِ عَدِيّ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ أُدّ بْنِ طَابِخَةَ وَفِي الْأَسْدِ
الدّوَلُ بْنُ سَعْدِ مَنَاةَ بْنِ غَامِدٍ . [ ص 205 ] ابْنِ إسْحَاقَ فِي
الدّيلِ بْنِ بَكْرٍ بِكَسْرِ الدّالِ وَالْيَاءِ السّاكِنَةِ وَقَدْ وَافَقَهُ
عَلَى ذَلِكَ مِنْ النّسّابِ الْعَدَوِيّ وَابْنُ سَالِمٍ الجُمَحِيّ ، وَمَنْ
تَقَدّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللّغَةِ وَالدّأْلُ عَلَى وَزْنِ فَعْلٍ مِنْ دَأَلَ
يَدْأَلُ إذَا مَشَى بِعَجَلَةِ وَأَمّا الدّيلُ بِغَيْرِ هَمْزٍ فَكَأَنّهُ
سُمّيَ بِالْفِعْلِ مِنْ دِيلَ عَلَيْهِمْ مِنْ الدّوْلَةِ عَلَى وَزْنِ مَا لَمْ
يُسَمّ فَاعِلُهُ . وَقَدْ قِيلَ إنّ الدّئِلَ بْنَ بَكْرٍ سُمّيَ بِالدّئِلِ
وَهِيَ دُوَيْبّةٌ صَغِيرَةٌ وَأَنْشَدُوا لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ [ الْأَنْصَارِيّ
] :
جَاءُوا بِجَيْشِ لَوْ قِيسَ مُعْرَسُهُ ... مَا كَانَ إلّا كَمُعْرَسِ الدّئِلِ
وَأَنْشَدَ فِي سَعْدِ بْنِ سَيَلٍ وَاسْمُ سَيَلٍ خَيْرُ بْنُ حَمَالَةَ قَالَهُ
الطّبَرِيّ ، وَالسّيَلُ هُوَ السّنْبُلُ وَهُوَ أَوّلُ مَنْ حَلّى السّيُوفَ
بِالذّهَبِ وَالْفِضّةِ . [ ص 206 ] أَضْبَطَ فِيهِ عُسْرَةٌ الْأَضْبَطُ الّذِي
يَعْمَلُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ وَهُوَ مِنْ صِفَةِ الْأَسَدِ أَيْضًا ، قَالَ
الْجُمَيْحُ [ مُنْقِذُ بْنُ الطّمّاحِ الْأَسَدِيّ ] : ضَبْطَاءَ تَسْكُنُ
غَيْلًا غَيْرَ مَقْرُوبِ
وَقَوْلُهُ فِيهِ عُسْرَةٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا ، وَالِاسْمُ مِنْهُ
أَعْسَرُ .
عَوْدٌ
إلَى أَوْلَادِ كِلَابٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : [ ص 205 ] عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ،
وَأُمّهَا : فَاطِمَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ سَيَلٍ .
أَوْلَادُ قُصَيّ وَعَبْدِ مَنَافٍ وَأُمّهَاتُهُمْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ قُصَيّ بْنُ كِلَابٍ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ
وَامْرَأَتَيْنِ عَبْدَ مَنَافِ بْنَ قُصَيّ ، وَعَبْدَ الدّارِ بْنَ قُصَيّ ،
وَعَبْدَ الْعُزّى بْنَ قُصَيّ ، وَعَبْدَ بْنَ قُصَيّ ، وَتَخْمُرَ بِنْتَ قُصَيّ
، وَبَرّةَ بِنْتَ قُصَيّ . وَأُمّهُمْ حُبّى بِنْتُ حُلَيْلِ ابْنِ حَبَشِيّةَ
ابْنِ سَلُولَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَيُقَالُ حَبَشِيّةُ ابْنُ سَلُولَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ عَبْدُ
مَنَافٍ - وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ قُصَيّ - أَرْبَعَةَ نَفَرٍ هَاشِمَ بْنَ
عَبْدِ مَنَافٍ وَعَبْدَ شَمْسِ بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ وَالْمُطّلِبَ بْنَ عَبْدِ
مَنَافٍ ، وَأُمّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرّةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ فَالِجِ بْنِ
ذَكْوَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ
عِكْرِمَةَ ، وَنَوْفَلَ بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمّهُ وَاقِدَةُ بِنْتُ عَمْرٍو
الْمَازِنِيّةُ . مَازِنُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
فَبِهَذَا النّسَبِ خَالَفَهُمْ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرِ بْنِ وَهْبِ
بْنِ نُسَيْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَازِنِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ
عِكْرِمَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَبُو عَمْرٍو ، وَتُمَاضِرُ وَقِلَابَةُ
وَحَيّةُ وَرَيْطَةُ وَأُمّ الْأَخْثَمِ [ وَاسْمُهَا : هَالَةُ ] ، وَأُمّ
سُفْيَانَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ . فَأُمّ أَبِي عَمْرٍو : رَيْطَةُ امْرَأَةٌ مِنْ
ثَقِيفٍ ، وَأُمّ سَائِرِ النّسَاءِ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرّةَ بْنِ هِلَالِ [ بْنِ
فَالِجِ بْنِ ذَكْوَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ
مَنْصُورٍ ] ، أُمّ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ [ ص 206 ] مَنَافٍ وَأُمّهَا صَفِيّةُ
بِنْتُ حَوْزَةَ بْنِ عَمْرِو ابْنِ سَلُولَ [ وَاسْمُهُ مُرّةُ ] بْنُ صَعْصَعَةَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ ، وَأُمّ صَفِيّةَ بِنْتُ عَائِذِ
بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجٍ .
أَوْلَادُ هَاشِمٍ وَأُمّهَاتُهُمْ
قَالَ ابْنُ هَاشِمٍ فَوَلَدَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ
وَخَمْسَ نِسْوَةٍ عَبْدَ الْمُطّلِبِ بْنَ هَاشِمٍ ، وَأَسَدَ بْنَ هَاشِمٍ
وَأَبَا صَيْفِيّ بْنَ هَاشِمٍ وَنَضْلَةَ بْنَ هَاشِمٍ ، وَالشّفَاءَ وَخَالِدَةَ
وَضَعِيفَةَ وَرُقَيّةَ وَحَيّةَ . فَأُمّ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَرُقَيّة : سَلْمَى
بِنْتُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ لَبِيَدِ بْنِ خِدَاشِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ
بْنِ عَدِيّ بْنِ النّجّارِ . وَاسْمُ النّجّارِ تَيْمُ اللّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ
بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ
عَامِرٍ . وَأُمّهَا : عُمَيْرَةُ بِنْتُ صَخْرِ [ بْنِ حَبِيبِ ] بْنِ الْحَارِثِ
بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ النّجّارِ . وَأُمّ عُمَيْرَةَ سَلْمَى بِنْتُ
عَبْدِ الْأَشْهَلِ النّجّارِيّةُ . وَأُمّ أَسَدٍ : قَيْلَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ
مَالِكٍ الْخُزَاعِيّ . وَأُمّ أَبِي صَيْفِيّ وَحَيّةَ هِنْدُ بِنْتُ عَمْرِو
بْنِ ثَعْلَبَةَ الْخَزْرَجِيّةُ . وَأُمّ نَضْلَةَ وَالشّفَاءِ امْرَأَةٌ مِنْ
قُضَاعَةَ . وَأُمّ خَالِدَةَ وَضَعِيفَةَ وَافِدَةُ بِنْتُ أَبِي عَدِيّ
الْمَازِنِيّةُ .Sوَذَكَرَ
حُلَيْلَ بْنَ حُبْشِيّةَ وَالْحُبْشِيّةُ نَمْلَةٌ كَبِيرَةٌ سَوْدَاءُ وَأَنّ
قُصَيّا تَزَوّجَ ابْنَتَهُ حُبّى ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ مَنَافٍ وَإِخْوَتَهُ
وَقَالَ غَيْرُهُ بَلْ أُمّ عَبْدِ مَنَافٍ عَاتِكَةُ بِنْتُ هِلَالِ بْنِ بَالِجِ
[ أَوْ فَالِجِ ] بْنِ ذَكْوَانَ ، وَأُمّ هَاشِمٍ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرّةَ
فَالْأُولَى : عَمّةُ الثّانِيَةِ وَأُمّ وَهْبٍ جَدّ النّبِيّ - عَلَيْهِ
السّلَامُ - لِأُمّهِ عَاتِكَةُ بِنْتُ الْأَوْقَصِ بْنِ مُرّةَ بْنِ هِلَالٍ
فَهُنّ عَوَاتِكُ . وَلَدْنَ النّبِيّ عَلَيْهِ [ ص 207 ] قَالَ أَنَا ابْنُ
الْعَوَاتِكِ مِنْ سُلَيْم وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ إنّ
ثَلَاثَ نِسْوَةٍ مِنْ سُلَيْمٍ أَرْضَعْنَهُ كُلّهُنّ تُسْمَى : عَاتِكَةَ ،
وَالْأَوّلُ أَصَحّ . وَأُمّ عَاتِكَةَ بِنْتِ مُرّةَ مَاوِيّةُ بِنْتُ حَوْزَةَ
بْنِ عَمْرِو بْنِ مُرّةَ أَخِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَهُمْ بَنُو سَلُولَ ،
وَأُمّ مَاوِيّةَ أُمّ أَنَاس الْمَذْحِجِيّةُ . وَقَالَ فِي أُمّهَاتِ بَنِي
عَبْدِ مَنَافٍ وَأَمّا صَفِيّةُ فَأُمّهَا : بِنْتُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَعْدِ
الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجٍ ، وَهُوَ وَهْمٌ لِأَنّ سَعْدَ الْعَشِيرَةِ بْنَ
مَذْحِجٍ هُوَ أَبُو الْقَبَائِلِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى مَذْحِجٍ إلّا [ ص 208 ]
أَقَلّهَا ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فِي عَصْرِ هَاشِمٍ مَنْ هُوَ ابْنٌ لَهُ
لِصُلْبِهِ وَلَكِنْ هَكَذَا رَوَاهُ الْبَرْقِيّ عَنْ ابْنِ هِشَامٍ - كَمَا
قُلْنَا - وَرَوَاهُ غَيْرُهُ بِنْتُ عَبْدِ اللّهِ مِنْ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ
وَهِيَ رِوَايَةُ الْغَسّانِيّ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ عَائِذُ اللّهِ وَهُوَ أَقْرَبُ
إلَى الصّوَابِ . وَلِسَعْدِ الْعَشِيرَةِ ابْنٌ لِصُلْبِهِ وَاسْمُهُ عِيذَ
اللّهِ وَهِيَ قَبِيلَةٌ مِنْ قَبَائِلِ جَنْبٍ مِنْ مَذْحِجٍ ، وَقَدْ ذَكَرْت
بُطُونَ جَنْبٍ وَأَسْمَاءَ وَلَدِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ فِي
هَذَا الْكِتَابِ وَلِمَ سُمّيَتْ تِلْكَ الْقَبَائِلُ بِجَنْبِ وَأَحْسَبُ
الْوَهْمَ فِي رِوَايَةِ الْبَرْقِيّ إنّمَا جَاءَ مِنْ اشْتِرَاكِ الِاسْمِ
لِأَنّ أُمّ صَفِيّةَ الْمَذْكُورَةَ بِنْتُ عِيذَ اللّهِ وَلَكِنْ لَيْسَ بعيذ
اللّهِ الّذِي هُوَ ابْنُ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ لِصُلْبِهِ وَلَكِنّهُ مِنْ سَعْدِ
الْعَشِيرَةِ . وَذَكَرَ عَبْدَ شَمْسِ بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ وَكَانَ تِلْوًا
لِهَاشِمِ وَيُقَالُ كَانَا تَوْأَمَيْنِ فَوُلِدَ هَاشِمٌ وَرِجْلُهُ فِي
جَبْهَةِ شَمْسٍ مُلْتَصِقَةً فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى نَزْعِهَا إلّا بِدَمِ
فَكَانُوا يَقُولُونَ سَيَكُونُ بَيْنَ وَلَدِهِمَا دِمَاءٌ فَكَأَنّ تِلْكَ
الدّمَاءُ مَا وَقَعَ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ ، وَبَيْنَ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ
شَمْسٍ . وَأَمّا سَلْمَى أُمّ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَقَدْ ذَكَرَ نَسَبَهَا ،
وَأُمّهَا : عُمَيْرَةُ بِنْتُ ضَحْرٍ الْمَازِنِيّةُ وَابْنُهَا : عَمْرُو بْنُ
أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ ، وَأَخُوهُ مَعْبَدٌ وَلَدَتْهُمَا لِأُحَيْحَةَ
بَعْدَ هَاشِمٍ وَكَانَ عَمْرٌو مِنْ أَجْمَلِ النّاسِ وَأَنْطَقِهِمْ بِحِكْمَةِ
وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لِلْمَنْصُورِ أَرَأَيْت إنْ اتْسَعْنَا فِي
الْبَنِينَ وَضِقْنَا فِي الْبَنَاتِ فَإِلَى مَنْ تَدْفَعُنَا ، يَعْنِي : فِي
الْمُصَاهَرَةِ فَأَنْشَدَ
عَبْدُ شَمْسٍ كَانَ يَتْلُو هَاشِمًا ... وَهُمَا بَعْدُ لِأُمّ وَلِأَبْ
وَذَكَرَ الدّارَقُطْنِيّ : أَنّ الْحَارِثَ بْنَ حَبْشٍ السّلَمِيّ كَانَ أَخَا
هَاشِمٍ وَعَبْدِ شَمْسٍ وَالْمُطّلِبِ لِأُمّهِمْ وَأَنّهُ رَثَى هَاشِمًا
لِهَذِهِ الْأُخُوّةِ وَهَذَا يُقَوّي أَنّ أُمّهُمْ عَاتِكَةُ السّلَمِيّةُ .
فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَنّ أُمّ حَيّةِ بِنْتِ هَاشِمٍ ، وَأُمّ أَبِي
صَيْفِيّ : هِنْدُ بِنْتُ [ عَمْرِو بْنِ ] ثَعْلَبَةَ [ بْنِ الْخَزْرَجِ ] ،
وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ أَنّ أُمّ حَيّةَ [ أُمّ عَدِيّ ] : جَحْلُ
بِنْتُ حَبِيبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حُطَيْطٍ الثّقَفِيّةُ وَحَيّةُ
بِنْتُ هَاشِمٍ تَحْتَ الْأَجْحَمِ بْنِ دِنْدِنَةَ [ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْقَيْنِ
بْنِ رِزَاحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو ] الْخُزَاعِيّ
وَلَدَتْ لَهُ أُسَيْدًا ، وَفَاطِمَةَ بِنْتَ الْأَجْحَمِ الّتِي تَقُولُ [ ص 209
]
يَا عَيْنُ بَكّي عِنْدَ كُلّ صَبَاحٍ ... جُودِي بِأَرْبَعَةِ عَلَى الْجَرّاحِ
قَدْ كُنْت لِي جَبَلًا أَلُوذُ بِظِلّهِ ... فَتَرَكْتنِي أَضْحَى بِأَجْرَدَ
ضَاحِ
قَدْ كُنْت ذَاتَ حَمِيّةٍ مَا عِشْت لِي ... أَمْشِي الْبَرَازَ وَكُنْت أَنْتَ
جَنَاحِي
فَالْيَوْمَ أَخْضَعُ لِلذّلِيلِ وَأَتّقِي ... مِنْهُ وَأَدْفَعُ ظَالِمِي
بِالرّاحِ
وَأَغُضّ مِنْ بَصَرِي ، وَأَعْلَمُ أَنّهُ ... قَدْ بَانَ حَدّ فَوَارِسِي
وَرِمَاحِي
وَإِذَا دَعَتْ قُمْرِيّةٌ شَجَنًا لَهَا ... يَوْمًا عَلَى فَنَنٍ دَعَوْت
صَبَاحِي
وَقَعَ هَذَا الشّعْرُ لَهَا فِي الْحَمَاسَةِ وَغَيْرِهَا .
أَوْلَادُ
عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَوَلَدَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ عَشَرَةَ نَفَرٍ
وَسِتّ نِسْوَةٍ الْعَبّاسَ وَحَمْزَةَ وَعَبْدَ اللّهِ وَأَبَا طَالِبٍ -
وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ - وَالزّبَيْرَ وَالْحَارِثَ وَجَحْلًا ، وَالْمُقَوّمَ
وَضِرَارًا ، وَأَبَا لَهَبٍ - وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزّى - وَصَفِيّةَ وَأُمّ
حَكِيمٍ الْبَيْضَاءَ وَعَاتِكَةَ ، وَأُمَيْمَةَ ، وَأَرْوَى ، وَبَرّةَ . [ ص
207 ] فَأُمّ الْعَبّاسِ وَضِرَارٍ : نُتَيْلَةُ بِنْتُ جَنَابِ بْنِ كُلَيْبِ
بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَامِرٍ -
وَهُوَ الضّحْيَانُ - بْنُ سَعْدِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ تَيْمِ اللّاتِ بْنِ
النّمِرِ بْنِ قَاسِطِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفْصَى بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ
رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ . وَيُقَالُ أَفْصَى بْنُ دُعْمِيّ بْنِ جَدِيلَةَ .
وَأُمّ حَمْزَةَ وَالْمُقَوّمِ وَجَحْلٍ - وَكَانَ يُلَقّبُ بِالْغَيْدَاقِ
لِكَثْرَةِ خَيْرِهِ وَسَعَةِ مَالِهِ - وَصَفِيّةَ هَالَةُ بِنْتُ أُهَيْبِ بْنِ
عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ .
وَأُمّ عَبْدِ اللّهِ وَأَبِي طَالِبٍ وَالزّبَيْرِ وَجَمِيعِ النّسَاءِ غَيْرِ
صَفِيّةَ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومِ
بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ
مَالِكِ بْنِ النّضْرِ . وَأُمّهَا : صَخْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ
مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ
فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ . وَأُمّ صَخْرَةَ تَخْمُرُ بِنْتُ عَبْدِ بْنِ
قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ
فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ . وَأُمّ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ :
سَمْرَاءُ [ أَوْ صَفِيّةُ ] بِنْتُ جُنْدُبِ بْنِ جُحَيْرِ بْنِ رِئَابِ بْنِ
حَبِيبِ بْنِ سُوَاءَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ
بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ . وَأُمّ أَبِي لَهَبٍ
لُبْنَى بِنْتُ هَاجِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ ضَاطِرِ بْنِ حُبْشِيّةَ ابْنِ
سَلُولَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيّ . [ ص 208 ]S[ ص 209 ] وَذَكَرَ
أُمّ الْعَبّاسِ وَهِيَ نُتَيْلَةُ بِنْتُ جَنَابِ بْنِ كُلَيْبٍ وَهِيَ مِنْ
بَنِي عَامِرٍ الّذِي يُعْرَفُ بِالضّحْيَانِ وَكَانَ مِنْ مُلُوكِ رَبِيعَةَ ،
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي خَبَرِ تُبّعٍ ، أَنّهَا أَوّلُ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ
الدّيبَاجَ وَذَكَرْنَا سَبَبَ ذَلِكَ وَنَزِيدُ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ
الْمَاوَرْدِيّ ، قَالَ أَوّلُ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ الدّيبَاجَ خَالِدُ بْنُ
جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ أَخَذَ لَطِيمَةً مِنْ الْبَزّ وَأَخَذَ فِيهَا أَنْمَاطًا
، فَعَلّقَهَا عَلَى الْكَعْبَةِ ، وَأُمّ نُتَيْلَةَ أُمّ حُجْرٍ أَوْ أُمّ
كُرْزِ بِنْتُ الْأَزَبّ مِنْ بَنِي بَكِيلٍ مِنْ هَمْدَانَ ، وَهِيَ نُتَيْلَةُ
بِتَاءِ مَنْقُوطَةٍ بِاثْنَتَيْنِ وَهِيَ تَصْغِيرُ نَتْلَةٍ وَاحِدَةِ النّتْلِ
وَهُمْ بَيْضُ النّعَامِ وَبَعْضُهُمْ يُصَحّفُهَا بِثَاءِ مُثَلّثَةٍ . وَذَكَرَ
فِي بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِب ِ جَحْلًا بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ عَلَى الْحَاءِ هَكَذَا
رِوَايَةُ الْكِتَابِ . وَقَالَ الدّارَقُطْنِيّ : هُوَ حَجْلٌ بِتَقْدِيمِ
الْحَاءِ . وَقَالَ جَحْلٌ بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ هُوَ الْحَكَمُ بْنُ جَحْلٍ
يُرْوَى عَنْ عَلِيّ وَمِنْ حَدِيثِهِ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ مَنْ فَضّلَنِي عَلَى
أَبِي بَكْرٍ جَلَدْته حَدّ الْفِرْيَةِ . وَالْجَحْلُ السّقَاءُ الضّخْمُ .
وَالْجَحْلُ الْحِرْبَاءُ . وَذَكَرَ ابْنُ دُرَيْدٍ أَنّ اسْمَ جَحْلٍ مُصْعَبٌ .
وَقَالَ غَيْرُهُ كَانَ اسْمُهُ مُغِيرَةَ ، وَجَحْلٌ لَقَبٌ لَهُ . وَالْجَحْلُ
ضَرْبٌ مِنْ الْيَعَاسِيبِ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة َ
كُلّ شَيْءٍ ضَخْمٍ فَهُوَ جَحْلٌ وَجَحْلٌ هُوَ الْغَيْدَاقُ وَالْغَيْدَاقُ
وَلَدُ الضّبّ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ الْحِسْلِ . وَلَمْ يُعْقِبْ وَكَذَا
الْمُقَوّمُ لَمْ يُعْقِبْ إلّا بِنْتًا اسْمُهَا : هِنْدُ . وَأُمّ الْغَيْدَاقِ -
فِيمَا ذَكَرَ الْقُتَبِيّ : مُمَنّعَةُ بِنْتُ عَمْرٍو الْخُزَاعِيّةُ وَهَذَا
خِلَافُ قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ . وَذَكَرَ فِي أَعْمَامِهِ أَيْضًا : الزّبَيْرَ
وَهُوَ أَكْبَرُ أَعْمَامِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ
الّذِي كَانَ يُرَقّصُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ طِفْلٌ
وَيَقُولُ [ ص 210 ]
مُحَمّدُ بْنُ عَبْدَمِ ... عِشْت بِعَيْشِ أَنْعَمِ
فِي دَوْلَةٍ وَمَغْنَمِ ... دَامٍ سَجِيسَ الْأَزْلَمِ
وَبِنْتُهُ ضُبَاعَةُ كَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ . وَعَبْدُ اللّهِ ابْنُهُ
مَذْكُورٌ فِي الصّحَابَةِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ - وَكَانَ الزّبَيْرُ -
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - يُكَنّى أَبَا الطّاهِرِ بِابْنِهِ الطّاهِرِ وَكَانَ مِنْ
أَظْرَفِ فِتْيَانِ قُرَيْشٍ ، وَبِهِ سَمّى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ابْنَهُ الطّاهِرَ . وَأُخْبِرَ الزّبَيْرُ عَنْ ظَالِمٍ
كَانَ بِمَكّةَ أَنّهُ مَاتَ فَقَالَ بِأَيّ عُقُوبَةٍ كَانَ مَوْتُهُ ؟ فَقِيلَ
مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَقَالَ وَإِنْ فَلَا بُدّ مِنْ يَوْمٍ يُنْصِفُ اللّهُ
فِيهِ الْمَظْلُومِينَ فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى إقْرَارِهِ بِالْبَعْثِ .
وَذَكَرَ أَبَا طَالِبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ وَلَهُ يَقُولُ عَبْدُ
الْمُطّلِبِ :
أُوصِيك يَا عَبْدَ مَنَافٍ بَعْدِي ... بِمُؤْتَمٍ بَعْدَ أَبِيهِ فَرْدِ
مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ حِلْفُ الْمَهْدِ وَذَكَرَ أَبَا لَهَبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ
الْعُزّى ، وَكُنّيَ أَبَا لَهَبٍ لِإِشْرَاقِ وَجْهِهِ وَكَانَ تَقْدِمَةً مِنْ
اللّهِ - تَعَالَى - لِمَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ اللّهَبِ وَأُمّهُ لُبْنَى بِنْتُ
هَاجِرٍ بِكَسْرِ الْجِيمِ مِنْ بَنِي ضَاطِرَةَ بِضَادِ مَنْقُوطَةٍ .
وَاللّبْنَى فِي اللّغَةِ شَيْءٌ يَتَمَيّعُ مِنْ بَعْضِ الشّجَرِ قَالَهُ أَبُو
حَنِيفَةَ . وَيُقَالُ لِبَعْضِهِ الْمَيْعَةُ وَالدّوَدِمُ مِثْلُ اللّبْنَى
يَسِيلُ مِنْ السّمُرِ غَيْرَ أَنّهُ أَحْمَرُ فَيُقَالُ حَاضَتْ السّمُرَةُ إذَا
رَشَحَ ذَلِكَ مِنْهَا .
أُمّهَاتُ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [ ص 210 ] فَوَلَدَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَيّدَ وَلَدِ آدَمَ مُحَمّدَ
بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِب ِ ، صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ وَرَحْمَتُهُ
وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ . وَأُمّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ
عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ
بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ . [ ص 211 ] بَرّةُ بِنْتُ
عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ
بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
النّضْرِ . وَأُمّ بَرّةَ أُمّ حَبِيبِ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ
قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ
فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ . وَأُمّ أُمّ حَبِيبٍ بَرّةُ بِنْتُ عَوْفِ
بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ
بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَرَسُولُ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَشْرَفُ وَلَدِ آدَمَ حَسَبًا ،
وَأَفْضَلُهُمْ نَسَبًا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ .Sأُمّهَاتُ
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
ذَكَرَ فِي آخِرِهِنّ بَرّةَ بِنْتَ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ
عَدِيّ وَهُنّ كُلّهُنّ قُرَشِيّاتٌ وَلِذَلِكَ وَقَفَ فِي بَرّةَ وَإِنْ كَانَ
قَدْ ذَكَرَ أَهْلُ النّسَبِ بَعْدَ هَذَا : أُمّ بَرّةَ وَأُمّ أُمّهَا ، وَأُمّ
أُمّ الْأُمّ وَلَكِنّهُنّ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ . قَالَ مُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ
وَأُمّ بَرّةَ قِلَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ [ ص 211 ] صَعْصَعَةَ بْنِ
غَادِيَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ لِحْيَانَ بْنِ هُذَيْلٍ ، وَأُمّ
قِلَابَةَ أُمَيْمَةُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ غَنْمِ بْنِ لِحْيَانَ بْنِ غَادِيَةَ
بْنِ كَعْبٍ وَأُمّ أُمَيْمَةَ : دَبّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ لِحْيَانَ بْنِ
غَادِيَةَ وَأُمّهَا : بِنْتُ [ يَرْبُوعِ بْنِ نَاضِرَةَ بْنِ غَاضِرَةَ ] كَهْفِ
الظّلْمِ مِنْ ثَقِيفٍ ، وَذَكَرَ الزّبَيْرُ قَلَابَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ
وَزَعَمَ أَنّ أَبَاهَا الْحَارِثَ كَانَ يُكَنّى : أَبَا قَلَابَةَ وَأَنّهُ
أَقْدَمُ شُعَرَاءِ هُذَيْلٍ ، وَذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ
لَا تَأْمَنَنّ وَإِنْ أَمْسَيْت فِي حَرَمٍ ... إنّ الْمَنَايَا بِجَنْبَيْ كُلّ
إنْسَانِ
وَاسْلُكْ طَرِيقَك تَمْشِي غَيْرَ مُخْتَشِعٍ ... حَتّى تُلَاقِيَ مَا مَنّى لَك
الْمَانِي
بَابُ مَوْلِدِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 212 ] ذَكَرَ نَسَبَ أُمّهِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ
زُهْرَةَ وَأَنّ زُهْرَةَ هُوَ ابْنُ كِلَابٍ وَفِي الْمَعَارِفِ لِابْنِ
قُتَيْبَةَ أَنّ زُهْرَةَ اسْمُ امْرَأَةٍ عُرِفَ بِهَا بَنُو زُهْرَةَ ، وَهَذَا
مُنْكَرٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَإِنّمَا هُوَ اسْمُ جَدّهِمْ - كَمَا قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ وَالزّهْرَةُ فِي اللّغَةِ إشْرَاقٌ فِي اللّوْنِ أَيّ لَوْنٍ كَانَ مِنْ
بَيَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنّ الْأَزْهَرَ هُوَ الْأَبْيَضُ
خَاصّةً وَأَنّ الزّهْرَ اسْمٌ لِلْأَبْيَضِ مِنْ النّوّارِ وَخَطّأَ أَبُو
حَنِيفَةَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ إنّمَا الزّهْرَةُ إشْرَاقٌ فِي
الْأَلْوَانِ كُلّهَا ، وَأَنْشَدَ فِي نُورِ الْحَوْذَانِ وَهُوَ أَصْفَرُ
تَرَى زَهْرَ الْحَوْذَانِ حَوْلَ رِيَاضِهِ ... يُضِيءُ كَلَوْنِ الْأَتْحَمِيّ
الْمُوَرّسِ
وَفِي حَدِيثِ يَوْمِ أُحُدٍ : نَظَرْت إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَعَيْنَاهُ تُزْهِرَانِ تَحْتَ الْمِغْفَرِ .
حَدِيثُ
مَوْلِدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
إشَارَةٌ إلَى ذِكْرِ احْتِفَارِ زَمْزَمَ
قَالَ حَدّثَنَا أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ وَكَانَ مِنْ
حَدِيثِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا حَدّثَنَا بِهِ
زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ
الْمُطّلِبِيّ بَيْنَمَا عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ ،
إذْ أُتِيَ فَأُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ وَهِيَ دَفْنٌ بَيْنَ صَنَمَيْ قُرَيْشٍ :
إسَافَ وَنَائِلَةَ عِنْدَ مَنْحَرِ قُرَيْشٍ . وَكَانَتْ جُرْهُمٌ دَفَنَتْهَا
حِينَ ظَعَنُوا مِنْ مَكّةَ ، وَهِيَ بِئْرُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الّتِي سَقَاهُ اللّهُ حِين ظَمِئَ وَهُوَ صَغِيرٌ
فَالْتَمَسَتْ لَهُ أُمّهُ مَاءً فَلَمْ تَجِدْهُ فَقَامَتْ إلَى الصّفَا تَدْعُو
اللّهَ وَتَسْتَغِيثُهُ لِإِسْمَاعِيلَ ثُمّ أَتَتْ الْمَرْوَةَ فَفَعَلَتْ مِثْلَ
ذَلِكَ . وَبَعَثَ اللّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ [ ص 213 ]
فَظَهَرَ الْمَاءُ وَسَمِعَتْ أُمّهُ أَصْوَاتَ السّبَاعِ فَخَافَتْهَا عَلَيْهِ
فَجَاءَتْ تَشْتَدّ نَحْوَهُ فَوَجَدَتْهُ يَفْحَصُ بِيَدِهِ عَنْ الْمَاءِ مِنْ
تَحْتِ خَدّهِ وَيَشْرَبُ فَجَعَلَتْهُ حِسْيًا [ الْحِسْيُ الْحَفِيرَةُ
الصّغِيرَةُ ] .Sزَمْزَمُ
[ ص 213 ] وَذَكَرَ فِيهِ خَبَرَ إسْمَاعِيلَ وَأُمّهِ وَقَدْ تَقَدّمَ طَرَفٌ
مِنْهُ . وَذَكَرَ أَنّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - هَمَزَ بِعَقِبِهِ فِي
مَوْضِعِ زَمْزَمَ ، فَنَبَعَ الْمَاءُ وَكَذَلِك زَمْزَمُ تَسَمّى : هَمْزَةَ
جِبْرِيلَ بِتَقْدِيمِ الْمِيمِ عَلَى الزّايِ وَيُقَالُ فِيهَا أَيْضًا :
هَزْمَةُ جِبْرِيلَ لِأَنّهَا هَزْمَةٌ فِي الْأَرْضِ وَحُكِيَ فِي اسْمِهَا : زُمَازِمُ
وَزَمْزَمُ . حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْمُطْرِزِ وَتُسَمّى أَيْضًا : طَعَامُ طُعْمٍ
وَشِفَاءُ سُقْمٍ . وَقَالَ الْجُرْبِيّ : سُمّيَتْ زَمْزَمَ ، بِزَمْزَمَةِ
الْمَاءِ وَهِيَ صَوْتُهُ وَقَالَ الْمَسْعُودِيّ : سُمّيَتْ زَمْزَمَ ؛ لِأَنّ
الْفَرَسَ كَانَتْ تَحُجّ إلَيْهَا فِي الزّمَنِ الْأَوّلِ فَزَمْزَمَتْ عَلَيْهَا
. وَالزّمْزَمَةُ صَوْتٌ يُخْرِجُهُ الْفَرَسُ مِنْ خَيَاشِيمِهَا عِنْدَ شُرْبِ
الْمَاءِ . وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - إلَى عُمّالِهِ أَنْ
انْهَوْا الْفَرَسَ عَنْ الزّمْزَمَةِ وَأَنْشَدَ الْمَسْعُودِيّ :
زَمْزَمَتْ الْفَرَسُ عَلَى زَمْزَمَ ... وَذَاكَ فِي سَالِفِهَا الْأَقْدَمِ
وَذَكَرَ الْبَرْقِيّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - أَنّهَا
سُمّيَتْ زَمْزَمَ لِأَنّهَا زُمّتْ بِالتّرَابِ لِئَلّا يَأْخُذَ الْمَاءُ
يَمِينًا وَشِمَالًا ، وَلَوْ تُرِكَتْ لَسَاحَتْ عَلَى الْأَرْضِ حَتّى تَمْلَأَ
كُلّ شَيْءٍ . وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَالزّمْزَمَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ :
الْكَثْرَةُ وَالِاجْتِمَاعُ قَالَ الشّاعِرُ
وَبَاشَرَتْ مَعْطَنَهَا الْمُدَهْثَمَا ... وَيَمّمَتْ زُمْزُومَهَا الْمُزَمْزِمَا
سَبَبُ نُزُولِ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ مَكّةَ
الْمُدَهْثَمُ اللّيّنُ وَكَانَ سَبَبُ إنْزَالِ هَاجَرَ وَابْنِهَا إسْمَاعِيلَ
بِمَكّةَ وَنَقْلِهَا إلَيْهَا مِنْ الشّامِ أَنّ سَارّةَ بِنْتَ عَمّ إبْرَاهِيمَ
- عَلَيْهِ السّلَامُ - شَجَرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَاجَرَ أَمْرٌ وَسَاءَ مَا
بَيْنَهُمَا ، فَأُمِرَ إبْرَاهِيمُ أَنْ يَسِيرَ بِهَا إلَى مَكّةَ ،
فَاحْتَمَلَهَا عَلَى الْبُرَاقِ وَاحْتَمَلَ مَعَهُ قِرْبَةً بِمَاءِ وَمِزْوَدِ
تَمْرٍ [ ص 214 ] وَسَارَ بِهَا حَتّى أَنْزَلَهَا بِمَكّةَ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ
ثُمّ وَلّى رَاجِعًا عَوْدَهُ عَلَى بَدْئِهِ وَتَبِعَتْهُ هَاجَرُ وَهِيَ تَقُولُ
آللّهُ أَمَرَك أَنْ تَدَعَنِي ، وَهَذَا الصّبِيّ فِي هَذَا الْبَلَدِ الْمُوحِشِ
وَلَيْسَ مَعَنَا أَنِيسٌ ؟ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَتْ إذًا لَا يُضَيّعُنَا ،
فَجَعَلَتْ تَأْكُلُ مِنْ التّمْرِ وَتَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْقِرْبَةِ حَتّى
نَفِدَ الْمَاءُ وَعَطِشَ الصّبِيّ ، وَجَعَلَ يَنْشَغُ لِلْمَوْتِ وَجَعَلَتْ
هِيَ تَسْعَى مِنْ الصّفَا إلَى الْمَرْوَةِ ، وَمِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصّفَا ؛
لِتَرَى أَحَدًا ، حَتّى سَمِعَتْ صَوْتًا عِنْدَ الصّبِيّ فَقَالَتْ قَدْ سَمِعْت
، إنْ كَانَ عِنْدَك غَوْثٌ ثُمّ جَاءَتْ الصّبِيّ فَإِذَا الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ
تَحْتِ خَدّهِ فَجَعَلَتْ تَغْرِفُ بِيَدَيْهَا ، وَتَجْعَلُ فِي الْقِرْبَةِ .
قَالَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " لَوْ تَرَكَتْهُ
لَكَانَتْ عَيْنًا " ، أَوْ قَالَ " نَهَرًا مَعِينًا " ،
وَكَلّمَهَا الْمَلَكُ وَهُوَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَأَخْبَرَهَا
أَنّهَا مَقَرّ ابْنِهَا وَوَلَدِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنّهَا مَوْضِعُ
بَيْتِ اللّهِ الْحَرَامِ ، ثُمّ مَاتَتْ هَاجَرُ ، وَإِسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِ
السّلَامُ - ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً وَقَبْرُهَا فِي الْحِجْرِ ، وَثَمّ قَبْرُ
إسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَكَانَ الْحِجْرُ قَبْلَ بِنَاءِ الْبَيْتِ
زَرْبًا لِغَنَمِ إسْمَاعِيلَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيُقَالُ إنّ
أَوّلَ بَلَدٍ مِيرَتْ مِنْهُ أُمّ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ - السّلَامُ - وَابْنُهَا
التّمْرَ الْقَرْيَةُ الّتِي كَانَتْ تُعْرَفُ بِالْفُرْعِ مِنْ نَاحِيَةِ
الْمَدِينَةِ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
أَمْرُ
جُرْهُمً ، وَدَفْنُ زَمْزَمَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : [ ص 214 ] وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ جُرْهُمً ، وَدَفْنُهَا
زَمْزَمَ ، وَخُرُوجُهَا مِنْ مَكّةَ ، وَمَنْ وَلِيَ أَمْرَ مَكّةَ بَعْدَهَا
إلَى أَنْ حَفَرَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ زَمْزَمَ ، مَا حَدّثَنَا بِهِ زِيَادُ بْنُ
عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ
لَمّا تُوُفّيَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ وَلِيَ الْبَيْتَ بَعْدَهُ ابْنُهُ
نَابِتُ بْنُ إسْمَاعِيلَ - مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَلِيَهُ - ثُمّ وَلِيَ
الْبَيْتَ بَعْدَهُ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيّ . [ ص 215 ] قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : وَيُقَالُ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَبَنُو إسْمَاعِيلَ ، وَبَنُو نَابِتٍ مَعَ جَدّهِمْ مُضَاضِ بْنِ عَمْرٍو
وَأَخْوَالِهِمْ مِنْ جُرْهُمَ ، وَجُرْهُمُ وَقَطُورَاءُ يَوْمَئِذٍ أَهْلُ
مَكّةَ ، وَهُمَا ابْنَا عَمّ وَكَانَا ظَعَنَا مِنْ الْيَمَنِ ، فَأَقْبَلَا
سَيّارَةً وَعَلَى جُرْهُمَ : مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو ، وَعَلَى قَطُورَاءَ :
السّمَيْدَعُ رَجُلٌ مِنْهُمْ . وَكَانُوا إذَا خَرَجُوا مِنْ الْيَمَنِ لَمْ
يَخْرُجُوا إلّا وَلَهُمْ مَلِكٌ يُقِيمُ أَمْرَهُمْ . فَلَمّا نَزَلَا مَكّةَ
رَأَيَا بَلَدًا ذَا مَاءٍ وَشَجَرٍ فَأَعْجَبَهُمَا فَنَزَلَا بِهِ . فَنَزَلَ
مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو بِمَنْ مَعَهُ مِنْ جُرْهُمَ بِأَعْلَى مَكّةَ
بِقُعَيْقِعَانَ فَمَا حَازَ . وَنَزَلَ السّمَيْدَعُ بِقَطُورَاءَ أَسْفَلَ
مَكّةَ بِأَجْيَادِ فَمَا حَازَ . فَكَانَ مُضَاضٌ يَعْشُرُ مَنْ دَخَلَ مَكّةَ
مِنْ أَعْلَاهَا ، وَكَانَ السّمَيْدَعُ يَعْشُرُ مَنْ دَخَلَ مَكّةَ مِنْ
أَسْفَلِهَا ، وَكُلّ فِي قَوْمِهِ لَا يَدْخُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى
صَاحِبِهِ . ثُمّ إنّ جُرْهُمَ وَقَطُورَاءَ بَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
وَتَنَافَسُوا الْمُلْكَ بِهَا ، وَمَعَ مُضَاضٍ يَوْمَئِذٍ بَنُو إسْمَاعِيلَ
وَبَنُو نَابِتٍ ، وَإِلَيْهِ وِلَايَةُ الْبَيْتِ دُونَ السّمَيْدَعِ . فَسَارَ
بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَخَرَجَ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو مِنْ قُعَيْقِعَانَ فِي
كَتِيبَتِهِ سَائِرًا إلَى السّمَيْدَعِ ، وَمَعَ كَتِيبَتِهِ عُدّتُهَا مِنْ
الرّمَاحِ وَالدّرَقِ وَالسّيُوفِ وَالْجِعَابِ يُقَعْقِعُ بِذَلِكَ مَعَهُ
فَيُقَالُ مَا سُمّيَ قُعَيْقِعَانُ بِقُعَيْقِعَانَ إلّا لِذَلِكَ . وَخَرَجَ
السّمَيْدَعُ مِنْ أَجْيَادٍ ، وَمَعَهُ الْخَيْلُ وَالرّجَالُ فَيُقَالُ مَا
سُمّيَ أَجْيَادٌ : أَجْيَادًا إلّا لِخُرُوجِ [ ص 216 ] السّمَيْدَعِ مِنْهُ .
فَالْتَقَوْا بِفَاضِح ِ وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا ، فَقُتِلَ السّمَيْدَعُ
، وَفُضِحَتْ قَطُورَاءُ . فَيُقَالُ مَا سُمّيَ فَاضِحٌ فَاضِحًا إلّا لِذَاكَ .
ثُمّ إنّ الْقَوْمَ تَدَاعَوْا إلَى الصّلْحِ فَسَارُوا حَتّى نَزَلُوا
الْمَطَابِخَ : شِعْبًا بِأَعْلَى مَكّةَ ، وَاصْطَلَحُوا بِهِ وَأَسْلَمُوا
الْأَمْرَ إلَى مُضَاضٍ . فَلَمّا جُمِعَ إلَيْهِ أَمْرُ مَكّةَ ، فَصَارَ
مُلْكُهَا لَهُ نَحَرَ لِلنّاسِ فَأَطْعَمَهُمْ فَاطّبَخَ النّاسُ وَأَكَلُوا ،
فَيُقَالُ مَا سُمّيَتْ الْمَطَابِخُ : الْمَطَابِخَ إلّا لِذَلِكَ . وَبَعْضُ
أَهْلِ الْعِلْمِ يَزْعُمُ أَنّهَا إنّمَا سُمّيَتْ الْمَطَابِخَ ، لَمّا كَانَ
تُبّعٌ نَحَرَ بِهَا ، وَأَطْعَمَ وَكَانَتْ مَنْزِلَهُ فَكَانَ الّذِي كَانَ
بَيْنَ مُضَاضٍ وَالسّمَيْدَعِ أَوّلَ بَغْيٍ كَانَ بِمَكّةَ فِيمَا يَزْعُمُونَ .
ثُمّ نَشَرَ اللّهُ وَلَدَ إسْمَاعِيلَ بِمَكّةَ وَأَخْوَالُهُمْ مِنْ جُرْهُمٍ
وُلَاةُ الْبَيْتِ وَالْحُكّامُ بِمَكّةَ لَا يُنَازِعُهُمْ وَلَدُ إسْمَاعِيلَ فِي
ذَلِكَ لِخُؤُولَتِهِمْ وَقَرَابَتِهِمْ وَإِعْظَامًا لِلْحُرْمَةِ أَنْ يَكُونَ
بِهَا بَغْيٌ أَوْ قِتَالٌ . فَلَمّا ضَاقَتْ مَكّةُ عَلَى وَلَدِ إسْمَاعِيلَ
انْتَشَرُوا فِي الْبِلَادِ فَلَا يُنَاوِئُونَ قَوْمًا إلّا أَظْهَرَهُمْ اللّهُ
عَلَيْهِمْ بِدِينِهِمْ فَوَطِئُوهُمْ .Sقَطُورَا
وَجُرْهُمٌ وَالسّمَيْدَعُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ نُزُولَ جُرْهُمً ، وَقَطُورَا عَلَى أُمّ إسْمَاعِيلَ هَاجَرَ ،
وَجُرْهُمٌ : هُوَ قَحْطَانُ بْنُ عَامِرِ بْنِ شَالِخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ
سَامَ بْنِ نُوحٍ وَيُقَالُ جُرْهُمُ بْنُ عَابِرٍ وَقَدْ قِيلَ إنّهُ كَانَ مَعَ
نُوحٍ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي السّفِينَةِ وَذَلِكَ أَنّهُ مِنْ وَلَدِ وَلَدِهِ
وَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ وَمِنْهُمْ تَعَلّمَ إسْمَاعِيلُ
الْعَرَبِيّةَ . وَقِيلَ إنّ اللّهَ تَعَالَى أَنْطَقَهُ بِهَا إنْطَاقًا ، وَهُوَ
ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً . [ ص 215 ] وَأَمّا السّمَيْدَعُ الّذِي ذَكَرَهُ
فَهُوَ السّمَيْدَعُ بْنُ هَوْثَرَ - بِثَاءِ مُثَلّثَةٍ - قَيّدَهَا الْبَكْرِيّ
- بْنُ لَاي بْنِ قَطُورَا بْنِ كَرْكَرَ بْنِ عِمْلَاقٍ وَيُقَالُ إنّ الزّبّاءَ
الْمَلِكَةَ كَانَتْ مِنْ ذُرّيّتِهِ وَهِيَ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ أُذَيْنَةَ بْنِ
ظَرِبِ بْنِ حَسّانَ وَبَيْنَ حَسّانَ وَبَيْنَ السّمَيْدَعِ آبَاءٌ كَثِيرَةٌ
وَلَا يَصِحّ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنّ حَسّانَ ابْنُهُ لِصُلْبِهِ لِبُعْدِ زَمَنِ
الزّبّاءِ مِنْ السّمَيْدَعِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِي اسْمِهَا فِي
غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرَ الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضٍ الْأَكْبَرِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ الرّقِيبِ بْنِ هَيّ بْنِ بِنْتِ جُرْهُمٍ .
جِيَادٌ وَقُعَيْقِعَانُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ وِلَايَةَ جُرْهُمٍ الْبَيْتَ الْحَرَامَ دُونَ بَنِي إسْمَاعِيلَ
إلَى أَنْ بَغَوْا فِي الْحَرَمِ ، وَكَانَ أَوّلَ بَغْيٍ فِي الْحَرَمِ مَا
ذَكَرَهُ مِنْ حَرْبِ جُرْهُمٍ لِقَطُورَا . وَأَمّا أَجْيَادٌ فَلَمْ يُسَمّ
بِأَجْيَادِ مِنْ أَجْلِ جِيَادِ الْخَيْلِ كَمَا ذَكَرَ لِأَنّ جِيَادَ الْخَيْلِ
لَا يُقَالُ فِيهَا : أَجْيَادٌ ، وَإِنّمَا أَجْيَادٌ : جَمْعُ جِيدٍ . [ ص 216 ]
وَذَكَرَ أَصْحَابُ الْأَخْبَارِ أَنّ مُضَاضًا ضَرَبَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ
أَجْيَادَ مِائَةِ رَجُلٍ مِنْ الْعَمَالِقَةِ ، فَسُمّيَ الْمَوْضِعُ بِأَجْيَادِ
وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَمِنْ شِعْبِ
أَجْيَادٍ تَخْرُجُ دَابّةُ الْأَرْضِ الّتِي تُكَلّمُ النّاسَ قَبْلَ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التّوْأَمَةِ عَنْ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ فِي أَخْبَارِ مَكّةَ أَنّ
قُعَيْقِعَانَ سُمّيَ بِهَذَا الِاسْمِ حِينَ نَزَلَ تُبّعٌ مَكّةَ ، وَنَحَرَ
عِنْدَهَا وَأَطْعَمَ وَوَضَعَ سِلَاحَهُ وَأَسْلِحَةَ جُنْدِهِ بِهَذَا
الْمَكَانِ فَسُمّيَ قُعَيْقِعَانَ بِقَعْقَعَةِ السّلَاحِ فِيهِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ
.
اسْتِيلَاءُ
كِنَانَةَ وَخُزَاعَةَ عَلَى الْبَيْتِ وَنَفْيُ جُرْهُمٍ
بَنُو بَكْرٍ يَطْرُدُونَ جُرْهُمًا
ثُمّ إنّ جُرْهُمًا بَغَوْا بِمَكّةَ ، وَاسْتَحَلّوا خِلَالًا مِنْ الْحُرْمَةِ
فَظَلَمُوا مَنْ دَخَلَهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا ، وَأَكَلُوا مَالَ الْكَعْبَةِ
الّذِي يُهْدَى لَهَا ، فَرَقّ أَمْرُهُمْ . فَلَمّا رَأَتْ بَنُو بَكْرِ بْنُ
عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ ، وَغُبْشَانُ مِنْ خُزَاعَةَ ذَلِكَ أَجْمَعُوا
لِحَرْبِهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ مَكّةَ . فَآذَنُوهُمْ [ ص 217 ] وَغُبْشَانُ
فَنَفَوْهُمْ مِنْ مَكّةَ . وَكَانَتْ مَكّةُ فِي الْجَاهِلِيّةِ لَا تُقِرّ
فِيهَا ظُلْمًا وَلَا بَغْيًا ، وَلَا يَبْغِي فِيهَا أَحَدٌ إلّا أَخْرَجَتْهُ
فَكَانَتْ تُسَمّى : النّاسّةَ ، وَلَا يُرِيدُهَا مَلِكٌ يَسْتَحِلّ حُرْمَتَهَا
إلّا هَلَكَ مَكَانَهُ فَيُقَالُ إنّهَا مَا سُمّيَتْ بِبَكّةِ إلّا أَنّهَا
كَانَتْ تَبُكّ أَعْنَاقَ الْجَبَابِرَةِ إذَا أَحْدَثُوا فِيهَا شَيْئًا . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ بَكّةَ اسْمٌ لِبَطْنِ مَكّةَ
، لِأَنّهُمْ يَتَبَاكَوْنَ فِيهَا ، أَيْ يَزْدَحِمُونَ وَأَنْشَدَنِي :
إذَا الشّرِيبُ أَخَذَتْهُ أَكّهْ ... فَخَلّهِ حَتّى يَبُكّ بَكّهْ
[ ص 218 ] وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ لِعَامَانَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ .Sجُرْهُمٌ
تَسْرِقُ مَالَ الْكَعْبَةِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ اسْتِحْلَالَ جُرْهُمٍ لِحُرْمَةِ الْكَعْبَةِ ، فَمِنْ ذَلِكَ
أَنّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ احْتَفَرَ بِئْرًا قَرِيبَةَ الْقَعْرِ
عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ ، كَانَ يُلْقَى فِيهَا مَا يُهْدَى إلَيْهَا ، فَلَمّا
فَسَدَ أَمْرُ جُرْهُمٍ [ ص 217 ] مَالَ الْكَعْبَةِ مَرّةً بَعْدَ مَرّةً
فَيَذْكُرُ أَنّ رَجُلًا مِنْهُمْ دَخَلَ الْبِئْرَ لِيَسْرِقَ مَالَ الْكَعْبَةِ
، فَسَقَطَ عَلَيْهِ حَجَرٌ مِنْ شَفِيرِ الْبِئْرِ فَحَبَسَهُ فِيهَا ، ثُمّ
أُرْسِلَتْ عَلَى الْبِئْرِ حَيّةٌ لَهَا رَأْسٌ كَرَأْسِ الْجَدْيِ سَوْدَاءُ
الْمَتْنِ بَيْضَاءُ الْبَطْنِ فَكَانَتْ تُهَيّبُ مَنْ دَنَا مِنْ بِئْرِ
الْكَعْبَةِ ، وَقَامَتْ فِي الْبِئْرِ - فِيمَا ذَكَرُوا - نَحْوًا مِنْ
خَمْسِمِائَةِ عَامٍ وَسَنَذْكُرُ قِصّةَ رَفْعِهَا عِنْدَ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ
إنْ شَاءَ اللّهُ .
بَيْنَ جُرْهُمٍ وَخُزَاعَةَ
فَصْلٌ فَلَمّا كَانَ مِنْ بَغْيِ جُرْهُمٍ مَا كَانَ وَافَقَ تَفَرّقَ سَبَأٍ
مِنْ أَجْلِ سَيْلِ الْعَرِمِ ، وَنُزُولَ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو
بْنِ عَامِرٍ أَرْضَ مَكّةَ ، وَذَلِكَ بِأَمْرِ طَرِيفَةَ الْكَاهِنَةِ وَهِيَ
امْرَأَةُ عَمْرِو بْنِ مُزَيْقِيَاءَ وَهِيَ مِنْ حِمْيَرَ ، وَبِأَمْرِ
عِمْرَانَ بْنِ عَامِرٍ أَخِي عَمْرٍو ، وَكَانَ كَاهِنًا أَيْضًا ، فَنَزَلَهَا
هُوَ وَقَوْمُهُ فَاسْتَأْذَنُوا جُرْهُمًا أَنْ يُقِيمُوا بِهَا أَيّامًا ، حَتّى
يُرْسِلُوا الرّوّادَ وَيَرْتَادُوا مَنْزِلًا حَيْثُ رَأَوْا مِنْ الْبِلَادِ
فَأَبَتْ عَلَيْهِمْ جُرْهُمٌ ، وَأَغْضَبُوهُمْ حَتّى أَقْسَمَ حَارِثَةُ أَلّا
يَبْرَحَ مَكّةَ إلّا عَنْ قِتَالٍ وَغَلَبَةٍ فَحَارَبَتْهُمْ جُرْهُمٌ ،
فَكَانَتْ الدّوْلَةُ لِبَنِي حَارِثَةَ عَلَيْهِمْ وَاعْتَزَلَتْ بَنُو إسْمَاعِيلَ
، فَلَمْ تَكُنْ مَعَ أَحَدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فَعِنْدَ ذَلِكَ مَلَكَتْ
خُزَاعَةُ - وَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ - مَكّةَ ، وَصَارَتْ وِلَايَةُ الْبَيْتِ
لَهُمْ وَكَانَ رَئِيسُهُمْ عَمْرَو بْنَ لُحَيّ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ قَبْلُ
فَشَرّدَ بَقِيّةَ جُرْهُمٍ ، فَسَارَ فَلّهُمْ فِي الْبِلَادِ وَسُلّطَ
عَلَيْهِمْ الذّرّ وَالرّعَافُ وَأَهْلَكَ بَقِيّتَهُمْ السّيْلُ بِإِضَمَ حَتّى
كَانَ آخِرَهُمْ مَوْتًا امْرَأَةٌ رِيئَتْ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ بَعْدَ
خُرُوجِهِمْ مِنْهَا بِزَمَانِ فَعَجِبُوا مِنْ طُولِهَا وَعِظَمِ خِلْقَتِهَا ،
حَتّى قَالَ لَهَا قَائِلٌ أَجِنّيّةٌ أَنْتِ أَمْ إنْسِيّةٌ ؟ فَقَالَتْ بَلْ
إنْسِيّةٌ مِنْ جُرْهُمٍ ، [ ص 218 ] جُهَيْنَةَ ، فَاحْتَمَلَاهَا عَلَى
الْبَعِيرِ إلَى أَرْضِ خَيْبَر َ ، فَلَمّا أَنْزَلَاهَا بِالْمَنْزِلِ الّذِي
رَسَمَتْ لَهُمَا ، سَأَلَاهَا عَنْ الْمَاءِ فَأَشَارَتْ لَهُمَا إلَى مَوْضِعِ
الْمَاءِ فَوَلّيَا عَنْهَا ، وَإِذَا الذّرّ قَدْ تَعَلّقَ بِهَا ، حَتّى بَلَغَ
خَيَاشِيمَهَا وَعَيْنَيْهَا ، وَهِيَ تُنَادِي بِالْوَيْلِ وَالثّبُورِ حَتّى
دَخَلَ حَلْقَهَا ، وَسَقَطَتْ لِوَجْهِهَا ، وَذَهَبَ الْجُهَنِيّانِ إلَى
الْمَاءِ فَاسْتَوْطَنَاهُ فَمِنْ هُنَالِكَ صَارَ مَوْضِعَ جُهَيْنَةَ
بِالْحِجَازِ وَقُرْبَ الْمَدِينَةِ ، وَإِنّمَا هُمْ مِنْ قُضَاعَةَ ،
وَقُضَاعَةُ : مِنْ رِيفِ الْعِرَاقِ .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيّ
بِغَزَالَيْ الْكَعْبَةِ وَبِحَجَرِ الرّكْنِ فَدَفَنَهُمَا فِي زَمْزَمَ ،
وَانْطَلَقَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ جُرْهُمَ إلَى الْيَمَنِ ، فَحَزِنُوا عَلَى
مَا فَارَقُوا مِنْ أَمْرِ مَكّةَ وَمُلْكِهَا حُزْنًا شَدِيدًا ، فَقَالَ عَمْرُو
بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ فِي ذَلِكَ [ ص 219 ]
وَقَائِلَةٍ وَالدّمْعُ سَكْبٌ مُبَادِرُ ... وَقَدْ شَرِقَتْ بِالدّمْعِ مِنْهَا
الْمَحَاجِرُ
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إلَى الصّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ
بِمَكّةَ سَامِرُ
فَقُلْت لَهَا وَالْقَلْبُ مِنّي كَأَنّمَا ... يُلَجْلِجُهُ بَيْنَ
الْجَنَاحَيْنِ طَائِرُ
بَلَى نَحْنُ كُنّا أَهْلَهَا ، فَأَزَالَنَا ... صُرُوفُ اللّيَالِي ،
وَالْجُدُودُ الْعَوَاثِرُ
وَكُنّا وُلَاةَ الْبَيْتِ مِنْ بَعْدِ نَابِتٍ ... نَطُوفُ بِذَاكَ الْبَيْتِ
وَالْخَيْرُ ظَاهِرُ
وَنَحْنُ وَلِينَا الْبَيْتَ مِنْ بَعْدِ نَابِتٍ ... بِعَزّ فَمَا يَحْظَى
لَدَيْنَا الْمُكَاثِرُ
مَلَكْنَا فَعَزّزْنَا فَأَعْظِمْ بِمُلْكِنَا ... فَلَيْسَ لِحَيّ غَيْرِنَا ثَمّ
فَاخِرُ
أَلَمْ تُنْكِحُوا مِنْ خَيْرِ شَخْصٍ عَلِمْته ... فَأَبْنَاؤُهُ مِنّا ،
وَنَحْنُ الْأَصَاهِرُ
فَإِنْ تَنْثَنِ الدّنْيَا عَلَيْنَا بِحَالِهَا ... فَإِنّ لَهَا حَالًا ، وَفِيّ
التّشَاجُرُ
فَأَخْرَجَنَا مِنْهَا الْمَلِيكُ بِقُدْرَةِ ... كَذَلِكَ - يَا لَلنّاسِ -
تَجْرِي الْمَقَادِرُ
أَقُولُ إذَا نَامَ الْخَلِيّ ، وَلَمْ أَنَمْ ... إذَا الْعَرْشُ لَا يَبْعُدْ
سُهَيْلٌ وَعَامِرُ
وَبُدّلْت مِنْهَا أَوْجُهًا لَا أُحِبّهَا ... قَبَائِلُ مِنْهَا حِمْيَرٌ
وَيُحَابِرُ
وَصِرْنَا أَحَادِيثًا وَكُنّا بِغِبْطَةِ ... بِذَلِكَ عَضّتْنَا السّنُونَ
الْغَوَابِرُ
فَسَحّتْ دُمُوعُ الْعَيْنِ تَبْكِي لِبَلْدَةِ ... بِهَا حَرَمٌ أَمْنٌ وَفِيهَا
الْمَشَاعِرُ
وَتَبْكِي لِبَيْتِ لَيْسَ يُؤْذَى حِمَامُهُ ... يَظَلّ بِهِ أَمْنًا ، وَفِيهِ
الْعَصَافِرُ
وَفِيهِ وُحُوشٌ - لَا تُرَامُ - أَنِيسَةٌ ... إذَا خَرَجَتْ مِنْهُ فَلَيْسَتْ
تُغَادِرُ
[ ص 220 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : " فَأَبْنَاؤُهُ مِنّا " ، عَنْ غَيْرِ
ابْنِ إسْحَاقَ .Sغُرْبَةُ
الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ
فَصْلٌ رَجْعُ الْحَدِيثِ . وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
سَعْدِ بْنِ الرّقِيب بْنِ هَيّ بْنِ نَبْتِ بْنِ جُرْهُمٍ الْجُرْهُمِيّ قَدْ
نَزَلَ بِقَنَوْنَا مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ ، فَضَلّتْ لَهُ إبِلٌ فَبَغَاهَا
حَتّى أَتَى الْحَرَمَ ، فَأَرَادَ دُخُولَهُ لِيَأْخُذَ إبِلَهُ فَنَادَى عَمْرُو
بْنُ لُحَيّ مَنْ وَجَدَ جُرْهُمِيّا ، فَلَمْ يَقْتُلْهُ قُطِعَتْ يَدُهُ
فَسَمِعَ بِذَلِكَ الْحَارِثُ وَأَشْرَفَ عَلَى جَبَلٍ مِنْ جِبَالِ مَكّةَ ،
فَرَأَى إبِلَهُ تُنْحَرُ وَيُتَوَزّعُ لَحْمُهَا ، فَانْصَرَفَ بَائِسًا خَائِفًا
ذَلِيلًا ، وَأَبْعَدَ فِي الْأَرْضِ وَهِيَ غُرْبَةُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ
الّتِي تُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ حَتّى قَالَ الطّائِيّ :
غُرْبَةٌ تَقْتَدِي بِغُرْبَةِ قَيْسِ بْ ... نِ زُهَيْرٍ وَالْحَارِثِ بْنِ
مُضَاضِ
[ ص 219 ] قَالَ الْحَارِثُ الشّعْرَ الّذِي رَسَمَهُ ابْنُ إسْحَاقَ وَهُوَ
قَوْلُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إلَى الصّفَا
الشّعْرَ وَفِيهِ
وَنَبْكِي لِبَيْتِ لَيْسَ يُؤْذَى حِمَامُهُ ... تَظَلّ بِهِ أَمْنًا ، وَفِيهِ
الْعَصَافِرُ
أَرَادَ الْعَصَافِيرُ وَحَذَفَ الْيَاءَ ضَرُورَةً وَرَفَعَ الْعَصَافِيرَ عَلَى
الْمَعْنَى ، أَيْ وَتَأْمَنُ فِيهِ الْعَصَافِيرُ وَتَظَلّ بِهِ أَمْنًا ، أَيْ
ذَاتَ أَمْنٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُون أَمْنًا جَمْعَ آمِنٍ مِثْلُ رَكْبٍ جَمْعُ :
رَاكِبٍ وَفِيهِ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكّةَ سَامِرُ السّامِرُ اسْمُ الْجَمَاعَةِ
يَتَحَدّثُونَ بِاللّيْلِ وَفِي التّنْزِيلِ { سَامِرًا تَهْجُرُونَ } [
الْمُؤْمِنُونَ 67 ] وَالْحَجُونُ بِفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى فَرْسَخٍ وَثُلُثٍ مِنْ
مَكّةَ ، قَالَ الْحُمَيْدِيّ : كَانَ سُفْيَانُ رُبّمَا أَنْشَدَ هَذَا الشّعْرَ
فَزَادَ فِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَلَيْسَتْ تُغَادِرُ
وَلَمْ يَتَرَبّعْ وَاسِطًا وَجُنُوبَهُ ... إلَى السّرّ مِنْ وَادِي الْأَرَاكَةِ
حَاضِرُ
وَأَبْدَلَنِي رَبّي بِهَا دَارَ غُرْبَةٍ ... بِهَا الْجُوعُ بَادٍ وَالْعَدُوّ
الْمُحَاصِرُ
وَاسِطٌ وَعَامِرٌ وَجُرْهُمٌ
قَالَ الْحُمَيْدِيّ : وَاسِطٌ : الْجَبَلُ الّذِي يَجْلِسُ عِنْدَهُ
الْمَسَاكِينُ إذَا ذَهَبَتْ إلَى مِنَى . وَقَوْلُهُ فِيهِ لَا يَبْعَدْ سُهَيْلٌ
وَعَامِرُ
[ ص 220 ] جِبَالِ مَكّةَ ، يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ بِلَالٍ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي عَامِرٌ وَطَفِيلُ . عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ
هَكَذَا ، وَجُرْهُمٌ هَذَا هُوَ الّذِي تَتَحَدّثُ بِهَا الْعَرَبُ فِي
أَكَاذِيبِهَا ، وَكَانَ مِنْ خُرَافَاتِهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ أَنّ جُرْهُمًا
ابْنٌ لِمَلَكِ أُهْبِطَ مِنْ السّمَاءِ لِذَنْبِ أَصَابَهُ فَغُضِبَ عَلَيْهِ
مِنْ أَجْلِهِ كَمَا أُهْبِطَ هَارُوتُ وَمَارُوتُ ثُمّ أُلْقِيَتْ فِيهِ
الشّهْوَةُ فَتَزَوّجَ امْرَأَةً فَوَلَدَتْ لَهُ جُرْهُمًا ، قَالَ قَائِلُهُمْ
لَا هُمّ إنّ جُرْهُمًا عِبَادُكَا ... النّاسُ طُرْفٌ وَهُمْ تِلَادُكَا
[ بِهِمْ قَدِيمًا عَمِرَتْ بِلَادُكَا
مِنْ كِتَابِ الْأَمْثَالِ لِلْأَصْبَهَانِيّ
مَكّةُ وَأَسْمَاؤُهَا : فَصْلٌ وَذَكَرَ مَكّةَ وَبَكّةَ وَقَدْ قِيلَ فِي بَكّةَ
مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنّهَا تَبُكّ الْجَبَابِرَةَ أَيْ تَكْسِرُهُمْ
وَتَقْدَعُهُمْ وَقِيلَ مِنْ التّبَاكّ وَهُوَ الِازْدِحَامُ وَمَكّةُ مَنْ
تَمَكّكْت الْعَظْمَ إذَا اجْتَذَبْت مَا فِيهِ مِنْ الْمُخّ وَتَمَكّكَ
الْفَصِيلُ مَا فِي ضَرْعِ النّاقَةِ فَكَأَنّهَا تَجْتَذِبُ إلَى نَفْسِهَا مَا
فِي الْبِلَادِ مِنْ النّاسِ وَالْأَقْوَاتِ الّتِي تَأْتِيهَا فِي الْمَوَاسِمِ
وَقِيلَ لَمّا كَانَتْ فِي بَطْنِ وَادٍ فَهِيَ تُمَكّكُ الْمَاءَ مِنْ جِبَالِهَا
وَأَخَاشِبِهَا عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ وَتَنْجَذِبُ إلَيْهَا السّيُولُ وَأَمّا
قَوْلُ الرّاجِزِ الّذِي أَنْشَدَهُ ابْنُ هِشَامٍ :
إذَا الشّرِيبُ أَخَذَتْهُ أَكّهْ ... فَخَلّهِ حَتّى يَبُكّ بَكّهْ
فَالْأَكّةُ الشّدّةُ وَإِكَاكُ الدّهْرِ شَدَائِدُهُ . وَذَكَرَ أَنّهُ كَانَ
يُقَالُ لَهَا : النّاسّةُ ، وَهُوَ مِنْ نُسْت الشّيْءَ إذَا أَذَهَبْته ،
وَالرّوَايَةُ فِي الْكِتَابِ بِالنّونِ وَذَكَرَ الْخَطّابِيّ [ فِي غَرِيبِهِ ]
أَنّهُ يُقَالُ لَهَا : الْبَاسّةُ أَيْضًا بِالْبَاءِ وَهُوَ مِنْ بُسّتْ
الْجِبَالُ بَسّا ، أَيْ فُتّتْ وَثُرّيَتْ كَمَا يُثَرّى السّوِيقُ ، قَالَ
الرّاجِزُ لَا تَخْبِزَا خَبْزًا وَبُسّا بَسّا
[ ص 221 ] يُقَالُ إنّ هَذَا الْبَيْتَ لِلِصّ أَعْجَلَهُ الْهَرَبُ . وَذَكَرَ
أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ الْخَبْزَ شِدّةُ السّوْقِ وَالْبَسّ : أَلْيَنُ مِنْهُ
وَبَعْدَهُ
مَا تَرَكَ السّيْرُ لَهُنّ نَسّا
وَمِنْ أَسْمَاءِ مَكّةَ أَيْضًا ، الرّأْسُ وَصَلَاحُ وَأُمّ رُحْمٍ وَكُوثَى ،
وَأَمّا الّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا الدّجّالُ فَهِيَ كُوثَى رَبّا وَمِنْهَا كَانَتْ
أُمّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَقَدْ تَقَدّمَ اسْمُهَا ، وَأَبُوهَا هُوَ
الّذِي احْتَفَرَ نَهْرَ كُوثَى ، قَالَهُ الطّبَرِيّ .
[
ص 221 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَيْضًا يَذْكُرُ
بَكْرًا وَغُبْشَانَ وَسَاكِنِي مَكّةَ الّذِينَ خَلَفُوا فِيهَا بَعْدَهُمْ [ ص
222 ]
يَا أَيّهَا النّاسُ سِيرُوا إنّ قَصْرَكُمْ ... أَنْ تُصْبِحُوا ذَاتَ يَوْمٍ لَا
تَسِيرُونَا
حُثّوا الْمَطِيّ وَأَرْخُوا مِنْ أَزِمّتِهَا ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَقَضّوا مَا
تُقَضّونَا
كُنّا أُنَاسًا كَمَا كُنْتُمْ فَغَيّرَنَا ... دَهْرٌ فَأَنْتُمْ كَمَا كُنّا
تَكُونُونَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا مَا صَحّ لَهُ مِنْهَا . وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ بِالشّعْرِ أَنّ هَذِهِ [ ص 223 ] قِيلَ فِي الْعَرَبِ ، وَأَنّهَا
وُجِدَتْ مَكْتُوبَةً فِي حَجَرٍ بِالْيَمَنِ وَلَمْ يُسَمّ لِي قَائِلُهَا .Sفَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ
يَا أَيّهَا النّاسُ سِيرُوا إنّ قَصْرَكُمْ ... أَنْ تُصْبِحُوا ذَاتَ يَوْمٍ لَا
تَسِيرُونَا
وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنّهَا وُجِدَتْ بِحَجَرِ بِالْيَمَنِ وَلَا يُعْرَفُ
قَائِلُهَا ، وَأَلْفَيْت فِي كِتَابِ أَبِي بَحْرٍ سُفْيَانَ بْنِ الْعَاصِي
خَبَرًا لِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَأَسْنَدَهُ أَبُو الْحَارِثِ مُحَمّدُ بْنُ
أَحْمَدَ الْجُعْفِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ السّلَامِ الْبَصْرِيّ قَالَ
حَدّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سُلَيْمَانَ التّمّارُ قَالَ
أَخْبَرَنِي ثِقَةٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ ، قَالَ وُجِدَ فِي بِئْرٍ
بِالْيَمَامَةِ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ وَهِيَ بِئْرُ طَسْمٍ وَجَدِيسٍ فِي قَرْيَةٍ
يُقَالُ لَهَا : مُعْنِقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحِجْرِ مِيلٌ وَهُمْ مِنْ
بَقَايَا عَادٍ ، غَزَاهُمْ تُبّعٌ ، فَقَتَلَهُمْ فَوَجَدُوا فِي حَجَرٍ مِنْ
الثّلَاثَةِ الْأَحْجَارِ مَكْتُوبًا : [ ص 222 ]
يَا أَيّهَا الْمَلِكُ الّذِي ... بِالْمُلْكِ سَاعَدَهُ زَمَانُهْ
مَا أَنْتَ أَوّلَ مَنْ عَلَا ... وَعَلَا شئون النّاسِ شَانُهْ
أَقْصِرْ عَلَيْك مُرَاقِبًا ... فَالدّهْرُ مَخْذُولٌ أَمَانُهْ
كَمْ مِنْ أَشَمّ مُعَصّبٍ ... بِالتّاجِ مَرْهُوبٍ مَكَانُهْ
قَدْ كَانَ سَاعَدَهُ الزّمَا ... نُ وَكَانَ ذَا خَفْضٍ جَنَانُهْ
تَجْرِي الْجَدَاوِلُ حَوْلَهُ ... لِلْجُنْدِ مُتْرَعَةً جِفَانُهْ
قَدْ فَاجَأَتْهُ مَنِيّةٌ ... لَمْ يُنْجِهِ مِنْهَا اكْتِنَانُهْ
وَتَفَرّقَتْ أَجْنَادُهُ ... عَنْهُ وَنَاحَ بِهِ قِيَانُهْ
وَالدّهْرُ مَنْ يَعْلِقْ بِهِ ... يَطْحَنْهُ مُفْتَرِشًا جِرَانُهْ
وَالنّاسُ شَتّى فِي الْهَوَى ... كَالْمَرْءِ مُخْتَلِفٌ بَنَانُهْ
وَالصّدْقُ أَفْضَلُ شِيمَةٍ ... وَالْمَرْءُ يَقْتُلُهُ لِسَانُهْ
وَالصّمْتُ أَسْعَدُ لِلْفَتَى ... وَلَقَدْ يُشَرّفُهُ بَيَانُهْ
وَوُجِدَ فِي الْحَجَرِ الثّانِي مَكْتُوبًا أَبْيَاتٌ
كُلّ عَيْشٍ تَعِلّهْ ... لَيْسَ لِلدّهْرِ خَلّهْ
يَوْمُ بُؤْسَى وَنُعْمَى ... وَاجْتِمَاعٍ وَقِلّهْ
حُبّنَا الْعَيْشَ وَالتّكَا ... ثُرَ جَهْلٌ وَضِلّهْ
بَيْنَمَا الْمَرْءُ نَاعِمٌ ... فِي قُصُورٍ مُظِلّهْ
فِي ظِلَالٍ وَنِعْمَةٍ ... سَاحِبًا ذَيْلَ حُلّهْ
لَا يَرَى الشّمْسَ مِلْغَضَا ... رَةِ إذْ زَلّ زَلّهْ
لَمْ يُقَلْهَا ، وَبَدّلَتْ ... عِزّةَ الْمَرْءِ ذِلّهْ
آفَةُ الْعَيْشِ وَالنّعِ ... يمِ كُرُورُ الْأَهِلّهْ
وَصْلُ يَوْمٍ بِلَيْلَةِ ... وَاعْتِرَاضٌ بِعِلّهْ
وَالْمَنَايَا جَوَاثِمُ ... كَالصّقُورِ الْمُدِلّهْ
بِاَلّذِي تَكْرَهُ النّفُ ... وسُ عَلَيْهَا مُطِلّهْ
وَفِي الْحَجَرِ الثّالِثِ مَكْتُوبًا :
يَا أَيّهَا النّاس سِيرُوا إنّ قَصْرَكُمْ ... أَنْ تُصْبِحُوا ذَاتَ يَوْمٍ لَا
تَسِيرُونَا
حُثّوا الْمَطِيّ وَأَرْخُوا مِنْ أَزِمّتِهَا ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَقَضّوا مَا
تُقَضّونَا
كُنّا أُنَاسًا كَمَا كُنْتُمْ فَغَيّرَنَا ... دَهْرٌ فَأَنْتُمْ كَمَا كُنّا
تَكُونُونَا
[ ص 223 ] وَذَكَرَ أَبُو الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيّ فِي كِتَابِهِ فِي فَضَائِلِ
مَكّةَ زِيَادَةً فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَهِيَ
قَدْ مَالَ دَهْرٌ عَلَيْنَا ثُمّ أَهْلَكَنَا ... بِالْبَغْيِ فِينَا وَبَزّ
النّاسِ نَاسُونَا
إنّ التّفَكّرَ لَا يُجْدِي بِصَاحِبِهِ ... عِنْدَ الْبَدِيهَةِ فِي عِلْمٍ لَهُ
دُوّنَا
قَضّوا أُمُورَكُمْ بِالْحَزْمِ إنّ لَهَا ... أُمُورَ رُشْدٍ رَشَدْتُمْ ثَمّ
مَسْنُونَا
وَاسْتَخْبِرُوا فِي صَنِيعِ النّاسِ قَبْلَكُمْ ... كَمَا اسْتَبَانَ طَرِيقٌ
عِنْدَهُ اُلْهُونَا
كُنّا زَمَانًا مُلُوكَ النّاسِ قَبْلَكُمْ ... بِمَسْكَنِ فِي حَرَامِ اللّهِ
مَسْكُونَا
وَوُجِدَ عَلَى حَائِطٍ قَصِيرٍ بِدِمَشْقَ لِبَنِي أُمَيّةَ مَكْتُوبًا :
يَا أَيّهَا الْقَصْرُ الّذِي كَانَتْ ... تَحُفّ بِهِ الْمَوَاكِبْ
أَيْنَ الْمَوَاكِبُ وَالْمَضَ ... ارِبُ وَالنّجَائِبُ وَالْجَنَائِبْ
أَيْنَ الْعَسَاكِرُ وَالدّسَ ... اكِرُ وَالْمَقَانِبُ وَالْكَتَائِبْ
مَا بَالُهُمْ لَمْ يَدْفَعُوا ... لَمّا أَتَتْ عَنْك النّوَائِبْ
مَا بَالُ قَصْرِك وَاهِيًا ... قَدْ عَادَ مُنْهَدّ الْجَوَانِبْ
وَوُجِدَ فِي الْحَائِطِ الْآخَرِ مِنْ حِيطَانِهَا جَوَابُهَا :
يَا سَائِلِي عَمّا مَضَى ... مِنْ دَهْرِنَا وَمِنْ الْعَجَائِبْ
وَالْقَصْرِ إذْ أَوْدَى ، فَأَضْحَى ... بَعْدُ مُنْهَدّ الْجَوَانِبْ
وَعَنْ الْجُنُودِ أُولِي الْعُقُو ... دِ وَمَنْ بِهِمْ كُنّا نُحَارِبْ
وَبِهِمْ قَهَرْنَا عَنْوَةً ... مَنْ بِالْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبْ
وَتَقُولُ لِمْ لَمْ يَدْفَعُوا ... لَمّا أَتَتْ عَنْك النّوَائِبْ
هَيْهَاتَ لَا يُنْجِي مِنْ المو ... ت الْكَتَائِبُ وَالْمَقَانِبْ
اسْتِبْدَادُ
قَوْمٍ مِنْ خُزَاعَةَ بِوِلَايَةِ الْبَيْتِ
[ ص 224 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ غُبْشَانَ مِنْ خُزَاعَةَ وَلِيَتْ
الْبَيْتَ دُونَ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ وَكَانَ الّذِي يَلِيهِ
مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ الْغُبْشَانِيّ ، وَقُرَيْشٌ إذْ ذَاكَ حُلُولٌ
وَصِرْمٌ وَبُيُوتَاتٌ مُتَفَرّقُونَ فِي قَوْمِهِمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ
فَوَلِيَتْ خُزَاعَةُ الْبَيْتَ يَتَوَارَثُونَ ذَلِكَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ
حَتّى كَانَ آخِرَهُمْ حُلَيْلُ بْنُ حُبْشِيّةَ ابْنِ سَلُولَ بْنِ كَعْبِ بْنِ
عَمْرِو الْخُزَاعِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يُقَالُ حُبْشِيّةُ ابْنُ سَلُولَ .Sقُصَيّ
وَخُزَاعَةُ وَوِلَايَةُ الْبَيْتِ
[ ص 224 ] قُصَيّ ذَكَرَ فِيهِ أَنّ قُرَيْشًا قُرْعَةُ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ
هَكَذَا بِالْقَافِ وَهِيَ الرّوَايَةُ الصّحِيحَةُ وَفِي بَعْضِ النّسَخِ
فَرْعَةُ بِالْفَاءِ وَالْقُرْعَةُ بِالْقَافِ هِيَ نُخْبَةُ الشّيْءِ وَخِيَارُهُ
وَقَرِيعُ الْإِبِلِ فَحْلُهَا ، وَقَرِيعُ الْقَبِيلَةِ سَيّدُهَا ، وَمِنْهُ
اُشْتُقّ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَغَيْرُهُ مِمّنْ سُمّيَ مِنْ الْعَرَبِ
بِالْأَقْرَعِ . وَذَكَرَ انْتِقَالَ وِلَايَةِ الْبَيْتِ مِنْ خُزَاعَةَ إلَيْهِ
وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ سَبَبِ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ أَنّ قُصَيّا رَأَى نَفْسَهُ
أَحَقّ بِالْأَمْرِ مِنْهُمْ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنّ حُلَيْلًا كَانَ يُعْطِي
مَفَاتِيحَ الْبَيْتِ ابْنَتَهُ حُبّى ، حِينَ كَبِرَ وَضَعُفَ فَكَانَتْ
بِيَدِهَا ، وَكَانَ قُصَيّ رُبّمَا أَخَذَهَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فَفَتَحَ
الْبَيْتَ لِلنّاسِ وَأَغْلَقَهُ وَلَمّا هَلَكَ حُلَيْلٌ أَوْصَى بِوِلَايَةِ
الْبَيْتِ إلَى قُصَيّ ، فَأَبَتْ خُزَاعَةُ أَنْ تُمْضِيَ ذَلِكَ لِقُصَيّ
فَعِنْدَ ذَلِكَ هَاجَتْ الْحَرْبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُزَاعَةَ ، وَأَرْسَلَ إلَى
رِزَاحٍ أَخِيهِ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَيْهِمْ . وَيُذْكَرُ أَيْضًا أَنّ أَبَا
غُبْشَانَ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَاسْمُهُ سُلَيْمٌ - وَكَانَتْ لَهُ وِلَايَةُ
الْكَعْبَةِ - بَاعَ مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ مِنْ قُصَيّ بِزِقّ خَمْرٍ فَقِيلَ
أَخْسَرُ مِنْ صَفْقَةِ أَبِي غُبْشَانَ ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيّ
وَالْأَصْبَهَانِيّ فِي الْأَمْثَالِ . وَكَانَ الْأَصْلُ فِي انْتِقَالِ
وِلَايَةِ الْبَيْتِ مِنْ وَلَدِ مُضَرَ إلَى خُزَاعَةَ أَنّ الْحَرَمَ حِينَ
ضَاقَ عَنْ وَلَدِ نِزَارٍ وَبَغَتْ فِيهِ إيَادٌ أَخْرَجَتْهُمْ بَنُو مُضَرَ
بْنِ نِزَارٍ ، وَأَجْلَوْهُمْ عَنْ مَكّةَ ، فَعَمَدُوا فِي اللّيْلِ إلَى الْحَجَرِ
الْأَسْوَدِ ، فَاقْتَلَعُوهُ وَاحْتَمَلُوهُ عَلَى بَعِيرٍ فَرَزَحَ الْبَعِيرُ
بِهِ وَسَقَطَ إلَى الْأَرْضِ وَجَعَلُوهُ عَلَى آخَرَ فَرَزَحَ أَيْضًا ، وَعَلَى
الثّالِثِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمّا رَأَوْا ذَلِكَ دَفَنُوهُ وَذَهَبُوا ،
فَلَمّا أَصْبَحَ أَهْلُ مَكّةَ ، وَلَمْ يَرَوْهُ وَقَعُوا فِي كَرْبٍ عَظِيمٍ
وَكَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خُزَاعَةَ قَدْ بَصُرَتْ بِهِ حِينَ دُفِنَ فَأَعْلَمَتْ
قَوْمَهَا بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ أَخَذَتْ خُزَاعَةُ عَلَى وُلَاةِ الْبَيْتِ أَنْ
يَتَخَلّوْا لَهُمْ [ ص 225 ] الْحَجَرِ ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَمِنْ هُنَالِكَ
صَارَتْ وِلَايَةُ الْبَيْتِ لِخُزَاعَةَ إلَى أَنْ صَيّرَهَا أَبُو غُبْشَانَ
إلَى عَبْدِ مَنَافٍ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزّبَيْرِ .
تَزَوّجُ
قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ حُبّى بِنْتَ حُلَيْلٍ
[ ص 225 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ قُصَيّ بْنَ كِلَابٍ خَطَبَ إلَى
حُلَيْلِ ابْنِ حُبْشِيّةَ بِنْتَه حُبّى ، فَرَغِبَ فِيهِ حُلَيْلٌ فَزَوّجَهُ
فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الدّارِ وَعَبْدَ مَنَافٍ وَعَبْدَ الْعُزّى ، وَعَبْدًا .
فَلَمّا انْتَشَرَ وَلَدُ قُصَيّ ، وَكَثُرَ مَالُهُ وَعَظُمَ شَرَفُهُ هَلَكَ
حُلَيْلٌ .
قُصَيّ يَتَوَلّى أَمْرَ الْبَيْتِ
فَرَأَى قُصَيّ أَنّهُ أَوْلَى بِالْكَعْبَةِ وَبِأَمْرِ مَكّةَ مِنْ خُزَاعَةَ
وَبَنِيّ بَكْرٍ وَأَنّ قُرَيْشًا قُرْعَةُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ
وَصَرِيحُ وَلَدِهِ . فَكَلّمَ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ ، وَبَنِيّ كِنَانَةَ
وَدَعَاهُمْ إلَى إخْرَاجِ خُزَاعَةَ وَبَنِيّ بَكْرٍ مِنْ مَكّةَ ، فَأَجَابُوهُ
. وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ حَرَامٍ مِنْ عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ قَدْ
قَدِمَ مَكّةَ بَعْدَمَا هَلَكَ كِلَابٌ فَتَزَوّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ سَعْدِ بْنِ
سَيَلٍ وَزُهْرَةُ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ وَقُصَيّ فَطِيمٌ فَاحْتَمَلَهُمَا إلَى
بِلَادِهِ فَحَمَلَتْ قُصَيّا مَعَهَا ، وَأَقَامَ زُهْرَةُ فَوَلَدَتْ
لِرَبِيعَةَ رِزَاحًا . فَلَمّا بَلَغَ قُصَيّ ، وَصَارَ رَجُلًا أَتَى مَكّةَ ،
فَأَقَامَ بِهَا ، فَلَمّا أَجَابَهُ قَوْمُهُ إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ كَتَبَ
إلَى أَخِيهِ مِنْ أُمّهِ رِزَاحِ بْنِ رَبِيعَةَ ، يَدْعُوهُ إلَى نُصْرَتِهِ
وَالْقِيَامِ مَعَهُ فَخَرَجَ رِزَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَمَعَهُ إخْوَتُهُ حُنّ
بْنُ رَبِيعَةَ ، وَمَحْمُودُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَجُلْهُمَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ،
وَهُمْ لِغَيْرِ أُمّهِ فَاطِمَةَ فِيمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ قُضَاعَةَ فِي حَاجّ
الْعَرَبِ ، وَهُمْ مُجْمِعُونَ لِنُصْرَةِ قُصَيّ . وَخُزَاعَةُ تَزْعُمُ أَنّ
حُلَيْلَ ابْنَ حُبْشِيّةَ أَوْصَى بِذَلِكَ قُصَيّا وَأَمَرَهُ بِهِ حِينَ انْتَشَرَ
[ ص 226 ] ابْنَتِهِ مِنْ الْوَلَدِ مَا انْتَشَرَ . وَقَالَ أَنْتَ أَوْلَى
بِالْكَعْبَةِ وَبِالْقِيَامِ عَلَيْهَا ، وَبِأَمْرِ مَكّةَ مِنْ خُزَاعَةَ ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبَ قُصَيّ مَا طَلَبَ وَلَمْ نَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ
فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ .Sنَشْأَةُ
قُصَيّ
فَصْلٌ وَذَكَرَ أَنّ قُصَيّا نَشَأَ فِي حَجْرِ رَبِيعَةَ بْنِ حَرَامٍ ثُمّ
ذَكَرَ رُجُوعَهُ إلَى مَكّةَ ، وَزَادَ غَيْرُهُ فِي شَرْحِ الْخَبَرِ ، فَقَالَ
وَكَانَ قُصَيّ رَضِيعًا حِين احْتَمَلَتْهُ أُمّهُ مَعَ بَعْلِهَا رَبِيعَةَ ،
فَنَشَأَ وَلَا يَعْلَمُ لِنَفْسِهِ أَبًا إلّا رَبِيعَةَ ، وَلَا يُدْعَى إلّا
لَهُ فَلَمّا كَانَ غُلَامًا يَفَعَةً أَوْ حَزَوّرًا سَابّهُ رَجُلٌ مِنْ
قُضَاعَةَ ، فَعَيّرَهُ بِالدّعْوَةِ وَقَالَ لَسْت مِنّا ، وَإِنّمَا أَنْتَ
فِينَا مُلْصَقٌ فَدَخَلَ عَلَى أُمّهِ وَقَدْ وَجَمَ لِذَلِكَ فَقَالَتْ لَهُ يَا
بُنَيّ صَدَقَ إنّك لَسْت مِنْهُمْ وَلَكِنّ رَهْطَك خَيْرٌ مِنْ رَهْطِهِ
وَآبَاؤُك أَشْرَفُ مِنْ آبَائِهِ وَإِنّمَا أَنْتَ قُرَشِيّ ، وَأَخُوك وَبَنُو
عَمّك بِمَكّةَ وَهُمْ جِيرَانُ بَيْتِ اللّهِ الْحَرَامِ فَدَخَلَ فِي سَيّارَةٍ
حَتّى أَتَى مَكّةَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنّ اسْمَهُ زَيْدٌ وَإِنّمَا كَانَ
قُصَيّا أَيْ بَعِيدًا عَنْ بَلَدِهِ فَسُمّيَ قُصَيّا .
مَا
كَانَ يَلِيهِ الْغَوْثُ بْنُ مُرّ مِنْ الْإِجَازَةِ لِلنّاسِ بِالْحَجّ
وَكَانَ الْغَوْثُ بْنُ مُرّ بْنِ أُدّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ
يَلِي الْإِجَازَةَ لِلنّاسِ بِالْحَجّ مِنْ عَرَفَةَ وَوَلَدُهُ مِنْ بَعْدِهِ
وَكَانَ يُقَالُ لَهُ وَلِوَلَدِهِ صُوفَةُ . وَإِنّمَا وَلِيَ ذَلِكَ الْغَوْثُ
بْنُ مُرّ ، لِأَنّ أُمّهُ كَانَتْ امْرَأَةً مِنْ جُرْهُمٍ ، وَكَانَتْ لَا
تَلِدُ فَنَذَرَتْ لِلّهِ إنْ هِيَ وَلَدَتْ رَجُلًا : أَنْ تَصّدّقَ بِهِ عَلَى
الْكَعْبَةِ عَبْدًا لَهَا يَخْدُمُهَا ، وَيَقُومُ عَلَيْهَا ، فَوَلَدَتْ
الْغَوْثَ ، فَكَانَ يَقُومُ عَلَى الْكَعْبَةِ فِي الدّهْرِ الْأَوّلِ مَعَ
أَخْوَالِهِ مِنْ جُرْهُمٍ ، فَوَلِيَ الْإِجَازَةَ بِالنّاسِ مِنْ عَرَفَةَ
لِمَكَانِهِ الّذِي كَانَ بِهِ مِنْ الْكَعْبَةِ ، وَوَلَدُهُ مِنْ بَعْدِهِ حَتّى
انْقَرَضُوا . فَقَالَ مُرّ بْنُ أُدّ لِوَفَاءِ نَذْرِ أُمّهِ
إنّي جُعِلْت رَبّ مِنْ بَنِيّهْ ... رَبِيطَةً بِمَكّةَ الْعَلِيّهْ
فَبَارِكَنّ لِي بِهَا أَلِيّهْ ... وَاجْعَلْهُ لِي مِنْ صَالِحِ الْبَرِيّهْ
وَكَانَ الْغَوْثُ بْنُ مُرّ - فِيمَا زَعَمُوا - إذَا دَفَعَ بِالنّاسِ قَالَ
لَا هُمّ إنّي تَابِعٌ تَبَاعَهْ ... إنْ كَانَ إثْمٌ فَعَلَى قُضَاعَهْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
الزّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَتْ صُوفَةُ تَدْفَعُ بِالنّاسِ مِنْ عَرَفَة ،
وَتُجِيزُ بِهِمْ إذَا نَفَرُوا مِنْ مِنَى ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ النّفَرِ
أَتَوْا لِرَمْيِ الْجِمَارِ وَرَجُلٌ مِنْ صُوفَةَ يَرْمِي لِلنّاسِ لَا
يَرْمُونَ حَتّى يَرْمِيَ . فَكَانَ ذَوُو [ ص 227 ] يَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ
لَهُ قُمْ فَارْمِ حَتّى نَرْمِيَ مَعَك ، فَيَقُولُ لَا وَاَللّهِ حَتّى تَمِيلَ
الشّمْسُ فَيَظَلّ ذَوُو الْحَاجَاتِ الّذِينَ يُحِبّونَ التّعَجّلَ يَرْمُونَهُ
بِالْحِجَارَةِ ويستعجلونه بِذَلِكَ وَيَقُولُونَ لَهُ وَيْلَك قُمْ فَارْمِ ،
فَيَأْبَى عَلَيْهِمْ حَتّى إذَا مَالَتْ الشّمْسُ قَامَ فَرَمَى ، وَرَمَى
النّاسُ مَعَهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ رَمْيِ الْجِمَارِ
وَأَرَادُوا النّفَرَ مِنْ مِنَى ، أَخَذَتْ صُوفَةُ بِجَانِبَيْ الْعَقَبَةِ ،
فَحَبَسُوا النّاسَ وَقَالُوا : أَجِيزِي صُوفَةُ فَلَمْ يُجَزْ أَحَدٌ مِنْ
النّاسِ حَتّى يَمُرّوا ، فَإِذَا نَفَرَتْ صُوفَةُ وَمَضَتْ خُلّيَ سَبِيلُ
النّاسِ فَانْطَلَقُوا بَعْدَهُمْ فَكَانُوا كَذَلِكَ [ ص 228 ] بِالْقُعْدُدِ
بَنُو سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ وَكَانَتْ مِنْ بَنِي سَعْدٍ فِي
آلِ صَفْوَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شِجْنَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : صَفْوَانُ
بْنُ جَنَابِ بْنِ شِجْنَةَ عُطَارِدُ بْنُ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ صَفْوَانُ هُوَ
الّذِي يُجِيزُ لِلنّاسِ بِالْحَجّ مِنْ عَرَفَةَ ثُمّ بَنُوهُ مِنْ بَعْدِهِ
حَتّى كَانَ آخِرَهُمْ الّذِي قَامَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ كَرْبُ بْنُ صَفْوَانَ
وَقَالَ أَوْسُ بْنُ تَمِيمِ بْنِ مَغْرَاءَ السّعْدِيّ :
لَا يَبْرَحُ النّاسُ مَا حَجّوا مُعَرّفَهُمْ ... حَتّى يُقَالَ أَجِيزُوا آلَ
صَفْوَانَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لِأَوْسِ بْنِ مَغْرَاءَ .Sالْغَوْثُ
بْنُ مُرّ وَصُوفَةُ
[ ص 226 ] وَذَكَرَ قِصّةَ الْغَوْثِ بْنِ مُرّ ، وَدَفْعِهِ بِالنّاسِ مِنْ
عَرَفَةَ وَقَالَ بَعْضُ نَقَلَةِ الْأَخْبَارِ إنّ وِلَايَةَ الْغَوْثِ بْنِ مُرّ
كَانَتْ مِنْ قِبَلِ مُلُوكِ كِنْدَةَ . وَقَوْلُهُ إنْ كَانَ إثْمًا فَعَلَى
قُضَاعَةَ . إنّمَا خَصّ قُضَاعَةَ بِهَذَا ؛ لِأَنّ مِنْهُمْ مُحِلّينَ
يَسْتَحِلّونَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ ، كَمَا كَانَتْ خَثْعَمُ وَطَيّئٌ تَفْعَلُ
وَكَذَلِكَ كَانَتْ النّسَأَةُ تَقُولُ إذَا حَرّمَتْ صَفَرًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ
الْأَشْهُرِ بَدَلًا مِنْ الشّهْرِ الْحَرَامِ - يَقُولُ قَائِلُهُمْ قَدْ حُرّمَتْ
عَلَيْكُمْ الدّمَاءُ إلّا دِمَاءُ الْمُحِلّينَ . [ ص 227 ] فَصْلٌ وَأَمّا
تَسْمِيَةُ الْغَوْثِ وَوَلَدِهِ صُوفَةَ فَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ .
فَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدِ اللّهِ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْقَاضِي فِي
أَنْسَابِ قُرَيْشٍ لَهُ عِنْدَ ذِكْرِ صُوفَةَ الْبَيْتَ الْوَاقِعَ فِي
السّيرَةِ لِأَوْسِ بْنِ مَغْرَاءَ السّعْدِيّ وَهُوَ لَا يَبْرَحُ النّاسُ مَا
حَجّوا مُعَرّفَهُمْ
الْبَيْتَ . وَبَعْدَهُ
مَجْدٌ بَنَاهُ لَنَا قِدْمًا أَوَائِلُنَا ... وَأَوْرَثُوهُ طِوَالَ الدّهْرِ
أَحْزَانَا
وَمَغْرَاءُ تَأْنِيثُ أَمْغَرَ وَهُوَ الْأَحْمَرُ وَمِنْهُ قَوْلُ
الْأَعْرَابِيّ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَهُوَ هَذَا
الرّجُلُ الْأَمْغَرُ ؟ ثُمّ قَالَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَصُوفَةُ وَصُوفَانُ
يُقَالُ لِكُلّ مَنْ وَلِيَ مِنْ الْبَيْتِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ أَوْ
قَامَ بِشَيْءِ مِنْ خِدْمَةِ الْبَيْتِ أَوْ بِشَيْءِ مِنْ أَمْرِ الْمَنَاسِكِ
يُقَالُ لَهُمْ صُوفَةُ وَصُوفَانُ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَنّهُ
بِمَنْزِلَةِ الصّوفِ فِيهِمْ الْقَصِيرُ وَالطّوِيلُ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَحْمَرُ
لَيْسُوا مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ . وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ أَنّهُ
حَدّثَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَثْرَمِ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ السّائِبِ
الْكَلْبِيّ قَالَ إنّمَا سُمّيَ الْغَوْثُ بْنُ مُرّ : صُوفَةَ لِأَنّهُ كَانَ
لَا يَعِيشُ لِأُمّهِ وَلَدٌ فَنَذَرَتْ لَئِنْ عَاشَ لَتُعَلّقَنّ بِرَأْسِهِ
صُوفَةَ وَلَتَجْعَلَنّهُ رَبِيطًا لِلْكَعْبَةِ فَفَعَلَتْ فَقِيلَ لَهُ صُوفَةُ
وَلِوَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الرّبِيطُ وَحَدّثَ إبْرَاهِيمُ بْنُ
الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عِمْرَانَ قَالَ أَخْبَرَنِي
عِقَالُ بْنُ شَبّةَ قَالَ قَالَتْ أُمّ تَمِيمِ بْنِ مُرّ - وَوَلَدَتْ نِسْوَةً
- فَقَالَتْ لِلّهِ عَلَيّ لَئِنْ وَلَدْت غُلَامًا لَأُعَبّدَنّهُ لِلْبَيْتِ
فَوَلَدَتْ الْغَوْثَ ، وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِ مُرّ فَلَمّا رَبَطَتْهُ عِنْدَ الْبَيْتِ
أَصَابَهُ الْحَرّ ، فَمَرّتْ بِهِ - وَقَدْ سَقَطَ وَذَوَى وَاسْتَرْخَى
فَقَالَتْ مَا صَارَ ابْنِي إلّا صُوفَةَ فَسُمّيَ صُوفَةَ . [ ص 228 ]
بَنُو سَعْدٍ وَزَيْدِ مَنَاةَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ وِرَاثَةَ بَنِي سَعْدٍ إجَازَةَ الْحَاجّ بِالْقُعْدُدِ مِنْ بَنِي
الْغَوْثِ بْنِ مُرّ ، وَذَلِكَ أَنّ سَعْدًا هُوَ ابْنُ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ
تَمِيمِ بْنِ مُرّ وَكَانَ سَعْدٌ أَقْعَدَ بِالْغَوْثِ بْنِ مُرّ مِنْ غَيْرِهِ
مِنْ الْعَرَبِ ، وَزَيْدُ مَنَاةَ بْنُ تَمِيمٍ يُقَالُ فِيهِ مَنَاةُ
وَمَنَاءَةُ بِالْهَمْزِ وَتَرْكِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ - إذَا هُمِزَ -
مَفْعَلَةً مِنْ نَاءَ يَنُوءُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعَالَةً مِنْ
الْمَنِيئَةِ وَهِيَ الْمَدْبَغَةُ كَمَا قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ
لِأُخْرَى : [ تَقُولُ لَك أُمّي ] : أَعْطِينِي نَفْسًا أَوْ نَفْسَيْنِ أَمْعَسُ
بِهِ مَنِيئَتِي ، فَإِنّي أَفِدَةٌ . النّفْسُ قِطْعَةٌ مِنْ الدّبَاغِ
وَالْمَنِيئَةُ الْجِلْدُ فِي الدّبَاغِ وَأَفِدَةٌ مُقَارِبَةٌ لِاسْتِتْمَامِ
مَا تُرِيدُ صَلَاحَهُ وَتَمَامَهُ مِنْ ذَلِكَ الدّبَاغِ وَأَنْشَدَ أَبُو
حَنِيفَةَ
إذَا أَنْتَ بَاكَرْت الْمَنِيئَةَ بَاكَرَتْ ... قَضِيبَ أَرَاكٍ بَاتَ فِي
الْمِسْكِ مُنْقَعًا
وَأَنْشَدَ يَعْقُوبُ
إذَا أَنْتَ بَاكَرْت الْمَنِيئَةَ بَاكَرَتْ ... مَدَاكًا لَهَا مِنْ زَعْفَرَانٍ
وَإِثْمِدَا
مَا
كَانَتْ عَلَيْهِ عَدْوَانُ مِنْ إفَاضَةِ الْمُزْدَلِفَةِ
[ ص 229 ] وَاسْمُهُ حُرْثَانُ بْنُ عَمْرٍو ، وَإِنّمَا سُمّيَ ذَا الْإِصْبَعِ
لِأَنّهُ كَانَ لَهُ إصْبَعٌ فَقَطَعَهَا .
عَذِيرَ الْحَيّ مِنْ عَدْوَا ... نَ كَانُوا حَيّةَ الْأَرْضِ
بَغَى بَعْضُهُمْ ظُلْمًا ... فَلَمْ يُرْعِ عَلَى بَعْضِ
وَمِنْهُمْ كَانَتْ السّادَا ... تُ وَالْمُوفُونَ بِالْقَرْضِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يُجِيزُ النّا ... سَ بِالسّنّةِ وَالْفَرْضِ
وَمِنْهُمْ حَكَمٌ يَقْضِي ... فَلَا يُنْقَضُ مَا يَقْضِي
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ - فَلِأَنّ الْإِضَافَةَ مِنْ
الْمُزْدَلِفَةِ كَانَتْ فِي عَدْوَانَ - فِيمَا حَدّثَنِي زِيَادُ بْنُ عَبْدِ
اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ - يَتَوَارَثُونَ ذَلِكَ
كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ . حَتّى كَانَ آخِرَهُمْ الّذِي قَامَ عَلَيْهِ
الْإِسْلَامُ أَبُو سَيّارَةَ عُمَيْلَةُ بْنُ الْأَعْزَلِ فَفِيهِ يَقُولُ
شَاعِرٌ مِنْ الْعَرَبِ :
نَحْنُ دَفَعْنَا عَنْ أَبِي سَيّارَهْ ... وَعَنْ مَوَالِيهِ بَنِي فَزَارَهْ
حَتّى أَجَازَ سَالِمًا حِمَارَهْ ... مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو جَارَهْ
قَالَ وَكَانَ أَبُو سَيّارَةَ يَدْفَعُ بِالنّاسِ عَلَى أَتَانٍ لَهُ فَلِذَلِكَ
يَقُولُ سَالِمًا حِمَارَهْ . [ ص 230 ]Sاشْتِقَاقُ
الْمُزْدَلِفَةِ
فَصْلٌ وَأَمّا قَوْلُهُ فَلِأَنّ الْإِفَاضَةَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ كَانَتْ فِي
عَدْوَانَ فَالْمُزْدَلِفَةُ مُفْتَعِلَةٌ مِنْ [ ص 229 ] { وَأَزْلَفْنَا ثَمّ
الْآخَرِينَ } وَقِيلَ بَلْ الِازْدِلَافُ هُوَ الِاقْتِرَابُ وَالزّلْفَةُ
الْقُرْبَةُ فَسُمّيَتْ مُزْدَلِفَةَ ؛ لِأَنّ النّاسَ يَزْدَلِفُونَ فِيهَا إلَى
الْحَرَمِ ، وَفِي الْخَبَرِ : أَنّ آدَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمّا هَبَطَ إلَى
الْأَرْضِ لَمْ يَزَلْ يَزْدَلِفُ إلَى حَوّاءَ ، وَتَزْدَلِفُ إلَيْهِ حَتّى
تَعَارَفَا بِعَرَفَةَ وَاجْتَمَعَا بِالْمُزْدَلِفَةِ فَسُمّيَتْ جُمَعًا ،
وَسُمّيَتْ الْمُزْدَلِفَةَ .
ذُو الْإِصْبَعِ وَآلُ ظَرِبٍ
وَأَمّا ذُو الْإِصْبَعِ الّذِي ذَكَرَهُ فَهُوَ حُرْثَانُ بْنُ عَمْرٍو ،
وَيُقَالُ فِيهِ حُرْثَانُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُحَرّثِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
هُبَيْرَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ ظَرِبٍ وَظَرِبٌ هُوَ وَالِدُ عَامِرِ بْنِ
الظّرِبِ الّذِي كَانَ حَكَمَ الْعَرَبَ ، وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قِصّتَهُ فِي
الْخُنْثَى ، وَفِيهِ يَقُولُ الشّاعِرُ [ الْمُتَلَمّسُ ] :
لِذِي الْحِلْمِ قَبْلَ الْيَوْمِ مَا تُقْرَعُ الْعَصَا ... وَمَا عُلّمَ
الْإِنْسَانُ إلّا لِيَعْلَمَا
[ ص 230 ] وَكَانَ قَدْ خَرِفَ حَتّى تَفَلّتَ ذِهْنُهُ فَكَانَتْ الْعَصَا
تُقْرَعُ لَهُ إذَا تَكَلّمَ فِي نَادِي قَوْمِهِ تَنْبِيهًا لَهُ لِئَلّا تَكُونَ
لَهُ السّقْطَةُ فِي قَوْلٍ أَوْ حُكْمٍ . وَكَذَلِكَ كَانَ ذُو الْإِصْبَعِ كَانَ
حَكَمًا فِي زَمَانِهِ وَعَمّرَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَسُمّيَ ذَا الْإِصْبَعِ
لِأَنّ حَيّةً نَهَشَتْهُ فِي أُصْبُعِهِ . وَجَدّهُمْ ظَرِبٌ هُوَ عَمْرُو بْنُ
عِيَاذِ بْنِ يَشْكُرَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَدْوَانَ ، وَاسْمُ عَدْوَانَ : تَيْمٌ
وَأُمّهُ جَدِيلَةُ بِنْتُ أُدّ بْنِ طَابِخَةَ وَكَانُوا أَهْلَ الطّائِفِ ،
وَكَثُرَ عَدَدُهُمْ فِيهَا حَتّى بَلَغُوا زُهَاءَ سَبْعِينَ أَلْفًا ، ثُمّ
هَلَكُوا بِبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَكَانَ ثَقِيفٌ وَهُوَ قَسِيّ بْنُ
مُنَبّهٍ صِهْرًا لِعَامِرِ بْنِ الظّرِبِ كَانَتْ تَحْتَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ
عَامِرٍ وَهِيَ أُمّ أَكْثَرِ ثَقِيفٍ ، وَقِيلَ هِيَ أُخْتُ عَامِرٍ وَأُخْتُهَا
لَيْلَى بِنْتُ الظّرِبِ هِيَ أُمّ دَوْسِ بْنِ عَدْنَانَ وَسَيَأْتِي طَرَفٌ مِنْ
خَبَرِهِ فِيمَا بَعْدُ - إنْ شَاءَ اللّهُ - فَلَمّا هَلَكَتْ عَدْوَانُ ،
وَأَخْرَجَتْ بَقِيّتَهُمْ ثَقِيفٌ مِنْ الطّائِفِ ، صَارَتْ الطّائِفُ
بِأَسْرِهَا لِثَقِيفِ إلَى الْيَوْمِ . وَقَوْلُهُ حَيّةَ الْأَرْضِ يُقَالُ
فُلَانٌ حَيّةُ الْأَرْضِ وَحَيّةُ الْوَادِي إذَا كَانَ مَهِيبًا يُذْعَرُ مِنْهُ
كَمَا قَالَ حَسّانُ
يَا مُحْكِمُ بْنَ طُفَيْلٍ قَدْ أُتِيحَ لَكُمْ ... لِلّهِ دُرّ أَبِيكُمْ حَيّةِ
الْوَادِي
يَعْنِي بِحَيّةِ الْوَادِي : خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ .
فَصْلٌ وَقَوْلُهُ عَذِيرَ الْحَيّ مِنْ عَدْوَانَ . نَصَبَ عَذِيرًا عَلَى
الْفِعْلِ الْمَتْرُوكِ إظْهَارُهُ كَأَنّهُ يَقُولُ هَاتُوا عَذِيرَهُ أَيْ مَنْ
يَعْذِرُهُ فَيَكُونُ الْعَذِيرُ بِمَعْنَى : الْعَاذِرِ وَيَكُونُ أَيْضًا
بِمَعْنَى : الْعُذْرِ مَصْدَرًا كَالْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ .
أَبُو سَيّارَةَ
وَذَكَرَ أَبَا سَيّارَةَ وَهُوَ عُمَيْلَةُ بْنُ الْأَعْزَلِ فِي قَوْلِ ابْنِ
إسْحَاقَ ، وَقَالَ غَيْرُهُ اسْمُهُ الْعَاصِي . قَالَهُ الْخَطّابِيّ . وَاسْمُ
الْأَعْزَلِ خَالِدٌ ذَكَرَهُ الْأَصْبَهَانِيّ ، وَكَانَتْ لَهُ أَتَانٌ
عَوْرَاءُ خِطَامُهَا لِيفٌ يُقَالُ إنّهُ دَفَعَ عَلَيْهَا فِي الْمَوْقِفِ
أَرْبَعِينَ سَنَةً وَإِيّاهَا يَعْنِي الرّاجِزُ فِي قَوْلِهِ حَتّى يُجِيزَ
سَالِمًا حِمَارَهْ . وَكَانَتْ تِلْكَ الْأَتَانُ سَوْدَاءَ وَلِذَلِكَ يَقُولُ
لَا هُمّ مَا لِي فِي الْحِمَارِ الْأَسْوَدِ ... أَصْبَحْت بَيْنَ الْعَالَمِينَ
أُحْسَدُ
فَقِ أَبَا سَيّارَةَ الْمُحَسّدَ ... مِنْ شَرّ كُلّ حَاسِدٍ إذْ يَحْسُدُ
[ ص 231 ] سَيّارَةَ هَذَا هُوَ الّذِي يَقُولُ أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرَ
وَهُوَ الّذِي يَقُولُ لَا هُمّ إنّي تَابِعٌ تَبَاعَهْ
وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللّهُمّ بَغّضْ بَيْنَ رِعَائِنَا ، وَحَبّبْ
بَيْنَ نِسَائِنَا ، وَاجْعَلْ الْمَالَ فِي سَمْحَائِنَا : وَهُوَ أَوّلُ مَنْ
جَعَلَ الدّيَةَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو الْيَقْظَانِ حَكَاهُ
عَنْهُ حَمْزَةُ بْنُ الْحَسَنِ الْأَصْبَهَانِيّ . وَقَوْلُهُ وَعَنْ مَوَالِيهِ
بَنِي فَزَارَهْ . يَعْنِي بِمَوَالِيهِ بَنِي عَمّهِ لِأَنّهُ مِنْ عَدْوَانَ
وَعَدْوَانُ وَفَزَارَةُ مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ ، وَقَوْلُهُ مُسْتَقْبِلَ
الْقِبْلَةِ يَدْعُو جَارَهْ . أَيْ يَدْعُو اللّهَ عَزّ وَجَلّ يَقُولُ اللّهُمّ
كُنْ لَنَا جَارًا مِمّا نَخَافُهُ أَيْ مُجِيرًا .
أَمْرُ
عَامِرِ بْنِ ظَرِبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِيَاذِ بْنِ يَشْكُرَ بْنِ عَدْوَانَ
[ ص 231 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَقَوْلُهُ حَكَمٌ يَقْضِي يَعْنِي : عَامَ بْنِ
ظَرِبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِيَاذِ بْنِ يَشْكُرَ بْنِ عَدْوَانَ الْعَدْوَانِيّ .
وَكَانَتْ الْعَرَبُ لَا يَكُونُ بَيْنَهَا نَائِرَةٌ وَلَا عُضْلَةٌ فِي قَضَاءٍ
إلّا أَسْنَدُوا ذَلِكَ إلَيْهِ ثُمّ رَضُوا بِمَا قَضَى فِيهِ فَاخْتَصَمَ
إلَيْهِ فِي بَعْضِ مَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فِي رَجُلٍ خُنْثَى ، لَهُ
مَا لِلرّجُلِ وَلَهُ مَا لِلْمَرْأَةِ فَقَالُوا : أَنَجْعَلُهُ رَجُلًا أَوْ
امْرَأَةً ؟ وَلَمْ يَأْتُوهُ بِأَمْرِ كَانَ أَعْضَلَ مِنْهُ . فَقَالَ حَتّى
أَنْظُرَ فِي أَمْرِكُمْ فَوَاَللّهِ مَا نَزَلَ بِي مِثْلُ هَذِهِ مِنْكُمْ يَا
مَعْشَرَ الْعَرَبِ فَاسْتَأْخَرُوا عَنْهُ . فَبَاتَ لَيْلَتَهُ سَاهِرًا
يُقَلّبُ أَمْرَهُ وَيَنْظُرُ فِي شَأْنِهِ لَا يَتَوَجّهُ لَهُ مِنْهُ وَجْهٌ
وَكَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا : سُخَيْلَةُ تَرْعَى عَلَيْهِ غَنَمَهُ
وَكَانَ يُعَاتِبُهَا إذَا سَرَحَتْ فَيَقُولُ صَبّحْت وَاَللّهِ يَا سُخَيْلَ
وَإِذَا أَرَاحَتْ عَلَيْهِ قَالَ مَسّيْتِ وَاَللّهِ يَا سُخَيْلَ وَذَلِكَ
أَنّهَا كَانَتْ تُؤَخّرُ السّرْحَ حَتّى يَسْبِقَهَا بَعْضُ النّاسِ وَتُؤَخّرُ
الْإِرَاحَةَ حَتّى يَسْبِقَهَا بَعْضُ النّاسِ . فَلَمّا رَأَتْ سَهَرَهُ
وَقَلَقَهُ وَقِلّةَ قَرَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ قَالَتْ مَا لَك لَا أَبَا لَك مَا
عَرَاك فِي لَيْلَتِك هَذِهِ ؟ قَالَ وَيْلَك دَعِينِي ، أَمْرٌ لَيْسَ مِنْ
شَأْنِك ، ثُمّ عَادَتْ لَهُ بِمِثْلِ قَوْلِهَا ، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ عَسَى
أَنْ تَأْتِيَ مِمّا أَنَا فِيهِ بِفَرَجِ فَقَالَ وَيْحَك اُخْتُصِمَ إلَيّ فِي
مِيرَاثِ خُنْثَى ، أَأَجْعَلُهُ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً ؟ فَوَاَللّهِ مَا
أَدْرِي مَا أَصْنَعُ مَا يَتَوَجّهُ لِي فِيهِ وَجْهٌ ؟ [ ص 232 ] قَالَ
فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللّهِ لَا أَبَا لَك أَتْبِعْ الْقَضَاءَ الْمَبَالَ
أَقْعِدْهُ فَإِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ الرّجُلُ فَهُوَ رَجُلٌ وَإِنْ بَالَ
مِنْ حَيْثُ تَبُولُ الْمَرْأَةُ فَهِيَ امْرَأَةٌ . قَالَ مَسّي سُخَيْلَ
بَعْدَهَا ، أَوْ صَبّحِي ، فَرّجْتهَا وَاَللّهِ ثُمّ خَرَجَ عَلَى النّاسِ حِينَ
أَصْبَحَ فَقَضَى بِاَلّذِي أَشَارَتْ عَلَيْهِ بِهِ .Sالْحُكْمُ
بِالْأَمَارَاتِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ عَامِرُ بْنُ الظّرِبِ وَحُكْمُهُ فِي الْخُنْثَى ، وَمَا
أَفْتَتْهُ بِهِ جَارِيَتُهُ سُخَيْلَةُ وَهُوَ حُكْمٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِي
الشّرْعِ وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ
وَلَهُ أَصْلٌ فِي الشّرِيعَةِ قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَجَاءُوا عَلَى
قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } وَجْهُ الدّلَالَةِ عَلَى الْكَذِبِ فِي الدّمِ أَنّ
الْقَمِيصَ الْمُدْمَى لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَرْقٌ وَلَا أَثَرٌ لِأَنْيَابِ
الذّئْبِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ
وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } [ يُوسُفَ 26 ] الْآيَةَ . [ ص 232 ] صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَوْلُودِ إنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَالِيّا
فَهُوَ لِلّذِي رُمِيَتْ بِهِ فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْأَمَارَاتِ أَصْلٌ يَنْبَنِي
عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الْحُدُودِ وَالْمِيرَاثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
. وَالْحُكْمُ فِي الْخُنْثَى أَنْ يُعْتَبَرَ الْمَبَالُ وَيُعْتَبَرَ
بِالْحَيْضِ فَإِنْ أَشْكَلَ مِنْ كُلّ وَجْهٍ حُكِمَ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ فِي
الْمِيرَاثِ سَهْمُ امْرَأَةٍ وَنِصْفٌ وَفِي الدّيَةِ كَذَلِكَ وَأَكْثَرُ
أَحْكَامِهِ مَبْنِيّةٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ .
غَلَبُ
قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ عَلَى أَمْرِ مَكّةَ وَجَمْعُهُ أَمْرَ قُرَيْشٍ وَمَعُونَةُ
قُضَاعَةَ لَهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ فَعَلَتْ صُوفَةُ كَمَا
كَانَتْ تَفْعَلُ وَقَدْ عَرَفَتْ [ ص 233 ] الْعَرَبُ ، وَهُوَ دِينٌ فِي
أَنْفُسِهِمْ فِي عَهْدِ جُرْهُمٍ وَخُزَاعَةَ وَوِلَايَتِهِمْ . فَأَتَاهُمْ
قُصَيّ بْنُ كِلَابٍ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ
وَقُضَاعَةَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ ، فَقَالَ لَنَحْنُ أَوْلَى بِهَذَا مِنْكُمْ ،
فَقَاتَلُوهُ فَاقْتَتَلَ النّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا ، ثُمّ انْهَزَمَتْ صُوفَةُ
وَغَلَبَهُمْ قُصَيّ عَلَى مَا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ . وَانْحَازَتْ
عِنْدَ ذَلِكَ خُزَاعَةُ وَبَنُو بَكْرٍ عَنْ قُصَيّ ، وَعَرَفُوا أَنّهُ
سَيَمْنَعُهُمْ كَمَا مَنَعَ صُوفَةَ وَأَنّهُ سَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْكَعْبَةِ وَأَمْرِ مَكّةَ . فَلَمّا انْحَازُوا عَنْهُ بَادَأَهُمْ وَأَجْمَعَ
لِحَرْبِهِمْ وَخَرَجَتْ لَهُ خُزَاعَةُ وَبَنُو بَكْرٍ فَالْتَقَوْا ،
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا ، حَتّى كَثُرَتْ الْقَتْلَى فِي الْفَرِيقَيْنِ
جَمِيعًا ، ثُمّ إنّهُمْ تَدَاعَوْا إلَى الصّلْحِ وَإِلَى أَنْ يُحَكّمُوا
بَيْنَهُمْ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ ، فَحَكّمُوا يَعْمَرَ بْنَ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ
بْنِ عَامِرِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ فَقَضَى
بَيْنَهُمْ بِأَنّ قُصَيّا أَوْلَى بِالْكَعْبَةِ وَأَمْرِ مَكّةَ مِنْ خُزَاعَةَ
، وَأَنّ كُلّ دَمٍ أَصَابَهُ قُصَيّ مِنْ خُزَاعَةَ وَبَنِيّ بَكْرٍ مَوْضُوعٌ
يَشْدَخُهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ وَأَنّ مَا أَصَابَتْ خُزَاعَةُ وَبَنُو بَكْرٍ مِنْ
قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَقُضَاعَةَ ، فَفِيهِ الدّيَةُ مُؤَدّاةً وَأَنْ يُخَلّى
بَيْنَ قُصَيّ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ وَمَكّةَ . فَسُمّيَ يَعْمَرُ بْنُ عَوْفٍ يَوْمَئِذٍ
الشّدّاخَ لِمَا شَدَخَ مِنْ الدّمَاءِ وَوَضَعَ مِنْهَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَيُقَالُ الشّدّاخُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلِيَ قُصَيّ الْبَيْتَ وَأَمْرَ
مَكّةَ ، وَجَمَعَ قَوْمَهُ مِنْ مَنَازِلِهِمْ إلَى مَكّةَ ، وَتَمَلّكَ عَلَى
قَوْمِهِ وَأَهْلِ مَكّةَ فَمَلّكُوهُ إلّا أَنّهُ قَدْ أَقَرّ لِلْعَرَبِ مَا
كَانُوا عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ يَرَاهُ دِينًا فِي نَفْسِهِ لَا
يَنْبَغِي تَغْيِيرُهُ فَأَقَرّ آلَ صَفْوَانَ وَعَدْوَانَ وَالنّسَأَةَ وَمُرّةَ
بْنَ عَوْفٍ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ حَتّى جَاءَ الْإِسْلَامُ فَهَدَمَ اللّهُ
بِهِ ذَلِكَ كُلّهُ . فَكَانَ قُصَيّ أَوّلَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ أَصَابَ
مُلْكًا أَطَاعَ لَهُ بِهِ قَوْمُهُ فَكَانَتْ إلَيْهِ الْحِجَابَةُ وَالسّقَايَةُ
وَالرّفَادَةُ وَالنّدْوَةُ ، وَاللّوَاءُ فَحَازَ شَرَفَ مَكّةَ كُلّهُ .
وَقَطّعَ مَكّةَ رِبَاعًا بَيْنَ قَوْمِهِ فَأَنْزَلَ كُلّ قَوْمٍ مِنْ قُرَيْشٍ
مَنَازِلَهُمْ مِنْ مَكّةَ الّتِي أَصْبَحُوا عَلَيْهَا ، وَيَزْعُمُ النّاسُ أَنّ
قُرَيْشًا هَابُوا قَطْعَ الْحَرَمِ فِي مَنَازِلِهِمْ فَقَطَعَهَا قُصَيّ
بِيَدِهِ وَأَعْوَانِهِ فَسَمّتْهُ قُرَيْشٌ : مُجَمّعًا لِمَا جَمَعَ مِنْ
أَمْرِهَا ، وَتَيَمّنَتْ بِأَمْرِهِ فَمَا تُنْكَحُ امْرَأَةٌ وَلَا يَتَزَوّجُ
رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَمَا يَتَشَاوَرُونَ فِي أَمْرٍ نَزَلَ بِهِمْ وَلَا
يَعْقِدُونَ لِوَاءً لِحَرْبِ قَوْمٍ مِنْ غَيْرِهِمْ إلّا فِي دَارِهِ يَعْقِدُهُ
لَهُمْ بَعْضُ وَلَدِهِ وَمَا تَدّرِعُ جَارِيَةٌ إذَا بَلَغَتْ أَنْ تَدّرِعَ
مِنْ قُرَيْشٍ إلّا فِي دَارِهِ يُشَقّ عَلَيْهَا فِيهَا دِرْعُهَا ثُمّ
تَدّرِعُهُ ثُمّ يُنْطَلَقُ بِهَا إلَى أَهْلِهَا . فَكَانَ أَمْرُهُ فِي قَوْمِهِ
مِنْ قُرَيْشٍ فِي حَيَاتِهِ وَمِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ كَالدّينِ الْمُتّبَعِ لَا [
ص 234 ] وَاِتّخَذَ لِنَفْسِهِ دَارَ النّدْوَةِ ، وَجَعَلَ بَابَهَا إلَى
مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ ، فَفِيهَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقْضِي أُمُورَهَا : قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ الشّاعِرُ
قُصَيّ لَعَمْرِي كَانَ يُدْعَى مُجَمّعًا ... بِهِ جَمّعَ اللّهُ الْقَبَائِلَ
مِنْ فِهْرٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ سَمِعْت السّائِبَ بْنَ خَبّابٍ صَاحِبَ الْمَقْصُورَةِ يُحَدّثُ أَنّهُ
سَمِعَ رَجُلًا يُحَدّثُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، وَهُوَ خَلِيفَةٌ حَدِيثَ
قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ ، وَمَا جَمَعَ مِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ وَإِخْرَاجَهُ خُزَاعَةَ
وَبَنِيّ بَكْرٍ مِنْ مَكّةَ ، وَوِلَايَتَهُ الْبَيْتَ وَأَمْرَ مَكّةَ ، فَلَمْ
يَرُدّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ .Sالشّدّاخُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ يَعْمَرَ الشّدّاخَ بْنَ عَوْفٍ حِينَ حَكّمُوهُ وَأَنّهُ سُمّيَ
بِالشّدّاخِ لَمّا شَدَخَ مِنْ دِمَاءِ خُزَاعَةَ وَيَعْمَرُ الشّدّاخُ هُوَ جَدّ
بَنِي دَأْبٍ الّذِينَ أُخِذَ عَنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْ عِلْمِ الْأَخْبَارِ وَالْأَنْسَابِ
وَهُمْ عِيسَى بْنُ يَزِيدَ بْنِ [ بَكْرِ ] بْنِ دَأْبٍ وَأَبُوهُ يَزِيدُ
وَحُذَيْفَةُ بْنُ دَأْبٍ وَدَأْبٌ هُوَ ابْنُ كُرْزِ بْنِ أَحْمَرَ مِنْ بَنِي
يَعْمَرَ بْنِ عَوْفٍ الّذِي شَدَخَ دِمَاءَ خُزَاعَةَ ، أَيْ أَبْطَلَهَا ،
وَأَصْلُ الشّدْخِ الْكَسْرُ وَالْفَضْخُ وَمِنْهُ الْغُرّةُ الشّادِخَةُ شُبّهَتْ
بِالضّرْبَةِ الْوَاسِعَةِ . وَالشّدّاخُ بِفَتْحِ الشّينِ كَمَا قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ ، وَالشّدّاخُ بِضَمّهَا إنّمَا هُوَ جَمْعٌ ، وَجَائِزٌ أَنْ يُسَمّى
هُوَ وَبَنُوهُ الشّدّاخَ كَمَا يُقَالُ الْمَنَاذِرَةُ فِي الْمُنْذِرِ وَبَنِيهِ
وَالْأَشْعَرُونَ فِي بَنِي الْأَشْعَرِ مِنْ سَبَأٍ وَهُوَ بَابٌ يَكْثُرُ
وَيَطُولُ . وَأُمّ يَعْمَرَ الشّدّاخِ اسْمُهَا : السّؤْمُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ
جُرّةَ بِضَمّ الْجِيمِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ جِرّةَ بِالْكَسْرِ ذَكَرَهُ ابْنُ
مَاكُولَا . وَمِنْ بَنِي الشّدّاخِ بَلْعَاءُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ يَعْمَرَ الشّدّاخُ الشّاعِرُ الْمَذْكُورُ فِي شِعْرِ الْحَمَاسَةِ اسْمُهُ
حُمَيْضَةُ وَلُقّبَ بَلْعَاءَ لِقَوْلِهِ
أَنَا ابْنُ قَيْسٍ سَبُعًا وَابْنَ سَبُعْ ... أَبَارَ مِنْ قَيْسٍ قَبِيلًا
فَالْتَمَعْ
كَأَنّمَا كَانُوا طَعَامًا فَابْتُلِعْ
وِلَايَةُ قُصَيّ الْبَيْتَ
[ ص 233 ] [ ص 234 ] ذَكَرَ فِيهِ أَمْرَ قُصَيّ وَمَا جَمَعَ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ
، وَأَنْشَدَ
قُصَيّ لَعَمْرِي كَانَ يُدْعَى مُجَمّعًا
الْبَيْتَ وَبَعْدَهُ
هُمُوا مَلَئُوا الْبَطْحَاءَ مَجْدًا وَسُوْدُدًا ... وَهُمْ طَرَدُوا عَنّا
غُوَاةَ بَنِي بَكْرِ
وَيَذْكُرُ أَنّ هَذَا الشّعْرَ لِحُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ . وَذَكَرَ أَنّ قُصَيّا
قَطّعَ مَكّةَ رِبَاعًا ، وَأَنّ أَهْلَهَا هَابُوا قَطْعَ شَجَرِ الْحَرَمِ
لِلْبُنْيَانِ . وَقَالَ الْوَاقِدِيّ : الْأَصَحّ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنّ
قُرَيْشًا حِينَ أَرَادُوا الْبُنْيَانَ قَالُوا لِقُصَيّ كَيْفَ نَصْنَعُ فِي
شَجَرِ الْحَرَمِ ، فَحَذّرَهُمْ قَطْعَهَا وَخَوّفَهُمْ الْعُقُوبَةَ فِي ذَلِكَ
فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَحُوفُ بِالْبُنْيَانِ حَوْلَ الشّجَرَةِ ، حَتّى تَكُونَ فِي
مَنْزِلِهِ . قَالَ فَأَوّلُ مَنْ تَرَخّصَ فِي قَطْعِ شَجَرِ الْحَرَمِ
لِلْبُنْيَانِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَيْرِ حِينَ ابْتَنَى دُورًا
بِقُعَيْقِعَانَ لَكِنّهُ جَعَلَ دِيَةَ كُلّ شَجَرَةٍ بَقَرَةً وَكَذَلِكَ يُرْوَى
عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - أَنّهُ قَطَعَ دَوْحَةً كَانَتْ فِي دَارِ
أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، كَانَتْ تَنَالُ أَطْرَافُهَا ثِيَابَ الطّائِفِينَ
بِالْكَعْبَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوَسّعَ الْمَسْجِدُ فَقَطَعَهَا عُمَرُ -
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَوَدَاهَا بَقَرَةً وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللّهُ
- فِي ذَلِكَ أَلّا دِيَةَ فِي شَجَرِ الْحَرَمِ . قَالَ وَلَمْ يَبْلُغْنِي فِي
ذَلِكَ شَيْءٌ . وَقَدْ أَسَاءَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَأَمّا الشّافِعِيّ -
رَحِمَهُ اللّهُ - فَجَعَلَ فِي الدّوْحَةِ بَقَرَةً وَفِيمَا دُونَهَا شَاةً .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللّهُ - إنْ كَانَتْ الشّجَرَةُ الّتِي فِي
الْحَرَمِ مِمّا يَغْرِسُهَا النّاسُ ويَسْتَنْبِتُونها ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَى
مَنْ قَطَعَ شَيْئًا مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهَا ، فَفِيهِ الْقِيمَةُ
بَالِغًا مَا بَلَغَتْ . وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ : أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ
عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا - أَفْتَى فِيهَا بِعِتْقِ رَقَبَةٍ . [ ص 235 ]
دَارُ النّدْوَةِ
وَذَكَرَ أَنّ قُصَيّا اتّخَذَ دَارَ النّدْوَةِ ، وَهِيَ الدّارُ الّتِي كَانُوا
يَجْتَمِعُونَ فِيهَا لِلتّشَاوُرِ وَلَفْظُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ لَفْظِ النّدِيّ
وَالنّادِي وَالْمُنْتَدَى ، وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَوْمِ الّذِي يَنْدُونَ حَوْلَهُ
أَيْ يَذْهَبُونَ قَرِيبًا مِنْهُ ثُمّ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ وَالتّنْدِيَةُ فِي
الْخَيْلِ . أَنْ تُصْرَفَ عَنْ الْوِرْدِ إلَى الْمَرْعَى قَرِيبًا ، ثُمّ
تُعَادُ إلَى الشّرْبِ وَهُوَ الْمُنَدّى ، وَهَذِهِ الدّارُ تَصَيّرَتْ بَعْدَ
بَنِي عَبْدِ الدّارِ إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ
عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ ، فَبَاعَهَا فِي الْإِسْلَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ
دِرْهَمٍ وَذَلِكَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ فَلَامَهُ مُعَاوِيَةُ فِي ذَلِكَ
وَقَالَ أَبِعْت مَكْرُمَةَ آبَائِك وَشَرَفِهِمْ فَقَالَ حَكِيمٌ ذَهَبَتْ
الْمَكَارِمُ إلّا التّقْوَى . وَاَللّهِ لَقَدْ اشْتَرَيْتهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ
بِزِقّ خَمْرٍ وَقَدْ بِعْتهَا بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَأُشْهِدُكُمْ أَنّ
ثَمَنَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَأَيّنَا الْمَغْبُونُ ؟ ذَكَرَ خَبَرَ حَكِيمٍ
هَذَا الدّارَقُطْنِيّ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِ الْمُوَطّأِ لَهُ .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 235 ] قُصَيّ مِنْ حَرْبِهِ انْصَرَفَ أَخُوهُ رِزَاحُ بْنُ
رَبِيعَةَ إلَى بِلَادِهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ وَقَالَ رِزَاحٌ فِي
إجَابَتِهِ قُصَيّا : [ ص 236 ] [ ص 237 ]
لَمّا أَتَى مِنْ قُصَيّ رَسُولٌ ... فَقَالَ الرّسُولُ أَجِيبُوا الْخَلِيلَا
نَهَضْنَا إلَيْهِ نَقُودُ الْجِيَادَ ... وَنَطْرَحُ عَنّا الْمَلُولَ الثّقِيلَا
نَسِيرُ بِهَا اللّيْلَ حَتّى الصّبَاحِ ... وَنَكْمِي النّهَارَ لِئَلّا نَزُولَا
فَهُنّ سِرَاعٌ كَوِرْدِ الْقَطَا ... يُجِبْنَ بِنَا مِنْ قُصَيّ رَسُولَا
جَمَعْنَا مِنْ السّرّ مِنْ أَشْمَذَيْنِ ... وَمِنْ كُلّ حَيّ جَمَعْنَا قَبِيلَا
فَيَا لَك حَلْبَةَ مَا لَيْلَةٌ ... تَزِيدُ عَلَى الْأَلْفِ سَيْبًا رَسِيلَا
فَلَمّا مَرَرْنَ عَلَى عَسْجَرٍ ... وَأَسْهَلْنَ مِنْ مُسْتَنَاخٍ سَبِيلَا
وَجَاوَزْنَ بِالرّكْنِ مِنْ وَرِقَانٍ ... وَجَاوَزْنَ بِالْعَرْجِ حَيّا
حُلُولَا
مَرَرْنَ عَلَى الْخَيْلِ مَا ذُقْنَهُ ... وَعَالَجْنَ مَنْ مَرّ لَيْلًا
طَوِيلَا
نُدَنّي مِنْ الْعُوذِ أَفْلَاءَهَا ... إرَادَةَ أَنْ يَسْتَرِقْنَ الصّهِيلَا
فَلَمّا انْتَهَيْنَا إلَى مَكّةَ ... أَبَحْنَا الرّجَالَ قَبِيلًا قَبِيلَا
نُعَاوِرُهُمْ ثَمّ حَدّ السّيُوفِ ... وَفِي كُلّ أَوْبٍ خَلَسْنَا الْمَقُولَا
نُخَبّزُهُمْ بِصِلَابِ النّسُو ... رِ خَبْزَ الْقَوِيّ الْعَزِيزِ الذّلِيلَا
قَتَلْنَا خُزَاعَةَ فِي دَارِهَا ... وَبَكْرًا قَتَلْنَا وَجِيلًا فَجِيلَا
نَفَيْنَاهُمْ مِنْ بِلَادِ الْمَلِيكِ ... كَمَا لَا يَحُلّونَ أَرْضًا سُهُولَا
فَأَصْبَحَ سَبْيُهُمْ فِي الْحَدِيدِ ... وَمِنْ كُلّ حَيّ شَفَيْنَا الْغَلِيلَا
وَقَالَ ثَعْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ هُذَيْمٍ الْقُضَاعِيّ فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ قُصَيّ حِينَ دَعَاهُمْ
فَأَجَابُوهُ
جَلَبْنَا الْخَيْلَ مُضْمَرَةً تَغَالَى ... مِنْ الْأَعْرَافِ أَعْرَافِ
الْجِنَابِ
إلَى غَوْرَى تِهَامَةَ فَالْتَقَيْنَا ... مِنْ الْفَيْفَاءِ فِي قَاعٍ يَبَابِ
فَأَمّا صُوفَةُ الْخُنْثَى ، فَخَلّوْا ... مَنَازِلَهُمْ مُحَاذَرَةَ الضّرَابِ
وَقَامَ بِنَسْرِ عَلَى إذْ رَأَوْنَا ... إلَى الْأَسْيَافِ كَالْإِبِلِ
الطّرَابِ
وَقَالَ قُصَيّ بْنُ كِلَابٍ :
أَنَا ابْنُ الْعَاصِمِينَ بَنِي لُؤَيّ ... بِمَكّةَ مَنْزِلِي ، وَبِهَا رُبِيتُ
إلَى الْبَطْحَاءِ قَدْ عَلِمَتْ مَعَدّ ... وَمَرْوَتُهَا رَضِيت بِهَا رَضِيت
فَلَسْت لِغَالِبِ إنْ لَمْ تَأَثّلْ ... بِهَا أَوْلَادُ قَيْذَرَ وَالنّبِيتُ
رِزَاحٌ نَاصِرِي ، وَبِهِ أُسَامِي ... فَلَسْت أَخَافُ ضَيْمًا مَا حَيِيتSمِنْ
تَفْسِيرِ شِعْرِ رِزَاحٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ شِعْرَ رِزَاحٍ ، وَفِيهِ وَنَكْمِي النّهَارَ أَيْ نَكْمُنُ
وَنَسْتَتِرُ وَالْكَمِيّ مِنْ الْفُرْسَانِ الّذِي تَكَمّى بِالْحَدِيدِ .
وَقِيلَ الّذِي يَكْمِي شَجَاعَتَهُ أَيْ يَسْتُرُهَا ، حَتّى يُظْهِرَهَا عِنْدَ
الْوَغَى . وَفِيهِ مَرَرْنَا بِعَسْجَرَ وَهُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ وَكَذَلِكَ وَرِقَانُ
اسْمُ جَبَلٍ وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ سُفْيَانَ وَرَقَانُ بِفَتْحِ الرّاءِ
وَقَيّدَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيّ : وَرِقَانَ بِكَسْرِ الرّاءِ وَأَنْشَدَ
لِلْأَحْوَصِ
وَكَيْفَ نُرَجّي الْوَصْلَ مِنْهَا وَأَصْبَحَتْ ... ذُرَى وَرِقَانٍ دُونَهَا
وَحَفِيرُ
وَيُخَفّفُ فَيُقَالُ وَرْقَانُ . قَالَ جَمِيلٌ
يَا خَلِيلَيّ إنّ بَثْنَةَ بَانَتْ ... يَوْمَ وَرْقَانَ بِالْفُؤَادِ سَبِيّا
[ ص 236 ] وَذَكَرَ أَنّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْجِبَالِ وَذَكَرَ أَنّ فِيهِ
أَوْشَالًا وَعُيُونًا عِذَابًا ، وَسَكّانُهُ بَنُو أَوْسِ بْنِ مُزَيْنَةَ .
وَذَكَرَ أَيْضًا الْحَدِيثَ وَهُوَ قَوْلُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - ضِرْسُ الْكَافِرِ فِي النّارِ مِثْلُ أُحُدٍ ، وَفَخِذُهُ مِثْلُ
وَرِقَانٍ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ ذَكَرَ آخِرَ مَنْ
يَمُوتُ مِنْ هَذِهِ الْأُمّةِ فَقَالَ رَجُلَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يَنْزِلَانِ
جَبَلًا مِنْ جِبَالِ الْعَرَبِ ، يُقَالُ لَهُ وَرِقَانُ كُلّ هَذَا مِنْ قَوْلِ
الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ مُعْجَمِ مَا اُسْتُعْجِمَ . فَصْلٌ وَذَكَرَ أَشْمَذِينَ
بِكَسْرِ الذّالِ وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ سُفْيَانَ بْنِ الْعَاصِ الْأَشْمَذَانِ
جَبَلَانِ [ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ ] ، وَيُقَالُ اسْمُ قَبِيلَتَيْنِ
ثُمّ قَالَ فِي الْحَاشِيَةِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الرّوَايَةُ بِفَتْحِ الذّالِ
وَكَسْرِ النّونِ مِنْ أَشْمَذَيْنِ - قَالَ الْمُؤَلّفُ رَحِمَهُ اللّهُ - فَإِنْ
صَحّ أَنّهُمَا اسْمُ قَبِيلَتَيْنِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الرّوَايَةُ
كَمَا فِي الْأَصْلِ أَشْمَذِينَ بِكَسْرِ الذّالِ لِأَنّهُ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى
. وَاشْتِقَاقُ الْأَشْمَذِ مِنْ شَمَذَاتِ النّاقَةِ بِذَنَبِهَا أَيْ رَفَعَتْهُ
وَيُقَالُ لِلنّحْلِ شُمّذٌ لِأَنّهَا تَرْفَعُ أَعْجَازَهَا . وَفِيهِ مَرَرْنَ
عَلَى الْحَيْلِ وَفَسّرَهُ الشّيْخُ فِي حَاشِيَةِ الْكِتَابِ فَقَالَ هُوَ
الْمَاءُ الْمُسْتَنْقَعُ فِي بَطْنِ وَادٍ وَوَجَدْت فِي غَيْرِ أَصْلِ الشّيْخِ
رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا : مَرَرْنَ عَلَى الْحِلّ وَالْأُخْرَى : مَرَرْنَ
عَلَى الْحِلْيِ فَأَمّا الْحِلّ : فَجَمْعُ حِلّةٍ وَهِيَ بَقْلَةٌ شَاكّةٌ .
ذَكَرَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي الْجَمْهَرَةِ . وَأَمّا الْحِلْيُ فَيُقَالُ إنّهُ
ثَمَرُ الْقُلْقُلَانِ وَهُوَ نَبْتٌ . [ ص 237 ] نُخَبّزُهُمْ . أَيْ نَسُوقُهُمْ
سَوْقًا شَدِيدًا ، وَقَدْ تَقَدّمَ قَوْلُ الرّاجِزِ . لَا تَخْبِزَا خَبْزًا
وَبُسّا بَسّا . وَذَكَرَ شِعْرَ رِزَاحٍ الْآخَرَ وَفِيهِ مِنْ الْأَعْرَافِ
أَعْرَافِ الْجِنَابِ . بِكَسْرِ الْجِيمِ وَهُوَ مَوْضِعٌ مِنْ بِلَادِ قُضَاعَةَ
. وَفِيهِ وَقَامَ بَنُو عَلِيّ وَهُمْ بَنُو كِنَانَةَ ، وَإِنّمَا سُمّوا
بِبَنِي عَلِيّ لِأَنّ عَبْدَ مَنَاةَ بْنَ كِنَانَةَ كَانَ رَبِيبًا لِعَلِيّ
بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنٍ مِنْ الْأَزْدِ جَدّ سَطِيحٍ الْكَاهِنِ فَقِيلَ
لِبَنِي كِنَانَةَ بَنُو عَلِيّ وَأَحْسَبُهُ أَرَادَ فِي هَذَا الْبَيْتِ بَنِي
بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ لِأَنّهُمْ قَامُوا مَعَ خُزَاعَةَ .
شِعْرُ قُصَيّ والعذرتاق
وَذَكَرَ شِعْرَ قُصَيّ : أَنَا ابْنُ الْعَاصِمِينَ بَنِي لُؤَيّ
الْأَبْيَاتَ وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُشْكِلُ .
[
ص 238 ] رِزَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ فِي بِلَادِهِ نَشَرَهُ اللّهُ وَنَشَرَ حُنّا ،
فَهُمَا قَبِيلَا عُذْرَةَ الْيَوْمَ . وَقَدْ كَانَ بَيْنَ رِزَاحِ بْنِ
رَبِيعَةَ ، حِينَ قَدِمَ بِلَادَهُ وَبَيْنَ نَهْدِ بْنِ زَيْدٍ وَحَوْتَكَةَ
بْنِ أَسْلَمَ ، وَهُمَا بَطْنَانِ مِنْ قُضَاعَةَ شَيْءٌ فَأَخَافَهُمْ حَتّى
لَحِقُوا بِالْيَمَنِ وَأَجْلَوْا مِنْ بِلَادِ قُضَاعَةَ ، فَهُمْ الْيَوْمَ
بِالْيَمَنِ فَقَالَ قُصَيّ بْنُ كِلَابٍ ، وَكَانَ يُحِبّ قُضَاعَةَ وَنَمَاءَهَا
وَاجْتِمَاعَهَا بِبِلَادِهَا ، لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِزَاحٍ مِنْ الرّحِمِ
وَلِبَلَائِهِمْ عِنْدَهُ إذْ أَجَابُوهُ إذْ دَعَاهُمْ إلَى نُصْرَتِهِ وَكَرِهَ
مَا صَنَعَ بِهِمْ رِزَاحٌ :
أَلّا مَنْ مُبْلِغٌ عَنّي رِزَاحًا ... فَإِنّي قَدْ لَحَيْتُك فِي اثْنَتَيْنِ
لَحَيْتُك فِي بَنِي نَهْدِ بْنِ زَيْدٍ ... كَمَا فَرّقْت بَيْنَهُمْ وَبَيْنِي
وَحَوْتَكَةَ بْنِ أَسْلَمَ إنّ قَوْمًا ... عَنَوْهُمْ بِالْمَسَاءَةِ قَدْ
عَنَوْنِي
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَتُرْوَى هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِزُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ
الْكَلْبِيّ .S[ ص 238 ] وَذَكَرَ أَنّ رِزَاحًا حِينَ اسْتَقَرّ فِي بِلَادِهِ
نَشَرَ اللّهُ وَلَدَهُ وَوَلَدَ حُنّ بْنِ رَبِيعَةَ ، فَهُمَا حَيّا عُذْرَةَ .
قَالَ الْمُؤَلّفُ فِي قُضَاعَةَ : عُذْرَتَانِ عُذْرَةُ بْنُ رُفَيْدَةَ وَهُمْ
مِنْ بَنِي كَلْبِ بْنِ وَبْرَةَ . وَعُذْرَةُ بْنُ سَعْدِ بْنِ سُودِ بْنِ
أَسْلُمِ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ ، وَأَسْلُمُ هَذَا هُوَ بِضَمّ اللّامِ
مِنْ وَلَدِ حُنّ بْنِ رَبِيعَةَ أَخِي رِزَاحِ بْنِ رَبِيعَةَ جَدّ جَمِيلِ بْنِ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَعْمَرٍ صَاحِبِ بُثَيْنَةَ وَمَعْمَرٌ هُوَ ابْنُ وَلَدِ
الْحَارِثِ بْنِ خَيْبَرَ بْنِ ظَبْيَانَ وَهُوَ الضّبِيسُ بْنُ حُنّ .
وَبُثَيْنَةُ أَيْضًا مِنْ وَلَدِ حُنّ وَهِيَ بِنْتُ حِبّانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ
بْنِ الْهَوْذِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَحَبّ بْنِ حُنّ [ وَفِي قُضَاعَةَ
أَيْضًا عُذْرَةُ بْنُ عَدِيّ وَفِي الْأَزْدِ : عُذْرَةُ بْنُ عَدّاد ] .
حَوْتَكَةُ وَأَسْلُمٌ
وَذَكَرَ حَوْتَكَةَ بْنَ أَسْلُمٍ وَبَنِيّ نَهْدِ بْنِ زَيْدٍ وَإِجْلَاء
رِزَاحٍ لَهُمْ وَحَوْتَكَةُ هُوَ عَمّ نَهْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلُمٍ ،
وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِ أَسْلُمٌ بِضَمّ اللّامِ إلّا ثَلَاثَةٌ . اثْنَانِ
مِنْهَا فِي قُضَاعَةَ ، وَهُمَا : أَسْلُمُ بْنُ الْحَافّ هَذَا ، وَأَسْلُمُ
بْنُ تَدُولَ بْنِ تَيْمِ اللّاتِ بْنِ رُفَيْدَةَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ كَلْبِ ،
وَالثّالِثُ فِي عَكّ أَسْلُمُ بْنُ الْقَيَاتَةِ بْنِ غَابِنِ بْنِ الشّاهِدِ
بْنِ عَكّ وَمَا عَدَا هَؤُلَاءِ فَأَسْلَمُ بِفَتْحِ اللّامِ . ذَكَرَهُ ابْنُ
حَبِيبٍ فِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا كَبِرَ قُصَيّ وَرَقّ عَظْمُهُ وَكَانَ عَبْدُ الدّارِ
بِكْرَهُ وَكَانَ عَبْدُ مَنَافٍ قَدْ شَرُفَ فِي زَمَانِ أَبِيهِ وَذَهَبَ كُلّ
مَذْهَبٍ وَعَبْدُ الْعُزّى وَعَبْدٌ . قَالَ قُصَيّ [ ص 239 ] كَانُوا قَدْ
شَرُفُوا عَلَيْك : لَا يَدْخُلْ رَجُلٌ مِنْهُمْ الْكَعْبَةَ ، حَتّى تَكُونَ
أَنْتَ تَفْتَحُهَا لَهُ وَلَا يُعْقَدُ لِقُرَيْشِ لِوَاءٌ لِحَرْبِهَا إلّا
أَنْتَ بِيَدِك ، وَلَا يَشْرَبُ أَحَدٌ بِمَكّةَ إلّا مِنْ سِقَايَتِك ، وَلَا
يَأْكُلُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَوْسِمِ طَعَامًا إلّا مِنْ طَعَامِك ، وَلَا
تَقْطَعُ قُرَيْشٌ أَمْرًا مِنْ أُمُورِهَا إلّا فِي دَارِك ، فَأَعْطَاهُ دَارَهُ
دَارَ النّدْوَةِ ، الّتِي لَا تَقْضِي قُرَيْشٌ أَمْرًا مِنْ أُمُورِهَا إلّا
فِيهَا ، وَأَعْطَاهُ الْحِجَابَةَ وَاللّوَاءَ وَالسّقَايَةَ وَالرّفَادَةَ .
مَنْ فَرَضَ الرّفَادَةَ وَكَانَتْ الرّفَادَةُ خَرْجًا تُخْرِجُهُ قُرَيْشٌ فِي
كُلّ مَوْسِمٍ مِنْ أَمْوَالِهَا إلَى قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ ، فَيَصْنَعُ بِهِ
طَعَامًا لِلْحَاجّ فَيَأْكُلُهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَعَةٌ وَلَا زَادٌ .
وَذَلِكَ أَنّ قُصَيّا فَرَضَهُ عَلَى قُرَيْشٍ ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ أَمَرَهُمْ
بِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّكُمْ جِيرَانُ اللّهِ ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَأَهْلُ
الْحَرَمِ ، وَإِنّ الْحَاجّ ضَيْفُ اللّهِ وَزَوّارُ بَيْتِهِ وَهُمْ أَحَقّ
الضّيْفِ بِالْكَرَامَةِ فَاجْعَلُوا لَهُمْ طَعَامًا وَشَرَابًا أَيّامَ الْحَجّ
حَتّى يَصْدُرُوا عَنْكُمْ فَفَعَلُوا ، فَكَانُوا يَخْرُجُونَ لِذَلِكَ كُلّ
عَامٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ خَرْجًا ، فَيَدْفَعُونَهُ إلَيْهِ فَيَصْنَعُهُ
طَعَامًا لِلنّاسِ أَيّامَ مِنَى ، فَجَرَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ فِي
الْجَاهِلِيّةِ عَلَى قَوْمِهِ حَتّى قَامَ الْإِسْلَامُ ثُمّ جَرَى فِي
الْإِسْلَامِ إلَى يَوْمِك هَذَا ، فَهُوَ الطّعَامُ الّذِي يَصْنَعُهُ
السّلْطَانُ كُلّ عَامٍ بِمِنَى لِلنّاسِ حَتّى يَنْقَضِيَ الْحَجّ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : حَدّثَنِي بِهَذَا مِنْ أَمْرِ قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ ، وَمَا قَالَ
لِعَبْدِ الدّارِ فِيمَا دَفَعَ إلَيْهِ مِمّا كَانَ بِيَدِهِ أَبِي إسْحَاقَ بْنِ
يَسَارٍ ، عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُمْ قَالَ سَمِعْته يَقُولُ ذَلِكَ لِرَجُلِ مِنْ بَنِي عَبْدِ
الدّارِ يُقَالُ لَهُ نُبَيْهُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ
عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ .
قَالَ الْحَسَنُ فَجَعَلَ إلَيْهِ قُصَيّ كُلّ مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ أَمْرِ
قَوْمِهِ وَكَانَ قُصَيّ لَا يُخَالِفُ وَلَا يُرَدّ عَلَيْهِ شَيْءٌ صَنَعَهُ .
ذِكْرُ مَا جَرَى مِنْ اخْتِلَافِ قُرَيْشٍ بَعْدَ قُصَيّ وَحِلْفُ الْمُطَيّبِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ قُصَيّ بْنَ كِلَابٍ هَلَكَ فَأَقَامَ أَمْرَهُ
فِي قَوْمِهِ وَفِي غَيْرِهِمْ [ ص 240 ] فَاخْتَطّوا مَكّةَ رِبَاعًا - بَعْدَ
الّذِي كَانَ قَطَعَ لِقَوْمِهِ بِهَا - فَكَانُوا يَقْطَعُونَهَا فِي قَوْمِهِمْ
وَفِي غَيْرِهِمْ مِنْ حُلَفَائِهِمْ وَيَبِيعُونَهَا فَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ
قُرَيْشٌ مَعَهُمْ لَيْسَ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَازُعٌ ثُمّ إنّ بَنِي
عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ عَبْدَ شَمْسٍ وَهَاشِمًا وَالْمُطّلِبَ وَنَوْفَلًا
أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا مَا بِأَيْدِي بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَي
ّ مِمّا كَانَ قُصَيّ جَعَلَ إلَى عَبْدِ الدّارِ مِنْ الْحِجَابَةِ وَاللّوَاءِ
وَالسّقَايَةِ وَالرّفَادَةِ وَرَأَوْا أَنّهُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ
لِشَرَفِهِمْ عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ فَتَفَرّقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ
قُرَيْشٌ ، فَكَانَتْ طَائِفَةٌ مَعَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى رَأْيِهِمْ
يَرَوْنَ أَنّهُمْ أَحَقّ بِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّار ِ لِمَكَانِهِمْ فِي
قَوْمِهِمْ وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مَعَ بَنِي عَبْدِ الدّارِ . يَرَوْنَ أَنْ لَا
يُنْزَعَ مِنْهُمْ مَا كَانَ قُصَيّ جَعَلَ إلَيْهِمْ . [ ص 241 ] فَكَانَ صَاحِبَ
أَمْرِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عَبْدُ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَذَلِكَ أَنّهُ
كَانَ أَسَنّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَكَانَ صَاحِبَ أَمْرِ بَنِي عَبْدِ الدّارِ
عَامِرُ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ . فَكَانَ بَنُو
أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْن ِ قُصَيّ ، وَبَنُو زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ ،
وَبَنُو تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبٍ ، وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ فِهْرِ بْنِ
مَالِكِ بْنِ النّضْرِ ، مَعَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ . وَكَانَ بَنُو مَخْزُومِ
بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ ، وَبَنُو سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ
كَعْبٍ ، وَبَنُو جُمَحَ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ ، وَبَنُو عَدِيّ
بْنِ كَعْبٍ مَعَ بَنِي عَبْدِ الدّارِ وَخَرَجَتْ عَامِرُ بْنُ لُؤَيّ
وَمُحَارِبُ بْنُ فِهْرٍ ، فَلَمْ يَكُونُوا مَعَ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ .
فَعَقَدَ كُلّ قَوْمٍ عَلَى أَمْرِهِمْ حِلْفًا مُؤَكّدًا عَلَى أَنْ لَا
يَتَخَاذَلُوا ، وَلَا يُسْلِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَا بَلّ بَحْرٌ صُوفَةَ .
فَأَخْرَجَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً طِيبًا ، فَيَزْعُمُونَ
أَنّ بَعْضَ نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَخْرَجَتْهَا لَهُمْ فَوَضَعُوهَا
لِأَحْلَافِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ، ثُمّ غَمَسَ الْقَوْمُ
أَيْدِيَهُمْ فِيهَا ، فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا هُمْ وَحُلَفَاؤُهُمْ ثُمّ
مَسَحُوا الْكَعْبَةَ بِأَيْدِيهِمْ تَوْكِيدًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَسُمّوا
الْمُطَيّبِينَ . وَتَعَاقَدَ بَنُو عَبْدِ الدّارِ وَتَعَاهَدُوا هُمْ
وَحُلَفَاؤُهُمْ عِنْدَ الْكَعْبَةِ حِلْفًا مُؤَكّدًا ، عَلَى أَنْ لَا
يَتَخَاذَلُوا ، وَلَا يُسْلِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَسُمّوا الْأَحْلَاف . ثُمّ
سُونِدَ بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَلُزّ بَعْضُهَا بِبَعْضِ فَعُبّيَتْ بَنُو عَبْدِ
مَنَافٍ لِبَنِي سَهْمٍ وَعُبّيَتْ بَنُو أَسَد ٍ لِبَنِي عَبْدِ الدّارِ
وَعُبّيَتْ زُهْرَةُ لِبَنِي جُمَحَ وَعُبّيَتْ بَنُو تَيْمٍ لِبَنِي مَخْزُومٍ
وَعُبّيَتْ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ لِبَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ ، ثُمّ
قَالُوا : لِتُقْنِ كُلّ قَبِيلَةٍ مَنْ أُسْنِدَ إلَيْهَا . فَبَيْنَا النّاسُ
عَلَى ذَلِكَ قَدْ أَجْمَعُوا لِلْحَرْبِ إذْ تَدَاعَوْا إلَى الصّلْحِ عَلَى أَنْ
يُعْطُوا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ السّقَايَةَ وَالرّفَادَةَ وَأَنْ تَكُونَ
الْحِجَابَةُ وَاللّوَاءُ وَالْقُوّةُ لِبَنِي عَبْدِ الدّارِ كَمَا كَانَتْ
فَفَعَلُوا وَرَضِيَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ بِذَلِكَ وَتَحَاجَزَ
النّاسُ عَنْ الْحَرْبِ وَثَبَتَ كُلّ قَوْمٍ مَعَ مَنْ حَالَفُوا ، فَلَمْ
يَزَالُوا عَلَى ذَلِكَ حَتّى جَاءَ اللّهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي
الْجَاهِلِيّةِ فَإِنّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَزِدْهُ إلّا شِدّةً .S[ ص 239 ] فَصْلٌ
وَذَكَرَ تَنَازُعَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِيّ عَبْدِ الدّارِ فِيمَا كَانَ قُصَيّ
جَعَلَ إلَيْهِمْ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ حِلْفَ الْمُطَيّبِينَ وَسَمّاهُمْ وَذَكَرَ
أَنّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ عَبْدِ مَنَافٍ هِيَ الّتِي أَخْرَجَتْ لَهُمْ [ ص
240 ] سَمّاهَا الزّبَيْرُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ هِيَ أُمّ
حَكِيمٍ الْبَيْضَاءُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ عَمّةُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَتَوْأَمَةُ أَبِيهِ . قَالَ وَكَانَ الْمُطَيّبُونَ
يُسَمّوْنَ الدّافَةَ جَمْعَ دَائِفٍ بِتَخْفِيفِ الْفَاءِ لِأَنّهُمْ دَافُوا
الطّيبَ . السّنَادُ وَالْإِقْوَاءُ وَذَكَرَ أَنّ الْقَبَائِلَ سُونِدَ بَعْضُهَا
إلَى بَعْضٍ لِتَكْفِيَ كُلّ قَبِيلَةٍ مَا سُونِدَ إلَيْهَا ، فَسُونِدَ مِنْ
السّنَادِ وَهِيَ مُقَابَلَةٌ فِي الْحَرْبِ بَيْنَ كُلّ فَرِيقٍ وَمَا يَلِيهِ
مِنْ عَدُوّهِ وَمِنْهُ أُخِذَ سِنَادُ الشّعْرِ وَهُوَ أَنْ يَتَقَابَلَ
الْمِصْرَاعَانِ مِنْ الْبَيْتِ فَيَكُونُ قَبْلَ حَرْفِ الرّوِيّ حَرْفُ مَدّ
وَلِينٍ وَيَكُونُ فِي آخِرِ الْبَيْتِ الثّانِي قَبْلَ حَرْفِ الرّوِيّ حَرْفُ
لِينٍ وَهِيَ يَاءٌ أَوْ وَاوٌ مَفْتُوحٌ مَا قَبْلَهَا كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ
كُلْثُومٍ : أَلَا هُبّي بِصَحْنِك فَاصْبِحِينَا
ثُمّ قَابَلَهُ فِي بَيْتٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ - تُصَفّقُهَا الرّيَاحُ إذَا
جَرَيْنَا - فَكَأَنّ الْيَاءَ الْمَفْتُوحَ مَا قَبْلَهَا قَدْ سُونِدَتْ بِهَا
إلَى الْيَاءِ الْمَكْسُورِ مَا قَبْلَهَا ، فَتَقَابَلَتَا ، وَهُمَا غَيْرُ مُتّفِقَتَيْنِ
فِي الْمَدّ كَمَا يَتَقَابَلُ الْقَبِيلَتَانِ وَهُمَا مُخْتَلِفَتَانِ
مُتَعَادِيَتَانِ وَأَمّا الْإِقْوَاءُ فَهُوَ أَنْ يَنْقُصَ قُوّةٌ مِنْ
الْمِصْرَاعِ الْأَوّلِ كَمَا تَنْقُصُ قُوّةٌ مِنْ قُوَى الْحَبْلِ وَذَلِكَ أَنْ
يَنْقُصَ مِنْ آخِرِ الْمِصْرَاعِ الْأَوّلِ حَرْفٌ مِنْ الْوَتَدِ كَقَوْلِهِ
أَفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ ... تَرْجُو النّسَاءَ عَوَاقِبَ
الْأَطْهَارِ
وَكَقَوْلِهِ الْآخَرِ
لَمّا رَأَتْ مَاءَ السّلَى مَشْرُوبًا ... وَالْفَرْثُ يُعْصَرُ فِي الْإِنَاءِ
أَرَنّتْ
[ ص 241 ] وَكَانَ الْأَصْمَعِيّ يُسَمّي هَذَا الْإِقْوَاءَ الْمُقْعَدَ ذَكَرَهُ
عَنْهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَقَالَ عَدِيّ بْنُ الرّقَاعِ [ الْعَامِلِيّ ] فِي
السّنَادِ
وَقَصِيدَةٍ قَدْ بِتّ أَجْمَعُ بَيْتَهَا ... حَتّى أُثَقّفَ مَيْلَهَا
وَسِنَادَهَا=
2. الروض الأنف
حِلْفُ
الْفُضُولِ
[ ص 242 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَمّا حِلْفُ الْفُضُولِ فَحَدّثَنِي زِيَادُ
بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ قَالَ تَدَاعَتْ
قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى حِلْفٍ فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ [ ص 243 ] جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ
مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، لِشَرَفِهِ وَسِنّهِ . فَكَانَ حِلْفَهُمْ
عِنْدَهُ بَنُو هَاشِمٍ ، وَبَنُو الْمُطّلِبِ ، وَأَسَدَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى ،
وَزُهْرَةُ بْنُ كِلَابٍ ، [ ص 244 ] فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَنْ لَا
يَجِدُوا بِمَكّةَ مَظْلُومًا مِنْ أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ مِمّنْ دَخَلَهَا مِنْ
سَائِرِ النّاسِ إلّا قَامُوا مَعَهُ وَكَانُوا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ حَتّى تُرَدّ
عَلَيْهِ مَظْلِمَتُهُ فَسَمّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ .S[ ص 242 ] وَذَكَرَ
ابْنُ هِشَامٍ الْحِلْفَ الّذِي عَقَدَتْهُ قُرَيْشٌ بَيْنَهَا عَلَى نُصْرَةِ
كُلّ مَظْلُومٍ بِمَكّةَ قَالَ وَيُسَمّى حِلْفَ الْفُضُولِ وَلَمْ يَذْكُرْ
سَبَبَ هَذِهِ التّسْمِيَةِ وَذَكَرَهَا ابْنُ قُتَيْبَةَ ، فَقَالَ كَانَ قَدْ
سَبَقَ قُرَيْشًا إلَى مِثْلِ هَذَا الْحِلْفِ جُرْهُمٌ فِي الزّمَنِ الْأَوّلِ
فَتَحَالَفَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ هُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ أَحَدُهُمْ الْفَضْلُ بْنُ
فَضَالَةَ ، وَالثّانِي : الْفَضْلُ بْنُ وَدَاعَةَ ، وَالثّالِثُ فُضَيْلُ بْنُ
الْحَارِثِ . هَذَا قَوْلُ الْقُتَبِيّ . وَقَالَ الزّبَيْرُ الْفُضَيْلُ بْنُ
شُرَاعَةَ وَالْفَضْلُ بْنُ وَدَاعَةَ ، وَالْفَضْلُ بْنُ قُضَاعَةَ ، فَلَمّا
أَشْبَهَ حِلْفُ قُرَيْشٍ الْآخَرُ فِعْلَ هَؤُلَاءِ الْجُرْهُمِيّينَ سُمّيَ
حِلْفَ الْفُضُولِ وَالْفُضُولُ جَمْعُ فَضْلٍ وَهِيَ أَسْمَاءُ أُولَئِكَ
الّذِينَ تَقَدّمَ ذِكْرُهُمْ . وَهَذَا الّذِي قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ حَسَنٌ
وَلَكِنْ فِي الْحَدِيثِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَوْلَى . رَوَى الْحُمَيْدِيّ
عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ عَنْ مُحَمّدٍ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ ابْنَيْ
أَبِي بَكْرٍ قَالَا : قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
لَقَدْ شَهِدْت فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا لَوْ دُعِيت بِهِ
فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْت . تَحَالَفُوا أَنْ تُرَدّ الْفُضُولُ عَلَى أَهْلِهَا
، وَأَلّا يَعُزّ ظَالِمٌ مَظْلُومًا . وَرَوَاهُ فِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْنِ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ التّمِيمِيّ ِ . فَقَدْ بَيّنَ هَذَا
الْحَدِيثَ لِمَ سُمّيَ حِلْفَ الْفُضُولِ وَكَانَ حِلْفُ الْفُضُولِ بَعْدَ
الْفُجّارِ وَذَلِكَ أَنّ حَرْبَ الْفُجّارِ كَانَتْ فِي شَعْبَانَ وَكَانَ حِلْفُ
الْفُضُولِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِعِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَ
حِلْفُ الْفُضُولِ أَكْرَمَ حِلْفٍ سُمِعَ بِهِ وَأَشْرَفَهُ فِي الْعَرَبِ .
وَكَانَ أَوّلَ مَنْ تَكَلّمَ بِهِ وَدَعَا إلَيْهِ الزّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنّ رَجُلًا مِنْ زُبَيْدٍ قَدِمَ مَكّةَ
بِبِضَاعَةِ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ الْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ وَكَانَ ذَا قَدْرٍ
بِمَكّةَ وَشَرَفٍ فَحَبَسَ عَنْهُ حَقّهُ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ الزّبَيْدِيّ
الْأَحْلَافَ : عَبْدَ الدّارِ وَمَخْزُومًا وَجُمَحَ وَسَهْمًا وَعَدِيّ بْنَ
كَعْبٍ ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُوهُ عَلَى الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ وَزَبَرُوهُ
أَيْ انْتَهَرُوهُ فَلَمّا رَأَى الزّبَيْدِيّ الشّرّ أَوْفَى عَلَى أَبِي
قُبَيْسٍ عِنْدَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ
الْكَعْبَةِ ، فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ
يَا آلَ فِهْرٍ لِمَظْلُومِ بِضَاعَتُهُ ... بِبَطْنِ مَكّةَ نَائِي الدّارِ
وَالنّفَرِ
وَمُحْرِمٍ أَشْعَثٍ لَمْ يَقْضِ عُمْرَتَهُ ... يَا لَلرّجَالِ وَبَيْنَ
الْحِجْرِ وَالْحَجَرِ
إنّ الْحَرَامَ لِمَنْ تَمّتْ كَرَامَتُهُ ... وَلَا حَرَامَ لِثَوْبِ الْفَاجِرِ
الْغُدَرِ
[ ص 243 ] الزّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَقَالَ مَا لِهَذَا مُتَرّكٌ
فَاجْتَمَعَتْ هَاشِمٌ وَزُهْرَةُ وَتَيْمُ بْنُ مُرّةَ فِي دَارِ ابْنِ جُدْعَانَ
، فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا ، وَتَحَالَفُوا فِي ذِي الْقَعْدَةِ فِي شَهْرٍ
حَرَامٍ قِيَامًا ، فَتَعَاقَدُوا ، وَتَعَاهَدُوا بِاَللّهِ لَيَكُونَنّ يَدًا
وَاحِدَةً مَعَ الْمَظْلُومِ عَلَى الظّالِمِ حَتّى يُؤَدّى إلَيْهِ حَقّهُ مَا
بَلّ بَحْرٌ صُوفَةَ وَمَا رَسَا حِرَاءٌ وَثَبِيرٌ مَكَانَهُمَا ، وَعَلَى
التّأَسّي فِي الْمَعَاشِ فَسَمّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ
وَقَالُوا : لَقَدْ دَخَلَ هَؤُلَاءِ فِي فَضْلٍ مِنْ الْأَمْرِ ثُمّ مَشَوْا إلَى
الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ فَانْتَزَعُوا مِنْهُ سِلْعَةَ الزّبَيْدِيّ فَدَفَعُوهَا
إلَيْهِ وَقَالَ الزّبَيْرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
حَلَفْت لَنَقْعُدَنْ حِلْفًا عَلَيْهِمْ ... وَإِنْ كُنّا جَمِيعًا أَهْلَ دَارِ
نُسَمّيهِ الْفُضُولَ إذَا عَقَدْنَا ... يَعِزّ بِهِ الْغَرِيبُ لَدَى الْجِوَارِ
وَيَعْلَمُ مَنْ حَوَالِي الْبَيْتِ أَنّا ... أُبَاةُ الضّيْمِ نَمْنَعُ كُلّ
عَارِ
وَقَالَ الزّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ :
إنّ الْفُضُولَ تَحَالَفُوا ، وَتَعَاقَدُوا ... أَلّا يُقِيمَ بِبَطْنِ مَكّةَ
ظَالِمُ
أَمْرٌ عَلَيْهِ تَعَاهَدُوا ، وَتَوَاثَقُوا ... فَالْجَارُ وَالْمُعَتّرُ
فِيهِمْ سَالِمُ
وَذَكَرَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنّ رَجُلًا مِنْ خَثْعَمَ
قَدِمَ مَكّةَ مُعْتَمِرًا ، أَوْ حَاجّا ، وَمَعَهُ بِنْتٌ لَهُ يُقَالُ لَهَا :
الْقَتُولُ مِنْ أَوْضَأِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فَاغْتَصَبَهَا مِنْهُ نُبَيْهُ
بْنُ الْحَجّاجِ وَغَيّبَهَا عَنْهُ فَقَالَ الْخَثْعَمِيّ : مَنْ يُعْدِينِي
عَلَى هَذَا الرّجُلِ فَقِيلَ لَهُ عَلَيْك بِحِلْفِ الْفُضُولِ فَوَقَفَ عِنْدَ
الْكَعْبَةِ ، وَنَادَى : يَا لَحِلْفِ الْفُضُولِ فَإِذَا هُمْ يُعْنِقُونَ
إلَيْهِ مِنْ كُلّ جَانِبٍ وَقَدْ انْتَضَوْا أَسْيَافَهُمْ يَقُولُونَ جَاءَك
الْغَوْثُ ، فَمَا لَك ؟ فَقَالَ إنّ نُبَيْهًا ظَلَمَنِي فِي ابْنَتِي ،
وَانْتَزَعَهَا مِنّي قَسْرًا ، فَسَارُوا مَعَهُ حَتّى وَقَفُوا عَلَى بَابِ
الدّارِ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ أَخْرِجْ الْجَارِيَةَ وَيْحَك ،
فَقَدْ عَلِمْت مَنْ نَحْنُ وَمَا تَعَاقَدْنَا عَلَيْهِ فَقَالَ أَفْعَلُ
وَلَكِنْ مَتّعُونِي بِهَا اللّيْلَةَ فَقَالُوا لَهُ لَا وَاَللّهِ وَلَا شَخْبَ
لِقْحَةٍ فَأَخْرَجَهَا إلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ [ ص 244 ]
رَاحَ صَحْبِي وَلَمْ أُحَيّ الْقَتُولَا ... لَمْ أُوَدّعْهُمْ وَدَاعًا جَمِيلَا
ذْ أَجَدّ الْفُضُولُ أَنْ يَمْنَعُوهَا ... قَدْ أَرَانِي ، وَلَا أَخَافُ
الْفُضُولَا
لَا تَخَالِي أَنّي عَشِيّةَ رَاحَ الرّ ... كْبُ هُنْتُمْ عَلَيّ أَلّا أَقُوّلَا
فِي أَبْيَاتٍ غَيْرِ هَذِهِ ذَكَرَهَا الزّبَيْرُ وَذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ فِيهَا
أَيْضًا :
حَلّتْ تِهَامَةُ حِلّةً ... مِنْ بَيْتِهَا وَوِطَائِهَا
وَلَهَا بِمَكّةَ مَنْزِلٌ ... مِنْ سَهْلِهَا وَحِرَائِهَا
أَخَذَتْ بَشَاشَةَ قَلْبِهِ ... وَنَأَتْ فَكَيْفَ بِنَأْيِهَا
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 245 ] التّيْمِيّ أَنّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ عَوْفٍ الزّهْرِيّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ [ ص 246 ] لَقَدْ شَهِدْت فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ
حِلْفًا ، مَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهِ حُمْرَ النّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي
الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتSالْحِلْفُ
وَابْنُ جُدْعَانَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَقَدْ
شَهِدْت فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهِ
حُمْرَ النّعَمِ وَلَوْ دُعِيت إلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْت وَعَبْدُ
اللّهِ بْنُ جُدْعَانَ هَذَا تَيْمِيّ هُوَ ابْنُ جُدْعَانَ بْنِ عُمَرَ بْنِ
كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ يُكَنّى : أَبَا زُهَيْرِ ابْنَ عَمّ عَائِشَةَ -
رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - وَلِذَلِكَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إ نّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ يُطْعِمُ الطّعَامَ وَيَقْرِي الضّيْفَ
فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ لَا إنّهُ لَمْ يَقُلْ
يَوْمًا : رَبّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَمِنْ غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِابْنِ قُتَيْبَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ كُنْت أَسَتَظِلّ بِظِلّ جَفْنَةِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
جُدْعَانَ صَكّةَ عُمَيّ يَعْنِي : فِي الْهَاجِرَةِ وَسُمّيَتْ الْهَاجِرَةُ
صَكّةَ عُمَيّ لِخَبَرِ ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْأَنْوَاءِ أَنّ عُمَيّا
رَجُلٌ مِن ْ عَدْوَانَ ، وَقِيلَ مِنْ إيَادٍ ، وَكَانَ فَقِيهَ الْعَرَبِ فِي
الْجَاهِلِيّةِ فَقَدِمَ فِي قَوْمٍ مُعْتَمِرًا أَوْ حَاجّا : فَلَمّا كَانَ
عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكّةَ قَالَ لِقَوْمِهِ وَهُمْ فِي نَحْرِ الظّهِيرَةِ
مَنْ أَتَى مَكّةَ غَدًا فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ كَانَ لَهُ أَجْرُ عُمْرَتَيْنِ
فَصَكّوا الْإِبِلَ صَكّةً شَدِيدَةً حَتّى أَتَوْا مَكّةَ مِنْ الْغَدِ فِي
مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَنْشَدَ
وَصَكّ بِهَا نَحْرَ الظّهِيرَةِ صَكّةَ ... عُمَيّ وَمَا يَبْغِينَ إلّا
ظِلَالَهَا
[ ص 245 ] وَعُمَيّ : تَصْغِيرُ أَعْمَى عَلَى التّرْخِيمِ فَسُمّيَتْ الظّهِيرَةُ
صَكّةَ عُمَيّ بِهِ . وَقَالَ الْبَكْرِيّ فِي شَرْحِ الْأَمْثَالِ عُمَيّ :
رَجُلٌ مِنْ الْعَمَالِيقِ أَوْقَعَ بِالْعَدُوّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ
فَسُمّيَ ذَلِكَ الْوَقْتُ صَكّةَ عُمَيّ وَاَلّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْلَى
، وَقَائِلُهُ أَعْلَى . وَقَالَ يَعْقُوبُ عَمِيَ الظّبْيُ يَتَحَيّرُ بَصَرُهُ
فِي الظّهِيرَةِ مِنْ شِدّةِ الْحَرّ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : وَكَانَتْ
جَفْنَتُهُ يَأْكُلُ مِنْهَا الرّاكِبُ عَلَى الْبَعِيرِ وَسَقَطَ فِيهَا صَبِيّ ،
فَغَرِقَ أَيْ مَاتَ . وَكَانَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ قَبْلَ أَنْ
يَمْدَحَهُ قَدْ أَتَى بَنِي الدّيّانِ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ فَرَأَى
طَعَامَ بَنِي عَبْدِ الْمَدَانِ مِنْهُمْ لُبَابُ الْبُرّ وَالشّهْدُ وَالسّمْنُ
وَكَانَ ابْنُ جُدْعَانَ يُطْعِمُ التّمْرَ وَالسّوِيقَ وَيَسْقِي اللّبَنَ
فَقَالَ أُمَيّةُ
وَلَقَدْ رَأَيْت الْفَاعِلِينَ وَفِعْلَهُمْ ... فَرَأَيْت أَكْرَمَهُمْ بَنِي
الدّيّانِ
الْبُرّ يُلْبَكُ بِالشّهَادِ طَعَامُهُمْ ... لَا مَا يُعَلّلُنَا بَنُو
جُدْعَانَ
فَبَلَغَ شِعْرُهُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ جُدْعَانَ ، فَأَرْسَلَ أَلْفَيْ بَعِيرٍ
إلَى الشّامِ ، تَحْمِلُ إلَيْهِ الْبُرّ وَالشّهْدَ وَالسّمْنَ وَجَعَلَ
مُنَادِيًا يُنَادِي عَلَى الْكَعْبَةِ : أَلَا هَلُمّوا إلَى جَفْنَةِ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ ، فَقَالَ أُمَيّةُ عِنْدَ ذَلِكَ
لَهُ دَاعٍ بِمَكّةَ مُشْمِعَلّ ... وَآخَرُ فَوْقَ كَعْبَتِهَا يُنَادِي
إلَى رُدُحٍ مِنْ الشّيزَى عَلَيْهَا ... لُبَابُ الْبُرّ يُلْبَكُ بِالشّهَادِ
وَكَانَ ابْنُ جُدْعَانَ فِي بَدْءِ أَمْرِهِ صُعْلُوكًا تَرِبَ الْيَدَيْنِ
وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ شِرّيرًا فَاتِكًا ، وَلَا يَزَالُ يَجْنِي الْجِنَايَاتِ
فَيَعْقِلُ عَنْهُ أَبُوهُ وَقَوْمُهُ حَتّى أَبْغَضَتْهُ عَشِيرَتُهُ وَنَفَاهُ
أَبُوهُ وَحَلَفَ أَلّا يُؤْوِيَهُ أَبَدًا لِمَا أَثْقَلَهُ بِهِ مِنْ الْغُرْمِ
وَحَمَلَهُ مِنْ الدّيَاتِ فَخَرَجَ فِي شِعَابِ مَكّةَ حَائِرًا بَائِرًا ، يَتَمَنّى
الْمَوْتَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ فَرَأَى شَقّا فِي جَبَلٍ فَظَنّ فِيهِ حَيّةً
فَتَعَرّضَ لِلشّقّ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا يَقْتُلُهُ فَيَسْتَرِيحَ
فَلَمْ يَرَ شَيْئًا ، فَدَخَلَ فِيهِ فَإِذَا فِيهِ ثُعْبَانٌ عَظِيمٌ لَهُ
عَيْنَانِ تَقِدَانِ كَالسّرَاجِينِ . فَحَمَلَ عَلَيْهِ الثّعْبَانُ فَأَفْرَجَ
لَهُ فَانْسَابَ عَنْهُ مُسْتَدِيرًا بِدَارَةِ عِنْدَهَا بَيْتٌ فَخَطَا خُطْوَةٌ
أُخْرَى ، فَصَفَرَ بِهِ الثّعْبَانُ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ كَالسّهْمِ فَأَفْرَجَ
عَنْهُ فَانْسَابَ عَنْهُ قُدُمًا لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ
أَنّهُ مَصْنُوعٌ فَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ فَإِذَا هُوَ مَصْنُوعٌ مِنْ ذَهَبٍ
وَعَيْنَاهُ يَاقُوتُتَانِ [ ص 246 ] وَأَخَذَ عَيْنَيْهِ وَدَخَلَ الْبَيْتَ
فَإِذَا جُثَثٌ عَلَى سُرُرٍ طِوَالٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُمْ طُولًا وَعِظَمًا ، وَعِنْدَ
رُءُوسِهِمْ لَوْحٌ مِنْ فِضّةٍ فِيهِ تَارِيخُهُمْ وَإِذْ هُمْ رِجَالٌ مِنْ
مُلُوكِ جُرْهُمٍ ، وَآخِرُهُمْ مَوْتًا : الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضٍ صَاحِبُ
الْغُرْبَةِ الطّوِيلَةِ وَإِذَا عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ لَا يُمَسّ مِنْهَا شَيْءٌ
إلّا انْتَثَرَ كَالْهَبَاءِ مِنْ طُولِ الزّمَنِ وَشِعْرٌ مَكْتُوبٌ فِي اللّوْحِ
فِيهِ عِظَاتٌ آخِرُ بَيْتٍ مِنْ هُ
صَاحِ هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْت بِرَاعٍ ... رَدّ فِي الضّرْعِ مَا قَرَى فِي
الْحِلَابِ
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : كَانَ اللّوْحُ مِنْ رُخَامٍ وَكَانَ فِيهِ أَنَا
نُفَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ بْنِ خَشْرَمِ بْنِ عَبْدِ يَالَيْل بْنِ
جُرْهُمِ بْنِ قَحْطَانَ بْنِ هُودٍ نَبِيّ اللّهِ عِشْت خَمْسَمِائَةِ عَامٍ
وَقَطَعْت غَوْرَ الْأَرْضِ بَاطِنَهَا وَظَاهِرَهَا فِي طَلَبِ الثّرْوَةِ
وَالْمَجْدِ وَالْمُلْكِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يُنْجِينِي مِنْ الْمَوْتِ
وَتَحْتَهُ مَكْتُوب :
قَدْ قَطَعْت الْبِلَادَ فِي طَلَبِ الثّرْ ... وَةِ وَالْمَجْدُ قَالِصُ
الْأَثْوَابِ
وَسَرَيْت الْبِلَادَ قَفْرًا لِقَفْرِ ... بِقَنَاتِي وَقُوّتِي وَاكْتِسَابِي
فَأَصَابَ الرّدَى بَنَاتِ فُؤَادِي ... بِسِهَامِ مِنْ الْمَنَايَا صِيَابِ
فَانْقَضَتْ شِرّتِي ، وَأَقْصَرَ جَهْلِي ... وَاسْتَرَاحَتْ عَوَاذِلِي مِنْ
عِتَابِي
وَدَفَعْت السّفَاهَ بِالْحِلْمِ لَمّا ... نَزَلَ الشّيْبُ فِي مَحَلّ الشّبَابِ
صَاحِ هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْت بِرَاعٍ ... رَدّ فِي الضّرْعِ مَا قَرَى فِي
الْحِلَابِ
وَإِذَا فِي وَسَطِ الْبَيْتِ كَوْمٌ عَظِيمٌ مِنْ الْيَاقُوتِ وَاللّؤْلُؤِ
وَالذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالزّبَرْجَدِ فَأَخَذَ مِنْهُ مَا أَخَذَ ثُمّ عَلّمَ
عَلَى الشّقّ بِعَلَامَةِ وَأَغْلَقَ بَابَهُ بِالْحِجَارَةِ وَأَرْسَلَ إلَى
أَبِيهِ بِالْمَالِ الّذِي خَرَجَ بِهِ يَسْتَرْضِيهِ وَيَسْتَعْطِفُهُ وَوَصَلَ
عَشِيرَتَهُ كُلّهُمْ فَسَادَهُمْ وَجَعَلَ يُنْفِقُ مِنْ ذَلِكَ الْكَنْزِ
وَيُطْعِمُ النّاسَ وَيَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ . ذَكَرَ حَدِيثَ كَنْزِ ابْنِ
جُدْعَانَ مَوْصُولًا بِحَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ ابْنُ هِشَامٍ فِي غَيْرِ
هَذَا الْكِتَابِ وَوَقَعَ أَيْضًا فِي كِتَابِ رِيّ الْعَاطِشِ وَأُنْسِ
الْوَاحِشِ لِأَحْمَدَ بْنِ عَمّارٍ [ ص 247 ] وَابْنُ جُدْعَانَ مِمّنْ حَرّمَ
الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيّةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُغْرَى بِهَا ، وَذَلِكَ أَنّهُ
سَكِرَ فَتَنَاوَلَ الْقَمَرَ لِيَأْخُذَهُ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ حِينَ صَحَا ،
فَحَلَفَ لَا يَشْرَبُهَا أَبَدًا ، وَلَمّا كَبِرَ وَهَرِمَ أَرَادَ بَنُو
تَمِيمٍ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ تَبْدِيدِ مَالِهِ وَلَامُوهُ فِي الْعَطَاءِ
فَكَانَ يَدْعُو الرّجُلَ فَإِذَا دَنَا مِنْهُ لَطَمَهُ لَطْمَةً خَفِيفَةً ثُمّ
يَقُولُ لَهُ قُمْ فَانْشُدْ لَطْمَتَك ، وَاطْلُبْ دِيَتَهَا ، فَإِذَا فَعَلَ
ذَلِكَ أَعْطَتْهُ بَنُو تَمِيمٍ مِنْ مَالِ ابْنِ جُدْعَانَ حَتّى يَرْضَى ،
وَهُوَ جَدّ عُبَيْدِ اللّهِ بْن أَبِي مُلَيْكَةَ الْفَقِيهِ . وَاَلّذِي وَقَعَ
فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ذِكْرِ نُفَيْلَةَ أَحْسَبُهُ نُفَيْلَةَ بِالنّونِ
وَالْفَاءِ لِأَنّ بَنِي نُفَيْلَةَ كَانُوا مُلُوكَ الْحِيرَةِ ، وَهُمْ مِنْ
غَسّانَ ، لَا مِنْ جُرْهُمٍ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 247 ] الْهَادِي اللّيْثِيّ أَنّ مُحَمّدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ حَدّثَهُ أَنّهُ كَانَ بَيْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، وَبَيْنَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ . وَالْوَلِيدُ يَوْمَئِذٍ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ ، أَمّرَهُ عَلَيْهَا عَمّهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ - مُنَازَعَةً فِي مَالٍ كَانَ بَيْنَهُمَا بِذِي الْمَرْوَةِ ، فَكَانَ الْوَلِيدُ تَحَامَلَ عَلَى الْحُسَيْنِ - فِي حَقّهِ لِسُلْطَانِهِ فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ أَحْلِفُ بِاَللّهِ لَتُنْصِفَنّي مِنْ حَقّي ، أَوْ لَآخُذَنّ سَيْفِي ، ثُمّ لَأَقُومَنّ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ لَأَدْعُوَنّ بِحِلْفِ الْفُضُولِ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَيْرِ ، وَهُوَ عِنْدَ الْوَلِيدِ حِينَ قَالَ الْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - مَا قَالَ وَأَنَا أَحْلِفُ بِاَللّهِ لَئِنْ دَعَا بِهِ لَآخُذَنّ سَيْفِي ، ثُمّ لَأَقُومَنّ مَعَهُ حَتّى يُنْصَفَ مِنْ حَقّهِ أَوْ نَمُوتَ جَمِيعًا . قَالَ فَبَلَغَتْ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ الزّهْرِيّ ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ وَبَلَغَتْ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ التّيْمِيّ ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ أَنْصَفَ الْحُسَيْنَ مِنْ حَقّهِ حَتّى رَضِيَ . [ ص 248 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِي اللّيْثِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ قَالَ قَدِمَ مُحَمّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ - وَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَعْلَمَ قُرَيْشٍ - فَدَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ حِينَ قُتِلَ ابْنُ الزّبَيْرِ وَاجْتَمَعَ النّاسُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ با أَبَا سَعِيدٍ أَلَمْ نَكُنْ نَحْنُ وَأَنْتُمْ يَعْنِي بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِيّ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فِي حِلْفِ الْفُضُولِ ؟ قَالَ أَنْتَ أَعْلَمُ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَتُخْبِرَنّي يَا أَبَا سَعِيدٍ بِالْحَقّ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَا وَاَللّهِ لَقَدْ خَرَجْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ مِنْهُ قَالَ صَدَقْت .Sمَوْقِفُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْحِلْفِ فَصْلٌ وَذَكَرَ خَبَرَ الْحُسَيْنِ مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ ، وَقَوْلَهُ لَآخُذَنّ سَيْفِي ، ثُمّ لَأَدْعُوَنّ بِحِلْفِ الْفُضُولِ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ تَخْصِيصُ أَهْلِ هَذَا الْحِلْفِ بِالدّعْوَةِ وَإِظْهَارِ التّعَصّبِ إذَا خَافُوا ضَيْمًا ، وَإِنْ كَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ رَفَعَ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ قَوْلِهِمْ يَا لَفُلَانٍ عِنْدَ التّحَزّبِ وَالتّعَصّبِ وَقَدْ سَمِعَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَوْمَ الْمُرَيْسِيعِ رَجُلًا يَقُولُ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ وَقَالَ آخَرُ يَا لَلْأَنْصَارِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - دَعُوهَا فَإِنّهَا مُنْتِنَةٌ وَقَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَنْ ادّعَى بِدَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ فَأَعْضُوهُ بِهَنِ أَبِيهِ وَلَا تُكَنّوا وَنَادَى رَجُلٌ [ ص 248 ] النّابِعَةُ الْجَعْدِيّ بِعُصْبَةِ لَهُ فَضَرَبَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - خَمْسِينَ جَلْدَةً وَذَلِكَ أَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةً وَلَا يُقَالُ إلّا كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَا لَلّهِ وَيَا لَلْمُسْلِمِينَ لِأَنّهُمْ كُلّهُمْ حِزْبٌ وَاحِدٌ وَإِخْوَةٌ فِي الدّينِ إلّا مَا خَصّ الشّرْعُ بِهِ أَهْلَ حِلْفِ الْفُضُولِ وَالْأَصْلُ فِي تَخْصِيصِهِ قَوْلُهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلَوْ دُعِيت بِهِ الْيَوْمَ لَأَجَبْت يُرِيدُ لَوْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمَظْلُومِينَ يَا لَحِلْفِ الْفُضُولِ لَأَجَبْت ، وَذَلِكَ أَنّ الْإِسْلَامَ إنّمَا جَاءَ بِإِقَامَةِ الْحَقّ وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِينَ فَلَمْ يَزْدَدْ بِهِ هَذَا الْحِلْفُ إلّا قُوّةً وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ وَمَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَلَنْ يَزِيدَهُ الْإِسْلَامُ إلّا شِدّةً لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ الْحَلِيفُ يَا لَفُلَانٍ لِحُلَفَائِهِ فَيُجِيبُوهُ بَلْ الشّدّةُ الّتِي عَنَى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إنّمَا هِيَ رَاجِعَةٌ إلَى مَعْنَى التّوَاصُلِ وَالتّعَاطُفِ وَالتّآلُفِ وَأَمّا دَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ فَقَدْ رَفَعَهَا الْإِسْلَامُ إلّا مَا كَانَ مِنْ حِلْفِ الْفُضُولِ كَمَا قَدّمْنَا ، فَحُكْمُهُ بَاقٍ وَالدّعْوَةُ بِهِ جَائِزَةٌ وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنّ الْحَلِيفَ يَعْقِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ إذَا وَجَبَتْ الدّيَةُ لِقَوْلِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلّا شِدّةً وَلِقَوْلِهِ أَيْضًا لِلّذِي حَبَسَهُ فِي الْمَسْجِدِ إنّمَا حَبَسْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 249 ] الرّفَادَةَ وَالسّقَايَةَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ
وَذَلِكَ أَنّ عَبْدَ شَمْسٍ كَانَ رَجُلًا سَفّارًا قَلّمَا يُقِيمُ بِمَكّةَ
وَكَانَ مُقِلّا ذَا وَلَدٍ وَكَانَ هَاشِمٌ مُوسِرًا فَكَانَ - فِيمَا
يَزْعُمُونَ - إذَا حَضَرَ الْحَجّ ، قَامَ فِي قُرَيْشٍ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ
قُرَيْشٍ إنّكُمْ جِيرَانُ اللّهِ ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَإِنّهُ يَأْتِيكُمْ فِي
هَذَا الْمَوْسِمِ زُوّارُ اللّهِ وَحُجّاجُ بَيْتِهِ وَهُمْ ضَيْفُ اللّهِ
وَأَحَقّ الضّيْفِ بِالْكَرَامَةِ ضَيْفُهُ فَاجْمَعُوا لَهُمْ مَا تَصْنَعُونَ
لَهُمْ بِهِ طَعَامًا أَيّامَهُمْ هَذِهِ الّتِي لَا بُدّ لَهُمْ مِنْ
الْإِقَامَةِ بِهَا ؛ فَإِنّهُ - وَاَللّهِ - لَوْ كَانَ مَالِي يَسَعُ لِذَلِكَ
مَا كَلّفْتُكُمُوهُ . فَيَخْرُجُونَ لِذَلِكَ خَرْجًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ كُلّ
امْرِئِ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ فَيُصْنَعُ بِهِ لِلْحُجّاجِ طَعَامٌ حَتّى
يَصْدُرُوا مِنْهَا . [ ص 250 ] وَكَانَ هَاشِمٌ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - أَوّلَ
مَنْ سَنّ الرّحْلَتَيْنِ لِقُرَيْشِ رِحْلَتَيْ الشّتَاءِ وَالصّيْفِ وَأَوّلُ
مَنْ أَطْعَمَ الثّرِيدَ لِلْحُجّاجِ بِمَكّةَ وَإِنّمَا كَانَ اسْمُهُ عَمْرًا ،
فَمَا سُمّيَ هَاشِمًا إلّا بِهَشْمِهِ الْخُبْزَ بِمَكّةَ لِقَوْمِهِ فَقَالَ شَاعِرٌ
مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ مِنْ بَعْضِ الْعَرَبِ :
عَمْرُو الّذِي هَشَمَ الثّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... قَوْمٍ بِمَكّةَ مُسْنِتِينَ
عِجَافِ
سُنّتْ إلَيْهِ الرّحْلَتَانِ كِلَاهُمَا ... سَفَرُ الشّتَاءِ وَرِحْلَةُ
الْإِيلَافِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ مِنْ
أَهْلِ الْحِجَازِ : قَوْمٍ بِمَكّةَ مُسْنِتِينَ عِجَافِSعَنْ
أَوْلَادِ عَبْدِ مَنَافٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ الْأَرْبَعَةَ وَقَدْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ
خَامِسٌ وَهُوَ أَبُو عَمْرٍو ، وَاسْمُهُ عُبَيْدٌ ، دَرَجَ وَلَا عَقِبَ لَهُ
ذَكَرَهُ الْبَرْقِيّ وَالزّبَيْرُ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْبَرْقِيّ أَنّ قُصَيّا
كَانَ سَمّى ابْنَهُ عَبْدَ قُصَيّ ، وَقَالَ سَمّيْته بِنَفْسِي وَسَمّيْت
الْآخَرَ بِدَارِ الْكَعْبَةِ ، يَعْنِي : عَبْدَ الدّارِ ثُمّ إنّ النّاسَ
حَوّلُوا اسْمَ عَبْدِ قُصَيّ ، فَقَالُوا : عَبْدَ بْنَ قُصَيّ ، وَقَالَ
الزّبَيْرُ أَيْضًا : كَانَ اسْمُ عَبْدِ الدّارِ عَبْدَ الرّحْمَنِ . [ ص 249 ]
وَذَكَرَ هَاشِمًا وَمَا صَنَعَ فِي أَمْرِ الرّفَادَةِ وَإِطْعَامِ الْحَجِيجِ
وَأَنّهُ سُمّيَ هَاشِمًا لِهَشْمِهِ الثّرِيدَ لِقَوْمِهِ وَالْمَعْرُوفُ فِي
اللّغَةِ أَنْ يُقَالَ ثَرَدْت الْخُبْزَ فَهُوَ ثَرِيدٌ وَمَثْرُودٌ فَلَمْ
يُسَمّ ثَارِدًا ، وَسُمّيَ هَاشِمًا ، وَكَانَ الْقِيَاسُ - كَمَا لَا يُسَمّى
الثّرِيدُ هَشِيمًا ، بَلْ يُقَالُ فِيهِ - ثَرِيدٌ وَمَثْرُودٌ - أَنْ يُقَالَ
فِي اسْمِ الْفَاعِلِ أَيْضًا كَذَلِكَ وَلَكِنْ سَبَبُ هَذِهِ التّسْمِيَةِ
يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ . ذَكَرَ أَصْحَابَ الْأَخْبَارِ أَنّ هَاشِمًا
كَانَ يَسْتَعِينُ عَلَى إطْعَامِ الْحَاجّ بِقُرَيْشِ فَيَرْفِدُونَهُ
بِأَمْوَالِهِمْ وَيُعِينُونَهُ ثُمّ جَاءَتْ أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ فَكَرِهَ أَنْ
يُكَلّفَ قُرَيْشًا أَمْرَ الرّفَادَةِ فَاحْتَمَلَ إلَى الشّامِ بِجَمِيعِ
مَالِهِ وَاشْتَرَى بِهِ أَجْمَعَ كَعْكًا وَدَقِيقًا ، ثُمّ أَتَى الْمَوْسِمَ
فَهَشّمَ ذَلِكَ الْكَعْكَ كُلّهُ هَشْمًا ، وَدَقّهُ دَقّا ، ثُمّ صَنَعَ
لِلْحُجّاجِ طَعَامًا شِبْهَ الثّرِيدِ فَبِذَلِكَ سُمّيَ هَاشِمًا لِأَنّ
الْكَعْكَ الْيَابِسَ لَا يُثْرَدُ وَإِنّمَا يُهْشَمُ هَشْمًا ، فَبِذَلِكَ
مُدِحَ حَتّى قَالَ شَاعِرُهُمْ فِيهِ وَهُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى :
كَانَتْ قُرَيْشٌ بَيْضَةً فَتَفَقّأَتْ ... فَالْمُحّ خَالِصُهُ لِعَبْدِ مَنَافِ
الْخَالِطِينَ فَقِيرَهُمْ بِغَنِيّهِمْ ... وَالطّاعِنِينَ لِرِحْلَةِ
الْأَضْيَافِ
وَالرّائِشِينَ وَلَيْسَ يُوجَدُ رَائِشٌ ... وَالْقَائِلِينَ هَلُمّ
لِلْأَضْيَافِ
عَمْرُو الْعُلَا هَشَمَ الثّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... قَوْمٍ بِمَكّةَ مُسْنِتِينَ
عِجَافِ
[ ص 250 ] وَكَانَ سَبَبَ مَدْحِ ابْنِ الزّبَعْرَى بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَهُوَ
سَهْمِيّ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ - فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ
يُونُسَ - أَنّهُ كَانَ قَدْ هَجَا قُصَيّا بِشِعْرِ كَتَبَهُ فِي أَسْتَارِ
الْكَعْبَةِ ، أَوّلُهُ
أَلْهَى قُصَيّا عَنْ الْمَجْدِ الْأَسَاطِيرُ ... وَمِشْيَةٌ مِثْلُ مَا تَمْشِي
الشّقَارِيرُ
فَاسْتَعْدَوْا عَلَيْهِ بَنِي سَهْمٍ فَأَسْلَمُوهُ إلَيْهِمْ فَضَرَبُوهُ
وَحَلَقُوا شَعْرَهُ وَرَبَطُوهُ إلَى صَخْرَةٍ بِالْحَجُونِ فَاسْتَغَاثَ
قَوْمَهُ فَلَمْ يُغِيثُوهُ فَجَعَلَ يَمْدَحُ قُصَيّا وَيَسْتَرْضِيهِمْ
فَأَطْلَقَهُ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ مِنْهُمْ وَأَكْرَمُوهُ فَمَدَحَهُمْ بِهَذَا
الشّعْرِ وَبِأَشْعَارِ كَثِيرَةٍ ذَكَرَهَا ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ
.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ هَلَكَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ بِغَزّةَ مِنْ أَرْضِ الشّامِ تَاجِرًا ، فَوَلِيَ السّقَايَةَ وَالرّفَادَةَ مِنْ بَعْدِهِ الْمُطّلِبُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَكَانَ أَصْغَرَ مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمٍ وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِي قَوْمِهِ وَفَضْلٍ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إنّمَا تُسَمّيهِ الْفَيْضَ لِسَمَاحَتِهِ وَفَضْلِهِ . [ ص 251 ] وَكَانَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَتَزَوّجَ سَلْمَى بِنْتَ عَمْرٍو أَحَدِ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بْنِ الْحَرِيشِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ الْحَرِيشُ بْنُ جَحْجَبَى بْنِ كُلْفَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَمْرَو بْنَ أُحَيْحَةَ وَكَانَتْ لَا تَنْكِحُ الرّجَالَ لِشَرَفِهَا فِي قَوْمِهَا حَتّى يَشْتَرِطُوا لَهَا أَنّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا ، إذَا كَرِهَتْ رَجُلًا فَارَقَتْهُ . فَوَلَدَتْ لِهَاشِمِ عَبْدَ الْمُطّلِبِ ، فَسَمّتْهُ شَيْبَةَ فَتَرَكَهُ هَاشِمٌ عِنْدَهَا حَتّى كَانَ وَصِيفًا ، أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ ثُمّ خَرَجَ إلَيْهِ عَمّهُ الْمُطّلِبُ لِيَقْبِضَهُ فَيُلْحِقَهُ بِبَلَدِهِ وَقَوْمِهِ فَقَالَتْ لَهُ سَلْمَى : لَسْت بِمُرْسِلَتِهِ مَعَك ، فَقَالَ لَهَا الْمُطّلِبُ إنّي غَيْرُ مُنْصَرِفٍ حَتّى أَخْرُجَ بِهِ مَعِي ، إنّ ابْنَ أَخِي قَدْ بَلَغَ وَهُوَ غَرِيبٌ فِي غَيْرِ قَوْمِهِ وَنَحْنُ أَهْلُ بَيْتِ شَرَفٍ فِي قَوْمِنَا ، نَلِي كَثِيرًا مِنْ أَمْرِهِمْ وَقَوْمُهُ وَبَلَدُهُ وَعَشِيرَتُهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي غَيْرِهِمْ أَوْ كَمَا قَالَ . وَقَالَ شَيْبَةُ لِعَمّهِ الْمُطّلِبِ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - لَسْت بِمُفَارِقِهَا إلّا أَنْ تَأْذَنَ لِي ، فَأَذِنَتْ لَهُ وَدَفَعَتْهُ إلَيْهِ فَاحْتَمَلَهُ فَدَخَلَ بِهِ مَكّةَ مُرْدِفَهُ مَعَهُ عَلَى بَعِيرِهِ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : عَبْدُ الْمُطّلِبِ ابْتَاعَهُ فَبِهَا سُمّيَ شَيْبَةُ عَبْدَ الْمُطّلِبِ . فَقَالَ الْمُطّلِبُ وَيْحَكُمْ إنّمَا هُوَ ابْنُ أَخِي هَاشِمٍ قَدِمْت بِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ .Sعَبْدُ الْمُطّلِبِ وَابْنُ ذِي يَزَنَ فَصْلٌ وَذَكَرَ نِكَاحَ هَاشِمٍ سَلْمَى بِنْتَ عَمْرٍو النّجّارِيّةَ وَوِلَادَتَهَا لَهُ عَبْدَ الْمُطّلِبِ بْنَ هَاشِمٍ ، وَمِنْ أَجْلِ هَذِهِ الْوِلَادَةِ قَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ أَوْ ابْنُهُ مَعْدِي كَرِبَ بْنُ سَيْفٍ مَلِكُ الْيَمَنِ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ حِينَ وَفَدَ عَلَيْهِ رَكْبٌ مِنْ قُرَيْشٍ : مَرْحَبًا بِابْنِ أُخْتِنَا ، لِأَنّ سَلْمَى مِنْ الْخَزْرَجِ ، وَهُمْ مِنْ الْيَمَنِ مِنْ سَبَأٍ ، وَسَيْفٌ مِنْ حِمْيَرَ بْنِ سَبَأٍ ، ثُمّ قَالَ لَهُ مَرْحَبًا وَأَهْلًا ، وَنَاقَةً وَرَحْلًا ، وَمُلْكًا سِبَحْلًا ، يُعْطِي عَطَاءً جَزْلًا . ثُمّ بَشّرَهُ بِالنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَنّهُ مِنْ وَلَدِهِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ : مِثْلُك أَيّهَا الْمَلِكُ سِرّ وَبِرّ ، ثُمّ أَجْزَلَ الْمَلِكُ حِبَاءَهُ وَفَضّلَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَانْصَرَفَ مَغْبُوطًا عَلَى مَا أَعْطَاهُ الْمَلِكُ فَقَالَ وَاَللّهِ لَمَا بَشّرَنِي بِهِ أَحَبّ إلَيّ مِنْ كُلّ مَا أَعْطَانِي . فِي خَبَرٍ فِيهِ طُولٌ . [ ص 251 ] أُحَيْحَةَ وَذَكَرَ نَسَبَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بْنِ الْحَرِيشِ بْنِ جَحْجَبَى ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ الْحَرِيسُ يَعْنِي . بِالسّينِ الْمُهْمَلَةِ - وَقَالَ الدّارَقُطْنِيّ عَنْ الزّبَيْرِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إنّ كُلّ مَا فِي الْأَنْصَارِ فَهُوَ حَرِيسٌ بِالسّينِ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ إلّا هَذَا ، وَوَجَدْت فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ أَبِي بَحْرٍ - رَحِمَهُ اللّهُ - صَوَابَ هَذَا الِاسْمِ يَعْنِي فِي نَسَبِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بْنِ الْحَرِيشِ بِالشّينِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى لَفْظِ الْحَرِيشِ بْنِ كَعْبٍ الْبَطْنِ الّذِي فِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ .
ثُمّ
هَلَكَ الْمُطّلِبُ بِرَدْمَانَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ
الْعَرَبِ يَبْكِيهِ
قَدْ ظَمِئَ الْحَجِيجُ بَعْدَ الْمُطّلِبْ ... بَعْدَ الْجِفَانِ وَالشّرَابِ
المُنْثَعِبْ
لَيْتَ قُرَيْشًا بَعْدَهُ عَلَى نَصَبْ وَقَالَ مَطْرُودُ بْنُ كَعْبٍ
الْخُزَاعِيّ ، يَبْكِي الْمُطّلِبَ وَبَنِيّ عَبْدِ مَنَافٍ جَمِيعًا حِينَ
أَتَاهُ نَعْيُ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَكَانَ نَوْفَلٌ آخِرَهُمْ هُلْكًا
: [ ص 252 ]
يَا لَيْلَةً هَيّجْت لَيْلَاتِي ... إحْدَى لَيَالِيّ الْقَسِيّاتِ
وَمَا أُقَاسِي مِنْ هُمُومٍ وَمَا ... عَالَجْت مِنْ رُزْءِ الْمَنِيّاتِ
إذَا تَذَكّرْت أَخِي نَوْفَلًا ... ذَكّرَنِي بِالْأَوّلِيّاتِ
ذَكّرَنِي بِالْأُزُرِ الْحُمْرِ وَاَلْ ... أَرْدِيَةِ الصّفْرِ الْقَشِيبَاتِ
أَرْبَعَةٌ كُلّهُمْ سَيّدٌ ... أَبْنَاءُ سَادَاتٍ لِسَادَاتِ
مَيْتٌ بِرَدْمَانَ وَمَيْتٌ بِسَلْ ... مَانَ وَمَيْتٌ بَيْنَ غَزّاتِ
وَمَيْتٌ أُسْكِنَ لَحْدًا لَدَى الْ ... مَحْجُوبِ شَرْقِيّ الْبَنِيّاتِ
أَخْلَصُهُمْ عَبْدُ مَنَافٍ فَهُمْ ... مِنْ لَوْمِ مَنْ لَامَ بِمَنْجَاةِ
إنّ الْمُغِيرَاتِ وَأَبْنَاءَهَا ... مِنْ خَيْرِ أَحْيَاءٍ وَأَمْوَاتِ
[ ص 253 ] وَكَانَ اسْمُ عَبْدِ مَنَافٍ الْمُغِيرَةُ وَكَانَ أَوّلَ بَنِي عَبْدِ
مَنَافٍ هُلْكًا : هَاشِمٌ بِغَزّةَ مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، ثُمّ عَبْدُ شَمْسٍ
بِمَكّةَ ثُمّ الْمُطّلِبُ بِرَدْمَانَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ ، ثُمّ نَوْفَلٌ
بِسَلْمَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ . فَقِيلَ لِمَطْرُودِ - فِيمَا
يَزْعُمُونَ - لَقَدْ قُلْت فَأَحْسَنْت ، وَلَوْ كَانَ أَفْحَلَ مِمّا قُلْت
كَانَ أَحْسَنَ فَقَالَ أَنْظِرْنِي لَيَالِيَ فَمَكَثَ أَيّامًا ، ثُمّ قَالَ [ ص
254 ] [ ص 255 ]
يَا عَيْنُ جُودِي ، وَأَذْرِي الدّمْعَ وَانْهَمِرِي ... وَابْكِي عَلَى السّرّ
مِنْ كَعْبِ الْمُغِيرَاتِ
يَا عَيْنُ وَاسْحَنْفِرِي بِالدّمْعِ وَاحْتَفِلِي ... وَابْكِي خَبِيئَةَ
نَفْسِي فِي الْمُلِمّاتِ
وَابْكِي عَلَى كُلّ فَيّاضٍ أَخِي ثِقَةٍ ... ضَخْمِ الدّسِيّةِ وَهّابِ
الْجَزِيلَاتِ
مَحْضِ الضّرِيبَةِ عَالِي الْهَمّ مُخْتَلَقٍ ... جَلْدِ النّحِيزَةِ نَاءٍ
بِالْعَظِيمَاتِ
صَعْبِ الْبَدِيهَةِ لَا نُكْسٌ وَلَا وَكَلٌ ... مَاضِي الْعَزِيمَةِ مِتْلَافِ
الْكَرِيمَاتِ
صَقْرٍ تَوَسّطَ مِنْ كَعْبٍ إذَا نُسِبُوا ... بُحْبُوحَةَ الْمَجْدِ وَالشّمّ
الرّفِيعَاتِ
ثُمّ اُنْدُبِي الْفَيْضَ وَالْفَيّاضَ مُطّلِبًا ... وَاسْتَخْرِطِي بَعْدَ
فَيْضَاتٍ بِجَمّاتِ
أَمْسَى بِرَدْمَانَ عَنّا الْيَوْمَ مُغْتَرِبًا ... يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَيْهِ
بَيْنَ أَمْوَاتِ
وَابْكِي - لَكِ الْوَيْلُ - إمّا كُنْت بَاكِيَةً ... لِعَبْدِ شَمْسٍ بِشَرْقِيّ
الْبَنِيّاتِ
وَهَاشِمٍ فِي ضَرِيحٍ وَسْطَ بَلْقَعَةٍ ... تَسْفِي الرّيَاحَ عَلَيْهِ بَيْنَ
غَزّاتِ
وَنَوْفَلٍ كَانَ دُونَ الْقَوْمِ خَالِصَتِي ... أَمْسَى بِسَلْمَانَ فِي رَمْسٍ
بِمَوْمَاةِ
لَمْ أَلْقَ مِثْلَهُمْ عُجْمًا وَلَا عَرَبًا ... إذَا اسْتَقَلّتْ بِهِمْ أُدْمُ
الْمَطِيّاتِ
أَمْسَتْ دِيَارُهُمْ مِنْهُمْ مُعَطّلَةً ... وَقَدْ يَكُونُونَ زَيْنًا فِي
السّرِيّاتِ
أَفْنَاهُمْ الدّهْرُ أَمْ كَلّتْ سُيُوفُهُمْ ... أَمْ كُلّ مَنْ عَاشَ أَزْوَادُ
الْمَنِيّاتِ
أَصْبَحْت أَرْضَى مِنْ الْأَقْوَامِ بَعْدَهُمْ ... بَسْطَ الْوُجُوهِ
وَإِلْقَاءَ التّحِيّاتِ
يَا عَيْنُ فَابْكِي أَبَا الشّعْثِ الشّجِيّاتِ ... يَبْكِينَهُ حُسّرًا مِثْلَ
الْبَلِيّاتِ
يَبْكِينَ أَكْرَمَ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمٍ ... يُعْوِلْنَهُ بِدُمُوعِ بَعْدَ
عَبَرَاتِ
يَبْكِينَ شَخْصًا طَوِيلَ الْبَاعِ ذَا فَجَرٍ ... آبِي الْهَضِيمَةِ فَرّاجَ
الْجَلِيلَاتِ
يَبْكِينَ عَمْرَو الْعُلَا إذْ حَانَ مَصْرَعُهُ ... سَمْحَ السّجِيّةِ بَسّامَ
الْعَشِيّاتِ
يَبْكِينَهُ مُسْتَكِينَاتٍ عَلَى حَزَنٍ ... يَا طُولَ ذَلِكَ مِنْ حُزْنٍ
وَعَوْلَاتِ
يَبْكِينَ لَمّا جَلَاهُنّ الزّمَانُ لَهُ ... خُضْرَ الْخُدُودِ كَأَمْثَالِ
الْحَمِيّاتِ
مُحْتَزِمَاتٍ عَلَى أَوْسَاطِهِنّ لِمَا ... جَرّ الزّمَانُ مِنْ إحداث
الْمُصِيبَاتِ
أَبِيت لَيْلِي أُرَاعِي النّجْمَ مِنْ أَلَمٍ ... أَبْكِي ، وَتَبْكِي مَعِي
شَجْوِي بُنَيّاتِي
مَا فِي الْقُرُومِ لَهُمْ عِدْلٌ وَلَا خَطَرٌ ... وَلَا لِمَنْ تَرَكُوا شَرْوَى
بَقِيّاتِ
أَبْنَاؤُهُمْ خَيْرُ أَبْنَاءٍ وَأَنْفُسُهُمْ ... خَيْرُ النّفُوسِ لَدَى جَهْدِ
الْأَلِيّاتِ
كَمْ وَهَبُوا مِنْ طِمِرّ سَابِحٍ أَرِنٍ ... وَمِنْ طِمِرّةِ نَهْبٍ فِي
طِمِرّاتِ
وَمِنْ سُيُوفٍ مِنْ الْهِنْدِيّ مُخْلَصَةٍ ... وَمِنْ رِمَاحٍ كَأَشْطَانِ
الرّكِيّاتِ
وَمِنْ تَوَابِعَ مِمّا يُفْضِلُونَ بِهَا ... عِنْدَ الْمَسَائِلِ مِنْ بَذْلِ
الْعَطِيّاتِ
فَلَوْ حَسَبْت وَأَحْصَى الْحَاسِبُونَ مَعِي ... لَمْ أَقْضِ أَفْعَالَهُمْ
تِلْكَ الْهَنِيّاتِ
هُمْ الْمُدِلّونَ إمّا مَعْشَرٌ فَخَرُوا ... عِنْدَ الْفَخَارِ بِأَنْسَابِ
نَقِيّاتِ
زَيْنُ الْبُيُوتِ الّتِي خَلّوْا مَسَاكِنَهَا ... فَأَصْبَحَتْ مِنْهُمْ وَحْشًا
خَلِيّاتِ
أَقُولُ وَالْعَيْنُ لَا تَرْقَا مَدَامِعُهَا : ... لَا يُبْعِدُ اللّهُ
أَصْحَابَ الرّزِيّاتِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْفَجَرُ الْعَطَاءُ قَالَ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيّ :
عَجّفَ أَضْيَافِي جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ ... بِذِي فَجَرٍ تَأْوِي إلَيْهِ
الْأَرَامِلُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : أَبُو الشّعْثِ الشّجِيّاتِ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ .Sفَصْلٌ
وَأَنْشَدَ لِمَطْرُودِ بْنِ كَعْبٍ
يَا لَيْلَةً هَيّجْت لَيْلَاتِي ... إحْدَى لَيَالِيّ الْقَسِيّاتِ
[ ص 252 ] أَنْتِ إحْدَى لَيَالِيّ الْقَسِيّاتِ . فَعِيلَاتٌ مِنْ الْقَسْوَةِ
أَيْ لَا لِينَ عِنْدَهُنّ وَلَا رَأْفَةَ فِيهِنّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
عِنْدَهُمْ مِنْ الدّرْهَمِ الْقَسِيّ وَهُوَ الزّائِفُ وَقَدْ قِيلَ فِي
الدّرْهَمِ الْقَسِيّ إنّهُ أَعْجَمِيّ مُعَرّبٌ وَقِيلَ هُوَ مِنْ الْقَسَاوَةِ
لِأَنّ الدّرْهَمَ الطّيّبَ أَلْيَنُ مِنْ الزّائِفِ وَالزّائِفُ أَصْلَبُ مِنْهُ
. وَنَصَبَ لَيْلَةً عَلَى التّمْيِيزِ كَذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِ
الصّلَتَانِ الْعَبْدِيّ أَيَا شَاعِرًا لَا شَاعِرَ الْيَوْمَ مِثْلُهُ
وَذَلِكَ أَنّ فِي الْكَلَامِ مَعْنَى التّعَجّبِ . وَقَوْلُهُ وَمَيْتٌ بِغَزّاتِ
. هِيَ غَزّةُ ، وَلَكِنّهُمْ يَجْعَلُونَ لِكُلّ نَاحِيَةٍ أَوْ لِكُلّ رَبَضٍ
مِنْ الْبَلْدَةِ اسْمَ الْبَلْدَةِ فَيَقُولُونَ غَزّاتٍ فِي غَزّةَ ،
وَيَقُولُونَ فِي بَغْدَانَ بَغَادِينَ ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَدّثِينَ
شَرِبْنَا فِي بَغَادِينَ ... عَلَى تِلْكَ الْمَيَادِينِ
وَلِهَذَا نَظَائِرُ سَتَمُرّ فِي الْكِتَابِ - إنْ شَاءَ اللّهُ - وَمِنْ هَذَا
الْبَابِ حُكْمُهُمْ لِلْبَعْضِ بِحُكْمِ الْكُلّ كَمَا سَمّوْهُ بِاسْمِهِ نَحْوُ
قَوْلِهِمْ شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنْ الدّمِ وَذَهَبَتْ بَعْضُ أَصَابِعِهِ
وَتَوَاضَعَتْ سُوَرُ الْمَدِينَةِ . وَقَدْ تَرَكّبَتْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ
مَسْأَلَةٌ مِنْ الْفِقْهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ أَوْ أَكْثَرُهُمْ مَنْ حَلَفَ أَلّا
يَأْكُلَ هَذَا الرّغِيفَ فَأَكَلَ بَعْضَهُ فَقَدْ حَنِثَ فَحَكَمُوا لِلْبَعْضِ
بِحُكْمِ الْكُلّ وَأَطْلَقُوا عَلَيْهِ اسْمَهُ . وَفِيهِ
إنّ الْمُغِيرَاتِ وَأَبْنَاءَهَا ... مِنْ خَيْرِ أَحْيَاءٍ وَأَمْوَاتِ
[ ص 253 ] فَالْمُغِيرَاتُ بَنُو الْمُغِيرَةِ ، وَهُوَ عَبْدُ مَنَافٍ كَمَا
قَالُوا : الْمَنَاذِرَةُ فِي بَنِي الْمُنْذِرِ وَالْأَشْعَرُونَ فِي بَنِي
أَشْعَرَ بْنِ أُدَدَ كَمَا قَالَ عَلِيّ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ فِي
ابْنِ الزّبَيْرِ آثَرَ عَلَيّ الْحُمَيْدَاتِ وَالتّوَيْتَاتِ وَالْأُسَامَاتِ يَعْنِي
: بَنِي حُمَيْدٍ وَبَنِيّ تُوَيْتٍ وَبَنِيّ أُسَامَةَ وَهُمْ مِنْ بَنِي أَسَدِ
بْنِ عَبْدِ الْعُزّى . وَأَنْشَدَ لَهُ فِي الْقَصِيدَةِ التّاوِيّةِ مَحْضِ
الضّرِيبَةِ ، عَالِي الْهَمّ مُخْتَلَقٍ أَيْ عَظِيمِ الْخَلْقِ جَلْدِ
النّحِيزَةِ نَاءٍ بِالْعَظِيمَاتِ . لَيْسَ قَوْلُهُ نَاءٍ مِنْ النّأْيِ
فَتَكُونَ الْهَمْزَةُ فِيهِ عَيْنَ الْفِعْلِ وَإِنّمَا هُوَ مِنْ نَاءَ يَنُوءُ
إذَا نَهَضَ فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لَامُ الْفِعْلِ كَمَا هُوَ فِي جَاءَ عِنْدَ
الْخَلِيلِ فَإِنّهُ عِنْدَهُ مَقْلُوبٌ وَوَزْنُهُ فَالِعٌ وَالْيَاءُ الّتِي
بَعْدَ الْهَمْزَةِ هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ فِي جَاءَ يَجِيءُ . [ ص 254 ] [ ص 255
] الْبَنِيّاتِ " يَعْنِي : الْبَنِيّةَ وَهِيَ الْكَعْبَةُ ، وَهُوَ نَحْوٌ
مِمّا تَقَدّمَ فِي غَزّاتٍ . وَفِيهِ الشّعْثُ الشّجِيّاتُ . فَشَدّدَ يَاءَ الشّجِيّ
وَإِنْ كَانَ أَهْلَ اللّغَةِ قَدْ قَالُوا : يَاءُ الشّجِي مُخَفّفَةٌ وَيَاءُ
الْخَلِيّ مُشَدّدَةٌ وَقَدْ اعْتَرَضَ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَلَى أَبِي تَمّامٍ
الطّائِيّ فِي قَوْلِهِ
أَيَا وَيْحَ الشّجِيّ مِنْ الْخَلِيّ ... وَوَيْحَ الدّمْعِ مِنْ إحْدَى بَلِيّ
وَاحْتَجّ بِقَوْلِ يَعْقُوبَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ الطّائِيّ : وَمَنْ
أَفْصَحُ عِنْدَك : ابْنُ الجُرْمُقَانِيّةِ يَعْقُوبُ أَمْ أَبُو الْأَسْوَدِ
الدّؤَلِيّ حَيْثُ يَقُولُ ؟
وَيْلُ الشّجِيّ مِنْ الْخَلِيّ فَإِنّهُ ... وَصِبُ الْفُؤَادِ بِشَجْوِهِ
مَغْمُومُ
قَالَ الْمُؤَلّفُ وَبَيْتُ مَطْرُودٍ أَقْوَى فِي الْحُجّةِ مِنْ بَيْتِ أَبِي
الْأَسْوَدِ الدّؤَلِيّ لِأَنّهُ جَاهِلِيّ مُحَكّكٌ وَأَبُو الْأَسْوَدِ أَوّلُ
مَنْ صَنَعَ النّحْوَ فَشِعْرُهُ قَرِيبٌ مِنْ التّوْلِيدِ وَلَا يَمْتَنِعُ فِي
الْقِيَاسِ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ شَجِيّ وَشَجٍ لِأَنّهُ فِي مَعْنَى : حَزِنٌ
وَحَزِينٌ وَقَدْ قِيلَ مَنْ شَدّدَ الْيَاءَ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ
. وَفِيهِ بُعْدٌ قَوْلُهُ أَبَا الشّعْثِ الشّجِيّاتِ . يَبْكِينَهُ حُسّرًا
مِثْلَ الْبَلِيّاتِ . الْبَلِيّةُ النّاقَةُ الّتِي كَانَتْ تُعْقَلُ عِنْدَ
قَبْرِ صَاحِبِهَا إذَا مَاتَ حَتّى تَمُوتَ جَوْعًا وَعَطَشًا ، وَيَقُولُونَ
إنّهُ يُحْشَرُ رَاكِبًا [ ص 256 ] كَانَ مِنْهُمْ يَقُولُ بِالْبَعْثِ وَهُمْ
الْأَقَلّ ، وَمِنْهُمْ زُهَيْرٌ فَإِنّهُ قَالَ
يُؤَخّرْ فَيُوضَعْ فِي كِتَابٍ فَيُدّخَرْ ... لِيَوْمِ الْحِسَابِ أَوْ يُعَجّلْ
فَيُنْقَمْ
وَقَالَ الشّاعِرُ فِي الْبَلِيّةِ
وَالْبَلَايَا رُءُوسُهَا فِي الْوَلَايَا ... مَانِحَاتِ السّمُومِ حُرّ
الْخُدُودِ
وَالْوَلَايَا : هِيَ الْبَرَاذِعُ وَكَانُوا يَثْقُبُونَ الْبَرْذَعَةَ فَيَجْعَلُونَهَا
فِي عُنُقِ الْبَلِيّةِ وَهِيَ مَعْقُولَةٌ حَتّى تَمُوتَ وَأَوْصَى رَجُلٌ
ابْنَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ بِهَذَا :
لَا تَتْرُكَنّ أَبَاك يُحْشَرُ مُرّةً ... عَدْوًا يَخِرّ عَلَى الْيَدَيْنِ
وَيَنْكُبُ
فِي أَبْيَاتٍ ذَكَرَهَا الْخَطّابِيّ . وَقَوْلُهُ قِيَامًا كَالْحَمِيّاتِ .
أَيْ مُخْتَرِقَاتِ الْأَكْبَادِ كَالْبَقَرِ أَوْ الظّبَاءِ الّتِي حَمِيَتْ
الْمَاءَ وَهِيَ عَاطِشَةٌ فَحَمِيّةٌ بِمَعْنَى : مَحْمِيّةٍ لَكِنّهَا جَاءَتْ
بِالتّاءِ لِأَنّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ كَالرّمِيّةِ وَالضّحِيّةِ وَالطّرِيدَةِ
وَفِي مَعْنَى الْحَمِيّ قَوْلُ رُؤْبَةَ قَوَاطِنُ مَكّةَ مِنْ وُرْقِ الْحَمِيّ
يُرِيدُ الْحَمَامَ الْمَحْمِيّ أَيْ الْمَمْنُوعَ . وَقَوْلُهُ فِي رَمْسٍ
بِمَوْمَاةِ الْأَظْهَرُ فِيهِ أَنْ تَكُونَ الْمِيمُ أَصْلِيّةً وَيَكُونُ مِمّا
ضُوعِفَتْ فَاؤُهُ وَعَيْنُهُ وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَوْلَى
لِكَثْرَتِهِ فِي الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمِيمِ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً
إذَا كَانَتْ أَوّلَ الْكَلِمَةِ الرّبَاعِيّةِ أَوْ الْخُمَاسِيّةِ إلّا أَنْ
يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ اشْتِقَاقٌ وَلَا اشْتِقَاقَ هَهُنَا ، أَوْ يَمْنَعَ مِنْ
ذَلِكَ دُخُولُهُ فِيمَا قَلّ مِنْ الْكَلَامِ نَحْوُ قَلِقَ وَسَلِسَ . قَالَ
أَبُو عَلِيّ فِي الْمَرْمَرِ حَمْلُهُ عَلَى بَابِ قَرْقَرَ وَبَرْبَرَ أَوْلَى
مِنْ حَمْلِهِ عَلَى بَابِ قَلِقَ وَسَلِسَ يُرِيدُ إنّك إنْ جَعَلْت الْمِيمَ
زَائِدَةً كَانَتْ فَاءَ الْفِعْلِ - وَهِيَ الرّاءُ - مُضَاعَفَةً دُونَ عَيْنِ
الْفِعْلِ وَهِيَ الْمِيمُ وَإِذَا جَعَلْت الْمِيمَ الْأُولَى فِي مَرْمَرَ
أَصْلِيّةً كَانَ مِنْ بَابِ مَا ضُوعِفَتْ فِيهِ الْفَاءُ وَالْعَيْنُ وَهَذَا
مَعْنَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ فِي الْمَرْمَرِ مَرّ وَهُوَ الْقِيَاسُ الْمُسْتَتِبّ
، وَالطّرِيقُ الْمَهِيعُ دُونَ مَا ضُوعِفَتْ فِيهِ الْفَاءُ وَحْدَهَا ،
فَتَأَمّلْهُ . وَقَوْلُهُ طَوِيلَ الْبَاعِ ذَا فَجَرٍ . الْفَجَرُ الْجُودُ
شُبّهَ بِانْفِجَارِ الْمَاءِ . وَيُرْوَى ذَا فَنَعٍ وَالْفَنَعُ كَثْرَةُ
الْمَالِ وَقَدْ قَالَ أَبُو مِحْجَنٍ الثّقَفِيّ : [ ص 257 ]
وَقَدْ أَجُودُ وَمَا مَالِي بِذِي فَنَعٍ ... وَأَكْتُمُ السّرّ فِيهِ ضَرْبَةُ
الْعُنُقِ
وَقَوْلُهُ بَسّامَ الْعَشِيّاتِ يَعْنِي : أَنّهُ يَضْحَكُ لِلْأَضْيَافِ
وَيَبْسِمُ عِنْدَ لِقَائِهِمْ كَمَا قَالَ الْآخَرُ وَهُوَ حَاتِمٌ الطّائِيّ :
أُضَاحِكُ ضَيْفِي قَبْلَ إنْزَالِ رَحْلِهِ ... وَيَخْصِبُ عِنْدِي ، وَالْمَحَلّ
جَدِيبُ
وَمَا الْخِصْبُ لِلْأَضْيَافِ أَنْ يَكْثُرَ الْقِرَى ... وَلَكِنّمَا وَجْهُ
الْكَرِيمِ خَصِيبُ
قَالَ
ثُمّ وَلِيَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ السّقَايَةَ وَالرّفَادَةَ بَعْدَ
عَمّهِ الْمُطّلِبِ فَأَقَامَهَا لِلنّاسِ وَأَقَامَ لِقَوْمِهِ مَا كَانَ
آبَاؤُهُ يُقِيمُونَ قَبْلَهُ لِقَوْمِهِمْ مِنْ أَمْرِهِمْ وَشَرُفَ فِي قَوْمِهِ
شَرَفًا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنْ آبَائِهِ وَأَحَبّهُ قَوْمُهُ وَعَظُمَ
خَطَرُهُ فِيهِمْ . [ ص 256 ] [ ص 257 ]
ذَكَرَ حَفْرَ زَمْزَمَ وَمَا جَرَى مِنْ الْخُلْفِ
فِيهَا ثُمّ إنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ بَيْنَمَا هُوَ نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ إذْ
أُتِيَ فَأُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ أَوّلَ مَا
اُبْتُدِئَ بِهِ عَبْدُ الْمُطّلِبِ مِنْ حَفْرِهَا ، كَمَا حَدّثَنِي يَزِيدُ
بْنُ أَبِي حَبِيبٍ الْمِصْرِيّ عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْيَزَنِيّ
عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زُرَيْرٍ الْغَافِقِيّ : أَنّهُ سَمِعَ عَلِيّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ تَعَالَى عَنْهُ يُحَدّثُ حَدِيثَ زَمْزَمَ حِينَ أُمِرَ
عَبْدُ الْمُطّلِبِ بِحَفْرِهَا ، قَالَ قَالَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ : إنّي
لَنَائِمٌ فِي الْحِجْرِ إذْ أَتَانِي آتٍ فَقَالَ احْفِرْ طِيبَةَ . قَالَ قُلْت
: وَمَا طِيبَةُ ؟ قَالَ ثُمّ ذَهَبَ عَنّي . فَلَمّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْت إلَى
مَضْجَعِي فَنِمْت فِيهِ فَجَاءَنِي فَقَالَ احْفِرْ بَرّةَ . قَالَ فَقُلْت :
وَمَا بَرّةُ ؟ قَالَ ثُمّ ذَهَبَ عَنّي ، فَلَمّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْت إلَى
مَضْجَعِي ، فَنِمْت فِيهِ فَجَاءَنِي فَقَالَ احْفِرْ الْمَضْنُونَةَ . قَالَ
قُلْت : وَمَا الْمَضْنُونَةُ ؟ قَالَ ثُمّ ذَهَبَ عَنّي . فَلَمّا كَانَ الْغَدُ
رَجَعْت إلَى مَضْجَعِي ، فَنِمْت فِيهِ فَجَاءَنِي فَقَالَ احْفِرْ زَمْزَمَ .
قَالَ قُلْت : وَمَا زَمْزَمُ ؟ قَالَ لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذَمّ ،
تَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَعْظَمَ وَهِيَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدّمِ عِنْدَ نُقْرَةِ
الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ عِنْدَ قَرْيَةِ النّمْلِ . [ ص 258 ] [ ص 259 ] [ ص 260 ]
[ ص 261 ]Sحَدِيثُ
زَمْزَمَ
وَكَانَتْ زَمْزَمُ - كَمَا تَقَدّمَ - سُقْيَا إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ
فَجّرَهَا لَهُ رُوحُ الْقُدُسِ بِعَقِبِهِ وَفِي تَفْجِيرِهِ إيّاهَا بِالْعَقِبِ
دُونَ أَنْ يُفَجّرَهَا بِالْيَدِ أَوْ غَيْرِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنّهَا لِعَقِبِهِ
وِرَاثَةً وَهُوَ مُحَمّدٌ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأُمّتُهُ كَمَا
قَالَ سُبْحَانَهُ { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } [ الزّخْرُفَ
43 ] . أَيْ فِي أُمّةِ مُحَمّدٍ - عَلَيْهِ السّلَامُ - ثُمّ إنّ زَمْزَمَ لَمّا
أَحْدَثَتْ جُرْهُمٌ فِي الْحَرَمِ ، وَاسْتَخَفّوا بِالْمَنَاسِكِ وَالْحُرَمِ ،
وَبَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَاجْتَرَمَ تَغَوّرَ مَاءُ زَمْزَمَ وَاكْتُتِمَ
فَلَمّا أَخْرَجَ اللّهُ جُرْهُمًا مِنْ مَكّةَ بِالْأَسْبَابِ الّتِي تَقَدّمَ
ذِكْرُهَا عَمَدَ الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضٍ الْأَصْغَرُ إلَى مَا كَانَ عِنْدَهُ [
ص 258 ] مَالِ الْكَعْبَةِ ، وَفِيهِ غَزَالَانِ مِنْ ذَهَبٍ وَأَسْيَافٌ
قَلْعِيّةٌ كَانَ سَاسَانُ مَلِكُ الْفُرْسِ قَدْ أَهْدَاهَا إلَى الْكَعْبَةِ ،
وَقِيلَ سَابُورُ وَقَدْ قَدّمْنَا أَنّ الْأَوَائِلَ مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ
كَانَتْ تَحُجّهَا إلَى عَهْدِ سَاسَانَ أَوْ سَابُورَ فَلَمّا عَلِمَ ابْنُ مُضَاضٍ
أَنّهُ مُخْرَجٌ مِنْهَا ، جَاءَ تَحْتَ جُنْحِ اللّيْلِ حَتّى دَفَنَ ذَلِكَ فِي
زَمْزَمَ ، وَعَفّى عَلَيْهَا ، وَلَمْ تَزَلْ دَارِسَةً عَافِيًا أَثَرُهَا ،
حَتّى آنَ مَوْلِدُ الْمُبَارَكِ الّذِي كَانَ يُسْتَسْقَى بِوَجْهِهِ غَيْثُ
السّمَاءِ وَتَتَفَجّرُ مِنْ بَنَانِهِ يَنَابِيعُ الْمَاءِ صَاحِبُ الْكَوْثَرِ
وَالْحَوْضِ الرّوَاءِ فَلَمّا آنَ ظُهُورُهُ أَذِنَ اللّهُ تَعَالَى لِسُقْيَا
أَبِيهِ أَنْ تَظْهَرَ وَلِمَا انْدَفَنَ مِنْ مَائِهَا أَنْ تَجْتَهِرَ فَكَانَ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ سَقَتْ النّاسَ بَرَكَتُهُ قَبْلَ أَنْ
يُولَدَ وَسُقُوا بِدَعْوَتِهِ وَهُوَ طِفْلٌ حِينَ أَجْدَبَتْ الْبَلَدُ وَذَلِكَ
حِينَ خَرَجَ بِهِ جَدّهُ مُسْتَسْقِيًا لِقُرَيْشِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ -
فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللّهُ - وَسُقِيَتْ الْخَلِيقَةُ كُلّهَا غُيُوثَ
السّمَاءِ فِي حَيَاتِهِ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ وَالْمَرّةَ بَعْدَ
الْمَرّةِ ، وَتَارَةً بِدُعَائِهِ وَتَارَةً مِنْ بَنَانِهِ وَتَارَةً
بِإِلْقَاءِ سَهْمِهِ ثُمّ بَعْدَ مَوْتِهِ - عَلَيْهِ السّلَامُ - اسْتَشْفَعَ
عُمَرُ بِعَمّهِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا - عَامَ الرّمَادَةِ . وَأَقْسَمَ
عَلَيْهِ بِهِ وَبِنَبِيّهِ فَلَمْ يَبْرَحْ حَتّى قَلَصُوا لِمَازِرٍ
وَاعْتَلَقُوا الْحِذَاءَ وَخَاضُوا الْغُدْرَانَ وَسَمِعَتْ الرّفَاقُ
الْمُقْبِلَةُ إلَى الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ صَائِحًا يَصِيحُ فِي
السّحَابِ أَتَاك الْغَوْثُ أَبَا حَفْصٍ أَتَاك الْغَوْثُ أَبَا حَفْصٍ كُلّ
هَذَا بِبَرَكَةِ الْمُبْتَعَثِ بِالرّحْمَتَيْنِ وَالدّاعِي إلَى الْحَيَاتَيْنِ
الْمَوْعُودِ بِهِمَا عَلَى يَدَيْهِ فِي الدّارَيْنِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - صَلَاةً تَصْعَدُ وَلَا تَنْفَدُ وَتَتّصِلُ وَلَا تَنْفَصِلُ
وَتُقِيمُ وَلَا تَرِيمُ ، إنّهُ مُنْعِمٌ كَرِيمٌ .
أَسْمَاءُ زَمْزَمَ
فَصْلٌ فَأُرِيَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ فِي مَنَامِهِ أَنْ احْفِرْ طِيبَةَ ،
فَسُمّيَتْ طِيبَةَ ، لِأَنّهَا لِلطّيّبِينَ وَالطّيّبَاتِ مِنْ وَلَدِ
إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمَا السّلَامُ - وَقِيلَ لَهُ احْتَفِرْ
بَرّةَ وَهُوَ اسْمٌ صَادِقٌ عَلَيْهَا أَيْضًا ، لِأَنّهَا فَاضَتْ لِلْأَبْرَارِ
وَغَاضَتْ عَنْ الْفُجّارِ وَقِيلَ لَهُ احْفِرْ الْمَضْنُونَةَ . قَالَ وَهْبُ
بْنُ مُنَبّهٍ : سُمّيَتْ زَمْزَمُ : الْمَضْنُونَةَ لِأَنّهَا ضُنّ بِهَا عَلَى
غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَتَضَلّعُ مِنْهَا [ ص 259 ] الدّارَقُطْنِيّ مَا
يُقَوّي ذَلِكَ مُسْنَدًا عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَنْ
شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ فَلْيَتَضَلّعْ فَإِنّهُ فَرْقُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الْمُنَافِقِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَتَضَلّعُوا مِنْهَا أَوْ كَمَا قَالَ .
وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِالْمَضْنُونَةِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، رَوَاهَا الزّبَيْرُ
أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ قِيلَ لَهُ احْفِرْ الْمَضْنُونَةَ ضَنِنْت بِهَا عَلَى
النّاسِ إلّا عَلَيْك ، أَوْ كَمَا قَالَ .
الْعَلَامَاتُ الّتِي رَآهَا عَبْدُ الْمُطّلِبِ وَتَأْوِيلُهَا
وَدُلّ عَلَيْهَا بِعَلَامَاتِ ثَلَاثٍ بِنُقْرَةِ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ
وَأَنّهَا بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدّمِ وَعِنْدَ قَرْيَةِ النّمْلِ ، وَيُرْوَى
أَنّهُ لَمّا قَامَ لِيَحْفِرَهَا رَأَى مَا رُسِمَ مِنْ قَرْيَةِ النّمْلِ
وَنُقْرَةِ الْغُرَابِ وَلَمْ يَرَ الْفَرْثَ وَالدّمَ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ
نَدّتْ بَقَرَةٌ بِجَازِرِهَا ، فَلَمْ يُدْرِكْهَا ، حَتّى دَخَلَتْ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ ، فَنَحَرَهَا فِي الْمَوْضِعِ الّذِي رُسِمَ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ
فَسَالَ هُنَاكَ الْفَرْثُ وَالدّمُ فَحَفَرَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ حَيْثُ رُسِمَ
لَهُ . وَلَمْ تُخَصّ هَذِهِ الْعَلَامَاتُ الثّلَاثُ بِأَنْ تَكُونَ دَلِيلًا
عَلَيْهَا إلّا لِحِكْمَةِ إلَهِيّةٍ وَفَائِدَةٍ مُشَاكِلَةٍ فِي عِلْمِ
التّعْبِيرِ وَالتّوَسّمُ الصّادِقُ لِمَعْنَى زَمْزَمَ وَمَائِهَا . أَمَا
الْفَرْثُ وَالدّمُ فَإِنّ مَاءَهَا طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ وَهِيَ لِمَا
شُرِبَتْ لَهُ وَقَدْ تَقَوّتَ مِنْ مَائِهَا أَبُو ذَرّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ -
ثَلَاثِينَ بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَسَمِنَ حَتّى تَكَسّرَتْ عُكَنُهُ [ وَمَا
وُجِدَ عَلَى كَبِدِهِ سَخْفَةُ جُوعٍ ] فَهِيَ إذًا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي اللّبَنِ إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ اللّبَنَ
فَلْيَقُلْ اللّهُمّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنّهُ لَيْسَ شَيْءٌ
يَسُدّ مَسَدّ الطّعَامِ وَالشّرَابِ إلّا اللّبَنُ وَقَدْ [ ص 260 ] قَالَ اللّهُ
تَعَالَى فِي اللّبَنِ { مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا
لِلشّارِبِينَ } [ النّحْلَ 66 ] . فَظَهَرَتْ هَذِهِ السّقْيَا الْمُبَارَكَةُ
بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدّمِ وَكَانَتْ تِلْكَ مِنْ دَلَائِلِهَا الْمُشَاكِلَةِ
لِمَعْنَاهَا . وَأَمّا قَوْلُهُ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ قَالَ الْقُتَبِيّ :
الْأَعْصَمُ مِنْ الْغِرْبَانِ الّذِي فِي جَنَاحَيْهِ بَيَاضٌ وَحَمَلَ عَلَى
أَبِي عُبَيْدٍ لِقَوْلِهِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْأَعْصَمُ الّذِي فِي يَدَيْهِ
بَيَاضٌ وَقَالَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْغُرَابِ يَدَانِ ؟ . وَإِنّمَا أَرَادَ أَبُو
عُبَيْدٍ أَنّ هَذَا الْوَصْفَ لِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَلِذَلِكَ قَالَ إنّ هَذَا
الْوَصْفَ فِي الْغِرْبَانِ عَزِيزٌ وَكَأَنّهُ ذَهَبَ إلَى الّذِي أَرَادَ ابْنُ
قُتَيْبَةَ مِنْ بَيَاضِ الْجَنَاحَيْنِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالَ إنّهُ فِي
الْغِرْبَانِ مُحَالٌ لَا يُتَصَوّرُ . وَفِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ
طَرِيقِ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا
يُغْنِي عَنْ قَوْلَيْهِمَا ، وَفِيهِ الشّفَاءُ أَنّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْمَرْأَةُ الصّالِحَةُ فِي النّسَاءِ
كَالْغُرَابِ الْأَعْصَمِ . قِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا الْغُرَابُ
الْأَعْصَمُ ؟ قَالَ الّذِي إحْدَى رِجْلَيْهِ بَيْضَاءُ فَالْغُرَابُ فِي
التّأْوِيلِ فَاسِقٌ وَهُوَ أَسْوَدُ فَدَلّتْ نُقْرَتُهُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ
عَلَى نُقْرَةِ الْأَسْوَدِ الْحَبَشِيّ بِمِعْوَلِهِ فِي أَسَاسِ الْكَعْبَةِ
يَهْدِمُهَا فِي آخِرِ الزّمَانِ فَكَانَ نَقْرُ الْغُرَابِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ
يُؤْذِنُ بِمَا يَفْعَلُهُ الْفَاسِقُ الْأَسْوَدُ فِي آخِرِ الزّمَانِ بِقِبْلَةِ
الرّحْمَنِ وَسُقْيَا أَهْلِ الْإِيمَانِ وَذَلِكَ عِنْدَمَا يُرْفَعُ الْقُرْآنُ
وَتُحْيَا عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَفِي الصّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَيُخَرّبَنّ الْكَعْبَةَ ذُو السّوَيْقَتَيْنِ مِنْ
الْحَبَشَةِ وَفِي الصّحِيحِ أَيْضًا مِنْ صِفَتِهِ أَنّهُ [ أَسْوَدُ ] أَفْحَجُ
[ يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا ] وَهَذَا أَيْضًا يَنْظُرُ إلَى كَوْنِ الْغُرَابِ
أَعْصَمَ إذْ الْفَحَجُ تَبَاعُدٌ فِي الرّجْلَيْنِ كَمَا أَنّ الْعَصَمَ
اخْتِلَافٌ فِيهِمَا ، وَالِاخْتِلَافُ تَبَاعُدٌ وَقَدْ عُرِفَ بِذِي
السّوَيْقَتَيْنِ كَمَا نُعِتَ الْغُرَابُ بِصِفَةِ فِي سَاقَيْهِ فَتَأَمّلْهُ
وَهَذَا مِنْ خَفِيّ عِلْمِ التّأْوِيلِ لِأَنّهَا كَانَتْ رُؤْيَا ، وَإِنْ شِئْت
: كَانَ مِنْ بَابِ الزّجْرِ وَالتّوَسّمِ الصّادِقِ وَالِاعْتِبَارِ
وَالتّفْكِيرِ فِي مَعَالِمِ حِكْمَةِ - اللّهِ تَعَالَى - فَهَذَا سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيّبِ ، وَهُوَ مَنْ هُوَ عِلْمًا وَوَرَعًا حِينَ حُدّثَ بِحَدِيثِ
الْبِئْرِ فِي الْبُسْتَانِ وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - قَعَدَ عَلَى قُفّهَا ، وَدَلّى رِجْلَيْهِ فِيهَا ، ثُمّ جَاءَ أَبُو
بَكْرٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمّ جَاءَ عُمَرُ - رَضِيَ
اللّه عَنْهُ - فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمّ جَاءَ عُثْمَانُ فَانْتَبَذَ مِنْهُمْ
نَاحِيَةً وَقَعَدَ حَجْرَةً . قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ : فَأَوّلْت ذَلِكَ
قُبُورَهُمْ اجْتَمَعَتْ قُبُورُ الثّلَاثَةِ وَانْفَرَدَ قَبْرُ عُثْمَانَ -
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ [ ص 261 ] { إِنّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسّمِينَ } [ الْحِجْرَ : 75 ] . فَهَذَا مِنْ التّوَسّمِ
وَالْفِرَاسَةِ الصّادِقَةِ وَإِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي دَلَائِلِ الْحِكْمَةِ
وَاسْتِنْبَاطِ الْفَوَائِدِ اللّطِيفَةِ مِنْ إشَارَاتِ الشّرِيعَةِ . وَأَمّا
قَرْيَةُ النّمْلِ ، فَفِيهَا مِنْ الْمُشَاكَلَةِ أَيْضًا ، وَالْمُنَاسَبَةِ
أَنّ زَمْزَمَ هِيَ عَيْنُ مَكّةَ الّتِي يَرِدُهَا الْحَجِيجُ وَالْعُمّارُ مِنْ
كُلّ جَانِبٍ فَيَحْمِلُونَ إلَيْهَا الْبُرّ وَالشّعِيرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَهِيَ
لَا تَحْرُثُ وَلَا تَزْرَعُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ خَبَرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السّلَامُ { رَبّنَا إِنّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ } إلَى قَوْلِهِ { وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثّمَرَاتِ لَعَلّهُمْ يَشْكُرُونَ
} [ إبْرَاهِيمَ 37 ] وَقَرْيَةُ النّمْلِ لَا تَحْرُثُ وَلَا تَبْذُرُ وَتَجْلِبُ
الْحُبُوبَ إلَى قَرْيَتِهَا مِنْ كُلّ جَانِبٍ وَفِي مَكّةَ قَالَ اللّهُ
سُبْحَانَهُ { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنّةً
يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلّ مَكَانٍ } [ النّحْلَ 112 ] . مَعَ أَنّ
لَفْظَ قَرْيَةِ النّمْلِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَرَيْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ إذَا
جَمَعْته ، وَالرّؤْيَا تُعَبّرُ عَلَى اللّفْظِ تَارَةً وَعَلَى الْمَعْنَى
أُخْرَى ، فَقَدْ اجْتَمَعَ اللّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي هَذَا التّأْوِيلِ - وَاَللّهُ
أَعْلَمُ .
مِنْ صِفَاتِ زَمْزَمَ
وَقَدْ قِيلَ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ فِي صِفَةِ زَمْزَمَ : لَا تَنْزِفُ أَبَدًا ،
وَلَا تُذَمّ ، وَهَذَا بُرْهَانٌ عَظِيمٌ لِأَنّهَا لَمْ تَنْزِفْ مِنْ ذَلِكَ
الْحِينِ إلَى الْيَوْمِ قَطّ ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهَا حَبَشِيّ فَنُزِحَتْ مِنْ
أَجْلِهِ فَوَجَدُوا مَاءَهَا يَثُورُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَعْيُنٍ أَقْوَاهَا
وَأَكْثَرُهَا مَاءً مِنْ نَاحِيَةِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، وَذَكَرَ هَذَا
الْحَدِيثَ الدّارَقُطْنِيّ . وَقَوْلُهُ وَلَا تُذَمّ ، فِيهِ نَظَرٌ وَلَيْسَ
هُوَ عَلَى مَا يَبْدُو مِنْ ظَاهِرِ اللّفْظِ مِنْ أَنّهَا لَا يَذُمّهَا أَحَدٌ
، وَلَوْ كَانَ مِنْ الذّمّ لَكَانَ مَاؤُهَا أَعْذَبَ الْمِيَاهِ وَلَتَضَلّعَ
مِنْهُ كُلّ مَنْ يَشْرَبُهُ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنّهُ لَا
يَتَضَلّعُ مِنْهَا مُنَافِقٌ فَمَاؤُهَا إذًا مَذْمُومٌ عِنْدَهُمْ وَقَدْ كَانَ
خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْقَسْرِيّ أَمِيرَ الْعِرَاقِ يَذُمّهَا ،
وَيُسَمّيهَا : أُمّ جِعْلَانَ وَاحْتَفَرَ بِئْرًا خَارِجَ مَكّةَ بِاسْمِ
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَجَعَلَ يُفَضّلُهَا عَلَى زَمْزَمَ ، وَيَحْمِلُ
النّاسَ عَلَى التّبَرّكِ بِهَا دُونَ زَمْزَمَ جُرْأَةً مِنْهُ عَلَى اللّهِ -
عَزّ وَجَلّ - وَقِلّةَ حِيَاءٍ مِنْهُ وَهُوَ الّذِي يُعْلِنُ وَيُفْصِحُ
بِلَعْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ - عَلَى
الْمِنْبَرِ وَإِنّمَا ذَكَرْنَا هَذَا ، أَنّهَا قَدْ ذُمّتْ فَقَوْلُهُ إذًا :
لَا تُذَمّ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ : بِئْرٌ ذَمّةٌ أَيْ قَلِيلَةُ الْمَاءِ فَهُوَ
مِنْ أَذْمَمْتَ الْبِئْرَ إذَا وَجَدْتهَا ذَمّةً كَمَا تَقُولُ أَجْبَنْت
الرّجُلَ إذَا وَجَدْته جَبَانًا ، وَأَكْذَبْته إذَا وَجَدْته كَاذِبًا ، [ ص 262
] { فَإِنّهُمْ لَا يُكَذّبُونَكَ وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ
يَجْحَدُونَ } [ الْأَنْعَامَ 33 ] وَقَدْ فَسّرَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِ
الْحَدِيثِ قَوْلَهُ حَتّى مَرَرْنَا بِبِئْرِ ذَمّةٍ . وَأَنْشَدَ مُخَيّسَةً
خُزْرًا كَأَنّ عُيُونَهَا ذِمَامُ الرّكَايَا أَنْكَزَتْهَا الْمَوَاتِحُ فَهَذَا
أَوْلَى مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مَعْنَى قَوْلِهِ . وَلَا تُذَمّ ؛ لِأَنّهُ نَفْيٌ
مُطْلَقٌ وَخَبَرٌ صَادِقٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَحَدِيثُ الْبِئْرِ الذّمّةِ
الّتِي ذَكَرَهَا أَبُو عُبَيْدٍ ، حَدّثَنَا بِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيّ
الْحَافِظُ قَالَ أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْمُطَهّرِ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ أَبِي الرّجَاءِ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ قَالَ
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ خَلّادٍ قَالَ حَدّثَنَا
الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ . قَالَ حَدّثَنَا أَبُو النّضْرِ قَالَ
حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ كُنّا
مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي مَسِيرٍ فَأَتَيْنَا
عَلَى رَكِيّ ذَمّةٍ يَعْنِي : قَلِيلَةَ الْمَاءِ قَالَ فَنَزَلَ فِيهَا سِتّةٌ -
أَنَا سَادِسُهُمْ - مَاحَةٌ فَأُدْلِيَتْ إلَيْنَا دَلْوٌ قَالَ وَرَسُولُ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى الرّكِيّ فَجَعَلْنَا فِيهَا نِصْفَهَا
، أَوْ قَرِيبَ ثُلُثَيْهَا ، فَرُفِعَتْ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ فَجِئْت بِإِنَائِي . هَلْ أَجِدُ شَيْئًا أَجْعَلُهُ
فِي حَلْقِي ، فَمَا وَجَدْت ، فَرُفِعَتْ الدّلْوُ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَغَمَسَ يَدَهُ فِيهَا ، فَقَالَ مَا شَاءَ اللّهُ
أَنْ يَقُولَ - قَالَ فَأُعِيدَتْ إلَيْنَا الدّلْوُ بِمَا فِيهَا ، قَالَ
فَلَقَدْ رَأَيْت أَحَدَنَا أُخْرِجَ بِثَوْبِ خَشْيَةَ الْغَرَقِ . قَالَ ثُمّ
سَاحَتْ يَعْنِي : جَرَتْ نَهَرًا .
[
ص 262 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا بُيّنَ لَهُ شَأْنُهَا ، وَدُلّ عَلَى
مَوْضِعِهَا ، وَعَرَفَ أَنّهُ قَدْ صُدِقَ غَدَا بِمِعْوَلِهِ وَمَعَهُ ابْنُهُ
الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، لَيْسَ لَهُ يَوْمَئِذٍ وَلَدٌ غَيْرُهُ
فَحَفَرَ فِيهَا . فَلَمّا بَدَا لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ الطّيّ ، كَبّرَ فَعَرَفَتْ
قُرَيْشٌ أَنّهُ قَدْ أَدْرَكَ حَاجَتَهُ فَقَامُوا إلَيْهِ فَقَالُوا : يَا
عَبْدَ الْمُطّلِبِ ، إنّهَا بِئْرُ أَبِينَا إسْمَاعِيلَ وَإِنّ لَنَا فِيهَا
حَقّا فَأَشْرِكْنَا مَعَك فِيهَا . قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلِ إنّ هَذَا
الْأَمْرَ قَدْ خُصِصْت بِهِ دُونَكُمْ وَأُعْطِيته مِنْ بَيْنِكُمْ فَقَالُوا
لَهُ فَأَنْصِفْنَا ، فَإِنّا غَيْرُ تَارِكِيك حَتّى نُخَاصِمَك فِيهَا ، قَالَ
فَاجْعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مَنْ شِئْتُمْ أُحَاكِمُكُمْ إلَيْهِ قَالُوا :
كَاهِنَةُ بَنِي سَعْدِ هُذَيْمٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَكَانَتْ بِأَشْرَافِ
الشّامِ ، فَرَكِبَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ بَنِي أَبِيهِ مِنْ
بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَرَكِبَ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ [ ص 263 ] قَالَ
وَالْأَرْضُ إذْ ذَاكَ مَفَاوِزُ . قَالَ فَخَرَجُوا حَتّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ
تِلْكَ الْمَفَاوِزِ بَيْن الْحِجَازِ وَالشّامِ ، فَنِيَ مَاءُ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ وَأَصْحَابِهِ فَظَمِئُوا حَتّى أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ
فَاسْتَسْقَوْا مَنْ مَعَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ ، فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ
وَقَالُوا : إنّا بِمَفَازَةِ وَنَحْنُ نَخْشَى عَلَى أَنْفُسِنَا مِثْلَ مَا
أَصَابَكُمْ فَلَمّا رَأَى عَبْدُ الْمُطّلِبِ مَا صَنَعَ الْقَوْمُ وَمَا
يَتَخَوّفُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَصْحَابِهِ قَالَ مَاذَا تَرَوْنَ ؟ قَالُوا : مَا
رَأْيُنَا إلّا تَبَعٌ لِرَأْيِك ، فَمُرْنَا بِمَا شِئْت ، قَالَ فَإِنّي أَرَى
أَنْ يَحْفِرَ كُلّ رَجُلٍ مِنْكُمْ حُفْرَتَهُ لِنَفْسِهِ بِمَا بِكُمْ الْآنَ
مِنْ الْقُوّةِ - فَكَلَمّا مَاتَ رَجُلٌ دَفَعَهُ أَصْحَابُهُ فِي حُفْرَتِهِ
ثُمّ وَارَوْهُ - حَتّى يَكُونَ آخِرُكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا ، فَضَيْعَةُ رَجُلٍ
وَاحِدٍ أَيْسَرُ مِنْ ضَيْعَةِ رَكْبٍ جَمِيعًا ، قَالُوا : نِعْمَ مَا أَمَرْت
بِهِ . فَقَامَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَحَفَرَ حُفْرَتَهُ ثُمّ قَعَدُوا
يَنْتَظِرُونَ الْمَوْتَ عَطَشًا ، ثُمّ إنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ قَالَ
لِأَصْحَابِهِ وَاَللّهِ إنّ إلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا هَكَذَا لِلْمَوْتِ لَا
نَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ وَلَا نَبْتَغِي لِأَنْفُسِنَا ، لَعَجْزٌ فَعَسَى اللّهُ
أَنْ يَرْزُقَنَا مَاءً بِبَعْضِ الْبِلَادِ ارْتَحِلُوا ، فَارْتَحَلُوا حَتّى
إذَا فَرَغُوا ، وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ
مَا هُمْ فَاعِلُونَ تَقَدّمَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ إلَى رَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا .
فَلَمّا انْبَعَثَتْ بِهِ انْفَجَرَتْ مِنْ تَحْتِهَا خُفّهَا عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ
فَكَبّرَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ ، وَكَبّرَ أَصْحَابُهُ ثُمّ نَزَلَ فَشَرِبَ
وَشَرِبَ أَصْحَابُهُ وَاسْتَقَوْا حَتّى مَلَئُوا أَسْقِيَتَهُمْ ثُمّ دَعَا
الْقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقَالَ هَلُمّ إلَى الْمَاءِ فَقَدْ سَقَانَا
اللّهُ فَاشْرَبُوا وَاسْتَقُوا ، فَجَاءُوا ، فَشَرِبُوا وَاسْتَقَوْا . ثُمّ
قَالُوا : قَدْ - وَاَللّهِ - قُضِيَ لَك عَلَيْنَا يَا عَبْدَ الْمُطّلِبِ ،
وَاَللّهِ لَا نُخَاصِمُك فِي زَمْزَمَ أَبَدًا ، إنّ الّذِي سَقَاك هَذَا
الْمَاءَ بِهَذِهِ الْفَلَاةِ لَهُوَ الّذِي سَقَاك زَمْزَمَ ، فَارْجِعْ إلَى
سِقَايَتِك رَاشِدًا . فَرَجَعَ وَرَجَعُوا مَعَهُ وَلَمْ يَصِلُوا إلَى
الْكَاهِنَةِ وَخَلّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا . [ ص 264 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
فَهَذَا الّذِي بَلَغَنِي مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ فِي زَمْزَمَ ، وَقَدْ سَمِعْت مَنْ يُحَدّثُ عَنْ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
أَنّهُ قِيلَ لَهُ حِينَ أُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ :
ثُمّ اُدْعُ بِالْمَاءِ الرّوِيّ غَيْرِ الْكَدِرِ ... يَسْقِي حَجِيجَ اللّهِ فِي
كُلّ مَبَرْ
لَيْسَ يُخَافُ مِنْهُ شَيْءٌ مَا عَمَرْ
فَخَرَجَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ حِينَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ إلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ
تَعْلَمُوا أَنّي قَدْ أُمِرْت أَنْ أَحْفِرَ لَكُمْ زَمْزَمَ ، فَقَالُوا :
فَهَلْ بُيّنَ لَك أَيْنَ هِيَ ؟ قَالَ لَا . قَالُوا فَارْجِعْ إلَى مَضْجَعِك
الّذِي رَأَيْت فِيهِ مَا رَأَيْت ، فَإِنْ يَكُ حَقّا مِنْ اللّهِ يُبَيّنْ لَك ،
وَإِنّ يَكُ مِنْ الشّيْطَانِ فَلَنْ يَعُودَ إلَيْك . فَرَجَعَ عَبْدُ
الْمُطّلِبِ إلَى مَضْجَعِهِ فَنَامَ فِيهِ فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ احْفِرْ
زَمْزَمَ ، إنّك إنْ حَفَرْتهَا لَمْ تَنْدَمْ وَهِيَ تُرَاثٌ مِنْ أَبِيك
الْأَعْظَمِ لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذَمّ ، تَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَعْظَمَ
مِثْلُ نَعَامٍ جَافِلٍ لَمْ يُقْسَمْ يَنْذِرُ فِيهَا نَاذِرٌ لِمُنْعِمِ تَكُونُ
مِيرَاثًا وَعَقْدًا مُحْكَمًا ، لَيْسَتْ كَبَعْضِ مَا قَدْ تَعْلَمُ وَهِيَ
بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدّمِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا الْكَلَامُ وَالْكَلَامُ
الّذِي قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ فِي حَفْرِ زَمْزَمَ مِنْ قَوْلِهِ "
لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذَمّ " إلَى قَوْلِهِ " عِنْدَ قَرْيَةِ
النّمْلِ " عِنْدَنَا سَجْعٌ وَلَيْسَ شِعْرًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
فَزَعَمُوا أَنّهُ حِينَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ وَأَيْنَ هِيَ ؟ قِيلَ لَهُ عِنْدَ
قَرْيَةِ النّمْلِ ، حَيْثُ يَنْقُرُ الْغُرَابُ غَدًا . وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ
ذَلِكَ كَانَ فَغَدَا عَبْدُ الْمُطّلِبِ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ وَلَيْسَ
لَهُ يَوْمَئِذٍ وَلَدٌ غَيْرُهُ فَوَجَدَ قَرْيَةَ النّمْلِ ، وَوَجَدَ
الْغُرَابَ يَنْقُرُ عِنْدَهَا . بَيْنَ الْوَثَنَيْنِ إسَافَ وَنَائِلَةَ
اللّذَيْنِ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَنْحَرُ عِنْدَهُمَا ذَبَائِحَهَا . فَجَاءَ
بِالْمِعْوَلِ وَقَامَ لِيَحْفِرَ حَيْثُ أُمِرَ فَقَامَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ حِينَ
رَأَوْا جِدّهُ [ ص 265 ] فَقَالُوا : وَاَللّهِ لَا نَتْرُكُك تَحْفِرُ بَيْنَ وَثَنَيْنَا
هَذَيْنِ اللّذَيْنِ نَنْحَرُ عِنْدَهُمَا ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ لِابْنِهِ
الْحَارِثِ ذُدْ عَنّي حَتّى أَحْفِرَ ، فَوَاَللّهِ لَأَمْضِيَنّ لِمَا أُمِرْت
بِهِ . فَلَمّا عَرَفُوا أَنّهُ نَازِعٌ خَلّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَفْرِ ،
وَكَفّوا عَنْهُ فَلَمْ يَحْفِرْ إلّا يَسِيرًا ، حَتّى بَدَا لَهُ الطّيّ ،
فَكَبّرَ وَعَرَفَ أَنّهُ قَدْ صُدِقَ فَلَمّا تَمَادَى بِهِ الْحَفْرُ وَجَدَ
فِيهَا غَزَالَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ وَهُمَا الْغَزَالَانِ اللّذَانِ دَفَنَتْ
جُرْهُمٌ فِيهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ مَكّةَ ، وَوَجَدَ فِيهَا أَسْيَافًا
قَلْعِيّةً وَأَدْرَاعًا فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ يَا عَبْدَ الْمُطّلِبِ ، لَنَا
مَعَك فِي هَذَا شِرْكٌ وَحَقّ ، قَالَ لَا ، وَلَكِنْ هَلُمّ إلَى أَمْرٍ نَصَفٍ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ نَضْرِبُ عَلَيْهَا بِالْقِدَاحِ قَالُوا : وَكَيْفَ
تَصْنَعُ ؟ قَالَ أَجْعَلُ لِلْكَعْبَةِ قِدْحَيْنِ وَلِي قِدْحَيْنِ وَلَكُمْ
قِدْحَيْنِ فَمَنْ خَرَجَ لَهُ قِدْحَاهُ عَلَى شَيْءٍ كَانَ لَهُ وَمَنْ تَخَلّفَ
قِدْحَاهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ قَالُوا : أَنْصَفْت ، فَجَعَلَ قِدْحَيْنِ
أَصْفَرَيْنِ لِلْكَعْبَةِ وَقِدْحَيْنِ أَسْوَدَيْنِ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ
وَقِدْحَيْنِ أَبْيَضَيْنِ لِقُرَيْشِ ثُمّ أَعْطَوْا صَاحِبَ الْقِدَاحِ الّذِي
يَضْرِبُ بِهَا عِنْدَ هُبَلَ - وَهُبَلُ صَنَمٌ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ ، وَهُوَ
أَعْظَمُ أَصْنَامِهِمْ وَهُوَ الّذِي يَعْنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ يَوْمَ
أُحُدٍ حِينَ قَالَ أَعْلِ هُبَلُ أَيْ أَظْهِرْ دِينَك - وَقَامَ عَبْدُ
الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ عَزّ وَجَلّ فَضَرَبَ صَاحِبُ الْقِدَاحِ فَخَرَجَ
الْأَصْفَرَانِ عَلَى الْغَزَالَيْنِ لِلْكَعْبَةِ وَخَرَجَ الْأَسْوَدَانِ عَلَى
الْأَسْيَافِ وَالْأَدْرَاعِ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ وَتَخَلّفَ قِدْحَا قُرَيْشٍ .
فَضَرَبَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ الْأَسْيَافَ [ ص 266 ] وَضَرَبَ فِي الْبَابِ
الْغَزَالَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَانَ أَوّلَ ذَهَبٍ حُلّيَتْهُ الْكَعْبَةُ -
فِيمَا يَزْعُمُونَ - ثُمّ إنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ أَقَامَ سِقَايَةَ زَمْزَمَ
لِلْحُجّاجِ .Sاشْتِقَاقُ
مَفَازَةٍ
[ ص 263 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ فِي مَسِيرِهِ مَعَ قُرَيْشٍ إلَى
الْكَاهِنَةِ وَذَكَرَ الْمَفَاوِزَ الّتِي عَطِشُوا فِيهَا . الْمَفَاوِزُ جَمْعُ
مَفَازَةٍ وَفِي اشْتِقَاقِ اسْمِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . رُوِيَ عَنْ
الْأَصْمَعِيّ أَنّهَا سُمّيَتْ مَفَازَةً عَلَى جِهَةِ التّفَاؤُلِ لِرَاكِبِهَا
بِالْفَوْزِ وَالنّجَاةِ وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيّ أَنّهُ قَالَ
سَأَلْت أَبَا الْمَكَارِمِ لِمَ سُمّيَتْ الْفَلَاةُ مَفَازَةً ؟ فَقَالَ لِأَنّ
رَاكِبَهَا إذَا قَطَعَهَا وَجَاوَزَهَا فَازَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهَا :
مَهْلَكَةٌ لِأَنّهُ يُقَالُ فَازَ الرّجُلُ وَفَوّزَ وَفَادَ وَفَطَسَ إذَا
هَلَكَ . وَذُكِرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رِضْوَانُ
اللّهِ عَلَيْهِ - ثُمّ اُدْعُ بِالْمَاءِ الرّوِيّ غَيْرِ الْكَدَرِ يُقَالُ
مَاءٌ رِوَى بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ وَرَوَاءٌ بِالْفَتْحِ وَالْمَدّ وَفِيهِ
الْجَمْعُ وَاسْمُ الْجَمْعِ يُسْقَى حَجِيجُ اللّهِ فِي كُلّ مَبَرْ . الْحَجِيجُ
جَمْعُ حَاجّ . وَفِي الْجُمُوعِ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ كَثِيرٌ كَالْعَبِيدِ
وَالْبَقِيرِ وَالْمَعِيزِ وَالْأَبِيلِ وَأَحْسَبُهُ اسْمًا لِلْجَمْعِ لِأَنّهُ
لَوْ كَانَ جَمْعًا لَهُ وَاحِدٌ مِنْ [ ص 264 ] قِيَاسٍ وَاحِدٍ كَسَائِرِ
الْجُمُوعِ وَهَذَا يَخْتَلِفُ وَاحِدُهُ فَحَجِيجٌ وَاحِدُهُ حَاجّ ، وَعَبِيدٌ
وَاحِدُهُ عَبْدٌ وَبَقِيرٌ وَاحِدُهُ بَقَرَةٌ [ وَمَعِيزٌ وَاحِدُهُ مَاعِزٌ ]
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنّهُ اسْمٌ لِلْجَمْعِ غَيْرَ أَنّهُ
مَوْضُوعٌ لِلْكَثْرَةِ وَلِذَلِكَ لَا يُصَغّرُ عَلَى لَفْظِهِ كَمَا تُصَغّرُ
أَسْمَاءُ الْجُمُوعِ فَلَا يُقَالُ فِي الْعَبِيدِ عُبَيّدٌ ، وَلَا فِي
النّخِيلِ : نُخَيّلٌ بَلْ يُرَدّ إلَى وَاحِدِهِ كَمَا تُرَدّ الْجُمُوعُ فِي
التّصْغِيرِ فَيُقَالُ نُخَيْلَاتٌ وَعُبَيْدُونَ وَإِذَا قُلْت : نَخِيلٌ أَوْ
عَبِيدٌ ، فَهُوَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الصّغِيرَ وَالْكَبِيرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ
قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } وَقَالَ { وَمَا رَبّكَ
بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ } [ فُصّلَتْ 46 ] وَحِينَ ذَكَرَ الْمُخَاطَبِينَ مِنْهُمْ
قَالَ الْعِبَادُ وَكَذَلِكَ قَالَ حِينَ ذَكَرَ الثّمَرَ مِنْ النّخِيلِ : {
وَالنّخْلَ بَاسِقَاتٍ } [ ق : 10 ] وَقَالَ { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ } [
الْقَمَرَ 20 ] فَتَأَمّلْ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَمْعَيْنِ فِي حُكْمِ
الْبَلَاغَةِ وَاخْتِيَارِ الْكَلَامِ وَأَمّا فِي مَذْهَبِ أَهْلِ اللّغَةِ
فَلَمْ يُفَرّقُوا هَذَا التّفْرِيقَ وَلَا نَبّهُوا عَلَى هَذَا الْغَرَضِ
الدّقِيقِ . 265 - شُرُوحٌ وَقَوْلُهُ فِي كُلّ مَبَرّ هُوَ مَفْعَلٌ مِنْ الْبِرّ
يُرِيدُ فِي مَنَاسِكِ الْحَجّ وَمَوَاضِعِ الطّاعَةِ . وَقَوْلُهُ مِثْلُ نَعَامٍ
جَافِلٍ لَمْ يُقْسَمْ . الْجَافِلُ مِنْ جَفَلَتْ الْغَنَمُ إذَا انْقَلَعَتْ
بِجُمْلَتِهَا ، وَلَمْ يُقْسَمْ أَيْ لَمْ يَتَوَزّعْ وَلَمْ يَتَفَرّقْ .
وَقَوْلُهُ لَيْسَ يُخَافُ مِنْهُ شَيْءٌ مَا عَمَرْ . أَيْ مَا عَمَرَ هَذَا
الْمَاءُ فَإِنّهُ لَا يُؤْذِي ، وَلَا يُخَافُ مِنْهُ مَا يُخَافُ مِنْ الْمِيَاهِ
إذَا أُفْرِطَ فِي شُرْبِهَا ، بَلْ هُوَ بَرَكَةٌ عَلَى كُلّ حَالٍ وَعَلَى هَذَا
يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ لَا تَنْزِفُ وَلَا تُذَمّ عَاقِبَةُ شُرْبِهَا ،
وَهَذَا تَأْوِيلٌ سَائِغٌ أَيْضًا عَلَى مَا قَدّمْنَاهُ مِنْ التّأْوِيلِ
وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي صِفَتِهَا . وَقَوْلُهُ وَضَرَبَ [ فِي الْبَابِ ]
الْغَزَالَيْنِ حِلْيَةَ الْكَعْبَةِ ، وَهُوَ أَوّلُ ذَهَبٍ حُلّيَتْ بِهِ
الْكَعْبَةُ ، وَقَدْ قَدّمْنَا ذِكْرَ الْغَزَالَيْنِ وَمَنْ أَهْدَاهُمَا إلَى
الْكَعْبَةِ ، وَمَنْ دَفَنَهُمَا مِنْ جُرْهُمٍ ، وَتَقَدّمَ أَنّ أَوّلَ مَنْ
كَسَا الْكَعْبَةَ : تُبّعٌ ، وَأَنّهُ أَوّلُ مَنْ اتّخَذَ لَهَا غَلَقًا إلَى
أَنْ ضَرَبَ لَهَا عَبْدُ الْمُطّلِبِ بَابَ حَدِيدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَسْيَافِ
وَاِتّخَذَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ حَوْضًا لِزَمْزَمَ يُسْقَى مِنْهُ فَكَانَ يُخَرّبُ
لَهُ بِاللّيْلِ حَسَدًا لَهُ فَلَمّا غَمّهُ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ فِي النّوْمِ قُلْ
لَا أُحِلّهَا لِمُغْتَسِلِ وَهِيَ لِشَارِبِ حِلّ وَبِلّ وَقَدْ كُفِيتُمْ
فَلَمّا أَصْبَحَ قَالَ ذَلِكَ فَكَانَ بَعْدُ مَنْ أَرَادَهَا بِمَكْرُوهِ رُمِيَ
بِدَاءِ فِي جَسَدِهِ حَتّى انْتَهَوْا عَنْهُ . ذَكَرَهُ الزّهْرِيّ فِي سِيَرِهِ
.
ذِكْرُ
بِئَارَ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ بِمَكّةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَبْلَ حَفْرِ زَمْزَمَ قَدْ
احْتَفَرَتْ بِئَارًا بِمَكّةَ فِيمَا حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ
عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ قَالَ حَفَرَ عَبْدُ شَمْسِ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ
الطّوِيّ وَهِيَ الْبِئْرُ الّتِي بِأَعْلَى مَكّةَ عِنْدَ الْبَيْضَاءِ دَارِ
مُحَمّدِ بْنِ يُوسُفَ . وَحَفَرَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ بَذّرَ وَهِيَ
الْبِئْرُ الّتِي عِنْدَ الْمُسْتَنْذَرِ خَطْمِ الْخَنْدَمَةِ عَلَى فَمِ شِعْبِ
أَبِي طَالِبٍ ، وَزَعَمُوا أَنّهُ قَالَ حِينَ حَفَرَهَا : لَأَجْعَلَنّهَا
بَلَاغًا لِلنّاسِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ الشّاعِرُ
سَقَى اللّهُ أَمْوَاهًا عَرَفْت مَكَانَهَا ... جُرَابًا وَمَلْكُومًا وَبَذّرَ
وَالْغَمْرَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَفَرَ سَجْلَةَ ، وَهِيَ بِئْرُ الْمُطْعِمِ بْنِ
عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الّتِي يَسْقُونَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ .
وَيَزْعُمُ بَنُو نَوْفَلٍ أَنّ الْمُطْعِمَ ابْتَاعَهَا مِنْ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ
وَيَزْعُمُ بَنُو هَاشِمٍ أَنّهُ وَهَبَهَا لَهُ حِينَ ظَهَرَتْ زَمْزَمُ ،
فَاسْتَغْنَوْا بِهَا عَنْ تِلْكَ الْآبَارِ . [ ص 267 ] عَبْدِ شَمْسٍ الْحَفْرَ
لِنَفْسِهِ وَحَفَرَتْ بَنُو أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى : سُقَيّةً وَهِيَ
بِئْرُ بَنِي أَسَدٍ . وَحَفَرَتْ بَنُو عَبْدِ الدّارِ أُمّ أَحْرَادٍ .
وَحَفَرَتْ بَنُو جُمَحَ السّنْبُلَةَ وَهِيَ بِئْرُ خَلَفِ بْنِ وَهْبٍ .
وَحَفَرَتْ بَنُو سَهْمٍ : الْغَمْرَ ، وَهِيَ بِئْرُ بَنِي سَهْمٍ ، وَكَانَتْ
آبَارٌ حَفَائِرُ خَارِجًا مِنْ مَكّةَ قَدِيمَةً مِنْ عَهْدِ مُرّةَ بْنِ كَعْبٍ
، وَكِلَابِ بْنِ مُرّةَ ، وَكُبَرَاءُ قُرَيْشٍ الْأَوَائِلُ مِنْهَا يَشْرَبُونَ
وَهَى رُمّ ، وَرُمّ : بِئْرُ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَخُمّ ، وَخُمّ .
بِئْرُ بَنِي كِلَابِ بْنِ مُرّةَ ، وَالْحَفْرُ . قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ غَانِمٍ
أَخُو بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ : قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهُوَ أَبُو
أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ
وَقِدْمًا غَنَيْنَا قَبْلَ ذَلِكَ حَقْبَةً ... وَلَا نَسْتَقِي إلّا بِخُمّ أَوْ
الْحَفْرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا إنْ
شَاءَ اللّهُ فِي مَوْضِعِهَا .Sبِئَارُ
قُرَيْشٍ بِمَكّةَ
[ ص 266 ] وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَبْلَ حَفْرِ زَمْزَمَ قَدْ اتّخَذَتْ بِئَارًا
بِمَكّةَ . ذَكَرُوا أَنّ قُصَيّا كَانَ يَسْقِي الْحَجِيجَ فِي حِيَاضٍ مِنْ
أَدَمٍ وَكَانَ يَنْقُلُ الْمَاءَ إلَيْهَا مِنْ آبَارٍ خَارِجَةٍ مِنْ مَكّةَ
مِنْهَا : بِئْرُ مَيْمُونَ الْحَضْرَمِيّ ، وَكَانَ يَنْبِذُ لَهُمْ الزّبِيبَ
ثُمّ احْتَفَرَ قُصَيّ الْعَجُولَ فِي دَارِ أُمّ هَانِئِ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ ،
وَهِيَ أَوّلُ سِقَايَةٍ اُحْتُفِرَتْ بِمَكّةَ وَكَانَتْ الْعَرَبُ إذَا
اسْتَقَوْا مِنْهَا ارْتَجَزُوا ، فَقَالُوا :
نُرْوَى عَلَى الْعَجُولِ ثُمّ نَنْطَلِقْ ... إنّ قُصَيّا قَدْ وَفّى وَقَدْ
صَدَقْ
بِشِبَعِ الْحَجّ وَرِيّ مُغْتَبِقْ
[ ص 267 ] قُصَيّ ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ حَتّى كَبِرَ عَبْدُ مَنَافِ بْنُ قُصَيّ ،
فَسَقَطَ فِيهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُعَيْلٍ فَعَطّلُوا الْعَجُولَ وَانْدَفَنَتْ
وَاحْتَفَرَتْ كُلّ قَبِيلَةٍ بِئْرًا ، وَاحْتَفَرَ قُصَيّ سَجْلَةَ ، وَقَالَ
حِينَ حَفَرَهَا :
أَنَا قُصَيّ ، وَحَفَرْت سَجْلَهْ ... تُرْوِي الْحَجِيجَ زُغْلَةً فَزُغْلَهْ
وَقِيلَ بَلْ حَفَرَهَا هَاشِمٌ وَوَهَبَهَا أَسَدُ بْنُ هَاشِمٍ لِعَدِيّ بْنِ
نَوْفَلٍ وَفِي ذَلِكَ تَقُولُ خَالِدَةُ بِنْتُ هَاشِمٍ
نَحْنُ وَهَبْنَا لِعَدِيّ سَجْلَهْ ... تُرْوِي الْحَجِيجَ زُغْلَةً فَزُغْلَهْ
وَأَمّا أُمّ أَحْرَادٍ الّتِي ذَكَرَهَا ، فَأَحْرَادٌ جَمْعُ : حِرْدٍ وَهِيَ
قِطْعَةٌ مِنْ السّنَامِ فَكَأَنّهَا سُمّيَتْ بِهَذَا ، لِأَنّهَا تُنْبِتُ
الشّحْمَ أَوْ تُسَمّنُ الْإِبِلَ أَوْ نَحْوَ هَذَا وَالْحِرْدُ الْقَطَا
الْوَارِدَةُ لِلْمَاءِ فَكَأَنّهَا تَرِدُهَا الْقَطَا وَالطّيْرُ فَيَكُونُ أَحْرَادٌ
جَمْعَ : حُرْدٍ بِالضّمّ عَلَى هَذَا . وَقَالَتْ أُمَيّةُ بِنْتُ عُمَيْلَةَ
بْنِ السّبّاقِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ امْرَأَةُ الْعَوّامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ حِينَ
حَفَرَتْ بَنُو عَبْدِ الدّارِ أُمّ أَحْرَادٍ :
نَحْنُ حَفَرْنَا الْبَحْرَ أُمّ أَحْرَادِ ... لَيْسَتْ كَبَذّرَ الْبُرُورِ
الْجَمَادِ
فَأَجَابَتْهَا ضَرّتُهَا : صَفِيّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أُمّ الزّبَيْرِ
بْنِ الْعَوّامِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
نَحْنُ حَفَرْنَا بَذّرْ ... نَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَكْبَرْ
مِنْ مُقْبِلٍ وَمُدْبِرْ ... وَأُمّ أَحْرَادَ شَرْ
[ ص 268 ] يَكُونَ بِمَعْنَى : جَرِيبٍ نَحْوُ كُبَارٍ وَكَبِيرٍ وَالْجَرِيبُ
الْوَادِي ، وَالْجَرِيبُ أَيْضًا : مِكْيَالٌ كَبِيرٌ وَالْجَرِيبُ أَيْضًا :
الْمَزْرَعَةُ . وَأَمّا مَلْكُومٌ فَهُوَ عِنْدِي مَقْلُوبٌ وَالْأَصْلُ
مَمْكُولٌ مِنْ مَكَلْت الْبِئْرَ إذَا اسْتَخْرَجْت مَاءَهَا ، وَالْمَكْلَةُ
مَاءُ الرّكِيّةِ وَقَدْ قَالُوا : بِئْرٌ عَمِيقَةٌ وَمَعِيقَةٌ فَلَا يَبْعُدُ
أَنْ يَكُونَ هَذَا اللّفْظُ كَذَلِكَ يُقَالُ فِيهِ مَمْكُولٌ وَمَلْكُومٌ ،
وَالْمَلْكُومُ فِي اللّغَةِ الْمَظْلُومُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْلُوبًا . وَأَمّا
بَذّرُ فَمِنْ التّبْذِيرِ وَهُوَ التّفْرِيقُ وَلَعَلّ مَاءَهَا كَانَ يَخْرُجُ
مُتَفَرّقًا مِنْ غَيْرِ مَكَانٍ وَاحِدٍ وَهَذَا الْبِنَاءُ فِي الْأَسْمَاءِ
قَلِيلٌ نَحْو : شَلّمَ وَخَضّمَ وَبَذّرَ وَهِيَ أَسْمَاءُ أَعْلَامٍ وَشَلّمُ
اسْمُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَأَمّا فِي غَيْرِ الْأَعْلَامِ فَلَا يُعْرَفُ إلّا
الْبَقّمُ وَلَعَلّ أَصْلَهُ أَنْ يَكُونَ أَعْجَمِيّا ، فَعُرّبَ . وَأَمّا خُمّ
وَهِيَ بِئْرُ مُرّةَ فَهِيَ مِنْ خَمَمْت الْبَيْتَ إذَا كَنَسْته ، وَيُقَالُ
فُلَانٌ مَخْمُومُ الْقَلْبِ أَيْ نَقِيّهُ فَكَأَنّهَا سُمّيَتْ بِذَلِكَ
لِنِقَائِهَا . وَأَمّا غَدِيرُ خُمّتْ الّذِي عِنْدَ الْجُحْفَةِ ، فَسُمّيَتْ
بِغَيْضَةِ عِنْدَهُ يُقَالُ لَهَا : خُمّ فِيمَا ذَكَرُوا . وَأَمّا رُمّ بِئْرُ
بَنِي كِلَابِ بْنِ مُرّةَ ، فَمِنْ رَمَمْت الشّيْءَ إذَا جَمَعْته وَأَصْلَحْته
، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ كُنّا أَهْلَ ثُمّةٍ وَرُمّةٍ وَمِنْهُ الرّمّانُ فِي
قَوْلِ سِيبَوَيْهِ ، لِأَنّهُ عِنْدَهُ فُعْلَانُ وَأَمّا الْأَخْفَشُ فَيَقُولُ
فِيهِ فُعّالٌ فَيَجْعَلُ فِيهِ النّونَ أَصْلِيّةً وَيَقُولُ إنْ سَمّيْت بِهِ
رَجُلًا صَرَفْته . وَمِنْ قَوْلِ [ ص 269 ] عَبْدِ شَمْسِ بْنِ قُصَيّ :
حَفَرْت رُمّا ، وَحَفَرْت خُمّا ... حَتّى تَرَى الْمَجْدَ بِهَا قَدْ تَمّا
وَأَمّا شُفَيّةُ بِئْرُ بَنِي أَسَدٍ ، فَقَالَ فِيهَا الْحُوَيْرِثُ بْنُ أَسَدٍ
:
مَاءُ شُفَيّةَ كَمَاءِ الْمُزْنِ ... وَلَيْسَ مَاؤُهَا بِطَرْقِ أَجْنِ
وَأَمّا سُنْبُلَةُ بِئْرُ بَنِي جُمَحَ وَهِيَ بِئْرُ بَنِي خَلَفِ بْنِ وَهْبٍ -
فَقَالَ فِيهَا شَاعِرُهُمْ
نَحْنُ حَفَرْنَا لِلْحَجِيجِ سُنْبُلَهْ ... صَوْبَ سَحَابٍ ذُو الْجَلَالِ
أَنْزَلَهْ
ثُمّ تَرَكْنَاهَا بِرَأْسِ الْقُنْبُلَهْ ... تَصُبّ مَاءً مِثْلَ مَاءِ
الْمَعْبَلَهْ
نَحْنُ سَقَيْنَا النّاسَ قَبْلَ الْمَسْأَلَهْ
مِنْ شَرْحِ شِعْرِ مُسَافِرٍ وَأَمّا الْغَمْرُ : بِئْرُ بَنِي سَهْمٍ ، فَقَالَ
فِيهَا بَعْضُهُمْ
نَحْنُ حَفَرْنَا الْغَمْرَ لِلْحَجِيجِ ... تَثُجّ مَاءً أَيّمَا ثَجِيجِ
ذَكَرَ أَكْثَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيّ ، وَبَعْضُ هَذِهِ الْأَرْجَازِ
أَوْ أَكْثَرُهُ فِي كِتَابِ الزّبَيْرِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَحْمَةُ اللّهِ
عَلَيْهِ .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَعَفّتْ زَمْزَمُ عَلَى الْبِئَارِ الّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا
يُسْقَى عَلَيْهَا الْحَاجّ وَانْصَرَفَ النّاسُ إلَيْهَا لِمَكَانِهَا مِنْ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؛ وَلِفَضْلِهَا عَلَى مَا سِوَاهَا مِنْ الْمِيَاهِ
وَلِأَنّهَا بِئْرُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السّلَامُ
وَافْتَخَرَتْ بِهَا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى قُرَيْشٍ كُلّهَا ، وَعَلَى
سَائِرِ الْعَرَبِ ، فَقَالَ مُسَافِرُ بْنُ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ بْنِ
عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَهُوَ يَفْخَرُ عَلَى قُرَيْشٍ بِمَا وُلّوا
عَلَيْهِمْ مِنْ السّقَايَةِ وَالرّفَادَةِ وَمَا أَقَامُوا لِلنّاسِ مِنْ ذَلِكَ
وَبِزَمْزَمَ حِينَ ظَهَرَتْ لَهُمْ وَإِنّمَا كَانَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ أَهْلُ
بَيْتٍ وَاحِدٍ شَرَفُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ شَرَفٌ وَفَضْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ
فَضْلٌ
وَرِثْنَا الْمَجْدَ مِنْ آبَا ... ئِنَا فَنَمَى بِنَا صُعُدَا
أَلَمْ نَسْقِ الْحَجِيجَ وَنَنْ ... حَرْ الدّلّافَةَ الرّفُدَا
وَنُلْفَى عِنْدَ تَصْرِيفِ الْمَ ... نَايَا شُدّدًا رُفُدَا
فَإِنْ نَهْلِكْ فَلَمْ نُمْلَكْ ... وَمَنْ ذَا خَالِدٌ أَبَدَا
وَزَمْزَمُ فِي أَرُومَتِنَا ... وَنَفْقَأُ عَيْنَ مَنْ جَسَدَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ غَانِمٍ أَخُو بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ
لُؤَيّ .
وَسَاقِي الْحَجِيجِ ثُمّ لِلْخُبْزِ هَاشِمٌ ... وَعَبْدُ مَنَافٍ ذَلِكَ
السّيّدُ الْفِهْرِي
طَوَى زَمْزَمًا عِنْدَ الْمَقَامِ فَأَصْبَحَتْ ... سِقَايَتُهُ فَخْرًا عَلَى
كُلّ ذِي فَخْرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يَعْنِي عَبْدَ الْمُطّلِبِ بْنَ هَاشِمٍ . وَهَذَانِ
الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لِحُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ سَأَذْكُرُهَا فِي
مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى .Sفَصْلٌ
وَذَكَرَ شِعْرَ مُسَافِرِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ . وَاسْمُ أَبِي
عَمْرٍو : ذَكْوَانُ ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ فِيهِ أَبُو سُفْيَانَ
لَيْتَ شِعْرِي مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْ ... رٍو ، وَلَيْتٌ يَقُولُهَا
الْمَحْزُونُ
بُورِكَ الْمَيّتُ الْغَرِيبُ كَمَا بُو ... رِكَ نَضْحُ الرّمّانِ وَالزّيْتُونُ
فِي شِعْرٍ يَرْثِيهِ بِهِ وَكَانَ مَاتَ مِنْ حُبّ صَعْبَةَ بِنْتِ الْحَضْرَمِيّ
. وَفِي الشّعْرِ وَنَنْحَرُ الدّلّافَةَ الرّفُدَا . [ ص 270 ] جَمْعُ رَفُودٍ
مِنْ الرّفْدِ وَهِيَ الّتِي تَمْلَأُ إنَاءَيْنِ عِنْدَ الْحَلْبِ . وَقَوْلُهُ
وَنُلْفَى عِنْدَ تَصْرِيفِ الْمَنَايَا شُدّدًا رُفُدَا
هُوَ جَمْعُ رَفُودٍ أَيْضًا مِنْ الرّفْدِ وَهُوَ الْعَوْنُ وَالْأَوّلُ مِنْ
الرّفْدِ بِفَتْحِ الرّاءِ [ وَبِكَسْرِهَا ] وَهُوَ إنَاءٌ كَبِيرٌ قَالَ الشّاعِرُ
رُبّ رَفْدٍ هَرَقْته ذَلِكَ الْيَوْ ... مَ وَأَسْرَى مِنْ مَعْشَرٍ أَقْتَالِ
وَذَكَرَ أُمّ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَهِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ
عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ هَكَذَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ . وَقَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : عَائِذُ بْنُ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَالصّحِيحُ مَا
قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ ؛ لِأَنّ الزّبَيْرِيّينَ ذَكَرُوا أَنّ عَبْدًا هُوَ أَخُو
عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ وَأَنّ بِنْتَ عَبْدٍ هِيَ صَخْرَةُ امْرَأَةُ عَمْرِو
بْنِ عَائِذٍ عَلَى قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ ؛ لِأَنّهَا كَانَتْ لَهُ عَمّةً لَا
بِنْتَ عَمّ فَتَأَمّلْهُ فَقَدْ تَكَرّرَ هَذَا النّسَبُ فِي السّيرَةِ مِرَارًا
، وَفِي كُلّ ذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ إسْحَاقَ : عَائِذُ بْنُ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ
، وَيُخَالِفُهُ ابْنُ هِشَامٍ . وَصَخْرَةُ بِنْتُ عَبْدٍ أُمّ فَاطِمَةَ أُمّهَا
: تَخْمُرُ بِنْتُ عَبْدِ بْنِ قُصَيّ ، وَأُمّ تَخْمُرَ سُلْمَى بِنْتُ
عُمَيْرَةَ بْنِ وَدِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ . قَالَهُ الزّبَيْرُ .
ذِكْرُ
نَذْرِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ذَبْحَ وَلَدِهِ
[ ص 271 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ -
فِيمَا يَزْعُمُونَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ - قَدْ نَذَرَ حِينَ لَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ
مَا لَقِيَ عِنْدَ حَفْرِ زَمْزَمَ : لَئِنْ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةُ نَفَرٍ ثُمّ
بَلَغُوا مَعَهُ حَتّى يَمْنَعُوهُ لَيَنْحَرَنّ أَحَدَهُمْ لِلّهِ عِنْدَ
الْكَعْبَةِ . فَلَمّا تَوَافَى بَنُوهُ عَشَرَةً وَعَرَفَ أَنّهُمْ
سَيَمْنَعُونَهُ جَمَعَهُمْ ثُمّ أَخْبَرَهُمْ بِنَذْرِهِ وَدَعَاهُمْ إلَى
الْوَفَاءِ لِلّهِ بِذَلِكَ فَأَطَاعُوهُ وَقَالُوا : كَيْفَ نَصْنَعُ ؟ قَالَ
لِيَأْخُذْ كُلّ رَجُلٍ مِنْكُمْ قِدْحًا ثُمّ يَكْتُبْ فِيهِ اسْمَهُ ثُمّ
ائْتُونِي ، فَفَعَلُوا ، ثُمّ أَتَوْهُ فَدَخَلَ بِهِمْ عَلَى هُبَلَ فِي جَوْفِ
الْكَعْبَةِ ، وَكَانَ هُبَلُ عَلَى بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ ، وَكَانَتْ
تِلْكَ الْبِئْرُ هِيَ الّتِي يُجْمَعُ فِيهَا مَا يُهْدَى لِلْكَعْبَةِ . وَكَانَ
عِنْدَ هُبَلَ قِدَاحٌ سَبْعَةٌ كُلّ قِدْحٍ مِنْهَا فِيهِ كِتَابٌ . قِدْحٌ فِيهِ
الْعَقْلُ إذَا اخْتَلَفُوا فِي الْعَقْلِ مَنْ يَحْمِلُهُ مِنْهُمْ ضَرَبُوا
بِالْقِدَاحِ السّبْعَةِ فَإِنْ خَرَجَ الْعَقْلُ فَعَلَى مَنْ خَرَجَ حَمَلَهُ .
وَقِدْحٌ فِيهِ نَعَمْ . لِلْأَمْرِ إذَا أَرَادُوهُ يُضْرَبُ بِهِ فِي الْقِدَاحِ
فَإِنْ خَرَجَ قِدْحُ نَعَمْ عَمِلُوا بِهِ . وَقِدْحٌ فِيهِ لَا ، إذَا أَرَادُوا
أَمْرًا ضَرَبُوا بِهِ فِي الْقِدَاحِ فَإِنْ خَرَجَ ذَلِكَ الْقِدَاحُ لَمْ [ ص
272 ] أَرَادُوا أَنْ يَحْفِرُوا لِلْمَاءِ ضَرَبُوا بِالْقِدَاحِ وَفِيهَا ذَلِكَ
الْقِدْحُ فَحَيْثُمَا خَرَجَ عَمِلُوا بِهِ . وَكَانُوا إذَا أَرَادُوا أَنْ
يَخْتِنُوا غُلَامًا ، أَوْ يَنْكِحُوا مُنْكَحًا ، أَوْ يَدْفِنُوا مَيّتًا ،
أَوْ شَكّوا فِي نَسَبِ أَحَدِهِمْ ذَهَبُوا بِهِ إلَى هُبَلَ وَبِمِئَةِ دِرْهَمٍ
وَجَزُورٍ فَأَعْطَوْهَا صَاحِبَ الْقِدَاحِ الّذِي يَضْرِبُ بِهَا ، ثُمّ
قَرّبُوا صَاحِبَهُمْ الّذِي يُرِيدُونَ بِهِ مَا يُرِيدُونَ ثُمّ قَالُوا : يَا
إلَهَنَا هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ قَدْ أَرَدْنَا بِهِ كَذَا وَكَذَا ،
فَأَخْرِجْ الْحَقّ فِيهِ . ثُمّ يَقُولُونَ لِصَاحِبِ الْقِدَاحِ اضْرِبْ فَإِنْ
خَرَجَ عَلَيْهِ مِنْكُمْ كَانَ مِنْهُمْ وَسِيطًا ، وَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ مِنْ
غَيْرِكُمْ كَانَ حَلِيفًا ، وَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ مُلْصَقٌ كَانَ عَلَى
مَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ لَا نَسَبَ لَهُ وَلَا حِلْفَ وَإِنْ خَرَجَ فِيهِ شَيْءٌ
مِمّا سِوَى هَذَا مِمّا يَعْمَلُونَ بِهِ نَعَمْ عَمِلُوا بِهِ وَإِنْ خَرَجَ لَا
، أَخّرُوهُ عَامَهُ ذَلِكَ حَتّى يَأْتُوهُ بِهِ مَرّةً أُخْرَى ، يَنْتَهُونَ
فِي أُمُورِهِمْ إلَى ذَلِكَ مِمّا خَرَجَتْ بِهِ الْقِدَاحُ . فَقَالَ عَبْدُ
الْمُطّلِبِ لِصَاحِبِ الْقِدَاحِ اضْرِبْ عَلَى بَنِيّ هَؤُلَاءِ بِقِدَاحِهِمْ
هَذِهِ وَأَخْبَرَهُ بِنَذْرِهِ الّذِي نَذَرَ فَأَعْطَاهُ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ
قِدْحَهُ الّذِي فِيهِ اسْمُهُ وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
أَصْغَرَ بَنِي أَبِيهِ كَانَ هُوَ وَالزّبَيْرُ وَأَبُو طَالِبٍ لِفَاطِمَةَ
بِنْتِ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ
يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : عَائِذُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - أَحَبّ وَلَدِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
إلَيْهِ فَكَانَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَرَى أَنّ السّهْمَ إذَا أَخْطَأَهُ فَقَدْ
أَشْوَى . وَهُوَ أَبُو رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فَلَمّا أَخَذَ صَاحِبُ الْقِدَاحِ الْقِدَاحَ لِيَضْرِبَ بِهَا ، قَامَ عَبْدُ
الْمُطّلِبِ عِنْدَ هُبَلَ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ ضَرَبَ صَاحِبُ الْقِدَاحِ
فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ فَأَخَذَهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بِيَدِهِ
وَأَخَذَ الشّفْرَةَ ثُمّ أَقْبَلَ بِهِ إلَى إسَافَ وَنَائِلَةَ لِيَذْبَحَهُ
فَقَامَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ مِنْ أَنْدِيَتِهَا ، فَقَالُوا : مَاذَا تُرِيدُ يَا
عَبْدَ الْمُطّلِبِ ؟ قَالَ أَذْبَحُهُ فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ وَبَنُوهُ
وَاَللّهِ لَا تَذْبَحُهُ أَبَدًا ، حَتّى تُعْذَرَ فِيهِ . لَئِنْ فَعَلْت هَذَا
لَا يَزَالُ الرّجُلُ يَأْتِي بِابْنِهِ حَتّى يَذْبَحَهُ فَمَا بَقَاءُ النّاسِ
عَلَى هَذَا ؟ وَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
يَقَظَةَ - وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ ابْنَ أُخْتِ الْقَوْمِ وَاَللّهِ لَا
تَذْبَحُهُ أَبَدًا ، حَتّى تُعْذَرَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ فِدَاؤُهُ بِأَمْوَالِنَا
فَدَيْنَاهُ . وَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ وَبَنُوهُ . لَا تَفْعَلْ وَانْطَلِقْ بِهِ
إلَى الْحِجَازِ ، فَإِنّ بِهِ عَرّافَةً لَهَا تَابِعٌ فَسَلْهَا ، ثُمّ أَنْتَ
عَلَى رَأْسِ أَمْرِك ، إنْ أَمَرَتْك بِذَبْحِهِ ذَبَحْته ، وَإِنْ أَمَرَتْك
بِأَمْرِ لَك وَلَهُ فِيهِ فَرَجٌ قَبِلْته . [ ص 273 ] فَانْطَلَقُوا حَتّى
قَدِمُوا الْمَدِينَةَ ، فَوَجَدُوهَا - فِيمَا يَزْعُمُونَ - بِخَيْبَرِ .
فَرَكِبُوا حَتّى جَاءُوهَا ، فَسَأَلُوهَا ، وَقَصّ عَلَيْهَا عَبْدُ الْمُطّلِبِ
خَبَرَهُ وَخَبَرَ ابْنِهِ وَمَا أَرَادَ بِهِ وَنَذْرَهُ فِيهِ فَقَالَتْ لَهُمْ
ارْجِعُوا عَنّي الْيَوْمَ حَتّى يَأْتِيَنِي تَابِعِي فَأَسْأَلَهُ . فَرَجَعُوا
مِنْ عِنْدِهَا فَلَمّا خَرَجُوا عَنْهَا قَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ
ثُمّ غَدَوْا عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ لَهُمْ قَدْ جَاءَنِي الْخَبَرُ ، كَمَا
الدّيَةُ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ وَكَانَتْ كَذَلِكَ . قَالَتْ
فَارْجِعُوا إلَى بِلَادِكُمْ ثُمّ قَرّبُوا صَاحِبَكُمْ وَقَرّبُوا عَشْرًا مِنْ
الْإِبِلِ ثُمّ اضْرِبُوا عَلَيْهَا ، وَعَلَيْهِ بِالْقِدَاحِ فَإِنْ خَرَجَتْ
عَلَى صَاحِبِكُمْ فَزِيدُوا مِنْ الْإِبِلِ حَتّى يَرْضَى رَبّكُمْ وَإِنْ
خَرَجَتْ عَلَى الْإِبِلِ فَانْحَرُوهَا عَنْهُ فَقَدْ رَضِيَ رَبّكُمْ وَنَجَا
صَاحِبُكُمْ . فَخَرَجُوا حَتّى قَدِمُوا مَكّةَ ، فَلَمّا أَجْمَعُوا عَلَى
ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ قَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ قَرّبُوا
عَبْدَ اللّهِ وَعَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ وَعَبْدُ الْمُطّلِبِ قَائِمٌ عِنْدَ
هُبَلَ يَدْعُو اللّهَ عَزّ وَجَلّ ثُمّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ
اللّهِ فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ عِشْرِينَ وَقَامَ
عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ عَزّ وَجَلّ ثُمّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ
عَلَى عَبْدِ اللّهِ فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ
ثَلَاثِينَ وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ ضَرَبُوا ، فَخَرَجَ
الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ فَبَلَغَتْ
الْإِبِلُ أَرْبَعِينَ وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ ضَرَبُوا ،
فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ
فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ خَمْسِينَ وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ
ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ
الْإِبِلِ فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ سِتّينَ وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو
اللّهَ ثُمّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ فَزَادُوا عَشْرًا
مِنْ الْإِبِلِ فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ سَبْعِينَ وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ
يَدْعُو اللّهَ ثُمّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ فَزَادُوا
عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ ثَمَانِينَ وَقَامَ عَبْدُ
الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ ضَرَبُوا ، فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ
اللّهِ فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ تِسْعِينَ وَقَامَ
عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ ضَرَبُوا ، فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى
عَبْدِ اللّهِ فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ مِئَةً
وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ
عَلَى الْإِبِلِ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ حَضَرَ قَدْ انْتَهَى رِضَا رَبّك يَا
عَبْدَ الْمُطّلِبِ ، فَزَعَمُوا أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ قَالَ لَا وَاَللّهِ
حَتّى أَضْرِبَ عَلَيْهَا ثَلَاثَ مَرّاتٍ فَضَرَبُوا عَلَى عَبْدِ اللّهِ وَعَلَى
الْإِبِلِ وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى
الْإِبِلِ ثُمّ عَادُوا الثّانِيَةَ وَعَبْدُ الْمُطّلِبِ قَائِمٌ يَدْعُو اللّهَ
فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى الْإِبِلِ ثُمّ عَادُوا الثّالِثَةَ وَعَبْدُ
الْمُطّلِبِ قَائِمٌ يَدْعُو اللّهَ فَضَرَبُوا ، فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى
الْإِبِلِ فَنُحِرَتْ ثُمّ تُرِكَتْ لَا يُصَدّ عَنْهَا إنْسَانٌ وَلَا يُمْنَعُ .
[ ص 274 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ إنْسَانٌ وَلَا سَبُعٌ . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : وَبَيْنَ أَضْعَافِ هَذَا الْحَدِيثِ رَجَزٌ لَمْ يَصِحّ عِنْدَنَا عَنْ
أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ .S[ ص 271 ] نَذْرُ
عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَصْلٌ وَذَكَرَ نَذْرَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَنْ يَنْحَرَ
ابْنَهُ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ . وَفِيهِ أَنّ عَبْدَ اللّهِ يَعْنِي : وَالِدَ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ أَصْغَرَ بَنِي أَبِيهِ
وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَلَعَلّ الرّوَايَةَ أَصْغَرَ بَنِي أُمّهِ وَإِلّا
فَحَمْزَةُ كَانَ أَصْغَرَ مِنْ عَبْدِ اللّهِ وَالْعَبّاسُ أَصْغَرُ مِنْ
حَمْزَةَ وَرُوِيَ عَنْ الْعَبّاسِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - أَنّهُ قَالَ
أَذْكُرُ مَوْلِدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَنَا
ابْنُ ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ أَوْ نَحْوِهَا ، فَجِيءَ بِي حَتّى نَظَرْت إلَيْهِ
وَجَعَلَ النّسْوَةُ يَقُلْنَ لِي : قَبّلْ أَخَاك ، قَبّلْ أَخَاك ، فَقَبّلْته ،
فَكَيْفَ يَصِحّ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ اللّهِ هُوَ الْأَصْغَرَ مَعَ هَذَا ؟
وَلَكِنْ رَوَاهُ الْبَكّائِيّ كَمَا تَقَدّمَ وَلِرِوَايَتِهِ وَجْهٌ وَهُوَ أَنْ
يَكُونَ أَصْغَرَ وَلَدِ أَبِيهِ حِينَ أَرَادَ نَحْرَهُ ثُمّ وُلِدَ لَهُ بَعْدَ
ذَلِكَ حَمْزَةُ وَالْعَبّاسُ . وَسَائِرُ حَدِيثِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ لَيْسَ
فِيهِ مَا يُشْكِلُ . وَفِيهِ أَنّ الدّيَةَ كَانَتْ بِعَشْرِ مِنْ الْإِبِلِ
قَبْلَ هَذِهِ الْقِصّةِ وَأَوّلُ مَنْ وُدِيَ بِالْمِائَةِ إذًا : عَبْدُ اللّهِ
. وَقَدْ قَدّمْنَا مَا ذَكَرَهُ الْأَصْبَهَانِيّ عَنْ أَبِي الْيَقْظَانِ أَنّ
أَبَا سَيّارَةَ هُوَ أَوّلُ مَنْ جَعَلَ الدّيَةَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَمّا
أَوّلُ مَنْ وُدِيَ بِالْإِبِلِ مِنْ الْعَرَبِ : فَزَيْدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ
هَوَازِنَ قَتَلَهُ أَخُوهُ مُعَاوِيَةُ جَدّ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ .
وَأَمّا الْكَاهِنَةُ الّتِي تَحَاكَمُوا إلَيْهَا بِالْمَدِينَةِ فَاسْمُهَا :
قُطْبَةُ . ذَكَرَهَا عَبْدُ الْغَنِيّ فِي كِتَابِ الْغَوَامِضِ وَالْمُبْهَمَاتِ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ أَنّ اسْمَهَا : سَجَاحُ . [ ص 272
] [ ص 273 ]
ذِكْرُ
الْمَرْأَةِ الْمُتَعَرّضَةِ لِنِكَاحِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ آخِذًا بِيَدِ عَبْدِ
اللّهِ فَمَرّ بِهِ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ
بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ
لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ : وَهِيَ أُخْتُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ
أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى : وَهِيَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ : فَقَالَتْ لَهُ حِينَ
نَظَرَتْ إلَى وَجْهِهِ أَيْن تَذْهَبُ يَا عَبْدَ اللّهِ ؟ قَالَ مَعَ أَبِي .
قَالَتْ لَك مِثْلُ الْإِبِلِ الّتِي نُحِرَتْ عَنْك : وَقَعْ عَلَيّ الْآنَ .
قَالَ أَنَا مَعَ أَبِي ، وَلَا أَسْتَطِيعُ خِلَافَهُ . وَلَا فِرَاقَهُ . [ ص
275 ] فَخَرَجَ بِهِ عَبْدُ الْمُطّلِبِ حَتّى أَتَى بِهِ وَهْبَ بْنَ عَبْدِ
مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ
غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيّدُ بَنِي زُهْرَةَ نَسَبًا وَشَرَفًا
- فَزَوّجَهُ ابْنَتَهُ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ أَفْضَلُ
امْرَأَةٍ فِي قُرَيْشٍ نَسَبًا وَمَوْضِعًا . وَهِيَ لِبَرّةَ بِنْتِ عَبْدِ
الْعُزّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ
مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . وَبَرّةُ لِأُمّ
حَبِيبِ بِنْتِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ
بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ .وَأُمّ حَبِيبٍ لِبَرّةَ بِنْتِ
عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ
غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . فَزَعَمُوا أَنّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا حِينَ أَمْلَكَهَا
مَكَانَهُ فَوَضَعَ عَلَيْهَا ، فَحَمَلَتْ بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا ، فَأَتَى الْمَرْأَةَ الّتِي
عَرَضَتْ عَلَيْهِ مَا عَرَضَتْ فَقَالَ لَهَا : مَا لَك لَا تَعْرِضِينَ عَلَيّ
الْيَوْمَ مَا كُنْت عَرَضْت عَلَيّ بِالْأَمْسِ ؟ قَالَتْ لَهُ فَارَقَك النّورُ
الّذِي كَانَ مَعَك بِالْأَمْسِ فَلَيْسَ [ لِي ] بِك الْيَوْمَ حَاجَةٌ .وَقَدْ
كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ أَخِيهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ - وَكَانَ قَدْ تَنَصّرَ
وَاتّبَعَ الْكُتُبَ أَنّهُ كَائِنٌ فِي هَذِهِ الْأُمّةِ نَبِيّ . [ ص 276 ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ : أَنّهُ حُدّثَ
أَنّ عَبْدَ اللّهِ إنّمَا دَخَلَ عَلَى امْرَأَةٍ كَانَتْ لَهُ مَعَ آمِنَةَ
بِنْتِ وَهْبٍ وَقَدْ عَمِلَ فِي طِينٍ لَهُ وَبِهِ آثَارٌ مِنْ الطّينِ
فَدَعَاهَا إلَى نَفْسِهِ فَأَبْطَأَتْ عَلَيْهِ لِمَا رَأَتْ بِهِ مِنْ أَثَرِ
الطّينِ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا فَتَوَضّأَ وَغَسَلَ مَا كَانَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ
الطّينِ ثُمّ خَرَجَ عَامِدًا إلَى آمِنَةَ فَمَرّ بِهَا ، فَدَعَتْهُ إلَى
نَفْسِهَا ، فَأَبَى عَلَيْهَا ، وَعَمَدَ إلَى آمِنَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا
فَأَصَابَهَا ، فَحَمَلَتْ بِمُحَمّدِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ
مَرّ بِامْرَأَتِهِ تِلْكَ فَقَالَ لَهَا : هَلْ لَك ؟ قَالَتْ لَا ، مَرَرْت بِي
وَبَيْن عَيْنَيْك غُرّةٌ بَيْضَاءُ فَدَعَوْتُك فَأَبَيْت عَلَيّ وَدَخَلْت عَلَى
آمِنَةَ فَذَهَبَتْ بِهَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَزَعَمُوا أَنّ امْرَأَتَهُ تِلْكَ
كَانَتْ تُحَدّثُ أَنّهُ مَرّ بِهَا وَبَيْنَ عَيْنَيْهِ غُرّةٌ مِثْلُ غُرّةِ
الْفَرَسِ ، قَالَتْ فَدَعَوْته رَجَاءَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ بِي ، فَأَبَى عَلَيّ
وَدَخَلَ عَلَى آمِنَةَ فَأَصَابَهَا ، فَحَمَلَتْ بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - أَوْسَطَ قَوْمِهِ نَسَبًا ، وَأَعْظَمَهُمْ شَرَفًا مِنْ قِبَلِ
أَبِيهِ وَأُمّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
ذِكْرُ مَا قِيلَ لِآمِنَةَ عِنْدَ حَمْلِهَا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ
وَيَزْعُمُونَ - فِيمَا يَتَحَدّثُ النّاسُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أَنّ آمِنَةَ
ابْنَةَ وَهْبٍ أُمّ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَتْ
تُحَدّثُ أَنّهَا أُتِيَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقِيلَ لَهَا : إنّك قَدْ حَمَلْت بِسَيّدِ هَذِهِ الْأُمّةِ
، فَإِذَا وَقَعَ إلَى الْأَرْضِ فَقُولِي : أُعِيذُهُ بِالْوَاحِدِ مِنْ شَرّ
كُلّ حَاسِدٍ ثُمّ سَمّيهِ مُحَمّدًا . وَرَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ أَنّهُ
خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ رَأَتْ بِهِ قُصُورَ بُصْرَى ، مِنْ أَرْضِ الشّامِ ثُمّ
لَمْ يَلْبَثْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، أَبُو رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ هَلَكَ وَأُمّ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَامِلٌ بِهِ .Sتَزْوِيجُ
عَبْدِ اللّهِ
[ ص 277 ] [ ص 274 ] وَذَكَرَ تَزْوِيجَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ وَذَكَرَ الْبَرْقِيّ فِي سَبَبِ تَزْوِيجِ عَبْدِ اللّهِ
آمِنَةَ أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ كَانَ يَأْتِي الْيَمَنَ ، وَكَانَ يَنْزِلُ
فِيهَا عَلَى عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَائِهِمْ فَنَزَلَ عِنْدَهُ مَرّةً فَإِذَا
عِنْدَهُ رَجُلٌ مِمّنْ قَرَأَ الْكُتُبَ فَقَالَ لَهُ ائْذَنْ لِي أَقِسْ
مَنْخِرَك ، فَقَالَ دُونَك فَانْظُرْ فَقَالَ أَرَى نُبُوّةً وَمُلْكًا ،
وَأَرَاهُمَا فِي الْمَنَافَيْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ ، وَعَبْدِ مَنَافِ
بْنِ زُهْرَةَ فَلَمّا انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ انْطَلَقَ بِابْنِهِ عَبْدِ
اللّهِ فَتَزَوّجَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ هَالَةَ بِنْتَ وُهَيْبٍ وَهِيَ أُمّ
حَمْزَةَ - رَضِيَ اللّهُ - عَنْهُ وَزَوّجَ ابْنَهُ عَبْدَ اللّهِ آمِنَةَ بِنْتَ
وَهْبٍ فَوَلَدَتْ لَهُ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
حَوْلَ أُمّهَاتِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَذَكَرَ أُمّهَا وَأُمّ أُمّهَا ، وَالثّالِثَةَ وَهِيَ بَرّةُ بِنْتُ عَوْفٍ
وَقَدْ قَدّمْنَا فِي أَوّلِ الْمَوْلِدِ ذِكْرَ أُمّ الثّالِثَةِ وَالرّابِعَةِ
وَالْخَامِسَةِ وَنَسَبَهُنّ فَلْيُنْطَرْ هُنَالِكَ . وَأَمّا أُمّ هَالَةَ
فَهِيَ الْعَبْلَةُ بِنْتُ الْمُطّلِبِ وَأُمّهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ سَعِيدِ بْنِ
سَهْمٍ وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِ النّاسِ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنّ عَبْدَ
الْمُطّلِبِ نَذَرَ نَحْرَ أَحَدِ بَنِيهِ إذَا بَلَغُوا عَشَرَةً ثُمّ ذَكَرَ
ابْنُ إسْحَاقَ أَنّ تَزْوِيجَهُ هَالَةَ أُمّ ابْنَه حَمْزَةَ كَانَ بَعْدَ
وَفَائِهِ بِنَذْرِهِ فَحَمْزَةُ وَالْعَبّاسُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا - إنّمَا
وُلِدَا بَعْدَ الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ وَإِنّمَا كَانَ جَمِيعُ أَوْلَادِهِ
عَشَرَةً . وَلَا إشْكَالَ [ ص 275 ] قَالُوا : كَانَ أَعْمَامُهُ - عَلَيْهِ
السّلَامُ - اثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَهُ أَبُو عُمَرَ فَإِنْ صَحّ هَذَا فَلَا
إشْكَالَ فِي الْخَبَرِ ، وَإِنْ صَحّ قَوْلُ مَنْ قَالَ كَانُوا عَشَرَةً بِلَا
مَزِيدٍ فَالْوَلَدُ يَقَعُ عَلَى الْبَنِينَ وَبَنِيهِمْ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا
، فَكَانَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ قَدْ اجْتَمَعَ لَهُ مِنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ
وَلَدِهِ عَشَرَةُ رِجَالٍ حِينَ وَفّى بِنَذْرِهِ .
الْمَرْأَةُ الّتِي دَعَتْ عَبْدَ اللّهِ
وَيُرْوَى أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ حِينَ دَعَتْهُ الْمَرْأَةُ
الْأَسَدِيّةُ إلَى نَفْسِهَا لِمَا رَأَتْ فِي وَجْهِهِ مِنْ نُورِ النّبُوّةِ
وَرَجَتْ أَنْ تَحْمِلَ بِهَذَا النّبِيّ فَتَكُونَ أُمّهُ دُونَ غَيْرِهَا ،
فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ حِينَئِذٍ فِيمَا ذَكَرُوا :
أَمّا الْحَرَامُ فَالْحِمَامُ دُونَهْ ... وَالْحِلّ لَا حِلّ فَأَسْتَبِينَهْ
فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ الّذِي تَبْغِينَهْ ... يَحْمِي الْكَرِيمُ عِرْضَهُ
وَدِينَهْ ؟
وَاسْمُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ رُقَيّةُ بِنْتُ نَوْفَلِ أُخْتُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ
؛ تُكَنّى : أُمّ قَتّالٍ وَبِهَذِهِ الْكُنْيَةِ وَقَعَ ذِكْرُهَا فِي رِوَايَةِ
يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَذَكَرَ الْبَرْقِيّ عَنْ هِشَامِ بْنِ
الْكَلْبِيّ قَالَ إنّمَا مَرّ عَلَى امْرَأَةٍ اسْمُهَا : فَاطِمَةُ بِنْتُ مُرّ
كَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ النّسَاءِ وَأَعَفّهِنّ وَكَانَتْ قَرَأَتْ [ ص 276 ] نُورَ
النّبُوّةِ فِي وَجْهِهِ فَدَعَتْهُ إلَى نِكَاحِهَا ، فَأَبَى ، فَلَمّا أَبَى
قَالَتْ
إنّي رَأَيْت مُخِيلَةً نَشَأَتْ ... فَتَلَأْلَأَتْ بِحَنَاتِمِ الْقَطْرِ
فَلَمَأْتهَا نُورًا يُضِيءُ بِهِ ... مَا حَوْلَهُ كَإِضَاءَةِ الْفَجْرِ
وَرَأَيْت سُقْيَاهَا حَيَا بَلَدٍ ... وَقَعَتْ بِهِ وَعِمَارَةَ الْقَفْرِ
وَرَأَيْته شَرَفًا أَبُوءُ بِهِ ... مَا كُلّ قَادِحِ زَنْدِهِ يُورِي
لِلّهِ مَا زُهْرِيّةٌ سَلَبَتْ ... مِنْك الّذِي اسْتَلَبَتْ وَمَا تَدْرِي
وَفِي غَرِيبِ ابْنِ قُتَيْبَةَ : أَنّ الّتِي عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ هِيَ
لَيْلَى الْعَدَوِيّةُ .
وِلَادَةُ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 278 ] قَالَ حَدّثَنَا أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ
حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ
قَالَ وُلِدَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ ، لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ
الْأَوّلِ عَامَ الْفِيلِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الْمُطّلِبُ بْنُ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَيْسِ بْنِ
مَخْرَمَةَ . قَالَ وُلِدْت أَنَا وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - عَامَ الْفِيلِ فَنَحْنُ لِدَتَانِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ
الْأَنْصَارِيّ . قَالَ حَدّثَنِي مَنْ [ ص 279 ] قَوْمِي عَنْ حَسّانَ بْنِ
ثَابِتٍ ، قَالَ وَاَللّهِ إنّي لَغُلَامٌ يَفَعَةٌ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ
ثَمَانٍ أَعْقِلُ كُلّ مَا سَمِعْت ، إذْ سَمِعْت يَهُودِيّا يَصْرُخُ بِأَعْلَى
صَوْتِهِ عَلَى أَطَمَةٍ بِيَثْرِبَ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ حَتّى إذَا اجْتَمَعُوا
إلَيْهِ قَالُوا لَهُ وَيْلَك مَا لَك ؟ قَالَ طَلَعَ اللّيْلَةَ نَجْمُ أَحْمَدَ
الّذِي وُلِدَ بِهِ . قَالَ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ فَسَأَلْت سَعِيدَ بْنَ عَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ فَقُلْت : ابْنُ كَمْ كَانَ حَسّانُ بْنُ
ثَابِتٍ مَقْدَمَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْمَدِينَةَ
؟ فَقَالَ ابْنُ سِتّينَ وَقَدِمَهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً فَسَمِعَ حَسّانُ مَا سَمِعَ
وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا وَضَعَتْهُ أُمّهُ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَرْسَلَتْ إلَى جَدّهِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ :
أَنّهُ قَدْ وُلِدَ لَك غُلَامٌ فَأْتِهِ فَانْظُرْ إلَيْهِ فَأَتَاهُ فَنَظَرَ
إلَيْهِ وَحَدّثَتْهُ بِمَا رَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ وَمَا قِيلَ لَهَا فِيهِ
وَمَا أُمِرَتْ بِهِ أَنْ تُسَمّيَهُ .Sفَصْلٌ
فِي الْمَوْلِدِ
[ ص 278 ] بَقِيّ بْنِ مَخْلَدٍ أَنّ إبْلِيسَ - لَعَنَهُ اللّهُ - رَنّ أَرْبَعَ
رَنّاتٍ رَنّةً حِينَ لُعِنَ وَرَنّةً حِينَ أُهْبِطَ وَرَنّةً حِينَ وُلِدَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَرَنّةً حِينَ أُنْزِلَتْ
فَاتِحَةُ الْكِتَابِ . قَالَ وَالرّنِينُ وَالنّخَارُ مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ .
قَالَ وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ أُمّ الْكِتَابِ وَلَكِنْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ .
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ عَنْ أُمّهِ أُمّ عُثْمَانَ
الثّقَفِيّةِ وَاسْمُهَا : فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللّهِ [ ص 279 ] قَالَتْ
" حَضَرْت وِلَادَةَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فَرَأَيْت الْبَيْتَ حِينَ وُضِعَ قَدْ امْتَلَأَ نُورًا ، وَرَأَيْت النّجُومَ
تَدْنُو حَتّى ظَنَنْت أَنّهَا سَتَقَعُ عَلَيّ " . ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ فِي
كِتَابِ النّسَاءِ . وَذَكَرَهُ الطّبَرِيّ أَيْضًا فِي التّارِيخِ . وَوُلِدَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَعْذُورًا مَسْرُورًا ، أَيْ
مَخْتُونًا مَقْطُوعَ السّرّةِ يُقَالُ عُذِرَ الصّبِيّ وَأُعْذِرَ . إذَا خُتِنَ
وَكَانَتْ أُمّهُ تُحَدّثُ أَنّهَا لَمْ تَجِدْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ مَا تَجِدُهُ
الْحَوَامِلُ مِنْ ثِقَلٍ وَلَا وَحَمٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمّا وَضَعَتْهُ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقَعَ إلَى الْأَرْضِ مَقْبُوضَةً [ ص 280 ]
أَصَابِعُ يَدَيْهِ مُشِيرًا بِالسّبّابَةِ كَالْمُسَبّحِ بِهَا ، وَذَكَرَ ابْنُ
دُرَيْدٍ أَنّهُ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ جَفْنَةٌ لِئَلّا يَرَاهُ أَحَدٌ قَبْلَ
جَدّهِ فَجَاءَ جَدّهُ وَالْجَفْنَةُ قَدْ انْفَلَقَتْ عَنْهُ وَلَمّا قِيلَ لَهُ
مَا سَمّيْت ابْنَك ؟ فَقَالَ مُحَمّدًا ، فَقِيلَ لَهُ كَيْفَ سَمّيْت بِاسْمِ
لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ آبَائِك وَقَوْمِك ؟ فَقَالَ إنّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْمَدَهُ
أَهْلُ الْأَرْضِ كُلّهُمْ وَذَلِكَ لِرُؤْيَا كَانَ رَآهَا عَبْدُ الْمُطّلِبِ ،
وَقَدْ ذَكَرَ حَدِيثَهَا عَلِيّ الْقَيْرَوَانِيّ الْعَابِرُ فِي كِتَابِ
الْبُسْتَانِ . قَالَ كَانَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ قَدْ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنّ
سِلْسِلَةً مِنْ فِضّةٍ خَرَجَتْ مِنْ ظَهْرِهِ لَهَا طَرَفٌ فِي السّمَاءِ
وَطَرَفٌ فِي الْأَرْضِ وَطَرَفٌ فِي الْمَشْرِقِ وَطَرَفٌ فِي الْمَغْرِبِ ثُمّ
عَادَتْ كَأَنّهَا شَجَرَةٌ عَلَى كُلّ وَرَقَةٍ مِنْهَا نُورٌ وَإِذَا أَهْلُ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَأَنّهُمْ يَتَعَلّقُونَ بِهَا ، فَقَصّهَا ،
فَعُبّرَتْ لَهُ بِمَوْلُودِ يَكُونُ مِنْ صُلْبِهِ يَتْبَعُهُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَيَحْمَدُهُ أَهْلُ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَلِذَلِكَ سَمّاهُ مُحَمّدًا
مَعَ مَا حَدّثَتْهُ بِهِ أُمّهُ حِينَ قِيلَ لَهَا : إنّك حَمَلْت بِسَيّدِ
هَذِهِ الْأُمّةِ فَإِذَا وَضَعْته فَسَمّيهِ مُحَمّدًا . الْحَدِيثَ .
اسْمُ مُحَمّدٍ وَأَحْمَدَ
قَالَ الْمُؤَلّفُ لَا يُعْرَفُ فِي الْعَرَبِ مَنْ تَسَمّى بِهَذَا الِاسْمِ
قَبْلَهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلّا ثَلَاثَةٌ طَمِعَ آبَاؤُهُمْ -
حِينَ سَمِعُوا بِذِكْرِ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَبِقُرْبِ
زَمَانِهِ وَأَنّهُ يُبْعَثُ فِي الْحِجَازِ - أَنْ يَكُونَ وَلَدًا لَهُمْ .
ذَكَرَهُمْ ابْنُ فَوْرَكٍ فِي كِتَابِ الْفُصُولِ وَهُمْ مُحَمّدُ بْنُ سُفْيَانَ
بْنِ مُجَاشِعٍ ، جَدّ جَدّ الْفَرَزْدَقِ الشّاعِرِ وَالْآخَرُ مُحَمّدُ بْنُ
أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بْنِ الْحَرِيشِ بْنِ جُمَحِىّ بْنِ كُلْفَةَ بْنِ
عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ ، وَالْآخَرُ
مُحَمّدُ بْنُ حُمْرَانَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَكَانَ آبَاءُ هَؤُلَاءِ الثّلَاثَةِ
قَدْ وَفَدُوا عَلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ وَكَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ
الْأَوّلِ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَبْعَثِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
وَبِاسْمِهِ وَكَانَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ خَلّفَ امْرَأَتَهُ حَامِلًا ،
فَنَذَرَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنْ وُلِدَ لَهُ ذَكَرٌ أَنْ يُسَمّيَهُ مُحَمّدًا
، فَفَعَلُوا ذَلِكَ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذَا الِاسْمُ مَنْقُولٌ مِنْ
الصّفَةِ فَالْمُحَمّدُ فِي اللّغَةِ هُوَ الّذِي يُحْمَدُ حَمْدًا بَعْدَ حَمْدٍ
وَلَا يَكُونُ مُفَعّلٌ مِثْلُ مُضَرّبٍ وَمُمَدّحٍ إلّا لِمَنْ تَكَرّرَ فِيهِ
الْفِعْلُ مَرّةً بَعْدَ مَرّةً . [ ص 281 ] أَحْمَدُ فَهُوَ اسْمُهُ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الّذِي سُمّيَ بِهِ عَلَى لِسَانِ عِيسَى وَمُوسَى -
عَلَيْهِمَا السّلَامُ - فَإِنّهُ مَنْقُولٌ أَيْضًا مِنْ الصّفَةِ الّتِي
مَعْنَاهَا التّفْضِيلُ فَمَعْنَى أَحْمَدَ أَيْ أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ لِرَبّهِ
وَكَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى ؛ لِأَنّهُ تُفْتَحُ عَلَيْهِ فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ
مَحَامِدُ لَمْ تُفْتَحْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ فَيَحْمَدُ رَبّهُ بِهَا ؛
وَلِذَلِكَ يُعْقَدُ لَهُ لِوَاءُ الْحَمْدِ . وَأَمّا مُحَمّدٌ فَمَنْقُولٌ مِنْ
صِفَةٍ أَيْضًا ، وَهُوَ فِي مَعْنَى : مَحْمُودٍ . وَلَكِنْ فِيهِ مَعْنَى
الْمُبَالَغَةِ وَالتّكْرَارِ فَالْمُحَمّدُ هُوَ الّذِي حُمِدَ مَرّةً بَعْدَ
مَرّةً كَمَا أَنّ الْمُكَرّمَ مَنْ أُكْرِمَ مَرّةً بَعْدَ مَرّةً وَكَذَلِكَ
الْمُمَدّحُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَاسْمُ مُحَمّدٍ مُطَابِقٌ لِمَعْنَاهُ وَاَللّهُ
- سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى سَمّاهُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَمّيَ بِهِ نَفْسَهُ
فَهَذَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوّتِهِ إذْ كَانَ اسْمُهُ صَادِقًا عَلَيْهِ
فَهُوَ مَحْمُودٌ - عَلَيْهِ السّلَامُ - فِي الدّنْيَا بِمَا هَدَى إلَيْهِ
وَنَفَعَ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَهُوَ مَحْمُودٌ فِي الْآخِرَةِ بِالشّفَاعَةِ
فَقَدْ تَكَرّرَ مَعْنَى الْحَمْدِ كَمَا يَقْتَضِي اللّفْظُ ثُمّ إنّهُ لَمْ
يَكُنْ مُحَمّدًا ، حَتّى كَانَ أَحْمَدُ حَمِدَ رَبّهُ فَنَبّأَهُ وَشَرّفَهُ
فَلِذَلِكَ تَقَدّمَ اسْمُ أَحْمَدَ عَلَى الِاسْمِ الّذِي هُوَ مُحَمّدٌ
فَذَكَرَهُ عِيسَى - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ اسْمُهُ أَحْمَدُ
وَذَكَرَهُ مُوسَى - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ قَالَ لَهُ رَبّهُ
تِلْكَ أُمّةُ أَحْمَدَ فَقَالَ اللّهُمّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمّةِ أَحْمَدَ
فَبِأَحْمَدَ ذُكِرَ قَبْلَ أَنْ يُذْكَرَ بِمُحَمّدِ لِأَنّ حَمْدَهُ لِرَبّهِ
كَانَ قَبْلَ حَمْدِ النّاسِ لَهُ فَلَمّا وُجِدَ وَبُعِثَ كَانَ مُحَمّدًا
بِالْفِعْلِ . وَكَذَلِكَ فِي الشّفَاعَةِ يَحْمَدُ رَبّهُ بِالْمَحَامِدِ الّتِي
يَفْتَحُهَا عَلَيْهِ فَيَكُونُ أَحْمَدَ الْحَامِدِينَ لِرَبّهِ ثُمّ يَشْفَعُ
فَيُحْمَدُ عَلَى شَفَاعَتِهِ . فَانْظُرْ كَيْفَ تَرَتّبَ هَذَا الِاسْمُ قَبْلَ
الِاسْمِ الْآخَرِ فِي الذّكْرِ وَالْوُجُودِ وَفِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَلُحْ
لَك الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيّةُ فِي تَخْصِيصِهِ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ وَانْظُرْ
كَيْفَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْحَمْدِ وَخُصّ بِهَا دُونَ سَائِرِ
الْأَنْبِيَاءِ وَخُصّ بِلِوَاءِ الْحَمْدِ وَخُصّ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ
وَانْظُرْ كَيْفَ شَرّعَ لَنَا سُنّةً وَقُرْآنًا أَنْ نَقُولَ عِنْدَ اخْتِتَامِ
الْأَفْعَالِ وَانْقِضَاءِ الْأُمُورِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ .
قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقّ وَقِيلَ
الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } [ الزّمَرَ 75 ] . وَقَالَ أَيْضًا : {
وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } [ يُونُسَ 10 ] [
ص 282 ] وَسَنّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْحَمْدَ بَعْدَ الْأَكْلِ
وَالشّرْبِ وَقَالَ عِنْدَ انْقِضَاءِ السّفَرِ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ
لِرَبّنَا حَامِدُونَ ثُمّ اُنْظُرْ لِكَوْنِهِ - عَلَيْهِ السّلَامُ - خَاتَمَ
الْأَنْبِيَاءِ وَمُؤْذِنًا بِانْقِضَاءِ الرّسَالَةِ وَارْتِفَاعِ الْوَحْيِ
وَنَذِيرًا بِقُرْبِ السّاعَةِ وَتَمَامِ الدّنْيَا مَعَ أَنّ الْحَمْدَ كَمَا
قَدّمْنَا مَقْرُونٌ بِانْقِضَاءِ الْأُمُورِ مَشْرُوعٌ عِنْدَهُ - تَجِدُ
مَعَانِيَ اسْمَيْهِ جَمِيعًا ، وَمَا خُصّ بِهِ مِنْ الْحَمْدِ وَالْمَحَامِدِ
مُشَاكِلًا لِمَعْنَاهُ مُطَابِقًا لِصِفَتِهِ وَفِي ذَلِكَ بُرْهَانٌ عَظِيمٌ
وَعِلْمٌ وَاضِحٌ عَلَى نُبُوّتِهِ وَتَخْصِيصِ اللّهِ لَهُ بِكَرَامَتِهِ
وَأَنّهُ قَدّمَ لَهُ هَذِهِ الْمُقَدّمَاتِ قَبْلَ وُجُودِهِ تَكْرِمَةً لَهُ
وَتَصْدِيقًا لِأَمْرِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَشَرَفٌ وَكَرَمٌ .
فَيَزْعُمُونَ
أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ أَخَذَهُ فَدَخَلَ بِهِ الْكَعْبَةَ ، فَقَامَ يَدْعُو
اللّهَ وَيَشْكُرُ لَهُ مَا أَعْطَاهُ ثُمّ خَرَجَ بِهِ إلَى أُمّهِ فَدَفَعَهُ
إلَيْهَا ، وَالْتَمَسَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
الرّضَعَاءَ . [ ص 280 ] [ ص 281 ] [ ص 282 ] [ ص 283 ]Sتَعْوِيذُ
عَبْدِ الْمُطّلِبِ
وَذُكِرَ أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِب ِ دَخَلَ بِهِ الْكَعْبَةَ وَعَوّذَهُ وَدَعَا
لَهُ . وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ قَالَ
وَهُوَ يُعَوّذُهُ
الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَعْطَانِي ... هَذَا الْغُلَامَ الطّيّبَ الْأَرْدَانِ
قَدْ سَادَ فِي الْمَهْدِ عَلَى الْغِلْمَانِ ... أُعِيذُهُ بِالْبَيْتِ ذِي
الْأَرْكَانِ
حَتّى يَكُونَ بُلْغَةَ الْفِتْيَانِ ... حَتّى أَرَاهُ بَالِغَ الْبُنْيَانِ
أُعِيذُهُ مِنْ كُلّ ذِي شَنَآنِ ... مِنْ حَاسِدٍ مُضْطَرِبِ الْعِنَانِ
ذِي هِمّةٍ لَيْسَ لَهُ عَيْنَانِ ... حَتّى أَرَاهُ رَافِعَ السّانِ
أَنْتَ الّذِي سُمّيت فِي الْقُرْآنِ ... فِي كُتُبٍ ثَابِتَةِ الْمَثَانِي
أَحْمَدُ مَكْتُوبٌ عَلَى الْبَيَانِ
تَارِيخُ مَوْلِدِهِ
فَصْلٌ
وَذُكِرَ أَنّ مَوْلِدَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ وَهُوَ
الْمَعْرُوفُ وَقَالَ الزّبَيْرُ كَانَ مَوْلِدُهُ فِي رَمَضَانَ وَهَذَا
الْقَوْلُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنّ أُمّهُ حَمَلَتْ بِهِ فِي أَيّامِ
التّشْرِيقِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 283 ] مَكّةَ فِي الْمُحَرّمِ وَأَنّهُ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وُلِدَ بَعْدَ مَجِيءِ الْفِيلِ بِخَمْسِينَ
يَوْمًا ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَالْأَشْهَرُ وَأَهْلُ الْحِسَابِ يَقُولُونَ وَافَقَ
مَوْلِدُهُ مِنْ الشّهُورِ الشّمْسِيّةِ نَيْسَانَ فَكَانَتْ لِعِشْرِينَ مَضَتْ
مِنْهُ وَوُلِدَ بِالْغَفْرِ مِنْ الْمَنَازِلِ وَهُوَ مَوْلِدُ النّبِيّينَ
وَلِذَلِكَ قِيلَ خَيْرُ مَنْزِلَتَيْنِ فِي الْأَبَدِ بَيْنَ الزّنَابَا
وَالْأَسَدِ لِأَنّ الْغَفْرَ يَلِيهِ مِنْ الْعَقْرَبِ زُنَابَاهَا ، وَلَا
ضَرَرَ فِي الزّنَابَا إنّمَا تَضُرّ الْعَقْرَبُ بِذَنَبِهَا ، وَيَلِيهِ مِنْ
الْأَسَدِ أَلْيَتُهُ وَهُوَ السّمَاكُ وَالْأَسَدُ لَا يَضُرّ بِأَلْيَتِهِ
إنّمَا يَضُرّ بِمِخْلَبِهِ وَنَابِهِ . وَوُلِدَ بِالشّعْبِ ، وَقِيلَ بِالدّارِ
الّتِي عِنْدَ الصّفَا ، وَكَانَتْ بَعْدُ لِمُحَمّدِ بْنِ يُوسُفَ أَخِي
الْحَجّاجِ ، ثُمّ بَنَتْهَا زُبَيْدَةُ مَسْجِدًا حِينَ حَجّتْ .
تَحْقِيقُ وَفَاةِ أَبِيهِ
وَذَكَرَ أَنّهُ مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ حَمْلٌ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنّهُ
كَانَ فِي الْمَهْدِ . ذَكَرَهُ الدّوْلَابِيّ وَغَيْرُهُ قِيلَ ابْنُ شَهْرَيْنِ
ذَكَرَهُ [ أَحْمَدُ ] ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ [ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ] وَقِيلَ
أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَمَاتَ أَبُوهُ عِنْدَ أَخْوَالِهِ بَنِي النّجّارِ ،
ذَهَبَ لِيَمْتَارَ لِأَهْلِهِ تَمْرًا ، وَقَدْ قِيلَ مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ ابْنُ
ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا ، وَأَنْشَدُوا رَجَزًا لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ
يَقُولُهُ لِابْنِهِ أَبِي طَالِبٍ :
أُوصِيك يَا عَبْدَ مَنَافٍ بَعْدِي ... بِمُوتَمِ بَعْدَ أَبِيهِ فَرْدِ
فَارَقَهُ وَهُوَ ضَجِيعُ الْمَهْدِ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ - عَلَيْهِ
السّلَامُ - فِي السّنّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَامًا .
[
ص 284 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْمَرَاضِعُ . وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى فِي قِصّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ { وَحَرّمْنَا عَلَيْهِ
الْمَرَاضِعَ } [ ص 285 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَاسْتَرْضَعَ لَهُ امْرَأَةً
مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، يُقَالُ لَهَا : حَلِيمَةُ ابْنَةُ أَبِي
ذُؤَيْبٍ . وَأَبُو ذُؤَيْبٍ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ شِجْنَةَ بْنِ
جَابِرِ بْنِ رِزَامِ بْنِ نَاصِرَةَ بْنِ فُصَيّةَ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ
بْنِ عَيْلَانَ [ بْنِ مُضَرَ ] . وَاسْمُ أَبِيهِ الّذِي أَرْضَعَهُ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ
مَلّانَ بْنِ نَاصِرَةَ بْنِ فُصَيّةَ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرِ بْنِ
هَوَازِنَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ هِلَالُ بْنُ نَاصِرَةَ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَإِخْوَتُهُ مِنْ الرّضَاعَةِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ ،
وَأُنَيْسَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَخِدَامَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَهِيَ الشّيْمَاءُ
غَلَبَ ذَلِكَ عَلَى اسْمِهَا فَلَا تُعْرَفُ فِي قَوْمِهَا إلّا بِهِ . وَهُمْ
لِحَلِيمَةَ بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ ، عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ ، أُمّ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَيَذْكُرُونَ أَنّ
الشّيْمَاءَ كَانَتْ تَحْضُنُهُ مَعَ أُمّهَا إذَا كَانَ عِنْدَهُمْ .Sأَبُوهُ
مِنْ الرّضَاعَة
وَذَكَرَ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى أَبَا رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الرّضَاعَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ إسْلَامًا ، وَلَا
ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِمّنْ أَلّفَ فِي الصّحَابَةِ وَقَدْ ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ
بُكَيْرٍ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ حَدّثَنَا ابْنُ إسْحَاقَ قَالَ حَدّثَنِي
وَالِدِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ،
قَالَ قَدِمَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى ، أَبُو رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الرّضَاعَةِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَكّةَ حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَقَالَتْ لَهُ
قُرَيْشٌ : أَلَا تَسْمَعُ يَا حَارِ مَا يَقُولُ ابْنُك هَذَا ؟ فَقَالَ وَمَا [
ص 284 ] قَالُوا : يَزْعُمُ أَنّ اللّهَ يَبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنّ لِلّهِ
دَارَيْنِ يُعَذّبُ فِيهِمَا مَنْ عَصَاهُ وَيُكْرِمُ فِيهِمَا مَنْ أَطَاعَهُ
فَقَدْ شَتّتْ أَمْرَنَا ، وَفَرّقَ جَمَاعَتَنَا . فَأَتَاهُ فَقَالَ أَيْ بُنَيّ
مَا لَك وَلِقَوْمِك يَشْكُونَك ، وَيَزْعُمُونَ أَنّك تَقُولُ إنّ النّاسَ
يُبْعَثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمّ يَصِيرُونَ إلَى جَنّةٍ وَنَارٍ ؟ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - نَعَمْ أَنَا أَزْعُمُ ذَلِكَ
وَلَوْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَا أَبَتْ لَقَدْ أَخَذْت بِيَدِك ، حَتّى
أُعَرّفَك حَدِيثَك الْيَوْمَ فَأَسْلَمَ الْحَارِثُ بَعْدَ ذَلِكَ وَحَسُنَ
إسْلَامُهُ وَكَانَ يَقُولُ حِينَ أَسْلَمَ : لَوْ قَدْ أَخَذَ ابْنِي بِيَدِي ،
فَعَرّفَنِي مَا قَالَ ثُمّ يُرْسِلُنِي إنْ شَاءَ اللّهُ حَتّى يُدْخِلَنِي
الْجَنّةَ .
تَحْقِيقُ اسْمِ نَاصِرَةَ بْنِ قُصَيّةَ
وَذَكَرَ نَاصِرَةَ بْنَ قُصَيّةَ فِي نَسَبِ حَلِيمَةَ . وَهُوَ عِنْدَهُمْ
فُصَيّةُ بِالْفَاءِ تَصْغِيرُ فَصَاةٍ وَهِيَ النّوَاةُ . وَوَقَعَ فِي الْأَصْلِ
فِي جَمِيعِ النّسَخِ قُصَيّةُ بِالْقَافِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا :
الْفَصَا : حَبّ الزّبِيبِ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى .
الشّيْمَاءُ
وَذَكَرَ الشّيْمَاءَ أُخْتَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
مِنْ الرّضَاعَةِ وَقَالَ فِي اسْمِهَا : خِذَامَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ
الْمَنْقُوطَةِ وَقَالَ غَيْرُهُ حُذَافَةُ بِالْحَاءِ الْمَضْمُومَةِ
وَبِالْفَاءِ مَكَانَ الْمِيمِ وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ
ابْنِ إسْحَاقَ ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ النّسَاءِ .
شَرْحُ مَا فِي حَدِيثِ الرّضَاعِ
الرّضَعَاءُ وَالْمَرَاضِعُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فَالْتَمَسَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - الرّضَعَاءَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ إنّمَا هُوَ الْمَرَاضِعُ . قَالَ
وَفِي كِتَابِ اللّهِ سُبْحَانَهُ { وَحَرّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ
قَبْلُ } [ الْقَصَصَ 12 ] وَاَلّذِي قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ ظَاهِرٌ لِأَنّ
الْمَرَاضِعَ جَمْعُ مُرْضِعٍ وَالرّضَعَاءُ جَمْعُ رَضِيعٍ وَلَكِنْ لِرِوَايَةِ
ابْنِ إسْحَاقَ مَخْرَجٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا حَذْفُ الْمُضَافِ كَأَنّهُ
قَالَ ذَوَاتَ الرّضَعَاءِ وَالثّانِي أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالرّضَعَاءِ
الْأَطْفَالَ عَلَى حَقِيقَةِ اللّفْظِ لِأَنّهُمْ إذَا وَجَدُوا لَهُ مُرْضِعَةً
تُرْضِعُهُ فَقَدْ وَجَدُوا لَهُ رَضِيعًا ، يَرْضَعُ مَعَهُ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ
يُقَالَ الْتَمَسُوا لَهُ رَضِيعًا ، عِلْمًا بِأَنّ الرّضِيعَ لَا بُدّ لَهُ مِنْ
مُرْضِعٍ . [ ص 285 ]
مُرْضِعَاتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ
وَأَرْضَعَتْهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - ثُوَيْبَةُ قَبْلَ حَلِيمَةَ .
أَرْضَعَتْهُ وَعَمّهُ حَمْزَةَ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ جَحْشٍ ، وَكَانَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَعْرِفُ ذَلِكَ لِثُوَيْبَةَ
وَيَصِلُهَا مِنْ الْمَدِينَةِ ، فَلَمّا افْتَتَحَ مَكّةَ سَأَلَ عَنْهَا وَعَنْ
ابْنِهَا مَسْرُوحٍ ، فَأُخْبِرَ أَنّهُمَا مَاتَا ، وَسَأَلَ عَنْ قَرَابَتِهَا ،
فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَيّا . وَثُوَيْبَةُ كَانَتْ جَارِيَةً لِأَبِي
لَهَبٍ ، وَسَنَذْكُرُ بَقِيّةَ حَدِيثِهَا - إنْ شَاءَ اللّهُ - عِنْدَ وَفَاةِ
أَبِي لَهَبٍ .
يُغَذّيهِ أَوْ يُغَدّيهِ
وَذَكَرَ قَوْلَ حَلِيمَةَ : وَلَيْسَ فِي شَارِفِنَا مَا يُغَذّيهِ . وَقَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : مَا يُغَذّيهِ بِالذّالِ الْمَنْقُوطَةِ وَهُوَ أَتَمّ فِي
الْمَعْنَى مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ الْغَدَاءِ دُونَ الْعَشَاءِ وَلَيْسَ
فِي أَصْلِ الشّيْخِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ وَعِنْدَ بَعْضِ النّاسِ رِوَايَةٌ
غَيْرُ هَاتَيْنِ وَهِيَ يُعْذِبُهُ بِعَيْنِ مُهْمَلَةٍ وَذَالٍ مَنْقُوطَةٍ
وَبَاءٍ مُعْجَمَةٍ بِوَاحِدَةِ وَمَعْنَاهَا عِنْدَهُمْ مَا يُقْنِعُهُ حَتّى
يَرْفَعَ رَأْسَهُ وَيَنْقَطِعَ عَنْ الرّضَاعِ يُقَالُ مِنْهُ عَذَبْته
وَأَعْذَبْته : إذَا قَطَعْته عَنْ الشّرْبِ وَنَحْوِهِ وَالْعَذُوبُ الرّافِعُ
رَأْسَهُ عَنْ الْمَاءِ وَجَمْعُهُ عُذُوبٌ بِالضّمّ وَلَا يُعْرَفُ فَعُولٌ
جُمِعَ عَلَى فُعُولٍ غَيْرُهُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَاَلّذِي فِي الْأَصْلِ
أَصَحّ فِي الْمَعْنَى وَالنّقْلِ .
[
ص 286 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي جَهْمُ بْنُ أَبِي جَهْمٍ مَوْلَى
الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ الْجُمَحِيّ : عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ ، أَوْ عَمّنْ حَدّثَهُ عَنْهُ قَالَ كَانَتْ حَلِيمَةُ بِنْتُ
أَبِي ذُؤَيْبٍ السّعْدِيّةُ ، أُمّ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- الّتِي أَرْضَعَتْهُ تُحَدّثُ أَنّهَا خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا مَعَ زَوْجِهَا ،
وَابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ تُرْضِعُهُ فِي نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ،
تَلْتَمِسُ الرّضَعَاءَ قَالَتْ وَذَلِكَ فِي سَنَةٍ شَهْبَاءَ لَمْ تُبْقِ لَنَا
شَيْئًا . قَالَتْ فَخَرَجْت عَلَى أَتَانٍ لِي قَمْرَاءَ مَعَنَا شَارِفٌ لَنَا ،
وَاَللّهِ مَا تَبِضّ بِقَطْرَةِ وَمَا نَنَامُ لَيْلَنَا أَجْمَعَ مِنْ صَبِيّنَا
الّذِي مَعَنَا ، مِنْ بُكَائِهِ مِنْ الْجُوعِ مَا فِي ثَدْيَيّ مَا يُغْنِيهِ
وَمَا فِي شَارِفِنَا مَا يُغَدّيهِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ يُغَذّيهِ
- وَلَكِنّا كُنّا نَرْجُو الْغَيْثَ وَالْفَرَجَ فَخَرَجْت عَلَى أَتَانِي تِلْكَ
فَلَقَدْ أَدَمْت بِالرّكْبِ حَتّى شَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ضَعْفًا وَعَجَفًا ،
حَتّى قَدِمْنَا مَكّةَ نَلْتَمِسُ [ ص 287 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فَتَأْبَاهُ إذَا قِيلَ لَهَا إنّهُ يَتِيمٌ وَذَلِكَ أَنّا إنّمَا كُنّا نَرْجُو
الْمَعْرُوفَ مِنْ أَبِي الصّبِيّ فَكُنّا نَقُولُ يَتِيمٌ وَمَا عَسَى أَنْ
تَصْنَعَ أُمّهُ وَجَدّهُ فَكُنّا نَكْرَهُهُ لِذَلِكَ فَمَا بَقِيَتْ امْرَأَةٌ
قَدِمَتْ مَعِي إلّا أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْرِي ، فَلَمّا أَجْمَعْنَا
الِانْطِلَاقَ قُلْت لِصَاحِبِي : وَاَللّهِ إنّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجِعَ مِنْ
بَيْنِ صَوَاحِبِي وَلَمْ آخُذْ رَضِيعًا ، وَاَللّهِ لَأَذْهَبَنّ إلَى ذَلِكَ
الْيَتِيمِ فَلَآخُذَنّهُ قَالَ لَا عَلَيْك أَنْ تَفْعَلِي ، عَسَى اللّهُ أَنْ
يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً . قَالَتْ فَذَهَبْت إلَيْهِ فَأَخَذْته ، وَمَا
حَمَلَنِي عَلَى أَخْذِهِ إلّا أَنّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ . قَالَتْ فَلَمّا
أَخَذْته ، رَجَعْت بِهِ إلَى رَحْلِي فَلَمّا وَضَعْته فِي حِجْرِي أَقْبَلَ
عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ حَتّى رَوِيَ وَشَرِبَ
مَعَهُ أَخُوهُ حَتّى رَوِيَ ثُمّ نَامَا ، وَمَا كُنّا نَنَامُ مَعَهُ قَبْلَ
ذَلِكَ وَقَامَ زَوْجِي إلَى شَارِفِنَا تِلْكَ فَإِذَا إنّهَا لَحَافِلٌ فَحَلَبَ
[ ص 288 ] قَالَتْ يَقُولُ صَاحِبِي حِينَ أَصْبَحْنَا : تَعْلَمِي وَاَللّهِ يَا
حَلِيمَةُ ، لَقَدْ أَخَذْت نَسَمَةً مُبَارَكَةً قَالَتْ فَقُلْت : وَاَللّهِ
إنّي لَأَرْجُو ذَلِكَ . قَالَتْ ثُمّ خَرَجْنَا وَرَكِبْت أَتَانِي ، وَحَمَلْته
عَلَيْهَا مَعِي ، فَوَاَللّهِ لَقَطَعْت بِالرّكْبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا
شَيْءٌ مِنْ خُمُرِهِمْ حَتّى إنّ صَوَاحِبِي لَيَقِفْنَ لِي : يَا ابْنَةَ أَبِي
ذُؤَيْبٍ ، وَيْحَك ارْبَعِي عَلَيْنَا ، أَلَيْسَتْ هَذِهِ أَتَانَك الّتِي كُنْت
خَرَجْت عَلَيْهَا ؟ فَأَقُولُ لَهُنّ بَلَى وَاَللّهِ إنّهَا لَهِيَ هِيَ
فَيَقُلْنَ وَاَللّهِ إنّ لَهَا شَأْنًا . قَالَتْ ثُمّ قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا
مِنْ بِلَادِ بَنِي سَعْدٍ . وَمَا أَعْلَمُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ اللّه أَجْدَبَ
مِنْهَا . فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوحُ عَلَيّ حِينَ قَدِمْنَا بِهِ مَعَنَا
شِبَاعًا لُبْنًا . فَنَحْلُبُ وَنَشْرَبُ . وَمَا يَحْلُبُ إنْسَانٌ قَطْرَةَ
لَبَنٍ وَلَا يَجِدُهَا فِي ضَرْعٍ . حَتّى كَانَ الْحَاضِرُونَ مِنْ قَوْمِنَا
يَقُولُونَ لِرُعْيَانِهِمْ وَيْلَكُمْ اسْرَحُوا حَيْثُ يَسْرَحُ رَاعِي بِنْتِ
أَبِي ذُؤَيْب ٍ فَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا تَبِضّ بِقَطْرَةِ لَبَنٍ
وَتَرُوحُ غَنَمِي شِبَاعًا لُبْنًا ، فَلَمْ نَزَلْ نَتَعَرّفُ مِنْ اللّهِ
الزّيَادَةَ وَالْخَيْرَ حَتّى مَضَتْ سَنَتَاهُ وَفَصَلْته ؛ وَكَانَ يَشِبّ
شَبَابًا لَا يَشِبّهُ الْغِلْمَانُ فَلَمْ يَبْلُغْ سَنَتَيْهِ حَتّى كَانَ
غُلَامًا جَفْرًا . قَالَتْ فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمّهِ وَنَحْنُ أَحْرَصُ
شَيْءٍ عَلَى مُكْثِهِ فِينَا ؛ لِمَا كُنّا نَرَى مِنْ بَرَكَتِهِ . فَكَلّمْنَا
أُمّهُ وَقُلْت لَهَا : لَوْ تَرَكْت بُنَيّ عِنْدِي حَتّى يَغْلُظَ فَإِنّي
أَخْشَى عَلَيْهِ وَبَأَمَكّةَ قَالَتْ فَلَمْ نَزَلْ بِهَا حَتّى رَدّتْهُ
مَعَنَا .Sمِنْ
شَرْحِ حَدِيثِ الرّضَاعَةِ
[ ص 286 ] وَذَكَرَ قَوْلَهَا : حَتّى أَذَمَمْت بِالرّكْبِ . تُرِيدُ أَنّهَا
حَبَسَتْهُمْ وَكَأَنّهُ مِنْ الْمَاءِ الدّائِمِ وَهُوَ الْوَاقِفُ وَيُرْوَى :
حَتّى أَذَمّتْ . أَيْ أَذَمّتْ الْأَتَانُ أَيْ جَاءَتْ بِمَا تُذَمّ عَلَيْهِ
أَوْ يَكُونُ مِنْ قَوْلِهِمْ بِئْرٌ ذَمّةٌ أَيْ قَلِيلَةُ الْمَاءِ وَلَيْسَتْ
هَذِهِ عِنْدَ أَبِي الْوَلِيدِ وَلَا فِي أَصْلِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ وَقَدْ
ذَكَرَهَا قَاسِمٌ فِي الدّلَائِلِ وَلَمْ يَذْكُرْ رِوَايَةً أُخْرَى ، وَذَكَرَ
تَفْسِيرَهَا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَذَمّ بِالرّكْبِ إذَا أَبْطَأَ حَتّى
حَبَسَتْهُمْ مِنْ الْبِئْرِ الذّمّةِ وَهِيَ الْقَلِيلَةُ الْمَاءِ . وَذَكَرَ
قَوْلَ حَلِيمَةَ : فَلَمّا وَضَعْته فِي حِجْرِي أَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ
بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ حَتّى رَوِيَ وَشَرِبَ مَعَهُ أَخُوهُ حَتّى
رَوِيَ . وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ لَا يُقْبِلُ إلّا عَلَى ثَدْيِهَا الْوَاحِدِ
وَكَانَتْ تَعْرِضُ عَلَيْهِ الثّدْيَ الْآخَرَ فَيَأْبَاهُ كَأَنّهُ قَدْ
أُشْعِرَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - أَنّ مَعَهُ شَرِيكًا فِي لِبَانِهَا ، وَكَانَ
مَفْطُورًا عَلَى الْعَدْلِ مَجْبُولًا عَلَى الْمُشَارَكَةِ وَالْفَضْلِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
الْتِمَاسُ الْأَجْرِ عَلَى الرّضَاعِ
قَالَ الْمُؤَلّفُ وَالْتِمَاسُ الْأَجْرِ عَلَى الرّضَاعِ لَمْ يَكُنْ مَحْمُودًا
عِنْدَ أَكْثَرِ نِسَاءِ الْعَرَبِ ، حَتّى جَرَى الْمَثَلُ تَجُوعُ الْمَرْأَةُ
وَلَا تَأْكُلُ بِثَدْيَيْهَا ، وَكَانَ عِنْدَ بَعْضِهِنّ لَا بَأْسَ بِهِ فَقَدْ
كَانَتْ حَلِيمَةُ وَسِيطَةً فِي بَنِي سَعْدٍ ، كَرِيمَةً مِنْ كَرَائِمِ
قَوْمِهَا ، بِدَلِيلِ اخْتِيَارِ اللّهِ - تَعَالَى - إيّاهَا لِرَضَاعِ نَبِيّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَمَا اخْتَارَ لَهُ أَشْرَفَ الْبُطُونِ
وَالْأَصْلَابِ . وَالرّضَاعُ كَالنّسَبِ لِأَنّهُ يُغَيّرُ الطّبَاعَ . [ ص 287 ]
الْمُسْنَدِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - تَرْفَعُهُ لَا
تَسْتَرْضِعُوا الْحَمْقَى ؛ فَإِنّ اللّبَنَ يُورِثُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ
حَلِيمَةُ وَنِسَاءُ قَوْمِهَا طَلَبْنَ الرّضَعَاءَ اضْطِرَارًا لِلْأَزْمَةِ
الّتِي أَصَابَتْهُمْ وَالسّنَةِ الشّهْبَاءِ الّتِي اقْتَحَمَتْهُمْ .
لِمَ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَدْفَعُ أَوْلَادَهَا إلَى الْمَرَاضِعِ ؟
وَأَمّا دَفْعُ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ أَوْلَادَهُمْ
إلَى الْمَرَاضِعِ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِوُجُوهِ . أَحَدُهَا : تَفْرِيغُ
النّسَاءِ إلَى الْأَزْوَاجِ كَمَا قَالَ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِأُمّ سَلَمَةَ -
رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - وَكَانَ أَخَاهَا مِنْ الرّضَاعَةِ حِينَ انْتَزَعَ مِنْ
حِجْرِهَا زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ ، فَقَالَ دَعِي هَذِهِ الْمَقْبُوحَةَ
الْمَشْقُوحَةَ الّتِي آذَيْت بِهَا رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَيْضًا لِيَنْشَأَ الطّفْلُ فِي
الْأَعْرَابِ ، فَيَكُونَ أَفْصَحَ لِلِسَانِهِ وَأَجْلَدَ لِجِسْمِهِ وَأَجْدَرَ
أَنْ لَا يُفَارِقَ الْهَيْئَةَ الْمَعَدّيّةَ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ تَمَعْدَدُوا وَتَمَعْزَزُوا وَاخْشَوْشِنُوا [ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي
حَدْرَدٍ ] . وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ - حِينَ قَالَ لَهُ مَا رَأَيْت أَفْصَحَ مِنْك يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ
وَمَا يَمْنَعُنِي ، وَأَنَا مِنْ قُرَيْشٍ ، وَأُرْضِعْت فِي بَنِي سَعْدٍ ؟
فَهَذَا وَنَحْوُهُ كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى دَفْعِ الرّضَعَاءِ إلَى
الْمَرَاضِعِ الْأَعْرَابِيّاتِ . وَقَدْ ذُكِرَ أَنّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ
مَرْوَانَ كَانَ يَقُولُ أَضَرّ بِنَا حُبّ الْوَلِيدِ لِأَنّ الْوَلِيدَ كَانَ
لَحّانًا ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ [ ص 288 ] أَقَامَ مَعَ أُمّهِ وَسُلَيْمَانُ
وَغَيْرُهُ مِنْ إخْوَتِهِ سَكَنُوا الْبَادِيَةَ ، فَتَعَرّبُوا ، ثُمّ أُدّبُوا
فَتَأَدّبُوا ، وَكَانَ مِنْ قُرَيْشٍ أَعْرَابٌ وَمِنْهُمْ حَضَرٌ فَالْأَعْرَابُ
مِنْهُمْ بَنُو الْأَدْرَمِ وَبَنُو مُحَارِبٍ ، وَأَحْسَبُ بَنِي عَامِرِ بْنِ
لُؤَيّ كَذَلِكَ لِأَنّهُمْ مِنْ أَهْلِ الظّوَاهِرِ ، وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ
الْبِطَاحِ .
قَالَتْ
فَرَجَعْنَا بِهِ فَوَاَللّهِ إنّهُ بَعْدَ مَقْدَمِنَا بِأَشْهُرِ مَعَ أَخِيهِ
لَفِي بَهْمٍ لَنَا خَلْفَ بُيُوتِنَا ، إذْ أَتَانَا أَخُوهُ يَشْتَدّ ، فَقَالَ
لِي وَلِأَبِيهِ ذَاكَ أَخِي الْقُرَشِيّ قَدْ أَخَذَهُ رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا
ثِيَابٌ بِيضٌ فَأَضْجَعَاهُ فَشَقّا بَطْنَهُ فَهُمَا يُسَوّطَانِهِ قَالَتْ
فَخَرَجْت أَنَا وَأَبُوهُ نَحْوَهُ فَوَجَدْنَاهُ قَائِمًا مُنْتَقِعًا وَجْهُهُ
. قَالَتْ فَالْتَزَمْته وَالْتَزَمَهُ أَبُوهُ فَقُلْنَا لَهُ مَا لَك يَا بُنَيّ
قَالَ جَاءَنِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ فَأَضْجَعَانِي وَشَقّا
بَطْنِي ، فَالْتَمَسَا شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ . قَالَتْ فَرَجَعْنَا إلَى
خِبَائِنَا . قَالَتْ وَقَالَ لِي أَبُوهُ يَا حَلِيمَةُ ، لَقَدْ خَشِيت أَنْ
يَكُونَ هَذَا الْغُلَامُ قَدْ أُصِيبَ [ ص 289 ] قَالَتْ فَاحْتَمَلْنَاهُ
فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمّهِ فَقَالَتْ مَا أَقْدَمَك بِهِ يَا ظِئْرُ وَقَدْ
كُنْت حَرِيصَةً عَلَيْهِ وَعَلَى مُكْثِهِ عِنْدَك ؟ قَالَتْ فَقُلْت : قَدْ
بَلَغَ اللّهَ يَا بُنَيّ وَقَضَيْت الّذِي عَلَيّ وَتَخَوّفْت الْأَحْدَاثَ
عَلَيْهِ فَأَدّيْته إلَيْك كَمَا تُحِبّينَ . قَالَتْ مَا هَذَا شَأْنَك ،
فَأَصْدِقِينِي خَبَرَك . قَالَتْ فَلَمْ تَدَعْنِي حَتّى أَخْبَرْتهَا . قَالَتْ
أَفَتَخَوّفْت عَلَيْهِ الشّيْطَانَ ؟ قَالَتْ قُلْت : نَعَمْ قَالَتْ كَلّا .
وَاَللّهِ مَا لِلشّيْطَانِ عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ وَإِنّ لِبُنَيّ لَشَأْنًا ،
أَفَلَا أُخْبِرُك خَبَرَهُ . قَالَتْ بَلَى . قَالَتْ رَأَيْت حِينَ حَمَلْت بِهِ
أَنّهُ خَرَجَ مِنّي نُورٌ أَضَاءَ لِي قُصُورَ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشّامِ .
ثُمّ حَمَلْت بِهِ فَوَاَللّهِ مَا رَأَيْت مِنْ حَمْلٍ قَطّ كَانَ أَخَفّ وَلَا
أَيْسَرَ مِنْهُ وَوَقَعَ حِينَ وَلَدْته ، وَإِنّهُ لَوَاضِعٌ يَدَيْهِ
بِالْأَرْضِ رَافِعٌ رَأْسَهُ إلَى السّمَاءِ . دَعِيهِ عَنْك ، وَانْطَلِقِي
رَاشِدَةً . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ ، عَنْ
بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا أَحْسَبُهُ إلّا عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ
الْكَلَاعِيّ أَنّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - قَالُوا لَهُ يَا رَسُولَ [ ص 290 ] قَالَ نَعَمْ أَنَا دَعْوَةُ أَبِي
إبْرَاهِيمَ ، وَبُشْرَى أَخِي عِيسَى ، وَرَأَتْ أُمّي حِينَ حَمَلَتْ بِي أَنّهُ
خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَ لَهَا قُصُورَ الشّامِ ، وَاسْتُرْضِعْت فِي بَنِي
سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ . فَبَيْنَا أَنَا مَعَ أَخ لِي خَلْفَ بُيُوتِنَا نَرْعَى
بَهْمًا لَنَا . إذْ أَتَانِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ بِطَسْتِ مِنْ
ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ ثَلْجًا . ثُمّ أَخَذَانِي فَشَقّا بَطْنِي ، وَاسْتَخْرَجَا
قَلْبِي ، فَشَقّاهُ فَاسْتَخْرَجَا مِنْهُ عَلَقَةً سَوْدَاءَ فَطَرَحَاهَا .
ثُمّ غَسَلَا قَلْبِي وَبَطْنِي بِذَلِكَ الثّلْجِ حَتّى [ ص 291 ] أَنْقَيَاهُ
ثُمّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ زِنْهُ بِعَشَرَةِ مِنْ أُمّتِهِ فَوَزَنَنِي
بِهِ فَوَزَنْتهمْ ثُمّ قَالَ زِنْهُ بِمِئَةِ مِنْ أُمّتِهِ . فَوَزَنَنِي بِهِمْ
فَوَزَنْتهمْ ثُمّ قَالَ زِنْهُ بِأَلْفِ مِنْ أُمّتِهِ فَوَزَنَنِي بِهِمْ
فَوَزَنْتهمْ . فَقَالَ دَعْهُ عَنْك ، فَوَاَللّهِ لَوْ وَزَنْته بِأُمّتِهِ
لَوَزَنَهَا [ ص 292 ] [ ص 293 ]Sشَقّ
الصّدْرِ
وَذَكَرَ قَوْلَ أَخِيهِ مِنْ الرّضَاعَةِ نَزَلَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَبْيَضَانِ
فَشَقّا عَنْ بَطْنِهِ وَهُمَا يَسُوطَانِهِ يُقَالُ سُطْت اللّبَنَ أَوْ الدّمَ
أَوْ غَيْرَهُمَا ، أَسُوطُهُ إذَا ضَرَبْت بَعْضَهُ بِبَعْضِ . وَالْمِسْوَطُ
عُودٌ يُضْرَبُ بِهِ . [ ص 289 ] ابْنِ إسْحَاقَ أَنّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ
كُرْكِيّانِ فَشَقّ أَحَدُهُمَا بِمِنْقَارِهِ جَوْفَهُ وَمَجّ الْآخَرُ
بِمِنْقَارِهِ فِيهِ ثَلْجًا ، أَوْ بَرَدًا ، أَوْ نَحْوَ هَذَا ، وَهِيَ رِوَايَةٌ
غَرِيبَةٌ ذَكَرَهَا يُونُسُ عَنْهُ وَاخْتَصَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَ نُزُولِ
الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا . وَرَوَى ابْنُ أَبِي
الدّنْيَا وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادِ يَرْفَعُهُ إلَى أَبِي ذَرّ - رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ - قَالَ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ كَيْفَ عَلِمْت أَنّك نَبِيّ ، وَبِمَ
عَلِمْت حَتّى اسْتَيْقَنْت ؟ قَالَ يَا أَبَا ذَرّ أَتَانِي مَلَكَانِ وَأَنَا
بِبَطْحَاءِ مَكّةَ ، فَوَقَعَ أَحَدُهُمَا بِالْأَرْضِ وَكَانَ الْآخَرُ بَيْنَ
السّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَهُوَ هُوَ ؟ قَالَ هُوَ
هُوَ قَالَ فَزِنْهُ بِرَجُلِ فَوَزَنَنِي بِرَجُلِ فَرَجَحْته ، ثُمّ قَالَ
زِنْهُ بِعَشَرَةِ فَوَزَنَنِي فَرَجَحْتهمْ ثُمّ قَالَ زِنْهُ بِمِائَةِ
فَوَزَنَنِي ، فَرَجَحْتهمْ ثُمّ قَالَ زِنْهُ بِأَلْفِ فَوَزَنَنِي فَرَجَحْتهمْ
حَتّى جَعَلُوا يَتَثَاقَلُونَ عَلَيّ مِنْ كِفّةِ الْمِيزَانِ فَقَالَ
أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ شُقّ بَطْنَهُ فَشَقّ بَطْنِي ، فَأَخْرَجَ قَلْبِي ،
فَأَخْرَجَ مَعَهُ مَغْمَزَ الشّيْطَانِ وَعَلَقَ الدّمِ فَطَرَحَهُمَا ، فَقَالَ
أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اغْسِلْ بَطْنَهُ غَسْلَ الْإِنَاءِ وَاغْسِلْ قَلْبَهُ
غَسْلَ الْمُلَاءِ ثُمّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ خُطّ بَطْنَهُ فَخَاطَ
بَطْنِي ، وَجَعَلَ الْخَاتَمَ بَيْنَ كَتِفَيّ كَمَا هُوَ الْآنَ وَوَلّيَا عَنّي
، فَكَأَنّي أُعَايِنُ الْأَمْرَ مُعَايَنَةً فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ
لِمَا أُبْهِمَ فِي الْأَوّلِ لِأَنّهُ قَالَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَغْمَزَ [ ص 290
] الشّيْطَانِ وَعَلَقَ الدّمِ فَبَيّنَ أَنّ الّذِي اُلْتُمِسَ فِيهِ هُوَ الّذِي
يَغْمِزُهُ الشّيْطَانُ مِنْ كُلّ مَوْلُودٍ إلّا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمّهُ -
عَلَيْهِمَا السّلَامُ - لِقَوْلِ أُمّهَا حُنّةَ { وَإِنّي أُعِيذُهَا بِكَ
وَذُرّيّتَهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ } [ آلَ عِمْرَانَ : 36ْ ] . فَلَمْ
يَصِلْ إلَيْهِ لِذَلِكَ وَلِأَنّهُ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ مَنِيّ الرّجَالِ
فَأُعِيذُهُ مِنْ مَغْمَزٍ وَإِنّمَا خُلِقَ مِنْ نَفْخَةِ رُوحِ الْقُدُسِ ،
وَلَا يَدُلّ هَذَا عَلَى فَضْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَى مُحَمّدٍ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأَنّ مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - قَدْ نُزِعَ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَغْمَزُ وَمُلِئَ قَلْبُهُ حِكْمَةً
وَإِيمَانًا ، بَعْدَ أَنْ غَسَلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ بِالثّلْجِ وَالْبَرَدِ
وَإِنّمَا كَانَ ذَلِكَ الْمَغْمَزُ فِيهِ لِمَوْضِعِ الشّهْوَةِ الْمُحَرّكَةِ
لِلْمَنِيّ وَالشّهَوَاتُ يَحْضُرُهَا الشّيَاطِينُ لَا سِيمَا شَهْوَةُ مَنْ
لَيْسَ بِمُؤْمِنِ فَكَانَ ذَلِكَ الْمَغْمَزُ رَاجِعًا إلَى الْأَبِ لَا إلَى
الِابْنِ الْمُطَهّرِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِي الْحَدِيثِ
فَائِدَةٌ أُخْرَى ، وَهِيَ مِنْ نَفِيسِ الْعِلْمِ وَذَلِكَ أَنّ خَاتَمَ
النّبُوّةِ لَمْ يُدْرَ هَلْ خُلِقَ بِهِ أَمْ وُضِعَ فِيهِ بَعْدَمَا وُلِدَ أَوْ
حِينَ نُبّئَ فَبَيّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَتَى وُضِعَ وَكَيْفَ وُضِعَ وَمَنْ
وَضَعَهُ زَادَنَا اللّهُ عِلْمًا ، وَأَوْزَعَنَا شُكْرَ مَا عَلّمَ وَفِيهِ
الْبَيَانُ لِمَا سَأَلَ عَنْهُ أَبُو ذَرّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - حِينَ قَالَ
كَيْفَ عَلِمْت أَنّك نَبِيّ ، فَأَعْلَمَهُ بِكَيْفِيّةِ ذَلِكَ غَيْرَ أَنّ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ وَهْمًا مِنْ بَعْضِ النّقَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ بَيْنَمَا أَنَا
بِبَطْحَاءِ مَكّةَ ، وَهَذِهِ الْقِصّةُ لَمْ تَعْرِضْ لَهُ إلّا وَهُوَ فِي
بَنِي سَعْدٍ مَعَ حَلِيمَةَ ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ وَقَدْ
رَوَاهُ الْبَزّارُ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِي ذَرّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
- فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ بَطْحَاءَ مَكّةَ .
حَدِيثُ السّكِينَةِ
وَذُكِرَ فِيهِ أَنّهُ قَالَ وَأُوتِيت بِالسّكِينَةِ كَأَنّهَا رَهْرَهَةٌ
فَوُضِعَتْ فِي صَدْرِي . قَالَ وَلَا أَعْلَمُ لِعُرْوَةِ سَمَاعًا مِنْ أَبِي
ذَرّ . وَذَكَرَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ أَبِي ذَرّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لَهُ يَا أَبَا ذَرّ وُزِنْت بِأَرْبَعِينَ
أَنْتَ فِيهِمْ فَرَجَحْتهمْ وَالرّهْرَهَةُ بَصِيصُ الْبَشَرَةِ فَهَذَا بَيَانُ
وَضْعِ الْخَاتَمِ مَتَى وُضِعَ . [ ص 291 ]
مَسْأَلَةُ شَقّ الصّدْرِ مَرّةً أُخْرَى
وَأَمّا مَتَى وَجَبَتْ لَهُ النّبُوّةُ فَرُوِيَ عَنْ مَيْسَرَةَ أَنّهُ قَالَ
لَهُ مَتَى وَجَبَتْ لَك النّبُوّةُ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ فَقَالَ وَآدَمُ بَيْنَ
الرّوحِ وَالْجَسَدِ وَيُرْوَى : وَآدَمُ مُجَنْدَلٌ فِي طِينَتِهِ . وَهَذَا
الْخَبَرُ يُرْوَى عَنْهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا :
أَنّهُ شُقّ عَنْ قَلْبِهِ وَهُوَ مَعَ رَابّتِهِ وَمُرْضِعَتِهِ فِي بَنِي سَعْدٍ
، وَأَنّهُ جِيءَ بِطَسْتِ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ ثَلْجٌ فَغُسِلَ بِهِ قَلْبُهُ
وَالثّانِي فِيهِ أَنّهُ غُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، وَأَنّ ذَلِكَ كَانَ لَيْلَةَ
الْإِسْرَاءِ حِينَ عُرِجَ بِهِ إلَى السّمَاءِ بَعْدَمَا بُعِثَ بِأَعْوَامِ
وَفِيهِ أَنّهُ أُتِيَ بِطَسْتِ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ،
فَأُفْرِغَ فِي قَلْبِهِ . وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ أَلّفَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ
أَنّهُ تَعَارَضَ فِي الرّوَايَتَيْنِ وَجَعَلَ يَأْخُذُ فِي تَرْجِيحِ الرّوَاةِ
وَتَغْلِيطِ بَعْضِهِمْ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ هَذَا التّقْدِيسُ
وَهَذَا التّطْهِيرُ مَرّتَيْنِ . الْأُولَى : فِي حَالِ الطّفُولِيّةِ لِيُنَقّى
قَلْبُهُ مِنْ مَغْمَزِ الشّيْطَانِ وَلِيُطَهّرَ وَيُقَدّسَ مِنْ كُلّ خُلُقٍ
ذَمِيمٍ حَتّى لَا يَتَلَبّسَ بِشَيْءِ مِمّا يُعَابُ عَلَى الرّجَالِ وَحَتّى لَا
يَكُونَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ إلّا التّوْحِيدُ وَلِذَلِكَ قَالَ فَوَلّيَا عَنّي ،
يَعْنِي : الْمَلَكَيْنِ وَكَأَنّي أُعَايِنُ الْأَمْرَ مُعَايَنَةً .
وَالثّانِيَةُ فِي حَالِ اكْتِهَالٍ وَبَعْدَمَا نُبّئَ وَعِنْدَمَا أَرَادَ
اللّهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إلَى الْحَضْرَةِ الْمُقَدّسَةِ الّتِي لَا يَصْعَدُ
إلَيْهَا إلّا مُقَدّسٌ وَعُرِجَ بِهِ هُنَالِكَ لِتُفْرَضَ عَلَيْهِ الصّلَاةُ
وَلِيُصَلّيَ بِمَلَائِكَةِ السّمَوَاتِ وَمِنْ شَأْنِ الصّلَاةِ الطّهُورُ
فَقُدّسَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ . وَفِي الْمَرّةِ
الْأُولَى بِالثّلْجِ لِمَا يُشْعِرُ الثّلْجُ مِنْ ثَلْجِ الْيَقِينِ وَبَرْدِهِ
عَلَى الْفُؤَادِ وَكَذَلِكَ هُنَاكَ حَصَلَ لَهُ الْيَقِينُ بِالْأَمْرِ الّذِي
يُرَادُ بِهِ وَبِوَحْدَانِيّةِ رَبّهِ . وَأَمّا فِي الثّانِيَةِ فَقَدْ كَانَ
مُوقِنًا مُنَبّئًا ، فَإِنّمَا طُهّرَ لِمَعْنَى آخَرَ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ
مِنْ دُخُولِ حَضْرَةِ الْقُدُسِ وَالصّلَاةِ فِيهَا ، وَلِقَاءِ الْمَلِكِ
الْقُدّوسِ فَغَسَلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ بِمَاءِ زَمْزَمَ الّتِي هِيَ [ ص 292 ]
الْقُدُسِ ، وَهَمْزَةُ عَقِبِهِ لِأَبِيهِ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ -
وَجِيءَ بِطَسْتِ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، فَأُفْرِغَ فِي قَلْبِهِ
وَقَدْ كَانَ مُؤْمِنًا ، وَلَكِنّ اللّهَ تَعَالَى قَالَ { لِيَزْدَادُوا
إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } [ الْفَتْحَ 4 ] وَقَالَ { وَيَزْدَادَ الّذِينَ
آمَنُوا إِيمَانًا } [ الْمُدّثّرَ 31 ] . فَإِنْ قِيلَ وَكَيْفَ يَكُونُ
الْإِيمَانُ وَالْحِكْمَةُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ وَالْإِيمَانُ عَرَضٌ
وَالْأَعْرَاضُ لَا يُوصَفُ بِهَا إلّا مَحَلّهَا الّذِي تَقُومُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ
فِيهِ الِانْتِقَالُ لِأَنّ الِانْتِقَالَ مِنْ صِفَةِ الْأَجْسَامِ لَا مِنْ
صِفَةِ الْأَعْرَاضِ ؟ قُلْنَا : إنّمَا عَبّرَ عَمّا كَانَ فِي الطّسْتِ
بِالْحِكْمَةِ وَالْإِيمَانِ كَمَا عَبّرَ عَنْ اللّبَنِ الّذِي شَرِبَهُ
وَأَعْطَى فَضْلَهُ عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - بِالْعِلْمِ فَكَانَ
تَأْوِيلُ مَا أُفْرِغَ فِي قَلْبِهِ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، وَلَعَلّ الّذِي
كَانَ فِي الطّسْتِ كَانَ ثَلْجًا وَبَرَدًا - كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ
الْأَوّلِ - فَعَبّرَ عَنْهُ فِي الْمَرّةِ الثّانِيَةِ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ
وَعَبّرَ عَنْهُ فِي الْمَرّةِ الْأُولَى بِصُورَتِهِ الّتِي رَآهَا ، لِأَنّهُ
فِي الْمَرّةِ الْأُولَى كَانَ طِفْلًا ، فَلَمّا رَأَى الثّلْجَ فِي طَسْتِ
الذّهَبِ اعْتَقَدَهُ ثَلْجًا ، حَتّى عَرَفَ تَأْوِيلَهُ بَعْدُ . وَفِي
الْمَرّةِ الثّانِيَةِ كَانَ نَبِيّا ، فَلَمّا رَأَى طَسْتَ الذّهَبِ مَمْلُوءًا
ثَلْجًا عَلِمَ التّأْوِيلَ لِحِينِهِ وَاعْتَقَدَهُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ
حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، فَكَانَ لَفْظُهُ فِي الْحَدِيثَيْنِ عَلَى حَسَبِ
اعْتِقَادِهِ فِي الْمَقَامَيْنِ . مُنَاسَبَةُ الذّهَبِ لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ
وَكَانَ الذّهَبُ فِي الْحَالَتَيْنِ جَمِيعًا مُنَاسِبًا لِلْمَعْنَى الّذِي
قُصِدَ بِهِ . فَإِنْ نَظَرْت إلَى لَفْظِ الذّهَبِ فَمُطَابِقٌ لِلْإِذْهَابِ
فَإِنّ اللّهَ - عَزّ وَجَلّ - أَرَادَ أَنْ يُذْهِبَ عَنْهُ الرّجْسَ
وَيُطَهّرَهُ تَطْهِيرًا ، وَإِنْ نَظَرْت إلَى مَعْنَى الذّهَبِ وَأَوْصَافِهِ
وَجَدْته أَنْقَى شَيْءٍ وَأَصْفَاهُ يُقَالُ فِي الْمَثَلِ أَنْقَى مِنْ الذّهَبِ
. وَقَالَتْ بَرِيرَةُ فِي عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - مَا أَعْلَمُ
عَلَيْهَا إلّا مَا يَعْلَمُ الصّائِغُ عَلَى الذّهَبِ الْأَحْمَرِ وَقَالَ
حُذَيْفَةُ فِي صِلَةِ بْنِ أَشْيَمَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : إنّمَا قَلْبُهُ
مِنْ ذَهَبٍ وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ فِي الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ : إنّهُ
لَرَجُلٌ مِنْ ذَهَبٍ يُرِيدُونَ النّقَاءَ مِنْ الْعُيُوبِ فَقَدْ طَابَقَ طَسْتَ
الذّهَبِ مَا أُرِيدَ بِالنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ نَقَاءِ
قَلْبِهِ . وَمِنْ أَوْصَافِ الذّهَبِ أَيْضًا الْمُطَابِقَةِ لِهَذَا الْمَقَامِ
ثِقَلُهُ وَرُسُوبُهُ فَإِنّهُ يُجْعَلُ فِي الزّيبَقِ الّذِي هُوَ أَثْقَلُ
الْأَشْيَاءِ فَيَرْسُبُ وَاَللّهُ تَعَالَى يَقُولُ { إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ
قَوْلًا ثَقِيلًا } [ الْمُزّمّلَ 5 ] . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ - رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ - إنّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ الْمُحِقّينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
لِاتّبَاعِهِمْ الْحَقّ وَحُقّ لِمِيزَانِ لَا يُوضَعُ فِيهِ إلّا الْحَقّ أَنْ
يَكُون ثَقِيلًا ، وَقَالَ فِي أَهْلِ الْبَاطِلِ بِعَكْسِ هَذَا وَقَدْ رُوِيَ
أَنّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ فَثَقُلَ عَلَيْهَا
حَتّى سَاخَتْ قَوَائِمُهَا فِي الْأَرْضِ فَقَدْ [ ص 293 ] وَمِنْ أَوْصَافِ
الذّهَبِ أَيْضًا أَنّهُ لَا تَأْكُلُهُ النّارُ وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَا
تَأْكُلُ النّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَلْبًا وَعَاهُ وَلَا بَدَنًا عَمِلَ بِهِ
قَالَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ فِي
إهَابٍ ثُمّ طُرِحَ فِي النّارِ مَا احْتَرَقَ وَمِنْ أَوْصَافِ الذّهَبِ
الْمُنَاسِبَةِ لِأَوْصَافِ الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ أَنّ الْأَرْضَ لَا تُبْلِيهِ
وَأَنّ الثّرَى لَا يَذْرِيهِ وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَا يَخْلُقُ عَلَى كَثْرَةِ
الرّدّ وَلَا يُسْتَطَاعُ تَغْيِيرُهُ وَلَا تَبْدِيلُهُ وَمِنْ أَوْصَافِهِ
أَيْضًا : نَفَاسَتُهُ وَعِزّتُهُ عِنْدَ النّاسِ وَكَذَلِكَ الْحَقّ وَالْقُرْآنُ
عَزِيزٌ قَالَ سُبْحَانَهُ { وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } [ فُصّلَتْ 41 ] .
فَهَذَا إذَا نَظَرْت إلَى أَوْصَافِهِ وَلَفْظِهِ وَإِذَا نَظَرْت إلَى ذَاتِهِ
وَظَاهِرِهِ فَإِنّهُ زُخْرُفُ الدّنْيَا وَزِينَتُهَا ، وَقَدْ فُتِحَ
بِالْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ عَلَى مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
وَأُمّتِهِ خَزَائِنُ الْمُلُوكِ وَتَصِيرُ إلَى أَيْدِيهِمْ ذَهَبُهَا
وَفِضّتُهَا ، وَجَمِيعُ زُخْرُفِهَا وَزِينَتِهَا ، ثُمّ وُعِدُوا بِاتّبَاعِ
الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ قُصُورَ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ فِي الْجَنّةِ . قَالَ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - جَنّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا
فِيهِمَا مِنْ ذَهَبٍ وَفِي التّنْزِيلِ { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ
ذَهَبٍ } [ الزّخْرُفَ 7 ] { يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ
وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الْحَجّ 23 ، وَفَاطِرَ 33 ]
فَكَانَ ذَلِكَ الذّهَبُ يُشْعِرُ بِالذّهَبِ الّذِي يَصِيرُ إلَيْهِ مَنْ اتّبَعَ
الْحَقّ وَالْقُرْآنَ وَأَوْصَافُهُ تُشْعِرُ بِأَوْصَافِ الْحَقّ وَالْقُرْآنُ
وَلَفْظُهُ يُشْعِرُ بِإِذْهَابِ الرّجْسِ كَمَا تَقَدّمَ فَهَذِهِ حِكَمٌ
بَالِغَةٌ لِمَنْ تَأَمّلَ وَاعْتِبَارٌ صَحِيحٌ لِمَنْ تَدَبّرَ وَالْحَمْدُ
لِلّهِ . وَفِي ذِكْرِ الطّسْتِ وَحُرُوفِ اسْمِهِ حِكْمَةٌ تَنْظُرُ إلَى
قَوْلِهِ تَعَالَى : { طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ } [
النّمْلَ 1 ] وَمِمّا يُسْأَلُ عَنْهُ هَلْ خُصّ هُوَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - بِغَسْلِ قَلْبِهِ فِي الطّسْتِ أَمْ فُعِلَ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ فَفِي خَبَرِ التّابُوتِ وَالسّكِينَةِ أَنّهُ كَانَ
فِيهِ الطّسْتُ الّتِي غُسِلَتْ فِيهَا قُلُوبُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ
السّلَامُ . ذَكَرَهُ الطّبَرِيّ ، وَقَدْ انْتَزَعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ
حَدِيثِ الطّسْتِ حَيْثُ جُعِلَ مَحَلّا لِلْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ جَوَازَ
تَحْلِيَةِ الْمُصْحَفِ بِالذّهَبِ وَهُوَ فِقْهٌ حَسَنٌ فَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرّ
- رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - هَذَا الّذِي قَدّمْنَاهُ مَتَى عَلِمَ أَنّهُ نَبِيّ .
[ ص 294 ]
الْحِكْمَةُ فِي خَتْمِ النّبُوّةِ
وَالْحِكْمَةُ فِي خَاتَمِ النّبُوّةِ عَلَى جِهَةِ الِاعْتِبَارِ أَنّهُ لَمّا
مُلِئَ قَلْبُهُ حِكْمَةً وَيَقِينًا ، خُتِمَ عَلَيْهِ كَمَا يُخْتَمُ عَلَى
الْوِعَاءِ الْمَمْلُوءِ مِسْكًا أَوْ دُرّا ، وَأَمّا وَضْعُهُ عِنْدَ نُغْضِ
كَتِفِهِ فَلِأَنّهُ مَعْصُومٌ مِنْ وَسْوَسَةِ الشّيْطَانِ وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ
مِنْهُ يُوَسْوِسُ الشّيْطَانُ لِابْنِ آدَمَ . رَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ
عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنّ رَجُلًا سَأَلَ رَبّهُ أَنْ يُرِيَهُ
مَوْضِعَ الشّيْطَانِ مِنْهُ فَأُرِيَ جَسَدًا مُمَهّى يُرَى دَاخِلُهُ مِنْ
خَارِجِهِ وَالشّيْطَانُ فِي صُورَةِ ضِفْدَعٍ عِنْدَ نُغْضِ كَتِفِهِ حِذَاءَ
قَلْبِهِ لَهُ خُرْطُومٌ كَخُرْطُومِ الْبَعُوضَةِ وَقَدْ أَدْخَلَهُ إلَى
قَلْبِهِ يُوَسْوِسُ فَإِذَا ذَكَرَ اللّهَ تَعَالَى الْعَبْدُ خَنَسَ
رَدّ حَلِيمَةَ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فَصْلٌ
وَكَانَ رَدّ حَلِيمَةَ إيّاهُ إلَى أُمّهِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ وَشَهْرٍ
فِيمَا ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ ثُمّ لَمْ تَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلّا مَرّتَيْنِ
إحْدَاهُمَا بَعْدَ تَزْوِيجِهِ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - جَاءَتْهُ
تَشْكُو إلَيْهِ السّنَةَ وَأَنّ قَوْمَهَا قَدْ أَسْنَتُوا فَكَلّمَ لَهَا
خَدِيجَةَ ، فَأَعْطَتْهَا عِشْرِينَ رَأْسًا مِنْ غَنَمِ وَبَكَرَاتٍ وَالْمَرّةَ
الثّانِيَةَ يَوْمُ حُنَيْنٍ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا إنْ شَاءَ اللّهُ .
تَأْوِيلُ النّورِ الّذِي رَأَتْهُ آمِنَةُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ النّورَ الّذِي رَأَتْهُ آمِنَةُ حِينَ وَلَدَتْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ
فَأَضَاءَتْ لَهَا قُصُورَ الشّامِ ، وَذَلِكَ بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ
تِلْكَ الْبِلَادِ حَتّى كَانَتْ الْخِلَافَةُ فِيهَا مُدّةَ بَنِي أُمَيّةَ ،
وَاسْتَضَاءَتْ تِلْكَ الْبِلَادُ وَغَيْرُهَا بِنُورِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَكَذَلِكَ رَأَى خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي قَبْلَ
الْمَبْعَثِ بِيَسِيرِ نُورًا يَخْرُجُ مِنْ زَمْزَمَ ، حَتّى ظَهَرَتْ لَهُ
الْبُسْرُ فِي نَخِيلِ يَثْرِبَ ، فَقَصّهَا عَلَى أَخِيهِ عَمْرٍو ، فَقَالَ لَهُ
إنّهَا حَفِيرَةُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَإِنّ هَذَا النّورَ مِنْهُمْ فَكَانَ
ذَلِكَ سَبَبَ مُبَادَرَتِهِ إلَى الْإِسْلَامِ .
[
ص 294 ] ابْنِ إسْحَاقَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَقُولُ مَا مِنْ نَبِيّ إلّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ
[ ص 295 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ أَنَا أَعْرَبُكُمْ أَنَا قُرَشِيّ ،
وَاسْتُرْضِعْت فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ . [ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ] . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَزَعَمَ النّاسُ فِيمَا يَتَحَدّثُونَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَنّ أُمّهُ
السّعْدِيّةَ لَمّا قَدِمَتْ بِهِ مَكّةَ أَضَلّهَا فِي النّاسِ وَهِيَ مُقْبِلَةٌ
بِهِ نَحْوَ أَهْلِهِ فَالْتَمَسَتْهُ فَلَمْ تَجِدْهُ فَأَتَتْ عَبْدَ
الْمُطّلِبِ ، فَقَالَتْ لَهُ إنّي قَدْ قَدِمْت بِمُحَمّدِ هَذِهِ اللّيْلَةَ
فَلَمّا كُنْت بِأَعْلَى مَكّةَ أَضَلّنِي ، فَوَاَللّهِ مَا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ
فَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ يَدْعُو اللّهَ أَنْ يَرُدّهُ
فَيَزْعُمُونَ أَنّهُ وَجَدَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ ، وَرَجُلٌ
آخَرُ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَأَتَيَا بِهِ عَبْدَ الْمُطّلِبِ ، فَقَالَا لَهُ هَذَا
ابْنُك وَجَدْنَاهُ بِأَعْلَى مَكّةَ ، فَأَخَذَهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ ،
فَجَعَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ يَعُوذُهُ وَيَدْعُو لَهُ
ثُمّ أَرْسَلَ بِهِ إلَى أُمّهِ آمِنَةَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي
بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ مِمّا هَاجَ أُمّهُ السّعْدِيّةَ عَلَى رَدّهِ إلَى
أُمّهِ مَعَ مَا ذَكَرَتْ لِأُمّهِ مِمّا أَخْبَرَتْهَا عَنْهُ أَنّ نَفَرًا مِنْ
الْحَبَشَةِ نَصَارَى رَأَوْهُ مَعَهَا حِينَ رَجَعَتْ بِهِ بَعْدَ فِطَامِهِ
فَنَظَرُوا إلَيْهِ وَسَأَلُوهَا عَنْهُ وَقَلّبُوهُ ثُمّ قَالُوا لَهَا :
لَنَأْخُذَنّ هَذَا الْغُلَامَ ، فَلَنَذْهَبَنّ بِهِ إلَى مُلْكِنَا وَبَلَدِنَا
؛ فَإِنّ هَذَا غُلَامٌ كَائِنٌ لَهُ شَأْنٌ نَحْنُ نَعْرِفُ أَمْرَهُ فَزَعَمَ
الّذِي حَدّثَنِي أَنّهَا لَمْ تَكَدْ تَنْفَلِتُ بِهِ مِنْهُمْ [ ص 296 ]Sرَعْيُهُ
الْغَنَمَ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا مِنْ نَبِيّ
إلّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ . قِيلَ وَأَنْتَ يَا [ ص 295 ] قَالَ " وَأَنَا
" . وَإِنّمَا أَرَادَ ابْنُ إسْحَاقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ رِعَايَتَهُ
الْغَنَمَ فِي بَنِي سَعْدٍ مَعَ أَخِيهِ مِنْ الرّضَاعَةِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي
الصّحِيحِ أَنّهُ رَعَاهَا بِمَكّةَ أَيْضًا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكّةَ .
ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ عَنْهُ أَيْضًا أَنّهُ قَالَ مَا
هَمَمْت بِشَيْءِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ إلّا مَرّتَيْنِ وَرَوَى أَنّ إحْدَى
الْمَرّتَيْنِ كَانَ فِي غَنَمٍ يَرْعَاهَا هُوَ وَغُلَامٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقَالَ
لِصَاحِبِهِ اكْفِنِي أَمْرَ الْغَنَمِ حَتّى آتِيَ مَكّةَ ، وَكَانَ بِهَا عُرْسٌ
فِيهَا لَهْوٌ وَزَمْرٌ فَلَمّا دَنَا مِنْ الدّارِ لِيَحْضُرَ ذَلِكَ أُلْقِيَ
عَلَيْهِ النّوْمُ فَنَامَ حَتّى ضَرَبَتْهُ الشّمْسُ عِصْمَةً مِنْ اللّهِ لَهُ
وَفِي الْمَرّةِ الْآخِرَةِ قَالَ لِصَاحِبِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَأُلْقِيَ عَلَيْهِ
النّوْمُ فِيهَا ، كَمَا أُلْقِيَ فِي الْمَرّةِ الْأُولَى . ذَكَرَ هَذَا
الْمَعْنَى ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ . وَفِي غَرِيبِ
الْحَدِيثِ لِلْقُتَبِيّ بُعِثَ مُوسَى - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ
رَاعِي غَنَمٍ [ ص 296 ] دَاوُدُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ
رَاعِي غَنَمٍ وَبُعِثْت ، وَأَنَا رَاعِي غَنَمِ أَهْلِي بِأَجْيَادِ وَإِنّمَا
جَعَلَ اللّهُ هَذَا فِي الْأَنْبِيَاءِ تَقْدِمَةً لَهُمْ لِيَكُونُوا رُعَاةَ
الْخَلْقِ وَلِتَكُونَ أُمَمُهُمْ رَعَايَا لَهُمْ وَقَدْ رَأَى رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ يَنْزِعُ عَلَى قَلِيبٍ وَحَوْلَهَا
غَنَمٌ سُودٌ وَغَنَمٌ عُفْرٌ قَالَ ثُمّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ - فَنَزَعَ نَزْعًا ضَعِيفًا ، وَاَللّهُ يَغْفِرُ لَهُ ثُمّ جَاءَ عُمَرُ
فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًا يَعْنِي : الدّلْوَ فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيّا يَفْرِي
فَرِيّهُ فَأَوّلَهَا النّاسُ فِي الْخِلَافَةِ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَر رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُمَا ، وَلَوْلَا ذِكْرُ الْغَنَمِ السّودِ وَالْعُفْرِ لَبَعُدَتْ
الرّؤْيَا عَنْ مَعْنَى الْخِلَافَةِ وَالرّعَايَةِ إذْ الْغَنَمُ السّودُ
وَالْعُفْرُ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ، وَأَكْثَرُ الْمُحَدّثِينَ
لَمْ يَذْكُرُوا الْغَنَمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ . ذَكَرَهُ الْبَزّارُ فِي مُسْنَدِهِ
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَيْضًا ، وَبِهِ يَصِحّ الْمَعْنَى ، وَاَللّهُ
أَعْلَمُ .
وَفَاةُ
آمِنَةَ
وَحَالُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ جَدّهِ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ بَعْدَهَا
[ ص 297 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - مَعَ أُمّهِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ ، وَجَدّهِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ
هَاشِمٍ فِي كِلَاءَةِ اللّهِ وَحِفْظِهِ يُنْبِتُهُ اللّهُ نَبَاتًا حَسَنًا ،
لِمَا يُرِيدُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ فَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سِتّ سِنِينَ تُوُفّيَتْ أُمّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ . [ ص
298 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ
مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : أَنّ أُمّ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - آمِنَةَ تُوُفّيَتْ وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - ابْنُ سِتّ سِنِينَ بِالْأَبْوَاءِ ، بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ ،
كَانَتْ قَدْ قَدِمَتْ بِهِ عَلَى أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ ،
تُزِيرُهُ إيّاهُمْ فَمَاتَتْ وَهِيَ رَاجِعَةٌ بِهِ إلَى مَكّةَ . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : أُمّ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ : سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو
النّجّارِيّةُ فَهَذِهِ الْخُؤُولَةُ الّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ إسْحَاقَ لِرَسُولِ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيهِمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَعَ جَدّهِ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ ، وَكَانَ يُوضَعُ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ فِرَاشٌ فِي
ظِلّ الْكَعْبَةِ ، فَكَانَ بَنُوهُ يَجْلِسُونَ حَوْلَ فِرَاشِهِ ذَلِكَ حَتّى
يَخْرُجَ إلَيْهِ لَا يَجْلِسُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ بَنِيهِ إجْلَالًا لَهُ قَالَ
فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَأْتِي ، وَهُوَ
غُلَامٌ جَفْرٌ حَتّى يَجْلِسَ عَلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ أَعْمَامُهُ لِيُؤَخّرُوهُ
عَنْهُ فَيَقُولُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ إذَا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمْ دَعُوا ابْنِي ،
فَوَاَللّهِ إنّ لَهُ لَشَأْنًا ، ثُمّ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى الْفِرَاشِ
وَيَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِيَدِهِ وَيَسُرّهُ مَا يَرَاهُ يَصْنَعُSمَوْتُ
آمِنَةَ وَزِيَارَتُهُ لَهَا
فَصْلٌ
وَذَكَرَ مَوْتَ أُمّهِ آمِنَةَ بِالْأَبْوَاءِ ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ
بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ ، وَهُوَ إلَى الْمَدِينَةِ أَقْرَبُ كَأَنّهُ
سُمّيَ بِجَمْعِ بَوّ وَهُوَ جِلْدُ الْحُوَارِ الْمَحْشُوّ بِالتّبْنِ وَغَيْرِهِ
وَقِيلَ سُمّيَ بِالْأَبْوَاءِ لِتَبَوّءِ السّيُولِ فِيهِ وَكَذَلِكَ ذُكِرَ عَنْ
كَثِيرٍ . ذَكَرَهُ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ . [ ص 298 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - زَارَ قَبْرَ أُمّهِ بِالْأَبْوَاءِ فِي أَلْفِ مُقَنّعٍ فَبَكَى
وَأَبْكَى وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَفِي الصّحِيحِ أَيْضًا أَنّهُ قَالَ
اسْتَأْذَنْت رَبّي فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمّي ، فَأَذِنَ لِي ، وَاسْتَأْذَنْته
أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا ، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ مِنْ
حَدِيثِ بُرَيْدَةَ أَنّهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ أَرَادَ أَنْ
يَسْتَغْفِرَ لِأُمّهِ ضَرَبَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ
لَهُ لَا تَسْتَغْفِرْ لِمَنْ كَانَ مُشْرِكًا ، فَرَجَعَ وَهُوَ حَزِينٌ . وَفِي
الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ فِي غَيْر الصّحِيحِ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ بُكَائِهِ فَقَالَ
ذَكَرْت ضَعْفَهَا وَشِدّةَ عَذَابِ اللّهِ إنْ كَانَ صَحّ هَذَا . وَفِي حَدِيثٍ
آخَرَ مَا يُصَحّحُهُ وَهُوَ أَنّ رَجُلًا قَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَيْنَ
أَبِي ؟ فَقَالَ " فِي النّارِ " ، فَلَمّا وَلّى الرّجُلُ قَالَ
عَلَيْهِ السّلَامُ إنّ أَبِي وَأَبَاك فِي النّارِ وَلَيْسَ لَنَا أَنْ [ ص 299 ]
أَبَوَيْهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا
تُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ بِسَبّ الْأَمْوَاتِ وَاَللّهُ عَزّ وَجَلّ يَقُولُ { إِنّ
الّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدّنْيَا
وَالْآخِرَةِ } [ الْأَحْزَابَ : 75 ] . وَإِنّمَا قَالَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِذَلِكَ الرّجُلِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِأَنّهُ وَجَدَ فِي
نَفْسِهِ وَقَدْ قِيلَ إنّهُ قَالَ أَيْنَ أَبُوك أَنْتَ ؟ فَحِينَئِذٍ قَالَ
ذَلِكَ وَقَدْ رَوَاهُ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ بِغَيْرِ هَذَا اللّفْظِ فَلَمْ يَذْكُرْ
أَنّهُ قَالَ لَهُ إنّ أَبِي وَأَبَاك فِي النّارِ وَلَكِنْ ذَكَرَ أَنّهُ قَالَ
لَهُ إذَا مَرَرْت بِقَبْرِ كَافِرٍ فَبَشّرْهُ بِالنّارِ وَرُوِيَ حَدِيثٌ
غَرِيبٌ لَعَلّهُ أَنْ يَصِحّ . وَجَدْته بِخَطّ جَدّي أَبِي عِمْرَانَ أَحْمَدَ
بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللّهُ - بِسَنَدِ فِيهِ مَجْهُولُونَ
ذَكَرَ أَنّهُ نَقَلَهُ مِنْ كِتَابٍ اُنْتُسِخَ مِنْ كِتَابِ مُعَوّذِ بْنِ
دَاوُدَ بْنِ مُعَوّذِ الزّاهِدِ يَرْفَعُهُ إلَى [ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ ]
أَبِي الزّنَادِ عَنْ [ هِشَامِ بْنِ ] عُرْوَةَ ، عَنْ [ أَبِيهِ عَنْ ]
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - أَخْبَرَتْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَأَلَ رَبّهُ أَنْ يُحْيِيَ أَبَوَيْهِ
فَأَحْيَاهُمَا لَهُ وَآمَنَا بِهِ ثُمّ أَمَاتَهُمَا وَاَللّهُ قَادِرٌ عَلَى
كُلّ شَيْءٍ وَلَيْسَ تَعْجَزُ رَحْمَتُهُ وَقُدْرَتُهُ عَنْ شَيْءٍ وَنَبِيّهُ
عَلَيْهِ السّلَامُ أَهْلٌ أَنْ يَخُصّهُ بِمَا شَاءَ مِنْ فَضْلِهِ وَيُنْعِمَ
عَلَيْهِ بِمَا شَاءَ مِنْ كَرَامَتِهِ - صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلّمَ - قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي تَذْكِرَتِهِ : جَزَمَ أَبُو بَكْرٍ
الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ السّابِقِ وَاللّاحِقِ وَأَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ
شَاهِينَ فِي كِتَابِ النّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ لَهُ فِي الْحَدِيثِ
بِإِسْنَادَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - قَالَتْ حَجّ بِنَا
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَجّةَ الْوَدَاعِ فَمَرّ
عَلَى قَبْرِ أُمّهِ وَهُوَ بَاكٍ حَزِينٌ مُغْتَمّ ، فَبَكَيْت لِبُكَائِهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ إنّهُ نَزَلَ فَقَالَ " يَا
حُمَيْرَاءُ اسْتَمْسِكِي " . فَاسْتَنَدْت إلَى جَنْبِ الْبَعِيرِ فَمَكَثَ
عَنّي طَوِيلًا مَلِيّا ، ثُمّ إنّهُ عَادَ إلَيّ وَهُوَ فَرِحٌ مُتَبَسّمٌ
فَقَالَتْ لَهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ اللّهِ نَزَلْت مِنْ عِنْدِي ،
وَأَنْتَ بَاكٍ حَزِينٌ مُغْتَمّ . فَبَكَيْت لِبُكَائِك . ثُمّ عُدْت إلَيّ وَأَنْتَ
فَرِحٌ مُبْتَسِمٌ فَمِمّ ذَا يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ " ذَهَبْت لِقَبْرِ
آمِنَةَ أُمّي ، فَسَأَلْت أَنْ يُحْيِيَهَا ، فَأَحْيَاهَا فَآمَنَتْ بِي "
؛ أَوْ قَالَ فَآمَنَتْ . وَرَدّهَا اللّهُ عَزّ وَجَلّ
وَفَاةُ
عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَمَا رُثِيَ بِهِ مِنْ الشّعْرِ
فَلَمّا بَلَغَ [ ص 300 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثَمَانِيَ سِنِينَ
هَلَكَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْفِيلِ بِثَمَانِي
سِنِينَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
مَعْبَدِ بْنِ عَبّاسٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ تُوُفّيَ
وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ابْنُ ثَمَانِي سِنِينَ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ : أَنّ
عَبْدَ الْمُطّلِبِ لَمّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ، وَعَرَفَ أَنّهُ مَيّتٌ جَمَعَ
بَنَاتِهِ وَكُنّ سِتّ نِسْوَةٍ صَفِيّةَ وَبَرّةَ وَعَاتِكَةَ ، وَأُمّ حَكِيمٍ
الْبَيْضَاءَ وَأُمَيْمَةَ ، وَأَرْوَى ، فَقَالَ لَهُنّ ابْكِينَ عَلَيّ حَتّى
أَسْمَعَ مَا تَقُلْنَ قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلَمْ أَرَ
أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يَعْرِفُ هَذَا الشّعْرَ إلّا أَنّهُ
لَمّا رَوَاهُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ ، كَتَبْنَاهُ
فَقَالَتْ صَفِيّةُ ابْنَةُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا :
أَرِقْت لِصَوْتِ نَائِحَةٍ بِلَيْلِ ... عَلَى رَجُلٍ بِقَارِعَةِ الصّعِيدِ
فَفَاضَتْ عِنْدَ ذَلِكُمْ دُمُوعِي ... عَلَى خَدّي كَمُنْحَدِرِ الْفَرِيدِ
عَلَى رَجُلٍ كَرِيمٍ غَيْرِ وَغْلٍ ... لَهُ الْفَضْلُ الْمُبِينُ عَلَى
الْعَبِيدِ
عَلَى الْفَيّاضِ شَيْبَةَ ذِي الْمَعَالِي ... أَبِيك الْخَيْرِ وَارِثِ كُلّ
جُودِ
صَدُوقٍ فِي الْمَوَاطِنِ غَيْرِ نِكْسٍ ... وَلَا شَخْتِ الْمَقَامِ وَلَا
سَنِيدِ
طَوِيلِ الْبَاعِ أَرْوَعَ شَيْظَمِيّ ... مُطَاعٍ فِي عَشِيرَتِهِ حَمِيدِ
رَفِيعِ الْبَيْتِ أَبْلَجَ ذِي فُضُولٍ ... وَغَيْثِ النّاسِ فِي الزّمَنِ
الْحَرُودِ
كَرِيمِ الْجَدّ لَيْسَ بِذِي وُصُومٍ ... يَرُوقُ عَلَى الْمُسَوّدِ وَالْمَسُودِ
عَظِيمِ الْحِلْمِ مِنْ نَفَرٍ كِرَامٍ ... خَضَارِمَةٍ مَلَاوِثَةٍ أُسُودِ
فَلَوْ خَلَدَ امْرِئِ لِقَدِيمِ مَجْدٍ ... وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى الْخُلُودِ
لَكَانَ مُخَلّدًا أُخْرَى اللّيَالِي ... لِفَضّ الْمَجْدِ وَالْحَسَبِ التّلِيدِ
[ ص 302 ] وَقَالَتْ بَرّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا :
أَعَيْنَيّ جُودَا بِدَمْعِ دِرَرْ ... عَلَى طَيّبِ الْخِيمِ وَالْمُعْتَصَرْ
عَلَى مَاجِدِ الْجَدّ وَارِي الزّنَادِ ... جَمِيلِ الْمُحَيّا عَظِيمِ الْخَطَرْ
عَلَى شَيْبَةِ الْحَمْدِ ذِي الْمَكْرُمَاتِ ... وَذِي الْمَجْدِ وَالْعِزّ
وَالْمُفْتَخَرْ
وَذِي الْحُلْمِ وَالْفَصْلِ فِي النّائِبَاتِ ... كَثِير الْمَكَارِمِ جَمّ
الْفَجَرْ
لَهُ فَضْلُ مَجْدٍ عَلَى قَوْمِهِ ... مُنِيرٍ يَلُوحُ كَضَوْءِ الْقَمَرْ
أَتَتْهُ الْمَنَايَا ، فَلَمْ تُشْوِهِ ... بِصَرْفِ اللّيَالِي ، وَرَيْبِ
الْقَدَرْS[ ص 300 ] عَبْدِ الْمُطّلِبِ قَوْلُ صَفِيّةَ
فَفَاضَتْ عِنْدَ ذَلِكُمْ دُمُوعِي ... عَلَى خَدّي كَمُنْحَدِرِ الْفَرِيدِ
[ ص 301 ] وَقَوْلُهَا : أَبِيك الْخَيْرِ . أَرَادَتْ الْخَيّرَ فَخَفّفَتْ كَمَا
يُقَالُ هَيْنٌ وَهَيّنٌ وَفِي التّنْزِيلِ { خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرّحْمَنُ 70
] . وَكَانَ اسْمُ أُمّ الدّرْدَاءِ خَيْرَةُ بِنْتُ أَبِي حَدْرَدٍ وَكَذَلِكَ
أُمّ الْحَسَنِ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ ، اسْمُهَا : خَيْرَةُ فَهَذَا
مِنْ الْمُخَفّفِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرُ هَهُنَا هُوَ ضِدّ الشّرّ
جَعَلَتْهُ كُلّهُ خَيْرًا عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَمَا تَقُولُ مَا زَيْدٌ إلّا
عِلْمٌ أَوْ حُسْنٌ وَمَا أَنْتَ إلّا سَيْرٌ ، وَهُوَ مَجَازٌ حَسَنٌ فَعَلَى
هَذَا الْوَجْهِ لَا يُثَنّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنّثُ فَيُقَال : خَيْرَةُ .
وَقَوْلُهَا : وَلَا شَخْتِ الْمَقَامِ وَلَا سَنِيدِ الشّخْتُ [ الدّقِيقُ
الضّامِرُ لَا هُزَالًا ] ضِدّ الضّخْمِ تَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنّهُ
ضَخْمُ الْمَقَامِ ظَاهِرُهُ . وَالسّنِيدُ الضّعِيفُ الّذِي لَا يَسْتَقِلّ
بِنَفْسِهِ حَتّى يُسْنَدُ رَأْيُهُ إلَى غَيْرِهِ . وَقَوْلُهَا : خَضَارِمَةٍ
مَلَاوِثَةٍ . مَلَاوِثَةٌ جَمْعُ مِلْوَاثٍ مِنْ اللّوْثَةِ وَهِيَ الْقُوّةُ
كَمَا قَالَ الْمُكَعْبَرُ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إنْ ذُو لَوْثَةٍ لَاثَا
[ ص 302 ] قِيلَ إنّ اسْمَ اللّيْثِ مِنْهُ أُخِذَ إلّا أَنّ وَاوَه انْقَلَبَتْ
يَاءً لِأَنّهُ فَيْعَلٌ فَخُفّفَ كَمَا تَقَدّمَ فِي هَيْنٍ وَهَيّنٍ وَلَيْنٍ
وَلَيّنٍ . وَقَوْلُ بَرّةَ أَتَتْهُ الْمَنَايَا فَلَمْ تُشْوِهِ
أَيْ لَمْ تُصِبْ الشّوَى ، بَلْ أَصَابَتْ الْمَقْتَلَ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي
حَدِيثِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَضَرْبِهِ بِالْقِدَاحِ عَلَى عَبْدِ اللّهِ وَكَانَ
يَرَى أَنّ السّهْمَ إذَا خَرَجَ عَلَى غَيْرِهِ أَنّهُ قَدْ أُشْوِيَ أَيْ قَدْ
أَخْطَأَ مَقْتَلَهُ أَيْ مَقْتَلَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَابْنِهِ وَمَنْ رَوَاهُ
أَشْوَى بِفَتْحِ الْوَاوِ فَالسّهْمُ هُوَ الّذِي أَشْوَى وَأَخْطَأَ وَبِكِلَا
الضّبْطَيْنِ وَجَدْته ، وَيُقَالُ أَيْضًا : أَشْوَى الزّرْعُ إذَا أَفْرَكَ
فَالْأَوّلُ مِنْ الشّوَى ، وَهَذَا مِنْ الشّيّ بِالنّارِ قَالَهُ أَبُو
حَنِيفَةَ .
وَقَالَتْ
عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا :
أَعَيْنَيّ جُودَا ، وَلَا تَبْخَلَا ... بِدَمْعِكُمَا بَعْدَ نَوْمِ النّيَامْ
أَعَيْنَيّ وَاسْحَنْفِرَا وَاسْكُبَا ... وَشُوبَا بُكَاءَكُمَا بِالْتِدَامْ
أَعَيْنَيّ وَاسْتَخْرِطَا وَاسْجُمَا ... عَلَى رَجُلٍ غَيْرِ نِكْسٍ كَهَامْ
عَلَى الْجَحْفَلِ الْغَمْرِ فِي النّائِبَاتِ ... كَرِيمِ الْمَسَاعِي ، وَفِيّ
الذّمَامْ
عَلَى شَيْبَةِ الْحَمْدِ وَارِي الزّنَادِ ... وَذِي مَصْدَقٍ بَعْدَ ثَبْتِ
الْمَقَامْ
وَسَيْفٍ لَدَى الْحَرْبِ صَمْصَامَةٍ ... وَمِرْدَى الْمَخَاصِمِ عِنْدَ
الْخِصَامْ
وَسَهْلِ الْخَلِيقَةِ طَلْقِ الْيَدَيْنِ ... وَفٍ عُدْمِلِيّ صَمِيمٍ لُهَامْ
تَبَنّكَ فِي بَاذِخٍ بَيْتُهُ ... رَفِيعِ الذّؤَابَةِ صَعْبِ الْمَرَامْ
وَقَالَتْ أُمّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا
:
أَلَا يَا عَيْنُ جُودِي وَاسْتَهِلّي ... وَبَكّي ذَا النّدَى وَالْمَكْرُمَاتِ
أَلَا يَا عَيْنُ وَيْحَك أَسْعِفِينِي ... بِدَمْعِ مِنْ دُمُوعٍ هَاطِلَاتِ
وَبَكّي خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... أَبَاك الْخَيْرَ تَيّارَ الْفُرَاتِ
طَوِيلَ الْبَاعِ شَيْبَةَ ذَا الْمَعَالِي ... كَرِيمَ الْخَيْمِ مَحْمُودَ
الْهِبَاتِ
وَصُوَلًا لِلْقَرَابَةِ هِبْرِزِيّا ... وَغَيْثًا فِي السّنِينَ الْمُمْحِلَاتِ
وَلَيْثًا حِينَ تَشْتَجِرُ الْعَوَالِي ... تَرُوقُ لَهُ عُيُونُ النّاظِرَاتِ
عَقِيلَ بَنِي كِنَانَةَ وَالْمُرَجّى ... إذَا مَا الدّهْرُ أَقْبَلَ
بِالْهَنَاتِ
وَمَفْزَعَهَا إذَا مَا هَاجَ هَيْجٌ ... بِدَاهِيَةِ وَخَصْمِ الْمُعْضِلَاتِ
فَبَكّيهِ وَلَا تَسَمِي بِحُزْنِ ... وَبَكّي ، مَا بَقِيت ، الْبَاكِيَاتِ
وَقَالَتْ أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا :
أَلَا هَلَكَ الرّاعِي الْعَشِيرَةَ ذُو الْفَقْدِ ... وَسَاقِي الْحَجِيجِ
وَالْمُحَامِي عَنْ الْمَجْدِ
وَمَنْ يُؤْلِفُ الضّيْفَ الْغَرِيبَ بُيُوتَهُ ... إذَا مَا سَمَاءُ النّاسِ
تَبْخَلُ بِالرّعْدِ
كَسَبْتِ وَلِيدًا خَيْرَ مَا يَكْسِبُ الْفَتَى ... فَلَمْ تَنْفَكّ تَزْدَادُ
يَا شَيْبَةَ الْحَمْدِ
أَبُو الْحَارِثِ الْفَيّاضُ خَلّى مَكَانَهُ ... فَلَا تَبْعُدَنْ فَكُلّ حَيّ
إلَى بُعْدِ
فَإِنّي لَبَاكٍ - مَا بَقِيت - وَمُوجِعٌ ... وَكَانَ لَهُ أَهْلًا لَمّا كَانَ
مِنْ وَجْدِي
سَقَاك وَلِيّ النّاسِ فِي الْقَبْرِ مُمْطِرًا ... فَسَوْفَ أَبْكِيهِ وَإِنْ
كَانَ فِي اللّحْدِ
فَقَدْ كَانَ زَيْنًا لِلْعَشِيرَةِ كُلّهَا ... وَكَانَ حَمِيدًا حَيْثُ مَا
كَانَ مِنْ حَمْدِ
و عَاتِكَةَ : وَمِرْدَى الْمُخَاصِمِ الْمِرْدَى : مِفْعَلٌ مِنْ الرّدَى ،
وَهُوَ الْحَجَرُ الّذِي يَقْتُلُ [ ص 303 ] أُصِيبَ بِهِ وَفِي الْمَثَلِ كُلّ
ضَبّ عِنْدَهُ مِرْدَاتُهُ [ أَيْ يَقْرُبُ مِنْهُ حَتْفُهُ لِأَنّهُ يُرْمَى بَهْ
فَيُقْتَلُ ] . وَقَوْلُهَا : وَفٍ . أَيْ وَفِيّ ، وَخُفّفَ لِلضّرُورَةِ
وَقَوْلُهُ عُدْمِلِيّ . الْعُدْمِلِيّ [ وَالْعُدَامِلُ وَالْعُدَامِلِيّ ]
الشّدِيدُ . وَاللّهَام : فَعَالٍ مِنْ لَهِمْت الشّيْءَ أَلْهَمُهُ إذَا
ابْتَلَعْته ، قَالَ الرّاجِزُ [ رُؤْبَةُ بْن الْعَجّاجِ ] :
كَالْحُوتِ لَا يَرْوِيهِ شَيْءٌ يَلْهَمُهْ ... يُصْبِحُ عَطْشَانًا وَفِي
الْبَحْرِ فَمُهْ
[ ص 304 ] سُمّيَ الْجَيْشُ لَهَامًا . وَقَوْلُهَا : عَلَى الْجَحْفَلِ .
جَعَلَتْهُ كَالْجَحْفَلِ أَيْ يَقُومُ وَحْدَهُ مَقَامَهُ وَالْجَحْفَلُ لَفْظٌ
مَنْحُوتٌ مِنْ أَصْلِينَ مِنْ جَحَفَ وَجَفَلَ وَذَلِك أَنّهُ يُجْحِفُ مَا
يَمُرّ عَلَيْهِ أَيْ يُقَشّرُهُ وَيَجْفِلُ أَيْ يَقْلَعُ وَنَظِيرُهُ نَهْشَلُ
الذّئْبُ هُوَ عِنْدَهُمْ مَنْحُوتٌ مِنْ أَصْلَيْنِ أَيْضًا ، مِنْ نَهَشْت
اللّحْمَ وَنَشَلْته ، وَعَاتِكَةُ : اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنْ الصّفَاتِ يُقَالُ
امْرَأَةٌ عَاتِكَةٌ ، وَهِيَ الْمُصَفّرَةُ لِبَدَنِهَا بِالزّعْفَرَانِ
وَالطّيبِ . وَقَالَ الْقُتَبِيّ عَتَكَتْ الْقَوْسُ إذَا قَدُمَتْ وَبِهِ
سُمّيَتْ الْمَرْأَةُ . وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَتْ
[ ص 304 ] أَرْوَى بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا :
بَكَتْ عَيْنِي ، وَحُقّ لَهَا الْبُكَاءُ ... عَلَى سَمْحٍ سَجِيّتُهُ الْحَيَاءُ
عَلَى سَهْلِ الْخَلِيقَةِ أَبْطَحِيّ ... كَرِيمِ الْخَيْمِ نِيّتُهُ الْعَلَاءُ
عَلَى الْفَيّاضِ شَيْبَةَ ذِي الْمَعَالِي ... أَبِيك الْخَيْرِ لَيْسَ لَهُ
كِفَاءُ
طَوِيلِ الْبَاعِ أَمْلَسَ شَيْظَمِيّ ... أَغَرّ كَأَنّ غُرّتَهُ ضِيَاءُ
أَقَبّ الْكَشْحِ أَرْوَعَ ذِي فُضُولٍ ... لَهُ الْمَجْدُ الْمُقَدّمُ
وَالسّنَاءُ
أَبِيّ الضّيْمِ أَبْلَجَ هَبْرَزِيّ ... قَدِيمِ الْمَجْدِ لَيْسَ لَهُ خِفَاءُ
وَمَعْقِلِ مَالِكٍ وَرَبِيعِ فِهْرٍ ... وَفَاصِلِهَا إذَا اُلْتُمِسَ الْقَضَاءُ
وَكَانَ هُوَ الْفَتَى كَرَمًا وَجُودًا ... وَبَأْسًا حِينَ تَنْسَكِبُ الدّمَاءُ
إذَا هَابَ الْكُمَاةَ الْمَوْتُ حَتّى ... كَأَنّ قُلُوبَ أَكْثَرِهِمْ هَوَاءُ
مَضَى قُدُمًا بِذِي رُبَدٍ خَشِيب ... عَلَيْهِ حِينَ تُبْصِرهُ الْبَهَاءُ
[ ص 305 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَزَعَمَ لِي مُحَمّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيّبِ أَنّهُ أَشَارَ بِرَأْسِهِ وَقَدْ أَصْمَتَ أَنْ هَكَذَا
فَابْكِينَنِي . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْمُسَيّبُ بْنُ حَزْنِ بْنِ أَبِي وَهْبٍ
بْن عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْن عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ .Sوَقَوْلُ
أَرْوَى : وَمَعْقِلُ مَالِكٍ وَرَبِيعُ فِهْرٍ . تُرِيدُ بَنِي مَالِكِ بْنِ
النّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ . وَقَوْلُهَا : بِذِي رُبَدٍ . تُرِيدُ سَيْفًا ذَا
طَرَائِقَ . وَالرّبَدُ الطّرَائِقُ . وَقَالَ صَخْرٌ الْغَيّ [ الْهُذَلِيّ ] :
وَصَارِمٌ أُخْلِصَتْ خَشِيبَتُهُ ... أَبْيَضُ مَهْوٌ فِي مَتْنِهِ رُبَدُ
وَقَوْلُ عَاتِكَةَ : تَبَنّكَ فِي بَاذِخٍ بَيْتُهُ . أَيْ تَبَنّكَ بَيْتُهُ فِي
بَاذِخٍ مِنْ الشّرَفِ وَمَعْنَى تَبَنّكَ تَأَصّلَ مِنْ الْبُنْكِ وَهُوَ
الْأَصْلُ . وَالْبُنْكُ أَيْضًا : ضَرْبٌ مِنْ الطّيبِ وَهُوَ أَيْضًا عُودُ
السّوسِ [ شَجَرٌ يُغَمّى بِهِ الْبُيُوتُ وَيَدْخُلُ عَصِيرُهُ فِي الْأَدْوِيَةِ
وَفِي عُرُوقِهِ حَلَاوَةٌ شَدِيدَةٌ وَفِي فُرُوعِهِ مَرَارَةٌ ] . وَقَوْلُهُ
فَأَشَارَ إلَيْهِنّ بِرَأْسِهِ وَقَدْ أَصْمَتَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ
هَكَذَا قَيّدَهُ الشّيْخُ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ وَيُقَالُ صَمَتَ وَأَصْمَتَ
وَسَكَتَ وَأَسْكَتَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ [ وَسَمَحَ وَأَسْمَحَ وَعَصَفَتْ الرّيحُ
وَأَعْصَفَتْ وَطَلَعْت عَلَى الْقَوْمِ وَأَطْلَعْت . ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي
أَدَبِ الْكَاتِبِ ] .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ غَانِمٍ أَخُو بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبِ
بْنِ لُؤَيّ يَبْكِي عَبْدَ الْمُطّلِبِ بْنَ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ،
وَيَذْكُرُ فَضْلَهُ وَفَضْلَ قُصَيّ عَلَى قُرَيْشٍ ، وَفَضْلَ وَلَدِهِ مِنْ
بَعْدِهِ عَلَيْهِمْ وَذَلِك أَنّهُ أَخَذَ بِغُرْمِ أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ
بِمَكّةَ ، فَوَقَفَ بِهَا فَمَرّ بِهِ أَبُو لَهَبٍ عَبْدُ الْعُزّى بْنُ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ ، فَافْتَكّهُ
أَعَيْنَيّ جُودَا بِالدّمُوعِ عَلَى الصّدْرِ ... وَلَا تَسْأَمَا ، أُسْقِيتُمَا
سَبَلَ الْقَطْرِ
وَجُودَا بِدَمْعِ وَاسْفَحَا كُلّ شَارِقٍ ... بُكَاءَ امْرِئِ لَمْ يُشْوِهِ
نَائِبُ الدّهْرِ
وَسُحّا ، وَجُمّا ، وَاسْجُمَا مَا بَقِيتُمَا ... عَلَى ذِي حَيَاءٍ مِنْ
قُرَيْشٍ وَذِي سِتْرِ
[ ص 306 ]
عَلَى رَجُلٍ جَلْدٍ الْقُوَى ، ذِي حَفِيظَةٍ ... جَمِيلِ الْمُحَيّا غَيْرِ
نِكْسٍ وَلَا هَذْرِ
عَلَى الْمَاجِدِ الْبُهْلُولِ ذِي الْبَاعِ وَاللّهَى ... رَبِيعِ لُؤَيّ فِي
الْقُحُوطِ وَفِي الْعُسْرِ
عَلَى خَيْرِ حَافٍ مِنْ مَعَدّ وَنَاعِلٍ ... كَرِيمِ الْمَسَاعِي ، طَيّبِ
الْخَيْمِ وَالنّجْرِ
وَخَيْرِهُمُ أَصْلًا وَفَرْعًا وَمَعْدِنًا ... وَأَحْظَاهُمْ بِالْمَكْرُمَاتِ
وَبِالذّكْرِ
وَأَوْلَاهُمْ بِالْمَجْدِ وَالْحِلْمِ وَالنّهَى ... وَبِالْفَضْلِ عِنْدَ
الْمُجْحِفَاتِ مِنْ الْغُبْرِ
عَلَى شَيْبَةِ الْحَمْدِ الّذِي كَانَ وَجْهُهُ ... يُضِيءُ سَوَادَ اللّيْلِ
كَالْقَمَرِ الْبَدْرِ
وَسَاقِي الْحَجِيجِ ثُمّ لِلْخُبْزِ هَاشِمٌ ... وَعَبْدُ مَنَافٍ ذَلِك السّيّدُ
الْفِهْرِي
طَوَى زَمْرَ مَا عِنْدَ الْمَقَامِ فَأَصْبَحَتْ ... سِقَايَتُهُ فَخْرًا عَلَى
كُلّ ذِي فَخْرِ
لِيَبْكِ عَلَيْهِ كُلّ عَانّ بِكُرْبَةِ ... وَآلِ قُصَيّ مِنْ مُقِلّ وَذِي
وَفْرِ
بَنُوهُ سَرَاةٌ كَهْلُهُمْ وَشَبَابُهُمْ ... تُفَلّقُ عَنْهُمْ بَيْضَةُ
الطّائِرِ الصّقْرِ
قُصَيّ الّذِي عَادَى كِنَانَةَ كُلّهَا ... وَرَابَطَ بَيْتَ اللّهِ فِي
الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ
فَإِنْ تَكُ غَالَتْهُ الْمَنَايَا وَصَرْفُهَا ... فَقَدْ عَاشَ مَيْمُونَ
النّقِيبَةِ وَالْأَمْرِ
وَأَبْقَى رِجَالًا سَادَةً غَيْرَ عُزّلٍ ... مَصَالِيتَ أَمْثَالَ
الرّدَيْنِيّةِ السّمْرِ
أَبُو عُتْبَةَ الْمُلْقِي إلَيّ حِبَاءَهُ ... أَغَرّ هِجَانِ اللّوْنِ مِنْ
نَفَرٍ غُرّ
وَحَمْزَةُ مِثْلُ الْبَدْرِ يَهْتَزّ لِلنّدَى ... نَقِيّ الثّيَابِ وَالذّمَامِ
مِنْ الْغَدْرِ
وَعَبْدُ مَنَافٍ مَاجِدٌ ذُو حَفِيظَةٍ ... وَصُولٌ لَذِي الْقُرْبَى رَحِيمٌ
بِذِي الصّهْرِ
كُهُولُهُمْ خَيْرُ الْكُهُولِ وَنَسْلُهُمْ ... كَنَسْلِ الْمُلُوكِ لَا تَبُورُ
وَلَا تَحْرِي
[ ص 307 ]
مَتَى مَا تُلَاقِي مِنْهُمْ الدّهْرَ نَاشِئًا ... تَجِدْهُ بِإِجْرِيّا
أَوَائِلُهُ يَجْرِي
هُمْ مَلَئُوا الْبَطْحَاءَ مَجْدًا وَعِزّةً ... إذَا اسْتَبَقَ الْخَيْرَاتِ فِي
سَالِفِ الْعَصْرِ
وَفِيهِمْ بُنَاةٌ لِلْعُلَا ، وَعِمَارَةٌ ... وَعَبْدُ مَنَافٍ جَدّهُمْ جَابِرُ
الْكَسْرِ
بِإِنْكَاحِ عَوْفٍ بِنْتَه ، لِيُجِيرَنَا ... مِنْ أعدائنا إذْ أَسْلَمَتْنَا
بَنُو فِهْرِ
فَسِرْنَا تِهَامِيّ الْبِلَادِ وَنَجْدَهَا ... بِأَمْنِهِ حَتّى خَاضَتْ
الْعِيرُ فِي الْبَحْرِ
وَهُمْ حَضَرُوا وَالنّاسُ بَادٍ فَرِيقُهُمْ ... وَلَيْسَ بِهَا إلّا شُيُوخُ
بَنِي عَمْرِو
بَنَوْهَا دِيَارًا جَمّةً وَطَوَوْا بِهَا ... بِئَارًا تَسِحّ الْمَاءَ مِنْ
ثَبَجِ الْبَحْرِ
لَكَيْ يَشْرَبَ الْحُجّاجُ مِنْهَا ، وَغَيْرُهُمْ ... إذَا ابْتَدَرُوهَا صُبْحَ
تَابِعَةِ النّحْرِ
ثَلَاثَةَ أَيّامٍ تُظِلّ رِكَابَهُمْ ... مُخَيّسَةً بَيْنَ الْأَخَاشِبِ
وَالْحِجْرِ
[ ص 308 ]
وَقِدْمَا غَنِينَا قَبْلَ ذَلِكَ حِقْبَةً ... وَلَا نَسْتَقِي إلّا بِخُمّ أَوْ
الْحَفْرِ
وَهُمْ يَغْفِرُونَ الذّنْبَ يُنْقَمُ دُونَهُ ... وَيَعْفُونَ عَنْ قَوْلِ
السّفَاهَةِ وَالْهُجْرِ
وَهُمْ جَمَعُوا حِلْفَ الْأَحَابِيشِ كُلّهَا ... وَهُمْ نَكَلُوا عَنّا غُوَاةَ
بَنِي بَكْرِ
فَخَارِجَ إمّا أَهْلِكَنّ فَلَا تَزَلْ ... لَهُمْ شَاكِرًا حَتّى تُغَيّبَ فِي
الْقَبْرِ
وَلَا تَنْسَ مَا أَسْدَى ابْنُ لُبْنَى ؛ فَإِنّهُ ... قَدْ أسدى يَدًا
مَحْقُوقَةً مِنْك بِالشّكْرِ
وَأَنْت ابْن لُبْنَى مِنْ قُصَيّ إذَا انْتَمَوْا ... بِحَيْثُ انْتَهَى قَصْدُ
الْفُؤَادِ مِنْ الصّدْرِ
وَأَنْت تَنَاوَلْت الْعُلَا فَجَمَعْتهَا ... إلَى مَحْتِدٍ لِلْمَجْدِ ذِي
ثَبَجٍ جَسْرِ
سَبَقْت ، وَفُتّ الْقَوْمُ بَذْلًا وَنَائِلًا ... وَسُدْت وَلِيدًا كُلّ ذِي
سُؤْدُدٍ غَمْرِ
وَأُمّك سِرّ مِنْ خُزَاعَةَ جَوْهَرٌ ... إذَا حَصّلَ الْأَنْسَابَ يَوْمًا ذَوُو
الْخُبْرِ
إلَى سَبَإِ الْأَبْطَالِ تُنْمَى ... وَتَنْتَمِي فَأَكْرِمْ بِهَا مَنْسُوبَةً فِي
ذُرَا الزّهْرِ
[ ص 309 ]
أَبُو شِمْرٍ مِنْهُمْ وَعَمْرُو بْنُ مَالِكٍ ... وَذُو جَدَنٍ مِنْ قَوْمِهَا
وَأَبُو الْجَبْرِ
وَأَسْعَدُ قَادَ النّاسَ عِشْرِينَ حَجّةً ... يُؤَيّدُ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ
بِالنّصْرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : " أُمّك سِرّ مِنْ خُزَاعَةَ " ، يَعْنِي : أَبَا
لَهَبٍ أُمّهُ لُبْنَى بِنْتُ هَاجَرَ الْخُزَاعِيّ . وَقَوْلُهُ "
بِإِجْرِيّا أَوَائِلُهُ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .Sأَبُو
جَهْمٍ
[ ص 305 ] وَذَكَرَ شِعْرَ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ الْعَدَوِيّ ، وَهُوَ وَالِدُ
أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ وَاسْمُ أَبِي جَهْمٍ عُبَيْدٌ ، وَهُوَ الّذِي
أَهْدَى الْخَمِيصَةَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فَنَظَرَ إلَى عَلَمِهَا . الْحَدِيثُ . وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا هَذَا الْحَدِيثُ
عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- أُتِيَ بِخَمِيصَتَيْنِ فَأَعْطَى إحْدَاهُمَا أَبَا جَهْمٍ وَأَمْسَكَ
الْأُخْرَى ، وَفِيهَا عَلَمٌ فَلَمّا نَظَرَ إلَى عَلَمِهَا فِي الصّلَاةِ
أَرْسَلَهَا إلَى أَبِي جَهْمٍ وَأَخَذَ الْأُخْرَى بَدَلًا مِنْهَا ، هَكَذَا رَوَاهُ
الزّبَيْرُ . وَأُمّ أَبِي جَهْمٍ يُسَيْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَذَاةَ
بْنِ رِيَاحٍ ، وَابْنُ أَذَاةَ هُوَ خَالُ أَبِي قُحَافَةَ وَسَيَأْتِي نَسَبُ
أُمّهِ وَقَدْ قِيلَ إنّ الشّعْرَ لَحُذَافَةَ بْنِ غَانِمٍ وَهُوَ أَخُو
حُذَيْفَةَ وَالِدُ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ وَلَهُ يَقُولُ فِيهِ أَخَارِجُ إنْ
أَهْلِكْ . وَفِي الشّعْرِ غَيْرُ نِكْسٍ وَلَا هَذْرٍ . النّكْسُ مِنْ السّهَامِ
الّذِي نُكّسَ فِي الْكِنَانَةِ لِيُمَيّزَهُ الرّامِي ، فَلَا يَأْخُذُهُ
لِرَدَاءَتِهِ . وَقِيلَ الّذِي انْكَسَرَ أَعْلَاهُ فَنُكّسَ وَرُدّ أَعْلَاهُ
أَسْفَلَهُ وَهُوَ غَيْرُ جَيّدٍ لِلرّمْيِ . [ ص 306 ] تَحْرِي . أَيْ لَا
تَهْلِكُ وَلَا تُنْقَصُ وَيُقَالُ لِلْأَفْعَى : حَارِيَةٌ لِرِقّتِهَا وَفِي
الْحَدِيثِ مَا زَالَ جِسْمُ أَبِي بَكْرٍ يَحْرِي حُزْنًا عَلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيْ يَنْقُصُ لَحْمُهُ حَتّى مَاتَ
وَالْإِجْرِيّاءُ السّيرَةُ وَهِيَ إفْعِيلَاءُ مِنْ الْجَرْيِ وَلَيْسَ لَهَا
نَظِيرٌ فِي الْأَبْنِيَةِ إلّا الْإِهْجِيرَا فِي مَعْنَى الْهِجّيرَى . وَفِيهَا
قَوْلُهُ وَلَيْسَ بِهَا إلّا شُيُوخُ بَنِي عَمْرِو . يُرِيدُ بَنِي هَاشِمٍ ؛
لِأَنّ اسْمَهُ عَمْرٌو . وَفِيهَا : غَيْرُ عُزّلٍ وَهُوَ جَمْعُ أَعْزَلَ وَلَا
يُجْمَعُ أَفْعَلُ عَلَى فُعّلٍ وَلَكِنْ جَاءَ هَكَذَا ؛ لِأَنّ الْأَعْزَلَ فِي
مُقَابَلَةِ الرّامِحِ وَقَدْ يَحْمِلُونَ الصّفَةَ عَلَى ضِدّهَا ، كَمَا قَالُوا
: عَدُوّةُ - بِتَاءِ التّأْنِيثِ - حَمْلًا عَلَى صَدِيقَةٍ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ أَجْرَاهُ مَجْرَى : حُسّرٍ جَمْعُ : حَاسِرٍ [ ص 307 ]
تَهَامٌ وَشَآمٌ
وَقَوْلُهُ فَسِرْنَا تِهَامِيّ الْبِلَادِ مُخَفّفًا مِثْلَ يَمَانِيَا ، وَالْأَصْلُ
فِي يَمَانٍ يَمَنِيّ ، فَخَفّفُوا الْيَاءَ وَعَوّضُوا مِنْهَا أَلِفًا ،
وَالْأَصْلُ فِي تَهَامِ : تِهَامِيّ بِكَسْرِ التّاءِ مِنْ تَهَامِيّ لِأَنّهُ
مَنْسُوبٌ إلَى تِهَامَةَ وَلَكِنّهُمْ حَذَفُوا إحْدَى الْيَاءَيْنِ كَمَا
فَعَلُوا فِي يَمَانٍ وَفَتَحُوا التّاءَ مِنْ تَهَامٍ لَمّا حَذَفُوا الْيَاءَ
مِنْ آخِرِهِ لِتَكُونَ الْفَتْحَةُ فِيهِ كَالْعِوَضِ مِنْ الْيَاءِ كَمَا
كَانَتْ الْأَلِفُ فِي يَمَانٍ وَكَذَلِكَ الْأَلِفُ فِي شَآمٍ بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ وَأَلِفٍ بَعْدَهَا عِوَضًا مِنْ الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ فَإِنْ
شَدّدْت الْيَاءَ مِنْ شَآمٍ قُلْت : شَأْمِيّ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَتَذْهَبُ
الْأَلِفُ الّتِي كَانَتْ عِوَضًا مِنْ الْبَاءِ لِرُجُوعِ الْيَاءِ
الْمَحْذُوفَةِ وَلَا تَقُولُ فِي غَيْرِ النّسَبِ شَآمٌ بِالْفَتْحِ وَالْهَمْزِ
وَلَا فِي النّسَبِ إذَا شَدّدْت الْيَاءَ شَأْمِيّ . وَسَأَلْت الْأُسْتَاذَ
أَبَا الْقَاسِمِ بْنِ الرّمّاكِ - وَكَانَ إمَامًا فِي صَنْعَةِ الْعَرَبِيّةِ
عَنْ الْبَيْتِ الّذِي أَمْلَاهُ أَبُو عَلِيّ فِي النّوَادِرِ وَهُوَ قَوْلُهُ
أَتَظْعَنُ عَنْ حَبِيبِك ثُمّ تَبْكِي ... عَلَيْهِ فَمَنْ دَعَاك إلَى
الْفِرَاقِ
كَأَنّك لَمْ تَذُقْ لِلْبَيْنِ طَعْمًا ... فَتَعْلَمَ أَنّهُ مُرّ الْمَذَاقِ
أَقِمْ وَانْعَمْ بِطُولِ الْقُرْبِ مِنْهُ ... وَلَا تُظْعِنْ فَتُكْبَتَ
بِاشْتِيَاقِ
فَمَا اعْتَاضَ الْمُفَارِقُ مِنْ حَبِيبٍ ... وَلَوْ يُعْطَى الشّآمَ مَعَ
الْعِرَاقِ
فَقَالَ مُحَدّثٌ وَلَمْ يَرَهُ حُجّةً . وَكَذَلِكَ وَجَدْت فِي شِعْرِ حَبِيبٍ
الشّآمُ بِالْفَتْحِ كَمَا فِي هَذَا الْبَيْتِ . وَلَيْسَ بِحُجّةِ أَيْضًا . [ ص
308 ] الشّآمُ لُغَةٌ فِي الشّأْمِ قَالَ الْمَجْنُونُ
وَخُبّرْت لَيْلَى بِالشّآمِ مَرِيضَةً ... فَأَقْبَلْت مِنْ مِصْرَ إلَيْهَا
أَعُودُهَا
وَقَالَ آخَرُ
أَتَتْنَا قُرَيْشٌ قَضّهَا بِقَضِيضِهَا ... وَأَهْلُ الْحِجَازِ وَالشّآمِ
تَقَصّفُ
وَقَوْلُهُ
حَذْفُ الْيَاءِ مِنْ هَاءِ الْكِنَايَةِ
حَذْفُ الْيَاءِ مِنْ هَاءِ الْكِنَايَةِ بِأَمِنِهِ حَتّى خَاضَتْ الْعِيرُ فِي
الْبَحْرِ
ضَرُورَةٌ كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : سَأَجْعَلُ عَيْنَيْهِ لِنَفْسِهِ
مَقْنَعَا
فِي أَبْيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنْشَدَهَا سِيبَوَيْهِ ، وَهَذَا مَعَ حَذْفِ الْيَاءِ
وَالْوَاوِ وَبَقَاءِ حَرَكَةِ الْهَاءِ فَإِنْ سُكّنَتْ الْهَاءُ بَعْدَ
الْحَذْفِ فَهُوَ أَقَلّ فِي الِاسْتِعْمَالِ مِنْ نَحْوِ هَذَا ، وَأَنْشَدُوا :
وَنِضْوَايَ مُشْتَاقَانِ لَهُ أَرِقَانِ
وَهَذَا الّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ فِي الْقِيَاسِ أَقْوَى ؛ لِأَنّهُ مِنْ بَابِ
حَمْلِ الْوَصْلِ عَلَى الْوَقْفِ نَحْوَ قَوْلِ الرّاجِزِ لَمّا رَأَى أَنْ لَا
دَعَةَ وَلَا شِبَعْ
[ ص 309 ] { وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَ } [ الْأَحْزَابُ 100 ] وَهَذَا
الّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ مِنْ الضّرُورَةِ فِي هَاءِ الْإِضْمَارِ إنّمَا هُوَ
إذَا تَحَرّكَ مَا قَبْلَهَا نَحْوَ بِهِ وَلَهُ وَلَا يَكُونُ فِي هَاءِ
الْمُؤَنّثِ الْبَتّةَ لِخَفّةِ الْأَلِفِ فَإِنْ سَكَنَ مَا قَبْلَ الْهَاءِ
نَحْوَ فِيهِ وَبَنِيهِ كَانَ الْحَذْفُ أَحْسَنَ مِنْ الْإِثْبَاتِ فَإِنْ قُلْت
فَقَدْ قَرَأَ عِيسَى بْنُ مِينَا : نُصْلِهِ وَيُؤَدّهِ وَأَرْجِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ
فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا بِحَذْفِ الْيَاءِ وَقِيلَ الْهَاءُ مُتَحَرّكٌ
فَكَيْفَ حَسُنَ هَذَا ؟ قُلْنَا : إنّ مَا قَبْلَ الْهَاءِ فِي هَذِهِ
الْمَوَاضِعِ سَاكِنٌ وَهُوَ الْيَاءُ مِنْ نُصْلِيه وَيُؤَدّيه وَيُؤْتِيه ،
وَلَكِنّهُ حُذِفَ لِلْجَازِمِ فَمَنْ نَظَرَ إلَى اللّفْظِ وَأَنّ مَا قَبْلَ
الْهَاءِ مُتَحَرّكٌ أَثْبَتَ الْيَاءَ كَمَا أَثْبَتَهَا فِي : بِهِ وَلَهُ
وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْكَلِمَةِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَازِمِ رَأَى مَا قَبْلَ
الْهَاءِ سَاكِنًا ، فَحَذَفَ الْيَاءَ فَهُمَا وَجْهَانِ حَسَنَانِ بِخِلَافِ مَا
تَقَدّمَ .
مِنْ شَرْحِ قَصِيدَةِ حُذَيْفَةَ
وَذُكِرَ فِي هَذَا الشّعْرِ وَأَسْعَدُ قَادَ النّاسَ . وَهُوَ أَسْعَدُ أَبُو
حَسّانَ بْنِ أَسْعَدَ ، وَقَدْ تَقَدّمَ فِي التّبَابِعَةِ ، وَكَذَلِكَ أَبُو
شِمْرٍ ، وَهُوَ شِمْرٌ الّذِي بَنَى سَمَرْقَنْدَ ، وَأَبُوهُ مَالِكٌ يُقَالُ
لَهُ الْأُمْلُوكُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَبَا شِمْرٍ الْغَسّانِيّ
وَالِدَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ . وَعَمْرُو بْنُ مَالِكٍ الّذِي ذُكِرَ
أَحْسَبُهُ عَمْرًا ذَا الْأَذْعَارِ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي التّبَابِعَةِ ، وَهُوَ
مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ ، وَإِنّمَا جَعَلَهُمْ مَفْخَرًا لِأَبِي لَهَبٍ لِأَنّ
أُمّهُ خُزَاعِيّةٌ مِنْ سَبَأٍ ، وَالتّبَابِعَةُ كُلّهُمْ مِنْ حِمْيَرَ بْنِ
سَبَإِ وَقَدْ تَقَدّمَ الْخِلَافُ فِي خُزَاعَةَ . وَأَبُو جَبْرٍ الّذِي
ذَكَرَهُ فِي هَذَا الشّعْرِ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ ذَكَرَ الْقُتَبِيّ
أَنّ سُمَيّةَ أُمّ زِيَادٍ [ ص 310 ] كَانَتْ لِأَبِي جَبْرٍ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ
الْيَمَنِ ، دَفَعَهَا إلَى الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ الْمُتَطَبّبُ فِي طِبّ
طَبّهُ .
زَيْدٌ أَفْضَلُ إخْوَتِهِ
وَذَكَرَ وِلَايَةَ الْعَبّاسِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - السّقَايَةَ وَقَالَ
كَانَ مِنْ أَحْدَثِ إخْوَتِهِ سِنّا ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي صِفَةِ النّبِيّ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ مِنْ أَفْضَلِ قَوْمِهِ مُرُوءَةً وَهَذَا
مِمّا مَنَعَهُ النّحْوِيّونَ أَنْ يُقَالَ زَيْدٌ أَفْضَلُ إخْوَتِهِ وَلَيْسَ
بِمُمْتَنِعِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ
وَغَيْرِهِ وَحَسَنٌ لِأَنّ الْمَعْنَى : زَيْدٌ يَفْضُلُ إخْوَتَهُ أَوْ يَفْضُلُ
قَوْمَهُ وَلِذَلِكَ سَاغَ فِيهِ التّنْكِيرُ وَإِنّمَا الّذِي يَمْتَنِعُ
بِإِجْمَاعِ إضَافَةُ أَفْعَلَ إلَى التّثْنِيَةِ مِثْلُ أَنْ تَقُولَ هُوَ
أَكْرَمُ أَخَوَيْهِ إلّا أَنْ تَقُولَ الْأَخَوَيْنِ بِغَيْرِ إضَافَةٍ .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 310 ] وَقَالَ مَطْرُودُ بْنُ كَعْبٍ الْخُزَاعِيّ يَبْكِي
عَبْدَ الْمُطّلِبِ وَبَنِيّ عَبْدِ مَنَافٍ
يَا أَيّهَا الرّجُلُ الْمُحَوّلُ رَحْلُهُ ... هَلّا سَأَلْت عَنْ آلِ عَبْدِ
مَنَافِ
هَبِلَتْك أُمّك ، لَوْ حَلَلْت بِدَارِهِمْ ... ضَمِنُوك مِنْ جُرْمٍ وَمِنْ
إقْرَافِ
الْخَالِطِينَ غَنِيّهُمْ بِفَقِيرِهِمْ ... حَتّى يَعُودَ فَقِيرُهُمْ
كَالْكَافِي
الْمُنْعِمِينَ إذَا النّجُومُ تَغَيّرَتْ ... وَالظّاعِنِينَ لِرِحْلَةِ
الْإِيلَافِ
وَالْمُنْعِمِينَ إذَا الرّيَاحُ تَنَاوَحَتْ ... حَتّى تَغِيبَ الشّمْسُ فِي
الرّجّافِ
إمّا هَلَكْت أَبَا الْفِعَالِ فَمَا جَرَى ... مِنْ فَوْقِ مِثْلِك عِقْدُ ذَاتِ
نِطَافِ
إلّا أَبِيك أَخِي الْمَكَارِمِ وَحْدَهُ ... وَالْفَيْضِ مُطّلِبٍ أَبِي
الْأَضْيَافِ
[ ص 312 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا هَلَكَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ
وَلِيَ زَمْزَمَ وَالسّقَايَةَ عَلَيْهِمَا بَعْدَهُ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَحْدَثِ إخْوَتِهِ سِنّا ، فَلَمْ تَزَلْ
إلَيْهِ حَتّى قَامَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ بِيَدِهِ . فَأَقَرّهَا رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَهُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ وِلَايَتِهِ فَهِيَ
إلَى آلِ الْعَبّاسِ بِوِلَايَةِ الْعَبّاسِ إيّاهَا ، إلَى الْيَوْمِ .Sمِنْ
شَرْحِ شِعْرٍ مَطْرُودٍ
فَصْلٌ وَذُكِرَ فِي شِعْرٍ مَطْرُودٍ مَنَعُوك مِنْ جَوْرٍ وَمِنْ إقْرَافِ أَيْ
مَنَعُوك مِنْ أَنْ تَنْكِحَ بَنَاتَك أَوْ أَخَوَاتِك مِنْ لَئِيمٍ فَيَكُونُ
الِابْنُ مُقْرِفًا لِلُؤْمِ أَبِيهِ وَكَرَمِ أُمّهِ فَيَلْحَقَك وَصْمٌ مِنْ
ذَلِك ، وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهَلٍ
أَنْكَحَهَا فَقْدُهَا الْأَرَاقِمَ فِي ... جَنْبٍ وَكَانَ الْحِبَاءُ مِنْ
أَدَمِ
أَيْ أُنْكِحَتْ لِغُرْبَتِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ . قَالَ مَبْرَمَانُ أَنْشَدَنَا
أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ وَكَانَ الْخِبَاءُ مِنْ أَدَمِ بِخَاءِ مُعْجَمَةِ
الْأَعْلَى ، وَهُوَ خَطَأٌ وَتَصْحِيفٌ وَإِنّمَا هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ
وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي تَصْحِيفَاتِ ابْنِ دُرَيْدٍ وَفِيهِ قَوْلُ الْمُفْجِعِ [
الْبَصْرِيّ ] رَدّا عَلَى ابْنِ دُرَيْدٍ
أَلَسْت قِدْمًا جَعَلْت تَعْتَرِقُ ... الطّرْفَ بِجَهْلِ مَكَانٍ تَغْتَرِقُ
وَقُلْت : كَانَ الْخِبَاءُ مِنْ أَدَمٍ ... وَهُوَ حِبَاءٌ يُهْدَى ،
وَيُصْطَدَقُ
[ ص 311 ] نَزَلَ فِي جَنْبٍ وَهُوَ حَيّ وَضِيعٌ مِنْ مَذْحِجَ . فَخُطِبَتْ
ابْنَتُهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ مَنْعَهَا ، فَزَوّجَهَا ، وَكَانَ نَقْدُهَا مِنْ
أَدَمٍ فَأَنْشَدَ
أَنْكَحَهَا فَقْدُهَا الْأَرَاقِمَ فِي ... جَنْبٍ وَكَانَ الْحِبَاءُ مِنْ
أَدَمِ
لَوْ بِأَبَانِينَ جَاءَ خَاطِبُهَا ... ضُرّجَ مَا أَنْفُ خَاطِبِ بِدَمِ
وَقَوْلُهُ حَتّى تَغِيبَ الشّمْسُ بِالرّجّافِ يَعْنِي : الْبَحْرَ . لِأَنّهُ
يَرْجُفُ . وَمِنْ أَسْمَائِهِ أَيْضًا : خُضَارَةُ [ سُمّيَ بِذَلِك لِخُضْرَةِ
مَائِهِ ] . وَالدّأْمَاءُ [ سُمّيَ بِذَلِكَ لِتَدَاؤُمِ أَمْوَاجِهِ أَيْ
تَرَاكُمِهَا ، وَتَكَسّرِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ] وَأَبُو خَالِدٍ . وَقَوْلُهُ
عِقْدُ ذَاتِ نِطَافِ . النّطَفُ اللّؤْلُؤُ الصّافِي . وَوَصِيفَةٌ مُنَطّفَةٌ [
وَمُتَنَطّفَةٌ ] أَيْ مُقَرّطَةٌ بِتُومَتَيْنِ [ وَالتّومَةُ اللّؤْلُؤَةُ أَوْ
حَبّةٌ تُعْمَلُ مِنْ الْفِضّةِ كَالدّرّةِ ] وَالنّطَفُ فِي غَيْرِ هَذَا :
التّلَطّخُ بِالْعَيْبِ وَكِلَاهُمَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَا فِي
الظّاهِرِ مُتَضَادّيْنِ فِي الْمَعْنَى ؛ لِأَنّ النّطْفَةَ هِيَ الْمَاءُ
الْقَلِيلُ وَقَدْ يَكُونُ الْكَثِيرَ وَكَأَنّ اللّؤْلُؤَ الصّافِيَ أُخِذَ مِنْ
صَفَاءِ النّطْفَةِ . وَالنّطَفُ الّذِي هُوَ الْعَيْبُ أُخِذَ مِنْ نُطْفَةٍ
الْإِنْسَانِ وَهِيَ مَاؤُهُ أَيْ كَأَنّهُ لُطّخَ بِهَا . وَقَوْلُهُ وَالْفَيْضِ
مُطّلِبٍ أَبِي الْأَضْيَافِ . يُرِيدُ أَنّهُ كَانَ لِأَضْيَافِهِ كَالْأَبِ .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلّ جَوَادٍ أَبُو الْأَضْيَافِ . كَمَا قَالَ مُرّةُ بْنُ
مَحْكَانَ [ السّعْدِيّ التّمِيمِيّ سَيّدُ بَنِي رَبِيعٍ ] :
أُدْعَى أَبَاهُمْ وَلَمْ أَقْرِفْ بِأُمّهِمْ ... وَقَدْ عَمِرْت . وَلَمْ
أَعْرِفْ لَهُمْ نَسَبًا
كَفَالَةُ
أَبِي طَالِبٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ [ ص 313 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَعْدَ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ مَعَ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ - فِيمَا
يَزْعُمُونَ - يُوصِي بِهِ عَمّهُ أَبَا طَالِبٍ وَذَلِكَ لِأَنّ عَبْدَ اللّهِ أَبَا
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَبَا طَالِبٍ أَخَوَانِ
لِأَبٍ وَأُمّ أُمّهُمَا : فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ
بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومِ [ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ ] . قَالَ ابْنُ
هَاشِمٍ عَائِذُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ
أَبُو طَالِبٍ هُوَ الّذِي يَلِي أَمْرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بَعْدَ جَدّهِ فَكَانَ إلَيْهِ وَمَعَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، أَنّ
أَبَاهُ حَدّثَهُ أَنّ رَجُلًا مِنْ لَهَبٍ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلَهَبٌ مِنْ
أَزْدِ شَنُوءَةَ - كَانَ عَائِفًا ، فَكَانَ إذَا قَدِمَ مَكّةَ أَتَاهُ رِجَالُ
قُرَيْشٍ بِغِلْمَانِهِمْ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَيَعْتَافُ لَهُمْ فِيهِمْ . قَالَ
فَأَتَى بِهِ أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ غُلَامٌ مَعَ مَنْ يَأْتِيهِ فَنَظَرَ إلَى
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ شَغَلَهُ عَنْهُ شَيْءٌ
فَلَمّا فَرَغَ قَالَ " الْغُلَامُ . عَلَيّ بِهِ " ، فَلَمّا رَأَى
أَبُو طَالِبٍ حِرْصَهُ عَلَيْهِ غَيّبَهُ عَنْهُ فَجَعَلَ يَقُولُ "
وَيْلَكُمْ رُدّوا عَلَيّ الْغُلَامَ الّذِي رَأَيْت آنِفًا ، فَوَاَللّهِ
لَيَكُونَنّ لَهُ شَأْنٌ " . قَالَ فَانْطَلَقَ أَبُو طَالِبٍ .Sفِي
كَفَالَةِ الْعَمّ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ كَوْنَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي كَفَالَةِ
عَمّهِ يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ . فَمِنْ حِفْظِ اللّهُ لَهُ فِي ذَلِكَ أَنّهُ
كَانَ يَتِيمًا لَيْسَ لَهُ أَبٌ يَرْحَمُهُ وَلَا أُمّ تَرْأَمُهُ لِأَنّهَا
مَاتَتْ وَهُوَ صَغِيرٌ وَكَانَ عِيَالُ أَبِي طَالِبٍ ضَفَفًا ، وَعَيْشُهُمْ
شَظَفًا ، فَكَانَ يُوضَعُ الطّعَامُ لَهُ وَلِلصّبْيَةِ مِنْ أَوْلَادِ أَبِي
طَالِبٍ فَيَتَطَاوَلُونَ إلَيْهِ وَيَتَقَاصَرُ هُوَ وَتَمْتَدّ أَيْدِيهِمْ
وَتَنْقَبِضُ يَدُهُ تَكَرّمًا مِنْهُ وَاسْتِحْيَاءً وَنَزَاهَةَ نَفْسٍ
وَقَنَاعَةَ قَلْبٍ فَيُصْبِحُونَ غُمْصًا رُمْصًا ، مُصْفَرّةً أَلْوَانُهُمْ
وَيُصْبِحُ هُوَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - صَقِيلًا دَهِينًا كَأَنّهُ فِي أَنْعَمِ
عَيْشٍ وَأَعَزّ كِفَايَةٍ لُطْفًا مِنْ اللّهِ - عَزّ وَجَلّ - بِهِ . كَذَلِكَ
ذَكَرَهُ الْقُتَبِيّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ .
اللّهَبِيّ الْعَائِفُ
فَصْلٌ وَذُكِرَ خَبَرُ اللّهَبِيّ الْعَائِفِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلَهَبُ
حَيّ مِنْ الْأَزْدِ : وَقَالَ غَيْرُهُ وَهُوَ لَهَبُ بْنُ أَحْجَن بْنِ كَعْبِ
بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَصْرِ بْنِ
الْأَزْدِ . وَهِيَ الْقَبِيلَةُ الّتِي تُعْرَفُ بِالْعِيَافَةِ وَالزّجْرِ .
وَمِنْهُمْ اللّهَبِيّ الّذِي زَجَرَ حِينَ وَقَعَتْ [ ص 312 ] الْحَصَاةُ
بِصَلْعَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فَأَدْمَتْهُ وَذَلِك فِي الْحَجّ
فَقَالَ أُشْعِرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ . وَاَللّهِ لَا يَحُجّ بَعْدَ هَذَا
الْعَامِ فَكَانَ كَذَلِكَ وَاللّهَبُ شَقّ فِي الْجَبَلِ [ وَالْجَمْعُ أَلْهَابٌ
وَلُهُوبٌ ] وَبَنُو ثُمَالَةَ رَهْطُ الْمُبَرّدِ الثّمَالِيّ هُمْ بَنُو
أَسْلَمَ بْنِ أَحْجَن بْنِ كَعْب ٍ . وَثُمَالَةُ أُمّهُمْ . وَكَانَتْ
الْعِيَافَةُ وَالزّجْرُ فِي لَهَبٍ قَالَ الشّاعِرُ
سَأَلْت أَخَا لَهَبٍ لِيَزْجُرَ زَجْرَةً ... وَقَدْ رُدّ زَجْرُ الْعَالَمِينَ
إلَى لَهَبٍ
وَقَوْلُهُ لِيَعْتَافَ لَهُمْ وَهُوَ يَفْتَعِلُ مِنْ الْعَيْفِ . يُقَالُ عِفْت
الطّيْرَ . وَاعْتَفْتُهَا عِيَافَةً وَاعْتِيَافًا : وَعِفْت الطّعَامَ أَعَافُهُ
عَيْفًا . وَعَافَتْ الطّيْرُ الْمَاءَ عِيَافًا .
قِصّةُ
بَحِيرَى
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ فِي رَكْبٍ تَاجِرًا إلَى
الشّامِ ، فَلَمّا تَهَيّأَ لِلرّحِيلِ وَأَجْمَع الْمَسِيرَ صَبّ بِهِ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - فَرَقّ لَهُ وَقَالَ
وَاَللّهِ [ ص 314 ] ، وَلَا يُفَارِقُنِي ، وَلَا أُفَارِقُهُ أَبَدًا ، أَوْ
كَمَا قَالَ . فَخَرَجَ بِهِ مَعَهُ فَلَمّا نَزَلَ الرّكْبُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ
الشّامِ ، وَبِهَا رَاهِبٌ يُقَالُ لَهُ بَحِيرَى فِي صَوْمَعَةٍ لَهُ وَكَانَ
إلَيْهِ عِلْمُ أَهْلِ النّصْرَانِيّةِ ، وَلَمْ يَزَلْ فِي تِلْكَ الصّوْمَعَةِ
مُنْذُ قَطّ رَاهِبٌ إلَيْهِ يَصِيرُ عِلْمُهُمْ عَنْ كِتَابٍ فِيهَا - فِيمَا
يَزْعُمُونَ يَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ . فَلَمّا نَزَلُوا ذَلِكَ
الْعَامَ بِبَحِيرَى ، وَكَانُوا كَثِيرًا مَا يَمُرّونَ بِهِ قَبْلَ ذَلِك ،
فَلَا يُكَلّمُهُمْ وَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ حَتّى كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ . فَلَمّا
نَزَلُوا بِهِ قَرِيبًا مِنْ صَوْمَعَتِهِ صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا كَثِيرًا ، وَذَلِكَ
- فِيمَا يَزْعُمُونَ - عَنْ شَيْءٍ رَآهُ وَهُوَ فِي صَوْمَعَتِهِ يَزْعُمُونَ
أَنّهُ رَأَى رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ فِي
صَوْمَعَتِهِ فِي الرّكْبِ حِينَ أَقْبَلُوا ، وَغَمَامَةٌ تُظِلّهُ مِنْ بَيْنِ
الْقَوْمِ . قَالَ ثُمّ أَقْبَلُوا فَنَزَلُوا فِي ظِلّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْهُ
فَنَظَرَ إلَى الْغَمَامَةِ حِينَ أَظَلّتْ الشّجَرَةَ ، وَتَهَصّرَتْ أَغْصَانُ
الشّجَرَةِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَتّى
اسْتَظَلّ تَحْتَهَا ، فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ بَحِيرَى نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ
وَقَدْ أَمَرَ بِذَلِكَ الطّعَامِ فَصُنِعَ ثُمّ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ فَقَالَ إنّي
قَدْ صَنَعْت لَكُمْ طَعَامًا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، فَأَنَا أُحِبّ أَنْ
تَحْضُرُوا كُلّكُمْ صَغِيرُكُمْ وَكَبِيرُكُمْ عَبْدُكُمْ وَحُرّكُمْ فَقَالَ لَهُ
رَجُلٌ مِنْهُمْ وَاَللّهِ يَا بَحِيرَى إنّ لَك لَشَأْنًا الْيَوْمَ مَا كُنْت
تَصْنَعُ هَذَا بِنَا ، وَقَدْ كُنّا نَمُرّ بِك كَثِيرًا ، فَمَا شَأْنُك
الْيَوْمَ ؟ قَالَ لَهُ [ ص 315 ] بَحِيرَى : صَدَقْت ، قَدْ كَانَ مَا تَقُولُ
وَلَكِنّكُمْ ضَيْفٌ وَقَدْ أَحْبَبْت أَنْ أُكْرِمَكُمْ وَأَصْنَعَ لَكُمْ
طَعَامًا ، فَتَأْكُلُوا مِنْهُ كُلّكُمْ . فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ وَتَخَلّفَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ
لِحَدَاثَةِ سِنّهِ فِي رِحَالِ الْقَوْمِ تَحْتَ الشّجَرَةِ ، فَلَمّا نَظَرَ
بَحِيرَى فِي الْقَوْمِ لَمْ يَرَ الصّفَةَ الّتِي يَعْرِفُ وَيَجِدُ عِنْدَهُ
فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ : لَا يَتَخَلّفَنّ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَنْ طَعَامِي
، قَالُوا لَهُ يَا بَحِيرَى ، مَا تَخَلّفَ عَنْك أَحَدٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يَأْتِيَك إلّا غُلَامٌ وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ سِنّا ، فَتَخَلّفَ فِي
رِحَالِهِمْ فَقَالَ لَا تَفْعَلُوا ، اُدْعُوهُ فَلْيَحْضُرْ هَذَا الطّعَامَ
مَعَكُمْ قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَ الْقَوْمِ وَاَللّاتِي
وَالْعُزّى ، إنْ كَانَ لَلُؤْمٌ بِنَا أَنْ يَتَخَلّفَ ابْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عَبْدِ الْمُطّلِبِ عَنْ طَعَامٍ مِنْ بَيْنِنَا ، ثُمّ قَامَ إلَيْهِ
فَاحْتَضَنَهُ وَأَجْلَسَهُ مَعَ الْقَوْمِ . فَلَمّا رَآهُ بَحِيرَى ، جَعَلَ
يَلْحَظُهُ لَحْظًا شَدِيدًا ، وَيَنْظُرُ إلَى أَشْيَاءَ مِنْ جَسَدِهِ وَقَدْ كَانَ
يَجِدُهَا عِنْدَهُ مِنْ صِفَتِهِ حَتّى إذَا فَرَغَ الْقَوْمُ مِنْ طَعَامِهِمْ
وَتَفَرّقُوا ، قَامَ إلَيْهِ بَحِيرَى ، فَقَالَ يَا غُلَامُ أَسْأَلُك بِحَقّ
اللّاتِي وَالْعُزّى إلّا مَا أَخْبَرْتنِي عَمّا أَسْأَلُك عَنْهُ وَإِنّمَا
قَالَ لَهُ بَحِيرَى ذَلِكَ لِأَنّهُ سَمِعَ قَوْمَهُ يَحْلِفُونَ بِهِمَا ،
فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ " لَا
تَسْأَلْنِي بِاَللّاتِي وَالْعُزّى شَيْئًا ، فَوَاَللّهِ مَا أَبْغَضْت شَيْئًا
قَطّ بُغْضَهُمَا " ، فَقَالَ لَهُ بَحِيرَى : فَبِاَللّهِ إلّا مَا
أَخْبَرْتنِي عَمّا أَسْأَلُك عَنْهُ فَقَالَ لَهُ " سَلْنِي عَمّا بَدَا لَك
" . فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ حَالِهِ مِنْ نَوْمِهِ
وَهَيْئَتِهِ وَأُمُورِهِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يُخْبِرُهُ فَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا عِنْدَ بَحِيرَى مِنْ صِفَتِهِ ثُمّ نَظَرَ
إلَى ظَهْرِهِ فَرَأَى خَاتَمَ النّبُوّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَلَى مَوْضِعِهِ
مِنْ صِفَتِهِ الّتِي عِنْدَهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ مِثْلَ أَثَرِ
الْمِحْجَمِ . [ ص 316 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى
عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ مَا هَذَا الْغُلَامُ مِنْك ؟ قَالَ ابْنِي .
قَالَ لَهُ بَحِيرَى : مَا هُوَ بِابْنِك ، وَمَا يَنْبَغِي لِهَذَا الْغُلَامِ
أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيّا ، قَالَ فَإِنّهُ ابْنُ أَخِي ، قَالَ فَمَا فَعَلَ
أَبُوهُ ؟ قَالَ مَاتَ وَأُمّهُ حُبْلَى بِهِ قَالَ صَدَقْت ، فَارْجِعْ بِابْنِ
أَخِيك إلَى بَلَدِهِ وَاحْذَرْ عَلَيْهِ يَهُودَ فَوَاَللّهِ لَئِنْ رَأَوْهُ
وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْت لِيَبْغُنّهُ شَرّا ، فَإِنّهُ كَائِنٌ لَابْن
أَخِيك هَذَا شَأْنٌ عَظِيمٌ فَأَسْرِعْ بِهِ إلَى بِلَادِهِ [ ص 317 ] فَخَرَجَ
بِهِ عَمّهُ أَبُو طَالِبٍ سَرِيعًا ، حَتّى أَقْدَمَهُ مَكّةَ حِينَ فَرَغَ مِنْ
تِجَارَتِهِ بِالشّامِ فَزَعَمُوا فِيمَا رَوَى النّاسُ أَنّ زُرَيْرًا وَتَمّامًا
وَدَرِيسًا - وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - قَدْ كَانُوا رَأَوْا مِنْ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِثْلَ مَا رَآهُ بَحِيرَى فِي
ذَلِكَ السّفَرِ الّذِي كَانَ فِيهِ مَعَ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ فَأَرَادُوهُ
فَرَدّهُمْ عَنْهُ بَحِيرَى ، وَذَكّرَهُمْ اللّهَ وَمَا يَجِدُونَ فِي الْكِتَابِ
مِنْ ذِكْرِهِ وَصِفَتِهِ وَأَنّهُمْ إنْ أَجْمَعُوا لِمَا أَرَادُوا بِهِ لَمْ
يَخْلُصُوا إلَيْهِ وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتّى عَرَفُوا مَا قَالَ لَهُمْ
وَصَدّقُوهُ بِمَا قَالَ فَتَرَكُوهُ وَانْصَرَفُوا عَنْهُ . فَشَبّ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَاَللّهُ تَعَالَى يَكْلَؤُهُ
وَيَحْفَظُهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ أَقْذَارِ الْجَاهِلِيّةِ لِمَا يُرِيدُ بِهِ مِنْ
كَرَامَتِهِ وَرِسَالَتِهِ حَتّى بَلَغَ أَنْ كَانَ رَجُلًا أَفْضَلَ قَوْمِهِ
مُرُوءَةً وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا ، وَأَكْرَمَهُمْ حَسَبًا ، وَأَحْسَنَهُمْ
جِوَارًا ، وَأَعْظَمَهُمْ حِلْمًا ، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا ، وَأَعْظَمَهُمْ
أَمَانَةً وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ الْفُحْشِ وَالْأَخْلَاقِ الّتِي تُدَنّسُ
الرّجَالَ تَنَزّهًا وَتَكَرّمًا ، حَتّى مَا اسْمُهُ فِي قَوْمِهِ إلّا
الْأَمِينُ لِمَا جَمَعَ اللّهُ فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ الصّالِحَةِ . [ ص 318 ]
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا ذُكِرَ لِي -
يُحَدّثُ عَمّا كَانَ اللّهُ يَحْفَظُهُ بِهِ فِي صِغَرِهِ وَأَمْرِ جَاهِلِيّتِهِ
أَنّهُ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتنِي فِي غِلْمَانِ قُرَيْشٍ نَنْقُلُ حِجَارَةً
لِبَعْضِ مَا يَلْعَبُ بِهِ الْغِلْمَانُ كُلّنَا قَدْ تَعَرّى ، وَأَخَذَ
إزَارَهُ فَجَعَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ فَإِنّي
لَأُقْبِل مَعَهُمْ كَذَلِكَ وَأُدْبِرُ إذْ لَكَمَنِي لَاكِمٌ مَا أَرَاهُ
لَكْمَةً وَجِيعَةً ثُمّ قَالَ شُدّ عَلَيْك إزَارَك . قَالَ فَأَخَذْته
وَشَدَدْته عَلَيّ ثُمّ جَعَلْت أَحْمِلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رَقَبَتِي وَإِزَارِي
عَلَيّ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِيSقِصّةُ
بَحِيرَى
[ ص 313 ] بَحِيرَى وَسَفَرِ أَبِي طَالِبٍ بِالنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَقَعَ فِي سِيَرِ الزّهْرِيّ أَنّ [ ص 314 ] بَحِيرَى كَانَ حَبْرًا
مِنْ يَهُودِ تَيْمَاءَ ، وَفِي الْمَسْعُودِيّ : أَنّهُ كَانَ مِنْ عَبْدِ
الْقَيْسِ وَاسْمُهُ سَرْجِسُ وَفِي الْمَعَارِفِ لَابْنِ قُتَيْبَةَ قَالَ سُمِعَ
قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِقَلِيلِ هَاتِفٌ يَهْتِفُ أَلَا إنّ خَيْرَ أَهْلِ
الْأَرْضِ ثَلَاثَةٌ بَحِيرَى ، وَرِبَابُ بْنُ الْبَرَاءِ الشّنّيّ وَالثّالِثُ
الْمُنْتَظَرُ فَكَانَ الثّالِثُ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- قَالَ الْقُتَبِيّ وَكَانَ قَبْرُ رِبَابٍ الشّنّيّ وَقَبْرُ وَلَدِهِ مِنْ
بَعْدِهِ لَا يَزَالُ يُرَى عَلَيْهَا طَشّ ، وَالطّشّ : الْمَطَرُ الضّعِيفُ .
وَقَالَ فِيهِ فَصَبّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِعَمّهِ
. الصّبَابَةُ رِقّةُ الشّوْقِ يُقَالُ صَبِبْت - بِكَسْرِ الْبَاءِ - أَصَبّ ،
وَيُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ السّلَفِ أَنّهُ قَرَأَ { أَصْبُ إِلَيْهِنّ وَأَكُنْ مِنَ
الْجَاهِلِينَ } [ يُوسُفُ 33 ] . وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي بَحْرٍ ضَبَثَ
بِهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَيْ لَزِمَهُ قَالَ الشّاعِرُ
كَأَنّ فُؤَادِي فِي يَدٍ ضَبَثَتْ بِهِ ... مُحَاذِرَةً أَنْ يَقْضِبَ الْحَبْلَ
قَاضِبُهُ
فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إذْ ذَاكَ ابْنَ
تِسْعِ سِنِينَ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ أَلّفَ فِي السّيَرِ وَقَالَ الطّبَرِيّ
: ابْنَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً . [ ص 315 ] وَذُكِرَ فِيهِ خَاتَمُ النّبُوّةِ
وَقَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ : كَانَ كَأَثَرِ الْمِحْجَمِ يَعْنِي : أَثَرَ
الْمِحْجَمَةِ الْقَابِضَةِ عَلَى اللّحْمِ حَتّى يَكُونَ نَاتِئًا . وَفِي
الْخَبَرِ أَنّهُ كَانَ حَوْلَهُ حِيلَانٌ فِيهَا شَعَرَاتٌ سُودٌ . وَفِي
صِفَتِهِ أَيْضًا أَنّهُ كَانَ كَالتّفّاحَةِ وَكَزِرّ الْحَجَلَةِ وَفَسّرَهُ
التّرْمِذِيّ تَفْسِيرًا وَهِمَ فِيهِ فَقَالَ زِرّ الْحَجَلَةِ يُقَالُ إنّهُ
بُيّضَ لَهُ فَتَوَهّمَ الْحَجَلَةَ مِنْ الْقَبَجِ وَإِنّمَا هِيَ حَجَلَةُ السّرِيرِ
، وَاحِدَةُ الْحِجَالِ وَزِرّهَا الّذِي يَدْخُلُ فِي عُرْوَتِهَا - قَالَ عَلِيّ
- رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ - لِأَهْلِ الْعِرَاقِ : يَا أَشْبَاهَ الرّجَالِ
وَلَا رِجَالُ وَيَا طَغَامَ الْأَحْلَامِ وَيَا عُقُولَ رَبّاتِ الْحِجَالِ .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ كَانَ كَبَيْضَةِ الْحَمَامَةِ وَفِي حَدِيثِ عَيّاذِ بْنِ
عَبْدِ عَمْرٍو ، قَالَ رَأَيْت خَاتَمَ النّبُوّةِ وَكَانَ كَرُكْبَةِ الْعَنْزِ
. ذَكَرَهُ النّمِرِيّ مُسْنَدًا فِي كِتَابِ الِاسْتِيعَابِ فَهَذِهِ خَمْسُ
رِوَايَاتٍ فِي صِفَةِ الْخَاتَمِ [ ص 316 ] سَرْجِسَ قَالَ رَأَيْت خَاتَمَ
النّبُوّةِ كَالْجُمْعِ يَعْنِي : كَالْمِحْجَمَةِ [ وَفِي الْآلَةِ الّتِي
يَجْتَمِعُ بِهَا دَمُ الْحِجَامَةِ عِنْدَ الْمَصّ ] لَا كَجُمْعِ الْكَفّ
وَمَعْنَاهُ كَمَعْنَى الْأَوّلِ أَيْ كَأَثَرِ الْجُمْعِ . وَقَدْ قِيلَ فِي الْجُمْعِ
إنّهُ جُمْعُ الْكَفّ قَالَهُ الْقُتَبِيّ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَرِوَايَةٌ
سَابِعَةٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَقَدْ سُئِلَ
عَنْ خَاتَمِ النّبُوّةِ فَقَالَ بِضْعَةٌ نَاشِزَةٌ هَكَذَا : وَوَضَعَ طَرَفَ
السّبّابَةِ فِي مِفْصَلِ الْإِبْهَامِ أَوْ دُونَ الْمِفْصَلِ ذَكَرَهَا يُونُسُ
عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَفِي صِفَتِهِ أَيْضًا رِوَايَةٌ ثَامِنَةٌ وَهِيَ
رِوَايَةُ مَنْ شَبّهَهُ بِالسّلْعَةِ وَذَلِكَ لِنُتُوّهِ وَقَدْ تَقَدّمَ
حَدِيثٌ فِيهِ عَنْ أَبِي ذَرّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا بَيَانُ
وَضْعِ الْخَاتَمِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مَتَى كَانَ وَرَوَى التّرْمِذِيّ فِي
مُصَنّفِهِ قَالَ حَدّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ أَبُو الْعَبّاسِ الْأَعْرَجُ
الْبَغْدَادِيّ ، حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ غَزْوَانَ أَبُو نُوحٍ أَخْبَرَنَا
يُونُسُ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إلَى الشّامِ ، وَخَرَجَ مَعَهُ النّبِيّ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَلَمّا أَشْرَفُوا
عَلَى الرّاهِبِ هَبَطُوا ، فَحَلّوا رِحَالَهُمْ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ الرّاهِبُ
وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إلَيْهِمْ وَلَا
يَلْتَفِتُ فَجَعَلَ يَتَخَلّلُهُمْ الرّاهِبُ وَهُمْ يَحِلّونَ رِحَالَهُمْ حَتّى
جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقَالَ
هَذَا سَيّدُ الْعَالَمِينَ هَذَا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ يَبْعَثُهُ اللّهُ
رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ . فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ : مَا عِلْمُك ؟
. فَقَالَ إنّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنْ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ حَجَرٌ وَلَا
شَجَرٌ إلّا خَرّ سَاجِدًا : وَلَا يَسْجُدَانِ إلّا لِنَبِيّ وَإِنّي أَعْرِفُهُ
بِخَاتَمِ النّبُوّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ . وَيُقَالُ غُرْضُوفٌ
مِثْلُ التّفّاحَةِ . ثُمّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا ، فَلَمّا أَتَاهُمْ
بِهِ - وَكَانَ هُوَ فِي رَعِيّةِ الْإِبِلِ - قَالَ أَرْسِلُوا إلَيْهِ .
فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلّهُ فَلَمّا دَنَا مِنْ الْقَوْمِ
وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إلَى فَيْءِ الشّجَرَةِ ، فَلَمّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ
الشّجَرَةِ عَلَيْهِ فَقَالَ اُنْظُرُوا إلَى فَيْءِ الشّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ
قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ [ ص 317 ] الرّومِ ، فَإِنّ الرّومَ إنْ رَأَوْهُ
عَرَفُوهُ بِالصّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ فَالْتَفَتَ فَإِذَا سَبْعَةٌ قَدْ
أَقْبَلُوا مِنْ الرّومِ ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ فَقَالَ مَا جَاءَ بِكُمْ فَقَالُوا
: جِئْنَا أَنّ هَذَا النّبِيّ خَارِجٌ فِي هَذَا الشّهْرِ فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ
إلّا بُعِثَ إلَيْهِ بِأُنَاسِ وَإِنّا قَدْ اخْتَرْنَا خِيرَةَ بَعْثِنَا إلَى
طَرِيقِك هَذَا ، فَقَالَ هَلْ خَلْفَكُمْ أَحَدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ فَقَالُوا
: إنّمَا اخْتَرْنَا خِيرَةً لِطَرِيقِك هَذَا ، قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا
أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ النّاسِ رَدّهُ ؟
قَالُوا : لَا ، قَالَ فَبَايَعُوهُ وَأَقَامُوا مَعَهُ . قَالَ أَنْشُدُكُمْ
بِاَللّهِ أَيّكُمْ وَلِيّهُ ؟ قَالُوا : أَبُو طَالِبٍ فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ
حَتّى رَدّهُ أَبُو طَالِبٍ وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بَلَالًا - رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُمَا - وَزَوّدَهُ الرّاهِبُ مِنْ الْكَعْكِ وَالزّيْتِ قَالَ أَبُو
عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
. وَمِمّا قَالَهُ أَبُو طَالِبٍ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ
أَلَمْ تَرَنِي مِنْ بَعْدِ هَمّ هَمَمْته ... بِفُرْقَةِ حُرّ الْوَالِدَيْنِ
كِرَامِ
بِأَحْمَدَ لَمّا أَنْ شَدَدْت مَطِيّتِي ... لِتَرْحَلَ إذْ وَدّعْته بِسَلَامِ
بَكَى حُزْنًا وَالْعِيسُ قَدْ فَصَلَتْ بِنَا ... وَأَمْسَكْت بِالْكَفّيْنِ
فَضْلَ زِمَامِ
ذَكَرْت أَبَاهُ ثُمّ رَقْرَقَتْ عَبْرَةٌ ... تَجُودُ مِنْ الْعَيْنَيْنِ ذَاتُ
سِجَامِ
فَقُلْت : تَرُوحُ رَاشِدًا فِي عُمُومَةٍ ... مُوَاسِينَ فِي الْبَأْسَاءِ غَيْرِ
لِئَامِ
فَرُحْنَا مَعَ الْعِيرِ الّتِي رَاحَ أَهْلُهَا ... شَآمِيّ الْهَوَى ،
وَالْأَصْلُ غَيْرُ شَآمِي
فَلَمّا هَبَطْنَا أَرْضَ بُصْرَى تَشَرّفُوا ... لَنَا فَوْقَ دُورٍ يَنْظُرُونَ
جِسَامِ
فَجَاءَ بَحِيرَى عِنْدَ ذَلِكَ حَاشِدًا ... لَنَا بِشَرَابِ طَيّبٍ وَطَعَامٍ
فَقَالَ اجْمَعُوا أَصْحَابَكُمْ لِطَعَامِنَا ... فَقُلْنَا : جَمَعْنَا
الْقَوْمَ غَيْرَ غُلَامٍ
ذَ كَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْهُ وَذَكَرَ بَاقِيَ الشّعْرِ
. حَفِظَهُ فِي الصّغَرِ فَصْلٌ وَذَكَرَ مَا كَانَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
يَحْفَظُهُ بِهِ أَنّهُ كَانَ صَغِيرًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَتَعَرّى
فَلَكَمَهُ لَاكِمٌ . الْحَدِيثُ . وَهَذِهِ الْقِصّةُ إنّمَا وَرَدَتْ فِي
الْحَدِيثِ الصّحِيحِ فِي حِينِ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَنْقُلُ الْحِجَارَةَ مَعَ قَوْمِهِ إلَيْهَا ،
وَكَانُوا يَجْعَلُونَ أُزُرَهُمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ لِتَقِيهِمْ الْحِجَارَةَ
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَحْمِلُهَا عَلَى
عَاتِقِهِ وَإِزَارُهُ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْعَبّاسُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ يَا ابْنَ أَخِي لَوْ جَعَلْت إزَارَك عَلَى عَاتِقِك ، فَفَعَلَ فَسَقَطَ
مَغْشِيّا عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ إزَارِي إزَارِي فَشُدّ عَلَيْهِ إزَارُهُ وَقَامَ
يَحْمِلُ الْحِجَارَةَ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّهُ لَمّا سَقَطَ ضَمّهُ الْعَبّاسُ
إلَى نَفْسِهِ وَسَأَلَهُ عَنْ شَأْنِهِ فَأَخْبَرَهُ أَنّهُ نُودِيَ مِنْ
السّمَاءِ أَنْ اُشْدُدْ عَلَيْك إزَارَك يَا مُحَمّدُ قَالَ وَإِنّهُ لَأَوّلُ
مَا نُودِيَ وَحَدِيثُ ابْنِ إسْحَاقَ ، إنْ صَحّ أَنّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي
صِغَرِهِ إذْ كَانَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَمَحْمَلُهُ عَلَى أَنّ هَذَا
الْأَمْرَ كَانَ مَرّتَيْنِ مَرّةً فِي حَالِ صِغَرِهِ وَمَرّةً فِي أَوّلِ
اكْتِهَالِهِ عِنْدَ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ .
حَرْبُ
الْفِجَارِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَلَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً [ ص 319 ] أَبُو
عُبَيْدَةَ النّحْوِيّ ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ - هَاجَتْ حَرْبُ
الْفِجَارِ بَيْنَ قُرَيْشٍ ، وَمَنْ مَعَهَا مِنْ كِنَانَةَ وَبَيْنَ قَيْسِ
عَيْلَانَ . وَكَانَ الّذِي هَاجَهَا أَنّ عُرْوَةَ الرّحّال َ بْنَ عُتْبَةَ بْنَ
جَعْفَرِ بْنِ كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ ، أَجَارَ لَطِيمَةً لِلنّعْمَانِ بْنِ
الْمُنْذِرِ فَقَالَ لَهُ الْبَرّاضُ بْنُ قَيْسٍ ، أَحَدُ بَنِي ضَمْرَةَ بْنِ
بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ أَتُجِيرُهَا عَلَى كِنَانَةَ ؟ قَالَ
نَعَمْ وَعَلَى الْخَلْقِ فَخَرَجَ فِيهَا عُرْوَةُ بن الرّحّالُ ، وَخَرَجَ
الْبَرّاضُ يَطْلُبُ غَفْلَتَهُ حَتّى إذَا كَانَ بِتَيْمِنَ ذِي طَلّالٍ
بِالْعَالِيَةِ غَفَلَ عُرْوَةُ فَوَثَبَ عَلَيْهِ الْبَرّاضُ فَقَتَلَهُ فِي
الشّهْرِ الْحَرَامِ فَلِذَلِكَ سُمّيَ الْفِجَارَ . وَقَالَ الْبَرّاضُ فِي
ذَلِكَ
وَدَاهِيَةٌ تُهِمّ النّاسَ قَبْلِي ... شَدَدْت لَهَا - بَنِي بَكْرٍ - ضُلُوعِي
هَدَمْت بِهَا بُيُوتَ بَنِي كِلَابٍ ... وَأَرْضَعْت الْمَوَالِيَ بِالضّرُوعِ
رَفَعْت لَهُ بِذِي طَلّالَ كَفّي ... فَخَرّ يَمِيدُ كَالْجِذْعِ الصّرِيعِ
[ ص 320 ] وَقَالَ لَبِيدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ
أَبْلِغْ - إنْ عَرَضْت - بَنِي كِلَابٍ ... وَعَامِرَ وَالْخُطُوبَ لَهَا
مَوَالِي
وَبَلّغْ إنْ عَرَضْت بَنِي نُمَيْرٍ ... وَأَخْوَالَ الْقَتِيلِ بَنِي هِلَالِ
بِأَنّ الْوَافِدَ الرّحّالَ أَمْسَى ... مُقِيمًا عِنْدَ تَيْمِنَ ذِي طَلَالَا
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : فَأَتَى آتٍ قُرَيْشًا ، فَقَالَ إنّ الْبَرّاضَ قَدْ قَتَلَ
عُرْوَةَ ، وَهُمْ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ بِعِكَاظِ فَارْتَحَلُوا ، وَهَوَازِنُ
لَا تَشْعُرُ ثُمّ بَلَغَهُمْ الْخَبَرُ فَأَتْبَعُوهُمْ فَأَدْرَكُوهُمْ قَبْلَ
أَنْ يَدْخُلُوا الْحَرَمَ ، فَاقْتَتَلُوا حَتّى جَاءَ اللّيْلُ وَدَخَلُوا
الْحَرَمَ ، فَأَمْسَكَتْ عَنْهُمْ هَوَازِنُ ، ثُمّ الْتَقَوْا بَعْدَ هَذَا
الْيَوْمِ أَيّامًا ، وَالْقَوْمُ [ ص 321 ] قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ رَئِيسٌ
مِنْهُمْ وَعَلَى كُلّ قَبِيلٍ مِنْ قَيْسٍ رَئِيسٌ مِنْهُمْ . وَشَهِدَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَعْضَ أَيّامِهِمْ أَخْرَجَهُ
أَعْمَامُهُ مَعَهُمْ وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
كُنْت أُنَبّلُ عَلَى أَعْمَامِي أَيْ أَرُدّ عَنْهُمْ نَبْلَ عَدُوّهِمْ إذَا
رَمَوْهُمْ بِهَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : هَاجَتْ حَرْبُ الْفِجَارِ وَرَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً وَإِنّمَا
سُمّيَ يَوْمُ الْفِجَارِ بِمَا اسْتَحَلّ هَذَانِ الْحَيّانِ كِنَانَةُ وَقَيْسُ
عَيْلَانَ فِيهِ الْمَحَارِمَ بَيْنَهُمْ . وَكَانَ قَائِدُ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ
حَرْبُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، وَكَانَ الظّفَرُ فِي أَوّلِ النّهَارِ
لِقَيْسِ عَلَى كِنَانَةَ حَتّى إذَا كَانَ فِي وَسَطِ النّهَارِ كَانَ الظّفَرُ
لِكِنَانَةَ عَلَى قَيْسٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدِيثُ الْفِجَارِ أَطْوَلُ
مِمّا ذَكَرْت ، وَإِنّمَا مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ قَطْعُهُ حَدِيثَ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .Sقِصّةُ
الْفِجَارِ
وَالْفِجَارُ بِكَسْرِ الْفَاءِ بِمَعْنَى : الْمُفَاجَرَةِ كَالْقِتَالِ
وَالْمُقَاتَلَةِ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ قِتَالًا فِي الشّهْرِ [ ص 319 ] فَسُمّيَ
الْفِجَارَ وَكَانَتْ لِلْعَرَبِ فِجَارَاتٌ أَرْبَعٌ ذَكَرَهَا الْمَسْعُودِيّ ،
آخِرُهَا : فِجَارُ الْبِرَاضِ الْمَذْكُورُ فِي السّيرَةِ وَكَانَ لَكِنَانَةَ
وَلِقَيْسِ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَيّامٍ مَذْكُورَةٌ يَوْمُ شَمْطَةَ وَيَوْمُ
الشّرْبِ وَهُوَ أَعْظَمُهَا يَوْمًا ، وَفِيهِ قَيّدَ حَرْبُ بْنُ أُمَيّةَ
وَسُفْيَانُ وَأَبُو سُفْيَانَ أَبْنَاءُ أُمَيّةَ أَنْفُسَهُمْ كَيْ لَا يَفِرّوا
، فَسُمّوا : الْعَنَابِسَ وَيَوْمُ الْحُرَيْرَةِ عِنْدَ نَخْلَةَ ، وَيَوْمُ
الشّرِبِ انْهَزَمَتْ قَيْسٌ إلّا بَنِي نَضْرٍ مِنْهُمْ فَإِنّهُمْ ثَبَتُوا ،
وَإِنّمَا لَمْ يُقَاتِلْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَعَ
أَعْمَامِهِ وَكَانَ يَنْبُلُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ كَانَ بَلَغَ سِنّ الْقِتَالِ
لِأَنّهَا كَانَتْ حَرْبَ فِجَارٍ وَكَانُوا أَيْضًا كُلّهُمْ كُفّارًا ، وَلَمْ
يَأْذَنْ اللّهُ تَعَالَى لِمُؤْمِنِ أَنْ يُقَاتِلَ إلّا لِتَكُونَ كَلِمَةُ
اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا . وَاللّطِيمَةُ عِيرٌ تَحْمِلُ الْبَزّ وَالْعِطْرَ .
وَقَوْلُهُ بِذِي طَلّالٍ بِتَشْدِيدِ اللّامِ وَإِنّمَا خَفّفَهُ لَبِيدٌ فِي
الشّعْرِ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ هَاهُنَا لِلضّرُورَةِ .
مَنْعُ تَنْوِينِ الْعَلَمِ
وَقَوْلُ الْبَرّاضِ رَفَعْت لَهُ بِذِي طَلّالَ كَفّي . فَلَمْ يَصْرِفْهُ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَعَلَهُ اسْمَ بُقْعَةٍ فَتَرَكَ إجْرَاءَ الِاسْمِ
لِلتّأْنِيثِ وَالتّعْرِيفِ فَإِنْ قُلْت : كَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ بِذَاتِ
طَلّالَ ، أَيْ ذَاتِ هَذَا الِاسْمِ لِلْمُؤَنّثِ كَمَا قَالُوا : ذُو عَمْرٍو
أَيْ صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ وَلَوْ كَانَتْ [ ص 320 ] أُنْثَى ، لَقَالُوا :
ذَاتُ هَذَا ، فَالْجَوَابُ أَنّ قَوْلَهُ بِذِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا
لِطَرِيقِ أَوْ جَانِبٍ مُضَافٍ إلَى طَلّالَ اسْمِ الْبُقْعَةِ . وَأَحْسَنُ مِنْ
هَذَا كُلّهِ أَنْ يَكُونَ طَلّالُ اسْمًا مُذّكّرًا عَلَمًا ، وَالِاسْمُ
الْعَلَمُ يَجُوزُ تَرْكُ صَرْفِهِ فِي الشّعْرِ كَثِيرًا ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا
الْكِتَابُ مِنْ الشّوَاهِدِ عَلَيْهِ مَا يَدُلّك عَلَى كَثْرَتِهِ فِي
الْكَلَامِ وَنُؤَخّرُ الْقَوْلَ فِي كَشْفِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِيضَاحِهَا
إلَى أَنْ تَأْتِيَ تِلْكَ الشّوَاهِدُ - إنْ شَاءَ اللّهُ - وَوَقَعَ فِي شِعْرِ
الْبَرّاضِ مُشَدّدًا ، وَفِي شِعْرِ لَبِيَدٍ الّذِي بَعْدَ هَذَا مُخَفّفًا ،
وَقُلْنَا : إنّ لَبِيدًا خَفّفَهُ لِلضّرُورَةِ وَلَمْ يَقُلْ إنّهُ شُدّدَ
لِلضّرُورَةِ وَإِنّ الْأَصْلَ فِيهِ التّخْفِيفُ لِأَنّهُ فَعّالٌ مِنْ الطّلّ
كَأَنّهُ مَوْضِعٌ يَكْثُرُ فِيهِ الطّلّ ، فَطَلَالُ بِالتّخْفِيفِ لَا مَعْنَى
لَهُ وَأَيْضًا ؛ فَإِنّا وَجَدْنَاهُ فِي الْكَلَامِ الْمَنْثُورِ مُشَدّدًا ،
وَكَذَلِكَ تُقَيّدُ فِي كَلَامِ ابْنِ إسْحَاقَ هَذَا فِي أَصْلِ الشّيْخِ أَبِي
بَحْرٍ .
مِنْ تَفْسِيرِ شِعْرِ الْبَرّاضِ
وَقَوْلُهُ فِي الْبَيْتِ الثّانِي : وَأَلْحَقْت الْمَوَالِيَ بِالضّرُوعِ .
جَمْعُ : ضَرْعٍ هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَئِيمٌ رَاضِعٌ أَيْ أَلْحَقَتْ
الْمَوَالِيَ بِمَنْزِلَتِهِمْ مِنْ اللّؤْمِ وَرَضَاعِ الضّرُوعِ وَأَظْهَرْت
فَسَالَتَهُمْ وَهَتَكْت بُيُوتَ أَشْرَافِ بَنِي كِلَابٍ وَصُرَحَائِهِمْ .
وَقَوْلُ لَبِيَدٍ بَيْنَ تَيْمِنَ ذِي طَلَالٍ . بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِفَتْحِهَا
، وَلَمْ يَصْرِفْهُ لِوَزْنِ الْفِعْلِ وَالتّعْرِيفِ لِأَنّهُ تَفْعِلُ أَوْ
تَفْعَلُ مِنْ الْيُمْنِ أَوْ الْيَمِينِ .
آخِرُ أَمْرِ الْفِجَارِ
[ ص 321 ] وَكَانَ آخِرُ أَمْرِ الْفِجَارِ أَنّ هَوَازِنَ وَكِنَانَةَ
تَوَاعَدُوا لِلْعَامِ الْقَابِلِ بِعِكَاظِ فَجَاءُوا لِلْوَعْدِ وَكَانَ حَرْبُ
بْنُ أُمَيّةَ رَئِيسَ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَكَانَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ
يَتِيمًا فِي حِجْرِهِ فَضَنّ بِهِ حَرْبٌ وَأَشْفَقَ مِنْ خُرُوجِهِ مَعَهُ
فَخَرَجَ عُتْبَةُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَمْ يَشْعُرُوا إلّا وَهُوَ عَلَى
بَعِيرِهِ بَيْنَ الصّفّيْنِ يُنَادِي : يَا مَعْشَرَ مُضَرَ ، عَلَامَ
تُقَاتِلُونَ ؟ فَقَالَتْ لَهُ هَوَازِنُ : مَا تَدْعُو إلَيْهِ ؟ فَقَالَ
الصّلْحُ عَلَى أَنْ نَدْفَعَ إلَيْكُمْ دِيَةَ قَتْلَاكُمْ وَنَعْفُوَ عَنْ
دِمَائِنَا ، قَالُوا : وَكَيْفَ ؟ قَالَ نَدْفَعُ إلَيْكُمْ رَهْنًا مِنّا ،
قَالُوا : وَمَنْ لَنَا بِهَذَا ؟ قَالَ أَنَا . قَالُوا : وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ
عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، فَرَضُوا وَرَضِيَتْ كِنَانَةُ
وَدَفَعُوا إلَى هَوَازِنَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا : فِيهِمْ حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ [
بْنِ خُوَيْلِدٍ ] ، فَلَمّا رَأَتْ بَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ الرّهْنَ فِي
أَيْدِيهمْ عَفَوْا عَنْ الدّمَاءِ وَأَطْلَقُوهُمْ وَانْقَضَتْ حَرْبُ الْفِجَارِ
وَكَانَ يُقَالُ لَمْ يَسُدْ مِنْ قُرَيْشٍ مُمْلِقٌ إلّا عُتْبَةُ وَأَبُو
طَالِبٍ فَإِنّهُمَا سَادَا بِغَيْرِ مَالٍ .
حَدِيثُ
تَزْوِيجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : [ ص 322 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَمْسًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً تَزَوّجَ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ
الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ
غَالِبٍ ، فِيمَا حَدّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ أَبِي
عَمْرٍو الْمَدَنِيّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ
خُوَيْلِدٍ امْرَأَةً تَاجِرَةً ذَاتُ شَرَفٍ وَمَالٍ تَسْتَأْجِرُ الرّجَالَ فِي
مَالِهَا ، وَتُضَارِبُهُمْ إيّاهُ بِشَيْءِ تَجْعَلُهُ لَهُمْ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ
قَوْمًا تُجّارًا ، فَلَمّا بَلَغَهَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا بَلَغَهَا ، مِنْ صِدْقِ حَدِيثِهِ وَعِظَمِ أَمَانَتِهِ
وَكَرَمِ أَخْلَاقِهِ بَعَثَتْ إلَيْهِ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي
مَالٍ لَهَا إلَى الشّامِ تَاجِرًا ، وَتُعْطِيهِ أَفْضَلَ مَا كَانَتْ تُعْطِي
غَيْرَهُ مِنْ التّجّارِ مَعَ غُلَامٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ مَيْسَرَةُ فَقَبِلَهُ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْهَا ، وَخَرَجَ فِي
مَالِهَا ذَلِكَ وَخَرَجَ مَعَهُ غُلَامُهَا مَيْسَرَةُ حَتّى قَدِمَ الشّامَ .
فَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي ظِلّ شَجَرَةٍ
قَرِيبًا مِنْ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ مِنْ الرّهْبَانِ فَاطّلَعَ الرّاهِبُ إلَى
مَيْسَرَةَ فَقَالَ لَهُ مَنْ هَذَا الرّجُلُ الّذِي نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ
الشّجَرَةِ ؟ قَالَ لَهُ مَيْسَرَةُ هَذَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ
الْحَرَمِ ، فَقَالَ لَهُ الرّاهِبُ مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشّجَرَةِ قَطّ
إلّا نَبِيّ . [ ص 323 ] بَاعَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
سِلْعَتَهُ الّتِي خَرَجَ بِهَا ، وَاشْتَرَى مَا أَرَادَ أَنّ يَشْتَرِيَ ثُمّ
أَقْبَلَ قَافِلًا إلَى مَكّةَ ، وَمَعَهُ مَيْسَرَةُ فَكَانَ مَيْسَرَةُ - فِيمَا
يَزْعُمُونَ - إذَا كَانَتْ الْهَاجِرَةُ وَاشْتَدّ الْحَرّ ، يَرَى مَلَكَيْنِ
يُظِلّانِهِ مِنْ الشّمْسِ - وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى بَعِيرِهِ فَلَمّا قَدِمَ
مَكّةَ عَلَى خَدِيجَةَ بِمَالِهَا ، بَاعَتْ مَا جَاءَ بِهِ فَأَضْعَفَ أَوْ
قَرِيبًا . وَحَدّثَهَا مَيْسَرَةُ عَنْ قَوْلِ الرّاهِبِ وَعَمّا كَانَ يَرَى
مِنْ إظْلَالِ الْمَلَكَيْنِ إيّاهُ وَكَانَتْ خَدِيجَةُ امْرَأَةً حَازِمَةً
شَرِيفَةً لَبِيبَةً مَعَ مَا أَرَادَ اللّهُ بِهَا مِنْ كَرَامَتِهِ فَلَمّا
أَخْبَرَهَا مَيْسَرَةُ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ بَعَثَتْ إلَى رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَتْ لَهُ - فِيمَا يَزْعُمُونَ يَا بْنَ
عَمّ إنّي قَدْ رَغِبْت فِيك لِقَرَابَتِك ، وَسِطَتِك فِي قَوْمِك وَأَمَانَتِك ،
وَحُسْنِ خُلُقِك ، وَصِدْقِ حَدِيثِك ، ثُمّ عَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا ،
وَكَانَتْ خَدِيجَةُ يَوْمئِذٍ أَوْسَطَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ نَسَبًا ،
وَأَعْظَمَهُنّ شَرَفًا ، وَأَكْثَرَهُنّ مَالًا ، كُلّ قَوْمِهَا كَانَ حَرِيصًا
عَلَى ذَلِكَ مِنْهَا لَوْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ . [ ص 324 ] وَهِيَ خَدِيجَةُ بِنْتُ
خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ
مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . وَأُمّهَا : فَاطِمَةُ
بِنْتُ زَائِدَةَ بْنِ الْأَصَمّ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ حَجَرِ بْنِ عَبْدِ بْنِ
مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . وَأُمّ فَاطِمَةَ
هَالَةُ بِنْتُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُنْقِذِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ . وَأُمّ
هَالَةَ قِلَابَةُ بِنْتُ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . فَلَمّا قَالَتْ
ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَعْمَامِهِ
فَخَرَجَ مَعَهُ عَمّهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ - رَحِمَهُ اللّهُ -
حَتّى دَخَلَ عَلَى خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ فَخَطَبَهَا إلَيْهِ فَتَزَوّجَهَا . [
ص 325 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَصْدَقَهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عِشْرِينَ بَكْرَةً وَكَانَتْ أَوّلَ امْرَأَةٍ تَزَوّجَهَا
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلَمْ يَتَزَوّجْ عَلَيْهَا
غَيْرَهَا حَتّى مَاتَتْ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا .Sفَصْلٌ
فِي تَزْوِيجِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا
شَرْحُ قَوْلِ الرّاهِبِ [ ص 322 ] ذُكِرَ فِيهِ قَوْلُ الرّاهِبِ مَا نَزَلَ
تَحْتَ هَذِهِ الشّجَرَةِ إلّا نَبِيّ . يُرِيدُ مَا نَزَلَ تَحْتَهَا هَذِهِ [ ص
323 ] نَزَلَ تَحْتَهَا قَطّ إلّا نَبِيّ . لِبُعْدِ الْعَهْدِ بِالْأَنْبِيَاءِ
قَبْلَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي لَفْظِ الْخَبَرِ : قَطّ ، فَقَدْ تَكَلّمَ بِهَا
عَلَى جِهَةِ التّوْكِيدِ لِلنّفْيِ وَالشّجَرَةُ لَا تُعَمّرُ فِي الْعَادَةِ
هَذَا الْعُمْرَ الطّوِيلَ حَتّى يَدْرِيَ أَنّهُ لَمْ يَنْزِلْ تَحْتَهَا إلّا
عِيسَى ، أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السّلَامُ - وَيَبْعُدُ
فِي الْعَادَةِ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ شَجَرَةٌ تَخْلُو مِنْ أَنْ يَنْزِلَ
تَحْتَهَا أَحَدٌ ، حَتّى يَجِيءَ نَبِيّ إلّا أَنْ تَصِحّ رِوَايَةُ مَنْ قَالَ
فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَنْزِلْ تَحْتَهَا أَحَدٌ بَعْدَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
- عَلَيْهِ السّلَامُ - وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ ،
فَالشّجَرَةُ عَلَى هَذَا مَخْصُوصَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
وَهَذَا الرّاهِبُ ذَكَرُوا أَنّ اسْمَهُ نَسْطُورًا وَلَيْسَ هُوَ بَحِيرَى
الْمُتَقَدّمُ ذِكْرُهُ . تَحْقِيقُ مَعْنَى الْوَسَطِ وَقَوْلُ خَدِيجَةَ -
رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : لِسِطَتِك فِي عَشِيرَتِك ، وَقَوْلُهُ فِي وَصْفِهَا :
هِيَ أَوْسَطُ قُرَيْشٍ نَسَبًا . فَالسّطَةُ مِنْ الْوَسَطِ مَصْدَرٌ كَالْعِدَةِ
وَالزّنَةِ وَالْوَسَطُ مِنْ أَوْصَافِ الْمَدْحِ وَالتّفْضِيلِ وَلَكِنْ فِي
مَقَامَيْنِ فِي ذِكْرِ النّسَبِ وَفِي ذِكْرِ الشّهَادَةِ . أَمّا النّسَبُ
فَلِأَنّ أَوْسَطَ الْقَبِيلَةِ أَعْرَفُهَا ، وَأَوْلَاهَا بِالصّمِيمِ
وَأَبْعَدُهَا عَنْ الْأَطْرَافِ وَالْوَسِيطِ وَأَجْدَرُ أَنْ لَا تُضَافَ
إلَيْهِ الدّعْوَةُ لِأَنّ الْآبَاءَ وَالْأُمّهَاتِ قَدْ أَحَاطُوا بِهِ مِنْ
كُلّ جَانِبٍ فَكَانَ الْوَسَطُ مِنْ أَجَلّ هَذَا مَدْحًا فِي النّسَبِ بِهَذَا
السّبَبِ وَأَمّا الشّهَادَةُ فَنَحْوَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ قَالَ أَوْسَطُهُمْ
وَقَوْلِهِ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطًا } { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النّاسِ } [ الْبَقَرَةُ 143 ] فَكَانَ هَذَا مَدْحًا فِي الشّهَادَةِ
لِأَنّهَا غَايَةُ الْعَدَالَةِ فِي الشّاهِدِ أَنْ يَكُونَ وَسَطًا كَالْمِيزَانِ
لَا يَمِيلُ مَعَ أَحَدٍ ، بَلْ [ ص 324 ] رَهْبَةٌ مِنْ هَاهُنَا ، وَلَا مِنْ
هَاهُنَا ، فَكَانَ وَصْفُهُ بِالْوَسَطِ غَايَةً فِي التّزْكِيَةِ وَالتّعْدِيلِ
وَظَنّ كَثِيرٌ مِنْ النّاسِ أَنّ مَعْنَى الْأَوْسَطِ الْأَفْضَلُ عَلَى
الْإِطْلَاقِ وَقَالُوا : مَعْنَى الصّلَاةِ الْوُسْطَى : الْفُضْلَى ، وَلَيْسَ
كَذَلِكَ بَلْ هُوَ فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ لَا مَدْحٌ وَلَا ذَمّ ، كَمَا
يَقْتَضِي لَفْظُ التّوَسّطِ فَإِذَا كَانَ وَسَطًا فِي السّمَنِ فَهِيَ بَيْنَ
الْمُمِخّةِ وَالْعَجْفَاءِ . وَالْوَسَطُ فِي الْجَمَالِ بَيْنَ الْحَسْنَاءِ
وَالشّوْهَاءِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ لَا يُعْطِي مَدْحًا ، وَلَا
ذَمّا ، غَيْرَ أَنّهُمْ قَدْ قَالُوا فِي الْمَثَلِ أَثْقَلُ مِنْ مُغِنّ وَسَطٍ
عَلَى الذّمّ لِأَنّ الْمُغْنِي إنْ كَانَ مَجِيدًا جِدّا أَمْتَعَ وَأَطْرَبَ
وَإِنْ كَانَ بَارِدًا جِدّا أَضْحَكَ وَأَلْهَى ، وَذَلِكَ أَيْضًا مِمّا
يُمَتّعُ . قَالَ الْجَاحِظُ : وَإِنّمَا الْكَرْبُ الّذِي يَجْثُمُ عَلَى
الْقُلُوبِ وَيَأْخُذُ بِالْأَنْفَاسِ الْغِنَاءُ الْفَاتِرُ الْوَسَطُ الّذِي لَا
يُمَتّعُ بِحُسْنِ وَلَا يُضْحِكُ بِلَهْوِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَجُوزُ
أَنْ يُقَالَ فِي رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - هُوَ
أَوْسَطُ النّاسِ . أَيْ أَفْضَلُهُمْ وَلَا يُوصَفُ بِأَنّهُ وَسَطٌ فِي
الْعِلْمِ وَلَا فِي الْجُودِ وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ إلّا فِي النّسَبِ
وَالشّهَادَةِ كَمَا تَقَدّمَ وَالْحَمْدُ لِلّهِ وَاَللّهُ الْمَحْمُودُ . مَنْ
الّذِي زَوّجَ خَدِيجَةَ ؟
فَصْلٌ
وَذَكَرَ مَشْيَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى
خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ مَعَ عَمّهِ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَذَكَرَ
غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ خُوَيْلِدًا كَانَ إذْ ذَاكَ قَدْ أُهْلِكَ وَأَنّ
الّذِي أَنْكَحَ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - هُوَ عَمّهَا عَمْرُو بْنُ
أَسَدٍ ، قَالَهُ الْمُبَرّدُ وَطَائِفَةٌ مَعَهُ وَقَالَ أَيْضًا : إنّ أَبَا
طَالِبٍ هُوَ الّذِي نَهَضَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- وَهُوَ الّذِي خَطَبَ خُطْبَةَ النّكَاحِ وَكَانَ مِمّا قَالَهُ فِي تِلْكَ
الْخُطْبَةِ " أَمّا بَعْدُ فَإِنّ مُحَمّدًا مِمّنْ لَا يُوَازَنُ بِهِ
فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ إلّا رَجَحَ بِهِ شَرَفًا وَنُبْلًا وَفَضْلًا وَعَقْلًا ،
فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ قُلّ ، فَإِنّمَا ظِلّ زَائِلٌ وَعَارِيَةٌ
مُسْتَرْجَعَةٌ وَلَهُ فِي [ ص 325 ] خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَغْبَةٌ
وَلَهَا فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ " فَقَالَ عَمْرٌو : هُوَ الْفَحْلُ الّذِي لَا
يُقْدَعُ أَنْفُهُ فَأَنْكَحَهَا مِنْهُ وَيُقَالُ قَالَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ
، وَاَلّذِي قَالَهُ الْمُبَرّدُ هُوَ الصّحِيحُ لِمَا رَوَاهُ الطّبَرِيّ عَنْ
جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُمْ كُلّهِمْ - قَالَ إنّ عَمْرَو بْنَ أَسَدٍ هُوَ الّذِي أَنْكَحَ
خَدِيجَةَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَنّ خُوَيْلِدًا
كَانَ قَدْ هَلَكَ قَبْلَ الْفِجَارِ وَخُوَيْلِدُ بْنُ أَسَدٍ هُوَ الّذِي
نَازَعَ تُبّعًا الْآخَرَ حِينَ حَجّ وَأَرَادَ أَنْ يَحْتَمِلَ الرّكْنَ
الْأَسْوَدَ مَعَهُ إلَى الْيَمَنِ ، فَقَامَ فِي ذَلِكَ خُوَيْلِدٌ وَقَامَ
مَعَهُ جَمَاعَةٌ ثُمّ إنّ تُبّعًا رُوّعَ فِي مَنَامِهِ تَرْوِيعًا شَدِيدًا
حَتّى تَرَكَ ذَلِكَ وَانْصَرَفَ عَنْهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
وَذَكَرَ الزّهْرِيّ فِي سِيَرِهِ وَهِيَ أَوّلُ سِيرَةٍ أُلّفَتْ فِي
الْإِسْلَامِ كَذَا رُوِيَ عَنْ [ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عُبَيْدٍ
] الدّرَاوَرْدِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ
لِشَرِيكِهِ الّذِي كَانَ يَتّجِرُ مَعَهُ فِي مَالِ خَدِيجَةَ هَلُمّ
فَلْنَتَحَدّثْ عِنْدَ خَدِيجَةَ وَكَانَتْ تُكْرِمُهُمَا وَتُتْحِفُهُمَا ،
فَلَمّا قَامَا مِنْ عِنْدِهَا جَاءَتْ امْرَأَةٌ مُسْتَنْشِئَةٌ - وَهِيَ
الْكَاهِنَةُ - كَذَا قَالَ الْخَطّابِيّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَتْ
لَهُ جِئْت خَاطِبًا يَا مُحَمّدُ فَقَالَ كَلّا ، فَقَالَتْ وَلِمَ ؟ فَوَاَللّهِ
مَا فِي قُرَيْشٍ امْرَأَةٌ وَإِنْ كَانَتْ خَدِيجَةَ إلّا تَرَاك كُفْئًا لَهَا ،
فَرَجَعَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَاطِبًا لِخَدِيجَةَ
مُسْتَحْيِيًا مِنْهَا ، وَكَانَ خُوَيْلِدٌ أَبُوهَا سَكْرَانَ مِنْ الْخَمْرِ
فَلَمّا كُلّمَ فِي ذَلِكَ أَنْكَحَهَا ، فَأَلْقَتْ عَلَيْهِ خَدِيجَةُ حُلّةً
وَضَمّخَتْهُ بِخَلُوقِ فَلَمّا صَحَا مِنْ سُكْرِهِ قَالَ مَا هَذِهِ الْحُلّةُ
وَالطّيبُ ؟ فَقِيلَ إنّك أَنْكَحْت مُحَمّدًا خَدِيجَةَ وَقَدْ ابْتَنَى بِهَا ،
فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ثُمّ رَضِيَهُ وَأَمْضَاهُ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنّ
أَبَاهَا كَانَ حَيّا ، وَأَنّهُ الّذِي أَنْكَحَهَا . كَمَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ
. وَقَالَ رَاجِزٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ فِي ذَلِكَ
لَا تَزْهَدِي خَدِيجَ فِي مُحَمّدِ ... نَجْمٌ يُضِيءُ كَإِضَاءِ الْفَرْقَدِ
وَقِيلَ إنّ عَمْرَو بْنَ خُوَيْلِدٍ أَخَاهَا هُوَ الّذِي أَنْكَحَهَا مِنْهُ
ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ .
أَوْلَادُهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 326 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَدَهُ كُلّهُمْ
إلّا إبْرَاهِيمَ الْقَاسِمَ وَبِهِ كَانَ يُكَنّى صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَالطّاهِرَ وَالطّيّبَ وَزَيْنَبَ وَرُقَيّةَ وَأُمّ كُلْثُومٍ ، وَفَاطِمَةَ
عَلَيْهِمْ السّلَامُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَكْبَرُ بَنِيهِ الْقَاسِمُ ثُمّ
الطّيّبُ ثُمّ الطّاهِرُ وَأَكْبَرُ بَنَاتِهِ رُقَيّةُ ثُمّ زَيْنَبُ ثُمّ أُمّ
كُلْثُومٍ ، ثُمّ فَاطِمَةُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَمّا الْقَاسِمُ
وَالطّيّبُ وَالطّاهِرُ فَهَلَكُوا فِي الْجَاهِلِيّةِ . وَأَمّا بَنَاتُهُ
فَكُلّهُنّ أَدْرَكْنَ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمْنَ وَهَاجَرْنَ مَعَهُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 327 ]Sأَوْلَادُهُ
مِنْ خَدِيجَةَ
[ ص 326 ] وَذَكَرَ وَلَدَهُ مِنْهَا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَذَكَرَ
الْبَنَاتِ وَذَكَرَ الْقَاسِمَ وَالطّاهِرَ وَالطّيّبَ وَذَكَرَ أَنّ الْبَنِينَ
هَلَكُوا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَقَالَ الزّبَيْرُ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَذَا
الشّأْنِ - وَلَدَتْ لَهُ الْقَاسِمَ وَعَبْدَ اللّهِ وَهُوَ الطّاهِرُ وَهُوَ
الطّيّبُ سُمّيَ بِالطّاهِرِ وَالطّيّبِ لِأَنّهُ وُلِدَ بَعْدَ النّبُوّةِ
وَاسْمُهُ الّذِي سُمّيَ بِهِ أَوّلَ هُوَ عَبْدُ اللّهِ وَبَلَغَ الْقَاسِمُ
الْمَشْيَ غَيْرَ أَنّ رَضَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ كَمُلَتْ [ ص 327 ] وَقَعَ فِي
مُسْنَدِ الْفِرْيَابِيّ أَنّ خَدِيجَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَعْدَ مَوْتِ الْقَاسِمِ وَهِيَ تَبْكِي : فَقَالَتْ
يَا رَسُولَ اللّهِ دَرّتْ لُبَيْنَةُ الْقَاسِمِ فَلَوْ كَانَ عَاشَ حَتّى
يَسْتَكْمِلَ رَضَاعَهُ لَهَوّنَ عَلَيّ فَقَالَ إنّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنّةِ
تَسْتَكْمِلُ رَضَاعَتَهُ فَقَالَتْ لَوْ أَعْلَمُ ذَلِكَ لَهَوّنَ عَلَيّ فَقَالَ
إنْ شِئْت أَسَمِعْتُك صَوْتَهُ فِي الْجَنّةِ . فَقَالَتْ بَلْ أُصَدّقُ اللّهَ
وَرَسُولَهُ . قَوْلُهَا ، لُبَيْنَةُ هِيَ تَصْغِيرٌ لَبَنَةٍ وَهِيَ قِطْعَةٌ
مِنْ اللّبَنِ كَالْعُسَيْلَةِ تَصْغِيرُ عَسَلَةٍ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ اللّبَنَةَ
وَالْعَسَلَةَ وَالشّهْدَةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذَا مِنْ
فِقْهِهَا - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - كَرِهَتْ أَنْ تُؤْمِنَ بِهَذَا الْأَمْرِ
مُعَايَنَةً فَلَا يَكُونُ لَهَا أَجْرُ التّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ
وَإِنّمَا أَثْنَى اللّهُ تَعَالَى عَلَى الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ .
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلّ أَيْضًا عَلَى أَنّ الْقَاسِمَ لَمْ يَهْلِكْ فِي
الْجَاهِلِيّةِ . وَاخْتَلَفُوا فِي الصّغْرَى وَالْكُبْرَى مِنْ الْبَنَاتِ
غَيْرَ أَنّ أُمّ كُلْثُومٍ لَمْ تَكُنْ الْكُبْرَى مِنْ الْبَنَاتِ وَلَا
فَاطِمَةَ وَالْأَصَحّ فِي فَاطِمَةَ أَنّهَا أَصْغَرُ مِنْ أُمّ كُلْثُومٍ .
خَدِيجَةُ وَبَحِيرَى وَنَسَبُهَا : وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ تُسَمّى :
الطّاهِرَةَ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَالْإِسْلَامِ وَفِي سِيَرِ التّيْمِيّ . أَنّهَا
كَانَتْ تُسَمّى : سَيّدَةَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ ، وَأَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ أَخْبَرَهَا عَنْ جِبْرِيلَ وَلَمْ تَكُنْ سَمِعَتْ
بِاسْمِهِ قَطّ ، رَكِبَتْ إلَى بَحِيرَى الرّاهِبِ ، وَاسْمُهُ سَرْجِسُ فِيمَا
ذَكَرَ الْمَسْعُودِيّ ، فَسَأَلَتْهُ عَنْ جِبْرِيلَ فَقَالَ قُدّوسٌ قُدّوسٌ يَا
سَيّدَةَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَنّى لَك بِهَذَا الِاسْمِ ؟ فَقَالَتْ بَعْلِي
وَابْنُ عَمّي مُحَمّدٌ أَخْبَرَنِي أَنّهُ يَأْتِيه ، فَقَالَ قُدّوسٌ قُدّوسٌ
مَا عَلِمَ بِهِ إلّا نَبِيّ مُقَرّبٌ فَإِنّهُ السّفِيرُ بَيْنَ اللّهِ وَبَيْنَ
أَنْبِيَائِهِ وَإِنّ الشّيْطَانَ لَا يَجْتَرِئُ أَنْ يَتَمَثّلَ بِهِ وَلَا أَنْ
يَتَسَمّى بِاسْمِهِ وَكَانَ بِمَكّةَ غُلَامٌ لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَة َ
سَيَأْتِي ذِكْرُهُ اسْمُهُ عَدّاسٌ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ فَأَرْسَلَتْ
إلَيْهِ تَسْأَلُهُ عَنْ جِبْرِيلَ فَقَالَ قُدّوسٌ قُدّوسٌ أَنّى لِهَذِهِ الْبِلَادِ
أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا جِبْرِيلُ يَا سَيّدَةَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ ، فَأَخْبَرَتْهُ
بِمَا يَقُولُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ عَدّاسٌ
مِثْلَ مَقَالَةِ الرّاهِبِ فَكَانَ مِمّا زَادَهَا اللّهُ تَعَالَى بِهِ إيمَانًا
وَيَقِينًا . وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ نَسَبَ أُمّهَا فَاطِمَةَ بِنْتِ زَائِدَةَ
بْنِ الْأَصَمّ ، وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ الْأَصَمّ ، وَذَكَرَهُ الزّبَيْرُ
وَغَيْرُهُ فَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ هِدْمِ بْنِ حَجَرٍ بِفَتْحِ الْحَاءِ
وَالْجِيمِ مِنْ حَجَرٍ كَذَا قَيّدَهُ الدّارَقُطْنِيّ ، وَأَخُوهُ حُجَيْرُ بْنُ
عَبْدِ بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرٍ وَأَمّا حَجْرٌ بِسُكُونِ الْجِيمِ فَفِي حَيّ
ذِي رُعَيْنٍ وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ الْحَجْرِيّونَ وَأَمّا حِجْرُ بِكَسْرِ
الْحَاءِ فَفِي بَنِي الدّيّانِ عَبْدُ الْحِجْرِ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ وَهُمْ مِنْ
بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَذْحِجَ ، وَذَكَرَ يُونُسُ عَنْ ابْنِ
إسْحَاقَ نَسَبَ أُمّ خَدِيجَةَ كَمَا ذَكَرَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ ،
وَزَادَ فَقَالَ [ ص 328 ] كَانَتْ أُمّ فَاطِمَةَ بِنْتُ زَائِدَةَ هَالَةُ
بِنْتُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، وَأُمّهَا قِلَابَةُ وَهِيَ الْعَرْقَةُ
بِنْتُ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ
بْنِ لُؤَيّ وَأُمّهَا : أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ .
مَنْ تَزَوّجَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ الرّسُولِ ؟ : وَكَانَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عِنْدَ أَبِي هَالَةَ وَهُوَ
هِنْدُ بْنُ زُرَارَةَ وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِهِ زُرَارَةُ وَهِنْدٌ : ابْنُهُ بْنُ
النّبّاشِ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ جَرْوَةَ بْنِ أُسَيّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
تَمِيمٍ فَهُوَ أُسَيْدِيّ بِالتّخْفِيفِ مَنْسُوب إلَى أُسَيّدٍ بِالتّشْدِيدِ
كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي النّسَبِ إلَى أُسَيّدٍ . وَعَدِيّ بْنُ جَرْوَةَ
يُقَالُ إنّ الزّبَيْرَ صَحّفَهُ وَإِنّمَا هُوَ عِذْيُ بْنُ جَرْوَةَ وَكَانَتْ
قَبْلَ أَبِي هَالَةَ عِنْدَ عَتِيقِ بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ وَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ مَنَافِ بْنِ عَتِيقٍ كَذَا قَالَ
ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَقَالَ الزّبَيْرُ وَلَدَتْ لِعَتِيقِ جَارِيَةً اسْمُهَا
: هِنْدٌ وَوَلَدَتْ لِهِنْدِ أَبِي هَالَةَ ابْنًا اسْمُهُ هِنْدٌ أَيْضًا ،
مَاتَ بِالطّاعُونِ طَاعُونِ الْبَصْرَةِ ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ نَحْوٌ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا ، فَشُغِلَ النّاسُ بِجَنَائِزِهِمْ عَنْ
جِنَازَتِهِ فَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحْمِلُهَا ، فَصَاحَتْ نَادِبَتُهُ وَاهِنْدُ
بْنَ هِنْدَاهُ وَارَبِيبَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فَلَمْ تَبْقَ جِنَازَةٌ إلّا تُرِكَتْ وَاحْتُمِلَتْ جِنَازَتُهُ عَلَى أَطْرَافِ
الْأَصَابِعِ إعْظَامًا لِرَبِيبِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - ذَكَرَهُ الدّولَابِيّ وَلِخَدِيجَةَ مِنْ أَبِي هَالَةَ ابْنَانِ
غَيْرَ هَذَا ، اسْمُ أَحَدِهِمَا : الطّاهِرُ وَاسْمُ الْآخَرِ هَالَةُ .
وَاخْتُلِفَ فِي سِنّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ تَزَوّجَ
خَدِيجَةَ فَقِيلَ مَا قَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَقِيلَ كَانَ ابْنَ ثَلَاثِينَ
سَنَةً وَقِيلَ ابْنَ إحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً .
[
ص 328 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَمّا إبْرَاهِيمُ فَأُمّهُ مَارِيَةُ
الْقِبْطِيّةُ . حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ قَالَ
أُمّ إبْرَاهِيمَ : مَارِيَةُ سُرّيّةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الّتِي أَهْدَاهَا إلَيْهِ الْمُقَوْقِسُ مِنْ جَفْنٍ مِنْ كُورَةِ أَنْصِنَا .Sمَارِيَةُ
وَإِبْرَاهِيمُ
فَصْلٌ
[ ص 329 ] [ ص 330 ] وَذَكَرَ أَنّ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - وَلَدَتْ
لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَدَهُ كُلّهُمْ إلّا إبْرَاهِيمَ ،
فَإِنّهُ مِنْ مَارِيَةَ الّتِي أَهْدَاهَا إلَيْهِ الْمُقَوْقِسُ ، وَقَدْ
تَقَدّمَ اسْمُ الْمُقَوْقِسِ ، وَأَنّهُ جُرَيْجُ بْنُ مِينَا ، وَذَكَرْنَا
مَعْنَى الْمُقَوْقِسِ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ وَذَكَرْنَا أَنّهُ أَهْدَى
مَارِيَةَ مَعَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بُلْتُعَةَ ، وَمَعَ جَبْرٍ مَوْلَى أَبِي
رُهْمٍ الْغِفَارِيّ وَاسْمُ أَبِي رُهْمٍ كُلْثُومُ بْن الْحُصَيْنِ . وَذَلِكَ
حِينَ أَرْسَلَهَا إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْدَى مَعَهَا أُخْتَهَا سِيرِينَ ، وَهِيَ
الّتِي وَهَبَهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِحَسّانَ
بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فَأَوْلَدَهَا عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ
حَسّانَ ، وَأَهْدَى مَعَهَا الْمُقَوْقِسُ أَيْضًا غُلَامًا خَصِيّا اسْمُهُ
مَأْبُورٌ وَبَغْلَةٌ تُسَمّى : دُلْدُلَ وَقَدَحًا مِنْ قَوَارِيرَ كَانَ [ ص 329
] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَشْرَبُ فِيهِ وَتُوُفّيَتْ مَارِيَةُ - رَضِيَ
اللّهُ عَنْهَا - سَنَةَ سِتّ عَشْرَةَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ - وَكَانَ عُمَرُ هُوَ الّذِي يَحْشُرُ النّاسَ إلَى جِنَازَتِهَا
بِنَفْسِهِ وَهِيَ مَارِيَةُ بِنْتُ شَمْعُونَ الْقِبْطِيّةُ مِنْ كُورَةِ حَفْنٍ
. وَأَمّا إبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا فِي سَنَةِ عَشْرٍ مِنْ
الْهِجْرَةِ فِي الْيَوْمِ الّذِي كَسَفَتْ فِيهِ الشّمْسُ وَكَانَتْ قَابِلَتُهُ
سَلْمَى امْرَأَةَ أَبِي رَافِعٍ وَأَرْضَعَتْهُ أُمّ بُرْدَةَ بِنْتُ الْمُنْذِرِ
النّجّارِيّةُ امْرَأَةُ الْبَرَءِ بْنِ أَوْسٍ وَسَلْمَى : هِيَ مَوْلَاةُ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقَابِلَةُ بَنِي فَاطِمَةَ
كُلّهِمْ وَهِيَ غَسّلَتْهَا مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيّةِ ، وَغَسّلَهَا
مَعَهُمَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - كَرّمَ اللّهُ وَجْهَهُ - وَفِي
الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - حِينَ وَلَدَتْ لَهُ مَارِيَةُ ابْنَهُ إبْرَاهِيمَ وَقَعَ فِي
نَفْسِهِ مِنْهُ شَيْءٌ حَتّى نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، فَقَالَ لَهُ
السّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا إبْرَاهِيمَ .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 331 ] وَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ قَدْ ذَكَرَتْ
لِوَرَقَةِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى - وَكَانَ ابْنَ عَمّهَا
، وَكَانَ نَصْرَانِيّا قَدْ تَتَبّعَ الْكُتُبَ وَعَلِمَ مِنْ عِلْمِ النّاسِ -
مَا ذَكَرَ لَهَا غُلَامُهَا مَيْسَرَةُ مِنْ قَوْلِ الرّاهِبِ وَمَا كَانَ يَرَى
مِنْهُ إذْ كَانَ الْمَلَكَانِ يُظِلّانِهِ فَقَالَ وَرَقَةُ لَئِنْ كَانَ هَذَا
حَقّا يَا خَدِيجَةُ ، إنّ مُحَمّدًا لَنَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ وَقَدْ عَرَفْت
أَنّهُ كَائِنٌ لِهَذِهِ الْأُمّةِ نَبِيّ يُنْتَظَرُ هَذَا زَمَانُهُ أَوْ كَمَا
قَالَ فَجَعَلَ وَرَقَةُ يَسْتَبْطِئُ الْأَمْرَ وَيَقُولُ حَتّى مَتَى ؟ فَقَالَ
وَرَقَةُ فِي ذَلِكَ [ ص 332 ] [ ص 333 ]
لَجِجْت وَكُنْت فِي الذّكْرَى لَجُوجًا ... لِهَمّ طَالَمَا بَعَثَ النّشِيجَا
وَوَصْفٍ مِنْ خَدِيجَةَ بَعْدَ وَصْفٍ ... فَقَدْ طَالَ انْتِظَارِي يَا خَدِيجَا
بِبَطْنِ الْمَكّتَيْنِ عَلَى رَجَائِي ... حَدِيثَك أَنْ أَرَى مِنْهُ خُرُوجَا
بِمَا خَبّرْتنَا مِنْ قَوْلِ قَسّ ... مِنْ الرّهْبَانِ أَكْرَهُ أَنْ يَعُوجَا
بِأَنّ مُحَمّدًا سَيَسُودُ فِينَا ... وَيَخْصِمُ مَنْ يَكُونُ لَهُ حَجِيجًا
وَيُظْهِرُ فِي الْبِلَادِ ضِيَاءَنُورٍ ... يُقِيمُ بِهِ الْبَرّيّةَ أَنْ
تَمُوجَا
فَيَلْقَى مَنْ يُحَارِبُهُ خَسَارًا ... وَيَلْقَى مَنْ يُسَالِمُهُ فُلُوجَا
فَيَا لَيْتِي إذَا مَا كَانَ ذَاكُمْ ... شَهِدْت فَكُنْت أَوّلَهُمْ وُلُوجَا
وُلُوجًا فِي الّذِي كَرِهَتْ قُرَيْشٌ ... وَلَوْ عَجّتْ بِمَكّتِهَا عَجِيجًا
أَرُجّيَ بِاَلّذِي كَرِهُوا جَمِيعًا ... إلَى ذِي الْعَرْشِ إنْ سَفَلُوا
عُرُوجَا
وَهَلْ أَمْرُ السّفَالَةِ غَيْرُ كُفْرٍ ... بِمَنْ يَخْتَارُ مِنْ سُمْكِ
الْبُرُوجَا
فَإِنْ يَبْقَوْا وَأَبْقَ تَكُنْ أُمُورٌ ... يَضِجّ الْكَافِرُونَ لَهَا
ضَجِيجَا
وَإِنْ أَهْلِكْ فَكُلّ فَتًى سَيَلْقَى ... مِنْ الْأَقْدَارِ مَتْلَفَةً خَرُوجَا
[ ص 334 ] [ ص 335 ]Sتَرْجَمَةُ
وَرَقَةَ
وَذَكَرَ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، وَأُمّ
وَرَقَةَ هِنْدُ بِنْتُ أَبِي كَبِيرِ بْنِ عَبْدِ بْنِ قُصَيّ ، وَلَا عَقِبَ
لَهُ وَهُوَ أَحَدُ مَنْ آمَنَ بِالنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
قَبْلَ الْبَعْثِ وَرَوَى التّرْمِذِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ " رَأَيْته فِي الْمَنَامِ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ
بِيضٌ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النّارِ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ
" ، وَهُوَ حَدِيثٌ فِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ . لِأَنّهُ يَدُورُ عَلَى
عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ ، وَلَكِنْ يُقَوّيهِ مَا يَأْتِي بَعْدَ هَذَا
مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ رَأَيْت الْقَسّ يَعْنِي ، وَرَقَةَ وَعَلَيْهِ
ثِيَابٌ حَرِيرٌ لِأَنّهُ أَوّلُ مَنْ آمَنَ بِي ، وَصَدّقَنِي ، وَسَيَأْتِي
بَقِيّةٌ مِنْ خَبَرِهِ فِيمَا بَعْدُ - إنْ شَاءَ اللّهُ - وَقَدْ أَلْفَيْت
لِلْحَدِيثِ الّذِي خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ فِي وَرَقَةَ إسْنَادًا جَيّدًا غَيْرَ
الّذِي ذَكَرَهُ التّرْمِذِيّ ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُعَاذٍ الصّنْعَانِيّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ
عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، كَمَا بَلَغَنَا
فَقَالَ " رَأَيْته فِي الْمَنَامِ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ فَقَدْ أَظُنّ
أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النّارِ لَمْ أَرَ عَلَيْهِ الْبَيَاضَ وَكَانَ
يَذْكُرُ اللّهَ فِي سَفَرِهِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَيُسَبّحُهُ وَهُوَ الّذِي
يَقُولُ [ ص 330 ]
لَقَدْ نَصَحْت لِأَقْوَامِ وَقُلْت لَهُمْ ... أَنَا النّذِيرُ فَلَا
يَغْرُرْكُمْ أَحَدٌ
لَا تَعْبُدُنّ إلَهًا غَيْرَ خَالِقِكُمْ ... فَإِنْ دَعَوْكُمْ فَقُولُوا :
بَيْنَنَا جَدَدُ
سُبْحَانَ ذِي الْعَرْشِ سُبْحَانًا يَدُومُ لَهُ ... وَقَبْلَنَا سَبّحَ
الْجُودِيّ وَالْجَمَدُ
مُسَخّرٌ كُلّ مَا تَحْتَ السّمَاءِ لَهُ ... لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنَاوِي
مُلْكَهُ أَحَدُ
لَا شَيْءَ مِمّا تَرَى تَبْقَى بَشَاشَتُهُ ... يَبْقَى الْإِلَهُ وَيُودِي
الْمَالُ وَالْوَلَدُ
لَمْ تُغْنِ عَنْ هُرْمُزٍ يَوْمًا خَزَائِنُهُ ... وَالْخُلْدُ قَدْ حَاوَلَتْ
عَادٌ فَمَا خَلَدُوا
وَلَا سُلَيْمَانُ إذْ تَجْرِي الرّيَاحُ بِهِ ... وَالْإِنْسُ وَالْجِنّ فِيمَا
بَيْنَهَا مَرَدُ
أَيْنَ الْمُلُوكُ الّتِي كَانَتْ لِعِزّتِهَا ... مِنْ كُلّ أَوْبٍ إلَيْهَا
وَافِدٌ يَفِدُ
حَوْضٌ هُنَالِكَ مَوْرُودٌ بِلَا كَذِبٍ ... لَا بُدّ مِنْ وِرْدِهِ يَوْمًا
كَمَا وَرَدُوا
نَسَبَهُ أَبُو الْفَرَجِ إلَى وَرَقَةَ وَفِيهِ أَبْيَاتٌ تُنْسَبُ إلَى أُمَيّةَ
بْنِ أَبِي الصّلْتِ ، وَمِنْ قَوْلِهِ فِيمَا خَبّرَتْهُ بِهِ خَدِيجَةُ - رَضِيَ
اللّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
يَا لِلرّجَالِ لِصَرْفِ الدّهْرِ وَالْقَدَرِ ... وَمَا لِشَيْءِ قَضَاهُ اللّهُ
مِنْ غِيَرِ
حَتّى خَدِيجَةُ تَدْعُونِي لِأُخْبِرَهَا ... أَمْرًا أَرَاهُ سَيَأْتِي النّاسَ
مِنْ أُخُرِ
فَخَبّرَتْنِي بِأَمْرِ قَدْ سَمِعْت بِهِ ... فِيمَا مَضَى مِنْ قَدِيمِ الدّهْرِ
وَالْعُصُرِ
بِأَنّ أَحْمَدَ يَأْتِيهِ فَيُخْبِرُهُ ... جِبْرِيلُ إنّك مَبْعُوثٌ إلَى
الْبَشَرِ
فَقُلْت : عَلّ الّذِي تَرْجِينَ يُنْجِزُهُ ... لَك الْإِلَهُ فَرَجّي الْخَيْرَ
وَانْتَظِرِي
وَأَرْسَلَتْهُ إلَيْنَا كَيْ نُسَائِلَهُ ... عَنْ أَمْرِهِ مَا يَرَى فِي
النّوْمِ وَالسّهَرِ
فَقَالَ حِينَ أَتَانَا مَنْطِقًا عَجَبًا ... يَقِفّ مِنْهُ أَعَالِي الْجِلْدِ
وَالشّعَرِ
إنّي رَأَيْت أَمِينَ اللّهِ وَاجَهَنِي ... فِي صُورَةٍ أُكْمِلَتْ فِي أَهْيَبِ
الصّوَرِ
ثُمّ اسْتَمَرّ فَكَانَ الْخَوْفُ يَذْعَرُنِي ... مِمّا يُسَلّمُ مِنْ حَوْلِي
مِنْ الشّجَرِ
فَقُلْت : ظَنّي وَمَا أَدْرِي أَيَصْدُقُنِي أ ... سَوْفَ تُبْعَثُ تَتْلُو
مَنْزِلَ السّوَرِ
وَسَوْفَ أُبْلِيكَ إنْ أَعْلَنْت دَعْوَتَهُمْ ... مِنْ الْجِهَادِ بِلَا مَنّ
وَلَا كَدَرِ
مُثَنّى يُقْصَدُ بِهِ الْمُفْرَدُ
فَصْلٌ
[ ص 331 ]
بِبَطْنِ الْمَكّتَيْنِ عَلَى رَجَائِي ... حَدِيثُك أَنْ أَرَى مِنْهُ خُرُوجَا
ثَنّى مَكّةَ ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ لِأَنّ لَهَا بِطَاحًا وَظَوَاهِرَ وَقَدْ
ذَكَرْنَا مِنْ أَهْلِ الْبِطَاحِ ، وَمِنْ أَهْلِ الظّوَاهِرِ فِيمَا قَبْلُ
عَلَى أَنّ لِلْعَرَبِ مَذْهَبًا فِي أَشْعَارِهَا فِي تَثْنِيَةِ الْبُقْعَةِ
الْوَاحِدَةِ وَجَمْعِهَا نَحْوَ قَوْلِهِ وَمَيّتٌ بِغَزّاتِ . يُرِيدُ بِغَزّةَ
وَبِغَادَيْنِ فِي بَغْدَادَ ، وَأَمّا التّثْنِيَةُ فَكَثِيرٌ نَحْوَ قَوْلِهِ
بِالرّقْمَتَيْنِ لَهُ أَجْرٍ وَأَعْرَاسُ ... وَالْحَمّتَيْنِ سَقَاك اللّهُ مِنْ
دَارِ
وَقَوْلُ زُهَيْرٍ وَدَارٌ لَهَا بِالرّقْمَتَيْنِ . وَقَوْلُ وَرَقَةَ مِنْ هَذَا
: بِبَطْنِ الْمَكّتَيْنِ . لَا مَعْنَى لِإِدْخَالِ الظّوَاهِرِ تَحْتَ هَذَا
اللّفْظِ وَقَدْ أَضَافَ إلَيْهَا الْبَطْنَ كَمَا أَضَافَهُ الْمُبْرِقُ حِينَ
قَالَ بِبَطْنِ مَكّةَ مَقْهُورٌ وَمَفْتُونٌ
وَإِنّمَا يَقْصِدُ الْعَرَبُ فِي هَذَا الْإِشَارَةَ إلَى جَانِبَيْ كُلّ
بَلْدَةٍ أَوْ الْإِشَارَةَ إلَى أَعْلَى الْبَلْدَةِ وَأَسْفَلِهَا ،
فَيَجْعَلُونَهَا اثْنَيْنِ عَلَى هَذَا الْمَغْزَى ، وَقَدْ قَالُوا : صِدْنَا
بِقَنَوَيْنِ وَهُوَ قَنَا اسْمُ جَبَلٍ [ ص 332 ] وَقَالَ عَنْتَرَةُ : شَرِبْت
بِمَاءِ الدّخُرُضَيْنِ
وَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ قَالَ عَنْتَرَةُ أَيْضًا :
بِعُنَيْزَتَيْنِ وَأَهْلُنَا بِالْعَيْلَمِ
وَعُنَيْزَةُ اسْمُ مَوْضِعٍ وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ : عَشِيّةَ سَالَ
الْمِرْبَدَانِ كِلَاهُمَا
وَإِنّمَا هُوَ مِرْبَدُ الْبَصْرَةِ . وَقَوْلُهُمْ تَسْأَلُنِي بِرَامَتَيْنِ
سَلْجَمَا
وَإِنّمَا هُوَ رَامَةٌ وَهَذَا كَثِيرٌ . وَأَحْسَنُ مَا تَكُونُ هَذِهِ التّثْنِيَةُ
إذَا كَانَتْ فِي ذِكْرِ جَنّةٍ وَبُسْتَانٍ فَتُسَمّيهَا جَنّتَيْنِ فِي فَصِيحِ
الْكَلَامِ إشْعَارًا بِأَنّ لَهَا وَجْهَيْنِ وَأَنّك إذَا دَخَلْتهَا ،
وَنَظَرْت إلَيْهَا يَمِينًا وَشِمَالًا رَأَيْت مِنْ كِلْتَا النّاحِيَتَيْنِ مَا
يَمْلَأُ عَيْنَيْك قُرّةً وَصَدْرَك مَسَرّةً وَفِي التّنْزِيلِ { لَقَدْ كَانَ
لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ } إلَى
قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَبَدّلْنَاهُمْ بِجَنّتَيْهِمْ جَنّتَيْنِ } [ سَبَأٌ :
15ْ ] . وَفِيهِ { جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ } [ الْكَهْفُ : 32 ]
الْآيَةُ . وَفِي آخِرِهَا : { وَدَخَلَ جَنّتَهُ } فَأَفْرَدَ بَعْدَمَا ثَنّى ،
وَهِيَ هِيَ وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلَهُ
سُبْحَانَهُ { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ } [ الرّحْمَنُ 46 ] ،
وَالْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَتّسِعُ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .
النّورُ وَالضّيَاءُ
فَصْلٌ
وَقَالَ فِي هَذَا الشّعْرِ وَيَظْهَرُ فِي الْبِلَادِ ضِيَاءُ نُورٍ . هَذَا
الْبَيْتُ يُوَضّحُ لَك مَعْنَى النّورِ وَمَعْنَى الضّيَاءِ وَأَنّ الضّيَاءَ هُوَ
الْمُنْتَشِرُ عَنْ النّورِ وَأَنّ النّورَ هُوَ الْأَصْلُ لِلضّوْءِ وَمِنْهُ
مَبْدَؤُهُ وَعَنْهُ يَصْدُرُ وَفِي التّنْزِيلِ { فَلَمّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ
ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } [ الْبَقَرَةُ 17 ] . وَفِيهِ { جَعَلَ الشّمْسَ
ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا } [ يُونُسُ 5 ] لِأَنّ نُورَ الْقَمَرِ لَا [ ص 333 ]
الصّلَاةُ نُورٌ وَالصّبْرُ ضِيَاءٌ وَذَلِكَ أَنّ الصّلَاةَ هِيَ عَمُودُ
الْإِسْلَامِ وَهِيَ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ وَهِيَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ فَالصّبْرُ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ وَالصّبْرُ عَلَى الطّاعَاتِ هُوَ
الضّيَاءُ الصّادِرُ عَنْ هَذَا النّورِ الّذِي هُوَ الْقُرْآنُ وَالذّكْرُ وَفِي
أَسْمَاءِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ { اللّهُ نُورُ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [
النّورُ 35 ] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضّيَاءُ مِنْ أَسْمَائِهِ - سُبْحَانَهُ
- وَقَدْ أَمْلَيْت فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ مِنْ مَعْنَى نُورِ السّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ مَا فِيهِ شِفَاءٌ وَالْحَمْدُ لِلّهِ .
نُونُ الْوِقَايَةِ فِي إنّ وَأَخَوَاتِهَا
فَصْلٌ
وَفِي شِعْرِ وَرَقَةَ فَيَا لَيْتَنِي إذَا مَا كَانَ ذَاكُمْ . بِحَذْفِ نُونِ
الْوِقَايَةِ وَحَذْفُهَا مَعَ لَيْتَ رَدِيءٌ وَهُوَ فِي لَعَلّ أَحْسَنُ مِنْهُ
لِقُرْبِ مَخْرَجِ اللّامِ مِنْ النّونِ حَتّى لَقَدْ قَالُوا : لَعَلّ وَلَعَنّ
وَلِأَنّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلَا سِيّمَا وَقَدْ حَكَى يَعْقُوبُ أَنّ مِنْ
الْعَرَبِ مَنْ يَخْفِضُ بِلَعَلّ وَهَذَا يُؤَكّدُ حَذْفَ النّونِ مِنْ لَعَلّنِي
، وَأَحْسَنُ مَا يَكُونُ حَذْفُ هَذِهِ النّونِ فِي إنّ وَأَنّ وَلَكِنّ وَكَأَنّ
لِاجْتِمَاعِ النّونَاتِ وَحَسّنَهُ فِي لَعَلّ أَيْضًا كَثْرَةُ حُرُوفِ
الْكَلِمَةِ وَفِي التّنْزِيلِ { لَعَلّي أَرْجِعُ إِلَى النّاسِ } [ يُوسُفُ 46 ]
. بِغَيْرِ نُونٍ وَمَجِيءُ هَذِهِ الْيَاءِ فِي لَيْتِي بِغَيْرِ نُونٍ مَعَ أَنّ
لَيْتَ نَاصِبَةٌ يَدُلّك عَلَى أَنّ الِاسْمَ الْمُضْمَرَ فِي ضَرَبَنِي هُوَ
الْيَاءُ دُونَ النّونِ كَمَا هُوَ فِي : ضَرَبَك ، وَضَرَبَهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ
وَهُوَ الْكَافُ وَلَوْ كَانَ الِاسْمُ هُوَ النّونَ مَعَ الْيَاءِ - كَمَا
قَالُوا فِي الْمَخْفُوضِ مِنّي وَعَنّي بِنُونَيْنِ نُونِ مِنْ وَنُونٍ أُخْرَى
مَعَ الْيَاءِ فَإِذًا الْيَاءُ وَحْدَهَا هِيَ الِاسْمُ فِي حَالِ الْخَفْضِ
وَفِي حَالِ النّصْبِ . [ ص 334 ]
حَوْلَ تَقَدّمِ صِلَةِ الْمَصْدَرِ عَلَيْهِ
فَصْلٌ
وَفِيهِ حَدِيثُك أَنْ أَرَى مِنْهُ خُرُوجَا . قَوْلُهُ مِنْهُ الْهَاءُ
رَاجِعَةٌ عَلَى الْحَدِيثِ وَحَرْفُ الْجَرّ مُتَعَلّقٌ بِالْخُرُوجِ وَإِنْ
كَرِهَ النّحْوِيّونَ ذَلِكَ لِأَنّ مَا كَانَ مِنْ صِلَةِ الْمَصْدَرِ عِنْدَهُمْ
فَلَا يَتَقَدّمُ عَلَيْهِ لِأَنّ الْمَصْدَرَ مُقَدّرٌ بِأَنْ وَالْفِعْلِ فَمَا
يَعْمَلُ فِيهِ هُوَ مِنْ صِلَةِ أَنْ فَلَا يَتَقَدّمُ فَمَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ
فِي هَذَا الْأَصْلِ وَلَمْ يُخَصّصْ مَصْدَرًا مِنْ مَصْدَرٍ فَقَدْ أَخْطَأَ
الْمُفَصّلَ وَتَاهَ فِي تُضُلّلٍ فَفِي التّنْزِيلِ { أَكَانَ لِلنّاسِ عَجَبًا
أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ } [ يُونُسُ 2 ] . وَمَعْنَاهُ أَكَانَ
عَجَبًا لِلنّاسِ أَنْ أَوْحَيْنَا ، وَلَا بُدّ لِلّامِ هَاهُنَا أَنْ تَتَعَلّقَ
بِعَجَبِ لِأَنّهَا لَيْسَتْ فِي مَوْضِعِ صِفَةٍ وَلَا مَوْضِعِ حَالٍ لِعَدِمِ
الْعَامِلِ فِيهَا ، وَفِيهِ أَيْضًا : { لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا } [
الْكَهْفُ : 108 ] { وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } [ الْكَهْفُ : 53 ] .
وَفِيهِ أَيْضًا : { لَوَلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا } [ الْكَهْفُ : 18 ] .
وَتَقُولُ لِي فِيك رَغْبَةٌ وَمَا لِي عَنْك مُعَوّلٌ فَيَحْسُنُ كُلّ هَذَا
بِلَا خِلَافٍ وَقَدْ أَجَازَ ابْنُ السّرَاجِ أَبُو بَكْرٍ و [ مُحَمّدُ بْنُ
يَزِيدَ ] الْمُبَرّدُ أَيْضًا فِي ضَرْبًا زَيْدًا ، إذَا أَرَدْت الْأَمْرَ أَنْ
تُقَدّمَ الْمَفْعُولَ الْمَنْصُوبَ بِالْمَصْدَرِ وَقَالَ لِأَنّ ضَرْبًا
هَاهُنَا فِي مَعْنَى : اضْرِبْ فَقَدْ خُصّصَ لَك ضَرْبًا مِنْ الْمَصَادِرِ
بِجَوَازِ تَقْدِيمِ مَعْمُولِهَا عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَ الْمَصْدَرُ غَيْرَ
أَمْرٍ وَكَانَ نَكِرَةً لَمْ يَتَقَدّمْ الْمَفْعُولُ خَاصّةً عَلَيْهِ بِخِلَافِ
الْمَجْرُورِ وَالظّرْفِ فَالْوَاجِبُ إذًا رَبْطُ هَذَا الْبَابِ وَتَفْصِيلُهُ .
مَتَى يَجُوزُ تَقْدِيمُ مَعْمُولِ الْمَصْدَرِ ؟
فَنَقُولُ كُلّ مَصْدَرٍ نَكِرَةٌ غَيْرِ مُضَافٍ إلَى مَا بَعْدَهُ يَجُوزُ
تَقْدِيمُ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ إلّا الْمَفْعُولَ لِأَنّ الْمَصْدَرَ النّكِرَةَ
لَا يَتَقَدّرُ بِأَنْ وَالْفِعْلِ لِأَنّك إنْ قَدّرْته بِأَنْ وَالْفِعْلِ
بَقِيَ الْفِعْلُ بِلَا فَاعِلٍ وَمَا كَانَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَهُ
فَالْمُضَافُ إلَيْهِ فَاعِلٌ فِي الْمَعْنَى أَوْ مَفْعُولٌ فَلِذَلِكَ يَصِيرُ
الْمَصْدَرُ مُقَدّرًا بِأَنْ وَالْفِعْلِ فَقِفْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَمِنْهُ
حُسْنُ قَوْلٍ وَرِقّةٌ أَنْ أَرَى مِنْهُ خُرُوجًا ، أَيْ أَرَى خُرُوجًا مِنْهُ
وَكَذَلِكَ لَوْ ذَكَرَ الدّخُولَ فَقَالَ أَرَى فِيهِ دُخُولًا ، يُرِيدُ
دُخُولًا فِيهِ لَكَانَ حَسَنًا ، وَتَقُولُ اللّهُمّ اجْعَلْ مِنْ أَمْرِنَا
فَرَجَا وَمَخْرَجًا ، فَمِنْ أَمْرِنَا : مُتَعَلّقٌ بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ
مَصْدَرٌ وَلَا خَفَاءَ فِي حُسْنِ هَذَا التّقْدِيمِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَمِنْ
قَوْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فِي مَعْنَى مَا تَقَدّمَ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ
عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ :
أَتُبْكِرُ أَمْ أَنْتَ الْعَشِيّةَ رَائِحُ ... وَفِي الصّدْرِ مِنْ إضْمَارِك
الْحُزْنَ قَادِحُ
لِفُرْقَةِ قَوْمٍ لَا أُحِبّ فِرَاقَهُمْ ... كَأَنّك عَنْهُمْ بَعْدَ يَوْمَيْنِ
نَازِحُ
وَأَخْبَارِ صِدْقٍ خَبّرَتْ عَنْ مُحَمّدٍ ... يُخَبّرُهَا عَنْهُ إذَا غَابَ
نَاصِحُ
فَتَاك الّذِي وَجّهْت يَا خَيْرَ حُرّةٍ ... بِغَوْرِ وَالنّجْدَيْنِ حَيْثُ
الصّحَاصِحُ
إلَى سُوقِ بُصْرَى فِي الرّكَابِ الّتِي غَدَتْ ... وَهُنّ مِنْ الْأَحْمَالِ
قُعْصٌ دَوَالِحُ
فَخَبّرْنَا عَنْ كُلّ خَيْرٍ بِعِلْمِهِ ... وَلِلْحَقّ أَبْوَابٌ لَهُنّ
مَفَاتِحُ
بِأَنّ ابْنَ عَبْدِ اللّهِ أَحْمَدَ مُرْسَلٌ ... إلَى كُلّ مَنْ ضَمّتْ عَلَيْهِ
الْأَبَاطِحُ
وَظَنّي بِهِ أَنْ سَوْفَ يُبْعَثُ صَادِقًا ... كَمَا أُرْسِلَ الْعَبْدَانِ
هُودٌ وَصَالِحُ
وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمُ حَتّى يُرَى لَهُ ... بَهَاءٌ وَمَنْثُورٌ مِنْ الذّكْرِ
وَاضِحُ
وَيَتْبَعُهُ حَيّا لُؤَيّ جَمَاعَةً ... شُيّابُهُمْ وَالْأَشْيَبُونَ
الْجَحَاجِحُ
فَإِنْ أَبْقَ حَتّى يُدْرِكَ النّاسُ دَهْرَهُ ... فَإِنّي بِهِ مُسْتَبْشِرُ
الْوُدّ فَارِحُ
وَإِلّا فَإِنّي يَا خَدِيجَةُ - فَاعْلَمِي ... عَنْ أرضك فِي الْأَرْضِ
الْعَرِيضَةِ سَائِحُ
[ ص 335 ]
حَدِيثُ
بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ وَحُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بَيْنَ قُرَيْشٍ فِي وَضْعِ الْحَجَرِ
[ ص 336 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ
لِبُنْيَانِ الْكَعْبَةِ ، وَكَانُوا يَهُمّونَ بِذَلِكَ لِيَسْقُفُوهَا
وَيَهَابُونَ هَدْمَهَا ، وَإِنّمَا كَانَتْ رَدْمًا فَوْقَ الْقَامَةِ
فَأَرَادُوا رَفْعَهَا وَتَسْقِيفَهَا ، وَذَلِكَ أَنّ نَفَرًا سَرَقُوا كَنْزًا
لِلْكَعْبَةِ وَإِنّمَا كَانَ يَكُونُ فِي [ ص 337 ] الْكَعْبَةِ ، وَكَانَ الّذِي
وُجِدَ عِنْدَهُ الْكَنْزُ دُوَيْكًا مَوْلًى لِبَنِي مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ
خُزَاعَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَقَطَعَتْ قُرَيْشٌ يَدَهُ . وَتَزْعُمُ
قُرَيْشٌ أَنّ الّذِينَ سَرَقُوهُ وَضَعُوهُ عِنْدَ دُوَيْكٍ وَكَانَ الْبَحْرُ
قَدْ رَمَى بِسَفِينَةِ إلَى جَدّةٍ لِرَجُلِ مِنْ تُجّارِ الرّومِ ، فَتَحَطّمَتْ
فَأَخَذُوا خَشَبَهَا فَأَعَدّوهُ لِتَسْقِيفِهَا ، وَكَانَ بِمَكّةَ رَجُلٌ
قِبْطِيّ نَجّارٌ فَتَهَيّأَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بَعْضَ مَا يُصْلِحُهَا
وَكَانَتْ حَيّةٌ تَخْرُجُ مِنْ بِئْرِ الْكَعْبَةِ الّتِي كَانَ يُطْرَحُ فِيهَا
مَا يُهْدَى لَهَا كُلّ يَوْمٍ فَتَتَشَرّقُ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ ،
وَكَانَتْ مِمّا يَهَابُونَ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ لَا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ
إلّا احْزَأَلّتْ وَكَشّتْ وَفَتَحَتْ فَاهَا ، وَكَانُوا يَهَابُونَهَا ،
فَبَيْنَا هِيَ ذَاتَ يَوْمٍ تَتَشَرّقُ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ ، كَمَا
كَانَتْ تَصْنَعُ بَعَثَ اللّهُ إلَيْهَا طَائِرًا فَاخْتَطَفَهَا ، فَذَهَبَ
بِهَا ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : إنّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللّهُ قَدْ رَضِيَ مَا
أَرَدْنَا ، عِنْدَنَا عَامِلٌ رَفِيقٌ وَعِنْدَنَا خَشَبٌ وَقَدْ كَفَانَا اللّهُ
الْحَيّةَ . فَلَمّا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ فِي هَدْمِهَا وَبِنَائِهَا ، قَامَ
أَبُو وَهْبِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ
مَخْزُومٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَائِذُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ .
فَتَنَاوَلَ مِنْ الْكَعْبَةِ حَجَرًا ، فَوَثَبَ مِنْ يَدِهِ حَتّى رَجَعَ إلَى
مَوْضِعِهِ . فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، لَا تُدْخِلُوا فِي بِنَائِهَا مِنْ
كَسْبِكُمْ إلّا طَيّبًا ، لَا يَدْخُلُ فِيهَا مَهْرُ بَغِيّ وَلَا بَيْعُ رِبًا
، وَلَا مَظْلِمَةُ أَحَدٍ مِنْ النّاسِ وَالنّاسُ يَنْحِلُونَ هَذَا الْكَلَامَ
الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ الْمَكّيّ
أَنّهُ حَدّثَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفِ بْنِ
وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ
لُؤَيّ . أَنّهُ رَأَى ابْنًا لِجَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبِ بْنِ
عَمْرٍو يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ هَذَا ابْنٌ لِجَعْدَةَ بْنِ
هُبَيْرَةَ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ صَفْوَانَ عِنْدَ ذَلِكَ جَدّ هَذَا ،
يَعْنِي : أَبَا وَهْبٍ الّذِي أَخَذَ حَجَرًا مِنْ الْكَعْبَةِ حِينَ أَجْمَعَتْ
قُرَيْشٌ لِهَدْمِهَا ، فَوَثَبَ مِنْ يَدِهِ حَتّى رَجَعَ إلَى مَوْضِعِهِ
فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ : لَا تُدْخِلُوا فِي بِنَائِهَا
مِنْ كَسْبِكُمْ إلّا طَيّبًا . لَا تُدْخِلُوا فِيهَا مَهْرَ بَغِيّ وَلَا بَيْعَ
رِبًا ، وَلَا مَظْلِمَةَ أَحَدٍ مِنْ النّاسِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَبُو
وَهْبٍ خَالُ أَبِي رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَكَانَ
شَرِيفًا ، وَلَهُ يَقُولُ شَاعِرٌ مِنْ الْعَرَبِ [ ص 338 ]
وَلَوْ يَأْبَى وَهْبٌ أَنَخْت مَطِيّتِي ... غَدَتْ مِنْ نَدَاهُ رَحْلُهَا
غَيْرُ خَائِبِ
بِأَبْيَضَ مِنْ فَرْعَيْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ... إذَا حُصّلَتْ أَنْسَابُهَا فِي
الذّوَائِبِ
أَبِيّ لِأَخْذِ الضّيْمِ يَرْتَاحُ لِلنّدَى ... تَوَسّطَ جَدّاهُ فُرُوعَ
الْأَطَايِبِ
عَظِيمُ رَمَادِ الْقَدْرِ يَمْلَا جِفَانَهُ ... مِنْ الْخُبْزِ يَعْلُوهُنّ
مِثْلَ السّبَائِبِ
ثُمّ إنّ قُرَيْشًا تَجَزّأَتْ الْكَعْبَةَ ، فَكَانَ شِقّ الْبَابِ لِبَنِي
عَبْدِ مَنَافٍ وَزَهْرَة َ وَكَانَ مَا بَيْنَ الرّكْنِ الْأَسْوَدِ وَالرّكْنِ
الْيَمَانِيّ لِبَنِي مَخْزُومٍ ، وَقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ انْضَمّوا إلَيْهِمْ
وَكَانَ ظَهْرُ الْكَعْبَةِ لِبَنِي جُمَحٍ وَسَهْمُ ابْنَيْ عَمْرِو بْنِ
هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَكَانَ شِقّ الْحَجَرِ لِبَنِي عَبْدِ
الدّارِ بْنِ قُصَيّ ، وَلِبَنِي أَسَدِ بْنِ الْعُزّى بْن قُصَي ّ ، وَلِبَنِي
عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ وَهُوَ الْحَطِيمُ . ثُمّ إنّ النّاسَ هَابُوا
هَدْمَهَا وَفَرِقُوا مِنْهُ فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ : أَنَا أَبْدَؤُكُمْ
فِي هَدْمِهَا ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ ثُمّ قَامَ عَلَيْهَا ، وَهُوَ يَقُولُ
اللّهُمّ لَمْ تُرَعْ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ لَمْ نَزِغْ - اللّهُمّ
إنّا لَا نُرِيدُ إلّا الْخَيْرَ ثُمّ هَدَمَ مِنْ نَاحِيَةِ الرّكْنَيْنِ
فَتَرَبّصَ النّاسُ تِلْكَ اللّيْلَةَ وَقَالُوا : نَنْظُرُ فَإِنْ أُصِيبَ لَمْ
نَهْدِمْ مِنْهَا شَيْئًا وَرَدَدْنَاهَا كَمَا كَانَتْ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ
شَيْءٌ فَقَدْ رَضِيَ اللّهُ صُنْعَنَا ، فَهَدَمْنَا . فَأَصْبَحَ الْوَلِيدُ
مِنْ لَيْلَتِهِ غَادِيًا عَلَى عَمَلِهِ فَهَدَمَ وَهَدَمَ النّاسُ مَعَهُ حَتّى
إذَا انْتَهَى الْهَدْمُ بِهِمْ إلَى الْأَسَاسِ أَسَاسِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السّلَامُ أَفْضَوْا إلَى حِجَارَةٍ خُضْرٍ كَالْأَسْنِمَةِ آخِذٌ بَعْضُهَا
بَعْضًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بَعْضُ مَنْ يَرْوِي الْحَدِيثَ أَنّ
رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ ، مِمّنْ كَانَ يَهْدِمُهَا ، أَدْخَلَ عَتَلَةً بَيْنَ
حَجَرَيْنِ مِنْهَا لِيَقْلَعَ بِهَا أَحَدَهُمَا ، فَلَمّا تَحَرّكَ الْحَجَرُ
تَنَقّضَتْ مَكّةُ بِأَسْرِهَا ، فَانْتَهَوْا عَنْ ذَلِكَ الْأَسَاسِ . [ ص 339 ]
[ ص 340 ] [ ص 341 ] [ ص 342 ] [ ص 343 ] [ ص 344 ] [ ص 336 ]Sبُنْيَانِ
الْكَعْبَةِ
فَفِي خَبَرِهَا أَنّهَا كَانَتْ رَضْمًا فَوْقَ الْقَامَةِ . الرّضْمُ أَنْ
تُنَضّدَ الْحِجَارَةُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ مِلَاطٍ كَمَا قَالَ
رَزِئْتهمْ فِي سَاعَةٍ جَرّعْتهمْ ... كُؤُوسَ الْمَنَايَا تَحْتَ صَخْرٍ
مُرَضّمِ
وَقَوْلُهُ فَوْقَ الْقَامَةِ كَلَامٌ غَيْرُ مُبَيّنٍ لِمِقْدَارِ ارْتِفَاعِهَا
إذْ ذَاكَ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنّهَا كَانَتْ تِسْعَ أَذْرُعٍ مِنْ عَهْدِ
إسْمَاعِيلَ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا سَقْفٌ فَلَمّا بَنَتْهَا قُرَيْشٌ قَبْلَ
الْإِسْلَامِ زَادُوا فِيهَا تِسْعَ أَذْرُعٍ ، فَكَانَتْ ثَمَانِي عَشْرَةَ
ذِرَاعًا ، وَرَفَعُوا بَابَهَا عَنْ الْأَرْضِ فَكَانَ لَا يُصْعَدُ إلَيْهَا
إلّا فِي دَرَجٍ أَوْ سُلّمٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَوّلَ مَنْ عَمِلَ لَهَا غَلَقًا ،
وَهُوَ تَبَعٌ . ثُمّ لَمّا بَنَاهَا ابْنُ الزّبَيْرِ زَادَ فِيهَا تِسْعَ
أَذْرُعٍ ، فَكَانَتْ سَبْعًا وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا ، وَعَلَى ذَلِكَ هِيَ الْآنَ
وَكَانَ بِنَاؤُهَا فِي الدّهْرِ خَمْسَ مَرّاتٍ . الْأُولَى : حِينَ بَنَاهَا
شِيثُ بْنُ آدَمَ وَالثّانِيَةُ حِينَ بَنَاهَا إبْرَاهِيمُ عَلَى الْقَوَاعِدِ
الْأُولَى ، وَالثّالِثَةُ حِينَ بَنَتْهَا قُرَيْشٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ
بِخَمْسَةِ أَعْوَامٍ وَالرّابِعَةُ حِينَ احْتَرَقَتْ فِي عَهْدِ ابْنِ لزّبَيْرِ
بِشَرَارَةِ طَارَتْ مِنْ أَبِي قُبَيْسٍ ، فَوَقَعَتْ فِي أَسْتَارِهَا ، فَاحْتَرَقَتْ
وَقِيلَ إنّ امْرَأَةً [ ص 337 ] [ ص 338 ] أَرَادَتْ أَنْ تُجَمّرَهَا ،
فَطَارَتْ شَرَارَةٌ مِنْ الْمِجْمَرِ فِي أَسْتَارِهَا ، فَاحْتَرَقَتْ فَشَاوَرَ
ابْنُ الزّبَيْرِ فِي هَدْمِهَا مَنْ حَضَرَهُ فَهَابُوا هَدْمَهَا ، وَقَالُوا :
نَرَى أَنْ تُصْلَحَ مَا وَهَى ، وَلَا تُهْدَمَ . فَقَالَ لَوْ أَنّ بَيْتَ
أَحَدِكُمْ احْتَرَقَ لَمْ يَرْضَ لَهُ إلّا بِأَكْمَلِ صَلَاحٍ . وَلَا يَكْمُلُ
إصْلَاحُهَا إلّا بِهَدْمِهَا . فَهَدَمَهَا حَتّى أَفْضَى إلَى قَوَاعِدِ
إبْرَاهِيمَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَزِيدُوا فِي الْحَفْرِ . فَحَرّكُوا حَجَرًا
فَرَأَوْا تَحْتَهُ نَارًا وَهَوْلًا . أَفْزَعَهُمْ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقِرّوا
الْقَوَاعِدَ وَأَنْ يَبْنُوا مِنْ حَيْثُ انْتَهَى الْحَفْرُ . [ ص 339 ]
الْخَبَرِ أَنّهُ سَتَرَهَا حِينَ وَصَلَ إلَى الْقَوَاعِدِ فَطَافَ النّاسُ بِتِلْكَ
الْأَسْتَارِ فَلَمْ تَخْلُ قَطّ مِنْ طَائِفٍ حَتّى لَقَدْ ذُكِرَ أَنّ يَوْمَ
قَتْلِ ابْنِ الزّبَيْرِ اشْتَدّتْ الْحَرْبُ وَاشْتَغَلَ النّاسُ فَلَمْ يُرَ
طَائِفٌ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ إلّا جَمَلٌ يَطُوفُ بِهَا ، فَلَمّا اسْتَتَمّ
بُنْيَانُهَا ، أُلْصِقَ بَابُهَا بِالْأَرْضِ وَعَمِلَ لَهَا خَلْفًا أَيْ بَابًا
آخَرَ مِنْ وَرَائِهَا ، وَأَدْخَلَ الْحِجْرَ فِيهَا ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ
حَدّثَتْهُ بِهِ خَالَتُهُ عَائِشَةُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - أَنّهُ قَالَ أَلَمْ تَرَيْ قَوْمَك حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ
اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ حِين عَجَزَتْ بِهِمْ النّفَقَةُ ثُمّ
قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ لَوْلَا حِدْثَانُ عَهْدِ قَوْمِك بِالْجَاهِلِيّةِ
لَهَدَمْتهَا ، وَجَعَلْت لَهَا خَلْفًا وَأَلْصَقْت بَابَهَا الْأَرْضَ وَأَدْخَلْت
فِيهَا الْحِجْرَ أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - قَالَ ابْنُ الزّبَيْرِ
فَلَيْسَ بِنَا الْيَوْمَ عَجْزٌ عَنْ النّفَقَةِ فَبَنَاهَا عَلَى مُقْتَضَى
حَدِيثِ عَائِشَةَ فَلَمّا قَامَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ، قَالَ لَسْنَا
مِنْ تَخْلِيطِ أَبِي خُبَيْبٍ بِشَيْءِ فَهَدَمَهَا وَبَنَاهَا عَلَى مَا كَانَتْ
عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَمّا
فَرَغَ مِنْ بُنْيَانِهَا جَاءَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَعْرُوفُ
بِالْقُبَاعِ وَهُوَ أَخُو عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الشّاعِرِ وَمَعَهُ رَجُلٌ
آخَرُ فَحَدّثَاهُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدّمِ فَنَدِمَ وَجَعَلَ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ
بِمِخْصَرَةِ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ وَدِدْت أَنّي تَرَكْت أَبَا خُبَيْبٍ وَمَا
تَحَمّلَ مِنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْمَرّةُ الْخَامِسَةُ فَلَمّا قَامَ أَبُو
جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ ، وَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَهَا عَلَى مَا بَنَاهَا ابْنُ
الزّبَيْرِ وَشَاوَرَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : أَنْشُدُك اللّهَ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ تَجْعَلَ هَذَا الْبَيْتَ مَلْعَبَةً
لِلْمُلُوكِ بَعْدَك ، لَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُغَيّرَهُ إلّا غَيّرَهُ
فَتَذْهَبُ هَيْبَتُهُ مِنْ قُلُوبِ النّاسِ فَصَرَفَهُ عَنْ رَأْيِهِ فِيهِ
وَقَدْ قِيلَ إنّهُ بُنِيَ فِي أَيّامِ جُرْهُمَ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ لِأَنّ
السّيْلَ كَانَ قَدْ صَدّعَ حَائِطَهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بُنْيَانًا عَلَى
نَحْوِ مَا قَدّمْنَا ، إنّمَا كَانَ إصْلَاحًا لِمَا وَهَى مِنْهُ وَجِدَارًا
بُنِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السّيْلِ بَنَاهُ عَامِرٌ الْجَارُودُ وَقَدْ تَقَدّمَ
هَذَا الْخَبَرُ ، وَكَانَتْ الْكَعْبَةُ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَهَا شِيثُ عَلَيْهِ
السّلَامُ خَيْمَةً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ يَطُوفُ بِهَا آدَمُ وَيَأْنَسُ
إلَيْهَا ؛ لِأَنّهَا أُنْزِلَتْ إلَيْهِ مِنْ الْجَنّةِ وَكَانَ قَدْ حَجّ إلَى
مَوْضِعِهَا مِنْ الْهِنْدِ ، وَقَدْ قِيلَ إنّ آدَمَ هُوَ أَوّلُ مَنْ بَنَاهَا ،
ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ . وَفِي الْخَبَرِ
أَنّ مَوْضِعَهَا كَانَ غُثَاءَةً عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللّهُ
السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَلَمّا بَدَأَ اللّهُ بِخَلْقِ الْأَشْيَاءِ خَلَقَ
التّرْبَةَ قَبْلَ السّمَاءِ فَلَمّا خَلَقَ السّمَاءَ وَقَضَاهُنّ سَبْعَ
سَمَوَاتٍ دَحَا الْأَرْضَ أَيْ بَسَطَهَا ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النّازِعَاتُ 3 ] [ ص 340 ] دَحَاهَا مِنْ
تَحْتِ مَكّةَ ؛ وَلِذَلِكَ سُمّيَتْ أُمّ الْقُرَى ، وَفِي التّفْسِيرِ أَنّ
اللّهَ سُبْحَانَهُ حِينَ قَالَ لِلسّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ { اِئْتِيَا طَوْعًا
أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فُصّلَتْ 11 ] لَمْ تُجِبْهُ
بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ مِنْ الْأَرْضِ إلّا أَرْضُ الْحَرَمِ ، فَلِذَلِكَ
حَرّمَهَا . وَفِي الْحَدِيثِ أَنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ
السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَصَارَتْ حُرْمَتُهَا كَحُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ لِأَنّ
الْمُؤْمِنَ إنّمَا حُرّمَ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ بِطَاعَتِهِ لِرَبّهِ
وَأَرْضُ الْحَرَمِ لَمّا قَالَتْ أَتَيْنَا طَائِعِينَ حُرّمَ صَيْدُهَا
وَشَجَرُهَا وَخَلَاهَا إلّا الْإِذْخِرَ فَلَا حُرْمَةَ إلّا لَذِي طَاعَةٍ
جَعَلَنَا اللّهُ مِمّنْ أَطَاعَهُ .
سَبَبٌ آخَرُ لِبُنْيَانِ الْبَيْتِ
وَرُوِيَ فِي سَبَبِ بُنْيَانِ الْبَيْتِ خَبَرٌ آخَرُ وَلَيْسَ بِمُعَارِضِ لِمَا
تَقَدّمَ وَذَلِكَ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمّا قَالَ لِمَلَائِكَتِهِ { إِنّي
جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
} [ الْبَقَرَةُ 29 ] . خَافُوا أَنْ يَكُونَ اللّهُ عَاتِبًا عَلَيْهِمْ
لِاعْتِرَاضِهِمْ فِي عِلْمِهِ فَطَافُوا بِالْعَرْشِ سَبْعًا ، يَسْتَرْضُونَ
رَبّهُمْ وَيَتَضَرّعُونَ إلَيْهِ فَأَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنْ يَبْنُوا
الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ فِي السّمَاءِ السّابِعَةِ وَأَنْ يَجْعَلُوا طَوَافَهُمْ
بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ مِنْ الطّوَافِ بِالْعَرْشِ ثُمّ
أَمَرَهُمْ أَنْ يَبْنُوا فِي كُلّ سَمَاءٍ بَيْتًا ، وَفِي كُلّ أَرْضٍ بَيْتًا ،
قَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بَيْتًا ، كُلّ بَيْتٍ مِنْهَا مَنَا
صَاحِبَهُ أَيْ فِي مُقَابَلَتِهِ لَوْ سَقَطَتْ لَسَقَطَتْ بَعْضُهَا عَلَى
بَعْضٍ .
حَوْلَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ مَرّةً أُخْرَى
رُوِيَ أَيْضًا أَنّ الْمَلَائِكَةَ حِينَ أَسّسَتْ الْكَعْبَةَ انْشَقّتْ
الْأَرْضُ إلَى مُنْتَهَاهَا ، وَقُذِفَتْ فِيهَا حِجَارَةٌ أَمْثَالَ الْإِبِلِ
فَتِلْكَ الْقَوَاعِدُ مِنْ الْبَيْتِ الّتِي رَفَعَ إبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ
فَلَمّا جَاءَ الطّوفَانُ رُفِعَتْ وَأُودِعَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ أَبَا
قُبَيْسٍ . وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنّ الْمَاءَ لَمْ يَعْلُهَا حِينَ الطّوفَانِ
وَلَكِنّهُ قَامَ حَوْلَهَا ، وَبَقِيَتْ فِي هَوَاءٍ إلَى السّمَاءِ وَأَنّ
نُوحًا قَالَ لِأَهْلِ السّفِينَةِ وَهِيَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ إنّكُمْ فِي حَرَمِ
اللّهِ وَحَوْلَ بَيْتِهِ فَأَحْرَمُوا لِلّهِ وَلَا يَمَسّ أَحَدٌ امْرَأَةً
وَجَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السّمَاءِ حَاجِزًا ، فَتَعَدّى حَامٌ ، [ ص 341 ]
فَدَعَا عَلَيْهِ نُوحٌ أَنْ يَسْوَدّ لَوْنُ بَنِيهِ فَاسْوَدّ كُوشُ بْنُ حَامٍ
وَنَسْلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَدْ قِيلَ فِي سَبَبِ دَعْوَةِ نُوحٍ
عَلَى حَامٍ غَيْرُ هَذَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَذُكِرَ فِي الْخَبَرِ عَنْ ابْنِ
عَبّاسٍ ، قَالَ أَوّلُ مَنْ عَاذَ بِالْكَعْبَةِ حُوتٌ صَغِيرٌ خَافَ مِنْ حُوتٍ
كَبِيرٍ فَعَاذَ مِنْهُ بِالْبَيْتِ وَذَلِكَ أَيّامَ الطّوفَانِ . ذَكَرَهُ
يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ فَلَمّا نَضَبَ مَاءُ الطّوفَانِ كَانَ مَكَانَ الْبَيْتِ
رَبْوَةٌ مِنْ مَدَرَةٍ وَحَجّ إلَيْهِ هُودٌ وَصَالِحٌ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُمَا ،
وَهُوَ كَذَلِكَ . وَيُذْكَرُ أَنّ يَعْرُبَ قَالَ لِهُودِ عَلَيْهِ السّلَامُ
أَلَا نَبْنِيهِ ؟ قَالَ إنّمَا يَبْنِيهِ نَبِيّ كَرِيمٌ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي
يَتّخِذُهُ الرّحْمَنُ خَلِيلًا ، فَلَمّا بَعَثَ اللّهُ إبْرَاهِيمَ وَشَبّ
إسْمَاعِيلُ بِمَكّةَ أَمَرَ إبْرَاهِيمَ بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ ، فَدَلّتْهُ
عَلَيْهِ السّكِينَةُ وَظَلّلَتْ لَهُ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ فَكَانَتْ
عَلَيْهِ كَالْجُحْفَةِ وَذَلِكَ أَنّ السّكِينَةَ مِنْ شَأْنِ الصّلَاةِ
فَجُعِلَتْ عَلَمًا عَلَى قِبْلَتِهَا حِكْمَةً مِنْ اللّهِ سُبْحَانَهُ وَبَنَاهُ
عَلَيْهِ السّلَامُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تَأْتِيهِ
بِالْحِجَارَةِ مِنْهَا ، وَهِيَ طَوْرُ تَيْنَا ، وَطَوْرُ زَيْتَا اللّذَيْنِ
بِالشّامِ وَالْجُودِيّ وَهُوَ بِالْجَزِيرَةِ وَلُبْنَانُ وَحِرَاءُ وَهُمَا
بِالْحَرَمِ كُلّ هَذَا جَمَعْنَاهُ مِنْ آثَارٍ مَرْوِيّةٍ . وَانْتَبِهْ
لِحِكْمَةِ اللّهِ كَيْفَ جَعَلَ بِنَاءَهَا مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ فَشَاكَلَ
ذَلِكَ مَعْنَاهَا ؛ إذْ هِيَ قِبْلَةٌ لِلصّلَاةِ الْخَمْسِ وَعَمُودُ الْإِسْلَامِ
وَقَدْ بُنِيَ عَلَى خَمْسٍ وَكَيْفَ دَلّتْ عَلَيْهِ السّكِينَةُ إذْ هُوَ
قِبْلَةٌ لِلصّلَاةِ وَالسّكِينَةُ مِنْ شَأْنِ الصّلَاةِ . قَالَ عَلَيْهِ
السّلَامُ وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمْ السّكِينَةُ فَلَمّا بَلَغَ إبْرَاهِيمُ
الرّكْنَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنْ جَوْفِ أَبِي قُبَيْسٍ
وَرَوَى التّرْمِذِيّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ أُنْزِلَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنْ الْجَنّةِ أَشَدّ
بَيَاضًا مِنْ اللّبَنِ فَسَوّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ وَرَوَى التّرْمِذِيّ
أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا أَنّ الرّكْنَ
الْأَسْوَدَ وَالرّكْنَ الْيَمَانِيّ يَاقُوتُتَانِ مِنْ الْجَنّةِ وَلَوْلَا مَا
طُمِسَ مِنْ نُورِهِمَا لَأَضَاءَتَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَفِي
رِوَايَةِ غَيْرِهِ لَأَبْرَآ مَنْ اسْتَلَمَهُمَا [ ص 342 ] عَلِيّ رَحِمَهُ
اللّهُ أَنّ الْعَهْدَ الّذِي أَخَذَهُ اللّهُ عَلَى ذُرّيّةِ آدَمَ حِينَ مَسَحَ
ظَهْرَهُ أَلّا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كَتَبَهُ فِي صَكّ وَأَلْقَمَهُ الْحَجَرَ
الْأَسْوَدَ ؛ وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْمُسْتَلِمُ لَهُ إيمَانًا بِك ، وَوَفَاءً
بِعَهْدِك ، وَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ الزّبَيْرُ وَزَادَ عَلَيْهِ أَنّ اللّهَ
سُبْحَانَهُ أَجْرَى نَهْرًا أَطْيَبَ مِنْ اللّبَنِ وَأَلْيَنَ مِنْ الزّبَدِ
فَاسْتَمَدّ مِنْهُ الْقَلَمَ الّذِي كَتَبَ الْعَهْدَ قَالَ وَكَانَ أَبُو
قُبَيْسٍ يُسَمّى : الْأَمِينَ لِأَنّ الرّكْنَ كَانَ مُودَعًا فِيهِ وَأَنّهُ
نَادَى إبْرَاهِيمَ حِينَ بَلَغَ بِالْبُنْيَانِ إلَى مَوْضِعِ الرّكْنِ
فَأَخْبَرَهُ عَنْ الرّكْنِ فِيهِ وَدَلّهُ عَلَى مَوْضِعِهِ مِنْهُ وَانْتَبَهَ مِنْ
هَاهُنَا إلَى الْحِكْمَةِ فِي أَنْ سَوّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ دُونَ
غَيْرِهِ مِنْ حِجَارَةِ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا ، وَذَلِكَ أَنّ الْعَهْدَ
الّذِي فِيهِ هِيَ الْفِطْرَةُ الّتِي فُطِرَ النّاسُ عَلَيْهَا مِنْ تَوْحِيدِ
اللّهِ فَكُلّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى تِلْكَ الْفِطْرَةِ وَعَلَى ذَلِكَ
الْمِيثَاقِ فَلَوْلَا أَنّ أَبَوَيْهِ يُهَوّدَانِهِ وَيُنَصّرَانِهِ
وَيُمَجّسَانِهِ حَتّى يَسْوَدّ قَلْبُهُ بِالشّرْكِ لَمَا حَالَ عَنْ الْعَهْدِ
فَقَدْ صَارَ قَلْبُ ابْنِ آدَمَ مَحِلّا لِذَلِكَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ
وَصَارَ الْحَجَرُ مَحِلّا لِمَا كُتِبَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ
وَالْمِيثَاقِ فَتَنَاسَبَا ، فَاسْوَدّ مِنْ الْخَطَايَا قَلْبُ ابْنِ آدَمَ
بَعْدَمَا كَانَ وُلِدَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ وَاسْوَدّ الْحَجَرُ
بَعْدَ ابْيِضَاضِهِ وَكَانَتْ الْخَطَايَا سَبَبًا فِي ذَلِكَ حِكْمَةً مِنْ
اللّهِ سُبْحَانَهُ فَهَذَا مَا ذُكِرَ فِي بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ مُلَخّصًا ،
مِنْهُ مَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ وَمِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الطّبَرِيّ ، وَمِنْهُ
مَا وَقَعَ فِي كِتَابِ التّمْهِيدِ لِأَبِي عُمَرَ وَنُبَذٌ أَخَذْتهَا مِنْ
كِتَابِ فَضَائِلِ مَكّةَ لِرَزِينِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَمِنْ كِتَابِ أَبِي
الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيّ فِي أَخْبَارِ مَكّةَ ، وَمِنْ أَحَادِيثَ فِي
الْمُسْنَدَاتِ الْمَرْوِيّةِ وَسَنُورِدُ فِي بَاقِي الْحَدِيثِ بَعْضَ مَا
بَلَغَنَا فِي ذَلِكَ مُسْتَعِينِينَ بِاَللّهِ . وَأَمّا الرّكْنُ الْيَمَانِيّ
فَسُمّيَ بِالْيَمَانِيّ - فِيمَا ذَكَرَ الْقُتَبِيّ - لِأَنّ رَجُلًا مِنْ
الْيَمَنِ بَنَاهُ اسْمُهُ أُبَيّ بْنُ سَالِمٍ وَأَنْشَدَ
لَنَا الرّكْنُ مِنْ بَيْتِ الْحَرَامِ وِرَاثَةً ... بَقِيّةَ مَا أَبْقَى أُبَيّ
بْنُ سَالِمِ
حَوْلَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَأَمّا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَأَوّلُ مَنْ بَنَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ،
وَذَلِكَ أَنّ النّاسَ ضَيّقُوا عَلَى الْكَعْبَةِ ، وَأَلْصَقُوا دُورَهُمْ بِهَا
، فَقَالَ عُمَرُ إنّ الْكَعْبَةَ بَيْتُ اللّهِ وَلَا بُدّ لِلْبَيْتِ مِنْ
فِنَاءٍ وَإِنّكُمْ دَخَلْتُمْ عَلَيْهَا ، وَلَمْ تَدْخُلْ عَلَيْكُمْ فَاشْتَرَى
تِلْكَ الدّورَ مِنْ أَهْلِهَا وَهَدَمَهَا ، وَبَنَى الْمَسْجِدَ الْمُحِيطَ
بِهَا ، ثُمّ كَانَ عُثْمَانُ فَاشْتَرَى دُورًا أُخْرَى ، وَأَغْلَى فِي
ثَمَنِهَا ، وَزَادَ فِي سَعَةِ الْمَسْجِدِ [ ص 343 ] كَانَ ابْنُ الزّبَيْرِ
زَادَ فِي إتْقَانِهِ لَا فِي سَعَتِهِ وَجَعَلَ فِيهِ عُمُدًا مِنْ الرّخَامِ
وَزَادَ فِي أَبْوَابِهِ وَحَسّنَهَا ، فَلَمّا كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
مَرْوَانَ زَادَ فِي ارْتِفَاعِ حَائِطِ الْمَسْجِدِ وَحَمَلَ إلَيْهِ السّوَارِيَ
فِي الْبَحْرِ إلَى جَدّةَ ، وَاحْتُمِلَتْ مِنْ جَدّةَ عَلَى الْعَجَلِ إلَى
مَكّةَ ، وَأَمَرَ الْحَجّاجُ بْنُ يُوسُفَ فَكَسَاهَا الدّيبَاجَ وَقَدْ كُنّا
قَدّمْنَا أَنّ ابْنَ الزّبَيْرِ كَسَاهَا الدّيبَاجَ قَبْلَ الْحَجّاجِ ذَكَرَهُ
الزّبَيْرُ بْنُ بَكّارٍ ، وَذَكَرْنَا أَيْضًا أَنّ خَالِدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ
كِلَابٍ مِمّنْ كَسَاهَا الدّيبَاجَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمّ كَانَ الْوَلِيدُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَزَادَ فِي حُلِيّهَا ، وَصَرَفَ فِي مِيزَابِهَا
وَسَقْفِهَا مَا كَانَ فِي مَائِدَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا
السّلَامُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضّةٍ وَكَانَتْ قَدْ اُحْتُمِلَتْ إلَيْهِ مِنْ
طُلَيْطُلَةَ مِنْ جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ وَكَانَتْ لَهَا أَطْوَاقٌ مِنْ
يَاقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ وَكَانَتْ قَدْ اُحْتُمِلَتْ عَلَى بَغْلٍ قَوِيّ
فَتَفَسّخَ تَحْتَهَا ، فَضَرَبَ مِنْهَا الْوَلِيدُ حِلْيَةً لِلْكَعْبَةِ
فَلَمّا كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ وَابْنُهُ مُحَمّدٌ الْمَهْدِيّ زَادَ
أَيْضًا فِي إتْقَانِ الْمَسْجِدِ وَتَحْسِينِ هَيْئَتِهِ وَلَمْ يُحْدَثْ فِيهِ
بَعْدَ ذَلِكَ عَمَلٌ إلَى الْآنَ . وَفِي اشْتِرَاءِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ الدّورَ
الّتِي زَادَا فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ رِبَاعَ أَهْلِ مَكّةَ مِلْكٌ
لِأَهْلِهَا ، يَتَصَرّفُونَ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَالشّرَاءِ إذَا شَاءُوا ، وَفِي
ذَلِكَ اخْتِلَافٌ .
كَنْزِ الْكَعْبَةِ وَالنّجّارِ الْقِبْطِيّ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ دُوَيْكًا الّذِي سَرَقَ كَنْزَ الْكَعْبَةِ ، وَتَقَدّمَ
أَنّ سَارِقًا سَرَقَ مِنْ مَالِهَا فِي زَمَنِ جُرْهُمَ ، وَأَنّهُ دَخَلَ
الْبِئْرَ الّتِي فِيهَا كَنْزُهَا فَسَقَطَ عَلَيْهِ حَجَرٌ فَحَبَسَهُ فِيهَا ،
حَتّى أُخْرِجَ مِنْهَا ، وَانْتُزِعَ الْمَالُ مِنْهُ ثُمّ بَعَثَ اللّهُ حَيّةً
لَهَا رَأْسٌ كَرَأْسِ الْجَدْيِ بَيْضَاءُ الْبَطْنِ سَوْدَاءُ الْمَتْنِ
فَكَانَتْ فِي بِئْرِ الْكَعْبَةِ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ فِيمَا ذَكَرَ رَزِينٌ وَهِيَ
الّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ إسْحَاقَ ، وَكَانَ لَا يَدْنُو أَحَدٌ مِنْ بِئْرِ
الْكَعْبَةِ إلّا احْزَأَلّتْ أَيْ رَفَعَتْ ذَنَبَهَا ، وَكَشّتْ أَيْ صَوّتَتْ .
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَنّ سَفِينَةً رَمَاهَا الْبَحْرُ إلَى جَدّةَ ،
فَتَحَطّمَتْ وَذَكَرَ غَيْرُهُ عَنْ ابْنِ مُنَبّهٍ أَنّ سَفِينَةً خَجّتْهَا
الرّيحُ إلَى الشّعَيْبَةِ وَهُوَ مَرْفَأُ السّفُنِ مِنْ سَاحِلِ بَحْرِ
الْحِجَازِ ، وَهُوَ كَانَ مَرْفَأَ مَكّةَ وَمَرْسَى سُفُنِهَا قَبْلَ جَدّةَ .
وَالشّعَيْبَةُ بِضَمّ الشّينِ ذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ ، وَفَسّرَ الْخَطّابِيّ
خَجّتْهَا : أَيْ دَفَعَتْهَا بِقُوّةِ مِنْ الرّيحِ الْخَجُوجِ أَيْ الدّفُوعِ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ بِمَكّةَ نَجّارٌ قِبْطِيّ ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ
أَنّهُ كَانَ عِلْجًا فِي السّفِينَةِ الّتِي خَجّتْهَا الرّيحُ إلَى الشّعَيْبَةِ
وَأَنّ اسْمَ ذَلِكَ النّجّارِ يَاقُومُ وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَيْضًا فِي اسْمِ
النّجّارِ الّذِي عَمِلَ مِنْبَرَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ ، وَلَعَلّهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا ،
فَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 344 ]
الْحَيّةُ وَالدّابّةُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ خَبَرَ الْعُقَابِ أَوْ الطّائِرِ الّذِي اخْتَطَفَ الْحَيّةَ مِنْ
بِئْرِ الْكَعْبَةِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ طَرَحَهَا الطّائِرُ بِالْحَجُونِ
فَالْتَقَمَتْهَا الْأَرْضُ . وَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُقْرِي هَذَا
الْقَوْلَ ثُمّ قَالَ وَهِيَ الدّابّةُ الّتِي تُكَلّمُ النّاسَ قَبْلَ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ وَاسْمُهَا : أَقْصَى فِيمَا ذُكِرَ وَمُحَمّدُ بْنُ الْحَسَنِ
الْمُقْرِي هُوَ النّقّاشُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ
بِصِحّةِ مَا قَالَ غَيْرَ أَنّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّ مُوسَى
عَلَيْهِ السّلَامُ سَأَلَ رَبّهُ أَنْ يُرِيَهُ الدّابّةَ الّتِي تُكَلّمُ
النّاسَ فَأَخْرَجَهَا لَهُ مِنْ الْأَرْضِ فَرَأَى مَنْظَرًا هَالَهُ
وَأَفْزَعَهُ فَقَالَ أَيْ رَبّ رُدّهَا فَرَدّهَا . وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ
حَدِيثَ الْحَجَرِ الّذِي أُخِذَ مِنْ الْكَعْبَةِ ، فَوَثَبَ مِنْ يَدِ آخِذِهِ
حَتّى عَادَ إلَى مَوْضِعِهِ وَقَالَ غَيْرُهُ ضَرَبُوا بِالْمِعْوَلِ فِي حَجَرٍ
مِنْ أَحْجَارِهَا ، فَلَمَعَتْ بَرْقَةٌ كَادَتْ تَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ وَأَخَذَ
رَجُلٌ مِنْهُمْ حَجَرًا ، فَطَارَ مِنْ يَدِهِ وَعَادَ إلَى مَوْضِعِهِ .
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَهُمْ اللّهُمّ لَمْ تُرَعْ وَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ
عِنْدَ تَسْكِينِ الرّوْعِ وَالتّأْنِيسِ وَإِظْهَارِ اللّينِ وَالْبِرّ فِي
الْقَوْلِ وَلَا رَوْعَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ فَيُنْفَى ، وَلَكِنّ الْكَلِمَةَ
تَقْتَضِي إظْهَارَ قَصْدِ الْبِرّ فَلِذَلِكَ تَكَلّمُوا بِهَا ، وَعَلَى هَذَا
يَجُوزُ التّكَلّمُ بِهَا فِي الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا ذِكْرُ الرّوْعِ
الّذِي هُوَ مُحَالٌ فِي حَقّ الْبَارِي تَعَالَى ، وَلَكِنْ لَمّا كَانَ
الْمَقْصُودُ مَا ذَكَرْنَا ، جَازَ النّطْقُ بِهَا ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا
الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللّهُ زِيَادَةُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِهِ فَاغْفِرْ فِدَاءً
لَك مَا اقْتَفَيْنَا . وَيُرْوَى أَيْضًا : اللّهُمّ لَمْ نَزِغْ وَهُوَ جَلِيّ
لَا يُشْكِلُ .
مِنْ تَفْسِيرِ حَدِيثِ أَبِي لَهَبٍ
وَذَكَرَ قَوْلَهُمْ لَا تُدْخِلُوا فِي هَذَا الْبَيْتِ مَهْرُ بَغِيّ وَهِيَ
الزّانِيَةُ وَهِيَ فَعُولٌ مِنْ الْبِغَاءِ فَانْدَغَمَتْ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ
وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ لِأَنّ فَعِيلًا
بِمَعْنَى : فَاعِلٍ يَكُونُ بِالْهَاءِ فِي الْمُؤَنّثِ كَرَحِيمَةِ وَكَرِيمَةٍ
وَإِنّمَا يَكُونُ بِغَيْرِ هَاءٍ إذَا كَانَ فِي مَعْنَى : مَفْعُولٍ نَحْوَ
امْرَأَةٌ جَرِيحٌ وَقَتِيلٌ . وَقَوْلُهُ وَلَا بَيْعَ رِبًا يَدُلّ عَلَى أَنّ
الرّبَا كَانَ مُحَرّمًا عَلَيْهِمْ فِي الْجَاهِلِيّةِ كَمَا كَانَ الظّلْمُ
وَالْبِغَاءُ وَهُوَ الزّنَا مُحَرّمًا عَلَيْهِمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ بِبَقِيّةِ
مِنْ بَقَايَا شَرْعِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ كَمَا [ ص 345 ] كَانَ
بَقِيَ فِيهِمْ الْحَجّ وَالْعُمْرَةُ وَشَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الطّلَاقِ
وَالْعِتْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَأَحَلّ اللّهُ
الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا } [ الْبَقَرَةُ 275 ] دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ
التّحْرِيمِ .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 345 ] وَحُدّثْت أَنّ قُرَيْشًا وَجَدُوا فِي الرّكْنِ كِتَابًا
بالسريانية ، فَلَمْ يَدْرُوا مَا هُوَ حَتّى قَرَأَهُ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ
فَإِذَا هُوَ أَنَا اللّهُ ذُو بَكّةَ ، خَلَقْتهَا يَوْمَ خَلَقْت السّمَوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَصَوّرْت الشّمْسَ وَالْقَمَرَ وَحَفّفْتهَا بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ
حُنَفَاءَ لَا تَزُولُ حَتّى يَزُولَ أَخْشَبَاهَا ، مُبَارَكٌ لِأَهْلِهَا فِي
الْمَاءِ وَاللّبَنِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَخْشَبَاهَا : جَبَلَاهَا . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحُدّثْت أَنّهُمْ وَجَدُوا فِي الْمَقَامِ كِتَابًا فِيهِ
مَكّةُ بَيْتُ اللّهِ الْحَرَامِ يَأْتِيهَا رَزَقَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ سُبُلٍ لَا
يُحِلّهَا أَوّلُ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَزَعَمَ لَيْثُ بْنُ
أَبِي سُلَيْمٍ أَنّهُمْ وَجَدُوا حَجَرًا فِي الْكَعْبَةِ قَبْلَ مَبْعَثِ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً - إنْ كَانَ مَا
ذُكِرَ حَقّا - مَكْتُوبًا فِيهِ " مَنْ يَزْرَعْ خَيْرًا ، يَحْصُدْ
غِبْطَةً وَمَنْ يَزْرَعْ شَرّا ، يَحْصُدْ نَدَامَةً . تَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ
وَتُجْزَوْنَ الْحَسَنَاتِ أَجَلْ كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنْ الشّوْكِ الْعِنَبُ
" .Sالْحَجَرُ
الّذِي كَانَ مَكْتُوبًا
فَصْلٌ
وَذَكَرَ الْحَجَرَ الّذِي وُجِدَ مَكْتُوبًا فِي الْكَعْبَةِ ، وَفِيهِ أَنَا
اللّهُ ذُو بَكّةَ لِحَدِيثِ . رَوَى مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ فِي الْجَامِعِ عَنْ
الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ بَلَغَنِي أَنّ قُرَيْشًا حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ ،
وَجَدُوا فِيهَا حَجَرًا ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ صُفُوحٍ فِي الصّفْحِ الْأَوّلِ
أَنَا اللّهُ ذُو بَكّةَ صُغْتهَا يَوْمَ صُغْت الشّمْسَ وَالْقَمَرَ إلَى آخِرِ
كَلَامِ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَفِي الصّفْحِ الثّانِي : أَنَا اللّهُ ذُو بَكّةَ ،
خَلَقْت الرّحِمَ وَاشْتَقَقْت لَهَا اسْمًا مِنْ اسْمِي ، فَمَنْ وَصَلَهَا
وَصَلْته ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ وَفِي الصّفْحِ الثّالِثِ أَنَا اللّهُ ذُو
بَكّةَ ، خَلَقْت الْخَيْرَ وَالشّرّ فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ الْخَيْرُ عَلَى
يَدَيْهِ وَوَيْلٌ لِمَنْ كَانَ الشّرّ عَلَى يَدَيْه وَفِي حَدِيثِ ابْنِ
إسْحَاقَ : لَا يَحِلّهَا أَوّلُ مِنْ أَهْلِهَا ، يُرِيدُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ -
مَا كَانَ مِنْ اسْتِحْلَالِ قُرَيْشٍ الْقِتَالَ فِيهَا أَيّامَ ابْنِ الزّبَيْرِ
وَحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ ثُمّ الْحَجّاجُ بَعْدَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي
رَبِيعَةَ :
أَلَا مَنْ لِقَلْبِ مُعَنّى غَزِلْ ... بِحُبّ الْمُحِلّةِ أُخْتُ الْمُحِلّ
يَعْنِي بِالْمُحَلّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الزّبَيْرِ لِقِتَالِهِ فِي الْحَرَمِ .
[
ص 346 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ الْقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ جَمَعَتْ
الْحِجَارَةَ لِبِنَائِهَا ، كُلّ قَبِيلَةٍ تَجْمَعُ عَلَى حِدَةٍ ثُمّ بَنَوْهَا
، حَتّى بَلَغَ الْبُنْيَانُ مَوْضِعَ الرّكْنِ فَاخْتَصَمُوا فِيهِ كُلّ
قَبِيلَةٍ تُرِيدُ أَنْ تَرْفَعَهُ إلَى مَوْضِعِهِ دُونَ الْأُخْرَى ، حَتّى
تُحَاوَرُوا وَتَحَالَفُوا ؛ وَأَعَدّوا لِلْقِتَالِ فَقَرّبَتْ بَنُو عَبْدِ
الدّارِ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً دَمًا ، ثُمّ تَعَاقَدُوا هُمْ وَبَنُو عَدِيّ بْنِ
كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ عَلَى الْمَوْتِ وَأَدْخَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي ذَلِكَ الدّمِ
فِي تِلْكَ الْجَفْنَةِ فَسُمّوا : لَعَقَةَ الدّمِ فَمَكَثَتْ قُرَيْشٌ عَلَى ذَلِكَ
أَرْبَعَ لَيَالٍ أَوْ خَمْسًا ، ثُمّ إنّهُمْ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ
وَتَشَاوَرُوا وَتَنَاصَفُوا . فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الرّوَايَةِ أَنّ أَبَا
أُمَيّةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ،
وَكَانَ عَامَئِذٍ أَسَنّ قُرَيْشٍ كُلّهَا ، قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ
اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ - فِيمَا تَخْتَلِفُونَ فِيهِ - أَوّلَ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ
بَاب هَذَا الْمَسْجِدِ يَقْضِي بَيْنَكُمْ فِيهِ فَفَعَلُوا : فَكَانَ أَوّلُ
دَاخِلٍ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَمّا
رَأَوْهُ قَالُوا : هَذَا الْأَمِينُ رَضِينَا ، هَذَا مُحَمّدٌ فَلَمّا انْتَهَى
إلَيْهِمْ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ ، قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلُمّ
إلَيّ ثَوْبًا " ، فَأُتِيَ بِهِ فَأَخَذَ الرّكْنَ فَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ
ثُمّ قَالَ " لِتَأْخُذْ كُلّ قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةِ مِنْ الثّوْبِ ثُمّ
ارْفَعُوهُ جَمِيعًا " ، فَفَعَلُوا ، حَتّى إذَا بَلَغُوا مَوْضِعَهُ
وَضَعَهُ هُوَ بِيَدِهِ ثُمّ بَنَى عَلَيْهِSحَوْلَ
الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَقَوَاعِدِ الْبَيْتِ
فَصْلٌ
[ ص 346 ] وَذَكَرَ اخْتِلَافَهُمْ فِي وَضْعِ الرّكْنِ وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - هُوَ الّذِي وَضَعَهُ بِيَدِهِ وَذَكَرَ
غَيْرُهُ أَنّ إبْلِيسَ كَانَ مَعَهُمْ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيّ وَأَنّهُ
صَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ : أَرَضِيتُمْ أَنْ يَضَعَ هَذَا
الرّكْنَ وَهُوَ شَرَفُكُمْ غُلَامٌ يَتِيمٌ دُونَ ذَوِي أَسْنَانِكُمْ فَكَانَ
يُثِيرُ شَرّا فِيمَا بَيْنَهُمْ ثُمّ سَكَنُوا ذَلِكَ . وَأَمّا وَضْعُ الرّكْنِ
حِينَ بُنِيَتْ الْكَعْبَةُ فِي أَيّامِ ابْنِ الزّبَيْرِ فَوَضَعَهُ فِي الْمَوْضِعِ
الّذِي هُوَ فِيهِ الْآنَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ،
وَأَبُوهُ يُصَلّي بِالنّاسِ فِي الْمَسْجِدِ اغْتَنَمَ شُغْلَ النّاسِ عَنْهُ
بِالصّلَاةِ لَمّا أَحَسّ مِنْهُمْ التّنَافُسَ فِي ذَلِكَ وَخَافَ الْخِلَافَ
فَأَقَرّهُ أَبُوهُ . ذَكَرَ ذَلِكَ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ . وَذَكَرَ
ابْنُ إسْحَاقَ أَيْضًا أَنّهُمْ أَفْضَوْا إلَى قَوَاعِدِ الْبَيْتِ وَإِذَا هِيَ
خُضْرٌ كَالْأَسْنِمَةِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ رِوَايَةَ السّيرَةِ إنّمَا الصّحِيحُ
فِي الْكِتَابِ كَالْأَسِنّةِ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ النّقَلَةِ عَنْ ابْنِ
إسْحَاقَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ فَإِنّهُ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ
بِهَذَا اللّفْظِ لَا عِنْدَ الْوَاقِدِيّ وَلَا غَيْرِهِ وَقَدْ ذَكَرَ
الْبُخَارِيّ فِي بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ هَذَا الْخَبَرَ ، فَقَالَ فِيهِ عَنْ يَزِيدَ
بْنِ رُومَانَ : فَنَظَرْت إلَيْهَا ، فَإِذَا هِيَ كَأَسْنِمَةِ الْإِبِلِ
وَتَشْبِيهُهَا بِالْأَسِنّةِ لَا يُشَبّهُ إلّا فِي الزّرْقَةِ وَتَشْبِيهُهَا
بِأَسْنِمَةِ الْإِبِلِ أَوْلَى ، لِعِظَمِهَا ، وَلِمَا تَقَدّمَ فِي حَدِيثِ
بُنْيَانِ الْمَلَائِكَةِ لَهَا قَبْلَ هَذَا .
[
ص 347 ] وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمّي رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ الْأَمِينَ . فَلَمّا
فَرَغُوا مِنْ الْبُنْيَانِ وَبَنَوْهَا عَلَى مَا أَرَادُوا ، قَالَ الزّبَيْرُ
بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَيّةِ الّتِي كَانَتْ
قُرَيْشٌ تَهَابُ بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ لَهَا .
عَجِبْت لَمّا تَصَوّبَتْ الْعُقَابُ ... إلَى الثّعْبَانِ وَهِيَ لَهَا
اضْطِرَابُ
وَقَدْ كَانَتْ يَكُونُ لَهَا كَشِيشٌ ... وَأَحْيَانَا يَكُونُ لَهَا وِثَابُ
إذَا قُمْنَا إلَى التّأْسِيسِ . شَدّتْ ... تُهَيّبُنَا الْبِنَاءَ . وَقَدْ
تُهَابُ
فَلَمّا أَنْ خَشِينَا الرّجْزَ . جَاءَتْ ... عُقَابٌ تَتْلَئِبّ لَهَا
انْصِبَابُ
فَضَمّتْهَا إلَيْهَا ، ثُمّ خَلّتْ ... لَنَا الْبُنْيَانَ لَيْسَ لَهُ حِجَابُ
فَقُمْنَا حَاشِدِينَ إلَى بِنَاءٍ ... لَنَا مِنْهُ الْقَوَاعِدُ وَالتّرَابُ
غَدَاةَ نُرَفّعُ التّأْسِيسَ مِنْهُ ... وَلَيْسَ عَلَى مُسَوّينَا ثِيَابُ
أَعَزّ بِهِ الْمَلِيكُ بَنِي لُؤَيّ ... فَلَيْسَ لِأَصْلِهِ مِنْهُمْ ذَهَابُ
وَقَدْ حَشَدَتْ هُنَاكَ بَنُو عَدِيّ ... وَمُرّةُ قَدْ تَقَدّمَهَا كِلَابُ
فَبَوّأَنَا الْمَلِيكُ بِذَاكَ عِزّا ... وَعِنْدَ اللّهِ يُلْتَمَسُ الثّوَابُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : وَلَيْسَ عَلَى مُسَاوِينَا ثِيَابُ
[ ص 348 ] وَكَانَتْ الْكَعْبَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثَمَانِي عَشَرَةَ ذِرَاعًا ، وَكَانَتْ تُكْسَى الْقَبَاطِيّ
ثُمّ كُسِيَتْ الْبُرُودَ . وَأَوّلُ مَنْ كَسَاهَا الدّيبَاجَ الْحَجّاجُ بْنُ
يُوسُفَ .Sشِعْرُ
الزّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
فَصْلٌ
[ ص 347 ] وَذَكَرَ شِعْرَ الزّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ : عَجِبْت لِمَا
تَصَوّبَتْ الْعُقَابُ . إلَى قَوْلِهِ تَتْلَئِبّ لَهَا انْصِبَابُ . قَوْلُهُ
تَتْلَئِبّ ، يُقَالُ اتْلَأَبّ عَلَى طَرِيقِهِ إذَا لَمْ يُعَرّجْ يَمْنَةً
وَلَا يَسْرَةً وَكَأَنّهُ مَنْحُوتٌ مِنْ أَصْلَيْنِ كَمَا تَقَدّمَ فِي مِثْلِ
هَذَا مِنْ تَلَا : إذَا تَبِعَ ، وَأَلَبَ إذَا أَقَامَ وَأَبّ أَيْضًا قَرِيبٌ
مِنْ هَذَا الْمَعْنَى . يُقَالُ أَبّ إبَابَةً - مِنْ كِتَابِ الْعَيْنِ - إذَا
اسْتَقَامَ وَتَهَيّأَ فَكَأَنّهُ مُقِيمٌ مُسْتَمِرّ عَلَى مَا يَتْلُوهُ وَيَتْبَعُهُ
مِمّا هُوَ بِسَبِيلِهِ وَالِاسْمُ مِنْ اتْلَأَبّ التّلَأْبِيبَةُ عَلَى وَزْنِ
الطّمَأْنِينَةِ وَالْقُشَعْرِيرَةِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ . وَقَوْلُهُ وَلَيْسَ
عَلَى مُسَوّينَا ثِيَابُ . أَيْ مُسَوّي الْبُنْيَانِ . وَهُوَ فِي مَعْنَى
الْحَدِيثِ الصّحِيحِ [ ص 348 ] نُقْلَانِهِمْ الْحِجَارَةَ إلَى الْكَعْبَةِ
أَنّهُمْ كَانُوا يَنْقُلُونَهَا عُرَاةً وَيَرَوْنَ ذَلِكَ دِينًا ، وَأَنّهُ
مِنْ بَابِ التّشْمِيرِ وَالْجِدّ فِي الطّاعَةِ . وَقَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ :
وَيُرْوَى : مُسَاوِينَا ، يُرِيدُ السّوْآتِ فَهُوَ جَمْعُ مَسَاءَةٍ مَفْعَلَةٌ
مِنْ السّوْءَةِ وَالْأَصْلُ مَسَاوِئُ فَسُهّلَتْ الْهَمْزَةُ .
حَدِيثُ
الْحُمْسِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ - لَا أَدْرِي أَقَبْلَ عَامِ
الْفِيلِ أَمْ بَعْدَهُ - ابْتَدَعَتْ رَأْيَ الْحُمْسِ رَأْيًا رَأَوْهُ
وَأَدَارُوهُ فَقَالُوا : نَحْنُ بَنُو إبْرَاهِيمَ وَأَهْلُ الْحُرْمَةِ
وَوُلَاةُ الْبَيْتِ ، وَقُطّانُ مَكّةَ وَسَاكِنُهَا ، فَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ
الْعَرَبِ مِثْلُ حَقّنَا ، وَلَا مِثْلُ مَنْزِلَتِنَا ، وَلَا تَعْرِفُ لَهُ
الْعَرَبُ مِثْلَ مَا تَعْرِفُ لَنَا ، فَلَا تُعَظّمُوا شَيْئًا مِنْ الْحِلّ
كَمَا تُعَظّمُونَ الْحَرَمَ ، فَإِنّكُمْ إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ اسْتَخَفّتْ
الْعَرَبُ بِحُرْمَتِكُمْ وَقَالُوا : قَدْ عَظّمُوا مِنْ الْحِلّ مِثْلَ مَا
عَظّمُوا مِنْ الْحَرَمِ . فَتَرَكُوا الْوُقُوفَ عَلَى عَرَفَةَ وَالْإِفَاضَةُ
مِنْهَا ، وَهُمْ يَعْرِفُونَ وَيُقِرّونَ أَنّهَا مِنْ الْمَشَاعِرِ وَالْحَجّ
وَدِينِ إبْرَاهِيمَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَيَرَوْنَ لِسَائِرِ
الْعَرَبِ أَنْ يُفِيضُوا مِنْهَا ، إلّا أَنّهُمْ قَالُوا : نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ
، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنْ الْحُرْمَةِ وَلَا نُعَظّمَ
غَيْرَهَا ، كَمَا نُعَظّمُهَا نَحْنُ الْحُمْسُ وَالْحُمْسُ أَهْلُ الْحَرَمِ ،
ثُمّ جَعَلُوا لِمَنْ وُلِدُوا مِنْ الْعَرَبِ مِنْ سَاكِنِ الْحِلّ وَالْحَرَمِ
مِثْلَ الّذِي لَهُمْ بِوِلَادَتِهِمْ إيّاهُمْ يَحِلّ لَهُمْ مَا يَحِلّ لَهُمْ
وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ . وَكَانَتْ كِنَانَةُ وَخُزَاعَةُ
قَدْ دَخَلُوا مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ . [ ص 349 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي
أَبُو عُبَيْدَةَ النّحْوِيّ : أَنّ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ مُعَاوِيَةَ
بْنَ بَكْرِ بْنِ هَوَازِن َ دَخَلُوا مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ وَأَنْشَدَنِي
لِعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ
أَعَبّاسُ لَوْ كَانَتْ شِيَارًا جِيَادُنَا ... بِتَثْلِيثِ مَا نَاصَبْت بَعْدِي
الْأَحَامِسَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَثْلِيثٌ : مَوْضِعٌ مِنْ بِلَادِهِمْ . وَالشّيَارُ
الْحِسَانُ . يَعْنِي بِالْأَحَامِسِ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ . وَبِعَبّاسِ
عَبّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ وَكَانَ أَغَارَ عَلَى بَنِي زُبَيْدٍ
بِتَثْلِيثِ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لِعَمْرِو .Sالْحُمْسُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ الْحُمْسَ وَمَا ابْتَدَعَتْهُ قُرَيْشٌ فِي ذَلِكَ وَالتّحَمّسُ
التّشَدّدُ وَكَانُوا قَدْ ذَهَبُوا فِي ذَلِكَ مَذْهَبَ التّزَهّدِ وَالتّأَلّهِ
فَكَانَتْ نِسَاؤُهُمْ لَا يَنْسِجْنَ الشّعْرَ وَلَا الْوَبَرَ وَكَانُوا لَا
يَسْلَئُونَ السّمْنَ وَسَلَأَ السّمْنَ أَنْ يُطْبَخَ الزّبْدُ حَتّى يَصِيرَ
سَمْنًا ، قَالَ أَبْرَهَةُ
إنّ لَنَا صِرْمَةً مَخِيسَة ... نَشْرَبُ أَلْبَانَهَا وَنَسْلَؤُهَا
[ ص 349 ] ذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ مَعْدِي كَرِبَ أَعَبّاسُ لَوْ كَانَتْ شِيَارًا
جِيَادُنَا . الْبَيْتُ شِيَارًا مِنْ الشّارَةِ الْحَسَنَةِ يَعْنِي : سِمَانًا
حِسَانًا وَبَعْدَ الْبَيْتِ وَلَكِنّهَا قِيدَتْ بِصَعْدَةِ مَرّةً فَأَصْبَحْنَ
مَا يَمْشِينَ إلّا تَكَارُسَا
وَأَنْشَدَ أَيْضًا:أَجْذِمْ إلَيْك إنّهَا بَنُو عَبَسْ أَجْذِمْ زَجْرٌ
مَعْرُوفٌ لِلْخَيْلِ وَكَذَلِكَ أَرْحِبْ وَهَبْ وَهِقِطْ وَهِقَطْ وَهِقَبْ .
وَأَنْشَدَنِي
لِلَقِيطِ بْنِ زُرَارَةَ الدّارِمِيّ فِي يَوْمِ جَبَلَةَ :
أَجْذِمْ إلَيْك إنّهَا بَنُو عَبَسْ ... الْمُعْشِرُ الْجِلّةَ فِي الْقَوْمِ
الْحَمَسْ
لِأَنّ بَنِي عَبَسٍ كَانُوا يَوْمَ جَبَلَةَ حُلَفَاءَ فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ
صَعْصَعَةَ . وَيَوْمُ جَبَلَةَ : يَوْمٌ كَانَ بَيْنَ بَنِي حَنْظَلَةَ بْنِ
مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَبَيْنَ بَنِي عَامِرِ بْنِ
صَعْصَعَةَ فَكَانَ الظّفَرُ فِيهِ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَلَى بَنِي
حَنْظَلَةَ وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ لَقِيطُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدُسٍ وَأُسِرَ
حَاجِبُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدُسٍ وَانْهَزَمَ عَمْرُو بْنُ عَمْرِو بْنِ [ ص
350 ] عُدُسُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
حَنْظَلَةَ . فَفِيهِ يَقُولُ جَرِيرٌ لِلْفَرَزْدَقِ
كَأَنّك لَمْ تَشْهَدْ لَقِيطًا وَحَاجِبًا ... وَعَمْرَ بْنَ عَمْرٍو إذْ دَعَوْا
: يَا لَدَارِمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ ثُمّ الْتَقَوْا يَوْمَ ذِي نَجَبٍ فَكَانَ
الظّفَرُ لِحَنْظَلَةَ عَلَى بَنِي عَامِرٍ وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ حَسّانُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيّ ، وَهُوَ أَبُو كَبْشَةَ . وَأُسِرَ يَزِيدُ بْنُ
الصّعْقِ الْكِلَابِيّ وَانْهَزَمَ الطّفَيْلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ
كِلَابٍ ، أَبُو عَامِرِ بْنُ الطّفَيْلِ . فَفِيهِ يَقُولُ الْفَرَزْدَقُ :
وَمِنْهُنّ إذْ نَجّى طُفَيْلُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى قُرْزُلٍ رَجُلًا رَكُوضَ
الْهَزَائِمِ
وَنَحْنُ ضَرَبْنَا هَامَةَ ابْنِ خُوَيْلِدٍ يَزِيدَ عَلَى أُمّ الْفِرَاخِ
الْجَوَاثِمِ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . فَقَالَ جَرِيرٌ وَنَحْنُ خَضَبْنَا
لَابْنِ كَبْشَةَ تَاجَه ُ وَلَاقَى امْرِئِ فِي ضَمّةِ الْخَيْلِ مُصْقِعَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَحَدِيثُ يَوْمِ جَبَلَةَ ، وَيَوْمُ ذِي
نَجَبٍ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرْنَا . وَإِنّمَا مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ مَا
ذَكَرْت فِي حَدِيثِ يَوْمِ الْفِجَارِ .Sيَوْمُ
جَبَلَةَ
وَذَكَرَ يَوْمَ جَبَلَةَ . وَجَبَلَةُ هَضْبَةٌ عَالِيَةٌ كَانُوا قَدْ
أَحْرَزُوا فِيهَا عِيَالَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَكَانَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ رَئِيسُ نَجْرَانَ ، وَهُوَ ابْنُ الْجَوْنِ الْكِنْدِيّ وَأَخٌ
لِلنّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَحْسَبُ اسْمُهُ حَسّانُ بْنُ وَبَرَةَ وَهُوَ
أَخُو النّعْمَانِ لِأُمّهِ وَفِي أَيّامِ جَبَلَةَ كَانَ مَوْلِدُ رَسُولِ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلِثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ
مُلْكِ أَنُوشِرْوَانَ بْنِ قُبَاذٍ وَكَانَ مَوْلِدُ أَبِيهِ عَبْدِ اللّهِ
لِأَرْبَعِ وَعِشْرِينَ مَضَتْ مِنْ مُلْكِ أَنُوشِرْوَانَ الْمَذْكُورِ
فَبَيْنَهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَبَيْنَ أَبِيهِ عَبْدِ اللّهِ نَحْوٌ مِنْ
ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً .
عُدُسٌ وَالْحِلّةُ وَالطّلْسُ
[ ص 350 ] وَذَكَرَ زُرَارَةُ بْنُ عُدُسِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ عُدُسٌ بِضَمّ
الدّالِ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ إلّا أَبَا عُبَيْدَةَ فَإِنّهُ كَانَ يَفْتَحُ
الدّالَ مِنْهُ وَكُلّ عُدُسٍ فِي الْعَرَبِ سِوَاهُ فَإِنّهُ مَفْتُوحُ الدّالِ .
وَذَكَرَ الْحِلّةَ وَهُمْ مَا عَدَا الْحُمْسَ وَأَنّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ
عُرَاةً إنْ لَمْ يَجِدُوا ثِيَابَ أَحْمَسَ وَكَانُوا يَقْصِدُونَ فِي ذَلِكَ
طَرْحَ الثّيَابِ الّتِي اقْتَرَفُوا فِيهَا الذّنُوبَ عَنْهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ
الطّلْسَ مِنْ الْعَرَبِ ، وَهُمْ صِنْفٌ ثَالِثٌ [ ص 351 ] الْحِلّةِ ،
وَالْحُمْسُ كَانُوا يَأْتُونَ مِنْ أَقْصَى الْيَمَنِ طُلْسًا مِنْ الْغُبَارِ
فَيَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ فِي تِلْكَ الثّيَابِ الطّلْسِ فَسُمّوا بِذَلِكَ .
ذَكَرَهُ مُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ ابْتَدَعُوا فِي ذَلِكَ أُمُورًا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ حَتّى
قَالُوا : لَا يَنْبَغِي لِلْحُمْسِ أَنْ يَأْتَقِطُوا الْأَقِطَ وَلَا يَسْأَلُوا
السّمْنَ وَهُمْ حُرُمٌ وَلَا يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ شَعْرٍ وَلَا يَسْتَظِلّوا
- إنْ اسْتَظَلّوا - إلّا فِي بُيُوتِ الْأَدَمِ مَا كَانُوا حُرُمًا ، ثُمّ
رَفَعُوا فِي ذَلِكَ فَقَالُوا : لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْحِلّ أَنْ يَأْكُلُوا
مِنْ طَعَامٍ جَاءُوا بِهِ مَعَهُمْ مِنْ الْحِلّ إلَى الْحَرَمِ إذَا جَاءُوا حُجّاجًا
أَوْ عُمّارًا ، وَلَا يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ إذَا قَدِمُوا أَوّلَ طَوَافِهِمْ
إلّا فِي ثِيَابِ الْحُمْسِ . [ ص 351 ] طَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَإِنْ
تَكَرّمَ مِنْكُمْ مُتَكَرّمٌ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ وَلَمْ يَجِدْ ثِيَابَ
الْحُمْسِ . فَطَافَ فِي ثِيَابِهِ الّتِي جَاءَ بِهَا مِنْ الْحِلّ أَلْقَاهَا
إذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ ثُمّ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا ، وَلَمْ يَمَسّهَا هُوَ
وَلَا أَحَدٌ غَيْرُهُ أَبَدًا . وَكَانَتْ الْعَرَبُ تُسَمّي تِلْكَ الثّيَابَ
اللّقَى ، فَحَمَلُوا عَلَى ذَلِكَ الْعَرَبَ . فَدَانَتْ بِهِ وَوَقَفُوا عَلَى
عَرَفَاتٍ ، وَأَفَاضُوا مِنْهَا ، وَطَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً أَمّا الرّجَالُ
فَيَطُوفُونَ عُرَاةً . وَأَمّا النّسَاءُ فَتَضَعُ إحْدَاهُنّ ثِيَابَهَا كُلّهَا
إلّا دِرْعًا مُفَرّجًا عَلَيْهَا ، ثُمّ تَطُوفُ فِيهِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ
الْعَرَبِ ، وَهِيَ كَذَلِكَ تَطُوفُ الْبَيْتَ
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلّهُ
وَمَنْ طَافَ مِنْهُمْ فِي ثِيَابِهِ الّتِي جَاءَ فِيهَا مِنْ الْحِلّ أَلْقَاهَا
، فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الْعَرَبِ
يَذْكُرُ شَيْئًا تَرَكَهُ مِنْ ثِيَابِهِ فَلَا يَقْرَبُهُ - وَهُوَ يُحِبّهُ -
كَفَى حَزَنًا كَرّي عَلَيْهَا كَأَنّهَا لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطّائِفِينَ
حَرِيمُ
يَقُولُ لَا تَمَسّ . [ ص 352 ] فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتّى بَعَثَ اللّهُ تَعَالَى
مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ حِينَ أَحْكَمَ
لَهُ دِينَهُ . وَشَرَعَ لَهُ سُنَنَ حَجّهِ { ثُمّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
النّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الْبَقَرَةُ 199
] . يَعْنِي قُرَيْشًا ، وَالنّاسُ الْعَرَبُ ، فَرَفَعَهُمْ فِي سُنّةِ الْحَجّ
إلَى عَرَفَاتٍ ، وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا وَالْإِفَاضَةِ مِنْهَا . [ ص 353 ]
وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِ فِيمَا كَانُوا حَرّمُوا عَلَى النّاسِ مِنْ
طَعَامِهِمْ وَلُبُوسِهِمْ عِنْدَ الْبَيْتِ . حِينَ طَافُوا عُرَاةً وَحَرّمُوا
مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْحِلّ مِنْ الطّعَامِ { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنّهُ
لَا يُحِبّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِي أَخْرَجَ
لِعِبَادِهِ وَالطّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ قُلْ هِيَ لِلّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَيَاةِ الدّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الْآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ الْأَعْرَافُ 31 - 33 ] . فَوَضَعَ اللّهُ تَعَالَى
أَمْرَ الْحُمْسِ وَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ ابْتَدَعَتْ مِنْهُ عَنْ النّاسِ
بِالْإِسْلَامِ حِينَ بَعَثَ اللّهُ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [
ص 354 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ
مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ عُثْمَانَ بْن أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ
جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ عَمّهِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ
جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ . قَالَ لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَإِنّهُ لَوَاقِفٌ
عَلَى بَعِيرٍ لَهُ بِعَرَفَاتِ مَعَ النّاسِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ حَتّى يَدْفَعَ
مَعَهُمْ تَوْفِيقًا مِنْ اللّهِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَسْلِيمًا
كَثِيرًا .Sاللّقَى
فَصْلٌ
وَذَكَرَ اللّقَى وَهُوَ الثّوْبُ الّذِي كَانَ يُطْرَحُ بَعْدَ الطّوَافِ فَلَا
يَأْخُذُهُ أَحَدٌ ، وَأَنْشَدَ
كَفَى حَزَنًا كَرّي عَلَيْهِ كَأَنّهُ ... لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطّائِفِينَ
حَرِيمُ
حَرِيمٌ أَيْ مُحْرِمٌ لَا يُؤْخَذُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَكُلّ شَيْءٍ مُطّرَحٌ
، فَهُوَ لَقًى قَالَ الشّاعِرُ يَصِفُ فَرْخَ قَطًا :
تَرْوِي لَقًى أُلْقِيَ فِي صَفْصَفٍ ... تَصْهَرُهُ الشّمْسُ فَمَا يَنْصَهِرْ
تُرْوَى بِفَتْحِ التّاءِ أَيْ تَسْتَقِي لَهُ وَمِنْ اللّقَى : حَدِيثُ فَاخِتَةَ
أُمّ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، وَكَانَتْ دَخَلَتْ الْكَعْبَةَ وَهِيَ حَامِلٌ
مُتِمّ بِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ فَلَمْ تَسْتَطِعْ
الْخُرُوجَ مِنْ الْكَعْبَةِ ، فَوَضَعَتْهُ فِيهَا ، فَلُفّتْ فِي الْأَنْطَاعِ
هِيَ وَجَنِينُهَا ، وَطُرِحَ مَثْبِرُهَا وَثِيَابُهَا الّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا
، فَجُعِلْت لَقًى لَا تُقْرَبُ .
رِجْزُ الْمَرْأَةِ الطّائِفَةِ
فَصْلٌ
[ ص 352 ] وَذَكَرَ قَوْلَ الْمَرْأَةِ الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلّهُ
الْبَيْتَيْنِ وَيَذْكُرُ أَنّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ هِيَ ضُبَاعَةُ بِنْتُ عَامِرِ
بْنِ صَعْصَعَةَ ثُمّ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ بْنِ قُشَيْرٍ ، وَذَكَرَ مُحَمّدُ بْنُ
حَبِيبٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَطَبَهَا ،
فَذُكِرَتْ لَهُ عَنْهَا كِبْرَةٌ فَتَرَكَهَا ، فَقِيلَ إنّهَا مَاتَتْ كَمَدًا
وَحُزْنًا عَلَى ذَلِكَ قَالَ الْمُؤَلّفُ إنْ كَانَ صَحّ هَذَا ، فَمَا أَخّرَهَا
عَنْ أَنْ تَكُونَ أُمّا لِلْمُؤْمِنِينَ وَزَوْجًا لِرَسُولِ رَبّ الْعَالَمِينَ
إلّا قَوْلُهَا : الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلّهُ
. تَكْرِمَةً مِنْ اللّهِ لِنَبِيّهِ وَعِلْمًا مِنْهُ بِغَيْرَتِهِ وَاَللّهُ
أَغْيَرُ مِنْهُ .
أُسْطُورَةٌ
وَمِمّا ذُكِرَ مِنْ تَعَرّيهمْ فِي الطّوَافِ أَنّ رَجُلًا وَامْرَأَةً طَافَا
كَذَلِكَ فَانْضَمّ الرّجُلُ إلَى الْمَرْأَةِ تَلَذّذًا وَاسْتِمْتَاعًا ،
فَلَصَقَ عَضُدَهُ بِعَضُدِهَا ، فَفَزِعَا عِنْدَ ذَلِكَ وَخَرَجَا مِنْ
الْمَسْجِدِ وَهُمَا مُلْتَصِقَانِ وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى فَكّ عَضُدِهِ
مِنْ عَضُدِهَا ، حَتّى قَالَ لَهُمَا قَائِلٌ تُوبَا مِمّا كَانَ فِي
ضَمِيرِكُمَا ، وَأَخْلِصَا لِلّهِ التّوْبَةَ فَفَعَلَا ، فَانْحَلّ أَحَدُهُمَا
مِنْ الْآخِرِ .
قُرْزُلٌ وَطُفَيْلٌ
وَأَنْشَدَ لِلْفَرَزْدَقِ
وَمِنْهُنّ إذْ نَجّى طُفَيْلُ بْنُ مَالِكٍ ... عَلَى قُرْزُلٍ رَجُلًا رَكُوضَ
الْهَزَائِمِ
قُرْزُلٌ اسْمُ فَرَسِهِ وَكَانَ طُفَيْلٌ يُسَمّى : فَارِسَ قُرْزُلٍ وَقُرْزُلٌ
الْقَيْدُ سَمّى الْفَرَسَ بِهِ كَأَنّهُ يُقَيّدُ مَا يُسَابِقُهُ كَمَا قَالَ
امْرُؤُ الْقَيْسِ : بِمُنْجَرِدِ قَيْدِ الْأَوَابِدِ هَيْكَلِ
وَطُفَيْلٌ هَذَا هُوَ وَالِدُ عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ ، عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّ
رَسُولِهِ وَأَخُو طُفَيْلٍ هَذَا : [ ص 353 ] سُمّيَ مُلَاعِبًا ، وَنَذْكُرُ
إخْوَتَهُ وَأَلْقَابَهُمْ فِي الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللّهُ .
الْهَامَةُ
وَقَوْلُهُ عَلَى أُمّ الْفِرَاخِ الْجَوَاثِمِ . يَعْنِي : الْهَامَةَ وَهِيَ
الْبُومُ وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنّ الرّجُلَ إذَا قُتِلَ خَرَجَتْ مِنْ
رَأْسِهِ هَامَةٌ تَصِيحُ اسْقُونِي اسْقُونِي ، حَتّى يُؤْخَذَ بِثَأْرِهِ .
قَالَ ذُو الْإِصْبَعِ الْعَدْوَانِيّ أَضْرِبْك حَتّى تَقُولَ الْهَامَةُ
اسْقُونِي
شَرْحُ بَيْتِ جَرِيرٍ
فَصْلٌ
وَأَنْشَدَ جَرِيرٌ
وَنَحْنُ خَضَبْنَا لَابْنِ كَبْشَةَ تَاجَهُ ... وَلَاقَى امْرِئِ فِي ضَمّةِ
الْخَيْلِ مِصْقَعَا
وَجَدْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ هَذَا الْبَيْتَ الْمَعْرُوفَ فِي
اللّغَةِ أَنّ - الْمِصْقَعَ الْخَطِيبُ الْبَلِيغُ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ
لَكِنْ يُقَالُ فِي اللّغَةِ صَقَعَهُ إذَا ضَرَبَهُ عَلَى شَيْءٍ مُصْمِتٍ
يَابِسٍ قَالَهُ الْأَصْمَعِيّ ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِصْقَعٌ فِي هَذَا
الْبَيْتِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ، فَيُقَالُ مِنْهُ رَجُلٌ مِصْقَعٌ كَمَا
يُقَالُ مِحْرَبٌ وَفِي الْحَدِيثِ إنّ سَعْدًا لَمِحْرَبٌ يَعْنِي [ ابْنَ ]
أَبِي وَقّاصٍ .
مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي أَمْرِ الْحُمْسِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي أَمْرِ الْحُمْسِ وَهُوَ قَوْلُهُ
تَعَالَى : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا } الْآيَةُ [ الْأَعْرَافُ 30ْ ] فَقَوْلُهُ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
إشَارَةٌ إلَى مَا كَانَتْ الْحُمْسُ حَرّمَتْهُ مِنْ طَعَامِ الْحَجّ إلّا
طَعَامَ أَحْمَسَ وَخُذُوا زِينَتَكُمْ يَعْنِي اللّبَاسَ وَلَا تَتَعَرّوْا ،
وَلَذَلِكَ افْتَتَحَ بِقَوْلِهِ يَا بَنِي آدَمَ بَعْدَ أَنْ قَصّ خَبَرَ آدَمَ
وَزَوْجَهُ إذْ يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنّةِ أَيْ إنْ كُنْتُمْ
تَحْتَجّونَ بِأَنّهُ دِينُ آبَائِكُمْ فَآدَمُ أَبُوكُمْ وَدِينُهُ سِتْرٌ [ ص
354 ] قَالَ مِلّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ أَيْ إنْ كَانَتْ عِبَادَةُ
الْأَصْنَامِ دِينَ آبَائِكُمْ فَإِبْرَاهِيمُ أَبُوكُمْ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ وَمِمّا نَزَلَ فِي ذَلِكَ { وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ
إِلّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } [ الْأَنْفَالُ 35 ] . فَفِي التّفْسِيرِ أَنّهُمْ
كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً وَيُصَفّقُونَ بِأَيْدِيهِمْ وَيُصَفّرُونَ
فَالْمُكَاءُ الصّفِيرُ وَالتّصْدِيَةُ التّصْفِيقُ . قَالَ الرّاجِزُ وَأَنَا
مِنْ غَرْوِ الْهَوَى أُصَدّي . وَمِمّا نَزَلَ مِنْ أَمْرِ الْحُمْسِ { وَلَيْسَ
الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا } [ الْبَقَرَةُ 189 ] .
لِأَنّ الْحُمْسَ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ سَقْفٍ وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ السّمَاءِ عَتَبَةُ بَابٍ وَلَا غَيْرُهَا ، فَإِنْ احْتَاجَ أَحَدُهُمْ
إلَى حَاجَةٍ فِي دَارِهِ تَسَنّمَ الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ مِنْ
الْبَابِ فَقَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا
وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الْبَقَرَةُ 189 ] .
وُقُوفُ النّبِيّ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَالنّبُوّةِ
وَذَكَرَ وُقُوفَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِعَرَفَةَ مَعَ
النّاسِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَقَبْلَ النّبُوّةِ تَوْفِيقًا مِنْ اللّهِ حَتّى لَا
يَفُوتَهُ ثَوَابُ الْحَجّ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ
حِينَ رَآهُ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ مَعَ النّاسِ هَذَا رَجُلٌ أَحْمَسُ فَمَا
بَالُهُ لَا يَقِفُ مَعَ الْحُمْسِ حَيْثُ يَقِفُونَ ؟
أَخْبَارُ
الْكُهّانِ مِنْ الْعَرَبِ وَالْأَحْبَارِ مِنْ يَهُودَ وَالرّهْبَانِ مِنْ
النّصَارَى
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ الْأَحْبَارُ مِنْ الْيَهُودِ ، وَالرّهْبَانُ
مِنْ النّصَارَى ، وَالْكُهّانُ مِنْ [ ص 355 ] الْعَرَبِ ، قَدْ تَحَدّثُوا
بِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَبْلَ مَبْعَثِهِ
لَمّا تَقَارَبَ مِنْ زَمَانِهِ . أَمّا الْأَحْبَارُ مِنْ يَهُودَ وَالرّهْبَانُ
مِنْ النّصَارَى . فَعَمّا وَجَدُوا فِي كُتُبهمْ مِنْ صِفَتِهِ وَصِفَةِ
زَمَانِهِ وَمَا كَانَ مِنْ عَهْدِ أَنْبِيَائِهِمْ إلَيْهِمْ فِيهِ وَأَمّا
الْكُهّانُ مِنْ الْعَرَبِ : فَأَتَتْهُمْ بِهِ الشّيَاطِينُ مِنْ الْجِنّ فِيمَا
تَسْتَرِقُ مِنْ السّمْعِ إذْ كَانَتْ وَهِيَ لَا تُحْجَبُ عَنْ ذَلِكَ
بِالْقَذْفِ بِالنّجُومِ وَكَانَ الْكَاهِنُ وَالْكَاهِنَةُ لَا يَزَالُ يَقَعُ
مِنْهُمَا ذِكْرُ بَعْضِ أُمُورِهِ لَا تُلْقِي الْعَرَبُ لِذَلِكَ فِيهِ بَالًا ،
حَتّى بَعَثَهُ اللّهُ تَعَالَى ، وَوَقَعَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ الّتِي كَانُوا
يَذْكُرُونَ . فَعَرَفُوهَا . فَلَمّا تَقَارَبَ أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَحَضَرَ مَبْعَثُهُ . حُجِبَتْ الشّيَاطِينُ عَنْ
السّمْعِ وَحِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَقَاعِدِ الّتِي كَانَتْ تَقْعُدُ
لِاسْتِرَاقِ السّمْعِ فِيهَا ، فَرُمُوا بِالنّجُومِ فَعَرَفَتْ الْجِنّ أَنّ
ذَلِكَ لِأَمْرِ حَدَثَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ فِي الْعِبَادِ يَقُولُ اللّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِيّهِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ
بَعَثَهُ وَهُوَ يَقُصّ عَلَيْهِ خَبَرَ الْجِنّ إذْ حُجِبُوا عَنْ السّمْعِ
فَعَرَفُوا مَا عَرَفُوا ، وَمَا أَنْكَرُوا مِنْ ذَلِكَ حِينَ رَأَوْا مَا
رَأَوْا : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيّ أَنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنّ فَقَالُوا
إِنّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ وَلَنْ
نُشْرِكَ بِرَبّنَا أَحَدًا وَأَنّهُ تَعَالَى جَدّ رَبّنَا مَا اتّخَذَ صَاحِبَةً
وَلَا وَلَدًا وَأَنّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللّهِ شَطَطًا وَأَنّا
ظَنَنّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَى اللّهِ كَذِبًا وَأَنّهُ
كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنّ فَزَادُوهُمْ
رَهَقًا } [ ص 356 ] { وَأَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسّمْعِ فَمَنْ
يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا وَأَنّا لَا نَدْرِي أَشَرّ
أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَدًا } [ الْجِنّ :
1 - 6 ثُمّ 9 ، 10 ] . فَلَمّا سَمِعَتْ الْجِنّ الْقُرْآنَ عَرَفَتْ أَنّهَا
إنّمَا مُنِعَتْ مِنْ السّمْعِ قَبْلَ ذَلِكَ لِئَلّا يُشْكِلُ الْوَحْيُ بِشَيْءِ
خَبَرَ السّمَاءِ فَيَلْتَبِسُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مَا جَاءَهُمْ مِنْ اللّهِ
فِيهِ لِوُقُوعِ الْحُجّةِ وَقَطْعِ الشّبْهَةِ . فَآمَنُوا وَصَدّقُوا ، ثُمّ [ ص
357 ] { وَلّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنّا
سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
يَهْدِي إِلَى الْحَقّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } الْآيَةُ [ الْأَحْقَافُ :
30 ]Sفَصْلٌ
فِي الْكِهَانَةِ
رُوِيَ فِي مَأْثُورِ الْأَخْبَارِ أَنّ إبْلِيسَ كَانَ يَخْتَرِقُ السّمَوَاتِ
قَبْلَ عِيسَى ، فَلَمّا بُعِثَ عِيسَى ، [ ص 355 ] الشّيَاطِينُ بِالنّجُومِ
وَقَالَتْ قُرَيْشٌ حِينَ كَثُرَ الْقَذْفُ بِالنّجُومِ قَامَتْ السّاعَةُ فَقَالَ
عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ : اُنْظُرُوا إلَى الْعَيّوقِ فَإِنْ كَانَ رُمِيَ بِهِ
فَقَدْ آنَ قِيَامُ السّاعَةِ وَإِلّا فَلَا . وَمِمّنْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ
الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ .
رَمْيُ الشّيَاطِينِ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا رُمِيَتْ بِهِ الشّيَاطِينُ حِينَ
ظَهَرَ الْقَذْفُ بِالنّجُومِ لِئَلّا يَلْتَبِسَ بِالْوَحْيِ وَلِيَكُونَ ذَلِكَ
أَظْهَرَ لِلْحُجّةِ وَأَقْطَعَ لِلشّبْهَةِ وَالَذَى قَالَهُ صَحِيحٌ وَلَكِنّ
الْقَذْفَ بِالنّجُومِ قَدْ كَانَ قَدِيمًا ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي أَشْعَارِ
الْقُدَمَاءِ مِنْ الْجَاهِلِيّةِ . مِنْهُمْ عَوْفُ بْنُ أَجْرِعَ وَأَوْسُ بْنُ
حَجَرٍ وَبِشْرُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ وَكُلّهُمْ جَاهِلِيّ ، وَقَدْ وَصَفُوا
الرّمْيَ بِالنّجُومِ وَأَبْيَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي مُشْكِلِ ابْنِ
قُتَيْبَةَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْجِنّ ، وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ فِي
تَفْسِيرِهِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ هَذَا الرّمْيِ
بِالنّجُومِ أَكَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ ؟ قَالَ نَعَمْ وَلَكِنّهُ إذْ جَاءَ
الْإِسْلَامُ غَلّظَ وَشَدّدَ وَفِي قَوْلِ اللّهِ سُبْحَانَهُ { وَأَنّا
لَمَسْنَا السّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا } [
الْجِنّ : 8 ] الْآيَةُ وَلَمْ يَقُلْ حُرِسَتْ دَلِيلٌ عَلَى [ ص 356 ] كَانَ
مِنْهُ شَيْءٌ فَلَمّا بُعِثَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ، وَذَلِكَ لِيَنْحَسِمَ أَمْرُ الشّيَاطِينِ
وَتَخْلِيطِهِمْ وَلِتَكُونَ الْآيَةُ أَبْيَنَ وَالْحُجّةُ أَقْطَعَ وَإِنْ وُجِدَ
الْيَوْمَ كَاهِنٌ فَلَا يَدْفَعُ ذَلِكَ بِمَا أَخْبَرَ اللّهُ بِهِ مِنْ طَرْدِ
الشّيَاطِينِ عَنْ اسْتِرَاقِ السّمْعِ فَإِنّ ذَلِكَ التّغْلِيظَ وَالتّشْدِيدَ
كَانَ زَمَنَ النّبُوّةِ ثُمّ بَقِيَتْ مِنْهُ أَعْنِي مِنْ اسْتِرَاقِ السّمْعِ
بَقَايَا يَسِيرَةٌ بِدَلِيلِ وُجُودِهِمْ عَلَى النّدُورِ فِي بَعْضِ
الْأَزْمِنَةِ وَفِي بَعْضِ الْبِلَادِ . وَقَدْ سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ الْكُهّانِ فَقَالَ لَيْسُوا بِشَيْءِ فَقِيلَ
إنّهُمْ يَتَكَلّمُونَ بِالْكَلِمَةِ فَتَكُونُ كَمَا قَالُوا ، فَقَالَ تِلْكَ
الْكَلِمَةُ مِنْ الْجِنّ يَحْفَظُهَا الْجِنّيّ ، فَيُقِرّهَا فِي أُذُنِ
وَلِيّهِ قَرّ الزّجَاجَةِ فَيَخْلِطُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كِذْبَةٍ ،
وَيُرْوَى : قَرّ الدّجَاجَةِ بِالدّالِ وَعَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ تَكَلّمَ قَاسِمُ
بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ . وَالزّجَاجَةُ بِالزّايِ أَوْلَى ؛ لِمَا ثَبَتَ
فِي الصّحِيحِ فَيُقِرّهَا فِي أُذُنِ وَلِيّهِ كَمَا تُقَرّ الْقَارُورَةُ
وَمَعْنَى يُقِرّهَا : يَصُبّهَا وَيُفْرِغُهَا ، قَالَ الرّاجِزُ
لَا تُفْرِغَنْ فِي أُذُنِي قَرّهَا ... مَا يَسْتَفِزّ فَأُرِيك فَقْرَهَا
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ سَلَامٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ إذَا رَمَى الشّهَابُ
الْجِنّيّ لَمْ يُخْطِئْهُ وَيُحَرّقُ مَا أَصَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ وَعَنْ
الْحَسَنِ قَالَ فِي أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ الْعَيْنِ وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ
سَلَامٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنّهُ كَانَ مَعَ قَوْمٍ فَرُمِيَ بِنَجْمِ
فَقَالَ لَا تُتْبِعُوهُ أَبْصَارَكُمْ وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ حَفْصٍ أَنّهُ سَأَلَ
الْحَسَنَ أَيُتْبِعُ بَصَرَهُ الْكَوْكَبَ . فَقَالَ قَالَ سُبْحَانَهُ {
وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشّيَاطِينِ } [ الْمُلْكُ 5 ] . وَقَالَ { أَوَلَمْ
يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الْأَعْرَافُ 185 ] .
قَالَ كَيْفَ نَعْلَمُ إذَا لَمْ نَنْظُرْ إلَيْهِ لَأُتْبِعَنّهُ بَصَرِي .
الْجِنّ الّذِينَ ذَكَرَهُمْ الْقُرْآنُ
وَذَكَرَ النّفَرَ مِنْ الْجِنّ الّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ وَاَلّذِينَ [
ص 357 ] { وَلّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنّا
سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى } [ الْأَحْقَافُ : 30ْ ] . وَفِي
الْحَدِيثِ أَنّهُمْ كَانُوا مِنْ جِنّ نَصِيبِينَ . وَفِي التّفْسِيرِ أَنّهُمْ
كَانُوا يَهُودًا ؛ وَلِذَلِكَ قَالُوا : مِنْ بَعْدِ مُوسَى ، وَلَمْ يَقُولُوا
مِنْ بَعْدِ عِيسَى ذَكَرَهُ ابْنُ سَلَامٍ . وَكَانُوا سَبْعَةً قَدْ ذُكِرُوا
بِأَسْمَائِهِمْ فِي التّفَاسِيرِ وَالْمُسْنَدَاتِ وَهُمْ شَاصِرٌ وَمَاصِرٌ
وَمُنْشَى ، وَلَاشَى ، وَالْأَحْقَابُ وَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ ذَكَرَهُمْ ابْنُ
دُرَيْدٍ وَوَجَدْت فِي خَبَرٍ حَدّثَنِي بِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَاهِرٍ
الْإِشْبِيلِيّ الْقَيْسِيّ عَنْ أَبِي عَلِيّ الْغَسّانِيّ فِي فَضْلِ عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَمْشِي
فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ فَإِذَا حَيّةٌ مَيّتَةٌ فَكَفّنَهَا بِفَضْلَةِ مِنْ
رِدَائِهِ وَدَفَنَهَا فَإِذَا قَائِلٌ يَقُولُ يَا سُرّقُ اشْهَدْ لَسَمِعْت
رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَقُولُ لَك : "
سَتَمُوتُ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَيُكَفّنُك وَيَدْفِنُك رَجُلٌ صَالِحٌ " ،
فَقَالَ مَنْ أَنْتَ - يَرْحَمُك اللّهُ - فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ الّذِينَ
تَسَمّعُوا الْقُرْآنَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إلّا أَنَا وَسُرّقٌ وَهَذَا سُرّقٌ قَدْ مَاتَ . وَذَكَرَ
ابْنُ سَلَامٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إسْحَاقَ [ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عَلِيّ ] السّبِيعِيّ عَنْ أَشْيَاخِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنّهُ كَانَ فِي
نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
يَمْشُونَ فَرُفِعَ لَهُمْ إعْصَارٌ ثُمّ جَاءَ إعْصَارٌ أَعْظَمُ مِنْهُ ثُمّ
انْقَشَعَ فَإِذَا حَيّةٌ قَتِيلٌ فَعَمَدَ رَجُلٌ مِنّا إلَى رِدَائِهِ فَشَقّهُ
وَكَفّنَ الْحَيّةَ بِبَعْضِهِ وَدَفَنَهَا . فَلَمّا جَنّ اللّيْلُ إذَا
امْرَأَتَانِ تُتَسَاءَلَانِ أَيّكُمْ دَفَنَ عَمْرَو بْنَ جَابِرٍ ؟ فَقُلْنَا :
مَا نَدْرِي مَنْ عَمْرُو بْنُ جَابِرٍ ؟ فَقَالَتَا : إنْ كُنْتُمْ ابْتَغَيْتُمْ
الْأَجْرَ فَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ . إنّ فَسَقَةَ الْجِنّ اقْتَتَلُوا مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فَقُتِلَ عَمْرٌو ، وَهُوَ الْحَيّةُ الّتِي رَأَيْتُمْ
وَهُوَ مِنْ النّفَرِ الّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْ مُحَمّدٍ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ وَلّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ
وَكَانَ
قَوْلُ الْجِنّ : { وَأَنّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ
مِنَ الْجِنّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } أَنّهُ كَانَ الرّجُلُ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ
قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ إذَا سَافَرَ فَنَزَلَ بَطْنَ وَادٍ مِنْ الْأَرْضِ
لِيَبِيتَ فِيهِ قَالَ إنّي أَعُوذُ بِعَزِيزِ هَذَا الْوَادِي مِنْ الْجِنّ
اللّيْلَةَ مِنْ شَرّ مَا فِيهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الرّهَقُ الطّغْيَانُ
وَالسّفَهُ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : إذْ تَسْتَبِي الْهَيّامَةُ
الْمُرَهّقَا
[ بِمُقْلَتَيْ رِيمٍ وَحِيدٍ أَرْشَقَا ]
[ ص 358 ] قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ يَصِفُ حَمِيرَ وَحْشٍ بَصْبَصْنَ
وَاقْشَعْرَرْنَ مِنْ خَوْفِ الرّهَقْ
[ يَمْصَعْنَ بِالْأَذْنَابِ مِنْ لَوْحٍ وَبَقْ ]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . وَالرّهَقُ أَيْضًا : مَصْدَرٌ لِقَوْلِ
الرّجُلِ رَهِقْت الْإِثْمَ أَوْ الْعُسْرَ الّذِي أَرْهَقْتنِي رَهَقًا شَدِيدًا
، أَيْ حَمَلْت الْإِثْمَ أَوْ الْعُسْرَ الّذِي حَمّلْتنِي حِمْلًا شَدِيدًا ،
وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى : { فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا
وَكُفْرًا } [ الْكَهْفُ : 80 ] وَقَوْلُهُ { وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي
عُسْرًا } [ الْكَهْفُ : 73 ] . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ
بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّهُ حَدّثَ أَنّ [ ص 359 ]
فَزِعَ لِلرّمْيِ بِالنّجُومِ - حِينَ رُمِيَ بِهَا - هَذَا الْحَيّ مِنْ ثَقِيفٍ
، وَأَنّهُمْ جَاءُوا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ
أَحَدُ بَنِي عِلَاجٍ - قَالَ وَكَانَ أَدْهَى الْعَرَبِ وَأَنْكَرَهَا رَأْيًا -
فَقَالُوا لَهُ يَا عَمْرُو : أَلَمْ تَرَ مَا حَدّثَ فِي السّمَاءِ مِنْ
الْقَذْفِ بِهَذِهِ النّجُومِ ؟ قَالَ بَلَى فَانْظُرُوا ، فَإِنْ كَانَتْ
مَعَالِمُ النّجُومِ الّتِي يُهْتَدَى بِهَا فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَتُعْرَفُ
بِهَا الْأَنْوَاءُ مِنْ الصّيْفِ وَالشّتَاءِ لِمَا يُصْلِحُ النّاسَ فِي
مَعَايِشِهِمْ هِيَ الّتِي يُرْمَى بِهَا ، فَهُوَ وَاَللّهِ طَيّ الدّنْيَا ،
وَهَلَاكُ هَذَا الْخَلْقِ الّذِي فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ نُجُومًا غَيْرَهَا ،
وَهِيَ ثَابِتَةٌ عَلَى حَالِهَا ، فَهَذَا لِأَمْرِ أَرَادَ اللّهُ بِهِ هَذَا
الْخَلْقَ فَمَا هُوَ ؟S[ ص 358 ]
ابْنُ عِلَاطٍ وَالْجِنّ
فَصْلٌ وَأَمّا مَا ذَكَرَهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَأَنّهُ كَانَ
رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنّ } الْآيَةُ [ الْجِنّ :
6 ] . فَقَدْ رُوِيَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ حَجّاجِ بْنِ عِلَاطٍ السّلَمِيّ
وَهُوَ وَالِدُ نَصْرِ بْنِ حَجّاجٍ الّذِي قِيلَ فِيهِ أَمْ لَا سَبِيلَ إلَى
نَصْرِ بْنِ حَجّاجِ
أَنّهُ قَدِمَ مَكّةَ فِي رَكْبٍ فَأَجَنّهُمْ اللّيْلُ بِوَادٍ مَخُوفٍ مُوحِشٍ
فَقَالَ لَهُ الرّكْبُ قُمْ خُذْ لِنَفْسِك أَمَانًا ، وَلِأَصْحَابِك ، فَجَعَلَ
يَطُوفُ بِالرّكْبِ وَيَقُولُ أُعِيذُ نَفْسِي وَأُعِيذُ صَحْبِي
مِنْ كُلّ جِنّيّ بِهَذَا النّقْبِ
حَتّى أَءُوب سَالِمًا وَرَكْبِي
فَسَمِعَ قَارِئًا : { يَا مَعْشَرَ الْجِنّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ
تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ
إِلّا بِسُلْطَانٍ } الْآيَةُ [ الرّحْمَنُ 33 ] . فَلَمّا قَدِمَ مَكّةَ خَبّرَ
كُفّارَ قُرَيْشٍ بِمَا سَمِعَ فَقَالُوا : أَصَبْت يَا أَبَا كِلَابٍ . إنّ هَذَا
يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ سَمِعْته
وَسَمِعَهُ هَؤُلَاءِ مَعِي ، ثُمّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَهَاجَرَ إلَى
الْمَدِينَةِ ، وَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا فَهُوَ يُعْرَفُ بِهِ .
وَقَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَذَكَرَ مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ
عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ الْعَبّاسِ عَنْ نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُمْ [ ص 360 ] مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي
هَذَا النّجْمِ الّذِي يُرْمَى بِهِ ؟ قَالُوا : يَا نَبِيّ اللّهِ كُنّا نَقُولُ
حِينَ رَأَيْنَاهَا يُرْمَى بِهَا : مَاتَ مَلِكٌ مُلّكَ مَلِكٌ وُلِدَ مَوْلُودٌ
مَاتَ مَوْلُودٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْسَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ وَلَكِنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَانَ إذَا قَضَى فِي
خَلْقِهِ أَمْرًا سَمِعَهُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ فَسَبّحُوا ، فَسَبّحَ مَنْ
تَحْتَهُمْ فَسَبّحَ لِتَسْبِيحِهِمْ مَنْ تَحْتَ ذَلِكَ فَلَا يَزَالُ
التّسْبِيحُ يَهْبِطُ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى السّمَاءِ الدّنْيَا ، فَيُسَبّحُوا
ثُمّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ مِمّ سَبّحْتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ سَبّحَ مَنْ
فَوْقَنَا فَسَبّحْنَا لِتَسْبِيحِهِمْ فَيَقُولُونَ أَلَا تَسْأَلُونَ مَنْ
فَوْقَكُمْ مِمّ سَبّحُوا ؟ فَيَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ حَتّى يَنْتَهُوا إلَى
حَمَلَةِ الْعَرْشِ فَيُقَالُ لَهُمْ مِمّ سَبّحْتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ قَضَى اللّهُ
فِي خَلْقِهِ كَذَا وَكَذَا ، لِلْأَمْرِ الّذِي كَانَ فَيَهْبِطُ بِهِ الْخَبَرُ
مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى السّمَاءِ الدّنْيَا ،
فَيَتَحَدّثُوا بِهِ فَتَسْتَرِقُهُ الشّيَاطِينُ بِالسّمْعِ عَلَى تَوَهّمٍ
وَاخْتِلَافٍ ثُمّ يَأْتُوا بِهِ الْكُهّانَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ
فَيُحَدّثُوهُمْ بِهِ فَيُخْطِئُونَ وَيُصِيبُونَ فَيَتَحَدّثُ بِهِ الْكُهّانُ
فَيُصِيبُونَ بَعْضًا وَيُخْطِئُونَ بَعْضًا . ثُمّ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ حَجَبَ
الشّيَاطِينَ بِهَذِهِ النّجُومِ الّتِي يَقْذِفُونَ بِهَا ، فَانْقَطَعَتْ
الْكِهَانَةُ الْيَوْمَ فَلَا كِهَانَةَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي
عَمْرُو بْن أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْن أَبِي
لَبِيبَةَ عَنْ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْهُ .S[ ص 359 ]
حَوْلَ انْقِطَاعِ الْكِهَانَةِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ وَفِيهِ كُنّا نَقُولُ إذَا
رَأَيْنَاهُ يَمُوتُ عَظِيمٌ أَوْ يُولَدُ عَظِيمٌ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا
قَدّمْنَاهُ مِنْ أَنّ الْقَذْفَ بِالنّجُومِ كَانَ قَدِيمًا ، وَلَكِنّهُ إذْ
بُعِثَ الرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ وَغَلّظَ وَشَدّدَ - كَمَا قَالَ الزّهْرِيّ
- وَمُلِئَتْ السّمَاءُ حَرَسًا . وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَقَدْ
انْقَطَعَتْ الْكِهَانَةُ الْيَوْمَ فَلَا كِهَانَةَ يَدُلّ قَوْلُهُ الْيَوْمَ
عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ الزّمَانِ كَمَا قَدّمْنَاهُ وَاَلّذِي انْقَطَعَ
الْيَوْمَ وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنْ تُدْرِكَ الشّيَاطِينُ مَا كَانَتْ
تُدْرِكُهُ فِي الْجَاهِلِيّةِ الْجَهْلَاءِ وَعِنْدَ تَمَكّنِهَا مِنْ سَمَاعِ
أَخْبَارِ السّمَاءِ وَمَا يُوجَدُ الْيَوْمَ مِنْ كَلَامِ الْجِنّ عَلَى
أَلْسِنَةِ الْمَجَانِينِ إنّمَا هُوَ خَبَرٌ مِنْهُمْ عَمّا يَرَوْنَهُ فِي
الْأَرْضِ مِمّا لَا نَرَاهُ نَحْنُ كَسَرِقَةِ سَارِقٍ أَوْ خَبِيئَتِهِ فِي
مَكَانٍ خَفِيّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَإِنْ أَخْبَرُوا بِمَا سَيَكُونُ كَانَ
تَخَرّصًا وَتَظَنّيًا ، فَيُصِيبُونَ قَلِيلًا ، وَيُخْطِئُونَ كَثِيرًا . [ ص
360 ] الْعَنَانِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيّ ، فَيُطْرَدُونَ بِالنّجُومِ
فَيُضِيفُونَ إلَى الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كِذْبَةٍ -
كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ - فِي الْحَدِيثِ الّذِي قَدّمْنَاهُ فَإِنْ قُلْت
: فَقَدْ كَانَ صَافُ بْنُ صَيّادٍ وَكَانَ يَتَكَهّنُ وَيَدّعِي النّبُوّةَ
وَخَبّأَ لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَبِيئًا ، فَعَلِمَهُ
وَهُوَ الدّخّ فَأَيْنَ انْقِطَاعُ الْكِهَانَةِ فِي ذَلِكَ الزّمَانِ ؟ قُلْنَا :
عَنْ هَذَا جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا ذَكَرَهُ الْخَطّابِيّ فِي أَعْلَامِ
الْحَدِيثِ قَالَ الدّخّ نَبَاتٌ يَكُونُ مِنْ النّخِيلِ ، وَخَبّأَ لَهُ عَلَيْهِ
السّلَامُ { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } [
الدّخّانُ 10 ] ، فَعَلَى هَذَا لَمْ يُصِبْ ابْنُ صَيّادٍ مَا خَبّأَ لَهُ
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الثّانِي : أَنّ شَيْطَانَهُ كَانَ
يَأْتِيهِ بِمَا خَفِيَ مِنْ أَخْبَارِ الْأَرْضِ وَلَا يَأْتِيهِ بِخَبَرِ
السّمَاءِ لِمَكَانِ الْقَذْفِ وَالرّجْمِ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالدّخّ
الدّخَانَ بِقُوّةِ جُعِلَتْ لَهُمْ فِي أَسْمَاعِهِمْ لَيْسَتْ لَنَا ، فَأَلْقَى
الْكَلِمَةَ عَنْ لِسَانِ صِافٍ وَحْدَهَا ، إذْ لَمْ يُمْكِنْ سَمَاعُ سَائِرِ
الْآيَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ النّبِيّ - عَلَيْهِ السّلَامُ - اخْسَأْ فَلَنْ
تَعْدُوَ قَدَرَ اللّهِ فِيك أَيْ فَلَنْ تَعْدُوَ مَنْزِلَتَك مِنْ الْعَجْزِ
عَنْ عِلْمِ الْغَيْبِ وَإِنّمَا الّذِي يُمْكِنُ فِي حَقّهِ هَذَا الْقَدَرُ
دُونَ مَزِيدٍ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا النّحْوِ فَسّرَهُ الْخَطّابِيّ .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَهْمٍ
يُقَالُ لَهَا الْغَيْطَلَةَ ، كَانَتْ كَاهِنَةً فِي الْجَاهِلِيّةِ فَلَمّا
جَاءَهَا صَاحِبُهَا فِي لَيْلَةٍ مِنْ اللّيَالِي ، فَأَنْقَضَ [ ص 361 ] قَالَ
أَدْرِ مَا أَدْرِ يَوْمَ عَقْرٍ وَنَحْرِ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ حِينَ بَلَغَهَا
ذَلِكَ مَا يُرِيدُ ؟ ثُمّ جَاءَهَا لَيْلَةً أُخْرَى ، فَأَنْقَضَ تَحْتَهَا ،
ثُمّ قَالَ شُعُوبٌ مَا شُعُوبْ تُصْرَعُ فِيهِ كَعْبٌ لِجُنُوبْ فَلَمّا بَلَغَ
ذَلِكَ قُرَيْشًا ، قَالُوا : مَاذَا يُرِيدُ ؟ إنّ هَذَا لَأَمْرٌ هُوَ كَائِنٌ
فَانْظُرُوا مَا هُوَ ؟ فَمَا عَرَفُوهُ حَتّى كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ وَأُحُدٍ
بِالشّعْبِ فَعَرَفُوا أَنّهُ الّذِي كَانَ جَاءَ إلَى صَاحِبَتِهِ . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : الْغَيْطَلَةُ مِنْ بَنِي مُرّةَ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ
إخْوَةُ مُدْلِجِ بْنِ مُرّةَ وَهِيَ أُمّ الْغَيَاطِلِ الّذِينَ ذَكَرَ أَبُو
طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا ... بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا
وَالْغَيَاطِلِ
فَقِيلَ لِوَلَدِهَا : الْغَيَاطِلُ ، وَهُمْ مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
هُصَيْصٍ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا
إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ
نَافِعٍ الْجَرْشِيّ أَنّ جَنْبًا بَطْنٌ مِنْ الْيَمَنِ ، كَانَ لَهُمْ كَاهِنٌ
فِي الْجَاهِلِيّةِ فَلَمّا ذُكِرَ أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَانْتَشَرَ فِي الْعَرَبِ ، قَالَتْ لَهُ جَنْبٌ اُنْظُرْ لَنَا فِي أَمْرِ هَذَا
الرّجُلِ وَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي أَسْفَلِ جَبَلِهِ فَنَزَلَ عَلَيْهِمْ حِينَ
طَلَعَتْ الشّمْسُ فَوَقَفَ لَهُمْ قَائِمًا مُتّكِئًا عَلَى قَوْسٍ لَهُ فَرَفَعَ
رَأْسَهُ إلَى السّمَاءِ طَوِيلًا ، ثُمّ جَعَلَ يَنْزُو ، ثُمّ قَالَ أَيّهَا
النّاسُ إنّ اللّهَ أَكْرَمَ مُحَمّدًا وَاصْطَفَاهُ وَطَهّرَ قَلْبَهُ وَحَشَاهُ
وَمُكْثُهُ فِيكُمْ أَيّهَا النّاسُ قَلِيلٌ ثُمّ اشْتَدّ فِي جَبَلِهِ رَاجِعًا
مِنْ حَيْثُ جَاءَ [ ص 362 ] [ ص 363 ]Sالْغَيْطَلَةُ
الْكَاهِنَةُ وَكِهَانَتُهَا
فَصْلٌ
وَذَكَرَ حَدِيثَ الْغَيْطَلَةِ الْكَاهِنَةِ قَالَ وَهِيَ مِنْ بَنِي مُرّةَ بْنِ
عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ أَخِي مُدْلِجٍ وَهِيَ أُمّ الْغَيَاطِلِ الّذِي
ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ وَسَنَذْكُرُ مَعْنَى الْغَيْطَلَةِ عِنْدَ شِعْرِ أَبِي
طَالِبٍ إنْ شَاءَ اللّهُ . وَنَذْكُرُهَا هَاهُنَا مَا أَلْفِيّتِهِ فِي
حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . قَالَ
الْغَيْطَلَةُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الصّعِقِ بْنِ
شَنُوقِ بْنِ مُرّةَ وَشَنُوقٌ أَخُو مُدْلِجٍ وَهَكَذَا ذَكَرَ نَسَبَهَا
الزّبَيْرُ . [ ص 361 ] وَذَكَرَ قَوْلَهَا : شُعُوبُ وَمَا شُعُوبْ تُصْرَعُ
فِيهَا كَعْبٌ لِجُنُوبْ . كَعْبٌ هَاهُنَا هُوَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيّ ، وَاَلّذِينَ
صُرِعُوا لِجُنُوبِهِمْ بِبَدْرِ وَأُحُدٍ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ ، مُعْظَمُهُمْ
مِنْ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَشُعُوبٌ هَاهُنَا أَحْسَبُهُ بِضَمّ الشّينِ وَلَمْ
أَجِدْهُ مُقَيّدًا ، وَكَأَنّهُ جَمْعُ شَعْبٍ وَقَوْلُ ابْنِ إسْحَاقَ يَدُلّ
عَلَى هَذَا حِينَ قَالَ فَلَمْ يَدْرِ مَا قَالَتْ حَتّى قُتِلَ مَنْ قُتِلَ
بِبَدْرِ وَأُحُدٍ بِالشّعْبِ . وَذَكَرَ قَوْلَ التّابِعِ أَدْرِ مَا أَدْرِ
وَقَيّدَ عَنْ أَبِي عَلِيّ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى : وَمَا بَدْرٌ ؟ وَهِيَ
أَبْيَنُ مِنْ هَذِهِ وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ
أَنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ النّعْمَانِ النّجّارِيّةَ كَانَ لَهَا تَابِعٌ مِنْ
الْجِنّ ، وَكَانَ إذَا جَاءَهَا اقْتَحَمَ عَلَيْهَا فِي بَيْتِهَا ، فَلَمّا
كَانَ فِي أَوّلِ الْبَعْثِ أَتَاهَا ، فَقَعَدَ عَلَى حَائِطِ الدّارِ وَلَمْ
يَدْخُلْ فَقَالَتْ لَهُ لِمَ لَا تَدْخُلُ ؟ فَقَالَ قَدْ بُعِثَ نَبِيّ
بِتَحْرِيمِ الزّنَا ، فَذَلِكَ أَوّلُ مَا ذُكِرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ [ ص 362 ]
ثَقِيفٌ وَلَهَبٌ وَالرّمْيُ بِالنّجُومِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ إنْكَارَ ثَقِيفٍ لِلرّمْيِ بِالنّجُومِ وَمَا قَالَهُ عَمْرُو
بْنُ أُمَيّةَ أَحَدُ بَنِي عِلَاجٍ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحُ
الْمَعْنَى ، لَكِنّ فِيهِ إبْهَامًا لِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ هَذِهِ
النّجُومُ فَهُوَ لِأَمْرِ حَدَثَ فَمَا هُوَ وَقَدْ فَعَلَ مَا فَعَلَتْ ثَقِيفٌ
بَنُو لِهْبٍ عِنْدَ فَزَعِهِمْ لِلرّمْيِ بِالنّجُومِ فَاجْتَمَعُوا إلَى كَاهِنٍ
لَهُمْ يُقَالُ لَهُ خَطَرُ فَبَيّنَ لَهُمْ الْخَبَرَ ، وَمَا حَدَثَ مِنْ أَمْرِ
النّبُوّةِ . رَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الْعَقِيلِيّ فِي كِتَابِ الصّحَابَةِ عَنْ
رَجُلٍ مِنْ بَنِي لِهْبٍ يُقَالُ لَهُ لِهْبٌ أَوْ لُهَيْبٌ . وَقَدْ تَكَلّمْنَا
عَلَى نَسَبِ لِهْبٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ . قَالَ لُهَيْبٌ حَضَرْت مَعَ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرْت عِنْدَهُ الْكِهَانَةَ فَقُلْت :
بِأَبِي وَأُمّي : نَحْنُ أَوّلُ مَنْ عَرَفَ حِرَاسَةَ السّمَاءِ وَزَجْرَ
الشّيَاطِينِ وَمَنْعَهُمْ مِنْ اسْتِرَاقِ السّمْعِ عِنْدَ قَذْفِ النّجُومِ
وَذَلِكَ أَنّا اجْتَمَعْنَا إلَى كَاهِنٍ لَنَا يُقَالُ لَهُ خَطَرُ بْنُ مَالِكٍ
وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا ، قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ مِائَتَا سَنَةٍ وَثَمَانُونَ
سَنَةً وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ كُهّانِنَا ، فَقُلْنَا : يَا خَطَرُ هَلْ عِنْدَك
عِلْمٌ مِنْ هَذِهِ النّجُومِ الّتِي يُرْمَى بِهَا ، فَإِنّا قَدْ فَزِعْنَا
لَهَا ، وَخَشِينَا سُوءَ عَاقِبَتِهَا ؟ فَقَالَ ائْتُونِي بِسَحَرْ
أُخْبِرُكُمْ الْخَبَرْ
أَبِخَيْرِ أَمْ ضَرَرْ
أَوْ لِأَمْنِ أَوْ حَذَرْ
قَالَ فَانْصَرَفْنَا عَنْهُ يَوْمَنَا ، فَلَمّا كَانَ مِنْ غَد فِي وَجْهِ
السّحَرِ أَتَيْنَاهُ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ عَلَى قَدَمَيْهِ شَاخِصٌ فِي
السّمَاءِ بِعَيْنَيْهِ فَنَادَيْنَاهُ أَخَطَرٌ يَا خَطَرُ ؟ فَأَوْمَأَ إلَيْنَا
: أَنْ أَمْسِكُوا ، فَانْقَضّ نَجْمٌ عَظِيمٌ مِنْ السّمَاءِ وَصَرَخَ الْكَاهِنُ
رَافِعًا صَوْتَهُ
أَصَابَهُ إصَابَة ... خَامَرَهُ عِقَابُهْ
عَاجَلَهُ عَذَابُهْ ... أَحْرَقَهُ شِهَابُهْ
زَايَلَهُ جَوَابُهْ
يَا وَيْلَهُ مَا حَالُهْ ... بَلْبَلَهُ بَلْبَالُهْ
عَاوَدَهُ خَبَالُهْ ... تَقَطّعَتْ حِبَالُهْ
وَغُيّرَتْ أَحْوَالُهْ
[ ص 363 ] أَمْسَكَ طَوِيلًا وَهُوَ يَقُولُ
يَا مَعْشَرَ بَنِي قَحْطَانِ ... أُخْبِرُكُمْ بِالْحَقّ وَالْبَيَانِ
أَقْسَمْت بِالْكَعْبَةِ وَالْأَرْكَانِ ... وَالْبَلَدِ الْمُؤْتَمَنِ السّدّانِ
لَقَدْ مُنِعَ السّمْعَ عُتَاةُ الْجَانّ ... بِثَاقِبِ بِكَفّ ذِي سُلْطَانِ
مِنْ أَجْلِ مَبْعُوثٍ عَظِيمِ الشّانِ ... يُبْعَثُ بِالتّنْزِيلِ وَالْقُرْآنِ
وَبِالْهُدَى وَفَاصِلِ الْقُرْآنِ ... تَبْطُلُ بِهِ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ
قَالَ فَقُلْنَا : وَيْحَك يَا خَطَرُ إنّك لَتَذْكُرُ أَمْرًا عَظِيمًا ،
فَمَاذَا تَرَى لِقَوْمِك ؟ فَقَالَ
أَرَى لِقَوْمِي مَا أَرَى لِنَفْسِي ... أَنْ يَتّبِعُوا خَيْرَ نَبِيّ الْإِنْسِ
بُرْهَانُهُ مِثْلُ شُعَاعِ الشّمْسِ ... يُبْعَثُ فِي مَكّةَ دَارِ الْحُمْسِ
بِمُحْكَمِ التّنْزِيلِ غَيْرِ اللّبْسِ
فَقُلْنَا لَهُ يَا خَطَرُ وَمِمّنْ هُوَ ؟ فَقَالَ وَالْحَيَاةِ وَالْعَيْشِ .
إنّهُ لَمِنْ قُرَيْشٍ ، مَا فِي حِلْمِهِ طَيْشٌ وَلَا فِي خُلُقِهِ هَيْشٌ
يَكُونُ فِي جَيْشٍ وَأَيّ جَيْشٍ مِنْ آلِ قَحْطَانَ وَآلِ أَيْشٍ فَقُلْت لَهُ
بَيّنِ لَنَا : مِنْ أَيّ قُرَيْشٍ هُوَ ؟ فَقَالَ وَالْبَيْتِ ذِي الدّعَائِمِ
وَالرّكْنِ وَالْأَحَائِمِ إنّهُ لَمِنْ نَجْلِ هَاشِمٍ مِنْ مَعْشَرٍ كَرَائِمٍ
يُبْعَثُ بِالْمَلَاحِمِ وَقَتْلِ كُلّ ظَالِمٍ ثُمّ قَالَ هَذَا هُوَ الْبَيَانُ
أَخْبَرَنِي بِهِ رَئِيسُ الْجَانّ ثُمّ قَالَ اللّهُ أَكْبَرُ جَاءَ الْحَقّ
وَظَهَرَ وَانْقَطَعَ عَنْ الْجِنّ الْخَبَرُ - ثُمّ سَكَتَ وَأُغْمِيَ عَلَيْهِ
فَمَا أَفَاقَ إلّا بَعْدَ ثَلَاثَةٍ فَقَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَقَدْ نَطَقَ عَنْ مِثْلِ
نُبُوّةٍ وَإِنّهُ لَيُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمّةً وَحْدَهُ
أَصْلُ أَلْفِ إصَابَةٍ
قَالَ الْمُؤَلّفُ فِي هَذَا الْخَبَرِ قَوْلُهُ أَصَابَهُ إصَابَةً هَكَذَا
قَيّدْته بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ إصَابَةٍ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ طَاهِرٍ وَأَخْبَرَنِي
بِهِ عَنْ أَبِي عَلِيّ الْغَسّانِيّ وَوَجْهُهُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ بَدَلًا
مِنْ وَاوٍ مَكْسُورَةٍ مِثْلُ وِشَاحٍ وَإِشَاحٍ [ وَوِسَادَةٍ وَإِسَادَةٍ ] ،
وَالْمَعْنَى : أَصَابَهُ وَصَابَهُ جَمْعُ : وَصَبٍ مِثْلُ جَمَلٍ وَجِمَالَةٍ .
[ ص 364 ]
مَعْنَى كَلِمَةِ أَيْشٍ وَالْأَحَائِمِ
وَقَوْلُهُ مِنْ آلِ قَحْطَانَ وَآلِ أَيْشٍ يَعْنِي بِآلِ قَحْطَانَ الْأَنْصَارَ
؛ لِأَنّهُمْ مِنْ قَحْطَانَ وَأَمّا آلُ أَيْشٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ
قَبِيلَةً مِنْ الْجِنّ الْمُؤْمِنِينَ يُنْسَبُونَ إلَى أَيْشٍ فَإِنْ يَكُنْ
هَذَا ، وَإِلّا فَلَهُ مَعْنًى فِي الْمَدْحِ غَرِيبٌ تَقُولُ فُلَانٌ أَيْشٌ
هُوَ وَابْنُ أَيْشٍ وَمَعْنَاهُ أَيّ شَيْءٍ أَيْ شَيْءٌ عَظِيمٌ فَكَأَنّهُ
أَرَادَ مِنْ آلِ قَحْطَانَ ، وَمِنْ الْمُهَاجِرِينَ الّذِي يُقَالُ فِيهِمْ
مِثْلُ هَذَا ، كَمَا تَقُولُ هُمْ وَمَا هُمْ ؟ وَزَيْدٌ مَا زَيْدٌ وَأَيّ
شَيْءٍ زَيْدٌ وَأَيْشٌ فِي مَعْنَى : أَيّ شَيْءٍ كَمَا يُقَالُ وَيْلُمّهِ فِي
مَعْنَى : وَيْلُ أُمّهِ عَلَى الْحَذْفِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَهَذَا
كَمَا قَالَ هُوَ فِي جَيْشٍ أَيّمَا جَيْشٍ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَأَحْسَبُهُ
أَرَادَ بِآلِ أَيْشٍ بَنِي أُقَيْشٍ وَهُمْ حُلَفَاءُ الْأَنْصَارِ مِنْ الْجِنّ
؛ فَحَذَفَ مِنْ الِاسْمِ حَرْفًا ، وَقَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ مِثْلَ هَذَا ،
وَقَدْ وَقَعَ ذِكْرُ بَنِي أُقَيْشٍ فِي السّيرَةِ فِي حَدِيثِ الْبَيْعَةِ .
وَذِكْرُ الرّكْنِ وَالْأَحَائِمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْأَحَاوِمَ
بِالْوَاوِ فَهَمْزُ الْوَاوِ لِانْكِسَارِهَا ، وَالْأَحَاوِمُ جَمْعُ أَحْوَامٍ
وَالْأَحْوَامُ جَمْعُ حَوْمٍ وَهُوَ الْمَاءُ فِي الْبِئْرِ فَكَأَنّهُ أَرَادَ
مَاءَ زَمْزَمَ ، وَالْحَوْمُ أَيْضًا : إبِلٌ كَثِيرَةٌ تَرِدُ الْمَاءَ فَعَبّرَ
بِالْأَحَائِمِ عَنْ وِرَادِ زَمْزَمَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا الطّيْرَ
وَحَمَامَ مَكّةَ الّتِي تَحُومُ عَلَى الْمَاءِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْحَوَائِمِ
وَقُلِبَ اللّفْظُ فَصَارَ بَعْدُ فَوَاعِلَ أَفَاعِلَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
حَيّ جَنْبٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ أَنّ جَنْبًا وَهُمْ حَيّ مِنْ الْيَمَنِ اجْتَمَعُوا إلَى
كَاهِنٍ لَهُمْ فَسَأَلُوهُ عَنْ أَمْرِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - حِينَ رَمَى بِالنّجُومِ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ جَنْبٌ هُمْ مِنْ
مَذْحِجَ ، وَهُمْ عَيّذُ اللّهِ وَأَنَسُ اللّهِ وَزَيْدُ اللّهِ وَأَوْسُ اللّهِ
وَجُعْفِيّ وَالْحَكَمُ وَجِرْوَةُ بَنُو سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ ،
وَمَذْحِجُ هُوَ مَالِكُ بْنُ أُدَدٍ وَسُمّوا : جَنْبًا لِأَنّهُمْ جَانَبُوا
بَنِي عَمّهِمْ صُدَاءً وَيَزِيدَ ابْنَيْ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ .
قَالَهُ الدّارَقُطْنِيّ . وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ خِلَافًا فِي
أَسْمَائِهِمْ وَذَكَرَ فِيهِمْ بَنِي غَلِيّ بِالْغَيْنِ وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِ
غَلِيّ غَيْرُهُ قَالَ مُهَلْهِلٌ
أَنْكَحَهَا فَقْدُهَا الْأَرَاقِمَ فِي ... جَنْبٍ وَكَانَ الْحِبَاءُ مِنْ
أَدَمْ
[
ص 364 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ كَعْبٍ [ ص 365 ] عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ ، أَنّهُ حَدّثَ أَنّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطّابِ ، بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ ، إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ
يُرِيدُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، فَلَمّا نَظَرَ إلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ قَالَ إنّ هَذَا الرّجُلَ لَعَلَى شِرْكِهِ مَا فَارَقَهُ بَعْدُ أَوْ
لَقَدْ كَانَ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيّةِ . فَسَلّمَ عَلَيْهِ الرّجُلُ ثُمّ
جَلَسَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ هَلْ أَسْلَمْت ؟ قَالَ نَعَمْ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لَهُ فَهَلْ كُنْت كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيّةِ
؟ فَقَالَ الرّجُلُ سُبْحَانَ اللّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ خِلْت
فِيّ وَاسْتَقْبَلْتنِي بِأَمْرِ مَا أَرَاك قُلْته لِأَحَدِ مِنْ رَعِيّتِك
مُنْذُ وُلّيت مَا وُلّيت ، فَقَالَ عُمَرُ اللّهُمّ غَفْرًا ، قَدْ كُنّا فِي
الْجَاهِلِيّةِ عَلَى شَرّ مِنْ هَذَا ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَعْتَنِقُ
الْأَوْثَانَ حَتّى أَكْرَمْنَا اللّهُ بِرَسُولِهِ وَبِالْإِسْلَامِ قَالَ نَعَمْ
وَاَللّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ كُنْت كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيّةِ
قَالَ فَأَخْبِرْنِي مَا جَاءَك بِهِ صَاحِبُك ، قَالَ جَاءَنِي قَبْلَ
الْإِسْلَامِ بِشَهْرِ أَوْ شَيْعِهِ فَقَالَ أَلَمْ تَرَ إلَى الْجِنّ
وَإِبْلَاسِهَا ، وَإِيَاسِهَا مِنْ دِينِهَا ، وَلُحُوقِهَا بِالْقِلَاصِ
وَأَحْلَاسِهَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا الْكَلَامُ سَجْعٌ وَلَيْسَ بِشِعْرِ
. قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ كَعْبٍ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ عِنْدَ ذَلِكَ
يُحَدّثُ النّاسَ وَاَللّهِ إنّي لَعِنْدَ وَثَنٍ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيّةِ
فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، قَدْ ذَبَحَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ عِجْلًا ،
فَنَحْنُ نَنْتَظِرُ قَسْمَهُ لِيَقْسِمَ لَنَا مِنْهُ إذْ سَمِعْت مِنْ جَوْفِ
الْعِجْلِ صَوْتًا مَا سَمِعْت صَوْتًا قَطّ أَنْفَذَ مِنْهُ وَذَلِكَ قُبَيْلَ
الْإِسْلَامِ بِشَهْرِ أَوْ شَيْعِهِ يَقُولُ يَا ذَرِيحُ أَمْرٌ نَجِيحٌ رَجُلٌ
يَصِيحُ يَقُول : لَا إلَهَ إلّا اللّهُ [ ص 366 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَيُقَالُ رَجُلٌ يَصِيحُ بِلِسَانِ فَصِيحٍ يَقُولُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ .
عَجِبْت لِلْجِنّ وَإِبْلَاسِهَا ... وَشَدّهَا الْعِيسَ بِأَحْلَاسِهَا
تَهْوِي إلَى مَكّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا مُؤْمِنُو الْجِنّ كَأَنْجَاسِهَا
[ ص 367 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَهَذَا مَا بَلَغَنَا مِنْ الْكُهّانِ مِنْ
الْعَرَبِ .Sمَعْنَى
خَلَتْ فِي وَشِيعَةٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ وَقَوْلَهُ لِلرّجُلِ [ ص 365 ] أَكُنْت كَاهِنًا
فِي الْجَاهِلِيّةِ ؟ فَقَالَ الرّجُلُ سُبْحَانَ اللّهِ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ خِلْت فِيّ وَاسْتَقْبَلْتنِي بِأَمْرِ مَا أَرَاك
اسْتَقْبَلْت بِهِ أَحَدًا مُنْذُ وُلّيت وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَوْلُهُ خِلْت
فِيّ هُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ خِلْت وَظَنَنْت ،
كَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ أَحَدِ
الْمَفْعُولَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْآخَرِ لِأَنّ حُكْمَهُمَا حُكْمُ الِابْتِدَاءِ
وَالْخَبَرِ ، فَإِذَا حُذِفَتْ الْجُمْلَةُ كُلّهَا جَازَ لِأَنّ حُكْمَهُمَا
حُكْمُ الْمَفْعُولِ وَالْمَفْعُولُ قَدْ يَجُوزُ حَذْفُهُ وَلَكِنْ لَا بُدّ مِنْ
قَرِينَةٍ تَدُلّ عَلَى الْمُرَادِ فَفِي قَوْلِهِمْ مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ دَلِيلٌ
يَدُلّ عَلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ يَسْمَعُ وَفِي قَوْلِهِ خِلْت فِيّ دَلِيلٌ
أَيْضًا ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِيّ كَأَنّهُ قَالَ خِلْت الشّرّ فِيّ أَوْ نَحْوَ
هَذَا ، وَقَوْلُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِشَهْرِ أَوْ شَيْعِهِ أَيْ دُونَهُ
بِقَلِيلِ وَشَيْعُ كُلّ شَيْءٍ مَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ وَهُوَ مِنْ الشّيَاعِ
وَهِيَ حَطَبٌ صِغَارٌ تُجْعَلُ مَعَ الْكِبَارِ تَبَعًا لَهَا ، وَمِنْهُ الْمُشَيّعَةُ
وَهِيَ الشّاةُ تَتْبَعُ الْغَنَمَ لِأَنّهَا دُونَهَا مِنْ الْقُوّةِ . [ ص 366 ]
جُلَيْحٌ وَسَوَادُ بْنُ قَارِبٍ
وَالصّوْتُ الّذِي سَمِعَهُ عُمَرُ مِنْ الْعِجْلِ يَا جُلَيْحٌ سَمِعْت بَعْضَ
أَشْيَاخِنَا يَقُولُ هُوَ اسْمُ شَيْطَانٍ وَالْجُلَيْحُ فِي اللّغَةِ مَا
تَطَايَرَ مِنْ رُءُوسِ النّبَاتِ وَخَفّ نَحْوَ الْقُطْنِ وَشِبْهِهِ
وَالْوَاحِدَةُ جُلَيْحَةٌ وَاَلّذِي وَقَعَ فِي السّيرَةِ يَا ذَرِيحُ وَكَأَنّهُ
نِدَاءٌ لِلْعِجْلِ الْمَذْبُوحِ لِقَوْلِهِمْ أَحْمَرُ ذَرِيحِيّ ، أَيْ شَدِيدُ
الْحُمْرَةِ فَصَارَ وَصْفًا لِلْعِجْلِ الذّبِيحِ مِنْ أَجْلِ الدّمِ وَمَنْ
رَوَاهُ يَا جُلَيْحُ فَمَآلُهُ إلَى هَذَا الْمَعْنَى ؛ لِأَنّ الْعِجْلَ قَدْ
جُلِحَ أَيْ كُشِفَ عَنْهُ الْجِلْدُ فَاَللّهُ أَعْلَمُ وَهَذَا الرّجُلُ الّذِي
كَانَ كَاهِنًا هُوَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ الدّوْسِيّ فِي قَوْلِ ابْنِ
الْكَلْبِيّ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ سَدُوسِيّ وَفِيهِ يَقُولُ الْقَائِلُ
أَلَا لِلّهِ عِلْمٌ لَا يُجَارَى ... إلَى الْغَايَاتِ فِي جَنْبَيْ سَوَادِ
أَتَيْنَاهُ نُسَائِلُهُ امْتِحَانًا ... فَلَمْ يَبْعَلْ وَأَخْبَرَ بِالسّدَادِ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي شِعْرٍ وَخَبَرٍ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ الْقَالِي فِي
أَمَالِيهِ وَرَوَى غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ هَذَا الْخَبَرَ عَنْ عُمَرَ عَلَى
غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَأَنّ عُمَرَ مَازَحَهُ فَقَالَ مَا فَعَلَتْ كِهَانَتُك
يَا سَوَادُ ؟ فَغَضِبَ وَقَالَ قَدْ كُنْت أَنَا وَأَنْت عَلَى شَرّ مِنْ هَذَا
مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَأَكْلِ الْمَيْتَاتِ أَفَتُعَيّرُنِي بِأَمْرِ
تُبْت مِنْهُ ؟ فَقَالَ عُمَرُ حِينَئِذٍ اللّهُمّ غَفْرًا وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ
إسْحَاقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سِيَاقَةً حَسَنَةً وَزِيَادَةً مُفِيدَةً وَذَكَرَ
أَنّهُ حَدّثَ عُمَرَ أَنّ رِئْيَهُ جَاءَ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ هُوَ
فِيهَا كُلّهَا بَيْنَ النّائِمِ وَالْيَقْظَانِ فَقَالَ قُمْ يَا سَوَادُ
وَاسْمَعْ مَقَالَتِي ، وَاعْقِلْ إنْ كُنْت تَعْقِلُ قَدْ بُعِثَ رَسُولُ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ يَدْعُو إلَى اللّهِ
وَعِبَادَتِهِ وَأَنْشَدَهُ فِي كُلّ لَيْلَةٍ مِنْ الثّلَاثِ اللّيَالِي
ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ وَقَافِيَتُهَا مُخْتَلِفَةٌ
عَجِبْت لِلْجِنّ وَتَطْلَابِهَا ... وَشَدّهَا الْعِيسَ بِأَقْتَابِهَا
تَهْوِي إلَى مَكّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا صَادِقُ الْجِنّ كَكَذّابِهَا
فَارْحَلْ إلَى الصّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ ... لَيْسَ قُدَامَاهَا كَأَذْنَابِهَا
وَقَالَ لَهُ فِي الثّانِيَةِ [ ص 367 ]
عَجِبْت لِلْجِنّ وَإِبْلَاسِهَا ... وَشَدّهَا الْعِيسَ بِأَحْلَاسِهَا
تَهْوِي إلَى مَكّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا طَاهِرُ الْجِنّ كَأَنْجَاسِهَا
فَارْحَلْ إلَى الصّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ ... لَيْسَ ذُنَابَى الطّيْرِ مِنْ
رَأْسِهَا
وَقَالَ لَهُ فِي الثّالِثَةِ
عَجِبْت لِلْجِنّ وَتَنْفَارِهَا ... وَشَدّهَا الْعِيسَ بِأَكْوَارِهَا
تَهْوِي إلَى مَكّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا مُؤْمِنُ الْجِنّ كَكُفّارِهَا
فَارْحَلْ إلَى الْأَتْقَيْنِ مِنْ هَاشِمٍ ... لَيْسَ قُدَامَاهَا كَأَدْبَارِهَا
وَذَكَرَ تَمَامَ الْخَبَرِ ، وَفِي آخِرِ شِعْرِ سَوَادٍ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَنْشَدَهُ مَا كَانَ مِنْ الْجِنّيّ
رِئْيَةَ ثَلَاثِ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ وَذَلِكَ قَوْلُهُ
أَتَانِي نَجِيّي بَعْدَ هَدْءٍ وَرَقْدَةٍ ... وَلَمْ يَكُ فِيمَا قَدْ بَلَوْت
بِكَاذِبِ
ثَلَاثَ لَيَالٍ قَوْلُهُ كُلّ لَيْلَةٍ ... أَتَاك نَبِيّ مِنْ لُؤَيّ بْنِ
غَالِبِ
فَرَفّعْت أَذْيَالَ الْإِزَارِ وَشَمّرَتْ ... بِي الْعِرْمِسُ الْوَجْنَا
هُجُولُ السّبَاسِبِ
فَأَشْهَدُ أَنّ اللّهَ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ... وَأَنّك مَأْمُونٌ عَلَى كُلّ
غَائِبِ
وَأَنّك أَدْنَى الْمُرْسَلِينَ وَسِيلَةً ... إلَى اللّهِ يَا بْنَ
الْأَكْرَمِينَ الْأَطَايِبِ
فَمُرْنَا بِمَا يَأْتِيك مِنْ وَحْيِ رَبّنَا ... وَإِنْ كَانَ فِيمَا جِئْت
شَيْبُ الذّوَائِبِ
وَكُنْ لِي شَفِيعًا يَوْمَ لَا ذُو شَفَاعَةٍ ... بِمُغْنٍ فَتِيلًا عَنْ سَوَادِ
بْنِ قَارِبِ
سَوَادٌ وَدَوْسٌ عِنْدَ وَفَاةِ الرّسُولِ " صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
"
وَلِسَوَادِ بْنِ قَارِبٍ هَذَا مَقَامٌ حَمِيدٌ فِي دَوْسٍ حِينَ بَلَغَهُمْ
وَفَاةُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَامَ حِينَئِذٍ
سَوَادٌ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْأَزْدِ ، إنّ مِنْ سَعَادَةِ الْقَوْمِ أَنْ
يَتّعِظُوا بِغَيْرِهِمْ وَمِنْ شَقَائِهِمْ أَلّا يَتّعِظُوا إلّا بِأَنْفُسِهِمْ
وَمَنْ لَمْ تَنْفَعْهُ التّجَارِبُ ضَرّتْهُ وَمَنْ لَمْ يَسَعْهُ الْحَقّ لَمْ
يَسَعْهُ الْبَاطِلُ وَإِنّمَا تُسْلِمُونَ الْيَوْمَ بِمَا أَسْلَمْتُمْ بِهِ
أَمْسِ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ
تَنَاوَلَ قَوْمًا أَبْعَدَ [ ص 368 ] فَظَفِرَ بِهِمْ وَأَوْعَدَ قَوْمًا
أَكْثَرَ مِنْكُمْ فَأَخَافَهُمْ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْكُمْ عِدّةٌ وَلَا عَدَدٌ
وَكُلّ بَلَاءٍ مَنْسِيّ إلّا بَقِيَ أَثَرُهُ فِي النّاسِ وَلَا يَنْبَغِي
لِأَهْلِ الْبَلَاءِ إلّا أَنْ يَكُونُوا أَذْكَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَافِيَةِ
لِلْعَافِيَةِ وَإِنّمَا كَفّ نَبِيّ اللّهِ عَنْكُمْ مَا كَفّكُمْ عَنْهُ فَلَمْ
تَزَالُوا خَارِجِينَ مِمّا فِيهِ أَهْلُ الْبَلَاءِ دَاخِلِينَ مِمّا فِيهِ
أَهْلُ الْعَافِيَةِ حَتّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - خَطِيبُكُمْ وَنَقِيبُكُمْ فَعَبّرَ الْخَطِيبُ عَنْ الشّاهِدِ
وَنَقّبَ النّقِيبُ عَنْ الْغَائِبِ وَلَسْت أَدْرِي لَعَلّهُ تَكُونُ لِلنّاسِ
جَوْلَةٌ فَإِنْ تَكُنْ فَالسّلَامَةُ مِنْهَا : الْأَنَاةُ وَاَللّهُ يُحِبّهَا ،
فَأَحِبّوهَا ، فَأَجَابَهُ الْقَوْمُ وَسَمِعُوا قَوْلَهُ فَقَالَ فِي ذَلِكَ
سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ
جَلّتْ مُصِيبَتُك الْغَدَاةَ سَوَادُ ... وَأَرَى الْمُصِيبَةَ بَعْدَهَا
تَزْدَادُ
أَبْقَى لَنَا فَقْدُ النّبِيّ مُحَمّدٍ ... - صَلّى الْإِلَهُ عَلَيْهِ - مَا
يُعْتَادُ
حُزْنًا لَعَمْرُك فِي الْفُؤَادِ مُخَامِرًا ... أَوْ هَلْ لِمَنْ فَقَدَ
النّبِيّ فُؤَادُ ؟
كُنّا نَحُلّ بِهِ جَنَابًا مُمْرِعًا ... جَفّ الْجَنَابُ فَأَجْدَبَ الرّوّادُ
فَبَكَتْ عَلَيْهِ أَرْضُنَا وَسَمَاؤُنَا ... وَتَصَدّعَتْ وَجْدًا بِهِ
الْأَكْبَادُ
قَلّ الْمَتَاعُ بِهِ وَكَانَ عِيَانُهُ ... حُلْمًا تَضَمّنَ سَكَرَتَيْهِ
رُقَادُ
كَانَ الْعِيَانُ هُوَ الطّرِيفَ وَحُزْنُهُ ... بَاقٍ لَعَمْرُك فِي النّفُوسِ
تِلَادُ
إنّ النّبِيّ وَفَاتُهُ كَحَيَاتِهِ ... الْحَقّ حَقّ وَالْجِهَادُ جِهَادُ
لَوْ قِيلَ تَفْدُونَ النّبِيّ مُحَمّدًا ... بُذِلَتْ لَهُ الْأَمْوَالُ
وَالْأَوْلَادُ
وَتَسَارَعَتْ فِيهِ النّفُوسُ بِبَذْلِهَا ... هَذَا لَهُ الْأَغْيَابُ
وَالْأَشْهَادُ
هَذَا ، وَهَذَا لَا يَرُدّ نَبِيّنَا ... لَوْ كَانَ يَفْدِيهِ فَدَاهُ سَوَادُ
أَنّى أُحَاذِرُ وَالْحَوَادِثُ جَمّةٌ ... أَمْرًا لِعَاصِفِ رِيحِهِ إرْعَادُ
إنْ حَلّ مِنْهُ مَا يُخَافُ فَأَنْتُمْ ... لِلْأَرْضِ - إنْ رَجَفَتْ بِنَا -
أَوْتَادُ
لَوْ زَادَ قَوْمٌ فَوْقَ مُنْيَةِ صَاحِبٍ ... زِدْتُمْ وَلَيْسَ لِمُنْيَةِ
مُزْدَادُ
[ ص 369 ]
كَاهِنَةُ قُرَيْشٍ
فَأَعْجَبَ الْقَوْمَ شِعْرُهُ وَقَوْلُهُ فَأَجَابُوا إلَى مَا أَحَبّ وَمِنْ
هَذَا الْبَابِ خَبَرُ سَوْدَاءَ بِنْتِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ ، وَذَلِكَ أَنّهَا
حِينَ وُلِدَتْ وَرَآهَا أَبُوهَا زَرْقَاءَ شَيْمَاءَ أَمَرَ بِوَأْدِهَا ،
وَكَانُوا يَئِدُونَ مِنْ الْبَنَاتِ مَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الصّفَةِ
فَأَرْسَلَهَا إلَى الْحَجُونِ لِتُدْفَنَ هُنَاكَ فَلَمّا حَفَرَ لَهَا
الْحَافِرُ وَأَرَادَ دَفْنَهَا سَمِعَ هَاتِفًا يَقُولُ لَا تَئِدَنّ الصّبِيّة ،
وَخَلّهَا فِي الْبَرّيّة ، فَالْتَفَتَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا ، فَعَادَ
لِدَفْنِهَا ، فَسَمِعَ الْهَاتِفَ يَهْتِفُ بِسَجْعِ آخَرَ فِي الْمَعْنَى ،
فَرَجَعَ إلَى أَبِيهَا ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا سَمِعَ فَقَالَ إنّ لَهَا لَشَأْنًا
، وَتَرَكَهَا ، فَكَانَتْ كَاهِنَةَ قُرَيْشٍ ، فَقَالَتْ يَوْمًا لِبَنِي
زُهْرَةَ إنّ فِيكُمْ نَذِيرَةً أَوْ تَلِدُ نَذِيرًا ، فَاعْرِضُوا عَلَيّ
بَنَاتِكُمْ فَعُرِضْنَ عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ فِي كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ
قَوْلًا ظَهَرَ بَعْدَ حِينٍ حَتّى عُرِضَتْ عَلَيْهَا آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ
فَقَالَتْ هَذِهِ النّذِيرَةُ أَوْ تَلِدُ نَذِيرًا ، وَهُوَ خَبَرٌ طَوِيلٌ
ذَكَرَ الزّبَيْرُ مِنْهُ يَسِيرًا ، وَأَوْرَدَهُ بِطُولِهِ أَبُو بَكْرٍ
النّقّاشُ وَفِيهِ ذَكَرَ جَهَنّمَ - أَعَاذَنَا اللّهُ مِنْهَا - وَلَمْ يَكُنْ
اسْمُ جَهَنّمَ مَسُوغًا بِهِ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا لَهَا : وَمَا جَهَنّمُ
فَقَالَتْ سَيُخْبِرُكُمْ النّذِيرُ عَنْهَا .
إنْذَارُ
يَهُودَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 368 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي [ ص 369 ] عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ
قَتَادَةَ ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا : إنّ مِمّا دَعَانَا إلَى
الْإِسْلَامِ ، مَعَ رَحْمَةِ اللّهِ تَعَالَى وَهُدَاهُ لَمّا كُنّا نَسْمَعُ
مِنْ رِجَالِ يَهُودَ كُنّا أَهْلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ وَكَانُوا أَهْلَ
كِتَابٍ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ لَنَا ، وَكَانَتْ لَا تَزَالُ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ شُرُورٌ فَإِذَا نِلْنَا مِنْهُمْ بَعْضَ مَا يَكْرَهُونَ قَالُوا
لَنَا : إنّهُ تَقَارَبَ زَمَانُ نَبِيّ يُبْعَثُ الْآنَ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ
قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ ، فَكُنّا كَثِيرًا مَا نَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَلَمّا
بَعَثَ اللّهُ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَجَبْنَاهُ حِينَ
دَعَانَا إلَى اللّهِ تَعَالَى ، وَعَرَفْنَا مَا كَانُوا يَتَوَعّدُونَنَا بِهِ
فَبَادَرْنَاهُمْ إلَيْهِ فَآمَنّا بِهِ وَكَفَرُوا بِهِ فَفِينَا وَفِيهِمْ
نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ مِنْ الْبَقَرَةِ { وَلَمّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ
عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ
عَلَى الّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ
اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ الْبَقَرَةُ 79 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
يَسْتَفْتِحُونَ يَسْتَنْصِرُونَ وَيَسْتَفْتِحُونَ أَيْضًا : يَتَحَاكَمُونَ
وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى : { رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [ الْأَعْرَافُ 89 ] . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ عَنْ
سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقّشٍ - وَكَانَ سَلَمَةُ مِنْ [ ص 370 ] أَصْحَابُ
بَدْرٍ - قَالَ كَانَ لَنَا جَارٌ مِنْ يَهُودَ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ
قَالَ فَخَرَجَ عَلَيْنَا يَوْمًا مِنْ بَيْتِهِ حَتّى وَقَفَ عَلَى بَنِي عَبْدِ
الْأَشْهَلِ - قَالَ سَلَمَةُ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ أَحْدَثُ مَنْ فِيهِ سِنّا ،
عَلَيّ بُرْدَةٍ لِي ، مُضْطَجِعٌ فِيهَا بِفِنَاءِ أَهْلِي - فَذَكَرَ
الْقِيَامَةَ وَالْبَعْثَ وَالْحِسَابَ وَالْمِيزَانَ وَالْجَنّةَ وَالنّارَ قَالَ
فَقَالَ ذَلِكَ لِقَوْمِ أَهْلِ شِرْكٍ أَصْحَابِ أَوْثَانٍ لَا يَرَوْنَ أَنّ
بَعْثًا كَائِنٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَالُوا لَهُ وَيْحَك يَا فُلَانُ أَوَتَرَى
هَذَا كَائِنًا ، أَنّ النّاس يُبْعَثْنَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إلَى دَارٍ فِيهَا
جَنّةٌ وَنَارٌ يُجْزَوْنَ فِيهَا بِأَعْمَالِهِمْ ؟ قَالَ نَعَمْ وَاَلّذِي
يَحْلِفُ بِهِ وَيَوَدّ أَنّ لَهُ بِحَظّهِ مِنْ تِلْكَ النّارِ أَعْظَمُ تَنّورٍ
فِي الدّارِ يَحْمُونَهُ ثُمّ يُدْخِلُونَهُ إيّاهُ فَيُطِيعُونَهُ عَلَيْهِ
بِأَنْ يَنْجُوَ مِنْ تِلْكَ النّارِ غَدًا ، فَقَالُوا لَهُ وَيْحَك يَا فُلَانُ
فَمَا آيَةُ ذَلِكَ ؟ قَالَ نَبِيّ مَبْعُوثٌ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْبِلَادِ -
وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى مَكّةَ وَالْيَمَنِ - فَقَالُوا : وَمَتَى تَرَاهُ ؟
قَالَ فَنَظَرَ إلَيّ وَأَنَا مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنّا ، فَقَالَ إنْ يَسْتَنْفِدْ
هَذَا الْغُلَامُ عُمْرَهُ يُدْرِكْهُ . قَالَ سَلَمَةُ فَوَاَللّهِ مَا ذَهَبَ
اللّيْلُ وَالنّهَارُ حَتّى بَعَثَ اللّهُ مُحَمّدًا رَسُولَهُ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ حَيّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، فَآمَنّا بِهِ وَكَفَرَ
بِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا . قَالَ فَقُلْنَا لَهُ وَيْحَك يَا فُلَانُ أَلَسْت
الّذِي قُلْت لَنَا فِيهِ مَا قُلْت ؟ قَالَ بَلَى . وَلَكِنْ لَيْسَ بِهِ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ شَيْخٍ
مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ قَالَ لِي : هَلْ تَدْرِي عَمّ كَانَ إسْلَامُ
ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ وَأُسَيْدِ بْنِ سَعْيَةَ وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ نَفَرٌ
مِنْ بَنِي هَدَلْ إخْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي جَاهِلِيّتِهِمْ
ثُمّ كَانُوا سَادَاتِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ . قَالَ قُلْت : لَا ، قَالَ فَإِنّ
رَجُلًا مِنْ يَهُودَ مِنْ أَهْلِ الشّامِ ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْهَيْبَانِ
قَدِمَ عَلَيْنَا قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ بِسِنِينَ فَحَلّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ،
لَا وَاَللّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا قَطّ لَا يُصَلّي الْخَمْسَ [ ص 371 ]
أَفْضَلَ مِنْهُ فَأَقَامَ عِنْدَنَا فَكُنّا إذَا قَحَطَ عَنّا الْمَطَرُ قُلْنَا
لَهُ اُخْرُجْ يَا بْنَ الْهَيّبَانِ فَاسْتَسْقِ لَنَا ، فَيَقُولُ لَا وَاَللّهِ
حَتّى تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيْ مَخْرَجِكُمْ صَدَقَةً فَنَقُولُ لَهُ كَمْ ؟
فَيَقُولُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ مُدّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ . قَالَ فَنُخْرِجُهَا ،
ثُمّ يَخْرُجُ بِنَا إلَى ظَاهِرِ حَرّتِنَا ، فَيَسْتَسْقِي اللّهَ لَنَا .
فَوَاَللّهِ مَا يَبْرَحُ مَجْلِسَهُ حَتّى تَمُرّ السّحَابَةُ وَنُسْقَى ، قَدْ
فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرّةٍ وَلَا مَرّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ . قَالَ ثُمّ
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ عِنْدَنَا . فَلَمّا عَرَفَ أَنّهُ مَيّتٌ قَالَ يَا
مَعْشَرَ يَهُودَ مَا تَرَوْنَهُ أَخْرَجَنِي مِنْ أَرْضِ الْخَمْرِ وَالْخَمِيرِ
إلَى أَرْضِ الْبُؤْسِ وَالْجُوعِ ؟ قَالَ قُلْنَا : إنّك أَعْلَمُ قَالَ فَإِنّي
إنّمَا قَدِمْت هَذِهِ الْبَلْدَةَ أَتَوَكّفُ خُرُوجَ نَبِيّ قَدْ أَظَلّ
زَمَانُهُ وَهَذِهِ الْبَلْدَةُ مُهَاجَرُهُ فَكُنْت أَرْجُو أَنْ يُبْعَثَ فَأَتّبِعُهُ
وَقَدْ أَظَلّكُمْ زَمَانُهُ فَلَا تُسْبَقُنّ إلَيْهِ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ
فَإِنّهُ يُبْعَثُ بِسَفْكِ الدّمَاءِ وَسَبْيِ الذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ مِمّنْ
خَالَفَهُ فَلَا يَمْنَعُكُمْ ذَلِكَ مِنْهُ . فَلَمّا بُعِثَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَحَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ هَؤُلَاءِ
الْفِتْيَةُ وَكَانُوا شَبَابًا أَحْدَاثًا : يَا بَنِي قُرَيْظَةَ وَاَللّهِ
إنّهُ لَلنّبِيّ الّذِي كَانَ عَهِدَ إلَيْكُمْ فِيهِ ابْنُ الْهَيّبَانِ قَالُوا
: لَيْسَ بِهِ [ ص 372 ] قَالُوا : بَلَى وَاَللّهِ إنّهُ لَهُوَ بِصِفَتِهِ
فَنَزَلُوا وَأَسْلَمُوا ، وَأَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَبِهَذَا مَا بَلَغَنَا عَنْ أَخْبَارِ
يَهُودَ .Sحَدِيثُ
سَلَمَةَ فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ
وَقّشٍ ، وَمَا سَمِعَ مِنْ الْيَهُودِيّ حِينَ ذَكَرَ الْجَنّةَ وَالنّارَ
وَقَالَ آيَةُ ذَلِكَ نَبِيّ : مَبْعُوثٌ قَدْ أَظَلّ زَمَانُهُ إلَى آخِرِ
الْحَدِيثِ وَلَيْسَ فِيهِ إشْكَالٌ وَابْنُ وَقّشٍ يُقَالُ فِيهِ وَقَشٌ
بِتَحْرِيكِ الْقَافِ وَتَسْكِينِهَا ، وَالْوَقْشُ الْحَرَكَةُ . [ ص 370 ]
حَدِيثُ ابْنِ الْهَيّبَانِ وَبَنُو سَعْيَةَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ الْهَيّبَانِ وَمَا بَشّرَ بِهِ مِنْ أَمْرِ
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَنّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبَ إسْلَامِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ وَأُسَيْدِ بْنِ سَعْيَةَ وَأَسَدِ بْنِ سَعْيَةَ ،
وَهُمْ مِنْ بَنِي هَدَلْ وَالْهَيْبَانُ مِنْ الْمُسَمّيْنَ بِالصّفَاتِ يُقَالُ
قُطْنٌ هَيّبَانُ أَيْ مُنْتَفِشٌ وَأَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ
تُطِيرُ اللّغَامَ الْهَيّبَانَ كَأَنّهُ ... جَنَى عُشَرٍ تَنْفِيهِ أَشْدَاقُهَا
الْهُدْلِ
وَالْهَيّبَانُ أَيْضًا : الْجَبَانُ وَقَدْ قَدّمْنَا الِاخْتِلَافَ فِي هَدَلْ
وَأَمّا أُسَيْدُ بْنُ سَعْيَةَ ، فَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ
إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الْمَدَنِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ
، وَهُوَ أَحَدُ [ ص 371 ] أُسَيْدُ بْنُ سَعْيَةَ بِضَمّ الْأَلِفِ وَقَالَ
يُونُسُ بْن بُكَيْرٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَهُوَ قَوْلُ الْوَاقِدِيّ
وَغَيْرِهِ أَسِيدٌ بِفَتْحِهَا قَالَ الدّارَقُطْنِيّ : وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ
وَلَا يَصِحّ مَا قَالَهُ إبْرَاهِيمُ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَبَنُو سَعْيَةَ
هَؤُلَاءِ فِيهِمْ أَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمّةٌ
قَائِمَةٌ } [ آلُ عِمْرَانَ : 113 ] الْآيَةُ وَسَعْيَةُ أَبُوهُمْ يُقَالُ لَهُ
ابْنُ الْعَرِيضِ ، وَهُوَ بِالسّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ
بِاثْنَيْنِ .
سُعْنَةُ الْحَبْرِ وَإِسْلَامُهُ
وَأَمّا سُعْنَةُ بِالنّونِ فَزَيْدُ بْنُ سُعْنَةَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ
كَانَ قَدْ دَايَنَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَاءَهُ
يَتَقَاضَاهُ قَبْلَ الْأَجَلِ فَقَالَ أَلَا تَقْضِينِي يَا مُحَمّدُ فَإِنّكُمْ
يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ مُطْلٌ وَمَا أَرَدْت إلّا أَنْ أَعْلَمَ عِلْمَكُمْ
فَارْتَعَدَ عُمَرُ وَدَارَ كَأَنّهُ فِي فَلَكٍ وَجَعَلَ يَلْحَظُ يَمِينًا
وَشِمَالًا ، وَقَالَ تَقُولُ هَذَا لِرَسُولِ اللّهِ يَا عَدُوّ اللّهِ ؟ فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّا إلَى غَيْرِ هَذَا مِنْك
أَحْوَجُ يَا عُمَرُ أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الْأَدَاءِ وَتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ
التّبِعَةِ قُمْ فَاقْضِهِ عَنّي ، فَوَاَللّهِ مَا حَلّ الْأَجَلُ وَزِدْهُ
عِشْرِينَ صَاعًا بِمَا رَوّعْته وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّهُ قَالَ دَعْهُ فَإِنّ
لِصَاحِبِ الْحَقّ مَقَالًا وَيُذْكَرُ أَنّهُ أَسْلَمَ لَمّا رَأَى مِنْ
مُوَافَقَةِ وَصْفِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لِمَا كَانَ عِنْدَهُ فِي
التّوْرَاةِ ، وَكَانَ يَجِدُهُ مَوْصُوفًا بِالْحِلْمِ فَلَمّا رَأَى مِنْ
حِلْمِهِ مَا رَأَى أَسْلَمَ ، وَتُوُفّيَ غَازِيًا مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَيُقَالُ فِي اسْمِهِ
سَعْيَةُ بِالْيَاءِ كَمَا فِي الْأَوّلِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الدّارَقُطْنِيّ إلّا
بِالنّونِ .
حَدِيثُ
إسْلَامِ سَلْمَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ
الْأَنْصَارِيّ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ
، قَالَ حَدّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيّ مِنْ فِيهِ قَالَ كُنْت رَجُلًا
فَارِسِيّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا : جَيّ ،
وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ وَكُنْت أَحَبّ خَلْقِ اللّهِ إلَيْهِ لَمْ
يَزَلْ بِهِ حُبّهُ إيّايَ حَتّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ كَمَا تُحْبَسُ
الْجَارِيَةُ وَاجْتَهَدْت فِي الْمَجُوسِيّةِ حَتّى كُنْت قَطَنَ النّارِ الّذِي
يُوقِدُهَا ، لَا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً . قَالَ وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ
عَظِيمَةٌ قَالَ فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا ، فَقَالَ لِي : يَا بُنَيّ إنّي
قَدْ شُغِلْت فِي بُنْيَانِي هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي ، فَاذْهَبْ إلَيْهَا
، فَاطّلِعْهَا - وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ - ثُمّ قَالَ لِي :
وَلَا تَحْتَبِسْ عَنّي ؛ فَإِنّك إنْ احْتَبَسْت عَنّي كُنْت أَهَمّ إلَيّ مِنْ
ضَيْعَتِي ، وَشَغَلْتنِي عَنْ كُلّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِي . قَالَ فَخَرَجْت
أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ الّتِي بَعَثَنِي إلَيْهَا ، فَمَرَرْت بِكَنِيسَةِ مِنْ
كَنَائِسِ النّصَارَى ، فَسَمِعْت أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلّونَ وَكُنْت
لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إيّايَ فِي بَيْتِهِ فَلَمّا
سَمِعْت أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْت عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ فَلَمّا
رَأَيْتهمْ أَعْجَبَتْنِي صَلَاتُهُمْ وَرَغِبْت فِي أَمْرِهِمْ وَقُلْت : هَذَا
وَاَللّهِ خَيْرٌ مِنْ الدّينِ الّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ فَوَاَللّهِ مَا بَرِحْتُهُمْ
حَتّى غَرَبَتْ الشّمْسُ وَتَرَكْت ضَيْعَةَ أَبِي فَلَمْ آتِهَا ، ثُمّ قُلْت
لَهُمْ أَيْنَ أَصِلُ هَذَا الدّينَ ؟ قَالُوا : بِالشّامِ . فَرَجَعْت إلَى أَبِي
، وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي ، وَشَغَلْته عَنْ عَمَلِهِ كُلّهِ فَلَمّا جِئْته
قَالَ أَيْ بُنَيّ أَيْنَ كُنْت ؟ أَوَلَمْ أَكُنْ عَهِدْت إلَيْك مَا عَهِدْت ؟
قَالَ قُلْت لَهُ يَا أَبَتْ مَرَرْت بِأُنَاسِ يُصَلّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ
فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْت مِنْ دِينِهِمْ فَوَاَللّهِ مَا زِلْت عِنْدَهُمْ حَتّى
غَرَبَتْ الشّمْسُ قَالَ أَيْ بُنَيّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدّينِ خَيْرٌ دِينُك ،
وَدِينُ آبَائِك خَيْرٌ مِنْهُ قَالَ قُلْت لَهُ كَلّا وَاَللّهِ إنّهُ لَخَيْرٌ
مِنْ دِينِنَا . قَالَ فَخَافَنِي ، فَجَعَلَ فِي رِجْلِي قَيْدًا ، ثُمّ
حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ . [ ص 373 ] قَالَ وَبَعَثْت إلَى النّصَارَى فَقُلْت
لَهُمْ إذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنْ الشّامِ فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ . قَالَ
فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنْ الشّامِ تُجّارٌ مِنْ النّصَارَى ،
فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ فَقُلْت لَهُمْ إذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا
الرّجْعَةَ إلَى بِلَادِهِمْ فَآذِنُونِي بِهِمْ قَالَ فَلَمّا أَرَادُوا
الرّجْعَةَ إلَى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ فَأَلْقَيْت الْحَدِيدَ مِنْ
رِجْلِي ، ثُمّ خَرَجْت مَعَهُمْ حَتّى قَدِمْت الشّامَ فَلَمّا قَدِمْتهَا قُلْت
: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدّينِ عِلْمًا ؟ قَالُوا : الْأُسْقُفُ فِي
الْكَنِيسَةِ . قَالَ فَجِئْته ، فَقُلْت لَهُ إنّي قَدْ رَغِبْت فِي هَذَا
الدّينِ فَأَحْبَبْت أَنْ أَكُونَ مَعَك ، وَأَخْدُمَك فِي كَنِيسَتِك ،
فَأَتَعَلّمُ مِنْك ، وَأُصَلّي مَعَك ، قَالَ اُدْخُلْ فَدَخَلْت مَعَهُ . قَالَ
وَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُهُمْ بِالصّدَقَةِ وَيُرَغّبُهُمْ فِيهَا ، فَإِذَا
جَمَعُوا إلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ
الْمَسَاكِينَ حَتّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ . قَالَ
فَأَبْغَضْته بُغْضًا شَدِيدًا ، لِمَا رَأَيْته يَصْنَعُ ثُمّ مَاتَ
فَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ النّصَارَى ، لِيَدْفِنُوهُ فَقُلْت لَهُمْ إنّ هَذَا كَانَ
رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصّدَقَةِ وَيُرَغّبُكُمْ فِيهَا ، فَإِذَا
جِئْتُمُوهُ بِهَا ، اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا
شَيْئًا . قَالَ فَقَالُوا لِي : وَمَا عِلْمُك بِذَلِكَ ؟ قَالَ قُلْت لَهُمْ
أَنَا أَدُلّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ قَالُوا : فَدُلّنَا عَلَيْهِ قَالَ فَأَرَيْتهمْ
مَوْضِعَهُ فَاسْتَخْرَجُوا سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا ، قَالَ
فَلَمّا رَأَوْهَا قَالُوا : وَاَللّهِ لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا . قَالَ
فَصَلَبُوهُ وَرَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ وَجَاءُوا بِرَجُلِ آخَرَ فَجَعَلُوهُ
مَكَانَهُ . قَالَ يَقُولُ سَلْمَانُ فَمَا رَأَيْت رَجُلًا لَا يُصَلّي الْخَمْسَ
أَرَى أَنّهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَأَزْهَدَ فِي الدّنْيَا ، وَلَا أَرْغَبَ
فِي الْآخِرَةِ وَلَا أَدْأَبَ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا مِنْهُ . قَالَ
فَأَحْبَبْته حُبّا لَمْ أُحِبّهُ قَبْلَهُ مِثْلَهُ . قَالَ فَأَقَمْت مَعَهُ
زَمَانًا ، ثُمّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَقُلْت لَهُ يَا فُلَانُ إنّي قَدْ كُنْت
مَعَك ، وَأَحْبَبْتُك حُبّا لَمْ أُحِبّهُ شَيْئًا قَبْلَك ، وَقَدْ حَضَرَك مَا
تَرَى مِنْ أَمْرِ اللّهِ تَعَالَى ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي ؟ وَبِمَ
تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ أَيْ بُنَيّ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ أَحَدًا عَلَى
مَا كُنْت عَلَيْهِ فَقَدْ هَلَكَ النّاسُ وَبَدّلُوا وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا
كَانُوا عَلَيْهِ إلّا رَجُلًا بِالْمَوْصِلِ وَهُوَ فُلَانٌ وَهُوَ عَلَى مَا
كُنْت عَلَيْهِ فَالْحَقْ بِهِ . [ ص 374 ] الْمَوْصِلِ ، فَقُلْت لَهُ يَا
فُلَانُ إنّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِك ، وَأَخْبَرَنِي
أَنّك عَلَى أَمْرِهِ قَالَ فَقَالَ لِي : أَقِمْ عِنْدِي ، فَأَقَمْت عِنْدَهُ
فَوَجَدْته خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ
فَلَمّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْت لَهُ يَا فُلَانُ إنّ فُلَانًا أَوْصَى بِي
إلَيْك ، وَأَمَرَنِي بِاللّحُوقِ بِك ، وَقَدْ حَضَرَك مِنْ أَمْرِ اللّهِ مَا
تَرَى ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي ؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ يَا بُنَيّ
وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنّا عَلَيْهِ إلّا رَجُلًا
بِنَصِيبِينَ وَهُوَ فُلَانٌ فَالْحَقْ بِهِ . فَلَمّا مَاتَ وَغُيّبَ لَحِقْت
بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ فَأَخْبَرْته خَبَرِي ، وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبَايَ
فَقَالَ أَقِمْ عِنْدِي ، فَأَقَمْت عِنْدَهُ فَوَجَدْته عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ
. فَأَقَمْت مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ فَوَاَللّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ
فَلَمّا حَضَرَ قُلْت لَهُ يَا فُلَانُ إنّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إلَى
فُلَانٍ ثُمّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلَيْك ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي ؟ وَبِمَ
تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ يَا بُنَيّ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُهُ بَقِيَ أَحَدٌ عَلَى
أَمْرِنَا آمُرُك أَنْ تَأْتِيَهُ إلّا رَجُلًا بِعَمّورِيَةَ مِنْ أَرْضِ الرّومِ
، فَإِنّهُ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ فَإِنْ أَحْبَبْت فَأْتِهِ فَإِنّهُ
عَلَى أَمْرِنَا . فَلَمّا مَاتَ وَغُيّبَ لَحِقْت بِصَاحِبِ عَمّورِيَةَ ،
فَأَخْبَرْته خَبَرِي ، فَقَالَ أَقِمْ عِنْدِي ، فَأَقَمْت عِنْدَ خَيْرِ رَجُلٍ
عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ . قَالَ وَاكْتَسَبْت حَتّى كَانَتْ لِي
بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ . قَالَ ثُمّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللّهِ فَلَمّا حَضَرَ
قُلْت لَهُ يَا فُلَانُ إنّي كُنْت مَعَ فُلَانٍ فَأَوْصَى بِي إلَى فُلَانٍ ثُمّ
أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلَى فُلَانٍ ثُمّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلَيْك ، فَإِلَى مَنْ
تُوصِي بِهِ ؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ أَيْ بُنَيّ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُهُ
أَصْبَحَ الْيَوْمَ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِ مَا كُنّا عَلَيْهِ مِنْ النّاسِ آمُرُك
بِهِ أَنْ تَأْتِيَهُ وَلَكِنّهُ قَدْ أَظَلّ زَمَانُ نَبِيّ وَهُوَ مَبْعُوثٌ
بِدِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُهَاجَرُهُ
إلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى
، يَأْكُلُ الْهَدِيّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصّدَقَةَ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ
النّبُوّةِ فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ فَافْعَلْ .
قَالَ ثُمّ مَاتَ وَغُيّبَ وَمَكَثْت بِعَمّورِيَةَ مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ
أَمْكُثَ ثُمّ مَرّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجّارٌ فَقُلْت لَهُمْ احْمِلُونِي
إلَى أَرْضِ الْعَرَبِ ، وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي [ ص 375 ]
قَالُوا : نَعَمْ . فَأعْطَيْتُهُموهَا ، وَحَمَلُونِي مَعَهُمْ حَتّى إذَا
بَلَغُوا وَادِيَ الْقُرَى ظَلَمُونِي ، فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ يَهُودِيّ
عَبْدًا ، فَكُنْت عِنْدَهُ وَرَأَيْت النّخْلَ فَرَجَوْت أَنْ يَكُونَ الْبَلَدَ
الّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي ، وَلَمْ يَحُقْ فِي نَفْسِي ، فَبَيْنَا أَنَا
عِنْدَهُ إذْ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمّ لَهُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ
الْمَدِينَةِ ، فَابْتَاعَنِي مِنْهُ فَاحْتَمَلَنِي إلَى الْمَدِينَةِ ،
فَوَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ رَأَيْتهَا ، فَعَرَفْتهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي ،
فَأَقَمْت بِهَا ، وَبُعِثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَأَقَامَ بِمَكّةَ مَا أَقَامَ لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرِ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ
مِنْ شُغْلِ الرّقّ ثُمّ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَوَاَللّهِ إنّي لَفِي
رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيّدِي أَعْمَلُ لَهُ فِي بَعْضِ الْعَمَلِ وَسَيّدِي جَالِسٌ
تَحْتِي ، إذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمّ لَهُ حَتّى وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا
فُلَانُ قَاتَلَ اللّهُ بَنِي قَيْلَةَ وَاَللّهِ إنّهُمْ الْآنَ لَمُجْتَمِعُونَ
بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكّةَ الْيَوْمَ يَزْعُمُونَ
أَنّهُ نَبِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَيْلَةُ بِنْتُ كَاهِلِ بْنِ عُذْرَةَ
بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سَوْدِ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ الْحَافّ
بْنِ قُضَاعَةَ ، أُمّ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ . قَالَ النّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ
الْأَنْصَارِيّ يَمْدَحُ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ :
بِهَا لَيْلُ مِنْ أَوْلَادِ قَيْلَةَ لَمْ يَجِدْ ... عَلَيْهِمْ خَلِيطٌ فِي
مُخَالَطَةٍ عَتْبَا
مَسَامِيحُ أَبْطَالٌ يُرَاحُونَ لِلنّدَى ... يَرَوْنَ عَلَيْهِمْ فِعْلَ
آبَائِهِمْ نَحْبَا
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي
عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ
لَبِيَدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ قَالَ سَلْمَانُ فَلَمّا
سَمِعْتهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْعُرَوَاءُ
الرّعْدَةُ مِنْ الْبَرْدِ وَالِانْتِفَاضُ فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ عَرَقٌ
فَهِيَ الرّحَضَاءُ وَكِلَاهُمَا مَمْدُودٌ - حَتّى ظَنَنْت أَنّي سَأَسْقُطُ
عَلَى سَيّدِي ، فَنَزَلْت عَنْ النّخْلَةِ فَجَعَلْت أَقُولُ لَابْن عَمّهِ
ذَلِكَ مَاذَا تَقُولُ ؟ مَاذَا تَقُولُ ؟ فَغَضِبَ سَيّدِي ، فَلَكَمَنِي
لَكْمَةً شَدِيدَةً ثُمّ قَالَ مَا لَك وَلِهَذَا ؟ أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِك ،
قَالَ قُلْت : لَا شَيْءَ إنّمَا أَرَدْت أَنْ أَسْتَثْبِتَهُ عَمّا قَالَ . قَالَ
وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْته ، فَلَمّا أَمْسَيْت أَخَذْته ، ثُمّ
ذَهَبْت بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ
بِقُبَاءَ فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقُلْت لَهُ إنّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنّك رَجُلٌ
صَالِحٌ [ ص 376 ] كَانَ عِنْدِي لِلصّدَقَةِ فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقّ بِهِ مِنْ
غَيْرِكُمْ قَالَ فَقَرّبْته إلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأَصْحَابِهِ كُلُوا ، وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ .
قَالَ فَقُلْت فِي نَفْسِي : هَذِهِ وَاحِدَةٌ . قَالَ ثُمّ انْصَرَفْت عَنْهُ
فَجَمَعْت شَيْئًا ، وَتَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- إلَى الْمَدِينَةِ ، ثُمّ جِئْته بِهِ فَقُلْت لَهُ إنّي قَدْ رَأَيْتُك لَا
تَأْكُلُ الصّدَقَةَ فَهَذِهِ هَدِيّةٌ أَكْرَمْتُك بِهَا . قَالَ فَأَكَلَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْهَا ، وَأَمَرَ
أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ . قَالَ فَقُلْت فِي نَفْسِي : هَاتَانِ ثِنْتَانِ
قَالَ ثُمّ جِئْت رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ
بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ قَدْ تَبِعَ جِنَازَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيّ
شَمْلَتَانِ لِي ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ فَسَلّمْت عَلَيْهِ ثُمّ
اسْتَدَرْت أَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهِ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الّذِي وَصَفَ لِي
صَاحِبِي ، فَلَمّا رَآنِي رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
اسْتَدْبَرْته ، عَرَفَ أَنّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي ، فَأَلْقَى
رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ فَنَظَرْت إلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْته ، فَأَكْبَبْت
عَلَيْهِ أُقَبّلُهُ وَأَبْكِي . فَقَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحَوّلْ فَتَحَوّلْت فَجَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَصَصْت
عَلَيْهِ حَدِيثِي ، كَمَا حَدّثْتُك يَا بْنَ عَبّاسٍ فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلّمَ - أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ
أَصْحَابُهُ . ثُمّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرّقّ حَتّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَدْرٌ وَأُحُدٌ . [ ص 377 ] قَالَ سَلْمَانُ
ثُمّ قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَاتِبْ يَا
سَلْمَانُ فَكَاتَبْت صَاحِبِي عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ
بِالْفَقِيرِ وَأَرْبَعِينَ أُوقِيّةً . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأَصْحَابِهِ أَعِينُوا أَخَاكُمْ فَأَعَانُونِي بِالنّخْلِ
الرّجُلُ بِثَلَاثِينَ وَدِيّةٍ وَالرّجُلُ بِعِشْرِينَ وَدِيّةً وَالرّجُلُ
بِخَمْسَ عَشْرَةَ وَدِيّةً وَالرّجُلُ بِعَشْرِ يُعِينُ الرّجُلُ بِقَدْرِ مَا
عِنْدَهُ حَتّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُمِائَةِ وَدِيّةٍ فَقَالَ لِي رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقّرْ لَهَا
، فَإِذَا فَرَغْت فَأْتِنِي ، أَكُنْ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدِي . قَالَ فَفَقّرْت
، وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي ، حَتّى إذَا فَرَغْت جِئْته ، فَأَخْبَرْته ، فَخَرَجَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَعِي إلَيْهَا ، فَجَعَلْنَا
نُقَرّبُ إلَيْهِ الْوَدِيّ وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - بِيَدِهِ حَتّى فَرَغْنَا . فَوَاَلّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ مَا
مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيّةٌ وَاحِدَةٌ . قَالَ فَأَدّيْت النّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيّ
الْمَالُ . فَأُتِيَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمِثْلِ
بَيْضَةِ الدّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَعَادِنِ فَقَالَ مَا فَعَلَ
الْفَارِسِيّ الْمُكَاتِبُ ؟ قَالَ فَدُعِيت لَهُ فَقَالَ خُذْ هَذِهِ فَأَدّهَا
مِمّا عَلَيْك يَا سَلْمَانُ . قَالَ قُلْت : وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللّهِ
مِمّا عَلَيّ ؟ فَقَالَ خُذْهَا ، فَإِنّ اللّهَ سَيُؤَدّي بِهَا عَنْك . قَالَ
فَأَخَذْتهَا ، فَوَزَنْت لَهُمْ مِنْهَا - وَاَلّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ -
أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً فَأَوْفَيْتهمْ حَقّهُمْ مِنْهَا ، وَعَتَقَ سَلْمَانُ .
فَشَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ -
الْخَنْدَقَ حُرّا ، ثُمّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ
: وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ
عَنْ سَلْمَانَ أَنّهُ قَالَ لَمّا قُلْت : وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ مِنْ الّذِي
عَلَيّ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ أَخَذَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَقَلّبَهَا عَلَى لِسَانِهِ ثُمّ قَالَ خُذْهَا فَأَوْفِهِمْ مِنْهَا .
فَأَخَذْتهَا ، فَأَوْفَيْتهمْ مِنْهَا حَقّهُمْ كُلّهُ أَرْبَعِينَ أُوقِيّةًS[ ص 372 ]
حَدِيثُ سَلْمَانَ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ حَدِيثَ سَلْمَانَ بِطُولِهِ وَقَالَ كُنْت مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ
هَكَذَا قَيّدَهُ الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ الْمُعْجَمِ بِالْكَسْرِ فِي
الْهَمْزَةِ وَإِصْبَهُ بِالْعَرَبِيّةِ فَرَسٌ وَقِيلَ هُوَ الْعَسْكَرُ
فَمَعْنَى الْكَلِمَةِ مَوْضِعُ الْعَسْكَرِ أَوْ الْخَيْلِ أَوْ نَحْوَ هَذَا .
وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ عَلَى طُولِهِ إشْكَالٌ وَوَقَعَ فِي الْأَصْلِ
فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمّا رَآنِي رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - اسْتَدْبَرْته ، وَرَأَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ أَسْتَدِيرُ بِهِ
وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِيهِ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ وَفِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ
الْوَجْهُ التّفْقِيرُ . [ ص 373 ]
أَسْمَاءُ النّخْلَةِ
وَالْفَقِيرُ لِلنّخْلَةِ . يُقَالُ لَهَا فِي الْكَرْمَةِ حَيِيّةُ وَجَمْعُهَا :
حَيَايَا ، وَهِيَ الْحَفِيرَةُ وَإِذَا خَرَجَتْ النّخْلَةُ مِنْ النّوَاةِ
فَهِيَ عَرِيسَةٌ ثُمّ يُقَالُ لَهَا : وَدِيّةٌ ثُمّ فَسِيلَةٌ ثُمّ أَشَاءَةٌ
فَإِذَا فَاتَتْ الْيَدَ فَهِيَ جَبّارَةٌ وَهِيَ الْعَضِيدُ وَالْكَتِيلَةُ
وَيُقَالُ لِلّتِي لَمْ تَخْرُجْ مِنْ النّوَاةِ لَكِنّهَا اُجْتُثّتْ مِنْ جَنْبِ
أُمّهَا : قَلْعَةٌ وَجَثِيثَةٌ وَهِيَ الْجَثَائِثُ وَالْهِرَاءُ وَيُقَالُ
لِلنّخْلَةِ الطّوِيلَةِ عَوَانَةٌ بِلُغَةِ عَمّان ، وَعَيْدَانَةٌ بِلُغَةِ
غَيْرِهِمْ وَهِيَ فَيْعَالَةٌ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ وَاخْتَلَفَ فِيهَا
قَوْلُ صَاحِبِ كِتَابِ الْعَيْنِ فَجَعَلَهَا تَارَةً فَيْعَالَةً مِنْ عَدَنَ ،
ثُمّ جَعَلَهَا فِي بَابِ الْمُعْتَلّ الْعَيْنِ فَعْلَانَةً . [ ص 374 ] أَنَسٍ
أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ إنْ قَامَتْ
السّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَغْرِسَهَا قَبْلَ
أَنْ تَقُومَ السّاعَةُ فَلْيَغْرِسْهَا مِنْ مُصَنّفِ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ .
وَاَلّذِينَ صَحِبُوا سَلْمَانَ مِنْ النّصَارَى كَانُوا عَلَى الْحَقّ عَلَى
دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وَكَانُوا ثَلَاثِينَ يُدَاوِلُونَهُ سَيّدًا
بَعْدَ سَيّدٍ . [ ص 375 ]
مِنْ فِقْهِ حَدِيثِ سَلْمَانَ
وَذَكَرَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ أَنّهُ جَمَعَ شَيْئًا ، فَجَاءَ بِهِ النّبِيّ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِيَخْتَبِرَهُ أَيَأْكُلُ الصّدَقَةَ أَمْ لَا
، فَلَمْ يَسْأَلْهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَحُرّ
أَنْتَ أَمْ عَبْدٌ وَلَا : مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا ، فَفِي هَذَا مِنْ الْفِقْهِ
قَبُولُ الْهَدِيّةِ وَتَرْكُ سُؤَالِ الْمُهْدِي ، وَكَذَلِكَ الصّدَقَةُ . [ ص
376 ]
حُكْمُ الصّدَقَةِ لِلنّبِيّ وَمَصْدَرُ مَالِ سَلْمَانَ
وَفِي الْحَدِيثِ مَنْ قُدّمَ إلَيْهِ طَعَامٌ فَلْيَأْكُلْ وَلَا يَسْأَلْ
وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ حَدِيثَ سَلْمَانَ حُجّةً عَلَى
مَنْ قَالَ إنّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ وَقَالَ لَوْ كَانَ لَا يَمْلِكُ مَا
قَبِلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - صَدَقَتَهُ وَلَا قَالَ
لِأَصْحَابِهِ كُلُوا صَدَقَتَهُ ذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ فِي حَدِيثِ
سَلْمَانَ الْوَجْهَ الّذِي جَمَعَ مِنْهُ سَلْمَانُ مَا أَهْدَى لِلنّبِيّ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ قَالَ سَلْمَانُ كُنْت عَبْدًا
لِامْرَأَةِ فَسَأَلْت سَيّدَتِي أَنْ تَهَبَ لِي يَوْمًا ، فَعَمِلْت فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ عَلَى صَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ وَجِئْت بِهِ النّبِيّ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَمّا رَأَيْته لَا يَأْكُلُ الصّدَقَةَ سَأَلْت
سَيّدَتِي أَنْ تَهَبَ لِي يَوْمًا آخَرَ فَعَمِلْت فِيهِ عَلَى ذَلِكَ ثُمّ جِئْت
بِهِ هَدِيّةً لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَبِلَهُ وَأَكَلَ
مِنْهُ فَبَيّنَ فِي هَذِهِ الرّوَايَةِ الْوَجْهَ الّذِي جَمَعَ مِنْهُ سَلْمَانُ
مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَالصّدَقَةُ الّتِي قَالَ النّبِيّ
عَلَيْهِ السّلَامُ لَا تَحِلّ لِمُحَمّدِ وَلَا لِآلِ مُحَمّدٍ هِيَ
الْمَفْرُوضَةُ دُونَ التّطَوّعِ قَالَهُ الشّافِعِيّ ، غَيْرَ أَنّ رَسُولَ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَمْ يَكُنْ تَحِلّ لَهُ صَدَقَةُ
الْفَرْضِ وَلَا التّطَوّعِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ . وَقَالَ الثّوْرِيّ :
لَا تَحِلّ الصّدَقَةُ لِآلِ مُحَمّدٍ فَرْضُهَا وَلَا نَفْلُهَا وَلَا
لِمَوَالِيهِمْ لِأَنّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ جَاءَ
الْحَدِيثُ . وَقَالَ مَالِكٌ تَحِلّ لِمَوَالِيهِمْ وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
أَبُو يُوسُفَ : لَا تَحِلّ لِآلِ مُحَمّدٍ صَدَقَةُ غَيْرِهِمْ وَتَحِلّ لَهُمْ
صَدَقَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو عَبْدِ
الْمُطّلِبِ . [ ص 377 ]
أَوّلُ مَنْ مَاتَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ
وَقَوْلُ سَلْمَانَ فَأَتَيْت رَسُولَ اللّهِ وَهُوَ فِي جِنَازَةِ بَعْضِ
أَصْحَابِهِ . صَاحِبُهُ الّذِي مَاتَ فِي تِلْكَ الْأَيّامِ كُلْثُومُ بْنُ
الْهِدْمِ الّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
قَالَ الطّبَرِيّ : أَوّلُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ بِأَيّامِ قَلِيلَةٍ كُلْثُومُ
بْنُ الْهِدْمِ ، ثُمّ مَاتَ بَعْدَهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ . فَصْلٌ وَذَكَرَ
ابْنُ إسْحَاقَ فِي مُكَاتَبَةِ سَلْمَانَ أَنّهُ فَقّرَ لِثَلَاثِمِائَةِ
وَدِيّةٍ أَيْ حَفَرَ وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
وَضَعَهَا كُلّهَا بِيَدِهِ فَلَمْ تَمُتْ مِنْهَا وَدِيّةٌ وَاحِدَةٌ وَذَكَرَ
الْبُخَارِيّ حَدِيثَ سَلْمَانَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ غَيْرَ أَنّهُ
ذَكَرَ أَنّ سَلْمَانَ غَرَسَ بِيَدِهِ وَدِيّةً وَاحِدَةً وَغَرَسَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَائِرَهَا ، فَعَاشَتْ كُلّهَا إلّا
الّتِي غَرَسَ سَلْمَانُ . هَذَا مَعْنَى حَدِيثِ الْبُخَارِيّ .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 378 ] عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، قَالَ حَدّثَنِي
مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ ، قَالَ
حُدّثْت عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيّ : أَنّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ أَخْبَرَهُ خَبَرَهُ إنّ صَاحِبَ عَمّورِيَةَ
قَالَ لَهُ ائْتِ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، فَإِنّ بِهَا رَجُلًا
بَيْنَ غَيْضَتَيْنِ يَخْرُجُ فِي كُلّ سَنَةٍ مِنْ هَذِهِ الْغَيْضَةِ إلَى
هَذِهِ الْغَيْضَةِ مُسْتَجِيزًا ، يَعْتَرِضُهُ ذَوُو الْأَسْقَامِ فَلَا يَدْعُو
لِأَحَدِ مِنْهُمْ إلّا شُفِيَ فَاسْأَلْهُ عَنْ هَذَا الدّينِ الّذِي تَبْتَغِي ،
فَهُوَ يُخْبِرُك عَنْهُ قَالَ سَلْمَانُ فَخَرَجْت حَتّى أَتَيْت حَيْثُ وَصَفَ
لِي ، فَوَجَدْت النّاسَ قَدْ اجْتَمَعُوا بِمَرْضَاهُمْ هُنَالِكَ حَتّى خَرَجَ
لَهُمْ تِلْكَ اللّيْلَةَ مُسْتَجِيزًا مِنْ إحْدَى الْغَيْضَتَيْنِ إلَى
الْأُخْرَى ، فَغَشِيَهُ النّاسُ بِمَرْضَاهُمْ لَا يَدْعُو لِمَرِيضِ إلّا شُفِيَ
وَغَلَبُونِي عَلَيْهِ فَلَمْ أَخْلُصْ إلَيْهِ حَتّى دَخَلَ الْغَيْضَةَ الّتِي
يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ إلّا مَنْكِبَهُ . قَالَ فَتَنَاوَلْته : فَقَالَ مَنْ
هَذَا ؟ وَالْتَفَتَ إلَيّ فَقُلْت : يَرْحَمُك اللّهُ ، أَخْبِرْنِي عَنْ
الْحَنِيفِيّةِ دِينِ إبْرَاهِيمَ . قَالَ إنّك لَتَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ مَا
يَسْأَلُ عَنْهُ النّاسُ الْيَوْمَ قَدْ أَظَلّك زَمَانُ نَبِيّ يُبْعَثُ بِهَذَا
الدّينِ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ ، فَأْتِهِ فَهُوَ يَحْمِلُك عَلَيْهِ . قَالَ ثُمّ
دَخَلَ . قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
لِسَلْمَانَ لَئِنْ كُنْت صَدَقْتنِي يَا سَلْمَانُ ، لَقَدْ لَقِيت عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ عَلَى نَبِيّنَا وَعَلَيْهِ السّلَامُSأُسْطُورَةُ
نُزُولِ عِيسَى قَبْلَ بَعْثَةِ النّبِيّ
[ ص 378 ] دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ قَالَ سَلْمَانُ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَذَكَرَ خَبَرَ الرّجُلِ الّذِي كَانَ يَخْرُجُ مُسْتَجِيزًا
مِنْ غَيْضَةٍ إلَى غَيْضَةٍ وَيَلْقَاهُ النّاسُ بِمَرْضَاهُمْ فَلَا يَدْعُو
لِمَرِيضِ إلّا شُفِيَ وَأَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ
إنْ كُنْت صَدَقْتنِي يَا سَلْمَانُ فَقَدْ رَأَيْت عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ .
إسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ مَقْطُوعٌ وَفِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ وَيُقَالُ إنّ
ذَلِكَ الرّجُلَ هُوَ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِإِجْمَاعِ
مِنْهُمْ فَإِنْ صَحّ الْحَدِيثُ فَلَا نَكَارَةَ فِي مَتْنِهِ فَقَدْ ذَكَرَ
الطّبَرِيّ أَنّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السّلَامُ نَزَلَ بَعْدَمَا رُفِعَ وَأُمّهُ
وَامْرَأَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْجِذْعِ الّذِي فِيهِ الصّلِيبُ يَتّكِئَانِ
فَكَلّمَهُمَا ، وَأَخْبَرَهُمَا أَنّهُ لَمْ يُقْتَلْ وَأَنّ اللّهَ رَفَعَهُ
وَأَرْسَلَ إلَى الْحَوَارِيّينَ وَوَجّهَهُمْ إلَى الْبِلَادِ وَإِذَا جَازَ أَنْ
يَنْزِلَ مَرّةً جَازَ أَنْ يَنْزِلَ مِرَارًا ، وَلَكِنْ لَا يُعْلَمُ أَنّهُ
هُوَ حَتّى يَنْزِلَ النّزُولَ الظّاهِرَ فَيَكْسِرُ الصّلِيبَ وَيَقْتُلُ
الْخِنْزِيرَ [ ص 379 ] أَعْلَمُ وَيُرْوَى أَنّهُ إذَا نَزَلَ تَزَوّجَ امْرَأَةً
مِنْ جُذَامٍ ، وَيُدْفَنُ إذَا مَاتَ فِي الرّوْضَةِ الّتِي فِيهَا النّبِيّ
عَلَيْهِ السّلَامُ .
ذِكْرُ
وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ الْعُزّى
وَعُبَيْدَ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ وَعُثْمَانَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ
وَزَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 379 ] عِنْدَ صَنَمٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ كَانُوا
يُعَظّمُونَهُ وَيَنْحَرُونَ لَهُ وَيَعْكُفُونَ عِنْدَهُ وَيُدِيرُونَ بِهِ
وَكَانَ ذَلِكَ عِيدًا لَهُمْ فِي كُلّ سَنَةٍ يَوْمًا ، فَخَلَصَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ
نَفَرٍ نَجِيّا ، ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ تَصَادَقُوا ، وَلْيَكْتُمْ
بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ قَالُوا : أَجَلْ وَهُمْ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ
أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ
بْنِ لُؤَيّ ، وَعُبَيْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ
صَبْرَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَبِيرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانِ بْنِ أَسَدِ بْنِ
خُزَيْمَةَ ، وَكَانَتْ أُمّهُ أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ .
وَعُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ ،
وَزَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ قُرْطِ بْنِ رِيَاحِ بْنِ رِزَاحِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ،
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ تَعْلَمُوا وَاَللّهِ مَا قَوْمُكُمْ عَلَى شَيْءٍ لَقَدْ
أَخْطَئُوا دِينَ أَبِيهِمْ إبْرَاهِيمَ مَا حَجَرٌ نُطِيفُ بِهِ لَا يَسْمَعُ
وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَضُرّ وَلَا يَنْفَعُ ؟ يَا قَوْمُ الْتَمِسُوا
لِأَنْفُسِكُمْ فَإِنّكُمْ وَاَللّهِ مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ فَتَفَرّقُوا فِي
الْبُلْدَانِ يَلْتَمِسُونَ الْحَنِيفِيّةَ دِينَ إبْرَاهِيمَ . [ ص 380 ]
وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فَاسْتَحْكَمَ فِي النّصْرَانِيّةِ ، وَاتّبَعَ الْكُتُبَ
مِنْ أَهْلِهَا ، حَتّى عَلِمَ عِلْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَمّا عُبَيْدُ
اللّهِ بْنُ جَحْشٍ ، فَأَقَامَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الِالْتِبَاسِ حَتّى
أَسْلَمَ ، ثُمّ هَاجَرَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْحَبَشَةِ ، وَمَعَهُ
امْرَأَتُهُ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ مُسْلِمَةٌ فَلَمّا قَدِمَهَا
تَنَصّرَ وَفَارَقَ الْإِسْلَامَ حَتّى هَلَكَ هُنَالِكَ نَصْرَانِيّا . [ ص 381 ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ؛
قَالَ كَانَ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ - حِينَ تَنَصّرَ - يَمُرّ بِأَصْحَابِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ هُنَالِكَ مِنْ أَرْضِ
الْحَبَشَةِ ، فَيَقُولُ فَقّحْنَا وَصَأْصَأْتُمْ أَيْ أَبْصَرْنَا وَأَنْتُمْ
تَلْتَمِسُونَ الْبَصَرَ وَلَمْ تُبْصِرُوا بَعْدُ وَذَلِكَ أَنّ وَلَدَ الْكَلْبِ
إذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ عَيْنَيْهِ لِيَنْظُرَ صَأْصَأَ لِيَنْظُرَ .
وَقَوْلُهُ فَقّحَ فَتَحَ عَيْنَيْهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَخَلّفَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَهُ عَلَى امْرَأَتِهِ أُمّ حَبِيبَةَ
بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي
مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بَعَثَ فِيهَا إلَى النّجَاشِيّ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ . فَخَطَبَهَا
عَلَيْهِ النّجَاشِيّ ؛ فَزَوّجَهُ إيّاهَا ، وَأَصْدَقَهَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ
عَلِيّ : مَا نَرَى عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ وَقَفَ صَدَاقَ النّسَاءِ
عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ إلّا عَنْ ذَلِكَ . وَكَانَ الّذِي أَمْلَكَهَا
لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا عُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ ، فَقَدِمَ عَلَى
قَيْصَرٍ مَلِكِ الرّومِ فَتَنَصّرَ وَحَسُنَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَلِعُثْمَانِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عِنْدَ قَيْصَرٍ حَدِيثٌ
مَنَعَنِي مِنْ ذِكْرِهِ مَا ذَكَرْت فِي حَدِيثِ حَرْبِ الْفِجَارِ .Sذِكْرُ
حَدِيثِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، وَعُبَيْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ
، وَعُثْمَانَ بْنِ الْحُوَيْرِثِ ، وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَمَا
تَنَاجَوْا بِهِ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ إلَى آخِرِ النّسَبِ
وَالْمَعْرُوفُ فِي نَسَبِهِ وَنَسَبِ ابْنِ عَمّهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ :
نُفَيْلُ بْنُ رِيَاحِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِزَاحٍ بِتَقْدِيمِ
رِيَاحِ عَلَى عَبْدِ اللّهِ وَرِزَاحٌ بِكَسْرِ الرّاءِ قَيّدَهُ الشّيْخُ أَبُو
بَحْرٍ وَزَعَمَ الدّارَقُطْنِيّ أَنّهُ رَزَاحٌ بِالْفَتْحِ وَإِنّمَا رِزَاحٍ
بِالْكَسْرِ رِزَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُو قُصَيّ لِأُمّهِ الّذِي تَقَدّمَ
ذِكْرُهُ .
الزّوَاجُ مِنْ امْرَأَةِ الْأَبِ فِي الْجَاهِلِيّةِ
وَأُمّ زَيْدٍ هِيَ الْحَيْدَاءُ بِنْتُ خَالِدٍ الْفَهْمِيّةُ وَهِيَ امْرَأَةُ
جَدّهِ نُفَيْلٍ وَلَدَتْ لَهُ الْخَطّابَ فَهُوَ [ ص 380 ] أَخُو الْخَطّابِ
لِأُمّهِ وَابْنُ أَخِيهِ وَكَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا فِي الْجَاهِلِيّةِ بِشِرْعِ
مُتَقَدّمٍ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ الْحُرُمَاتِ الّتِي انْتَهَكُوهَا ، وَلَا مِنْ الْعَظَائِمِ
الّتِي ابْتَدَعُوهَا ، لِأَنّهُ أَمْرٌ كَانَ فِي عَمُودِ نَسَبِ رَسُولِ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَكِنَانَةُ تَزَوّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ
خُزَيْمَةَ ، وَهِيَ بَرّةُ بِنْتُ مُرّ فَوَلَدَتْ لَهُ النّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ
، وَهَاشِمٌ أَيْضًا قَدْ تَزَوّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ وَافِدَةً فَوَلَدَتْ لَهُ
ضَعِيفَةَ وَلَكِنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ عَمُودِ نَسَبِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأَنّهَا لَمْ تَلِدْ جَدّا لَهُ أَعْنِي : وَاقِدَةَ
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنَا مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ وَلِذَلِكَ
قَالَ سُبْحَانَهُ { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النّسَاءِ إِلّا
مَا قَدْ سَلَفَ } [ النّسَاءُ 22 ] . أَيْ إلّا مَا سَلَفَ مِنْ تَحْلِيلِ ذَلِكَ
قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَفَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَلّا يُعَابَ نَسَبُ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلِيُعْلَمَ أَنّهُ لَمْ
يَكُنْ فِي أَجْدَادِهِ مَنْ كَانَ لِغَيّةِ وَلَا مِنْ سِفَاحٍ . أَلَا تَرَى
أَنّهُ لَمْ يَقُلْ فِي شَيْءٍ نَهَى عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ { إِلّا مَا قَدْ
سَلَفَ } نَحْوَ قَوْلِهِ { وَلَا تَقْرَبُوا الزّنَا } وَلَمْ يَقُلْ إلّا مَا
قَدْ سَلَفَ : { وَلَا تَقْتُلُوا النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ } [ الْإِسْرَاءُ
30ْ ] وَلَمْ يَقُلْ إلّا مَا قَدْ سَلَفَ ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي
الّتِي نَهَى عَنْهَا إلّا فِي هَذِهِ وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ
لِأَنّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ قَدْ كَانَ مُبَاحًا أَيْضًا فِي شَرْعِ
مَنْ قَبْلَنَا ، وَقَدْ جَمَعَ يَعْقُوبُ بَيْنَ رَاحِيلَ وَأُخْتِهَا لِيَا
فَقَوْلُهُ { إِلّا مَا قَدْ سَلَفَ } الْتِفَاتَةٌ إلَى هَذَا الْمَعْنَى ،
وَتَنْبِيهٌ عَلَى هَذَا الْمَغْزَى ، وَهَذِهِ النّكْتَةُ لُقّنْتهَا مِنْ
شَيْخِنَا الْإِمَامِ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمّدِ بْنِ الْعَرَبِيّ -
رَحِمَهُ اللّهُ - وَزَيْدٌ هَذَا هُوَ وَالِدُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَحَدِ
الْعَشْرَةِ الّذِينَ شُهِدَ لَهُمْ بِالْجَنّةِ وَأُمّ سَعِيدٍ فَاطِمَةُ بِنْتُ
نَعْجَةَ بْنِ خَلَفٍ الْخُزَاعِيّ [ عِنْدَ الزّبَيْرِ بَعْجَةُ بْنُ أُمَيّةَ
بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ اليمعر بْنِ خُزَاعَةَ ] .
تَفْسِيرُ بَعْضِ قَوْلِ ابْنِ جَحْشٍ
وَذَكَرَ قَوْلَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ حِينَ تَنَصّرَ بِالْحَبَشَةِ
فَقّحْنَا وَصَأْصَأْتُمْ وَشَرَحَ فَقّحْنَا بِقَوْلِهِ فَقّحَ الْجُرْوُ إذَا
فَتَحَ عَيْنَيْهِ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَزَادَ جَصّصَ أَيْضًا ،
وَذَكَرَ [ ص 381 ] عُبَيْدٍ : بَصّصَ بِالْبَاءِ حَكَاهَا عَنْ أَبِي زَيْدٍ
وَقَالَ الْقَالِيّ إنّمَا رَوَاهُ الْبَصْرِيّونَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ بِيَاءِ
مَنْقُوطَةٍ بِاثْنَتَيْنِ لِأَنّ الْيَاءَ تُبْدَلُ مِنْ الْجِيمِ كَثِيرًا كَمَا
تَقُولُ أَيَلٌ وَأَجَلٌ وَلِرِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ وَجْهٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ
بَصّصَ مِنْ الْبَصِيصِ وَهُوَ الْبَرِيقُ .
بَعْضُ الّذِينَ تَنَصّرُوا
فَصْلٌ وَذَكَرَ عُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ مَعَ زَيْدٍ وَوَرَقَةَ وَعُبَيْدَ
اللّهِ بْنَ جَحْشٍ ، ثُمّ قَالَ وَأَمّا عُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فَإِنّهُ
ذَهَبَ إلَى الشّامِ ، وَلَهُ فِيهَا مَعَ قَيْصَرٍ خَبَرٌ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ
الْخَبَرَ ، وَذَكَرَ الْبَرْقِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ
الْحُوَيْرِثِ قَدِمَ عَلَى قَيْصَرٍ فَقَالَ لَهُ إنّي أَجْعَلُ لَك خَرْجًا
عَلَى قُرَيْشٍ إنْ جَاءُوا الشّامَ لِتِجَارَتِهِمْ وَإِلّا مَنَعْتهمْ فَأَرَادَ
قَيْصَرٌ أَنْ يَفْعَلَ فَخَرَجَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِي بْنِ أُمَيّةَ وَأَبُو
ذِئْبٍ وَهُوَ هِشَامُ بْنُ شُعْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ
عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ إلَى الشّامِ ، فَأُخِذَا
فَحُبِسَا ، فَمَاتَ أَبُو ذِئْبٍ فِي الْحَبْسِ وَأَمّا سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِي ،
فَإِنّهُ خَرَجَ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَةَ ، وَهُوَ أُمَيّةُ فَتَخَلّصُوهُ فِي
حَدِيثٍ طَوِيلٍ رَوَاهُ ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ وَأَبُو ذِئْبٍ الّذِي ذُكِرَ هُوَ جَدّ الْفَقِيهِ
مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي
ذِئْبٍ يُكَنّى : أَبَا الْحَارِثِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ ، وَأُمّهُ
بُرَيْهَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَأَمّا الزّبَيْرُ
فَذَكَرَ أَنّ [ ص 382 ] كَانَ قَدْ تَوّجَ عُثْمَانَ وَوَلّاهُ أَمْرَ مَكّةَ ،
فَلَمّا جَاءَهُمْ بِذَلِكَ أَنِفُوا مِنْ أَنْ يَدِينُوا لِمَلِكِ وَصَاحَ
الْأَسْوَدُ بْنُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى : أَلَا إنّ مَكّةَ حَيّ لَقَاحٌ
لَا تَدِينُ لِمَلِكِ فَلَمْ يَتِمّ لَهُ مُرَادُهُ قَالَ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ
الْبِطْرِيقُ وَلَا عَقِبَ لَهُ وَمَاتَ بِالشّامِ مَسْمُومًا ، سَمّهُ عَمْرُو
بْنُ جَفْنَةَ الْغَسّانِيّ الْمَلِكُ .
[
ص 382 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ
فَوَقَفَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي يَهُودِيّةٍ وَلَا نَصْرَانِيّةٍ وَفَارَقَ دِينَ
قَوْمِهِ فَاعْتَزَلَ الْأَوْثَانَ وَالْمَيْتَةَ وَالدّمَ وَالذّبَائِحَ الّتِي
تُذْبَحُ عَلَى الْأَوْثَانِ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ الْمَوْءُودَةِ وَقَالَ أَعْبُدُ
رَبّ إبْرَاهِيمَ وَبَادَى قَوْمَهُ بِعَيْبِ مَا هُمْ عَلَيْهِ . [ ص 383 ] [ ص
384 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ أُمّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ
لَقَدْ رَأَيْت زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ شَيْخًا كَبِيرًا مُسْنِدًا
ظَهْرَهُ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَهُوَ يَقُولُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَاَلّذِي
نَفْسُ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو بِيَدِهِ مَا أَصْبَحَ مِنْكُمْ أَحَدٌ عَلَى دِينِ
إبْرَاهِيمَ غَيْرِي ، ثُمّ يَقُولُ اللّهُمّ لَوْ أَنّي أَعْلَمُ أَيّ الْوُجُوهِ
أَحَبّ إلَيْك عَبَدْتُك بِهِ وَلَكِنّي لَا أَعْلَمُهُ ثُمّ يَسْجُدُ عَلَى
رَاحَتِهِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحُدّثْت أَنّ ابْنَهُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، وَهُوَ ابْنُ عَمّهِ
قَالَا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنَسْتَغْفِرُ لِزَيْدِ
بْنِ عَمْرٍو ؟ قَالَ نَعَمْ فَإِنّهُ يُبْعَثُ أُمّةً وَحْدَهُSاعْتِزَالُ
زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْأَوْثَانَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ اعْتِزَالَ زَيْدٍ الْأَوْثَانَ وَتَرْكَهُ طَوَاغِيتَهُمْ
وَتَرْكَهُ أَكْلَ مَا نُحِرَ [ عَلَى الْأَوْثَانِ ] وَالنّصُبِ . رَوَى
الْبُخَارِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَ أَخْبَرَنَا فُضَيْلُ بْنُ
سُلَيْمَانَ قَالَ أَخْبَرَنَا مُوسَى ، قَالَ حَدّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ
اللّهِ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلَ بَلْدَحَ قَبْلَ
أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النّبِيّ - عَلَيْهِ السّلَامُ - الْوَحْيُ فَقُدّمَتْ إلَى
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سُفْرَةٌ أَوْ قَدّمَهَا إلَيْهِ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ، ثُمّ
قَالَ زَيْدٌ إنّي لَسْت آكُلُ مَا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلَا آكُلُ
إلّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَأَنّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ
كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ وَيَقُولُ الشّاةُ خَلَقَهَا اللّهُ
وَأَنْزَلَ لَهَا مِنْ السّمَاءِ الْمَاءَ وَأَنْبَتَ لَهَا مِنْ الْأَرْضِ
الْكَلَأَ ثُمّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللّهِ ؟ إنْكَارًا لِذَلِك ،
وَإِعْظَامًا لَهُ قَالَ مُوسَى بْنُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ : وَلَا أَعْلَمُ
إلّا مَا تَحَدّثَ بِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ
خَرَجَ إلَى الشّامِ يَسْأَلُ عَنْ الدّينِ وَيَتّبِعُهُ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ
الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ وَقَالَ لَهُ إنّي لَعَلّي أَنْ أَدِينَ
بِدِينِكُمْ فَأَخْبِرُونِي ، فَقَالَ لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا ، حَتّى
تَأْخُذَ بِنَصِيبِك مِنْ غَضَبِ اللّهِ قَالَ زَيْدٌ مَا أَفِرّ إلّا مِنْ غَضَبِ
اللّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللّهِ شَيْئًا أَبَدًا ، وَأَنّى أَسْتَطِيعُهُ
فَهَلْ تَدُلّنِي عَلَى غَيْرِهِ ؟ قَالَ مَا أَعْلَمُهُ إلّا أَنْ يَكُونَ
حَنِيفًا ، قَالَ وَمَا الْحَنِيفُ ؟ قَالَ دِينُ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ
يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا ، وَلَا يَعْبُدُ إلّا اللّهَ فَخَرَجَ زَيْدٌ
فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النّصَارَى ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَقَالَ لَنْ تَكُونَ
عَلَى دِينِنَا ، حَتّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِك مِنْ لَعْنَةِ اللّهِ قَالَ مَا
أَفِرّ إلّا مِنْ لَعْنَةِ اللّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللّهِ وَلَا مِنْ
غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا ، وَأَنّى أَسْتَطِيعُ فَهَلْ تَدُلّنِي عَلَى غَيْرِهِ
؟ قَالَ مَا أَعْلَمُهُ إلّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا ، قَالَ وَمَا الْحَنِيفُ ؟ [
ص 383 ] قَالَ دِينُ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا ،
وَلَا يَعْبُدُ إلّا اللّهَ فَلَمّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إبْرَاهِيمَ
خَرَجَ فَلَمّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ اللّهُمّ إنّي أُشْهِدُك أَنّي
عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ . وَقَالَ اللّيْثُ كَتَبَ إلَيّ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ - رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ - قَالَتْ رَأَيْت زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا
ظَهْرَهُ إلَى الْكَعْبَةِ ، يَقُولُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَاَللّهِ مَا
مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ غَيْرِي ، وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ
يَقُولُ لِلرّجُلِ إذَا أَرَادَ أَنّ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ لَا تَقْتُلْهَا ،
أَكَفّيْك مُؤْنَتَهَا ، فَيَأْخُذُهَا ، فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا :
إنْ شِئْت دَفَعْتهَا إلَيْك ، وَإِنْ شِئْت كَفَيْتُك مُؤْنَتَهَا إلَى هَاهُنَا
انْتَهَى حَدِيثُ الْبُخَارِيّ . وَفِيهِ سُؤَالٌ يُقَالُ كَيْفَ وَفّقَ اللّهُ زَيْدًا
إلَى تَرْكِ أَكْلِ مَا ذُبِحَ عَلَى النّصُبِ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللّهِ
عَلَيْهِ وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ أَوْلَى
بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ فِي الْجَاهِلِيّةِ لِمَا ثَبّتَ اللّهُ ؟ فَالْجَوَابُ
مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حِينَ لَقِيَهُ
بِبَلْدَحَ فَقُدّمَتْ إلَيْهِ السّفْرَةُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَكَلَ مِنْهَا ، وَإِنّمَا فِي الْحَدِيثِ أَنّ زَيْدًا
قَالَ حِينَ قُدّمَتْ السّفْرَةُ لَا آكُلُ مِمّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللّهِ
عَلَيْهِ الْجَوَابُ الثّانِي : أَنّ زَيْدًا إنّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِرَأْيِ رَآهُ
لَا بِشِرْعِ مُتَقَدّمٍ وَإِنّمَا تَقَدّمَ شَرْعُ إبْرَاهِيمَ بِتَحْرِيمِ
الْمَيْتَةِ لَا بِتَحْرِيمِ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللّهِ وَإِنّمَا نَزَلَ تَحْرِيمُ
ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ وَبَعْضُ الْأُصُولِيّينَ يَقُولُونَ الْأَشْيَاءُ قَبْلَ
وُرُودِ الشّرْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَإِنْ قُلْنَا بِهَذَا ، وَقُلْنَا إنّ
رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ يَأْكُلُ مِمّا ذُبِحَ
عَلَى النّصُبِ فَإِنّمَا فَعَلَ أَمْرًا مُبَاحًا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَأْكُلُ
مِنْهَا فَلَا إشْكَالَ وَإِنْ قُلْنَا أَيْضًا : إنّهَا لَيْسَتْ عَلَى
الْإِبَاحَةِ وَلَا عَلَى التّحْرِيمِ وَهُوَ الصّحِيحُ فَالذّبَائِحُ خَاصّةٌ
لَهَا أَصْلٌ فِي تَحْلِيلِ الشّرْعِ الْمُتَقَدّمِ كَالشّاةِ وَالْبَعِيرِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمّا أَحَلّهُ اللّهُ تَعَالَى فِي دِينِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا ،
وَلَمْ يَقْدَحْ فِي ذَلِكَ التّحْلِيلِ الْمُتَقَدّمِ مَا ابْتَدَعُوهُ حَتّى
جَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَنْزَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَلَا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ
اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ } [ الْأَنْعَامُ 121 ] . أَلَا تَرَى كَيْفَ بَقِيَتْ
ذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ عِنْدَنَا عَلَى أَصْلِ التّحْلِيلِ بِالشّرْعِ
الْمُتَقَدّمِ وَلَمْ يَقْدَحْ فِي التّحْلِيلِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْكُفْرِ
وَعِبَادَةِ الصّلْبَانِ فَكَذَلِكَ كَانَ مَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْأَوْثَانِ
مُحَلّا بِالشّرْعِ الْمُتَقَدّمِ حَتّى خَصّهُ الْقُرْآنُ بِالتّحْرِيمِ . [ ص
384 ]
زَيْدٌ وَصَعْصَعَةُ وَالْمَوْءُودَةُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ خَبَرَ الْمَوْءُودَةِ وَمَا كَانَ زَيْدٌ يَفْعَلُ فِي ذَلِكَ
وَقَدْ كَانَ صَعْصَعَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ جَدّ الْفَرَزْدَقِ رَحِمَهُ اللّهِ
يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ وَلَمّا أَسْلَمَ سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلْ لِي فِي ذَلِكَ مِنْ أَجْرٍ ؟ فَقَالَ فِي أَصَحّ
الرّوَايَتَيْنِ لَك أَجْرُهُ إذَا مَنّ اللّهُ عَلَيْك بِالْإِسْلَامِ وَقَالَ
الْمُبَرّدُ فِي الْكَامِلِ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
كَلَامًا لَمْ يَصِحّ لَفْظُهُ وَلَا مَعْنَاهُ وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ .
وَالْأُصُولُ تَشْهَدُ لَهُ بِهَذِهِ الرّوَايَةِ الّتِي ذَكَرْنَاهَا ؛ لِمَا
ثَبَتَ أَنّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ ، وَحَسُنَ إسْلَامُهُ كُتِبَ لَهُ كُلّ
حَسَنَةٍ كَانَ زَلَفَهَا ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ ، وَلَمْ
يَذْكُرْ فِيهِ كُلّ حَسَنَةٍ كَانَ زَلَفَهَا ، وَذَكَرهَا الدّارَقُطْنِيّ
وَغَيْرُهُ ثُمّ يَكُونُ الْقِصَاصُ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ
أَمْثَالِهَا ، وَالْمَوْءُودَةُ مَفْعُولَةٌ مِنْ وَأَدَهُ إذَا أَثْقَلَهُ قَالَ
الْفَرَزْدَقُ :
وَمِنّا الّذِي مَنَعَ الْوَائِدَا ... تِ وَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ يُوأَدِ
يَعْنِي : جَدّهُ صَعْصَعَةَ بْنَ مُعَاوِيَةَ بْنِ نَاجِيَةَ بْنِ عِقَالِ بْنِ
مُحَمّدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ . وَقَدْ قِيلَ كَانُوا يَفْعَلُونَ
ذَلِكَ غَيْرَةً عَلَى الْبَنَاتِ وَمَا قَالَهُ اللّهُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ
الْحَقّ مِنْ قَوْلِهِ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ وَذَكَرَ النّقّاشُ فِي التّفْسِيرِ
أَنّهُمْ كَانُوا يَئِدُونَ مِنْ الْبَنَاتِ مَا كَانَ مِنْهُنّ زَرْقَاءَ أَوْ
بَرْشَاءَ أَوْ شَيْمَاءَ أَوْ كَشْحَاءَ تَشَاؤُمًا مِنْهُمْ بِهَذِهِ الصّفَاتِ
قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيّ ذَنْبٍ
قُتِلَتْ } [ التّكْوِيرُ 8 - 9 ] .
[
ص 385 ] وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي فِرَاقِ دِينِ قَوْمِهِ
وَمَا كَانَ لَقِيَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ [ ص 386 ]
أَرَبّا وَاحِدًا ، أَمْ أَلْفُ رَبّ ... أَدِينُ إذَا تَقَسّمَتْ الْأُمُورُ
عَزَلْت اللّاتَ وَالْعُزّى جَمِيعًا ... كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْجَلْدُ الصّبُورُ
فَلَا الْعُزّى ، أَدِينُ وَلَا ابْنَتَيْهَا ... وَلَا صَنَمَيْ بَنِي عَمْرٍو
أَزُورُ
وَلَا هُبَلًا أَدِينُ وَكَانَ رَبّا ... لَنَا فِي الدّهْرِ إذْ حِلْمِي يَسِيرُ
عَجِبْت . وَفِي اللّيَالِي مُعْجَبَاتٌ ... وَفِي الْأَيّامِ يَعْرِفُهَا
الْبَصِيرُ
بِأَنّ اللّهَ قَدْ أَفْنَى رِجَالًا ... كَثِيرًا كَانَ شَأْنُهُمْ الْفُجُورُ
وَأَبْقَى آخَرِينَ بِبَرّ قَوْمٍ ... فَيَرْبُلُ مِنْهُمْ الطّفْلُ الصّغِيرُ
وَبَيْنَا الْمَرْءُ يَعْثُرُ ثَابَ يَوْمًا ... كَمَا يَتَرَوّحُ الْغُصْنُ
الْمَطِيرُ
وَلَكِنْ أَعْبُدُ الرّحْمَنَ رَبّي ... لِيَغْفِرَ ذَنْبِي الرّبّ الْغَفُورُ
فَتَقْوَى اللّهِ رَبّكُمْ احْفَظُوهَا ... مَتَى مَا تَحْفَظُوهَا . لَا
تَبُورُوا
تَرَى الْأَبْرَارَ . دَارَهُمْ جِنَانٌ ... وَلِلْكُفّارِ حَامِيَةٌ سَعِيرُ
وَخِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ وَإِنْ يَمُوتُوا ... يُلَاقُوا مَا تَضِيقُ بِهِ
الصّدُورُS[ ص 385 ]
الْعُزّى
فَصْلٌ وَذَكَرَ شِعْرَ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو وَفِيهِ عَزَلْت اللّاتَ وَالْعُزّى
جَمِيعًا . فَأَمّا اللّاتُ فَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُهَا ، وَأَمّا الْعُزّى ،
فَكَانَتْ نَخَلَاتٍ مُجْتَمِعَةً وَكَانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيّ قَدْ أَخْبَرَهُمْ
- فِيمَا ذُكِرَ - أَنّ الرّبّ يُشْتِي بِالطّائِفِ عِنْدَ اللّاتِ ، وَيُصَيّفُ
بِالْعُزّى ، فَعَظّمُوهَا وَبَنَوْا لَهَا بَيْتًا ، وَكَانُوا يَهْدُونَ إلَيْهِ
كَمَا يَهْدُونَ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَهِيَ الّتِي بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لِيَكْسِرَهَا ، فَقَالَ لَهُ
سَادَتُهَا : يَا خَالِدُ احْذَرْهَا ؛ فَإِنّهَا تَجْدَعُ وَتُكَنّعُ فَهَدَمَهَا
خَالِدُ وَتَرَكَ مِنْهَا جَذْمَهَا وَأَسَاسَهَا ، فَقَالَ قَيّمُهَا : وَاَللّهِ
لِتَعُودُنّ وَلَتَنْتَقِمُنّ مِمّنْ فَعَلَ بِهَا هَذَا ، فَذَكَرَ - وَاَللّهُ
أَعْلَمُ - أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ
لِخَالِدِ " هَلْ رَأَيْت فِيهَا شَيْئًا " ؟ فَقَالَ لَا ، فَأَمَرَهُ
أَنْ يَرْجِعَ وَيَسْتَأْصِلَ بَقِيّتَهَا بِالْهَدْمِ فَرَجَعَ خَالِدٌ
فَأَخْرَجَ أَسَاسَهَا ، فَوَجَدَ فِيهَا امْرَأَةً سَوْدَاءَ مُنْتَفِشَةَ
الشّعْرِ تَخْدِشُ وَجْهَهَا ، فَقَتَلَهَا ، وَهَرَبَ الْقَيّمُ وَهُوَ يَقُولُ
لَا تُعْبَدُ الْعُزّى بَعْدُ الْيَوْمَ . هَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ
النّيْسَابُورِيّ فِي الْمَبْعَثِ . وَذَكَرَهُ الْأَزْرَقِيّ أَيْضًا وَرَزِينٌ .
مَعْنَى يَرْبُلُ
وَقَوْلُهُ فَيَرْبُلُ مِنْهُمْ الطّفْلُ الصّغِيرُ . أَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ
الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ رَبَلَ الطّفْلُ يَرْبُلُ [ ص 386 ] شَبّ وَعَظُمَ .
يَرْبَلُ بِفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ يَكْبَرُ وَيَنْبُتُ وَمِنْهُ أُخِذَ تَرْبِيلُ
الْأَرْضِ . وَقَوْلُهُ كَمَا يَتَرَوّحُ الْغُصْنُ أَيْ يَنْبُتُ وَرَقُهُ بَعْدَ
سُقُوطِهِ . إعْرَابُ نَعْتِ النّكِرَةِ الْمُتَقَدّمِ وَقَوْلُهُ وَلِلْكُفّارِ
حَامِيَةً سَعِيرُ . نَصَبَ حَامِيَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ سَعِيرٍ لِأَنّ نَعْتَ
النّكِرَةِ إذَا تَقَدّمَ عَلَيْهَا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ
فِي مِثْلِهِ لِمَيّةَ مُوحِشًا طَلَلُ
وَأَنْشَدَ أَيْضًا [ لَذِي الرّمّةِ ] :
وَتَحْتَ الْعَوَالِي وَالْقَنَا مُسْتَكِنّةٌ ... ظِبَاءٌ أَعَارَتْهَا
الْعُيُونُ الْجَآذِرُ
وَالْعَامِلُ فِي هَذَا الْحَالِ الِاسْتِقْرَارُ الّذِي يَعْمَلُ فِي الظّرْفِ
وَيَتَعَلّقُ بِهِ حَرْفُ الْجَرّ وَهَذَا الْحَالُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي
الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ لَا اعْتِرَاضَ فِيهَا ؛ لِأَنّهُ يَجْعَلُ النّكِرَةَ
الّتِي بَعْدَهَا مُرْتَفِعَةً بِالظّرْفِ ارْتِفَاعَ الْفَاعِلِ وَأَمّا عَلَى
مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ ، فَالْمَسْأَلَةُ عَسِيرَةٌ جِدّا ؛ لِأَنّهُ يَلْزَمُهُ
أَنْ يَجْعَلَهَا حَالًا مِنْ الْمُضْمَرِ فِي الِاسْتِقْرَارِ لِأَنّهُ
مَعْرِفَةٌ فَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ نَكِرَةٍ فَإِنْ
قُدّرَ الِاسْتِقْرَارُ آخِرَ الْكَلَامِ وَبَعْدَ الْمَرْفُوعِ كَانَ ذَلِكَ
فَاسِدًا ؛ لِتَقَدّمِ الْحَالِ عَلَى الْعَامِلِ الْمَعْنَوِيّ وَلِلِاحْتِجَاجِ
لَهُ وَعَلَيْهِ مَوْضِعٌ غَيْرَ هَذَا .
وَقَالَ
زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَيْضًا - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هِيَ
لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . إلّا الْبَيْتَيْنِ
الْأَوّلَيْنِ وَالْبَيْتَ الْخَامِسَ وَآخِرُهَا بَيْتًا . وَعَجُزُ الْبَيْتِ
الْأَوّلِ عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ : [ ص 387 ]
إلَى اللّهِ أَهْدِي مِدْحَتِي وَثَنَائِيَا ... وَقَوْلًا رَصِينًا لَا يَنِي
الدّهْرَ بَاقِيَا
إلَى الْمَلِكِ الْأَعْلَى الّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ ... إلَهٌ وَلَا رَبّ يَكُونُ
مُدَانِيَا
أَلَا أَيّهَا الْإِنْسَانُ إيّاكَ وَالرّدَى ... فَإِنّك لَا تُخْفِي مِنْ اللّهِ
خَافِيَا
وَإِيّاكَ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ غَيْرَهُ ... فَإِنّ سَبِيلَ الرّشْدِ
أَصْبَحَ بَادِيَا
حَنَانَيْكَ إنّ الْجِنّ كَانَتْ رَجَاءَهُمْ ... وَأَنْتَ إلَهِي رَبّنَا
وَرَجَائِيَا
رَضِيت بِك - اللّهُمّ - رَبّا فَلَنْ أَرَى ... أَدِينُ إلَهًا غَيْرَك اللّهُ
ثَانِيَا
وَأَنْتَ الّذِي مِنْ فَضْلِ مَنّ وَرَحْمَةٍ ... بَعَثْت إلَى مُوسَى رَسُولًا
مُنَادِيَا
فَقُلْت لَهُ يَا اذْهَبْ وَهَارُونَ فَادْعُوَا ... إلَى اللّهِ فِرْعَوْنَ
الّذِي كَانَ طَاغِيَا
وَقُولَا لَهُ آأَنْتَ سَوّيْت هَذِهِ ... بِلَا وَتَدٍ حَتّى اطْمَأَنّتْ كَمَا
هِيَا
وَقُولَا لَهُ آأَنْتَ رَفّعْت هَذِهِ ... بِلَا عَمَدٍ أَرْفِقْ - إذًا - بِك
بَانِيَا
وَقُولَا لَهُ آأَنْتَ سَوّيْت وَسَطهَا ... مُنِيرًا ، إذَا مَا جَنّهُ اللّيْلُ
هَادِيَا
وَقُولَا لَهُ مَنْ يُرْسِلُ الشّمْسَ غَدْوَةً ... فَيُصْبِحُ مَا مَسّتْ مِنْ
الْأَرْضِ ضَاحِيَا
وَقُولَا لَهُ مَنْ يُنْبِتُ الْحَبّ فِي الثّرَى ... فَيُصْبِحُ مِنْهُ الْبَقْلُ
يَهْتَزّ رَابِيَا
وَيَخْرُجُ مِنْهُ حَبّهُ فِي رُءُوسِهِ ... وَفِي ذَاكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ
وَاعِيَا
وَأَنْتَ بِفَضْلِ مِنْك نَجّيْت يُونُسًا ... وَقَدْ بَاتَ فِي أَضْعَافِ حُوتٍ
لَيَالِيَا
وَإِنّيَ لَوْ سَبّحْت بِاسْمِك رَبّنَا ... لَأُكْثِرُ - إلّا مَا غَفَرْت -
خَطَائِيَا
فَرَبّ الْعِبَادِ أَلْقِ سَيْبًا وَرَحْمَةً ... عَلَيّ وَبَارِكْ فِي بَنِيّ
وَمَالِيَاSمِنْ
مَعَانِي شِعْرِ زَيْدٍ
[ ص 387 ] أَهْدِي مِدْحَتِي وَثَنَائِيَا . وَفِيهِ أَلَا أَيّهَا الْإِنْسَانُ
إيّاكَ [ ص 388 ] قَالَ فَإِنّك لَا تُخْفِي مِنْ اللّهِ خَافِيَا . وَفِيهِ
وَإِنّي وَإِنْ سَبّحْت بِاسْمِك رَبّنَا ... لَأُكْثِرُ إلّا مَا غَفَرْت
خَطَائِيَا
مَعْنَى الْبَيْتِ إنّي لَأُكْثِرُ مِنْ هَذَا الدّعَاءِ الّذِي هُوَ بِاسْمِك
رَبّنَا إلّا مَا غَفَرْت " وَمَا " بَعْدَ إلّا زَائِدَةٌ وَإِنْ
سَبّحْت : اعْتِرَاضٌ بَيْنَ اسْمِ إنّ وَخَبَرِهَا ، كَمَا تَقُولُ إنّي لَأُكْثِرُ
مِنْ هَذَا الدّعَاءِ الّذِي هُوَ بِاسْمِك رَبّنَا إلّا وَاَللّهِ يَغْفِرُ لِي
لَأَفْعَلُ كَذَا ، وَالتّسْبِيحُ هُنَا بِمَعْنَى الصّلَاةِ أَيْ لَا أَعْتَمِدُ
وَإِنْ صَلّيْت إلّا عَلَى دُعَائِك وَاسْتِغْفَارِك مِنْ خَطَايَايَ .
تَفْسِيرُ حَنَانَيْكَ
وَقَوْلُهُ حَنَانَيْكَ بِلَفْظِ التّثْنِيَةِ قَالَ النّحْوِيّونَ يُرِيدُ
حَنَانًا بَعْدَ حَنَانٍ كَأَنّهُمْ ذَهَبُوا إلَى التّضْعِيفِ وَالتّكْرَارِ لَا
إلَى الْقَصْرِ عَلَى اثْنَيْنِ خَاصّةً دُونَ مَزِيدٍ . قَالَ الْمُؤَلّفُ
رَحِمَهُ اللّهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ حَنَانًا فِي الدّنْيَا ، وَحَنَانًا فِي
الْآخِرَةِ وَإِذَا قِيلَ هَذَا لِمَخْلُوقِ نَحْوَ قَوْلِ طَرَفَةَ
أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْت فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا ... حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشّرّ
أَهْوَنُ مِنْ بَعْضٍ
فَإِنّمَا يُرِيدُ حَنَانَ دَفْعٍ وَحَنَانَ نَفْعٍ لِأَنّ كُلّ مَنْ أَمّلَ
مَلِكًا ، فَإِنّمَا يُؤَمّلُهُ لِيَدْفَعَ عَنْهُ ضَيْرًا ، أَوْ لِيَجْلِبَ
إلَيْهِ خَيْرًا .
شَرِيعَةُ أَدِينُ
وَقَوْلُهُ فَلَنْ أَرَى أَدِينُ إلَهًا . أَيْ أَدِينُ لِإِلَهِ وَحَذَفَ اللّامَ
وَعَدّى الْفِعْلَ لِأَنّهُ فِي مَعْنَى : أَعْبُدُ إلَهًا .
حَوْلَ اسْمِ اللّهِ
وَقَوْلُهُ غَيْرَك اللّهُ بِرَفْعِ الْهَاءِ أَرَادَ يَا أَللّهُ وَهَذَا لَا
يَجُوزُ فِيمَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللّامُ إلّا أَنّ حُكْمَ الْأَلِفِ وَاللّامِ
فِي هَذَا اللّفْظِ الْمُعَظّمِ يُخَالِفُ حُكْمَهَا فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ
أَلَا تَرَى أَنّك تَقُولُ يَا أَيّهَا الرّجُلُ وَلَا يُنَادَى اسْمُ اللّهِ
بِيَا أَيّهَا ، وَتُقْطَعُ هَمْزَتُهُ فِي النّدَاءِ فَتَقُولُ يَا أَللّهُ وَلَا
يَكُونُ ذَلِكَ فِي اسْمِ غَيْرِهِ إلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ يُخَالِفُ فِيهَا
هَذَا الِاسْمُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُعَرّفَةِ [ ص 389 ] شَاءَ
اللّهُ - وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَفِيهِ بَيْتٌ
حَسَنٌ لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ فِي
أَخْبَارِ زَيْدٍ وَهُوَ
أَدِينُ إلَهًا يُسْتَجَارُ وَلَا أَرَى ... أَدِينُ لِمَنْ لَمْ يَسْمَعْ
الدّهْرَ دَاعِيَا
حَذَفَ الْمُنَادَى مَعَ بَقَاءِ الْيَاءِ
وَفِيهِ فَقُلْت : أَلَا يَا اذْهَبْ عَلَى حَذْفِ الْمُنَادَى ، كَأَنّهُ قَالَ
أَلَا يَا هَذَا اذْهَبْ كَمَا قُرِئَ أَلَا يَا اُسْجُدُوا ، يُرِيدُ يَا قَوْمُ
اُسْجُدُوا ، وَكَمَا قَالَ غَيْلَانُ أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيّ عَلَى
الْبِلَى
وَفِيهِ اذْهَبْ وَهَارُونَ عَطْفًا عَلَى الضّمِيرِ فِي اذْهَبْ وَهُوَ قَبِيحٌ
إذَا لَمْ يُؤَكّدْ وَلَوْ نَصَبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ لَكَانَ جَيّدًا .
تَصْرِيفُ اطْمَأَنّتْ وَأَشْيَاءَ
وَقَوْلُهُ اطْمَأَنّتْ كَمَا هِيَا ، وَزْنُهُ افْلَعَلّتْ لِأَنّ الْمِيمَ
أَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ بَعْدَ الْأَلِفِ لِأَنّهُ مِنْ تَطَأْمَنَ أَيْ
تَطَأْطَأَ وَإِنّمَا قَدّمُوهَا لِتَبَاعُدِ الْهَمْزَةِ الّتِي هِيَ عَيْنُ
الْفِعْلِ مِنْ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فَتَكُونُ أَخَفّ عَلَيْهِمْ فِي اللّفْظِ
كَمَا فَعَلُوا فِي أَشْيَاءَ حِينَ قَلَبُوهَا فِي قَوْلِ الْخَلِيلِ
وَسِيبَوَيْهِ فِرَارًا مِنْ تَقَارُبِ الْهَمْزَتَيْنِ . كَمَا هِيَا . مَا :
زَائِدَةٌ لِتَكُفّ الْكَافَ عَنْ الْعَمَلِ وَتُهَيّئُهَا لِلدّخُولِ عَلَى
الْجُمَلِ وَهِيَ اسْمٌ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ التّقْدِيرُ كَمَا هِيَ
عَلَيْهِ وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ الْمَصْدَرِ الّذِي
دَلّ عَلَيْهِ اطْمَأَنّ كَمَا تَقُولُ سِرْت مِثْلَ سَيْرِ زَيْدٍ فَمِثْلُ حَالٌ
مِنْ سَيْرِك الّذِي سِرْته ، وَفِيهِ أَرْفِقْ إذًا بِك بَانِيَا . أَرْفِقْ
تَعَجّبٌ وَبِك فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِأَنّ الْمَعْنَى : رَفَقْت ، وَبَانِيًا
تَمْيِيزٌ لِأَنّهُ يَصْلُحُ أَنْ يُجَرّ بِمِنْ كَمَا تَقُولُ أَحْسِنْ بِزَيْدِ
مِنْ رَجُلٍ وَحَرْفُ الْجَرّ مُتَعَلّقٌ بِمَعْنَى التّعَجّبِ إذْ قَدْ عُلِمَ
أَنّك مُتَعَجّبٌ مِنْهُ وَلِبَسْطِ هَذَا الْمَعْنَى وَكَشْفِهِ مَوْضِعٌ غَيْرَ
هَذَا - إنْ شَاءَ اللّهُ - وَبَعْدَ قَوْلِهِ وَقَدْ بَاتَ فِي أَضْعَافِ حُوتٍ
لَيَالِيَا
بَيْتٌ لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَوَقَعَ فِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ
وَهُوَ
وَأَنْبَتَ يَقْطِينًا عَلَيْهِ بِرَحْمَةِ ... مِنْ اللّهِ لَوْلَا ذَاكَ
أَصْبَحَ ضَاحِيَا
وَقَالَ
زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو يُعَاتِبُ امْرَأَتَهُ صَفِيّةَ بِنْتَ الْحَضْرَمِيّ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْم الْحَضْرَمِيّ عَبْدُ اللّهِ أَحَدُ الصّدِفِ ، وَاسْمُ
الصّدِفِ عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ أَحَدُ السّكُونِ بْنِ أَشْرَسَ بْنِ كِنْدِيّ
وَيُقَالُ كِنْدَةُ بْنُ ثَوْرِ بْنِ مُرَتّعِ بْنِ عُفَيْرِ بْنِ عَدِيّ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ مُرّةَ بْنِ أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مِهْسَعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
عَرِيبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ مُرْتِعُ بْنُ
مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ . [ ص 388 ] [ ص 389 ] [ ص 390 ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ أَجْمَعَ الْخُرُوجَ
مِنْ مَكّةَ ، لِيَضْرِبَ فِي الْأَرْضِ يَطْلُبُ الْحَنِيفِيّةَ دِينَ
إبْرَاهِيمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَانَتْ صَفِيّةُ بِنْتُ
الْحَضْرَمِيّ كُلّمَا رَأَتْهُ قَدْ تَهَيّأَ لِلْخُرُوجِ وَأَرَادَهُ آذَنَتْ
بِهِ الْخَطّابَ بْنَ نُفَيْلٍ ، وَكَانَ الْخَطّابُ بْنُ نُفَيْلٍ عَمّهُ
وَأَخَاهُ لِأُمّهِ وَكَانَ يُعَاتِبُهُ عَلَى فِرَاقِ دِينِ قَوْمِهِ وَكَانَ
الْخَطّابُ قَدْ وَكّلَ صَفِيّةَ بِهِ وَقَالَ إذَا رَأَيْتِيهِ قَدْ هَمّ
بِأَمْرِ فَآذِنِينِي بِهِ - فَقَالَ زَيْدٌ
لَا تَحْبِسِينِي فِي الْهَوَا ... نِ صَفِيّ مَا دَابِي وَدَابُهْ
إنّي إذَا خِفْت الْهَوَا ... نَ مُشَيّعٌ ذُلُلٌ رِكَابُهُ
دُعْمُوصُ أَبْوَابِ الْمُلُوّ ... كِ وَجَائِبٌ لِلْخَرْقِ نَابُهْ
قَطّاعُ أَسْبَابٍ تَذِلّ ... بِغَيْرِ أَقْرَانٍ صِعَابُهْ
وَإِنّمَا أَخَذَ الْهَوَا ... نَ الْعِيرُ إذْ يُوهَى إهَابُهْ
وَيَقُولُ إنّي لَا أَذِلّ ... بِصَكّ جَنْبَيْهِ صِلَابُهْ
وَأَخِي ابْنُ أُمّي ، ثُمّ عَمّ ... يَ لَا يُوَاتِينِي خِطَابُهْ
وَإِذَا يُعَاتِبُنِي بِسُو ... ءٍ قُلْت : أَعْيَانِي جَوَابُهْ
وَلَوْ أَشَاءُ لَقُلْت : مَا ... عِنْدِي مَفَاتِحُهُ وَبَابُهْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحُدّثْت عَنْ بَعْضِ أَهْلِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
نُفَيْلٍ : أَنّ زَيْدًا إذَا كَانَ اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ
قَالَ لَبّيْكَ حَقّا حَقّا ، تَعَبّدًا وَرِقّا . [ ص 391 ] قَالَ
أَنْفِي لَك اللّهُمّ عَانٍ رَاغِمُ ... مَهْمَا تُجَشّمُنِي فَإِنّي جَاشِمُ
الْبِرّ أَبْغِي لَا الْخَالَ ... لَيْسَ مُهَجّرٌ كَمِنْ قَالَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ
الْبِرّ أَبْقَى لَا الْخَالُ ... لَيْسَ مُهَجّرٌ كَمَنْ قَالَ
قَالَ وَقَوْلُهُ " مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ " عَنْ بَعْضِ أَهْلِ
الْعِلْمِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ :
وَأَسْلَمْت وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا
ثِقَالَا
دَحَاهَا فَلَمّا اسْتَوَتْ ... عَلَى الْمَاءِ أَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا
وَأَسْلَمْت وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا
زُلَالَا
إذَا هِيَ سِيقَتْ إلَى بَلْدَةٍ ... أَطَاعَتْ فَصَبّتْ عَلَيْهَا سِجَالَا
[ ص 392 ] وَكَانَ الْخَطّابُ قَدْ آذَى زَيْدًا ، حَتّى أَخْرَجَهُ إلَى أَعْلَى
مَكّةَ ، فَنَزَلَ حِرَاءَ مُقَابِلَ مَكّةَ ، وَوَكّلَ بِهِ الْخَطّابُ شَبَابًا
مِنْ شَبَابِ قُرَيْشٍ وَسُفَهَاءَ مِنْ سُفَهَائِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ لَا
تَتْرُكُوهُ يَدْخُلُ مَكّةَ ، فَكَانَ لَا يَدْخُلُهَا إلّا سِرّا مِنْهُمْ
فَإِذَا عَلِمُوا بِذَلِكَ آذَنُوا بِهِ الْخَطّابَ فَأَخْرَجُوهُ وَآذَوْهُ
كَرَاهِيَةَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَأَنْ يُتَابِعَهُ أَحَدٌ
مِنْهُمْ عَلَى فِرَاقِهِ . فَقَالَ وَهُوَ يُعَظّمُ حُرْمَتَهُ عَلَى مَنْ
اسْتَحَلّ مِنْهُ مَا اسْتَحَلّ مِنْ قَوْمِهِ
لَاهُمّ إنّي مُحْرِمٌ لَا حِلّهْ ... وَإِنّ بَيْتِي أَوْسَطُ الْمَحَلّهْ
عِنْدَ الصّفَا لَيْسَ بِذِي مَضَلّهْ
ثُمّ خَرَجَ يَطْلُبُ دِينَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَيَسْأَلُ
الرّهْبَانَ وَالْأَحْبَارَ حَتّى بَلَغَ الْمَوْصِلَ وَالْجَزِيرَةَ كُلّهَا ،
ثُمّ أَقْبَلَ فَجَالَ الشّامَ كُلّهُ حَتّى انْتَهَى إلَى رَاهِبٍ بِمَيْفَعَةَ
مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ ، كَانَ يَنْتَهِي إلَيْهِ عِلْمُ أَهْلِ
النّصْرَانِيّةِ فِيمَا يَزْعُمُونَ فَسَأَلَهُ عَنْ الْحَنِيفِيّةِ دِينِ
إبْرَاهِيمَ فَقَالَ إنّك لَتَطْلُبُ دِينًا مَا أَنْتَ بِوَاجِدِ مَنْ يَحْمِلُك
عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَلَكِنْ قَدْ أَظَلّ زَمَانُ نَبِيّ يَخْرُجُ مِنْ بِلَادِك
الّتِي خَرَجْت مِنْهَا ، يُبْعَثُ بِدِينِ إبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيّةِ فَالْحَقْ
بِهَا ، فَإِنّهُ مَبْعُوثٌ الْآنَ هَذَا زَمَانُهُ وَقَدْ كَانَ شَامَ
الْيَهُودِيّةَ والنصرانية ، فَلَمْ يَرْضَ شَيْئًا مِنْهُمَا ، فَخَرَجَ سَرِيعًا
، حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ الرّاهِبُ مَا قَالَ يُرِيدُ مَكّةَ ، حَتّى إذَا
تَوَسّطَ بِلَادَ لَخْمٍ ، عَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ - فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ
نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ يَبْكِيهِ
رَشَدْت ، وَأَنْعَمْت ابْنَ عَمْرٍو ، وَإِنّمَا ... تَجَنّبْت تَنّورًا مِنْ
النّارِ حَامِيَا
بِدِينِك رَبّا لَيْسَ رَبّ كَمِثْلِهِ ... وَتَرْكِك أَوْثَانَ الطّوَاغِي كَمَا
هِيَا
وَإِدْرَاكِك الدّينَ الّذِي قَدْ طَلَبْته ... وَلَمْ تَكُ عَنْ تَوْحِيدِ رَبّك
سَاهِيَا
فَأَصْبَحْت فِي دَارٍ كَرِيمٍ مُقَامُهَا ... تُعَلّلُ فِيهَا بِالْكَرَامَةِ
لَاهِيَا
تُلَاقِي خَلِيلَ اللّهِ فِيهَا ، وَلَمْ تَكُنْ ... مِنْ النّاسِ جَبّارًا إلَى
النّارِ هَاوِيَا
وَقَدْ تُدْرِكُ الْإِنْسَانَ رَحْمَةُ رَبّهِ ... وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الْأَرْضِ
سَبْعِينَ وَادِيَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يُرْوَى لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ الْبَيْتَانِ
الْأَوّلَانِ مِنْهَا ، وَآخِرُهَا بَيْتًا فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَوْلُهُ
" أَوْثَانَ الطّوَاغِي " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . [ ص 393 ]Sصَفِيّةُ
بِنْتُ الْحَضْرَمِيّ
وَذَكَرَ صَفِيّةَ بِنْتَ الْحَضْرَمِيّ وَاسْمُ الْحَضْرَمِيّ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
عَمّارٍ وَسَيَأْتِي [ ص 390 ] أَخِيهَا بَعْدَ . الدّعْمُوصِ وَالْخَرْمُ فِي
الشّعْرِ وَقَوْلُهُ دُعْمُوصُ أَبْوَابِ الْمُلُوكِ . يُرِيدُ وَلّاجًا فِي
أَبْوَابِ الْمُلُوكِ وَأَصْلُ الدّعْمُوصِ سَمَكَةٌ صَغِيرَةٌ كَحَيّةِ الْمَاءِ
فَاسْتَعَارَهُ هُنَا ، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ
صِغَارُكُمْ دَعَامِيصُ الْجَنّةِ وَكَمَا اسْتَعَارَتْ عَائِشَةُ الْعُصْفُورَ
حِينَ نَظَرَتْ إلَى طِفْلٍ صَغِيرٍ قَدْ مَاتَ [ ص 391 ] فَقَالَتْ طُوبَى لَهُ
عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنّةِ لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا ، فَقَالَ لَهَا
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " وَمَا يُدْرِيك ؟ إنّ اللّهَ
خَلَقَ الْجَنّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا ، وَخَلَقَ النّارَ وَخَلَقَ لَهَا
أَهْلًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَفِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ خَرْمٌ فِي مَوْضِعَيْنِ
أَحَدُهُمَا قَوْله :
وَلَوْ أَشَاءُ لَقُلْت مَا ... عِنْدِي مَفَاتِحُهُ وَبَابُهْ
وَالْآخَرُ قَوْلُهُ
وَإِنّمَا أَخَذَ الْهَوَانَ الْ ... عِيرُ إذْ يُوهَى إهَابُهْ
وَقَدْ تَقَدّمَ مِثْلُ هَذَا فِي شِعْرِ ابْنِ الزّبَعْرَى ، وَتَكَلّمْنَا
عَلَيْهِ هُنَالِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ . وَقَوْلُهُ وَيَقُولُ إنّي لَا أَذِلّ
أَيْ يَقُولُ الْعِيرُ ذَلِكَ بِصَكّ جَنْبَيْهِ صِلَابُهْ أَيْ صِلَابُ مَا
يُوضَعُ عَلَيْهِ وَأَضَافَهَا إلَى الْعِيرِ لِأَنّهَا عَبْؤُهُ وَحَمْلُهُ .
لُغَوِيّاتٌ وَنَحْوِيّاتٌ
وَذَكَرَ قَوْلَهُ الْبِرّ أَبْغِي لَا الْخَالَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْبِرّ
أَبْغِي : بِالنّصْبِ وَالْخَالُ [ ص 392 ] قَالَ أَيْ لَيْسَ مَنْ هَجَرَ
وَتَكَيّسَ كَمَنْ آثَرَ الْقَائِلَةَ وَالنّوْمَ فَهُوَ مِنْ قَالَ يَقِيلُ
وَهُوَ ثُلَاثِيّ ، وَلَكِنْ لَا يُتَعَجّبُ مِنْهُ . لَا يُقَالُ مَا [ ص 393 ]
قَالَ أَهْلُ النّحْوِ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِمَا أَنْوَمَهُ وَلِذِكْرِ السّرّ
فِي امْتِنَاعِ التّعَجّبِ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ مَوْضِعٌ غَيْرَ هَذَا . وَقَوْلُ
زَيْدٍ إنّي مُحْرِمٌ لَا حِلّهْ . مُحْرِمٌ أَيْ سَاكِنٌ بِالْحَرَمِ وَالْحِلّةُ
: أَهْلُ الْحِلّ . يُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمِيعِ حِلّةٌ . ذَكَرَ لِقَاءَ
زَيْدٍ الرّاهِبَ بِمَيْفَعَةَ هَكَذَا تَقَيّدَ فِي الْأَصْلِ بِكَسْرِ الْمِيمِ
مِنْ مَيْفَعَةَ وَالْقِيَاسُ فِيهَا : الْفَتْحُ لِأَنّهُ اسْمٌ لِمَوْضِعِ
أُخِدَ مِنْ الْيَفَاعُ وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنْ الْأَرْضِ . وَقَوْلُهُ شَامَ
الْيَهُودِيّةَ والنصرانية ، هُوَ فَاعِلٌ مِنْ الشّمّ كَمَا قَالَ يَزِيدُ بْنُ
شَيْبَانَ حِينَ سَأَلَ النّسّابَةَ مَنْ قُضَاعَةُ ، ثُمّ انْصَرَفَ فَقَالَ لَهُ
النّسّابَةُ شَامَمْتَنَا مُشَامّةُ الذّئْبِ الْغَنَمَ ثُمّ تَنْصَرِفُ . فِي
حَدِيثٍ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ فِي النّوَادِرِ وَمَعْنَاهُ اسْتَخْبَرَ
فَاسْتَعَارَهُ مِنْ الشّمّ فَنَصَبَ الْيَهُودِيّةَ والنصرانية نَصْبَ
الْمَفْعُولِ وَمَنْ خَفَضَ جَعَلَ شَامّ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ شَمَمْت ،
وَالْفِعْلُ أَوْلَى بِهَذَا الْمَوْضِعِ كَمَا تَقَدّمَ وَقَوْلُ وَرَقَةَ
رَشَدْت وَأَنْعَمْت ابْنَ عَمْرٍو ، أَيْ رَشَدْت وَبَالَغْت فِي الرّشَدِ كَمَا
يُقَالُ أَمْعَنْت النّظَرَ وَأَنْعَمْته ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ تَحْتَ
الْأَرْضِ سَبْعِينَ وَادِيًا بِالنّصْبِ . نَصَبَ سَبْعِينَ عَلَى الْحَالِ
لِأَنّهُ قَدْ يَكُونُ صِفَةً لِلنّكِرَةِ كَمَا قَالَ فَلَوْ كُنْت فِي جُبّ
ثَمَانِينَ قَامَةً وَمَا [ يَكُونُ ] صِفَةً لِلنّكِرَةِ يَكُونُ حَالًا مِنْ
الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ هُنَا حَالٌ مِنْ الْبُعْدِ كَأَنّهُ قَالَ وَلَوْ بَعُدَ
تَحْتَ الْأَرْضِ سَبْعِينَ . كَمَا تَقُولُ بَعُدَ طَوِيلًا ، أَيْ بُعْدًا
طَوِيلًا ، وَإِذَا حَذَفْت الْمَصْدَرَ وَأَقَمْت الصّفَةَ مَقَامَهُ لَمْ تَكُنْ
إلّا حَالًا ، وَقَدْ تَقَدّمَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ فِي ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ
سَارُوا رُوَيْدًا وَنَحْوِ هَذَا : دَارِي خَلْفَ دَارِك فَرْسَخًا ، أَيْ
تَقْرُبُ مِنْهَا فَرْسَخًا إنْ أَرَدْت الْقُرْبَ وَكَذَلِكَ إنْ أَرَدْت
الْبُعْدَ فَالْبُعْدُ وَالْقُرْبُ مُقَدّرَانِ بِالْفَرْسَخِ فَلَوْ قُلْت :
دَارِي تَقْرُبُ مِنْك قُرْبًا مُقَدّرًا بِفَرْسَخِ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ
يَقُولُ قُرْبًا كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا ، فَالْفَرْسَخُ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ
كَثِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ فَإِعْرَابُهُ كَإِعْرَابِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ
لَا تَعْجَبُوا فَلَوْ انّ طُولَ قَنَاتِهِ ... مِيلٌ إذَا نَظَمَ الْفَوَارِسَ
مِيلًا
أَيْ نَظَمَهُمْ نَظْمًا مُسْتَطِيلًا ، وَوَضَعَ مِيلًا مَوْضِعَ مُسْتَطِيلًا ،
فَإِعْرَابُهُ كَإِعْرَابِهِ فَهُوَ وَصْفٌ لِلْمَصْدَرِ وَإِذَا أُقِيمَ
الْوَصْفُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ فِي هَذَا الْبَابِ لَمْ يَكُنْ حَالًا مِنْ
الْفَاعِلِ لَكِنْ مِنْ الْمَصْدَرِ الّذِي يَدُلّ الْفِعْلُ عَلَيْهِ بِلَفْظِهِ
نَحْوَ سَارُوا طَوِيلًا ، وَسَقَيْتهَا أَحْسَنَ مِنْ سَقْيِ إبِلِك ، وَنَحْوَ
ذَلِكَ .
صِفَةُ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْإِنْجِيل
[ ص 394 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ - فِيمَا بَلَغَنِي عَمّا كَانَ
وَضَعَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فِيمَا جَاءَهُ مِنْ اللّهِ فِي الْإِنْجِيلِ
لِأَهْلِ الْإِنْجِيلِ - مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِمّا أَثْبَتَ يُحَنّسُ الْحَوَارِيّ لَهُمْ حِينَ نَسَخَ لَهُمْ
الْإِنْجِيلَ عَنْ عَهْدِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي رَسُولِ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَيْهِمْ أَنّهُ قَالَ مَنْ
أَبْغَضَنِي فَقَدْ أَبْغَضَ الرّبّ ، وَلَوْلَا أَنّي صَنَعْت بِحَضْرَتِهِمْ
صَنَائِعَ لَمْ يَصْنَعْهَا أَحَدٌ قَبْلِي ، مَا كَانَتْ لَهُمْ خَطِيئَةٌ
وَلَكِنْ مِنْ الْآنَ بَطِرُوا وَظَنّوا أَنّهُمْ يَعُزّونَنِي ، وَأَيْضًا
لِلرّبّ وَلَكِنْ لَا بُدّ مِنْ أَنْ تَتِمّ الْكَلِمَةُ الّتِي فِي النّامُوسِ
أَنّهُمْ أَبْغَضُونِي مَجّانًا ، أَيْ بَاطِلًا . فَلَوْ قَدْ جَاءَ
الْمُنْحَمَنّا هَذَا الّذِي يُرْسِلُهُ اللّهُ إلَيْكُمْ مِنْ عِنْدِ الرّبّ
وَرُوحُ الْقُدْسِ هَذَا الّذِي مِنْ عِنْدِ الرّبّ خَرَجَ فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَيّ
وَأَنْتُمْ أَيْضًا ؛ لِأَنّكُمْ قَدِيمًا كُنْتُمْ مَعِي فِي هَذَا ، قُلْت
لَكُمْ لِكَيْمَا لَا تَشُكّوا [ ص 395 ]Sيُحَنّسُ
الْحَوَارِيّ
[ ص 394 ] الْعَوْجَاءَ ، فَيَفْتَحَ بِهِ عُيُونًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمّا ،
وَقُلُوبًا غُلْفًا ؛ بِأَنْ يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلّا اللّهُ .
مِنْ صِفَاتِ النّبِيّ عِنْدَ الْأَحْبَارِ
وَمِمّا وُجِدَ مِنْ صِفَتِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عِنْدَ
الْأَحْبَارِ مَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيّ مِنْ حَدِيثِ النّعْمَانِ [ ص 395 ]
التّيْمِيّ . قَالَ وَكَانَ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْيَمَنِ فَلَمّا سَمِعَ
بِذَلِكَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدِمَ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ
عَنْ أَشْيَاءَ ثُمّ قَالَ إنّ أَبِي كَانَ يَخْتِمُ عَلَى سِفْرٍ وَيَقُولُ [ لَا
تَقْرَأْهُ ] عَلَى يَهُودَ حَتّى تَسْمَعَ بِنَبِيّ قَدْ خَرَجَ بِيَثْرِبَ
فَإِذَا سَمِعْت بِهِ فَافْتَحْهُ . قَالَ نُعْمَانُ فَلَمّا سَمِعْت بِك فَتَحْت
السّفْرَ فَإِذَا فِيهِ صِفَتُك كَمَا أَرَاك السّاعَةَ وَإِذَا فِيهِ مَا تُحِلّ
وَمَا تُحَرّمُ وَإِذَا فِيهِ إنّك خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمّتُك خَيْرُ
الْأُمَمِ وَاسْمُك : أَحْمَدُ وَأُمّتُك الْحَامِدُونَ . قُرْبَانُهُمْ دِمَاؤُهُمْ
وَأَنَاجِيلُهُمْ صُدُورُهُمْ وَهُمْ لَا يَحْضُرُونَ قِتَالًا إلّا وَجِبْرِيلُ
مَعَهُمْ يَتَحَنّنُ اللّهَ عَلَيْهِمْ كَتَحَنّنِ النّسْرِ عَلَى فِرَاخِهِ ثُمّ
قَالَ لِي : إذَا سَمِعْت بِهِ فَاخْرُجْ إلَيْهِ وَآمِنْ بِهِ وَصَدّقْ بِهِ
فَكَانَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يُحِبّ أَنْ يَسْمَعَ
أَصْحَابُهُ حَدِيثَهُ فَأَتَاهُ يَوْمًا ، فَقَالَ لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَا نُعْمَانُ حَدّثْنَا " ، فَابْتَدَأَ النّعْمَانُ
الْحَدِيثَ مِنْ أَوّلِهِ فَرُئِيَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - يَوْمَئِذٍ يَتَبَسّمُ ثُمّ قَالَ " أَشْهَدُ أَنّي رَسُولُ
اللّهِ وَهُوَ الّذِي قَتَلَهُ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيّ ، وَقَطّعَهُ عُضْوًا
عُضْوًا ، وَهُوَ يَقُولُ إنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ وَإِنّك كَذّابٌ مُفْتَرٍ
عَلَى اللّهِ ثُمّ حَرّقَهُ بِالنّارِ " .
مَبْعَثُ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ تَسْلِيمًا
[ ص 396 ] قَالَ حَدّثَنَا أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ
حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ
الْمُطّلِبِيّ قَالَ فَلَمّا بَلَغَ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَرْبَعِينَ سَنَةً بَعَثَهُ اللّهُ تَعَالَى رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ وَكَافّةً لِلنّاسِ بَشِيرًا ، وَكَانَ اللّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى قَدْ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى كُلّ نَبِيّ بَعَثَهُ قَبْلَهُ
بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالتّصْدِيقِ لَهُ وَالنّصْرِ لَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ
وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدّوا ذَلِكَ إلَى كُلّ مَنْ آمَنَ بِهِمْ
وَصَدّقَهُمْ فَأَدّوْا مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْحَقّ فِيهِ .
يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى لِمُحَمّدِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلّمَ
[ ص 397 ] { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ
كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ
بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي
} أَيْ ثِقَلَ مَا حَمّلْتُكُمْ مِنْ عَهْدِي : { قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ
فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ } [ آلُ عِمْرَانَ 81 ] فَأَخَذَ
اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ جَمِيعًا بِالتّصْدِيقِ لَهُ وَالنّصْرِ لَهُ مِمّنْ
خَالَفَهُ وَأَدّوْا ذَلِكَ إلَى مَنْ آمَنَ بِهِمْ وَصَدّقَهُمْ مِنْ أَهْلِ
هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ .Sكِتَابُ
الْمَبْعَثِ
[ ص 396 ] ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاق َ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - بُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ مِنْ مَوْلِدِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ
وَهَذَا مَرْوِيّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَقَبَاثِ بْنِ
أَشْيَمَ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ
صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ السّيَرِ وَالْعِلْمِ بِالْأَثَرِ وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ
نُبّئَ لِأَرْبَعِينَ وَشَهْرَيْنِ مِنْ مَوْلِدِهِ وَقِيلَ لِقَبَاثِ بْنِ
أَشْيَمَ مَنْ أَكْبَرُ أَنْتَ أَمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ أَكْبَرُ مِنّي ، وَأَنَا أَسَنّ مِنْهُ وَوُلِدَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَامَ الْفِيلِ وَوَقَفَتْ بِي
أُمّي عَلَى رَوْثِ الْفِيلِ وَيُرْوَى : خَزْقِ الطّيْرِ فَرَأَيْته أَخْضَرَ
مُحِيلًا ، أَيْ قَدْ أَتَى عَلَيْهِ حَوْلٌ وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ
مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
قَالَ لِبِلَالِ لَا يَفُتْك صِيَامُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَإِنّي قَدْ وُلِدْت
فِيهِ وَبُعِثْت فِيهِ وَأَمُوتُ فِيهِ
إعْرَابُ لَمَا آتَيْتُكُمْ
[ ص 397 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ { وَإِذْ أَخَذَ
اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ }
الْآيَةُ . وَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْمٌ مُبْتَدَأٌ بِمَعْنَى : الّذِي ،
وَالتّقْدِيرُ لَلّذِي آتَيْنَاكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ وَلَا يَصِحّ أَنْ
تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إضْمَارِ فِعْلٍ كَمَا يَنْتَصِبُ مَا
يَشْتَغِلُ عَنْهُ الْفِعْلُ بِضَمِيرِهِ لِأَنّ مَا بَعْدَ اللّامِ الثّانِيَةِ
لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيمَا قَبْلَهَا ، وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ
فِيهِ مَا قَبْلَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِمَا يَعْمَلُ فِيهِ
وَقَدْ قِيلَ إنّ مَا هَذِهِ شَرْطٌ . وَالتّقْدِيرُ لَمَهْمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ
كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ لِأَنّهُ
جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ إنّ وَقَوْلُ الْخَلِيلِ إنّهَا بِمَنْزِلَةِ الّذِي ،
أَيْ إنّهَا اسْمٌ لَا حَرْفٌ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا عَلَى
هَذَا ، فَتَكُونُ اسْمًا ، وَتَكُونُ شَرْطًا ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ
تَكُونَ عَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ خَبَرِيّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ
وَيَكُونَ الْخَبَرُ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ وَإِنْ كَانَ
الضّمِيرَانِ عَائِدَيْنِ عَلَى الرّسُولِ لَا عَلَى الّذِي ، وَلَكِنْ لَمّا
قَالَ رَسُولُ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ارْتَبَطَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ بِبَعْضِ
وَاسْتَغْنَى بِالضّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الرّسُولِ عَنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى
الْمُبْتَدَأِ وَلَهُ نَظِيرٌ فِي التّنْزِيلِ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : {
وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنْكُمْ } [ الْبَقَرَةُ 234 ] خَبَرُهُ يَتَرَبّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنّ وَلَمْ يَعُدْ عَلَى الْمُبْتَدَإِ شَيْءٌ لِتَشَبّثِ الْكَلَامِ
بَعْضُهُ بِبَعْضِ وَقَدْ لَاحَ لِي بَعْدَ نَظَرِي الْكِتَابَ أَنّ الّذِي
قَالَهُ الْخَلِيلُ وَقَوْلَ سِيبَوَيْهِ قَوْلٌ وَاحِدٌ غَيْرَ أَنّهُ قَالَ
وَدُخُولُ اللّامِ عَلَى مَا ، كَدُخُولِهَا عَلَى إنّ يَعْنِي : فِي الْجَزَاءِ
وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يُعْمِلَ مَا جَزَاءً وَإِنّمَا تَكَلّمَ عَلَى اللّامِ
خَاصّةً وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
النّبُوءَةُ وَأُولُو الْعَزْمِ
[ ص 398 ] وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ إسْحَاق َ وَالنّبُوءَةُ أَثْقَالٌ وَمُؤْنَةٌ
لَا يَحْمِلُهَا وَلَا يَسْتَطِيعُهَا إلّا أَهْلُ الْقُوّةِ وَالْعَزْمِ مِنْ
الرّسُلِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالَ سَمِعْت وَهْبَ
بْنَ مُنَبّهٍ وَهُوَ فِي مَسْجِدِ مِنًى - وَذَكَرَ لَهُ يُونُسَ النّبِيّ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا ، وَكَانَ فِي
خُلُقِهِ ضِيقٌ فَلَمّا حُمّلَتْ عَلَيْهِ أَثْقَالُ النّبُوءَةِ وَلَهَا
أَثْقَالٌ تَفَسّخَ تَحْتَهَا تَفَسّخَ الرّبُعِ تَحْتَ الْحِمْلِ الثّقِيلِ
فَأَلْقَاهَا عَنْهُ وَخَرَجَ هَارِبًا ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاق َ
إنّ أُولِي الْعَزْمِ مِنْ الرّسُلِ مِنْهُمْ نُوحٌ وَهُودٌ وَإِبْرَاهِيمُ أَمّا
نُوحٌ فَلِقَوْلِهِ { يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي
وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ } [ يُونُسُ 71 ] وَأَمّا هُودٌ فَلِقَوْلِهِ {
إِنّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُوا أَنّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ } [ هُودٌ 54
] وَأَمّا إبْرَاهِيمُ فَلِقَوْلِهِ هُوَ وَاَلّذِينَ مَعَهُ { إِنّا بُرَآءُ
مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } وَأَمَرَ اللّهُ نَبِيّنَا أَنْ
يَصْبِرَ كَمَا صَبَرَ هَؤُلَاءِ .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَذَكَرَ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا حَدّثَتْهُ أَنّ أَوّلَ مَا بُدِئَ بِهِ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ النّبُوّةِ حِينَ أَرَادَ
اللّهُ كَرَامَتَهُ وَرَحْمَةَ الْعِبَادِ بِهِ الرّؤْيَا الصّادِقَةُ لَا يَرَى
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - رُؤْيَا فِي نَوْمِهِ إلّا
جَاءَتْ كَفَلَقِ الصّبْحِ قَالَتْ وَحَبّبَ اللّهُ تَعَالَى إلَيْهِ الْخَلْوَةَ
فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَخْلُوَ وَحْدَهُ . [ ص 398 ]
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ بْنِ الْعَلَاءِ ابْنِ جَارِيَةَ الثّقَفِيّ ، وَكَانَ وَاعِيَةً عَنْ
بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
حِينَ أَرَادَهُ اللّهُ بِكَرَامَتِهِ وَابْتَدَأَهُ بِالنّبُوّةِ كَانَ إذَا
خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَبْعَدَ حَتّى تُحْسَرَ عَنْهُ الْبُيُوتُ وَيُفْضِي إلَى
شِعَابِ مَكّةَ وَبُطُونِ أَوْدِيَتِهَا ، فَلَا يَمُرّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِحَجَرِ وَلَا شَجَرٍ إلّا قَالَ السّلَامُ عَلَيْك
يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ فَيَلْتَفِتُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ حَوْلَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَخَلْفَهُ فَلَا يَرَى إلّا
الشّجَرَ وَالْحِجَارَةَ . فَمَكَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كَذَلِكَ يَرَى وَيَسْمَعُ مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَمْكُثَ ثُمّ جَاءَهُ
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِمَا جَاءَهُ مِنْ كَرَامَةِ اللّهِ وَهُوَ
بِحِرَاءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ . [ ص 399 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي
وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى آلِ الزّبَيْرِ . قَالَ سَمِعْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ
الزّبَيْرِ وَهُوَ يَقُولُ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ اللّيْثِيّ
حَدّثْنَا يَا عُبَيْدُ ، كَيْفَ كَانَ بَدْءُ مَا اُبْتُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ النّبُوّةِ حِينَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ
السّلَامُ ؟ قَالَ فَقَالَ عُبَيْدٌ - وَأَنَا حَاضِرٌ يُحَدّثُ عَبْدَ اللّهِ
بْنَ الزّبَيْرِ ، وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ النّاسِ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُجَاوِرُ فِي حِرَاءٍ مِنْ كُلّ سَنَةٍ شَهْرًا ،
وَكَانَ ذَلِكَ مِمّا تَحَنّثُ بِهِ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيّةِ . وَالتّحَنّثُ
التّبَرّزُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ ... وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءٍ
وَنَازِلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَقُولُ الْعَرَبُ : التّحَنّثُ وَالتّحَنّفُ يُرِيدُونَ
الْحَنِيفِيّةَ فَيُبْدِلُونَ الْفَاءَ مِنْ الثّاءِ كَمَا قَالُوا : جَدَفٌ
وَجَدَثٌ يُرِيدُونَ الْقَبْرَ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : لَوْ كَانَ
أَحْجَارِي مَعَ الْأَجْدَافِ
يُرِيدُ الْأَجْدَاثَ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . وَبَيْتُ أَبِي
طَالِبٍ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللّهُ فِي مَوْضِعِهَا . [ ص
400 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ الْعَرَبَ تَقُولُ
فُمّ فِي مَوْضِعِ ثُمّ يُبْدِلُونَ الْفَاءَ مِنْ الثّاءِ .Sأَوّلُ
مَا بُدِئَ بِهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ النّبُوءَةِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ : مَا بُدِئَ بِهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ النّبُوءَةِ إذْ كَانَ لَا يَمُرّ بِحَجَرِ وَلَا شَجَرٍ
إلّا قَالَ السّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللّه وَفِي مُصَنّفِ التّرْمِذِيّ
وَمُسْلِمٍ أَيْضًا أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ
إنّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكّةَ كَانَ يُسَلّمُ عَلَيّ قَبْلَ أَنْ يُنَزّلَ
عَلَي وَفِي بَعْضِ الْمُسْنَدَاتِ زِيَادَةُ أَنّ هَذَا الْحَجَرَ الّذِي كَانَ
يُسَلّمُ عَلَيْهِ هُوَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ ، وَهَذَا التّسْلِيمُ [ ص 399 ]
يَكُونَ حَقِيقَةً وَأَنْ يَكُونَ اللّهُ أَنْطَقَهُ إنْطَاقًا كَمَا خَلَقَ
الْحَنِينَ فِي الْجِذْعِ وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْكَلَامِ الّذِي هُوَ
صَوْتٌ وَحَرْفٌ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ لِأَنّهُ صَوْتٌ كَسَائِرِ
الْأَصْوَاتِ وَالصّوْتُ عَرَضٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ
إلّا النّظّامُ فَإِنّهُ زَعَمَ أَنّهُ جِسْمٌ وَجَعَلَهُ الْأَشْعَرِيّ
اصْطِكَاكًا فِي الْجَوَاهِرِ بَعْضُهَا لِبَعْضِ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ
الطّيّبِ لَيْسَ الصّوْتُ نَفْسَ الِاصْطِكَاكِ وَلَكِنّهُ مَعْنًى زَائِدٌ
عَلَيْهِ وَلِلِاحْتِجَاجِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَلَهُمَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا ،
وَلَوْ قَدّرْت الْكَلَامَ صِفَةً قَائِمَةً بِنَفْسِ الْحَجَرِ وَالشّجَرِ
وَالصّوْتُ عِبَارَةً عَنْهُ لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ اشْتِرَاطِ الْحَيَاةِ
وَالْعِلْمِ مَعَ الْكَلَامِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ أَكَانَ
كَلَامًا مَقْرُونًا بِحَيَاةِ وَعِلْمٍ فَيَكُونُ الْحَجَرُ بِهِ مُؤْمِنًا ،
أَوْ كَانَ صَوْتًا مُجَرّدًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِحَيَاةِ ؟ وَفِي كِلَا
الْوَجْهَيْنِ هُوَ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النّبُوءَةِ وَأَمّا حَنِينُ الْجِذْعِ
فَقَدْ سُمّيَ حَنِينًا ، وَحَقِيقَةُ الْحَنِينِ يَقْتَضِي شَرْطَ الْحَيَاةِ
وَقَدْ يَحْتَمِلُ تَسْلِيمَ الْحِجَارَةِ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا فِي الْحَقِيقَةِ
إلَى مَلَائِكَةٍ يَسْكُنُونَ تِلْكَ الْأَمَاكِنَ يُعَمّرُونَهَا ، فَيَكُونُ
مَجَازًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } وَالْأَوّلُ
أَظْهَرُ وَإِنْ كَانَتْ كُلّ صُورَةٍ مِنْ هَذِهِ الصّوَرِ الّتِي ذَكَرْنَاهَا
فِيهَا عَلَمٌ عَلَى نُبُوّتِهِ - عَلَيْهِ السّلَامُ - غَيْرَ أَنّهُ لَا يُسَمّى
مُعْجِزَةً فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلّمِينَ إلّا مَا تَحَدّى بِهِ الْخَلْقَ
فَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ .
مَدْلُولُ تَفَعّلَ
[ ص 400 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ يُجَاوِرُ بِغَارِ حِرَاءٍ وَيَتَحَنّثُ فِيهِ
قَالَ وَالتّحَنّثُ التّبَرّزُ . تَفَعّلٌ مِنْ الْبِرّ وَتَفَعّلَ يَقْتَضِي
الدّخُولَ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِيهَا مِثْلُ تَفَقّهَ وَتَعَبّدَ
وَتَنَسّكَ وَقَدْ جَاءَتْ فِي أَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ تُعْطِي الْخُرُوجَ عَنْ
الشّيْءِ وَاطّرَاحِهِ كَالتّأَثّمِ وَالتّحَرّجِ . وَالتّحَنّثُ بِالثّاءِ
الْمُثَلّثَةِ لِأَنّهُ مِنْ الْحِنْثِ وَهُوَ الْحِمْلُ الثّقِيلُ وَكَذَلِكَ
التّقَذّرُ إنّمَا هُوَ تَبَاعُدٌ عَنْ الْقَذَرِ وَأَمّا التّحَنّفُ بِالْفَاءِ
فَهُوَ مِنْ بَابِ التّبَرّرِ لِأَنّهُ مِنْ الْحَنِيفِيّةِ دِينِ إبْرَاهِيمَ
وَإِنْ كَانَ الْفَاءُ مُبْدَلَةً مِنْ الثّاءِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التّقَذّرِ
وَالتّأَثّمِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ ، وَاحْتَجّ بِجَدَفٍ وَجَدَثٍ
وَأَنْشَدَ قَوْلَ رُؤْبَةَ لَوْ كَانَ أَحْجَارِي مَعَ الْأَجْدَافِ وَفِي بَيْتِ
رُؤْبَةَ هَذَا شَاهِدٌ وَرَدّ عَلَى ابْنِ جِنّي حَيْثُ زَعَمَ فِي سِرّ
الصّنَاعَةِ أَنّ جَدَفَ بِالْفَاءِ لَا يُجْمَعُ عَلَى أَجْدَافٍ وَاحْتَجّ
بِهَذَا لِمَذْهَبِهِ فِي أَنّ الثّاءَ هِيَ الْأَصْلُ وَقَوْلُ رُؤْبَةَ رَدّ
عَلَيْهِ وَاَلّذِي نَذْهَبُ إلَيْهِ أَنّ الْفَاءَ هِيَ الْأَصْلُ فِي هَذَا
الْحَرْفِ لِأَنّهُ مِنْ الْجَدْفِ وَهُوَ الْقَطْعُ وَمِنْهُ مِجْدَافُ
السّفِينَةِ وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي وَصْفِ الْجِنّ : شَرَابُهُمْ الْجَدَفُ
وَهِيَ الرّغْوَةُ لِأَنّهَا تُجْدَفُ عَنْ الْمَاءِ وَقِيلَ هِيَ نَبَاتٌ
يُقْطَعُ وَيُؤْكَلُ . وَقِيلَ كُلّ إنَاءٍ كُشِفَ عَنْهُ غِطَاؤُهُ جَدَفٌ
وَالْجَدَفُ الْقَبْرُ مِنْ هَذَا ، فَلَهُ مَادّةٌ وَأَصْلٌ فِي الِاشْتِقَاقِ
فَأَجْدَرُ بِأَنْ تَكُونَ الْفَاءُ هِيَ الْأَصْلَ وَالِثَاءُ دَاخِلَةً
عَلَيْهَا .
حَوْلَ مُجَاوَرَتِهِ فِي حِرَاءٍ
وَقَوْلُهُ يُجَاوِرُ فِي حِرَاءٍ إلَى آخِرِ الْكَلَامِ . الْجِوَارُ بِالْكَسْرِ
فِي مَعْنَى الْمُجَاوَرَةِ وَهِيَ الِاعْتِكَافُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجِوَارِ
وَالِاعْتِكَافِ إلّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنّ الِاعْتِكَافَ لَا يَكُونُ
إلّا دَاخِلَ الْمَسْجِدِ وَالْجِوَارَ قَدْ يَكُونُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ كَذَلِكَ
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُسَمّ جِوَارُهُ بِحِرَاءِ
اعْتِكَافًا ، لِأَنّ حِرَاءَ لَيْسَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَلَكِنّهُ مِنْ جِبَالِ
الْحَرَمِ ، وَهُوَ الْجَبَلُ الّذِي نَادَى رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ قَالَ لَهُ ثَبِيرٌ وَهُوَ عَلَى ظَهْرِهِ اهْبِطْ
عَنّي ؛ فَإِنّي أَخَافُ أَنْ تُقْتَلَ عَلَى ظَهْرِي فَأُعَذّبُ فَنَادَاهُ
حِرَاءٌ : إلَيّ إلَيّ يَا رَسُولَ اللّهِ .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ قَالَ قَالَ عُبَيْدُ [ بْنُ
عُمَيْرٍ ] : فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُجَاوِرُ
ذَاتَ الشّهْرِ مِنْ كُلّ سَنَةٍ يُطْعِمُ مَنْ جَاءَهُ مِنْ الْمَسَاكِينِ
فَإِذَا قَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جِوَارَهُ مِنْ
شَهْرِهِ ذَلِكَ كَانَ أَوّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ - إذَا انْصَرَفَ مِنْ جِوَارِهِ
- الْكَعْبَةُ ، [ ص 401 ] شَاءَ اللّهُ مِنْ ذَلِك ، ثُمّ يَرْجِعُ إلَى بَيْتِهِ
حَتّى إذَا كَانَ الشّهْرُ الّذِي أَرَادَ اللّهُ تَعَالَى بَهْ فِيهِ مَا أَرَادَ
مِنْ كَرَامَتِهِ مِنْ السّنَةِ الّتِي بَعَثَهُ اللّهُ تَعَالَى فِيهَا ،
وَذَلِكَ الشّهْرُ شَهْرُ رَمَضَانَ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى حِرَاءٍ ، كَمَا كَانَ يَخْرُجُ لِجِوَارِهِ وَمَعَهُ أَهْلُهُ
حَتّى إذَا كَانَتْ اللّيْلَةُ الّتِي أَكْرَمَهُ اللّهُ فِيهَا بِرِسَالَتِهِ
وَرَحِمَ الْعِبَادَ بِهَا ، جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِأَمْرِ
اللّهِ تَعَالَى . قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ "
فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ وَأَنَا نَائِمٌ [ ص 402 ] [ ص 403 ] فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ
قُلْت : مَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ فَغَتّنِي بِهِ حَتّى ظَنَنْت [ ص 404 ] أَرْسَلَنِي
، فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ قُلْت : مَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ فَغَتّنِي بِهِ حَتّى
ظَنَنْت أَنّهُ الْمَوْتُ . ثُمّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ قُلْت :
مَاذَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ فَغَتّنِي بِهِ حَتّى ظَنَنْت أَنّهُ الْمَوْتُ ثُمّ
أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ فَقُلْت : مَاذَا أَقْرَأُ ؟ مَا أَقُولُ
ذَلِكَ إلّا افْتِدَاءً مِنْهُ أَنْ يَعُودَ لِي بِمِثْلِ مَا صَنَعَ بِي ،
فَقَالَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ
اقْرَأْ وَرَبّكَ الْأَكْرَمُ الّذِي عَلّمَ بِالْقَلَمِ عَلّمَ الْإِنْسَانَ مَا
لَمْ يَعْلَمْ } قَالَ فَقَرَأَتْهَا ، ثُمّ انْتَهَى ، فَانْصَرَفَ عَنّي ،
وَهَبَبْت مِنْ نَوْمِي ، فَكَأَنّمَا كَتَبْت فِي قَلْبِي كِتَابًا . قَالَ
فَخَرَجْت حَتّى إذَا كُنْت فِي وَسَطٍ مِنْ الْجَبَلِ سَمِعْت صَوْتًا مِنْ
السّمَاءِ يَقُولُ يَا مُحَمّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللّهِ وَأَنَا [ ص 405 ] [ ص 406
] مَكّةَ ، وَرَجَعُوا إلَيْهَا ، وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مَكَانِي ذَلِكَ ثُمّ
انْصَرَفَ عَنّي . وَانْصَرَفْت رَاجِعًا إلَى أَهْلِي ، حَتّى أَتَيْت خَدِيجَةَ
فَجَلَسْت إلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا إلَيْهَا ، فَقَالَتْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ
أَيْنَ كُنْت ؟ فَوَاَللّهِ لَقَدْ بَعَثْت رُسُلِي فِي طَلَبِك ، حَتّى بَلَغُوا
مَكّةَ وَرَجَعُوا لِي ، ثُمّ حَدّثْتهَا بِاَلّذِي رَأَيْت ، فَقَالَتْ أَبْشِرْ
يَا بْنَ عَمّ وَاثْبُتْ فَوَاَلّذِي نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ
تَكُونَ نَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ [ ص 407 ] قَامَتْ فَجَمَعَتْ عَلَيْهَا
ثِيَابَهَا ، ثُمّ انْطَلَقَتْ إلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ
عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ ، وَهُوَ ابْنُ عَمّهَا ، وَكَانَ وَرَقَةُ قَدْ
تَنَصّرَ وَقَرَأَ الْكُتُبَ وَسَمِعَ مِنْ أَهْلِ التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ،
فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنّهُ رَأَى وَسَمِعَ فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ : قُدّوسٌ قُدّوسٌ
وَاَلّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ لَئِنْ كُنْت صَدّقْتِينِي يَا خَدِيجَةُ
لَقَدْ جَاءَهُ النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى . وَإِنّهُ
لَنَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ فَقَوْلِي لَهُ فَلْيَثْبُتْ . فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ
إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَتْهُ بِقَوْلِ
وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، فَلَمّا قَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ جِوَارَهُ وَانْصَرَفَ صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ بَدَأَ بِالْكَعْبَةِ
، فَطَافَ بِهَا ، فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ ، وَهُوَ يَطُوفُ
بِالْكَعْبَةِ ، فَقَالَ يَا بْنَ أَخِي أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْت وَسَمِعْت ، [
ص 408 ] فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ
وَرَقَةُ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّك لَنَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ وَلَقَدْ
جَاءَك النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي جَاءَ مُوسَى ، وَلَتُكَذّبَنّهْ
وَلَتُؤْذَيَنّهْ وَلَتُخْرَجَنّهْ وَلَتُقَاتَلَهْ وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْت
ذَلِكَ الْيَوْمَ لَأَنْصُرَنّ اللّهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ ثُمّ أَدْنَى رَأْسَهُ
مِنْهُ فَقَبّلَ يَافُوخَهُ ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى مَنْزِلِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ
أَبِي حَكِيمٍ مَوْلَى آلِ الزّبَيْرِ : أَنّهُ حَدّثَ عَنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَيْ ابْنَ عَمّ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِك هَذَا الّذِي يَأْتِيك
إذَا جَاءَك ؟ قَالَ " نَعَمْ " . قَالَتْ فَإِذَا جَاءَك فَأَخْبِرْنِي
بِهِ . فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِخَدِيجَةَ " يَا خَدِيجَةُ
هَذَا جِبْرِيلُ قَدْ جَاءَنِي " ، قَالَتْ قُمْ يَا ابْنَ عَمّ فَاجْلِسْ
عَلَى فَخِذِي الْيُسْرَى ، قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - فَجَلَسَ عَلَيْهَا ، قَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ " نَعَمْ
" ، قَالَتْ فَتَحَوّلْ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُمْنَى ، قَالَتْ
فَتَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَلَسَ عَلَى
فَخِذِهَا الْيُمْنَى ، فَقَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ " نَعَمْ " ،
قَالَتْ فَتَحَوّلْ فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي ، قَالَتْ فَتَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَلَسَ فِي حِجْرِهَا ، قَالَتْ هَلْ تَرَاهُ
؟ قَالَ " نَعَمْ " ، قَالَ فَتَحَسّرَتْ وَأَلْقَتْ خِمَارَهَا -
وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا - ثُمّ
قَالَتْ لَهُ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ " لَا " ، قَالَتْ يَا ابْنَ عَمّ
اُثْبُتْ وَأَبْشِرْ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَمَلَكٌ وَمَا هَذَا بِشَيْطَانِ قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ حَسَنٍ هَذَا الْحَدِيثَ
فَقَالَ قَدْ سَمِعْت أُمّيّ فَاطِمَةَ بِنْتَ حُسَيْنِ تُحَدّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ
عَنْ خَدِيجَةَ إلّا أَنّي سَمِعْتهَا تَقُولُ أَدَخَلْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِرْعِهَا ، فَذَهَبَ عِنْدَ ذَلِكَ
جِبْرِيلُ فَقَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ هَذَا
لَمَلَكٌ وَمَا هُوَ بِشَيْطَان [ ص 409 ] [ ص 410 ] [ ص 411 ]Sكَيْفِيّةُ
الْوَحْيِ
[ ص 401 ] وَذَكَرَ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ فِي الْحَدِيثِ فَأَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ وَقَالَ فِي
آخِرِهِ فَهَبَبْت مِنْ نَوْمِي ، فَكَأَنّمَا كَتَبْت فِي قَلْبِي كِتَابًا ،
وَلَيْسَ ذِكْرُ النّوْمِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَلَا غَيْرِهَا ، بَلْ فِي
حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مَا يَدُلّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنّ نُزُولَ
جِبْرِيلَ حِينَ نَزَلَ بِسُورَةِ اقْرَأْ كَانَ فِي الْيَقِظَةِ لِأَنّهَا
قَالَتْ فِي أَوّلِ الْحَدِيثِ أَوّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الرّؤْيَا الصّادِقَةُ كَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلّا
جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصّبْحِ ثُمّ حَبّبَ اللّهُ إلَيْهِ الْخَلَاءَ - إلَى
قَوْلِهَا - حَتّى جَاءَهُ الْحَقّ ، وَهُوَ بِغَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ
جِبْرِيلُ . فَذَكَرَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنّ الرّؤْيَا كَانَتْ قَبْلَ
نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَى النّبِيّ - عَلَيْهِ السّلَامُ - بِالْقُرْآنِ وَقَدْ
يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - جَاءَهُ جِبْرِيلُ فِي الْمَنَامِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ فِي
الْيَقِظَةِ تَوْطِئَةً وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِ وَرِفْقًا بَهْ لِأَنّ أَمْرَ
النّبُوءَةِ عَظِيمٌ وَعِبْؤُهَا ثَقِيلٌ وَالْبَشَرُ ضَعِيفٌ وَسَيَأْتِي فِي
حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ مَقَالَةِ الْعُلَمَاءِ مَا يُؤَكّدُ هَذَا
وَيُصَحّحُهُ وَقَدْ ثَبَتَ بِالطّرُقِ الصّحَاحِ عَنْ عَامِرٍ الشّعْبِيّ أَنّ
رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وُكّلَ بَهْ إسْرَافِيلُ
فَكَانَ يَتَرَاءَى لَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَيَأْتِيهِ بِالْكَلِمَةِ مِنْ
الْوَحْيِ وَالشّيْءِ ثُمّ وُكّلَ بَهْ جِبْرِيلُ فَجَاءَهُ بِالْقُرْآنِ
وَالْوَحْيِ فَعَلَى هَذَا كَانَ نُزُولُ الْوَحْيِ عَلَيْهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فَمِنْهَا : النّوْمُ كَمَا فِي
حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَكَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ أَيْضًا : أَوّلُ مَا بُدِئَ
بِهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الرّؤْيَا الصّادِقَةُ
وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السّلَامُ { إِنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنّي
أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ { افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ
} [ الصّافّاتُ 102 ] ، فَدَلّ عَلَى أَنّ الْوَحْيَ كَانَ يَأْتِيهِمْ فِي
الْمَنَامِ كَمَا يَأْتِيهِمْ فِي الْيَقَظَةِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَنْفُثَ فِي
رَوْعِهِ الْكَلَامَ نَفْثًا ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ إنّ رُوحَ
الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتّى تَسْتَكْمِلَ
أَجَلَهَا وَرِزْقَهَا ، فَاتّقُوا اللّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطّلَبِ [ ص 402 ]
مُجَاهِدٌ ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسّرِينَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَمَا كَانَ
لِبَشَرِ أَنْ يُكَلّمَهُ اللّهُ إلّا وَحْيًا } [ الشّورَى : 51 ] . قَالَ هُوَ
أَنْ يَنْفُثَ فِي رَوْعِهِ بِالْوَحْيِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَأْتِيَهُ الْوَحْيُ
فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدّهُ عَلَيْهِ وَقِيلَ إنّ ذَلِكَ
لَيَسْتَجْمِعُ قَلْبُهُ عِنْدَ تِلْكَ الصّلْصَلَةَ ، فَيَكُونُ أَوْعَى لِمَا
يَسْمَعُ وَأَلْقَنِ لِمَا يَلْقَى . وَمِنْهَا : أَنْ يَتَمَثّلَ لَهُ الْمَلَكُ
رَجُلًا ، فَقَدْ كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ دِحْيَةِ بْنِ خَلِيفَةَ وَيُرْوَى
أَنّ دِحْيَةَ إذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَمْ تَبْقَ مُعْصِرٌ إلّا خَرَجَتْ
تَنْظُرُ إلَيْهِ لِفَرْطِ جَمَالِهِ . وَقَالَ ابْنُ سَلّامٍ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا } [ الْجُمُعَةُ 11 ] .
قَالَ كَانَ اللّهْوُ نَظَرَهُمْ إلَى وَجْهِ دِحْيَةَ لِجَمَالِهِ . وَمِنْهَا :
أَنْ يَتَرَاءَى لَهُ جِبْرِيلُ فِي صُورَتِهِ الّتِي خَلَقَهُ اللّهُ فِيهَا ،
لَهُ سِتّمِائَةِ جَنَاحٍ يَنْتَشِرُ مِنْهَا اللّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ .
وَمِنْهَا : أَنْ يُكَلّمَهُ اللّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ إمّا فِي الْيَقَظَةِ
كَمَا كَلّمَهُ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَإِمّا فِي النّوْمِ كَمَا قَالَ فِي
حَدِيثِ مُعَاذٍ الّذِي رَوَاهُ التّرْمِذِيّ ، قَالَ أَتَانِي رَبّي فِي أَحْسَنِ
صُورَةٍ فَقَالَ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ، فَقُلْت : لَا أَدْرِي .
فَوَضَعَ كَفّهُ بَيْنَ كَتِفَيْ فَوَجَدَتْ بَرْدَهَا بَيْنَ ثُنْدُوَتَيّ
وَتَجَلّى لِي عَلَمُ كُلّ شَيْءٍ وَقَالَ يَا مُحَمّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ
الْمَلَأُ الْأَعْلَى ، فَقُلْت : فِي الْكَفّارَاتِ فَقَالَ وَمَا هُنّ ؟ فَقُلْت
: الْوُضُوءُ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ وَنَقْلُ الْأَقْدَامِ إلَى الْحَسَنَاتِ
وَانْتِظَارُ الصّلَوَاتِ بَعْدَ الصّلَوَاتِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ حَمِيدًا
، وَمَاتَ حَمِيدًا ، وَكَانَ مِنْ ذَنْبِهِ كَمَنْ وَلَدَتْهُ أُمّهُ وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ . فَهَذِهِ سِتّةُ أَحْوَالٍ وَحَالَةُ سَابِعَةٌ قَدْ قَدّمْنَا
ذِكْرَهَا ، وَهِيَ نُزُولُ إسْرَافِيلَ عَلَيْهِ بِكَلِمَاتِ مِنْ الْوَحْيِ
قِيلَ جِبْرِيلُ فَهَذِهِ سَبْعُ صُوَرٍ فِي كَيْفِيّةِ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى
مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَمْ أَرَ أَحَدًا جَمَعَهَا كَهَذَا
الْجَمْعِ وَقَدْ اسْتَشْهَدْنَا عَلَى صِحّتهَا بِمَا فِيهِ غنية ، وَقَدْ
أَمْلَيْنَا أَيْضًا فِي حَقِيقَةِ رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ رَبّهُ فِي
الْمَنَامِ عَلَى أَحْسَنِ صُورَةٍ وَيُرْوَى : عَلَى صُورَةِ شَابّ مَسْأَلَةٌ
بَدِيعَةٌ كَاشِفَةٌ لِقِنَاعِ اللّبْسِ فَلْتُنْظَرْ هُنَالِكَ .
مِنْ تَفْسِيرِ حَدِيثِ الْوَحْيِ
[ ص 403 ] وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ بِنَمَطِ مِنْ دِيبَاجٍ
فِيهِ كِتَابٌ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسّرِينَ فِي قَوْلِهِ وَقَالَ
ابْنُ سَلّامٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رِيبَ فِيه }
إنّهَا إشَارَةٌ إلَى الْكِتَابِ الّذِي جَاءَهُ بِهِ جِبْرِيلُ حِينَ قَالَ
اقْرَأْ وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذِهِ مِنْهَا : أَنّهَا إشَارَةٌ إلَى
مَا تَضَمّنَهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ الم ؛ لِأَنّ هَذِهِ الْحُرُوفُ
الْمُقَطّعَةُ تَضَمّنَتْ مَعَانِيَ الْكِتَابِ كُلّهِ فَهِيَ كَالتّرْجَمَةِ لَهُ
.
مَعْنَى { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ }
وَقَوْلِهِ مَا أَنَا بِقَارِئِ أَيْ إنّي أُمّيّ ، فَلَا أَقْرَأُ الْكُتُبَ
قَالَهَا ثَلَاثًا فَقِيلَ لَهُ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ } أَيْ إنّك لَا
تَقْرَؤُهُ بِحَوْلِك ، وَلَا بِصِفّةِ نَفْسِك ، وَلَا بِمَعْرِفَتِك ، وَلَكِنْ
اقْرَأْ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبّك مُسْتَعِينًا بِهِ فَهُوَ يُعَلّمُك كَمَا
خَلَقَك وَكَمَا نَزَعَ عَنْك عَلَقَ الدّمِ وَمَغْمَزَ الشّيْطَانِ بَعْدَمَا
خَلَقه فِيك ، كَمَا خَلَقَهُ فِي كُلّ إنْسَانٍ . وَالْآيَتَانِ المتقدمتان
لِمُحَمّدِ وَالْآخِرَتَانِ لِأُمّتِهِ وَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى : الّذِي عَلّمَ
بِالْقَلَمِ عَلّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ لِأَنّهَا كَانَتْ أُمّةٌ
أُمّيّةٌ لَا تَكْتُبُ فَصَارُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَأَصْحَابَ قَلَمٍ فَتَعَلّمُوا
الْقُرْآنَ بِالْقَلَمِ وَتَعَلّمَهُ نَبِيّهُمْ تَلْقِينًا مِنْ جِبْرِيلَ
نَزّلَهُ عَلَى قَلْبِهِ بِإِذْنِ اللّهِ لِيَكُونَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ .
حَوْلَ بِسْمِ اللّهِ
فَصْلٌ وَفِي قَوْلِهِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ } مِنْ الْفِقْهِ وُجُوبُ
اسْتِفْتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِبَسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ غَيْرَ أَنّهُ
أَمْرٌ مُبْهَمٌ لَمْ يُبَيّنْ لَهُ بِأَيّ اسْمٍ مِنْ أَسَمَاء رَبّهِ يَفْتَتِحُ
حَتّى جَاءَ الْبَيَانُ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ { بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا } [ هُود
: 41 ] ثُمّ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنّهُ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ }
[ النّمْلُ 30 ] . ثُمّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْزِلُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ بِبَسْمِ
اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مَعَ كُلّ سُورَةٍ وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي سَوَادِ
الْمُصْحَفِ بِإِجْمَاعِ مِنْ الصّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ وَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ
مِنْ مُصْحَفِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيّ ، فَشُذُوذٌ فَهِيَ عَلَى هَذَا مِنْ
الْقُرْآنِ إذْ لَا يُكْتَبُ فِي الْمُصْحَفِ مَا لَيْسَ بِقُرْآنِ وَلَا
يَلْتَزِمُ قَوْلُ الشّافِعِيّ أَنّهَا آيَةٌ مِنْ كُلّ سُورَةٍ وَلَا أَنّهَا
آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ بَلْ نَقُولُ إنّهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى
، مُقْتَرِنَةٌ مَعَ السّورَةِ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ [
ص 404 ] فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : سَحَرَ مُحَمّدٌ الْجِبَالَ ذَكَرَهُ النّقّاشُ
وَإِنْ صَحّ مَا ذَكَرَهُ فَلِمَعْنَى مَا سَبّحَتْ عِنْدَ نُزُولِهَا خَاصّةً
وَذَلِكَ أَنّهَا آيَةٌ أُنْزِلَتْ عَلَى آلِ دَاوُد ، وَقَدْ كَانَتْ الْجِبَالُ
تُسَبّحُ مَعَ دَاوُد ، كَمَا قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { إِنّا سَخّرْنَا
الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بِالْعَشِيّ وَالْإِشْرَاقِ } [ ص : 18 ] وَقَالَ {
إِنّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنّهُ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ } [
النّمْلُ 30 ] . وَفِي الْحَدِيثِ ذَكَرَ نَمَطَ الدّيبَاجِ مِنْ الْكِتَابِ
وَفِيهِ دَلِيلٌ وَإِشَارَةٌ إلَى أَنّ هَذَا الْكِتَابَ يُفْتَحُ عَلَى أُمّتِهِ
مُلْكَ الْأَعَاجِمِ ، وَيَسْلُبُونَهُمْ الدّيبَاجَ وَالْحَرِيرَ الّذِي كَانَ
زَيّهُمْ وَزِينَتَهُمْ وَبَهْ أَيْضًا يُنَالُ مُلْكُ الْآخِرَةِ وَلِبَاسُ
الْجَنّةِ وَهُوَ الْحَرِيرُ وَالدّيبَاجُ وَفِي سِيَرِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ،
وَسِيَرِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُعْتَمِرِ زِيَادَةٌ وَهُوَ أَنّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ
بدرنوك مِنْ دِيبَاجٍ مَنْسُوجٍ بِالدّرّ وَالْيَاقُوتِ فَأَجْلَسَهُ عَلَيْهِ
غَيْرَ أَنّ مُوسَى بْنَ عُقْبَةَ قَالَ بِبِسَاطِ وَلَمْ يَقُلْ دَرِنُوك ،
وَقَالَ فِي سِيَرِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ إنّ اللّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِ {
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } الْآيَاتِ كَأَنّهُ يُشِيرُ بِهِ فَمَسَحَ
جِبْرِيلُ صَدْرَهُ وَقَالَ اللّهُمّ اشْرَحْ صَدْرَهُ وَارْفَعْ ذِكْرَهُ وَضَعْ
عَنْهُ وِزْرَهُ وَيُصَحّحُ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ أَنّ اللّهَ تَعَالَى
أَنْزَلَ عَلَيْهِ { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } الْآيَاتِ كَأَنّهُ يُشِيرُ
إلَى ذَلِكَ الدّعَاءِ الّذِي كَانَ مِنْ جِبْرِيلَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
الْغَطّ
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ فَغَطّنِي ، وَيُرْوَى : فَسَأَبَنِي ، وَيُرْوَى :
سأتني ، وَأَحْسَبُهُ أَيْضًا يُرْوَى : فَذَعَتَنِي وَكُلّهَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ
وَهُوَ الْخَنْقُ وَالْغَمّ ، وَمِنْ الذّعْتِ حَدِيثُهُ الْآخَرُ أَنّ
الشّيْطَانَ عَرَضَ لَهُ وَهُوَ يُصَلّي قَالَ فَذَعْتهُ حَتّى وَجَدْت بَرْدَ
لِسَانِهِ عَلَى يَدَيْ ثُمّ ذَكَرْت قَوْلَ أَخِي [ ص 405 ] وَقَالَ ابْنُ
سَلّامٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : رَبّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ
مِنْ بَعْدِي الْحَدِيثُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ إظْهَارٌ لِلشّدّةِ وَالْجَدّ فِي
الْأَمْرِ وَأَنْ يَأْخُذَ الْكِتَابَ بِقُوّةِ وَيَتْرُكُ الْأَنَاةَ فَإِنّهُ
أَمْرٌ لَيْسَ بِالْهُوَيْنَى ، وَقَدْ انْتَزَعَ بَعْضُ التّابِعِينَ وَهُوَ
شُرَيْحٌ الْقَاضِي مِنْ هَذَا : أَلّا يُضْرَبَ الصّبِيّ عَلَى الْقُرْآنِ إلّا
ثَلَاثًا كَمَا غَطّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثَلَاثًا ، وَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ ذَلِكَ فِي
نَوْمِهِ كَانَ يَكُونُ فِي تِلْكَ الْغَطّاتِ الثّلَاثِ مِنْ التّأْوِيلِ ثَلَاثُ
شَدَائِدَ يُبْتَلَى بِهَا أَوّلًا ، ثُمّ يَأْتِي الْفَرَجُ وَالرّوحُ وَكَذَلِك
كَانَ لَقِيَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ شِدّةً مِنْ الْجُوعِ فِي شِعْبِ الْخَيْفِ ،
حِينَ تَعَاقَدَتْ قُرَيْشٌ أَلّا يَبِيعُوا مِنْهُمْ وَلَا يَتْرُكُوا مِيرَةً
تَصِلُ إلَيْهِمْ وَشِدّةٌ أُخْرَى مِنْ الْخَوْفِ وَالْإِيعَادِ بِالْقَتْلِ
وَشِدّةٌ أُخْرَى مِنْ الْإِجْلَاءِ عَنْ أَحَبّ الْأَوْطَانِ إلَيْهِ ثُمّ
كَانَتْ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ .
مَا أَنَا بِقَارِئِ
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ : اقْرَأْ قَالَ مَا أَقْرَأُ يَحْتَمِلُ
أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا ، يُرِيدُ أَيّ شَيْءٍ أَقْرَأُ ؟ وَيَحْتَمِلُ
أَنْ تَكُونَ نَفْيًا ، وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِمٍ تَدُلّ عَلَى أَنّهُ
أَرَادَ النّفْيَ أَيْ مَا أُحْسِنُ أَنْ أَقْرَأَ كَمَا تَقَدّمَ مِنْ قَوْلِهِ
مَا أَنَا بِقَارِئِ .
رُؤْيَةُ جِبْرِيلَ وَمَعْنَى اسْمِهِ
[ ص 406 ] وَذَكَرَ رُؤْيَتَهُ لِجِبْرِيلَ وَهُوَ صَافّ قَدَمَيْهِ وَفِي حَدِيثِ
جَابِرٍ أَنّهُ رَآهُ عَلَى رَفْرَفٍ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَيُرْوَى :
عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيّ الّذِي
ذَكَرَهُ فِي آخِرِ الْجَامِعِ أَنّهُ حِينَ فَتَرَ عَنْهُ الْوَحْيُ كَانَ
يَأْتِي شَوَاهِقَ الْجِبَالِ يُهِمّ بِأَنْ يُلْقِي نَفْسَهُ مِنْهَا ، فَكَانَ
جِبْرِيلُ يَتَرَاءَى لَهُ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَقُولُ لَهُ أَنْتَ
رَسُولُ اللّهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ . وَاسْمُ جِبْرِيلَ سُرْيَانِيّ ، وَمَعْنَاهُ
عَبْدُ الرّحْمَنِ أَوْ عَبْدُ الْعَزِيزِ . هَكَذَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ
مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا أَيْضًا ، وَالْوَقْفُ أَصْلُهُ . وَأَكْثَرُ النّاسِ
عَلَى أَنّ آخِرَ الِاسْمِ مِنْهُ هُوَ اسْمُ اللّهِ وَهُوَ إيّلُ وَكَانَ
شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللّهُ يَذْهَبُ مَذْهَبِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي
أَنّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إضَافَتُهَا مَقْلُوبَةٌ وَكَذَلِكَ الْإِضَافَةُ فِي
كَلَامِ الْعَجَمِ ، يَقُولُونَ فِي غُلَامِ زَيْدٍ زَيْدٌ غُلَامٌ فَعَلَى هَذَا
يَكُونُ إيل عَبّارَةً عَنْ الْعَبْدِ وَيَكُونُ أَوّلَ الِاسْمِ عَبّارَةً عَنْ
اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللّهِ تَعَالَى ، أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ فِي حَدِيثِ
ابْنِ عَبّاسٍ : جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ كَمَا تَقُولُ عَبْدُ اللّهِ وَعَبْدُ
الرّحْمَنِ أَلَا تَرَى أَنّ لَفْظَ عَبْدٍ يَتَكَرّرُ بِلَفْظِ وَاحِدٍ
وَالْأَسْمَاءُ أَلْفَاظُهَا مُخْتَلِفَةٌ . حَوْلَ مَعْنَى إلْ وَخَرَافَةُ الرّهْبَانِ
وَأَمّا إلْ بِالتّشْدِيدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِلّا وَلَا ذِمّةً } [
التّوْبَةُ 10 ] فَحَذَارِ حَذَارِ مِنْ أَنْ تَقُولَ فِيهِ هُوَ اسْمُ اللّهِ
فَتُسَمّي اللّهَ بِاسْمِ لَمْ يُسَمّ بِهِ نَفْسَهُ أَلَا تَرَى أَنّ جَمِيعَ
أَسْمَاءِ اللّهِ تَعَالَى [ ص 407 ] نَكِرَةٌ وَحَاشَا لِلّهِ أَنْ يَكُونَ
اسْمُهُ نَكِرَةً وَإِنّمَا الْأَلّ كُلّ مَا لَهُ حُرْمَةٌ وَحَقّ ، فَمِمّا لَهُ
حَقّ وَيَجِبُ تَعْظِيمُهُ الْقَرَابَةُ وَالرّحِمُ وَالْجِوَارُ وَالْعَهْدُ
وَهُوَ مِنْ أَلَلْت : إذَا اجْتَهَدْت فِي الشّيْءِ وَحَافَظْت عَلَيْهِ وَلَمْ
تُضَيّعْهُ وَمِنْهُ الْأَلّ فِي السّيْرِ وَهُوَ الْجَدّ ، وَمِنْهُ قَوْلُ
الْكُمَيْتِ [ يَصِفُ رَجُلًا ] :
وَأَنْتَ مَا أَنْتَ فِي غَبْرَاءَ مُجْدِبَةٍ ... إذَا دَعَتْ أَلَلَيْهَا
الْكَاعِبُ الْفُضُلُ
يُرِيدُ اجْتَهَدْت فِي الدّعَاءِ وَإِذَا كَانَ الْأَلّ بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرَ
فَالْإِلّ بِالْكَسْرِ الِاسْمُ كَالذّبْحِ فِي الذّبْحِ فَهُوَ إذًا الشّيْءُ
الْمُحَافَظُ عَلَيْهِ وَقَوْلُ الصّدّيقِ [ عَنْ كَلَامِ مُسَيْلِمَةَ ] : هَذَا
كَلَامٌ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إلّ وَلَا بِرّ أَيْ لَمْ يَصْدُرْ عَنْ رُبُوبِيّةٍ
لِأَنّ الرّبُوبِيّةَ حَقّهَا وَاجِبٌ مُعَظّمٌ وَكَذَلِكَ فَسّرَهُ أَبُو
عُبَيْدٍ ، وَاتّفِقَ فِي اسْمِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنّهُ مُوَافِقٌ
مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيّةِ لِمَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيّا ، فَإِنّ
الْجَبْرَ هُوَ إصْلَاحُ مَا وَهَى ، وَجِبْرِيلُ مُوَكّلٌ بِالْوَحْيِ وَفِي
الْوَحْيِ إصْلَاحُ مَا فَسَدَ وَجَبْرُ مَا وَهَى مِنْ الدّينِ وَلَمْ يَكُنْ
مَعْرُوفًا بِمَكّةَ وَلَا بِأَرْضِ الْعَرَبِ فَلَمّا أَخْبَرَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَدِيجَةَ بِهِ انْطَلَقَتْ تَسْأَلُ مَنْ عِنْدَهُ
عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ كَعَدّاسِ وَنَسْطُور الرّاهِبِ فَقَالَ لَهَا : قُدّوسٌ
قُدّوسٌ أَنّى لِهَذَا الِاسْمِ أَنْ يُذْكَرَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ وَقَدْ
قَدّمْنَا هَذَا الْخَبَرَ عَنْهَا ، وَهُوَ فِي سِيَرِ التيمي لَمّا ذَكَرْنَاهُ
قَبْلَ وَفِي كِتَابِ الْمُعَيّطِي عَنْ أَشْهَبَ قَالَ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ
التّسَمّي بِجِبْرِيلَ أَوْ مَنْ يُسَمّي بِهِ وَلَدَهُ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَلَمْ
يُعْجِبْهُ .
مَعْنَى النّامُوسِ
[ ص 408 ] كَانَ يَأْتِي مُوسَى . النّامُوسُ صَاحِبُ سِرّ الْمَلَكِ قَالَ
بَعْضُهُمْ هُوَ صَاحِبُ سِرّ الْخَيْرِ وَالْجَاسُوسُ هُوَ صَاحِبُ سِرّ الشّرّ
وَقَدْ فَسّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَنْشَدَ
فَأَبْلِغْ يَزِيدَ إنْ عَرَضْت وَمُنْذِرًا ... عَمّهُمَا وَالْمُسْتَشِزّ
الْمُنَامِسَا
لِمَ ذُكِرَ مُوسَى وَلَمْ يُذْكَرْ عِيسَى
[ ص 409 ] ذَكَرَ وَرَقَةُ مُوسَى وَلَمْ يَذْكُرْ عِيسَى ، وَهُوَ أَقْرَبُ
لِأَنّ وَرَقَةَ كَانَ قَدْ تَنَصّرَ وَالنّصَارَى لَا يَقُولُونَ فِي عِيسَى :
إنّهُ نَبِيّ يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ إنّمَا يَقُولُونَ فِيهِ إنّ أُقْنُومًا مِنْ
الْأَقَانِيمِ الثّلَاثَةِ اللّاهُوتِيّةِ حَلّ بِنَاسُوتِ الْمَسِيحِ وَاتّحَدَ
بِهِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحُلُولِ وَهُوَ أُقْنُومُ
الْكَلِمَةِ وَالْكَلِمَةُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِلْمِ فَلِذَلِكَ كَانَ
الْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَيُخْبِرُ بِمَا فِي غَدٍ فَلَمّا
كَانَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِ النّصَارَى الْكَذَبَةِ عَلَى اللّهِ الْمُدّعِينَ
الْمُحَالِ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ عِيسَى إلَى ذِكْرِ مُوسَى لِعِلْمِهِ أَوْ
لِاعْتِقَادِهِ أَنّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى ، لَكِنْ وَرَقَةُ
قَدْ ثَبَتَ إيمَانُهُ بِمُحَمّدِ عَلَيْهِ السّلَامُ وَقَدْ قَدّمْنَا حَدِيثَ
التّرْمِذِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - رَآهُ فِي
الْمَنَامِ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ .
حَوْلَ هَاءِ السّكْتِ وَالْفِعْلِ تُدْرِكُ
وَقَوْلُ وَرَقَةَ لَتُكَذّبَنّهْ وَلَتُؤْذَيَنّهْ وَلَا يُنْطَقُ بِهَذِهِ
الْهَاءِ إلّا سَاكِنَةً لِأَنّهَا هَاءُ السّكْتِ وَلَيْسَتْ بِهَاءِ إضْمَارٍ .
وَقَوْلُهُ إنْ أُدْرِكْ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزّرًا ، وَقَالَ
فِي الْحَدِيثِ إنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنّ وَرَقَةَ
سَابِقٌ بِالْوُجُودِ وَالسّابِقُ هُوَ الّذِي يُدْرِكُهُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ
كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَشْقَى النّاسِ مَنْ أَدْرَكَتْهُ السّاعَةُ وَهُوَ
حَيّ ، وَرِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ أَيْضًا لَهَا وَجْهٌ لِأَنّ الْمَعْنَى :
أَتَرَى ذَلِكَ الْيَوْمَ فَسَمّى رُؤْيَتَهُ إدْرَاكًا ، وَفِي التّنْزِيلِ لَا
تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أَيْ لَا تَرَاهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .
وَقَوْلُهُ مُؤَزّرًا مِنْ الْأَزْرِ وَهُوَ الْقُوّةُ وَالْعَوْنُ .
شَرْحُ أَوَمُخْرِجِيّ ؟
فَصْلٌ وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - قَالَ لِوَرَقَةِ أَوَمُخْرِجِيّ هُمْ لَا بُدّ مِنْ تَشْدِيدِ
الْيَاءِ فِي مُخْرِجِيّ لِأَنّهُ جَمْعٌ ، وَالْأَصْلُ مُخْرِجُوِيَ فَأُدْغِمَتْ
الْوَاوُ فِي الْيَاءِ وَهُوَ خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مُقَدّمٌ وَلَوْ كَانَ
الْمُبْتَدَأُ اسْمًا ظَاهِرًا لَجَازَ تَخْفِيفُ الْيَاءِ وَيَكُونُ الِاسْمُ
الظّاهِرُ فَاعِلًا لَا مُبْتَدَأً كَمَا تَقُولُ أَضَارِبٌ قَوْمُك ، أَخَارِجٌ
إخْوَتُك فَتَفَرّدَ لِأَنّك رَفَعْت بِهِ فَاعِلًا ، وَهُوَ حَسَنٌ فِي مَذْهَبِ
سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ وَلَوْلَا الِاسْتِفْهَامُ مَا جَازَ الْإِفْرَادُ إلّا
عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ فَإِنّهُ يَقُولُ قَائِمٌ الزّيْدُون دُونَ
اسْتِفْهَامٍ فَإِنْ كَانَ الِاسْمُ الْمُبْتَدَأُ مِنْ الْمُضَمّرَاتِ نَحْوُ
أَخَارِجٌ أَنْتَ [ ص 401 ] وَأَقَائِمٌ هُوَ ؟ لَمْ يَصِحّ فِيهِ إلّا
الِابْتِدَاءُ لِأَنّ الْفَاعِلَ إذَا كَانَ مُضْمَرًا لَمْ يَكُنْ مُنْفَصِلًا
لَا تَقُولُ قَامَ أَنَا ، وَلَا ذَهَبَ أَنْتَ وَكَذَلِكَ لَا تَقُولُ أَذَاهِبٌ
أَنْتَ عَلَى حَدّ الْفَاعِلِ وَلَكِنْ عَلَى الْمُبْتَدَإِ وَإِذَا كَانَ عَلَى
حَدّ الْمُبْتَدَإِ فَلَا بُدّ مِنْ جَمْعِ الْخَبَرِ ، فَعَلَى هَذَا تَقُولُ
أَمُخْرِجِيّ هُمْ تُرِيدُ مُخْرِجُونَ ثُمّ أُضِيفَ إلَى الْيَاءِ وَحُذِفَتْ
النّونُ وَأُدْغِمَتْ الْوَاوُ كَمَا يَقْتَضِي الْقِيَاسُ .
حَوْلَ الْيَافُوخِ وَالذّهَابِ إلَى وَرَقَةَ
فَصْلٌ وَذُكِرَ أَنّ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ لَقِيَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ
فَقَبّلَ يَافُوخَهُ قَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ الْيَافُوخِ وَأَنّهُ يَفْعُولُ
مَهْمُوزٌ وَأَنّهُ لَا يُقَالُ فِي رَأْسِ الطّفْلِ يَافُوخٌ حَتّى يَشْتَدّ
وَإِنّمَا يُقَالُ لَهُ الْغَاذِيَةُ وَذَكَرْنَا قَوْلَ الْعَجّاجِ ضَرْبٌ إذَا
أَصَابَ الْيَآفِيخَ حَفَرٌ . وَلَوْ كَانَ يَافُوخٌ فَاعُولًا ، كَمَا ظَنّ
بَعْضُهُمْ لَمْ يَجُزْ هَمْزُهُ فِي الْوَاحِدِ . وَلَا فِي الْجَمْعِ وَفِي
رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ بِسَنَدِهِ إلَى أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو
بْنِ شُرَحْبِيلَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ
لِخَدِيجَةَ إنّي إذَا خَلَوْت وَحْدِي سَمِعْت نِدَاءً وَقَدْ خَشِيت وَاَللّهِ
أَنْ يَكُونَ لِهَذَا أَمْرٌ " . قَالَتْ مَعَاذَ اللّهِ مَا كَانَ اللّهُ
لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِك . فَوَاَللّهِ إنّك لَتُؤَدّي الْأَمَانَةَ وَتَصِلُ
الرّحِمَ . وَتُصَدّقُ الْحَدِيثَ فَلَمّا دَخَلَ أَبُو بَكْر ، وَلَيْسَ [
عِنْدَهَا ] رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ ذَكَرَتْ
خَدِيجَةُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَتْ يَا عَتِيقُ اذْهَبْ مَعَ مُحَمّدٍ إلَى وَرَقَةَ
فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَخَذَ أَبُو
بَكْر بِيَدِهِ . فَقَالَ انْطَلِقْ بِنَا إلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ . فَقَالَ
" وَمَنْ أَخْبَرَك " ؟ قَالَ خَدِيجَةُ فَانْطَلَقَا إلَيْهِ فَقَصّا
عَلَيْهِ فَقَالَ إنّي إذَا خَلَوْت وَحْدِي سَمِعْت نِدَاءً خَلْفِي : يَا
مُحَمّدُ يَا مُحَمّدُ فَأَنْطَلِقُ هَارِبًا فِي الْأَرْضِ فَقَالَ لَهُ لَا
تَفْعَلْ إذَا أَتَاك فَاثْبُتْ حَتّى تَسْمَعَ مَا يَقُولُ لَك . ثُمّ ائْتِنِي ،
فَأَخْبَرَنِي ، فَلَمّا خَلَا نَادَاهُ يَا مُحَمّدُ قُلْ بِسْمِ اللّهِ
الرّحْمَنِ الرّحِيمِ . الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . حَتّى بَلَغَ وَلَا
الضّالّينَ . قُلْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ . فَأَتَى وَرَقَةَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ
فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ أَبْشِرْ ثُمّ أَبْشِرْ فَأَنَا أَشْهَدُ أَنّك الّذِي
بَشّرَ بِهِ ابْنُ مَرْيَمَ ، وَأَنّك عَلَى مِثْلِ نَامُوسِ مُوسَى ، وَأَنّك
نَبِيّ مُرْسَلٌ وَأَنّك سَتُؤْمَرُ بِالْجِهَادِ بَعْدَ يَوْمِك هَذَا . وَلَئِنْ
أَدْرَكَنِي ذَلِكَ لَأُجَاهِدَنّ مَعَك . فَلَمّا تُوُفّيَ وَرَقَةُ قَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَقَدْ رَأَيْت الْقَسّ فِي
الْجَنّةِ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ الْحَرِيرِ لِأَنّهُ آمَنْ بِي وَصَدّقَنِي يَعْنِي
: وَرَقَةَ وَفِي رِوَايَةٍ [ ص 411 ] قَالَ لِرَجُلِ سَبّ وَرَقَةَ أَمَا
عَلِمَتْ أَنّي رَأَيْت لِوَرَقَةِ جَنّةً أَوْ جَنّتَيْنِ وَهَذَا الْحَدِيثُ
الْأَخِيرُ قَدْ أَسْنَدَهُ الْبَزّارُ .
لَقَدْ خَشِيت عَلَى نَفْسِي
فَصْلٌ وَفِي الصّحِيحِ أَنّهُ قَالَ لِخَدِيجَةَ لَقَدْ خَشِيت عَلَى نَفْسِي
وَتَكَلّمَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْخَشْيَةِ بِأَقْوَالِ كَثِيرَةٍ
فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيّ إلَى أَنّ هَذِهِ الْخَشْيَةَ كَانَتْ
مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنّ الّذِي جَاءَهُ مَلَكٌ مِنْ
عِنْدِ اللّهِ وَكَانَ أَشَقّ شَيْءٍ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ مَجْنُونٌ
وَلَمْ يَرَ الْإِسْمَاعِيلِيّ أَنّ هَذَا مُحَالٌ فِي مَبْدَإِ الْأَمْرِ لِأَنّ
الْعِلْمَ الضّرُورِيّ قَدْ لَا يَحْصُلُ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَضَرَبَ مَثَلًا
بِالْبَيْتِ مِنْ الشّعْرِ تَسْمَعُ أَوّلَهُ فَلَا تَدْرِي أَنَظْمٌ هُوَ أَمْ
نَثْرٌ فَإِذَا اسْتَمَرّ الْإِنْشَادُ عَلِمْت قَطْعًا أَنّهُ قَصَدَ بِهِ قَصْدَ
الشّعْرِ كَذَلِكَ لَمّا اسْتَمَرّ الْوَحْيُ وَاقْتَرَنَتْ بِهِ الْقَرَائِنُ
الْمُقْتَضِيَةُ لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيّ حَصَلَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيّ ، وَقَدْ
أَثْنَى اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِهَذَا الْعِلْمِ فَقَالَ { آمَنَ الرّسُولُ
بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } إلَى قَوْلِهِ {
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } فَإِيمَانُهُ بِاَللّهِ
وَبِمَلَائِكَتِهِ إيمَانٌ كَسْبِيّ مَوْعُودٌ عَلَيْهِ بِالثّوَابِ الْجَزِيلِ
كَمَا وَعَدَ عَلَى سَائِرِ أَفْعَالِهِ الْمُكْتَسِبَةِ كَانَتْ مِنْ أَفْعَالِ
الْقَلْبِ أَوْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ لَقَدْ خَشِيت
عَلَى نَفْسِي أَيْ خَشِيت أَلّا أَنْهَضَ بِأَعْبَاءِ النّبُوّةِ وَأَنْ أَضْعُفَ
عَنْهَا ، ثُمّ أَزَالَ اللّهُ خَشْيَتَهُ وَرَزَقَهُ الْأَيْدَ وَالْقُوّةَ
وَالثّبَاتَ وَالْعِصْمَةَ وَقَدْ قِيلَ إنّ خَشْيَتَهُ كَانَتْ مِنْ قَوْمِهِ
أَنْ يَقْتُلُوهُ وَلَا غَرْوَ فَإِنّهُ بَشَرٌ يَخْشَى مِنْ الْقَتْلِ
وَالْإِذَايَةِ الشّدِيدَةِ مَا يَخْشَاهُ الْبَشَرُ ثُمّ يُهَوّنُ عَلَيْهِ
الصّبْرُ فِي ذَاتِ اللّهِ كُلّ خَشْيَةٍ وَيَجْلِبُ إلَى قَلْبِهِ كُلّ شَجَاعَةٍ
وَقُوّةٍ وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى الْخَشْيَةِ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذِهِ رَغِبْت
عَنْ التّطْوِيلِ بِذِكْرِهَا .
ابْتِدَاءُ
تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ
[ ص 412 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَابْتُدِئَ رَسُولُ اللّهِ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُنّ بِالتّنْزِيلِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِقَوْلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ {
شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنّاسِ وَبَيّنَاتٍ
مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [ الْبَقَرَةُ 185 ] . وَقَالَ اللّهُ تَعَالَى :
{ إِنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ
الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزّلُ الْمَلَائِكَةُ
وَالرّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ مِنْ كُلّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ
الْفَجْرِ } الْقَدْرُ . وَقَالَ اللّهُ تَعَالَى : { حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ
إِنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ فِيهَا
يُفْرَقُ كُلّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ } [
الدّخَانُ 1 - 5 ] . وَقَالَ تَعَالَى : { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَمَا
أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ }
[ الْأَنْفَالُ 41 ] . وَذَلِكَ مُلْتَقَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَالْمُشْرِكِينَ بِبَدْرِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبُو
جَعْفَرٍ مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ حُسَيْنٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ بِبَدْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ .
صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشَرَةَ مِنْ رَمَضَانَ [ ص 413 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ
تَتَامّ الْوَحْيُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَهُوَ
مُؤْمِنٌ بِاَللّهِ مُصَدّقٌ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ قَدْ قَبِلَهُ بِقَبُولِهِ
وَتَحَمّلَ مِنْهُ مَا حَمّلَهُ عَلَى رِضَا الْعِبَادِ وَسَخَطِهِمْ وَالنّبُوّةُ
أَثْقَالٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يَحْمِلُهَا ، وَلَا يَسْتَطِيعُ بِهَا إلّا أَهْلُ
الْقُوّةِ وَالْعَزْمِ مِنْ الرّسُلِ بِعَوْنِ اللّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ
لِمَا يَلْقَوْنَ مِنْ النّاسِ وَمَا يَرُدّ عَلَيْهِمْ مِمّا جَاءُوا بِهِ عَنْ
اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . قَالَ فَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَمْرِ اللّهِ عَلَى مَا يَلْقَى مِنْ قَوْمِهِ مِنْ
الْخِلَافِ وَالْأَذَىSمَتَى
نَزَلَ الْقُرْآنُ ؟
[ ص 412 ] وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ
فِيهِ الْقُرْآنُ } [ الْبَقَرَةُ 185 ] . إلَى آخِرِ الْآيَةِ مُسْتَشْهِدًا
بِذَلِكَ عَلَى أَنّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ مِنْ رَمَضَانَ وَهَذَا يَحْمِلُ تَأْوِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ
يَكُونَ أَرَادَ بَدْءَ النّزُولِ وَأَوّلَهُ لِأَنّ الْقُرْآنَ نَزَلَ فِي
أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ وَالثّانِي : مَا
قَالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ : أَنّهُ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً إلَى سَمَاءِ الدّنْيَا
، فَجَعَلَ فِي بَيْتِ الْعِزّةِ مَكْنُونًا فِي الصّحُفِ الْمُكَرّمَةِ
الْمَرْفُوعَةِ الْمُطَهّرَةِ ثُمّ نَزَلَتْ مِنْهُ الْآيَةُ بَعْدَ الْآيَةِ
وَالسّورَةُ بَعْدَ السّورَةِ فِي أَجْوِبَةِ السّائِلِينَ وَالنّوَازِلِ
الْحَادِثَةِ إلَى أَنْ تُوُفّيَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهَذَا
التّأْوِيلُ أَشْبَهُ بِالظّاهِرِ وَأَصَحّ فِي النّقْلِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
حَوْلُ إضَافَةِ شَهْرٍ إلَى رَمَضَانَ
[ ص 413 ] { شَهْرُ رَمَضَانَ } فَذَكَرَ الشّهْرَ مُضَافًا إلَى رَمَضَانَ
وَاخْتَارَ الْكُتّابُ وَالْمُوَثّقُونَ النّطْقَ بِهِ بِهَذَا اللّفْظِ دُونَ
أَنْ يَقُولُوا : كُتِبَ فِي رَمَضَانَ وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيّ وَالنّسَوِيّ
عَلَى جَوَازِ اللّفْظَيْنِ جَمِيعًا وَأَوْرَدَا حَدِيثَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ
" ، وَلَمْ يَقُلْ شَهْرَ رَمَضَانَ وَقَدْ بَيّنْت أَنّ لِكُلّ مَقَامٍ
مَقَامُهُ وَلَا بُدّ مِنْ ذِكْرِ شَهْرٍ فِي مَقَامٍ وَمَنْ حَذَفَهُ فِي مَقَامٍ
آخَرَ وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِهِ إذَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةُ
أَيْضًا فِي حَذْفِهِ إذَا حُذِفَ مِنْ اللّفْظِ وَأَيْنَ يَصْلُحُ الْحَذْفُ
وَيَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ الذّكْرِ كُلّ هَذَا مُبَيّنٌ فِي كِتَابِ "
نَتَائِجِ الْفِكْرِ " ، فَهُنَاكَ أَوْرَدْنَا فِيهِ فَوَائِدَ تَعْجِزُ
عَنْهَا هِمَمُ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ . أَدْنَاهَا تُسَاوِي رِخْلَةً عِنْدَ
مَنْ عَرَفَ قَدْرَهَا ، غَيْرَ أَنّا نُشِيرُ إلَى بَعْضِهَا ، فَنَقُولُ قَالَ
سِيبَوَيْهِ : وَمِمّا لَا يَكُونُ الْعَمَلُ إلّا فِيهِ كُلّهِ الْمُحَرّمُ
وَصَفَرٌ يُرِيدُ أَنّ الِاسْمَ الْعَلَمَ يَتَنَاوَلُ اللّفْظَ كُلّهُ وَذَلِكَ
إذَا قُلْت : الْأَحَدُ أَوْ الِاثْنَيْنِ فَإِنْ قُلْت يَوْمَ الْأَحَدِ أَوْ
شَهْرُ الْمُحَرّمِ كَانَ ظَرْفًا ، وَلَمْ يَجْرِ مَجْرَى الْمَفْعُولَاتِ
وَزَالَ الْعُمُومُ مِنْ اللّفْظِ لِأَنّك تُرِيدُ فِي الشّهْرِ وَفِي الْيَوْمِ
وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَلَمْ يَقُلْ شَهْرَ
رَمَضَانَ لِيَكُونَ الْعَمَلُ فِيهِ كُلّهِ وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى بَعْضِ تِلْكَ
الْفَوَائِدِ الّتِي أَحَكَمْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ .
حُبّ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَطَنَهُ
بَقِيّةٌ مِنْ حَدِيثِ وَرَقَةَ وَذَلِكَ أَنّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَتُكَذّبَنّهْ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَيْئًا ، ثُمّ قَالَ وَلَتُؤْذَيَنّهْ فَلَمْ يَقُلْ
لَهُ شَيْئًا ، ثُمّ قَالَ وَلَتُخْرَجَنّهْ فَقَالَ أَوَمُخْرَجِيّ هُمْ ؟ فَفِي
هَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُبّ الْوَطَنِ وَشِدّةِ مُفَارَقَتِهِ عَلَى النّفْسِ
وَأَيْضًا فَإِنّهُ حَرَمُ اللّهِ وَجِوَارُ بَيْتِهِ [ ص 414 ] أَبِيهِ
إسْمَاعِيلَ فَلِذَلِكَ تَحَرّكَتْ نَفْسُهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْخُرُوجِ مِنْهُ مَا
لَمْ تَتَحَرّكْ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ أَوَمُخْرَجِيّ هُمْ ؟ وَالْمَوْضِعُ
الدّالّ عَلَى تَحَرّكِ النّفْسِ وَتَحَرّقِهَا إدْخَالُ الْوَاوِ بَعْدَ أَلِفِ
الِاسْتِفْهَامِ مَعَ اخْتِصَاصِ الْإِخْرَاجِ بِالسّؤَالِ عَنْهُ وَذَلِكَ أَنّ
الْوَاوَ تُرَدّ إلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدّمِ وَتُشْعِرُ الْمُخَاطَبَ بِأَنّ الِاسْتِفْهَامَ
عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ أَوْ التّفَجّعِ لِكَلَامِهِ أَوْ التّأَلّمِ مِنْهُ .
ذِكْرُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حَسَنٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ ، وَقَوْلُهُ حَدّثَتْنِي أُمّي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ أَنّ
خَدِيجَةَ أَدَخَلَتْهُ بَيْنَ ثَوْبِهَا . الْحَدِيثَ عَبْدُ اللّهِ هَذَا هُوَ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَأُمّهُ
فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ أُخْتُ سُكَيْنَةَ وَاسْمُهَا : آمِنَةُ وَسُكَيْنَةُ
لَقَبٌ لَهَا الّتِي كَانَتْ ذَاتَ دُعَابَةٍ وَمَزْحٍ وَفِي سُكَيْنَةَ وَأُمّهَا
الرّبَابِ يَقُولُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ
كَأَنّ اللّيْلَ مَوْصُولٌ بِلَيْلِ ... إذَا زَارَتْ سُكَيْنَةُ وَالرّبَابُ
أَيْ زَادَتْ قَوْمُهَا ، وَهُمْ بَنُو عُلَيْمِ بْنِ جَنَابٍ مِنْ كَلْبٍ ، ثُمّ
مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ عُلَيْمٍ وَيُعْرَفُ بَنُو كَعْبِ بْنِ عُلَيْمٍ بِبَنِي
زَيْدَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ لِأَنّهُ اسْمُ أُمّهِمْ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ حَسَنٍ
هُوَ وَالِدُ الطّالِبِيّيْنِ الْقَائِمَيْنِ عَلَى بَنِي الْعَبّاسِ وَهُمْ
مُحَمّدٌ وَيَحْيَى وَإِدْرِيسُ مَاتَ إدْرِيسُ بِإِفْرِيقِيّةَ فَارّا مِنْ
الرّشِيدِ وَمَاتَ مَسْمُومًا فِي دُلَاعَةٍ أَكَلَهَا ، وَوَقَعَ فِي كِتَابِ
الزّبَيْرِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : قَالَ
آدَمُ عَلَيْهِ السّلَامُ مِمّا فَضَلّ بِهِ عَلِيّ ابْنَيْ صَاحِبِ الْبَعِيرِ
أَنّ زَوْجَهُ كَانَتْ عَوْنًا لَهُ عَلَى تَبْلِيغِ أَمْرِ اللّهِ وَأَنّ زَوْجِي
كَانَتْ عَوْنًا لِي عَلَى الْمَعْصِيَةِ .
إسْلَامُ
خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ
وَآمَنَتْ [ ص 414 ] خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَصَدّقَتْ بِمَا جَاءَهُ مِنْ
اللّهِ وَوَازَرَتْهُ عَلَى أَمْرِهِ وَكَانَتْ أَوّلَ مَنْ آمَنَ بِاَللّهِ
وَبِرَسُولِهِ وَصَدّقَ بِمَا جَاءَ مِنْهُ فَخَفّفَ اللّهُ بِذَلِكَ عَنْ
نَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا مِمّا يَكْرَهُهُ
مِنْ رَدّ عَلَيْهِ وَتَكْذِيبٍ لَهُ فَيَحْزُنُهُ ذَلِكَ إلّا فَرّجَ اللّهُ
عَنْهُ بِهِ إذَا رَجَعَ إلَيْهَا ، تُثَبّتُهُ وَتُخَفّفُ عَلَيْهِ وَتُصَدّقُهُ
وَتُهَوّنُ عَلَيْهِ أَمْرَ النّاسِ رَحِمَهَا اللّهُ تَعَالَى [ ص 415 ] قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ
الزّبَيْرِ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرْت أَنْ
أُبَشّرَ خَدِيجَةَ بِبَيْتِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبٌ فِيهِ وَلَا نَصَبٌ قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : الْقَصَبُ هَاهُنَا : اللّؤْلُؤُ الْمُجَوّفُ [ ص 416 ] [ ص 417 ]
[ ص 418 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ جِبْرِيلَ
عَلَيْهِ السّلَامُ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ
أَقْرِئْ خَدِيجَةَ السّلَامَ مِنْ رَبّهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا خَدِيجَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُك السّلَامَ مِنْ رَبّك
[ ص 419 ] فَقَالَتْ خَدِيجَةُ اللّهُ السّلَامُ وَمِنْهُ السّلَامُ وَعَلَى
جِبْرِيلَ السّلَامSحَدِيثُ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ خَدِيجَةَ
فَصْلٌ وَذِكْرُ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنّ
رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَمَرَ أَنّ [ ص 415 ]
خَدِيجَةَ بِبَيْتِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبٍ فِيهِ وَلَا نَصَبٍ . هَذَا حَدِيثٌ
مُرْسَلٌ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُتّصِلًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا غِرْت عَلَى أَحَدٍ مَا غِرْت عَلَى خَدِيجَةَ
وَلَقَدْ هَلَكْت قَبْلَ أَنْ يَتَزَوّجَنِي رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِثَلَاثِ سِنِينَ وَلَقَدْ أَمَرَ أَنْ يُبَشّرُهَا بِبَيْتِ
مِنْ قَصَبٍ فِي الْجَنّةِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا
تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ حَمْرَاءَ الشّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدّهْرِ قَدْ
أَبْدَلَك اللّهُ خَيْرًا مِنْهَا ، فَغَضِبَ وَقَالَ " وَاَللّهِ مَا
أَبْدَلَنِي اللّهُ خَيْرًا مِنْهَا ؛ آمَنَتْ بِي حِينَ كَذّبَنِي النّاسُ
وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا حِينَ حَرَمَنِي النّاسُ وَرُزِقْت الْوَلَدَ مِنْهَا ،
وَحُرِمْته مِنْ غَيْرِهَا وَرَوَى يُونُسُ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ
الْمَخْزُومِيّ قَالَ حَدّثَنَا أَبُو نَجِيحٍ قَالَ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَزُورٌ أَوْ لَحْمٌ فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَظْمًا مِنْهَا ، فَنَاوَلَهُ الرّسُولُ
بِيَدِهِ فَقَالَ اذْهَبْ بِهَذَا إلَى فُلَانَةَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَ
غَمَرْت يَدَك ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
مُغْضَبًا : " إنّ خَدِيجَةَ أَوْصَتْنِي بِهَا " ، فَغَارَتْ عَائِشَةُ
وَقَالَتْ لَكَأَنّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ امْرَأَةٌ إلّا خَدِيجَةَ فَقَامَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مُغْضَبًا ، فَلَبِثَ مَا
شَاءَ اللّهُ ثُمّ رَجَعَ فَإِذَا أُمّ رُومَانَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا
لَك وَلِعَائِشَةَ ؟ إنّهَا حَدَثَةٌ وَإِنّك أَحَقّ مَنْ تَجَاوَزَ عَنْهَا ،
فَأَخَذَ بِشِدْقِ عَائِشَةَ وَقَالَ أَلَسْت الْقَائِلَةَ " كَأَنّمَا
لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ امْرَأَةٌ إلّا خَدِيجَةُ وَاَللّهِ لَقَدْ آمَنَتْ بِي
إذْ كَفَرَ قَوْمُك ، وَرُزِقْت مِنّي الْوَلَدُ وَحُرِمْتُمُوهُ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ خَيْرُ نِسَائِهَا
: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا : خَدِيجَةُ وَالْهَاءُ فِي
نِسَائِهَا حِينَ ذَكَرَ مَرْيَمَ عَائِدَةً عَلَى السّمَاءِ وَالْهَاءُ فِي
نِسَائِهَا حِينَ ذَكَرَ خَدِيجَةَ عَائِدَةٌ عَلَى الْأَرْضِ وَذَلِكَ أَنّ هَذَا
الْحَدِيثَ رَوَاهُ وَكِيعٌ وَأَبُو أُسَامَةَ وَابْنُ نُمَيْرٍ فِي آخَرَيْنِ
وَأَشَارَ وَكِيعٌ مِنْ بَيْنَهُمْ حِينَ حَدّثَ بِالْحَدِيثِ بِإِصْبَعِهِ إلَى
السّمَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ مَرْيَمَ ، وَإِلَى الْأَرْضِ عِنْدَ ذِكْرِ [ ص 416 ]
خَدِيجَةَ ، وَهَذِهِ إشَارَةٌ لَيْسَتْ مِنْ رَأْيِهِ وَإِنّمَا هِيَ زِيَادَةٌ
مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَزِيَادَةُ
الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى إشَارَتِهِ إلَى
السّمَاءِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ ذِكْرِهِمَا ، أَيْ هُمَا خَيْرُ نِسَاءٍ بَيْنَ
السّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا أَثْبَتُ عِنْدِي بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ .
وَلَعَلّنَا أَنْ نَذْكُرَ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي التّفْضِيلِ بَيْنَ
مَرْيَمَ وَخَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُنّ - وَأَزْوَاجِ
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَا نَزَعَ بِهِ كُلّ فَرِيقٍ
مِنْهُمْ .
حَوْلَ مَا بُشّرَتْ بِهِ خَدِيجَةُ
وَأَمّا قَوْلُهُ بِبَيْتِ مِنْ قَصَبٍ فَقَدْ رَوَاهُ الْخَطّابِيّ مُفَسّرًا ،
وَقَالَ فِيهِ قَالَتْ خَدِيجَةُ : يَا رَسُولَ اللّهِ هَلْ فِي الْجَنّةِ قَصَبٌ
؟ فَقَالَ " إنّهُ قَصَبٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ مُجَبّى قَالَ الْخَطّابِيّ :
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مُجَوّبًا مِنْ قَوْلِك : جُبْت الثّوْبَ إذَا
خَرَقْته ، فَيَكُونُ مِنْ الْمَقْلُوبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ
مُجَبّبًا بِبَاءَيْنِ مِنْ الْجُبّ وَهُوَ الْقَطْعُ أَيْ قُطِعَ دَاخِلُهُ
وَقُلِبَتْ الْبَاءُ يَاءً كَمَا قَالُوا : تَظَنّيْتُ مِنْ الظّنّ وَتَقَصّيْت
أَظْفَارِي ، وَتَكَلّمَ أَصْحَابُ الْمَعَانِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالُوا :
كَيْفَ لَمْ يُبَشّرْهَا إلّا بِبَيْتِ وَأَدْنَى أَهْلِ الْجَنّةِ مَنْزِلَةً
مَنْ يُعْطَى مَسِيرَةَ أَلْفِ عَامٍ فِي الْجَنّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ ، وَكَيْفَ لَمْ يُنْعِتْ هَذَا الْبَيْتَ بِشَيْءِ
مِنْ أَوْصَافِ النّعِيمِ وَالْبَهْجَةِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْيِ الصّخَبِ وَهُوَ
رَفْعُ الصّوْتِ فَأَمّا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ فَقَالَ فِي كِتَابِ فَوَائِدِ
الْأَخْبَارِ لَهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنّهُ بُشّرَتْ بِبَيْتِ زَائِدٍ عَلَى مَا
أَعَدّ اللّهُ لَهَا مِمّا هُوَ ثَوَابٌ لِإِيمَانِهَا وَعَمَلِهَا ؛ وَلِذَلِكَ
قَالَ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ أَيْ لَمْ تَنْصِبْ فِيهِ وَلَمْ تَصْخَبْ .
أَيْ إنّمَا أَعْطَيْته زِيَادَةً عَلَى جَمِيعِ الْعَمَلِ الّذِي نَصَبَتْ فِيهِ
. قَالَ الْمُؤَلّفُ رَحِمَهُ اللّهُ لَا أَدْرِي مَا هَذَا التّأْوِيلُ وَلَا
يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَلَا يُوجَدُ شَاهِدٌ يُعَضّدُهُ وَأَمّا
الْخَطّابِيّ ، فَقَالَ الْبَيْتُ هَاهُنَا عِبَارَةٌ عَنْ قَصْرٍ وَقَدْ يُقَالُ
لِمَنْزِلِ الرّجُلِ بَيْتُهُ وَاَلّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ يُقَالُ فِي الْقَوْمِ
هُمْ أَهْلُ بَيْتِ شَرَفٍ وَبَيْتِ عِزّ وَفِي التّنْزِيلِ غَيْرُ بَيْتٍ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ لِذِكْرِ الْبَيْتِ هَاهُنَا بِهَذَا اللّفْظِ
وَلِقَوْلِهِ بِبَيْتِ وَلَمْ يَقُلْ بِقِصَرِ مَعْنًى لَائِقٍ بِصُورَةِ الْحَالِ
وَذَلِكَ أَنّهَا كَانَتْ رَبّةَ بَيْتِ إسْلَامٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَرْضِ
بَيْتُ إسْلَامٍ إلّا بَيْتَهَا حِينَ آمَنَتْ وَأَيْضًا فَإِنّهَا أَوّلُ مَنْ
بَنَى بَيْتًا فِي الْإِسْلَامِ بِتَزْوِيجِهَا رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَرَغْبَتِهَا فِيهِ وَجَزَاءُ الْفِعْلِ يُذْكَرُ بِلَفْظِ الْفِعْلِ
وَإِنْ كَانَ أَشْرَفَ مِنْهُ لِمَا جَاءَ مَنْ كَسَا مُسْلِمًا عَلَى عُرْيٍ
كَسَاهُ اللّهُ مِنْ حُلَلِ الْجَنّةِ وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَإِ
سَقَاهُ اللّهُ مِنْ الرّحِيق وَمِنْ [ ص 417 ] مَنْ بَنَى لِلّهِ مَسْجِدًا بَنَى
اللّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنّةِ لَمْ يَرِدْ مِثْلُهُ فِي كَوْنِهِ مَسْجِدًا
، وَلَا فِي صِفّتِهِ وَلَكِنْ قَابِلٌ الْبُنْيَانِ بِالْبُنْيَانِ أَيْ كَمَا
بَنَى يُبْنَى لَهُ كَمَا قَابِلُ الْكِسْوَةِ بِالْكِسْوَةِ وَالسّقْيَا
بِالسّقْيَا ، فَهَاهُنَا وَقَعَتْ الْمُمَاثَلَةُ لَا فِي ذَاتِ الْمَبْنِيّ أَوْ
الْمَكْسُوّ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَمِنْ هَاهُنَا اقْتَضَتْ الْفَصَاحَةُ أَنْ
يُعَبّرَ لَهَا عَمّا بُشّرَتْ بِهِ بِلَفْظِ الْبَيْتِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا
لَا عَيْنَ رَأَتْهُ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْهُ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ
وَمِنْ تَسْمِيَةِ الْجَزَاءِ عَلَى الْفِعْلِ بِالْفِعْلِ فِي عَكْسِ مَا
ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ } { وَمَكَرُوا
وَمَكَرَ اللّهُ } وَأَمّا قَوْلُهُ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ فَإِنّهُ
أَيْضًا مِنْ بَابِ مَا كُنّا بِسَبِيلِهِ لِأَنّهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ -
دَعَاهَا إلَى الْإِيمَانِ فَأَجَابَتْهُ عَفْوًا ، لَمْ تُحْوِجْهُ إلَى أَنْ
يَصْخَبَ كَمَا يَصْخَبُ الْبَعْلُ إذَا تَعَصّتْ عَلَيْهِ حَلِيلَتُهُ وَلَا أَنْ
يَنْصِبَ بَلْ أَزَالَتْ عَنْهُ كُلّ نَصَبٍ وَآنَسَتْهُ مِنْ كُلّ وَحْشَةٍ
وَهَوّنَتْ عَلَيْهِ كُلّ مَكْرُوهٍ وَأَرَاحَتْهُ بِمَا لَهَا مِنْ كُلّ كَدّ
وَنَصَبٍ فَوَصَفَ مَنْزِلَهَا الّذِي بُشّرَتْ بِهِ بِالصّفّةِ الْمُقَابِلَةِ
لِفَعَالِهَا وَصُورَتِهِ . وَأَمّا قَوْلُهُ مِنْ قَصَبٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ
لُؤْلُؤٍ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا ، وَلَكِنْ فِي اخْتِصَاصِهِ هَذَا
اللّفْظِ مِنْ الْمُشَاكَلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْمُقَابِلَةِ بِلَفْظِ
الْجَزَاءِ لِلَفْظِ الْعَمَلِ أَنّهَا - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - كَانَتْ قَدْ
أَحْرَزَتْ قَصَبَ السّبْقِ إلَى الْإِيمَانِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الرّجَالِ
وَالنّسْوَانِ . وَالْعَرَبُ تُسَمّي السّابِقَ مُحْرِزًا لِلْقَصْبِ . قَالَ
الشّاعِرُ
مَشَى ابْنُ الزّبَيْرِ الْقَهْقَرَى ، وَتَقَدّمَتْ ... أُمَيّةُ حَتّى
أَحْرَزُوا الْقَصَبَاتِ
فَاقْتَضَتْ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَعْبُرَ بِالْعِبَارَةِ الْمُشَاكِلَةِ
لِعَمَلِهَا فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ فَتَأَمّلْهُ .
الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ خَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ
[ ص 418 ] وَذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لِخَدِيجَةَ : " هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُك السّلَامَ مِنْ رَبّك الْحَدِيثُ
يُذْكَرُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ داود أَنّهُ سُئِلَ أَعَائِشَةُ أَفَضْلُ أَمْ
خَدِيجَةَ ؟ فَقَالَ " عَائِشَةُ أَقْرَأَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّلَامَ مِنْ جِبْرِيلَ وَخَدِيجَةُ أَقْرَأَهَا جِبْرِيلُ
السّلَامَ مِنْ رَبّهَا عَلَى لِسَانِ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- فَهِيَ أَفَضْلُ " ، قِيلَ لَهُ فَمَنْ أَفْضَلُ أَخَدِيجَةُ أَمْ
فَاطِمَةُ ؟ فَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ
إنّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنّي فَلَا أَعْدِلُ بِبَضْعَةِ مِنْ رَسُولِ اللّهِ
أَحَدًا وَهَذَا اسْتِقْرَاءٌ حَسَنٌ وَيَشْهَدُ لِصِحّةِ هَذَا الِاسْتِقْرَاءِ
أَنّ أَبَا لُبَابَةَ حِينَ ارْتَبَطَ نَفْسُهُ وَحَلَفَ أَلّا يَحِلّهُ إلّا
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ
لِتَحِلّهُ فَأَبَى مِنْ أَجْلِ قَسَمِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " إنّمَا فَاطِمَةُ مُضْغَةٌ مِنّي فَحَلّتْهُ
وَسَنَذْكُرُ الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى
، وَيَدُلّ أَيْضًا عَلَى تَفْضِيلِ فَاطِمَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ -
لَهَا : أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنّةِ إلّا
مَرْيَمَ ؟ فَدَخَلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أُمّهَا وَأَخَوَاتُهَا ، وَقَدْ
تَكَلّمَ النّاسُ فِي الْمَعْنَى الّذِي سَادَتْ بِهِ فَاطِمَةُ غَيْرَهَا دُونَ
أَخَوَاتِهَا ، فَقِيلَ إنّهَا وَلَدَتْ سَيّدَ هَذِهِ الْأُمّةِ وَهُوَ الْحَسَنُ
الّذِي يَقُولُ فِيهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إنّ ابْنِي
هَذَا سَيّدٌ وَهُوَ خَلِيفَةٌ بَعْلُهَا خَلِيفَةٌ أَيْضًا ، وَأَحْسَنُ مِنْ
هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ سَادَتْ أَخَوَاتُهَا وَأُمّهَا ، لِأَنّهُنّ
مُتْنَ فِي حَيَاةِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَكُنّ فِي
صَحِيفَتِهِ وَمَاتَ أَبُوهَا وَهُوَ سَيّدُ الْعَالَمِينَ فَكَانَ رُزْؤُهُ فِي
صَحِيفَتِهَا وَمِيزَانِهَا ، وَقَدْ رَوَى الْبَزّارُ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ
أَنّهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِفَاطِمَةَ هِيَ خَيْرُ
بَنَاتِي ، إنّهَا أُصِيبَتْ بِي فَحَقّ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ أَنْ
يَسُودَ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَنّةِ وَهَذَا حَسَنٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَمِنْ
سُؤْدُدِهَا أَيْضًا أَنّ الْمَهْدِيّ الْمُبَشّرَ بِهِ آخِرَ الزّمَانِ مِنْ
ذُرّيّتِهَا ، فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ بِهَذَا كُلّهِ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ
فِي أَمْرِ الْمَهْدِيّ كَثِيرَةٌ وَقَدْ جَمَعَهَا أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي
خَيْثَمَةَ فَأَكْثَرَ وَمِنْ أَغْرَبِهَا إسْنَادًا مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ
الْإِسْكَافُ فِي فَوَائِدِ الْأَخْبَارِ مُسْنَدًا إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ
مُحَمّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 419 ] مَنْ كَذّبَ بِالدّجّالِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ
كَذّبَ بِالْمَهْدِيّ فَقَدْ كَفَرَ وَقَالَ فِي طُلُوعِ الشّمْسِ مِنْ
مَغْرِبِهَا مِثْلَ ذَلِكَ فِيمَا أَحْسَبُ .
اللّهُ السّلَامُ
وَقَوْلُ خَدِيجَةَ : اللّهُ السّلَامُ وَمِنْهُ السّلَامُ وَعَلَى جِبْرِيلَ
السّلَامُ عَلِمَتْ بِفِقْهِهَا أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ
السّلَامُ كَمَا يَرِدُ عَلَى الْمَخْلُوقِ لِأَنّ السّلَامَ دُعَاءٌ
بِالسّلَامَةِ فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهَا : اللّهُ السّلَامُ فَكَيْفَ أَقُولُ
عَلَيْهِ السّلَامُ وَالسّلَامُ مِنْهُ يُسْأَلُ وَمِنْهُ يَأْتِي ؟ وَلَكِنْ
عَلَى جِبْرِيلَ السّلَامُ فَاَلّذِي يَحْصُلُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ
الْفِقْهِ أَنّهُ لَا يَلِيقُ بِاَللّهِ سُبْحَانَهُ إلّا الثّنَاءُ عَلَيْهِ
فَجَعَلَتْ مَكَانَ رَدّ التّحِيّةِ عَلَى اللّهِ ثَنَاءً عَلَيْهِ كَمَا عَمِلُوا
فِي التّشَهّدِ حِينَ قَالُوا : السّلَامُ عَلَى اللّهِ مِنْ عِبَادِهِ السّلَامُ
عَلَى فُلَانٍ فَقِيلَ لَهُمْ لَا تَقُولُوا هَذَا ، وَلَكِنْ قُولُوا :
التّحِيّاتُ لِلّهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ فَوَائِدَ
جَمّةً فِي مَعْنَى التّحِيّاتِ إلَى آخِرِ التّشَهّدِ . وَقَوْلُهَا : وَمِنْهُ
السّلَامُ إنْ كَانَتْ أَرَادَتْ السّلَامَ التّحِيّةَ فَهُوَ خَبَرٌ يُرَادُ بِهِ
التّشَكّرُ كَمَا تَقُولُ هَذِهِ النّعْمَةُ مِنْ اللّهِ وَإِنْ كَانَتْ أَرَادَتْ
السّلَامَ بِالسّلَامَةِ مِنْ سُوءٍ فَهُوَ خَبَرٌ يُرَادُ بِهِ الْمَسْأَلَةُ
كَمَا تَقُولُ مِنْهُ يُسْأَلُ الْخَيْرُ . وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ اللّغَةِ
إلَى أَنّ السّلَامَ وَالسّلَامَةَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ كَالرّضَاعِ وَالرّضَاعَةِ
وَلَوْ تَأَمّلُوا كَلَامَ الْعَرَبِ وَمَا تُعْطِيهِ هَاءُ التّأْنِيثِ مِنْ
التّحْدِيدِ لَرَأَوْا أَنّ بَيْنَهُمَا فُرْقَانًا عَظِيمًا ، وَأَنّ الْجَلَالَ
أَعَمّ مِنْ الْجَلَالَةِ بِكَثِيرِ وَأَنّ اللّذَاذَ أَبْلَغُ مِنْ اللّذَاذَةِ
وَأَنّ الرّضَاعَةَ تَقَعُ عَلَى الرّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَالرّضَاعُ أَكْثَرُ
مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ السّلَامُ وَالسّلَامَةُ وَقِسْ عَلَى هَذَا : تَمْرَةً
وَتَمْرًا ، وَلَقَاةً وَلَقًى ، وَضَرْبَةً وَضَرْبًا ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ
وَتَسَمّى سُبْحَانَهُ بِالسّلَامِ لِمَا شَمِلَ جَمِيعَ الْخَلِيقَةِ ،
وَعَمّهُمْ مِنْ السّلَامَةِ مِنْ الِاخْتِلَالِ وَالتّفَاوُتِ إذْ الْكُلّ جَارٍ
عَلَى نِظَامِ الْحِكْمَةِ كَذَلِكَ سَلِمَ الثّقَلَانِ مِنْ جَوْرٍ وَظُلْمٍ أَنْ
يَأْتِيَهُمْ مِنْ قِبَلِهِ سُبْحَانَهُ فَإِنّمَا الْكُلّ مُدَبّرٌ بِفَضْلِ أَوْ
عَدْلٍ أَمّا الْكَافِرُ فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ إلّا عَدْلُهُ وَأَمّا
الْمُؤْمِنُ فَيَغْمُرُهُ فَضْلُهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ
سَلَامٌ لَا حَيْفَ وَلَا ظُلْمَ وَلَا تَفَاوُتَ وَلَا اخْتِلَالَ وَمَنْ زَعَمَ
مِنْ الْمُفَسّرِينَ لِهَذَا الِاسْمِ أَنّهُ تَسَمّى بِهِ لِسَلَامَتِهِ مِنْ
الْآفَاتِ وَالْعُيُوبِ فَقَدْ أَتَى بِشَنِيعِ مِنْ الْقَوْلِ إنّمَا السّلَامُ
مَنْ سُلِمَ مِنْهُ وَالسّالِمُ مَنْ سَلِمَ مِنْ غَيْرِهِ وَانْظُرْ إلَى
قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا } [ ص 420 ] { سَلَامٌ هِيَ }
وَلَا يُقَالُ فِي الْحَائِطِ : سَالِمٌ مِنْ الْعَمَى ، وَلَا فِي الْحَجَرِ
أَنّهُ سَالِمٌ مِنْ الزّكَامِ أَوْ مِنْ السّعَالِ إنّمَا يُقَالُ سَالِمٌ
فِيمَنْ تَجُوزُ عَلَيْهِ الْآفَةُ وَيَتَوَقّعُهَا ثُمّ يَسْلَمُ مِنْهَا ،
وَالْقُدّوسُ سُبْحَانَهُ مُتَعَالٍ عَنْ تَوَقّعِ الْآفَاتِ مُتَنَزّهٍ عَنْ
جَوَازِ النّقَائِصِ وَمِنْ هَذِهِ صِفّتُهُ لَا يُقَالُ سَلِمَ وَلَا يَتَسَمّى
بِسَالِمِ وَهُمْ قَدْ جَعَلُوا سَلَامًا بِمَعْنَى سَالِمٍ وَاَلّذِي ذَكَرْنَاهُ
أَوّلَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَكْثَرِ السّلَفِ وَالسّلَامَةُ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ
مِنْ خِصَالِ السّلَامِ .
[
ص 420 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَتْرَةً مِنْ ذَلِكَ حَتّى شَقّ ذَلِكَ
عَلَيْهِ فَأَحْزَنَهُ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ الضّحَى ، يَقْسِمُ لَهُ
رَبّهُ وَهُوَ الّذِي أَكْرَمَهُ بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ مَا وَدّعَهُ وَمَا
قَلَاهُ فَقَالَ تَعَالَى : { وَالضّحَى وَاللّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدّعَكَ
رَبّكَ وَمَا قَلَى } يَقُولُ مَا صَرَمَكَ فَتَرَكَك ، وَمَا أَبْغَضَك مُنْذُ
أَحَبّك . { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى } أَيْ لِمَا عِنْدِي مِنْ
مَرْجِعِك إلَيّ خَيْرٌ لَك مِمّا عَجّلْت لَك مِنْ الْكَرَامَةِ فِي الدّنْيَا .
{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبّكَ فَتَرْضَى } مِنْ الْفَلْجِ فِي الدّنْيَا ،
وَالثّوَابِ فِي الْآخِرَةِ { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالّا
فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى } يُعَرّفُهُ اللّهُ مَا ابْتَدَأَهُ بِهِ
مِنْ كَرَامَتِهِ فِي عَاجِلِ أَمْرِهِ وَمَنّهِ عَلَيْهِ فِي يُتْمِهِ
وَضَلَالَتِهِ وَاسْتِنْقَاذِهِ مِنْ ذَلِكَ كُلّهِ بِرَحْمَتِهِ . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : سَجَى : سَكَنَ . قَالَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ الثّقَفِيّ :
إذْ أَتَى مَوْهِنًا وَقَدْ نَامَ صَحْبِي ... وَسَجَا اللّيْلُ بِالظّلّامِ
الْبَهِيمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَيُقَالُ لِلْعَيْنِ إذَا سَكَنَ طَرْفُهَا
: سَاجِيَةً وَسَجَا طَرْفُهَا [ ص 421 ] قَالَ جَرِيرُ بْنُ الْخَطَفِيّ
وَلَقَدْ رَمَيْنَك - حِينَ رُحْنَ - بِأَعْيُنِ ... يَقْتُلْنَ مِنْ خَلَلِ
السّتُورِ سَوَاجِي
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْعَائِلُ الْفَقِيرُ قَالَ أَبُو
خِرَاشٍ الْهُذَلِيّ
إلَى بَيْتِهِ يَأْوِي الضّرِيكُ إذَا شَتَا ... وَمُسْتَنْبَحٌ بَالِي الدّرِيسَيْنِ
عَائِلُ
وَجَمْعُهُ عَالَةٌ وَعَيْلٌ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا
فِي مَوْضِعِهَا - إنْ شَاءَ اللّهُ وَالْعَائِلُ أَيْضًا : الّذِي يَعُولُ
الْعِيَالَ . وَالْعَائِلُ أَيْضًا : الْخَائِفُ . وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى
: { ذَلِكَ أَدْنَى أَلّا تَعُولُوا } [ النّسَاءُ 3 ] . وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يُخِسّ شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ
عَائِلِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا - إنْ شَاءَ اللّهُ - فِي
مَوْضِعِهَا . وَالْعَائِلُ أَيْضًا : الشّيْءُ الْمُثْقَلُ الْمُعْيِي . يَقُولُ
الرّجُلُ قَدْ عَالَنِي هَذَا الْأَمْرُ أَيْ أَثْقَلَنِي وَأَعْيَانِي ، قَالَ
الْفَرَزْدَقُ :
تَرَى الْغُرّ الْجَحَاجِحَ مِنْ قُرَيْشٍ ... إذَا مَا الْأَمْرُ فِي
الْحَدَثَانِ عَالَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص 422 ] { فَأَمّا الْيَتِيمَ فَلَا
تَقْهَرْ وَأَمّا السّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } أَيْ لَا تَكُنْ جَبّارًا وَلَا
مُتَكَبّرًا ، وَلَا فَحّاشًا فَظّا عَلَى الضّعَفَاءِ مِنْ عِبَادِ اللّهِ . {
وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ } أَيْ بِمَا جَاءَك مِنْ اللّهِ مِنْ
نِعْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ مِنْ النّبُوّةِ فَحَدّثْ أَيْ اُذْكُرْهَا ، وَادْعُ
إلَيْهَا ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَذْكُرُ مَا
أَنْعَمَ اللّهُ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعِبَادِ بِهِ مِنْ النّبُوّةِ سِرّا إلَى
مَنْ يَطْمَئِنّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ .Sفَتْرَةَ
الْوَحْيِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ فَتْرَةَ الْوَحْيِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَلَمْ يَذْكُرْ مِقْدَارَ مُدّةِ الْفَتْرَةِ وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ
الْأَحَادِيثِ الْمُسْنَدَةِ أَنّهَا كَانَتْ سَنَتَيْنِ وَنِصْفِ سَنَةٍ فَمِنْ
هُنَا يَتّفِقُ مَا قَالَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنّ مُكْثَهُ بِمَكّةَ كَانَ
عَشَرَ سِنِينَ وَقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ : ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَ قَدْ
اُبْتُدِئَ بِالرّؤْيَا الصّادِقَةِ سِتّةَ أَشْهُرٍ فَمَنْ عَدّ مُدّةَ
الْفَتْرَةِ وَأَضَافَ إلَيْهَا الْأَشْهُرَ السّتّةَ كَانَتْ كَمَا قَالَ ابْنُ
عَبّاسٍ ، وَمَنْ عَدّهَا مِنْ حِينِ حَمِيَ الْوَحْيِ وَتَتَابَعَ كَمَا فِي
حَدِيثِ جَابِرٍ كَانَتْ عَشْرَ سِنِينَ . وَوَجْهٌ آخَرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ
الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا ، وَهُوَ أَنّ الشّعْبِيّ قَالَ وَكّلَ إسْرَافِيلَ
بِنُبُوّةِ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثَلَاثَ سِنِينَ ثُمّ
جَاءَهُ بِالْقُرْآنِ جِبْرِيلُ وَقَدْ قَدّمْنَا هَذَا الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ
أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ الِاسْتِيعَابِ وَإِذَا صَحّ فَهُوَ أَيْضًا وَجْهٌ مِنْ
الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 421 ]
شَرْحُ شِعْرِ الْهُذَلِيّ وَالْفَرَزْدَقِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ أَبِي خِرَاشٍ خُوَيْلِدِ بْنِ مُرّةَ الْهُذَلِيّ
إلَى بَيْتِهِ يَأْوِي الضّرِيكُ إذَا شَتَا ... وَمُسْتَنْبَحٌ بَالِي
الدّرِيسَيْنِ عَائِلُ
الضّرِيكُ الضّعِيفُ الْمُضْطَرّ وَالْمُسْتَنْبَحُ الّذِي يَضِلّ عَنْ الطّرِيقِ
فِي ظُلْمَةِ اللّيْلِ فَيَنْبَحُ لِيَسْمَعَ نُبَاحَ كَلْبٍ وَالدّرِيسُ الثّوْبُ
الْخَلَقُ وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ :
تَرَى الْغُرّ الْجَحَاجِحَ مِنْ قُرَيْشٍ ... إذَا مَا الْأَمْرُ فِي
الْحَدَثَانِ عَالَا
قِيَامًا يَنْظُرُونَ إلَى سَعِيدٍ ... كَأَنّهُمْ يَرَوْنَ بِهِ هِلَالًا
يَعْنِي : سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِي بْنِ أُمَيّةَ ، وَيُقَال : إنّ مَرْوَانَ بْنَ
الْحَكَمِ حِينَ سَمِعَ الْفَرَزْدَقَ يُنْشِدُ هَذَا الْبَيْتَ حَسَدَهُ فَقَالَ
لَهُ قُلْ قُعُودًا يَنْظُرُونَ إلَى سَعِيدٍ يَا أَبَا فِرَاسٍ . فَقَالَ لَهُ
الْفَرَزْدَقُ : وَاَللّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ إلّا قِيَامًا عَلَى
الْأَقْدَامِ . وَذَكَرَ سَبَبَ نُزُولِ سُورَةِ الضّحَى ، وَأَنّ ذَلِكَ
لِفَتْرَةِ الْوَحْيِ عَنْهُ وَخَرّجَ الْبُخَارِيّ مِنْ طَرِيقِ جُنْدُبِ بْنِ
سُفْيَانَ أَنْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 422 ]
فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ إنّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُك قَدْ تَرَكَك ،
فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى سُورَةَ الضّحَى .
ابْتِدَاءُ
مَا افْتَرَضَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الصّلَاةِ وَأَوْقَاتِهَا
[ ص 423 ] فَصَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَالسّلَامُ
عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ اُفْتُرِضَتْ الصّلَاةُ عَلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوّلَ مَا اُفْتُرِضَتْ عَلَيْهِ
رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ كُلّ صَلَاةٍ ثُمّ إنّ اللّهَ تَعَالَى أَتَمّهَا فِي
الْحَضَرِ أَرْبَعًا ، وَأَقَرّهَا فِي السّفَرِ عَلَى فَرْضِهَا الْأَوّلِ
رَكْعَتَيْنِ [ ص 424 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ أَنّ الصّلَاةَ حِينَ اُفْتُرِضَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكّةَ ، فَهَمَزَ لَهُ
بِعَقِبِهِ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ عَيْنٌ فَتَوَضّأَ
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَنْظُرُ إلَيْهِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ الطّهُورُ لِلصّلَاةِ ثُمّ تَوَضّأَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا رَأَى جِبْرِيلُ تَوَضّأَ ثُمّ قَامَ
بِهِ جِبْرِيلُ فَصَلّى بِهِ وَصَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِصَلَاتِهِ ثُمّ انْصَرَفَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَجَاءَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَدِيجَةَ فَتَوَضّأَ لَهَا
لِيُرِيَهَا كَيْفَ الطّهُورُ لِلصّلَاةِ كَمَا أَرَاهُ جِبْرِيلُ فَتَوَضّأَتْ كَمَا
تَوَضّأَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ ثُمّ صَلّى بِهَا
رَسُولُ اللّهِ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ كَمَا صَلّى بِهِ جِبْرِيلُ
فَصَلّتْ بِصَلَاتِهِ [ ص 425 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ
مُسْلِمٍ مَوْلَى بَنِي تَمِيمٍ ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -
وَكَانَ نَافِعٌ كَثِيرُ الرّوَايَةِ - عَنْ ابْنِ عَبّاسَ قَالَ لَمّا
اُفْتُرِضَتْ الصّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، فَصَلّى بِهِ الظّهْرَ حِينَ مَالَتْ
الشّمْسُ ثُمّ صَلّى بِهِ الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلّهُ مِثْلَهُ ثُمّ صَلّى بِهِ
الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتْ الشّمْسُ ثُمّ صَلّى بِهِ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ
ذَهَبَ الشّفَقُ ثُمّ صَلّى بِهِ الصّبْحَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ ثُمّ جَاءَهُ
فَصَلّى بِهِ الظّهْرَ مِنْ غَد حِينَ كَانَ ظِلّهُ مِثْلَهُ ثُمّ صَلّى بِهِ
الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلّهُ مِثْلِيّهُ ثُمّ صَلّى بِهِ الْمَغْرِبَ حِينَ
غَابَتْ الشّمْسُ لِوَقْتِهَا بِالْأَمْسِ ثُمّ صَلّى بِهِ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ
حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللّيْلِ الْأَوّلُ ثُمّ صَلّى بِهِ الصّبْحَ مُسْفِرًا
غَيْرَ مُشْرِقٍ ثُمّ قَالَ يَا مُحَمّدُ الصّلَاةُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاتِك
الْيَوْمَ ، وَصَلَاتُك بِالْأَمْسِ [ ص 426 ]Sفَرْضُ
الصّلَاةِ
[ ص 423 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ فُرِضَتْ الصّلَاةُ
رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرّتْ صَلَاةُ
السّفَرِ وَذَكَرَ الْمُزَنِيّ أَنّ الصّلَاةَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ كَانَتْ
صَلَاةً قَبْلَ غُرُوبِ الشّمْسِ وَصَلَاةً قَبْلَ طُلُوعِهَا ، وَيَشْهَدُ
لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بِالْعَشِيّ
وَالْإِبْكَارِ } [ غَافِر : 55 ] . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلّامٍ مِثْلَهُ
وَقَالَ كَانَ الْإِسْرَاءُ وَفُرِضَ الصّلَوَاتُ الْخَمْسُ قَبْلَ الْهُجْرِ
بِعَامِ فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ قَوْلُ عَائِشَةَ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ
أَيْ زِيدَ فِيهَا حِينَ أُكْمِلَتْ خَمْسًا ، فَتَكُونُ الزّيَادَةُ فِي
الرّكَعَاتِ وَفِي عَدَدِ الصّلَوَاتِ وَيَكُونُ قَوْلُهَا : فُرِضَتْ الصّلَاةُ
رَكْعَتَيْن أَيْ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ وَقَدْ قَالَ بِهَذَا طَائِفَةٌ مِنْ
السّلَفِ مِنْهُمْ ابْنُ عَبّاسٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهَا :
فُرِضَتْ الصّلَاةُ أَيْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ حِينَ فُرِضَتْ الْخَمْسُ فُرِضَتْ
رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ بَعْدَ ذَلِكَ
وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيّ عَنْ [ ص 424 ] عَائِشَةَ وَمَنْ رَوَاهُ هَكَذَا
الْحَسَنُ وَالشّعْبِيّ أَنّ الزّيَادَةَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ كَانَتْ بَعْدَ
الْهِجْرَةِ بِعَامِ أَوْ نَحْوِهِ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ وَقَدْ ذَكَرَ
الْبُخَارِيّ مِنْ رِوَايَةِ مُعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ فُرِضَتْ الصّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ هَاجَرَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَفُرِضَتْ
أَرْبَعًا هَكَذَا لَفْظُ حَدِيثِهِ وَهَاهُنَا سُؤَالٌ يُقَالُ هَلْ هَذِهِ
الزّيَادَةُ فِي الصّلَاةِ نُسِخَ أَمْ لَا ؟ فَيُقَالُ أَمّا زِيَادَةُ
رَكْعَتَيْنِ أَوْ رَكْعَةٍ إلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ الرّكُوعِ حَتّى تَكُونَ
صَلَاةً وَاحِدَةً فَنُسِخَ لِأَنّ النّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ وَقَدْ ارْتَفَعَ
حُكْمُ الْإِجْزَاءِ مِنْ الرّكْعَتَيْنِ وَصَارَ مَنْ سَلّمَ مِنْهُمَا عَامِدًا
أَفْسَدَهُمَا ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمّ صَلَاتَهُ بَعْدَمَا سَلّمَ
وَتَحَدّثَ عَامِدًا لَمْ يَجُزْهُ إلّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الصّلَاةَ مِنْ
أَوّلِهَا ، فَقَدْ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْإِجْزَاءِ بِالنّسْخِ وَأَمّا الزّيَادَةُ
فِي عَدَدِ الصّلَوَاتِ حِينَ أُكْمِلَتْ خَمْسًا بَعْدَمَا كَانَتْ اثْنَتَيْنِ
فَيُسَمّى نَسْخًا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنّ الزّيَادَةَ عِنْدَهُ
عَلَى النّصّ نَسْخٌ وَجُمْهُورُ الْمُتَكَلّمِينَ عَلَى أَنّهُ لَيْسَ بِنَسْخِ
وَلِاحْتِجَاجِ الْفَرِيقَيْنِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا .
الْوُضُوءُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ بِأَعْلَى مَكّةَ حِينَ هَمَزَ
لَهُ بِعَقِبِهِ فَأَنْبَعَ الْمَاءَ وَعَلّمَهُ الْوُضُوءَ وَهَذَا الْحَدِيثُ
مَقْطُوعٌ فِي السّيرَةِ وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ أَصْلًا فِي الْأَحْكَامِ
الشّرْعِيّةِ وَلَكِنّهُ قَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ -
يَرْفَعُهُ - غَيْرَ أَنّ هَذَا الْحَدِيثَ الْمُسْنَدَ يَدُورُ عَلَى عَبْدِ
اللّهِ بْنِ لَهِيعَةَ وَقَدْ ضَعُفَ وَلَمْ يُخَرّجْ عَنْهُ مُسْلِمٌ وَلَا
الْبُخَارِيّ ؛ لِأَنّهُ يُقَالُ إنّ كُتُبَهُ احْتَرَقَتْ فَكَانَ يُحَدّثُ مِنْ
حِفْظِهِ وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يُحْسِنُ فِيهِ الْقَوْلَ وَيُقَالُ إنّهُ [
ص 425 ] عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، فَيُقَالُ إنّ الثّقَةَ هَاهُنَا ابْنُ لَهِيعَةَ
وَيُقَالُ إنّ ابْنَ وَهْبٍ حَدّثَ بِهِ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ وَحَدِيثُ ابْنِ
لَهِيعَةَ هَذَا ، أَخْبَرَنَا بِهِ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ مُحَمّدُ بْنُ
الْعَرَبِيّ قَالَ نا أَبُو الْمُطّهِرِ سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي
الرّجَاءِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْحَافِظُ قَالَ نا أَبُو بَكْرٍ أَحَمْدُ بْنُ
يُوسُفَ الْعَطّارُ قَالَ نا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ ، قَالَ نا
الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ
الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ حَدّثَنِي أَبِي
زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فِي أَوّلِ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ،
فَعَلّمَهُ الْوُضُوءَ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ الْوُضُوءِ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ
فَنَضَحَ بِهَا فَرْجَهُ وَحَدّثَنَا بِهِ أَيْضًا أَبُو بَكْرٍ مُحَمّدُ بْنُ طَاهِرٍ
، عَنْ أَبِي عَلِيّ الْغَسّانِيّ عَنْ أَبِي عُمَرَ النّمَرِيّ عَنْ أَحَمْدَ
بْنِ قَاسِمٍ عَنْ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ
بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّمِ فَالْوُضُوءُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مَكّيّ
بِالْفَرْضِ مَدَنِيّ بِالتّلَاوَةِ لِأَنّ آيَةَ الْوُضُوءِ مَدَنِيّةٌ وَإِنّمَا
قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى آيَةَ التّيَمّمِ وَلَمْ تَقُلْ
آيَةَ الْوُضُوءِ وَهِيَ هِيَ لِأَنّ الْوُضُوءَ قَدْ كَانَ مَفْرُوضًا قَبْلَ
غَيْرَ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا يُتْلَى ، حَتّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ
.
إمَامَةُ جِبْرِيلَ
وَذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ فِي إمَامَةِ جِبْرِيلَ لِلنّبِيّ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَتَعْلِيمِهِ إيّاهُ أَوْقَاتَ الصّلَوَاتِ
الْخَمْسِ فِي الْيَوْمَيْنِ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يَذْكُرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ [ ص 426 ] كَانَتْ فِي الْغَدِ مِنْ لَيْلَةِ
الْإِسْرَاءِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا نُبّئَ بِخَمْسَةِ أَعْوَامٍ وَقَدْ قِيلَ إنّ
الْإِسْرَاءَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِعَامِ وَنِصْفٍ وَقِيلَ بِعَامِ
فَذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي بَدْءِ نُزُولِ الْوَحْيِ وَأَوّلِ أَحْوَالِ
الصّلَاةِ .
ذَكَرَ
أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
أَوّلُ ذَكَرٍ أَسْلَمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ كَانَ أَوّلَ ذَكَرٍ مِنْ النّاسِ آمَنَ بِرَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَصَلّى مَعَهُ وَصَدّقَ بِمَا جَاءَهُ
مِنْ اللّهِ تَعَالَى : عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ
هَاشِمٍ - رِضْوَانُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - وَهُوَ يَوْمئِذٍ ابْنُ عَشْرِ
سِنِينَ . وَكَانَ مِمّا أَنْعَمَ اللّهُ عَلَى عَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ
بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرِ بْنِ أَبِي الْحَجّاجِ قَالَ
كَانَ مِنْ نِعْمَةِ اللّهِ عَلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَمِمّا صَنَعَ
اللّهُ لَهُ وَأَرَادَهُ بِهِ مِنْ الْخَيْرِ أَنّ قُرَيْشًا أَصَابَتْهُمْ
أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ ذَا عِيَالٍ كَثِيرٍ فَقَالَ رَسُولُ [
ص 427 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِلْعَبّاسِ عَمّهِ وَكَانَ مِنْ
أَيْسَرِ بَنِي هَاشِمٍ : يَا عَبّاسُ إنّ أَخَاك أَبَا طَالِبٍ كَثِيرُ
الْعِيَالِ وَقَدْ أَصَابَ النّاسُ مَا تَرَى مِنْ هَذِهِ الْأَزِمّةِ فَانْطَلِقْ
بِنَا إلَيْهِ فَلْنُخَفّفْ عَنْهُ مِنْ عِيَالِهِ آخُذُ مِنْ بَنِيهِ رَجُلًا ،
وَتَأْخُذُ أَنْتَ رَجُلًا ، فَنَكِلُهُمَا عَنْهُ فَقَالَ الْعَبّاسُ نَعَمْ
فَانْطَلَقَا ، حَتّى أَتَيَا أَبَا طَالِبٍ فَقَالَا لَهُ إنّا نُرِيدُ أَنْ
نُخَفّفَ عَنْك مِنْ عِيَالِك حَتّى يَنْكَشِفَ عَنْ النّاسِ مَا هُمْ فِيهِ
فَقَالَ لَهُمَا أَبُو طَالِبٍ إذَا تَرَكْتُمَا لِي عَقِيلًا ، فَاصْنَعَا مَا
شِئْتُمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ عَقِيلًا وَطَالِبًا . فَأَخَذَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّا ، فَضَمّهُ إلَيْهِ
وَأَخَذَ الْعَبّاسُ جَعْفَرًا فَضَمّهُ إلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ عَلِيّ مَعَ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى بَعَثَهُ اللّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى نَبِيّا ، فَاتّبَعَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَآمَنَ بِهِ
وَصَدّقَهُ وَلَمْ يَزَلْ جَعْفَرٌ عِنْدَ الْعَبّاسِ حَتّى أَسْلَمَ وَاسْتَغْنَى
عَنْهُ .
أَبُو طَالِبٍ يَكْتَشِفُ إيمَانَ عَلِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا حَضَرَتْ الصّلَاةُ خَرَجَ إلَى شِعَابِ
مَكّةَ ، وَخَرَجَ مَعَهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ مُسْتَخْفِيًا مِنْ أَبِيهِ
أَبِي طَالِبٍ وَمِنْ جَمِيعِ أَعْمَامِهِ وَسَائِرِ قَوْمِهِ فَيُصَلّيَانِ
الصّلَوَاتِ فِيهَا ، فَإِذَا أَمْسَيَا رَجَعَا ، فَمَكَثَا كَذَلِكَ إلَى مَا
شَاءَ اللّهُ أَنْ يَمْكُثَا . ثُمّ إنّ أَبَا طَالِبٍ عَثَرَ عَلَيْهِمَا يَوْمًا
وَهُمَا يُصَلّيَانِ فَقَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا
بْنَ أَخِي مَا هَذَا الدّينُ الّذِي أَرَاك تَدِينُ بِهِ ؟ قَالَ أَيْ عَمّ هَذَا
دِينُ اللّهِ ، وَدِينُ مَلَائِكَتِهِ وَدِينُ رُسُلِهِ وَدِينُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ
" - أَوْ كَمَا قَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " بَعَثَنِي
اللّهُ بِهِ رَسُولًا إلَى الْعِبَادِ وَأَنْتَ أَيْ عَمّ أَحَقّ مَنْ بَذَلْت
لَهُ النّصِيحَةَ وَدَعَوْته إلَى الْهُدَى ، وَأَحَقّ مَنْ أَجَابَنِي إلَيْهِ
وَأَعَانَنِي عَلَيْهِ أَوْ كَمَا قَالَ . فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ أَيْ ابْنَ أَخِي
، إنّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُفَارِقَ دِينَ آبَائِي ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ
وَلَكِنْ وَاَللّهِ لَا يَخْلُصُ إلَيْك بِشَيْءِ تَكْرَهُهُ مَا بَقِيت .
وَذَكَرُوا أَنّهُ قَالَ لِعَلِيّ أَيْ بُنَيّ مَا هَذَا الدّينُ الّذِي أَنْتَ
عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ يَا أَبَتْ آمَنْت بِاَللّهِ وَبِرَسُولِ اللّهِ وَصَدّقْته
بِمَا جَاءَ بِهِ وَصَلّيْت مَعَهُ لِلّهِ وَاتّبَعْته . فَزَعَمُوا أَنّهُ قَالَ
لَهُ أَمّا إنّهُ لَمْ يَدَعْك إلّا إلَى خَيْرٍ فَالْزَمْهُ .Sأَوّلُ
مَنْ آمَنَ
وَذَكَرَ أَنّ أَوّلَ ذَكَرٍ آمَنَ بِاَللّهِ عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ -
وَسَيَأْتِي قَوْلُ مَنْ قَالَ أَوّلُ مَنْ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنْ ذَلِكَ
- وَاَللّهُ أَعْلَمُ - مِنْ الرّجَالِ لِأَنّ عَلِيّا كَانَ حِينَ أَسْلَمَ
صَبِيّا لَمْ يُدْرِكْ وَلَا يَخْتَلِفُ أَنّ خَدِيجَةَ هِيَ أَوّلُ مَنْ آمَنَ
بِاَللّهِ وَصَدّقَ رَسُولَهُ وَكَانَ عَلِيّ أَصْغَرَ مِنْ جَعْفَرٍ بِعَشْرِ
سِنِينَ وَجَعْفَرٌ أَصْغَرُ مِنْ عَقِيلٍ بِعَشْرِ سِنِينَ وَعَقِيلٌ أَصْغَرُ
مِنْ طَالِبٍ بِعَشْرِ سِنِينَ وَكُلّهُمْ أَسْلَمَ إلّا طَالِبًا اخْتَطَفَتْهُ
الْجِنّ ، فَذَهَبَ وَلَمْ يُعْلَمْ بِإِسْلَامِهِ وَأُمّ عَلِيّ فَاطِمَةُ بِنْتُ
أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ وَقَدْ أَسْلَمَتْ وَهِيَ إحْدَى الْفَوَاطِمِ الّتِي قَالَ
فِيهِنّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِعَلِيّ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ اقْسِمْهُ بَيْنَ الْفَوَاطِمِ الثّلَاثِ يَعْنِي ثَوْبَ حَرِيرٍ
قَالَ الْقُتَبِيّ . يَعْنِي : [ ص 427 ] فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدٍ ، وَلَا أَدْرِي مَنْ
الثّالِثَةُ وَرَوَاهُ عَبْدُ الْغَنِيّ بْنُ سَعِيدٍ اقْسِمْهُ بَيْنَ
الْفَوَاطِمِ الْأَرْبَعِ وَذَكَرَ فَاطِمَةَ بِنْتَ حَمْزَةَ مَعَ اللّتَيْنِ
تَقَدّمَتَا ، وَقَالَ لَا أَدْرِي مَنْ الرّابِعَةُ قَالَهُ فِي كِتَابِ
الْغَوَامِضِ وَالْمُبْهَمَاتِ .
إسْلَامُ
زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ثَانِيًا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 428 ] ثُمّ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ
شُرَحْبِيلَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ امْرِئِ الْقِيسِ الْكَلْبِيّ
، مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ أَوّلَ ذَكَرٍ
أَسْلَمَ ، وَصَلّى بَعْدَ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ
امْرِئِ الْقِيسِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ عَوْفِ
بْنِ كِنَانَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ زَيْدِ اللّاتِ بْنِ
رُفَيْدَة بْنِ ثَوْرِ بْنِ كَلْبِ بْنِ وَبْرَةَ . وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ
بْنِ خُوَيْلِدِ قَدِمَ مِنْ الشّامِ بِرَقِيقِ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ
وَصِيفٌ . فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ عَمّتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَهِيَ
يَوْمئِذٍ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهَا :
اخْتَارِي يَا عَمّةُ أَيّ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانِ شِئْت فَهُوَ لَك ،
فَاخْتَارَتْ زَيْدًا فَأَخَذَتْهُ فَرَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عِنْدَهَا ، فَاسْتَوْهَبَهُ مِنْهَا ، فَوَهَبَتْهُ لَهُ فَأَعْتَقَهُ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَبَنّاهُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ
يُوحَى إلَيْهِ . وَكَانَ أَبُوهُ حَارِثَةُ قَدْ جَزَعَ عَلَيْهِ جَزَعًا
شَدِيدًا ، وَبَكَى عَلَيْهِ حِينَ فَقَدَهُ فَقَالَ [ ص 429 ]
بَكَيْت عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلَ ... أَحَيّ ، فَيُرْجَى أَمْ أَتَى
دُونَهُ الْأَجَلْ
فَوَاَللّهِ مَا أَدْرِي ، وَإِنّي لَسَائِلٌ ... أَغَالَك بَعْدِي السّهْلُ أَمْ
غَالَك الْجَبَلْ
وَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ لَك الدّهْرُ أَوْبَةٌ ... فَحَسْبِي مِنْ الدّنْيَا
رُجُوعُك لِي بَجَلْ
تُذَكّرُنِيهِ الشّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا ... وَتَعْرِضُ ذِكْرَاه إذَا غَرْبهَا
أَفَلْ
وَإِنْ هَبّتْ الْأَرْوَاحُ هَيّجْنَ ذِكْرَهُ ... فَيَا طُولُ مَا حُزْنِي
عَلَيْهِ وَمَا وَجَلْ
سَأُعْمِلُ نَصّ الْعِيسِ فِي الْأَرْضِ جَاهِدًا ... وَلَا أَسْأَمُ التّطْوَافَ
أَوْ تَسْأَمُ الْإِبِلْ
حَيَاتِي أَوْ تَأْتِي عَلَيّ مَنِيّتِي ... فَكُلّ امْرِئِ فَانٍ وَإِنْ غَرّهُ
الْأَمَلْ
ثُمّ قَدِمَ عَلَيْهِ - وَهُوَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إنْ
شِئْت فَأَقِمْ عِنْدِي ، وَإِنْ شِئْت فَانْطَلِقْ مَعَ أَبِيك فَقَالَ بَلْ
أُقِيمُ عِنْدَك فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - حَتّى بَعَثَهُ اللّهُ فَصَدّقَهُ وَأَسْلَمَ ، وَصَلّى مَعَهُ فَلَمّا
أَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } [ الْأَحْزَابُ : 5 ]
قَالَ أَنَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ .Sإسْلَامُ
زَيْدٍ
فَصْلٌ
[ ص 428 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ، وَقَالَ فِيهِ حَارِثَةُ بْنُ
شُرَحْبِيلَ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ شَرَاحِيلُ قَالَ أَصْحَابُ النّسَبِ كَمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ ، وَرُفِعَ نَسَبُهُ إلَى كَلْبِ بْنِ وَبْرَةَ وَوَبْرَةُ
هُوَ ابْنُ ثَعْلَبِ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ ، وَأُمّ زَيْدٍ
سُعْدَى بِنْتُ ثَعْلَبَةَ [ بْنِ عَبْدِ عَامِرٍ ] مِنْ بَنِي مَعْنٍ مِنْ طَيّءٍ
، وَكَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ بِزَيْدِ لِتُزِيرَهُ أَهْلَهَا ، فَأَصَابَتْهُ خَيْلٌ
مِنْ بَنِي الْقَيْنِ بْنِ جِسْرٍ ، فَبَاعُوهُ بِسُوقِ حُبَاشَةَ وَهُوَ مِنْ
أَسْوَاقِ الْعَرَبِ ، وَزَيْدٌ يَوْمُئِذٍ ابْنُ ثَمَانِيّةِ أَعْوَامٍ ثُمّ
كَانَ مِنْ حَدِيثِهِ مَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَلَمّا بَلَغَ زَيْدًا قَوْلُ
أَبِيهِ بَكَيْت عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلْ . الْأَبْيَاتَ . قَالَ
بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ الرّكْبَانُ
أَحِنّ إلَى أَهْلِي ، وَإِنْ كُنّ نَائِيًا ... بِأَنّي قَعِيدُ الْبَيْتِ عِنْدَ
الْمَشَاعِرِ
فَكُفّوا مِنْ الْوَجْدِ الّذِي قَدْ شَجَاكُمْ ... وَلَا تُعْمِلُوا فِي
الْأَرْضِ نَصّ الْأَبَاعِرِ
فَإِنّي بِحَمْدِ اللّهِ فِي خَيْرِ أُسْرَةٍ ... كِرَامِ مَعَدّ كَابِرًا بَعْدَ
كَابِرِ
[ ص 429 ] أَبَاهُ قَوْلُهُ فَجَاءَ هُوَ وَعَمّهُ كَعْبٌ حَتّى وَقَفَا عَلَى
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَكّةَ وَذَلِكَ قَبْلَ
الْإِسْلَامِ فَقَالَا لَهُ يَا بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، يَا بْنَ سَيّدِ
قَوْمِهِ أَنْتُمْ جِيرَانُ اللّهِ وَتَفُكّونَ الْعَانِيَ وَتُطْعِمُونَ
الْجَائِعَ وَقَدْ جِئْنَاكُمْ فِي ابْنِنَا عَبْدِك ، لِتُحْسِنَ إلَيْنَا فِي
فِدَائِهِ فَقَالَ " أَوَغَيْرُ ذَلِكَ " ؟ فَقَالَا : وَمَا هُوَ ؟
فَقَالَ اُدْعُوهُ وَأُخَيّرُهُ فَإِنْ اخْتَارَكُمَا فَذَاكَ وَإِنْ اخْتَارَنِي
فَوَاَللّهِ مَا أَنَا بِاَلّذِي أَخْتَارُ عَلَى مَنْ اخْتَارَنِي أَحَدًا "
، فَقَالَا لَهُ قَدْ زِدْت عَلَى النّصْفِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَمّا جَاءَ قَالَ " مِنْ هَذَانِ " ؟
فَقَالَ هَذَا أَبِي حَارِثَةُ بْنُ شَرَاحِيلَ وَهَذَا عَمّي : كَعْبُ بْنُ
شَرَاحِيلَ ، فَقَالَ " قَدْ خَيّرْتُك إنْ شِئْت ذَهَبْت مَعَهُمَا ، وَإِنْ
شِئْت أَقَمْت مَعِي " ، فَقَالَ بَلْ أُقِيمُ مَعَك ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ
يَا زَيْدُ أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيّةَ [ عَلَى الْحُرّيّةِ وَ ] عَلَى أَبِيك
وَأُمّك وَبَلَدِك وَقَوْمِك ؟ فَقَالَ إنّي قَدْ رَأَيْت مِنْ هَذَا الرّجُلِ
شَيْئًا ، وَمَا أَنَا بِاَلّذِي أُفَارِقُهُ أَبَدًا فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِيَدِهِ وَقَامَ بِهِ إلَى
الْمَلَإِ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقَالَ " اشْهَدُوا أَنّ هَذَا ابْنِي ، وَارِثًا
وَمَوْرُوثًا فَطَابَتْ نَفْسُ أَبِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ وَكَانَ يُدْعَى : زَيْدَ
بْنِ مُحَمّدٍ حَتّى أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } [
الْأَحْزَابُ : 5 ] . وَفِي الشّعْرِ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ لِحَارِثَةَ
بَعْدَ قَوْلِهِ
حَيَاتِي وَإِنْ تَأْتِي عَلَيّ مُنْيَتِي ... فَكُلّ امْرِئِ فَانٍ وَإِنْ غَرّهُ
الْأَمَلْ
سَأُوصِي بِهِ قَيْسًا وَعَمْرًا كِلَيْهِمَا ... وَأُوصِي يَزِيدَ ثُمّ أُوصِي
بِهِ جَبَلْ
يَعْنِي : يَزِيدَ بْنَ كَعْبِ [ بْنِ شَرَاحِيلَ ] وَهُوَ ابْنُ عَمّ زَيْدٍ
وَأَخُوهُ [ لِأُمّهِ ] وَيَعْنِي بِجَبَلِ جَبَلَةَ بْنَ حَارِثَةَ أَخَا زَيْدٍ
وَكَانَ أَسَنّ مِنْهُ . سُئِلَ جَبَلَةُ : مَنْ أَكْبَرُ أَنْتَ أَمْ زَيْدٌ ؟
فَقَالَ زَيْدًا أَكْبَرُ مِنّي ، وَأَنَا وُلِدْت قَبْلَهُ يُرِيدُ أَنّهُ
أَفْضَلُ مِنْهُ بِسَبْقِهِ لِلْإِسْلَامِ .
إسْلَامُ
أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
[ ص 430 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي
قُحَافَةَ ، وَاسْمُهُ عَتِيقٌ وَاسْمُ أَبِي قُحَافَةَ عُثْمَانُ بْنُ عَامِرِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ
لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُ أَبِي بَكْرٍ
عَبْدُ اللّهِ وَعَتِيقٌ لَقَبٌ لِحُسْنِ وَجْهِهِ وَعِتْقِهِ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : فَلَمّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَظْهَرَ
إسْلَامَهُ وَدَعَا إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ . وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا
مُؤَلّفًا لِقَوْمِهِ مُحَبّبًا سَهْلًا ، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشِ
وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِهَا ، وَبِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرّ وَكَانَ
رَجُلًا تَاجِرًا ، ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ
وَيَأْلَفُونَهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرِ لِعِلْمِهِ وَتِجَارَتِهِ
وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ فَجَعَلَ يَدْعُو إلَى اللّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ
وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ مِمّنْ يَغْشَاهُ وَيَجْلِسُ إلَيْهِ [ ص 430 ]Sإسْلَامُ
أَبِي بَكْرٍ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ إسْلَامَ أَبِي بَكْرٍ وَنَسَبَهُ قَالَ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ
وَسُمّيَ عَتِيقًا لِعَتَاقَةِ وَجْهِهِ وَالْعَتِيقُ : الْحَسَنُ كَأَنّهُ
أُعْتِقَ مِنْ الذّمّ وَالْعَيْبِ - وَقِيلَ سُمّيَ عَتِيقًا ؛ لِأَنّ أُمّهُ
كَانَتْ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ فَنَذَرَتْ إنْ وُلِدَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ
تُسَمّيَهُ عَبْدَ الْكَعْبَةِ ، وَتَتَصَدّقُ بِهِ عَلَيْهَا ، فَلَمّا عَاشَ
وَشَبّ سُمّيَ عَتِيقًا ، كَأَنّهُ أُعْتِقَ مِنْ الْمَوْتِ وَكَانَ يُسْمَى
أَيْضًا : عَبْدَ الْكَعْبَةِ إلَى أَنْ أَسْلَمَ ، فَسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَبْدَ اللّهِ وَقِيلَ سُمّيَ عَتِيقًا ؛ لِأَنّ
رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لَهُ حِينَ أَسْلَمَ :
أَنْتَ عَتِيقٌ مِنْ النّارِ وَقِيلَ كَانَ لِأَبِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ
مُعْتَقٌ وَمُعَيْتِقٌ وَعَتِيقٌ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ وَسُئِلَ ابْنُ مَعِينٍ عَنْ
أُمّ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أُمّ الْخَيْرِ عِنْدَ اسْمِهَا ، وَهِيَ أُمّ
الْخَيْرِ بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَمْرِو بِنْتِ عَمّ أَبِي قُحَافَةَ وَاسْمُهَا :
سَلْمَى ، وَتُكَنّى : أُمّ الْخَيْرِ وَهِيَ مِنْ الْمُبَايَعَاتِ وَأَمّا
أَبُوهُ عُثْمَانُ أَبُو قُحَافَةَ فَأُمّهُ قَيْلَةُ - بِيَاءِ بِاثْنَتَيْنِ
مَنْقُوطَةٍ مِنْ أَسْفَلَ - بِنْتُ أَذَاةَ بْنُ رِيَاحِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
قُرْطِ بْنِ رَزَاحِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ . وَامْرَأَةُ أَبِي بَكْرٍ أُمّ
ابْنِهِ [ ص 431 ] قَتْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزّى بِتَاءِ مَنْقُوطَةٍ
بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقٍ وَقِيلَ فِيهَا : بِنْتُ عَبْدِ أَسْعَدَ بْنِ نَصْرِ
بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ وَهُوَ قَوْلُ الزّبَيْرِ وَذَكَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَمَا عَكَمَ
عِنْدَ ذَلِكَ أَيْ مَا تَرَدّدَ وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ تَوْفِيقِ اللّهِ إيّاهُ
- فِيمَا ذَكَرَ - رُؤْيَا رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنّهُ رَأَى الْقَمَرَ
يَنْزِلُ إلَى مَكّةَ ، ثُمّ رَآهُ قَدْ تَفَرّقَ عَلَى جَمِيعِ مَنَازِلِ مَكّةَ
وَبُيُوتِهَا ، فَدَخَلَ فِي كُلّ بَيْتٍ مِنْهُ شُعْبَةٌ ، ثُمّ كَأَنّهُ جُمِعَ
فِي حِجْرِهِ فَقَصّهَا عَلَى بَعْضِ الْكِتَابِيّينَ فَعَبَرَهَا لَهُ بِأَنّ
النّبِيّ الْمُنْتَظَرَ الّذِي قَدْ أَظَلّ زَمَانُهُ تَتْبَعُهُ وَتَكُونُ
أَسْعَدَ النّاسِ بِهِ فَلَمّا دَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَتَوَقّفْ وَفِي مَدْحِ حَسّانَ الّذِي قَالَهُ
فِيهِ وَسَمِعَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ
دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ أَوّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الرّجَالِ وَفِيهِ
خَيْرُ الْبَرّيّةِ أَتْقَاهَا ، وَأَفْضَلَهَا ... بَعْدَ النّبِيّ وَأَوْفَاهَا
بِمَا حَمَلَا
وَالثّانِي التّالِي الْمَحْمُودُ مَشْهَدُهُ ... وَأَوّلُ النّاسِ قَدَمَا صَدّقَ
الرّسُلَا
الّذِينَ
أَسْلَمُوا بِدَعْوَةِ أَبِي بَكْرٍ
فَأَسْلَمَ [ ص 431 ] عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ
بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ
بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِب ِ ، وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ بْنِ
خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ
مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ
عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ
كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَسَعْدُ بْنِ أَبِي وَقَاصّ ، وَاسْمُ أَبِي وَقَاصّ
مَالِكُ بْنُ أُهَيْب بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ
بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ
عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ
، فَجَاءَ بِهِمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ
اسْتَجَابُوا لَهُ فَأَسْلَمُوا وَصَلّوْا ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَقُولُ فِيمَا بَلَغَنِي : مَا دَعَوْت أَحَدًا إلَى
الْإِسْلَامِ إلّا كَانَتْ فِيهِ عِنْدَهُ كَبْوَةٌ وَنَظَرٌ وَتَرَدّدٌ إلّا مَا
كَانَ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ مَا عَكَمَ عَنْهُ حِينَ ذَكَرْته
لَهُ وَمَا تَرَدّدَ فِيهِ [ ص 432 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ "
بِدُعَائِهِ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ
عَكَمَ تَلَبّثَ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : وَانْظَاع وَثّابٌ بِهَا
وَمَا عَكَمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَكَانَ هَؤُلَاءِ النّفَرُ الثّمَانِيّةُ الّذِينَ
سَبَقُوا النّاسَ بِالْإِسْلَامِ فَصَلّوْا وَصَدّقُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا جَاءَهُ مِنْ اللّهِ . ثُمّ أَسْلَمَ أَبُو
عُبَيْدَةَ وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْجَرّاحِ بْنِ هِلَالِ بْنِ
أُهَيْب بْنِ ضَبّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ . وَأَبُو سَلَمَةَ وَاسْمُهُ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرِ
بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ .
وَالْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ . وَاسْمُ أَبِي الْأَرْقَمِ عَبْدُ مَنَافِ
بْنِ أَسَدٍ - وَكَانَ أَسَدٌ يُكَنّى : أَبَا جُنْدُبِ - بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ .
وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَأَخَوَاهُ قُدَامَة
وَعَبْدُ اللّهِ ابْنَا مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبٍ . وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ
بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ
كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْل بْنِ
عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِيَاحِ بْنِ رَزَاحِ بْنِ
عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطّابِ بْنِ
نُفَيْل بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِيَاحِ بْنِ
رَزَاحِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، أُخْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ .
وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ . وَعَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ، وَهِيَ
يَوْمئِذٍ صَغِيرَةٌ . وَخَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : خَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، وَيُقَالُ هُوَ مِنْ
خُزَاعَةَ [ ص 433 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ ،
أَخُو سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ . وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ شَمْخِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلَةَ بْنِ كَاهِلِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ
وَمَسْعُودُ بْنُ الْقَارّيّ وَهُوَ مَسْعُودُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ
سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حَمَالَةَ بْنِ غَالِبِ بْنِ مُحَلّمِ بْنِ
عَائِذَةَ بْنِ سُبَيْعِ بْنِ الْهَوْنِ بْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ الْقَارّةِ [ ص 434
] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَالْقَارَةُ : لَقَبٌ وَلَهُمْ يُقَالُ قَدْ أَنْصَفَ
الْقَارَةَ مَنْ رَامَاهَا
وَكَانُوا قَوْمًا رُمَاةً . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَسَلِيطُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ
عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ
بْنِ الْمُغِيرَة بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ
بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَامْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ سَلّامَةَ
بْنِ مُخَرّبَةَ التّمِيمِيّةُ . وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ
عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْبِ بْنِ
لُؤَيّ . وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَنْزِ بْنِ وَائِلِ ، حَلِيفُ آلِ
الْخَطّابِ بْنِ نُفَيْل بْنِ عَبْدِ الْعُزّى . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَنْزُ
بْنُ وَائِلٍ أَخُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ، مِنْ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمَرِ بْنِ
صَبِرَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَبِيرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ
خُزَيْمَةَ . وَأَخُوهُ أَبُو أَحَمْدَ بْنُ جَحْشٍ ، حَلِيفَا بَنِي أُمَيّةَ
بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ . وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَامْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ
بِنْتُ عُمَيْسِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قُحَافَةَ ، مِنْ
خَثْعَمٍ ، وَحَاطِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ
بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ،
وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُجَلّلِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَبِي قَيْسِ بْنِ
عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ
غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . وَأَخُوهُ خَطّابُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَامْرَأَتُهُ
فُكَيْهَةُ بِنْتُ يَسَارٍ . وَمَعْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ
حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ
كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَالسّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ
بْنِ وَهْبِ . وَالْمُطّلِبُ بْنُ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ،
وَامْرَأَتُهُ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي عَوْفِ بْنِ صُبَيْرَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ .
وَالنّحّامُ ، وَاسْمُهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَسِيدٍ أَخُو بَنِي
عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ [ ص 435 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ نُعَيْمُ
بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَسِيدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ
بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَإِنّمَا سُمّيَ النّحّامَ
، لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لَقَدْ سَمِعْت
نَحْمَةً فِي الْجَنّةِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : نَحْمُهُ صَوْتُهُ وَحِسّهُ [ ص
436 ]Sإسْلَامُ
أَبِي عُبَيْدَةَ وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ
وَذَكَرَ إسْلَامَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ وَاسْمَهُ وَقَدْ اخْتَلَفَ
فِيهِ فَقِيلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرٍ [ ص 432 ] وَقِيلَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ
اللّهِ . وَأُمّهُ أُمَيْمَةُ بِنْتُ غَنْمِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى
بْنِ عَامِرَةَ بْنِ وَدِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ ، قَالَهُ الزّبَيْرُ
. وَذَكَرَ إسْلَامَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى ،
وَذَكَرْنَا أُمّهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ بَعْجَةَ بْنِ خَلَفٍ الْخُزَاعِيّةَ وَمَا
وَقَعَ فِي نَسَبِهِ مِنْ التّقْدِيمِ وَالتّأْخِيرِ وَمِنْ الْفَتْحِ فِي رَزَاحِ
بْنِ عَدِيّ وَالْكَسْرِ وَأَنّ رَزَاحَ بْنَ رَبِيعَةَ هُوَ الّذِي لَمْ
يُخْتَلَفْ فِي كَسْرِ الرّاءِ مِنْهُ وَيُكَنّى سَعِيدًا : أَبَا الْأَعْوَرِ
تُوُفّيَ بِأَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ وَدُفِنَ بِالْمَدِينَةِ فِي أَيّامِ مُعَاوِيَةَ
سَنَةَ خَمْسِينَ أَوْ إحْدَى [ ص 433 ] وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ ، وَأَبُو
الطّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ التّابِعِينَ وَلَمْ يَرْوِ
عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلّا حَدِيثَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ
سَبْعِ أَرَضِينَ وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِالْجَنّةِ وَأَحَدُ الّذِينَ رَجَفَ
بِهِمْ الْجَبَلُ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اُثْبُتْ
حِرَاءُ ؛ فَإِنّمَا عَلَيْك نَبِيّ أَوْ صِدّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ . وَيُرْوَى :
" اُثْبُتْ أُحُدُ " ، وَأَنّ الْقِصّةَ كَانَتْ فِي جَبَلِ أُحُدٍ ،
وَيُرْوَى أَنّهَا كَانَتْ فِي جَبَلِ ثَبِيرٍ ذَكَرَهُ التّرْمِذِيّ ، وَأَنّهُمْ
كَانُوا أَرْبَعَةً مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ
الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَلَعَلّ هَذَا أَنْ يَكُونَ مِرَارًا ، فَتَصِحّ
الْأَحَادِيثُ كُلّهَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
إسْلَامُ سَعْدٍ وَابْنُ عَوْفٍ وَالنّحّامِ
وَذَكَرَ فِيمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ ،
وَاسْمُ أَبِي وَقّاصٍ مَالِكُ بْنُ أُهَيْب ، وَأُهَيْبٌ هُوَ عَمّ آمِنَةَ
بِنْتِ وَهْبٍ أُمّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَالْوَقّاصُ فِي
اللّغَةِ هُوَ وَاحِدُ الْوَقَاقِيصِ وَهِيَ شِبَاكٌ يَصْطَادُ بِهَا الطّيْرُ
وَهُوَ أَيْضًا فَعَالٍ مِنْ وُقِصَ إذَا انْكَسَرَ عُنُقُهُ وَأُمّ سَعْدٍ
حَمْنَةُ بِنْتُ سُفْيَانَ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، يُكَنّى : أَبَا
إسْحَاقَ وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ دَعَا لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - أَنْ يُسَدّدَ اللّهُ سَهْمَهُ وَأَنْ يُجِيبَ دَعْوَتَهُ فَكَانَ
دُعَاؤُهُ أَسْرَعَ الدّعَاءِ إجَابَةً . وَفِي الْحَدِيثِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ احْذَرُوا دَعْوَةَ سَعْدٍ مَاتَ فِي
خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ . [ ص 434 ] وَذَكَرَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ بْنِ
عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ ، وَهُوَ أَيْضًا أَحَدُ
الْعَشَرَةِ يُكَنّى : أَبَا مُحَمّدٍ أُمّهُ الشّفَاءُ بِنْتُ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ
بْنِ الْحَارِثِ وَهِيَ بِنْتُ عَمّ عَوْفٍ وَالِدِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
، فَأَبُوهَا : عَوْفٌ عَمّ عَوْفٍ وَأَخُو عَبْدِ عَوْفٍ . [ ص 435 ] وَذَكَرَ
نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ النّحّامُ ، وَقَوْلُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَمِعْت نِحْمَةً فِي الْجَنّةِ وَلَمْ يُفَسّرْ النّحْمَ مَا
هُوَ وَهِيَ سُعْلَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ وَيُقَال لِلْبَخِيلِ نَحّامٌ لِأَنّهُ
يَسْعَلُ إذَا سُئِلَ يَتَشَاغَلُ بِذَلِكَ وَأَنْشَدَ الزّبَيْرُ
مَا لَك لَا تَنْحِمُ يَا رَواحَهْ ... إنّ النّحِيمَ لِلسّقَاةِ رَاحَهْ
قَالَ وَيُقَالُ لِلنّحْمَةِ نَحْطَةٌ وَقَالَ غَيْرُهُ النّحْطَةُ فِي الصّدْرِ
وَالنّحْمَةُ فِي الْحَلْقِ وَالنّحّامُ أَيْضًا طَائِرٌ أَحْمَرُ فِي عَظْمِ
الْإِوَزّ .
عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْعُودٌ الْقَارِيّ
وَذَكَرَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ شَمْخِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلَةَ
بْنِ كَاهِلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ حَلِيفُ
بَنِي زُهْرَةَ ، وَقَالَ فِي نَسَبِهِ كَاهِلٌ وَقَيّدَهُ الْوَقَشِيّ بِفَتْحِ
الْهَاءِ مِنْ كَاهِلٍ كَأَنّهُ سُمّيَ بِالْفِعْلِ مِنْ كَاهَلَ يُكَاهِلُ كَمَا
قَالَ - عَلَيْهِ السّلَامُ لِرَجُلِ اسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ - وَاسْمُهُ
جَاهِمَةُ - فَقَالَ هَلْ فِي أَهْلِك مِنْ كَاهِلٍ أَيْ مِنْ قَوِيّ عَلَى
التّصَرّفِ وَالِاكْتِهَالُ الْقُوّةُ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : كَاهَلَ أَيْ
أَسَنّ وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيّ : إنّمَا لَفْظُ الْحَدِيثِ هَلْ فِي أَهْلِك
مِنْ كَاهِنٍ وَغَيّرَهُ الرّاوِي لَهُ فَقَالَ مِنْ كَاهِلٍ قَالَ وَكَاهِنُ
الرّجَالِ هُوَ الّذِي يَخْلُفُ الرّجُلَ فِي أَهْلِهِ يَقُومُ بِأَمْرِهِمْ
بَعْدُ يُقَالُ مِنْهُ كَهُنَ يَكْهُنُ كَهَانَةً . وَذَكَرَ فِي نَسَبِهِ أَيْضًا
شَمْخًا وَهُوَ مَنْ شَمَخَ بِأَنْفِهِ إذَا رَفَعَهُ عِزّةً . وَأُمّ عَبْدِ
اللّهِ هِيَ أُمّ عَبْدِ بِنْتِ سَوْدِ بْنِ قَدِيمِ بْنِ صَاهِلَةَ هُذَلَيّة .
وَذَكَرَ مَسْعُودًا الْقَارِيّ وَهُوَ مَسْعُودُ بْنُ رَبِيعَةَ وَرَفَعَ
نَسَبَهُ إلَى الْهُونِ بْنِ خُزَيْمَةَ ، وَهُمْ الْقَارَةُ وَفِيهِمْ جَرَى
الْمَثَلُ الْمَثَلُ قَدْ أَنْصَفَ الْقَارَةَ مَنْ رَامَاهَا . قَالَ الرّاجِزُ
قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى ، وَمَنْ وَالَاهَا ... أَنّا نَرُدّ الْخَيْلَ عَنْ
هَوَاهَا
نَرُدّهَا دَامِيَةً كُلَاهَا ... قَدْ أَنْصَفَ الْقَارَةَ مَنْ رَامَاهَا
إنّا إذَا مَا فِئَةٌ نَلْقَاهَا ... نَرُدّ أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا
وَسُمّيَ بَنُو الْهُونِ بْنِ خُزَيْمَةَ قَارَةً لِقَوْلِ الشّاعِرِ مِنْهُمْ فِي
بَعْضِ الْحُرُوبِ
دَعُونَا قَارَةً لَا تُذْعِرُونَا ... فَنُجْفِلُ مِثْلَ إجْفَالِ الظّلِيمِ
[ ص 436 ] عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَنْسَابِ وَأَنْشَدَهُ قَاسِمٌ فِي
الدّلَائِلِ
دَعُونَا قَارَةً لَا تُذْعِرُونَا ... فَتَنْبَتِكَ الْقَرَابَةُ وَالذّمَامُ
وَكَانُوا رُمَاةَ الْحَدَقِ فَمَنْ رَامَاهُمْ فَقَدْ أَنْصَفَهُمْ وَالْقَارَةُ
: أَرْضٌ كَثِيرَةُ الْحِجَارَةِ وَجَمْعُهَا قُورٌ فَكَأَنّ مَعْنَى الْمَثَلِ
عِنْدَهُمْ أَنّ الْقَارَةَ لَا تَنْفَدُ حِجَارَتُهَا إذَا رُمِيَ بِهَا ، فَمَنْ
رَامَاهَا فَقَدْ أَنْصَفَ .
وَهُمْ فِي نَسَبِ أَبِي حُذَيْفَةَ
وَذَكَرَ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُهُ
مُهَشّمٌ وَهُوَ وَهْمٌ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ فَإِنّ مُهَشّمًا إنّمَا هُوَ
أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَخُو هَاشِمٍ وَهِشَامٌ ابْنَيْ الْمُغِيرَةِ
بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَأَمّا أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ
فَاسْمُهُ قَيْسٌ فِيمَا ذَكَرُوا .
عُمَيْسٌ
وَذَكَرَ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ امْرَأَةَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ،
وَعُمَيْس أَبُوهَا هُوَ ابْنُ مَعَدّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ تَيْمِ بْنِ كَعْبِ
بْنِ مَالِكِ بْنِ قُحَافَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ
مَالِكِ بْنِ نَسْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ شَهْرَانِ بْنِ عِقْرِسِ بْنِ حُلْفِ بْنِ
أَفْتَلَ وَهُوَ جَمَاعَةُ خَثْعَمِ بْنِ أَنْمَارٍ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي
أَنْمَارِ هَذَا ، وَقَدْ تَقَدّمَ . وَأُمّهَا : هِنْدُ بِنْتُ عَوْفِ بْنِ
زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ كِنَانَةَ وَهِيَ أُخْت مَيْمُونَةَ بِنْتِ
الْحَارِثِ الْهِلَالِيّةِ زَوْجِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
أُمّهُمَا وَاحِدَةٌ وَأُخْتُ لُبَابَةَ أُمّ الْفَضْلِ امْرَأَةُ الْعَبّاسِ
وَكُنّ تِسْعَ أَخَوَاتٍ فِيهِنّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - الْأَخَوَاتُ مُؤْمِنَات وَكَانَتْ قَبْلَ جَعْفَرٍ عِنْدَ حَمْزَةَ
بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَمَةَ اللّهِ ثُمّ كَانَتْ عِنْدَ
شَدّادِ بْنِ الْهَادِ ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللّهِ وَعَبْدَ الرّحْمَنِ
وَقَدْ قِيلَ بَلْ الّتِي كَانَتْ عِنْدَ حَمْزَةَ ثُمّ عِنْدَ شَدّادٍ هِيَ
أُخْتُهَا : سَلْمَى ، لَا أَسْمَاءَ وَتَزَوّجَهَا بَعْدَ حَمْزَةَ أَبُو بَكْرٍ
الصّدّيقُ ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ، وَتَزَوّجَهَا بَعْدَهُ
عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَوَلَدَتْ لَهُ يَحْيَى . قَالَ الْكَلْبِيّ :
وَلَدَتْ لَهُ مَعَ يَحْيَى عَوْنَ بْنَ عَلِيّ وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَنّهَا
وَلَدَتْ لِجَعْفَرِ ابْنًا اسْمُهُ عَوْنٌ وَوَلَدَتْ لَهُ أَيْضًا عَبْدَ اللّهِ
بْنَ جَعْفَرٍ ، وَكَانَ جَوَادَ الْعَرَبِ فِي الْإِسْلَامِ وَبَنَاتُ عُمَيْسٍ
أَسْمَاءُ وَسَلَامَةَ وَسَلْمَى ، وَهُنّ أَخَوَاتُ مَيْمُونَةَ وَسَائِرُ
أَخَوَاتِهَا لِأُمّ .
تَصْوِيبٌ فِي نَسَبِ بَنِي عَدِيّ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي السّابِقِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ بَنِي سَهْمٍ :
[ ص 437 ] قَيْسِ بْنِالْحَارِثُ بْنُ عَدِيّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمٍ
وَحَيْثُمَا تَكَرّرَ نَسَبُ بَنِي عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ يَقُولُ فِيهِ
ابْنُ إسْحَاقَ : سُعَيْد ، وَالنّاسُ عَلَى خِلَافِهِ وَإِنّمَا هُوَ سَعْدٌ
وَسَيَأْتِي فِي شِعْرِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قَيْسِ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِنّمَا
سُعَيْد بْنُ سَهْمٍ أَخُو سَعْدٍ وَهُوَ جَدّ آلِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ
وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ سُعَيْد بْنِ سَهْمٍ وَفِي سَهْمٍ سَعِيدٌ آخَرَ وَهُوَ
ابْنُ سَعْدٍ الْمَذْكُورُ وَهُوَ جَدّ الْمُطّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ ،
وَاسْمُ أَبِي وَدَاعَةَ عَوْفُ بْنُ صُبَيْرَةَ ابْنُ سُعَيْد بْنُ سَعْدٍ وَقَدْ
قِيلَ فِي صُبَيْرَةَ ضُبَيْرَةَ بِالضّادِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الّذِي كَانَ
شَابّا جَمِيلًا يَلْبَسُ حُلّةً وَيَقُولُ لِلنّاسِ هَلْ تَرَوْنَ بِي بَأْسًا
إعْجَابًا بِنَفْسِهِ فَأَصَابَتْهُ الْمَنِيّةُ بَغْتَةً فَقَالَ الشّاعِرُ فِيهِ
مَنْ يَأْمَنُ الْحَدَثَانِ بَعْدَ صُبَ ... يْرَةَ الْقُرَشِيّ مَاتَا
سَبَقَتْ مُنْيَتُهُ الْمَشِي ... بَ وَكَانَ مَنِيّتُهُ افْتِلَاتَا
عَنْزٌ
وَذَكَرَ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَقَالَ هُوَ مِنْ عَنْزِ بْنِ وَائِلٍ .
عَنْزٌ بِسُكُونِ النّونِ وَيَذْكُرُ عَنْ عَلِيّ بْنِ الْمَدِينِيّ أَنّهُ قَالَ
فِيهِ عَنَزٌ بِفَتْحِ النّونِ وَالسّكُونُ أَعْرَفُ . ذَكَرَ أَهْلُ النّسَبِ
أَنّ وَائِلًا [ بْنَ قَاسِطٍ ] كَانَ إذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ خَرَجَ مِنْ خِبَائِهِ
فَمَا وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَيْهِ سَمّاهُ بِهِ فَلَمّا وُلِدَ لَهُ بَكْرٌ
وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى بَكْرٍ مِنْ الْإِبِلِ فَسَمّاهُ بِهِ فَلَمّا وُلِدَ
لَهُ تَغْلِبُ رَأَى نَفْسَيْنِ يَتَغَالَبَانِ فَسَمّاهُ تَغْلِبَ ، فَلَمّا
وُلِدَ لَهُ عَنْزٌ ، رَأَى عَنْزًا - وَهِيَ الْأُنْثَى مِنْ الْمَعْزِ -
فَسَمّاهُ عَنْزًا ، فَلَمّا وُلِدَ لَهُ الشّخَيْصِ خَرَجَ فَرَأَى شَخْصًا عَلَى
بُعْدٍ صَغِيرًا ، فَسَمّاهُ الشّخَيْصَ بِهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ هُمْ قَبَائِلُ
وَائِلٍ وَهُمْ مُعْظَمُ رَبِيعَةَ ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَنْزِيّ
الْعَدَوِيّ حَلِيفٌ لَهُمْ وَيُقَالُ هُوَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبِ
بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ رُفَيْدَة بْنِ عَنْزِ بْنِ وَائِلِ بْنِ قَاسِطٍ ، وَقِيلَ عَامِرُ
بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حُجَيْرِ بْنِ
سَلَامَانِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفْضَى بْنِ دُعْمِيّ بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ
بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَانَ .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 437 ] وَعَامِرُ بْنُ فَهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ
الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ [ ص 438 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَامِرُ بْنُ
فُهَيْرَةَ مُوَلّدٌ مِنْ مُوَلّدِي الْأَسْدِ أَسْوَدَ اشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِنْهُمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ
بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ
بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَامْرَأَتُهُ أَمِينَةُ
بِنْتُ خَلَفِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ بْنِ سُبَيْعِ بْنِ
جِعْثِمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو ، مِنْ خُزَاعَةَ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ هُمَيْنَةُ بِنْتُ خَلَفٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَحَاطِبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ
مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . وَأَبُو
حُذَيْفَةَ وَاسْمُهُ مِهْشَمٍ - فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - بْنِ عُتْبَةَ بْنِ
رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ
مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ
مَنَافِ بْنِ عَرِينِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ
مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : جَاءَتْ بِهِ بَاهِلَةُ ، فَبَاعُوهُ مِنْ الْخَطّابِ بْنِ
نُفَيْل ، فَتَبَنّاهُ فَلَمّا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { ادْعُوهُمْ
لِآبَائِهِمْ } [ الْأَحْزَابُ : 5 ] قَالَ أَنَا وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ ،
فِيمَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَخَالِدٌ
وَعَامِرٌ وَعَاقِلٌ وَإِيَاسٌ بَنُو الْبُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ يَالَيلَ بْنِ
نَاشِبِ بْنِ غِيرَةَ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ
مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ حُلَفَاءُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ . وَعَمّارُ بْنُ
يَاسِرٍ ، حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَمّارُ
بْنُ يَاسِرٍ عَنْسِيّ مِنْ مَذْحِجٍ [ ص 439 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَصُهَيْبُ
بْنُ سِنَانٍ ، أَحَدُ النّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ ، حَلِيفُ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ
. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : النّمِرُ بْنُ قَاسِطِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفْصَى بْنِ
جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ ، وَيُقَالُ أَفَصَى بْنُ
دُعْمِيّ بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدٍ ، وَيُقَالُ صُهَيْبٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ
بْنِ جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ [ ص 440 ]
وَيُقَالُ إنّهُ رُومِيّ . فَقَالَ بَعْضُ مَنْ ذَكَرَ أَنّهُ مِنْ النّمِرِ بْنِ
قَاسِطٍ : إنّمَا كَانَ أَسِيرًا فِي أَرْضِ الرّومِ ، فَاشْتُرِيَ مِنْهُمْ
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صُهَيْبٌ
سَابِقُ الرّومِSإسْلَامُ
عَامِرِ بْنِ فَهَيْرَةَ
وَذَكَرَ عَامِرَ ابْنَ فَهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ وَفُهَيْرَةَ أُمّهُ هِيَ
تَصْغِيرُ فِهْرٍ ، لِأَنّ الْفِهْرَ مُؤَنّثَةٌ وَكَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ
لِلطّفَيْلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ صَخْرَةَ اشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْتَقَهُ
وَأَسْلَمَ قَبْل دُخُولِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - دَارَ
الْأَرْقَمِ ، وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ نُبَذٌ مِنْ أَخْبَارِهِ مِنْهَا :
أَنّهُ قَتَلَهُ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ [ ص 438 ] بِئْرِ مَعُونَةَ ، فَلَمّا
طَعَنَهُ خَرَجَ مِنْ الطّعْنَةِ نُورٌ وَكَانَ عَامِرٌ يَقُولُ مَنْ رَجُلٌ لَمّا
طَعَنْته رُفِعَ حَتّى حَالَتْ السّمَاءُ دُونَهُ هَذِهِ رِوَايَةُ الْبَكّائِيّ
عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ
أَنّ عَامِرًا سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ
قَدِمَ عَلَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمّدُ مَنْ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِك لَمَا طَعَنْته
رُفِعَ إلَى السّمَاءِ ؟ فَقَالَ " هُوَ عَامِرُ ابْنُ فُهَيْرَةَ " ،
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنّ عَامِرًا اُلْتُمِسَ فِي
الْقَتْلَى يَوْمئِذٍ فَلَمْ يُوجَدْ فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنّ الْمَلَائِكَةَ
رَفَعَتْهُ أَوْ دَفَنَتْهُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ . [ ص 439 ]
اصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَمَا الْمَصْدَرِيّةُ وَاَلّذِي
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } [ الْحِجْرُ :
94 ] . وَالْمَعْنَى : اصْدَعْ بِاَلّذِي تُؤْمَرُ بِهِ وَلَكِنّهُ لَمّا عَدّى
الْفِعْلَ إلَى الْهَاءِ حَسُنَ حَذْفُهَا ، وَكَانَ الْحَذْفُ هَاهُنَا أَحْسَنَ
مِنْ ذِكْرِهَا ؛ لِأَنّ مَا فِيهَا مِنْ الْإِبْهَامِ أَكْثَرُ مِمّا تَقْتَضِيهِ
الّذِي ، وَقَوْلُهُمْ مَا مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ رَاجِعٌ إلَى
مَعْنَى الّذِي إذَا تَأَمّلْته ، وَذَلِكَ أَنّ الّذِي تَصْلُحُ فِي كُلّ
مَوْضِعٍ تَصْلُحُ فِيهِ مَا الّتِي يُسَمّونَهَا الْمَصْدَرِيّةَ نَحْوُ قَوْلِ
الشّاعِرِ
عَسَى الْأَيّامُ أَنْ يَرْجِعْ ... نْ يَوْمًا كَاَلّذِي كَانُوا
أَيْ كَمَا كَانُوا ، فَقَوْلُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ إذًا : { فَاصْدَعْ بِمَا
تُؤْمَرُ } إمّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بِاَلّذِي تُؤْمَرُ بِهِ مِنْ التّبْلِيغِ
وَنَحْوِهِ وَإِمّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اصْدَعْ بِالْأَمْرِ الّذِي تُؤْمَرُهُ
كَمَا تَقُولُ عَجِبْت مِنْ الضّرْبِ الّذِي تَضْرِبُهُ فَتَكُونُ مَا هَاهُنَا
عِبَارَةٌ عَنْ الْأَمْرِ الّذِي هُوَ أَمْرُ اللّهِ تَعَالَى ، وَلَا يَكُونُ
لِلْبَاءِ فِيهِ دُخُولٌ وَلَا تَقْدِيرٌ وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوّلِ تَكُونُ مَا
مَعَ صِلَتِهَا عِبَارَةٌ عَمّا هُوَ فِعْلٌ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَالْأَظْهُرُ أَنّهَا مَعَ صِلَتِهَا عِبَارَةٌ عَنْ الْأَمْرِ الّذِي
هُوَ قَوْلُ اللّهِ وَوَحْيُهُ بِدَلِيلِ حَذْفِ الْهَاءِ الرّاجِعَةِ إلَى : مَا
، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الّذِي فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، إلّا أَنّك إذَا
أَرَدْت مَعْنَى الْأَمْرِ لَمْ تَحْذِفْ إلّا الْهَاءُ وَحْدَهَا ، وَإِذَا
أَرَدْت مَعْنَى الْمَأْمُورِ بِهِ حُذِفَتْ بَاءٌ وَهَاءٌ فَحَذْفُ وَاحِدٍ
أَيْسَرُ مِنْ حَذْفَيْنِ مَعَ أَنّ صَدْعَهُ وَبَيَانَهُ إذَا عَلّقْته بِأَمْرِ
اللّهِ وَوَحْيِهِ كَانَ حَقِيقَةً وَإِذَا عَلّقْته بِالْفِعْلِ الّذِي أَمَرَ
بِهِ كَانَ مَجَازًا ، وَإِذَا صَرّحْت بِلَفْظِ الّذِي ، لَمْ يَكُنْ حَذْفُهَا
بِذَلِكَ الْحَسَنِ وَتَأَمّلْهُ فِي الْقُرْآنِ تَجِدْهُ كَذَلِكَ نَحْوُ
قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [
الْبَقَرَةُ 33 ] { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [ التّغَابُنُ 4
] . و { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ } [ ص : 75 ] . و { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ
} [ الْكَافِرُونَ ] . وَلَمْ يَقُلْ خَلَقْته ، وَحَذَفَ الْهَاءَ فِي ذَلِكَ
كُلّهِ وَقَالَ فِي الّذِي : { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } [ الْبَقَرَةُ
121 ] و { الّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنّاسِ سَوَاءً } [ الْحَجّ : 25 ] وَمَا أَشَبَهُ
ذَلِكَ وَإِنّمَا كَانَ الْحَذْفُ مَعَ مَا أَحْسَنَ لِمَا قَدّمْنَاهُ مِنْ [ ص
440 ] تَرَى أَنّ مَا إذَا كَانَتْ شَرْطًا تَقُولُ فِيهَا : مَا تَصْنَعْ
أَصْنَعَ مِثْلَهُ وَلَا تَقُولُ مَا تَصْنَعُهُ لِأَنّ الْفِعْلَ قَدْ عَمِلَ
فِيهَا ، فَلَمّا ضَارَعَتْهَا هَذِهِ الّتِي هِيَ مَوْصُولَةٌ وَهِيَ بِمَعْنَى
الّذِي أُجْرِيَتْ فِي حَذْفِ الْهَاءِ مَجْرَاهَا فِي أَكْثَرِ الْكَلَامِ
وَهَذِهِ تَفْرِقَةٌ فِي عَوْدِ الضّمِيرِ عَلَى مَا ، وَعَلَى " الّذِي
" يَشْهَدُ لَهَا التّنْزِيلُ وَالْقِيَاسُ الّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ
الْإِبْهَامِ وَمَعَ هَذَا لَمْ نَرَ أَحَدًا نَبّهَ عَلَى هَذِهِ التّفْرِقَةِ وَلَا
أَشَارَ إلَيْهَا ، وَقَارِئُ الْقُرْآنِ مُحْتَاجٌ إلَى هَذِهِ التّفْرِقَةِ .
وَقَدْ يَحْسُنُ حَذْفُ الضّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الّذِي ؛ لِأَنّهُ أَوْجَزُ
وَلَكِنّهُ لَيْسَ كَحَسَنِهِ مَعَ مَنْ وَمَا ، فَفِي التّنْزِيلِ { وَالنّورِ
الّذِي أَنْزَلْنَا } [ التّغَابُنُ 8 ] فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدّيًا إلَى
اثْنَيْنِ كَانَ إبْرَازُ الضّمِيرِ أَحْسَنَ مِنْ حَذْفِهِ لِئَلّا يُتَوَهّمُ
أَنّ الْفِعْلَ وَاقِعٌ إلَى الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ وَأَنّهُ مُقْتَصَرٌ
عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الّذِي جَعَلْنَاهُ
لِلنّاسِ سَوَاءً } [ الْحَجّ : 25 ] { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } [
الْبَقَرَةُ 121 ] وَشَرَحَ ابْنُ هِشَامٍ مَعْنَى قَوْلِهِ اصْدَعْ شَرْحًا
صَحِيحًا ، وَتَتِمّتُهُ أَنّهُ صَدْعٌ عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ وَتَشْبِيهٌ
لِظُلْمَةِ الشّكّ وَالْجَهْلِ بِظُلْمَةِ اللّيْلِ . وَالْقُرْآنُ نُورٌ فَصَدَعَ
بِهِ تِلْكَ الظّلْمَةَ وَمِنْهُ سُمّيَ الْفَجْرُ صَدِيعًا ، لِأَنّهُ يَصْدَعُ
ظُلْمَةَ اللّيْلِ وَقَالَ الشّمّاخُ
تَرَى السّرْحَانَ مُفْتَرِشًا يَدَيْهِ ... كَأَنّ بَيَاضَ لَبّتِهِ صَدِيعُ
عَلَى هَذَا تَأَوّلَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَعَانِي ، وَقَالَ قَاسِمُ بْنُ
ثَابِتٍ الصّدِيعُ فِي هَذَا الْبَيْتِ ثَوْبٌ أَسْوَدُ تَلْبَسُهُ النّوّاحَةُ
تَحْتَهُ ثَوْبٌ أَبْيَضُ وَتَصْدَعُ الْأَسْوَدَ عِنْدَ صَدْرِهَا فَيَبْدُو
الْأَبْيَضُ وَأَنْشَدَ
كَأَنّهُنّ إذْ وَرَدْنَ لِيعَا ... نَوّاحَةٌ مُجْتَابَةٌ صَدِيعًا
.
بِسْمِ
اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
مُبَادَأَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَوْمَهُ
[ ص 3 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ دَخَلَ النّاسُ فِي الْإِسْلَامِ أَرْسَالًا
مِنْ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ حَتّى فَشَا ذِكْرُ الْإِسْلَامِ بِمَكّةَ وَتُحُدّثَ
بِهِ . ثُمّ إنّ اللّهَ - عَزّ وَجَلّ - أَمَرَ رَسُولَهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - أَنْ يَصْدَعَ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ وَأَنْ يُبَادِيَ النّاسَ
بِأَمْرِهِ وَأَنْ يَدْعُوَ إلَيْهِ وَكَانَ بَيْنَ مَا أَخْفَى رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَمْرَهُ وَاسْتَتَرَ بِهِ إلَى أَنْ أَمَرَهُ
اللّهُ تَعَالَى بِإِظْهَارِ دِينِهِ ثَلَاثُ سِنِينَ - فِيمَا بَلَغَنِي - مِنْ
مَبْعَثِهِ ثُمّ قَالَ اللّهُ تَعَالَى لَهُ { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [ الْحِجْرِ : 94 ] . وَقَالَ تَعَالَى : {
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ } { وَقُلْ إِنّي أَنَا النّذِيرُ الْمُبِينُ } [ الحجر : 89 ] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَاصْدَعْ اُفْرُقْ بَيْنَ الْحَقّ وَالْبَاطِلِ . قَالَ
أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيّ ، وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ خَالِدٍ يَصِفُ أُتُنَ
وَحْشٍ وَفَحْلَهَا :
وَكَأَنّهُنّ رِبَابَةٌ وَكَأَنّهُ ... يَسَرٌ يَفِيضُ عَلَى الْقِدَاحِ
وَيَصْدَعُ
[ ص 4 ] قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ :
أَنْتَ الْحَلِيمُ وَالْأَمِيرُ الْمُنْتَقِمْ ... تَصْدَعُ بِالْحَقّ وَتَنْفِي
مَنْ ظَلَمْ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ .
صَلَاةُ الرّسُولِ وَأَصْحَابِهِ فِي الشّعَابِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إذَا صَلّوْا ، ذَهَبُوا فِي الشّعَابِ فَاسْتَخْفَوْا بِصَلَاتِهِمْ
مِنْ قَوْمِهِمْ فَبَيْنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ
مَكّةَ ، إذْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ نَفَرٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ - وَهُمْ يُصَلّونَ -
فَنَاكَرُوهُمْ وَعَابُوا عَلَيْهِمْ مَا يَصْنَعُونَ حَتّى قَاتَلُوهُمْ فَضَرَبَ
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ يَوْمَئِذٍ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِلَحْيِ بَعِيرٍ
فَشَجّهُ فَكَانَ أَوّلَ دَمٍ هُرِيقَ فِي الْإِسْلَامِ .
عَدَاوَةُ الشّرْكِ لِلرّسُولِ وَمُسَاوَمَتُهُ لِعَمّهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا بَادَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلّمَ قَوْمَهُ بِالْإِسْلَامِ وَصَدَعَ بِهِ كَمَا أَمَرَهُ اللّهُ
لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ قَوْمُهُ وَلَمْ يَرُدّوا عَلَيْهِ - فِيمَا بَلَغَنِي -
حَتّى ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ وَعَابَهَا ، فَلَمّا فَعَلَ ذَلِك أَعْظَمُوهُ
وَنَاكَرُوهُ وَأَجْمَعُوا خِلَافَهُ وَعَدَاوَتَهُ إلّا مَنْ عَصَمَ اللّهُ
تَعَالَى مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ قَلِيلٌ مُسْتَخْفُونَ وَحَدِبَ عَلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمّهُ أَبُو طَالِبٍ ، وَمَنَعَهُ
وَقَامَ دُونَهُ وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى
أَمْرِ اللّهِ مُظْهِرًا لِأَمْرِهِ لَا يَرُدّهُ [ ص 5 ]Sمُبَادَأَةُ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَوْمَهُ
أَصْلُ الصّلَاةِ لُغَةً
[ ص 3 ] أَبَا طَالِبٍ حَدِبَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَقَامَ دُونَهُ أَصْلُ الْحَدَبِ انْحِنَاءٌ فِي الظّهْرِ ثُمّ اُسْتُعِيرَ
فِيمَنْ عَطَفَ عَلَى غَيْرِهِ وَرَقّ لَهُ كَمَا قَالَ النّابِغَةُ
حَدِبَتْ عَلَيّ بُطُونُ ضَبّةَ كُلّهَا ... إنْ ظَالِمًا فِيهِمْ وَإِنْ
مَظْلُومَا
[ ص 4 ] قَالُوا : صَلّى عَلَيْهِ أَيْ انْحَنَى عَلَيْهِ ثُمّ سَمّوْا الرّحْمَةَ
حُنُوّا وَصَلَاةً إذَا أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِيهَا ، فَقَوْلُك : صَلّى
اللّهُ عَلَى مُحَمّدٍ هُوَ أَرَقّ وَأَبْلَغُ مِنْ قَوْلِك : رَحِمَ اللّهُ
مُحَمّدًا فِي الْحُنُوّ وَالْعَطْفِ . وَالصّلَاةُ أَصْلُهَا فِي الْمَحْسُوسَاتِ
عُبّرَ بِهَا عَنْ هَذَا الْمَعْنَى مُبَالَغَةً وَتَأْكِيدًا كَمَا قَالَ
الشّاعِرُ
فَمَا زِلْت فِي لِينِي [ لَهُ ] وَتَعَطّفِي ... عَلَيْهِ كَمَا تَحْنُو عَلَى
الْوَلَدِ الْأُمّ
وَمِنْهُ قِيلَ صَلّيْت عَلَى الْمَيّتِ أَيْ دَعَوْت لَهُ دُعَاءَ مَنْ يَحْنُو
عَلَيْهِ وَيَتَعَطّفُ عَلَيْهِ . وَلِذَلِكَ لَا تَكُونُ الصّلَاةُ بِمَعْنَى
الدّعَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا تَقُولُ صَلّيْت عَلَى الْعَدُوّ أَيْ دَعَوْت
عَلَيْهِ . إنّمَا يُقَالُ . صَلّيْت عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الْحُنُوّ وَالرّحْمَةِ
وَالْعَطْفِ لِأَنّهَا فِي الْأَصْلِ [ ص 5 ] أَجْلِ ذَلِكَ عُدّيَتْ فِي اللّفْظِ
بِعَلَى ، فَتَقُولُ صَلّيْت عَلَيْهِ أَيْ حَنَوْت عَلَيْهِ وَلَا تَقُولُ فِي
الدّعَاءِ إلّا : دَعَوْت لَهُ فَتُعَدّي الْفِعْلَ بِاللّامِ إلّا أَنْ تُرِيدَ
الشّرّ وَالدّعَاءَ عَلَى الْعَدُوّ فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الصّلَاةِ
وَالدّعَاءِ وَأَهْلُ اللّغَةِ لَمْ يُفَرّقُوا ، وَلَكِنْ قَالُوا : الصّلَاةُ
بِمَعْنَى الدّعَاءِ إطْلَاقًا ، وَلَمْ يُفَرّقُوا بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ وَلَا
ذَكَرُوا التّعَدّيَ بِاللّامِ وَلَا بِعَلَى ، وَلَا بُدّ مِنْ تَقْيِيدِ
الْعِبَارَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ يَكُونُ الْحَدَبُ أَيْضًا مُسْتَعْمَلًا
فِي مَعْنَى الْمُخَالَفَةِ إذَا قُرِنَ بِالْقَعْسِ كَقَوْلِ الشّاعِرِ
وَإِنْ حَدِبُوا ، فَاقْعَسْ وَإِنْ هُمْ تَقَاعَسُوا ... لِيَنْتَزِعُوا مَا
خَلْفَ ظَهْرِك فَاحْدَبْ
وَكَقَوْلِ الْآخَرِ
وَلَنْ يُنَهْنِهَ قَوْمًا أَنْتَ خَائِفُهُمْ ... كَمِثْلِ وَقْمِك جُهّالًا
بِجُهّالِ
فَاقْعَسْ إذَا حَدِبُوا ، وَاحْدَبْ إذَا قَعِسُوا ... وَوَازِنِ الشّرّ
مِثْقَالًا بِمِثْقَالِ
أَنْشَدَهُ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْحَيَوَانِ لَهُ .
فَلَمّا
رَأَتْ قُرَيْشٌ ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا
يَعْتِبُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ مِنْ فِرَاقِهِمْ وَعَيْبِ
آلِهَتِهِمْ وَرَأَوْا أَنّ عَمّهُ أَبَا طَالِبٍ قَدْ حَدِبَ عَلَيْهِ وَقَامَ
دُونَهُ فَلَمْ يُسْلِمْهُ لَهُمْ مَشَى رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ إلَى
أَبِي طَالِبٍ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ
عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ
بْنِ غَالِبٍ . وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ
بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ
لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ
صَخْرٌ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ ، وَاسْمُهُ الْعَاصُ بْنُ
هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ
كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . [ ص 6 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
أَبُو الْبَخْتَرِيّ الْعَاصُ بْنُ هَاشِمٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ
بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَأَبُو جَهْلٍ - وَاسْمُهُ
عَمْرٌو ، وَكَانَ يُكَنّى أَبَا الْحَكَمِ - ابْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ
بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ
كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ،
وَنَبِيهٌ وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجّاجِ بْنِ عَامِرِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ سَعْدِ
بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَالْعَاصُ
بْنُ وَائِلٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْعَاصُ بْنُ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ
سَعِيدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : أَوْ مَنْ مَشَى مِنْهُمْ . فَقَالُوا : يَا أَبَا طَالِبٍ إنّ
ابْنَ أَخِيك قَدْ سَبّ آلِهَتَنَا ، وَعَابَ دِينَنَا ، وَسَفّهَ أَحْلَامَنَا ،
وَضَلّلَ آبَاءَنَا ، فَإِمّا أَنْ تَكُفّهُ عَنّا ، وَإِمّا أَنْ تُخَلّيَ
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَإِنّك عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ
فَنَكْفِيكَهُ فَقَالَ لَهُمْ أَبُو طَالِبٍ قَوْلًا رَفِيقًا ، وَرَدّهُمْ رَدّا
جَمِيلًا ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ . وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ يُظْهِرُ دِينَ اللّهِ وَيَدْعُو إلَيْهِ ثُمّ
شَرِيَ الْأَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حَتّى تَبَاعَدَ الرّجَالُ وَتَضَاغَنُوا
، وَأَكْثَرَتْ قُرَيْشٌ ذِكْرَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- بَيْنَهَا ، فَتَذَامَرُوا فِيهِ وَحَضّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ ثُمّ
إنّهُمْ مَشَوْا إلَى أَبِي طَالِبٍ مَرّةً أُخْرَى ، فَقَالُوا لَهُ يَا أَبَا
طَالِبٍ إنّ لَك سِنّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِينَا ، وَإِنّا قَدْ
اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنْ ابْنِ أَخِيك فَلَمْ تَنْهَهُ عَنّا ، وَإِنّا وَاَللّهِ
لَا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا مِنْ شَتْمِ آبَائِنَا ، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا ،
وَعَيْبِ آلِهَتِنَا ، حَتّى تَكُفّهُ عَنّا ، أَوْ نُنَازِلَهُ وَإِيّاكَ فِي
ذَلِكَ حَتّى يَهْلَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُ . ثُمّ
انْصَرَفُوا عَنْهُ فَعَظُمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ فِرَاقُ قَوْمِهِ
وَعَدَاوَتُهُمْ وَلَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِإِسْلَامِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَهُمْ وَلَا خِذْلَانِهِ .Sأَبُو
الْبَخْتَرِيّ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ مَجِيءَ النّفَرِ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى أَبِي طَالِبٍ فِي أَمْرِ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَكَرَ أَنْسَابَهُمْ [ ص 6 ] وَذَكَرَ فِيهِمْ
أَبَا الْبَخْتَرِيّ بْنَ هِشَامٍ قَالَ وَاسْمُهُ الْعَاصِي بْنُ هِشَامٍ وَقَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ الْعَاصِي بْنُ هَاشِمٍ وَاَلّذِي قَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ
هُوَ قَوْلُ ابْنِ الْكَلْبِيّ وَاَلّذِي قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ هُوَ قَوْل
الزّبَيْرِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَقَوْلُ مُصْعَبٍ وَهَكَذَا وَجَدْت فِي حَاشِيَةِ
كِتَابِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ سُفْيَانَ بْنَ الْعَاصِي .
مُنَاصَرَةُ
أَبِي طَالِبٍ لِلرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 7 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ قُرَيْشًا حِينَ قَالُوا
لِأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ لَهُ يَا ابْنَ أَخِي ، إنّ قَوْمَك قَدْ جَاءُونِي ،
فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا ، لِلّذِي كَانُوا قَالُوا لَهُ فَأَبْقِ عَلَيّ
وَعَلَى نَفْسِك ، وَلَا تُحَمّلْنِي مِنْ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ فَظَنّ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَدْ بَدَا لِعَمّهِ
فِيهِ أَنّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ وَأَنّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ
وَالْقِيَامِ مَعَهُ . قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
يَا عَمّ وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي
يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ
أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْته [ ص 8 ] قَالَ ثُمّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَبَكَى ثُمّ قَامَ فَلَمّا وَلّى نَادَاهُ
أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ أَقْبِلْ يَا ابْنَ أَخِي ، قَالَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ اذْهَبْ يَا ابْنَ
أَخِي ، فَقُلْ مَا أَحْبَبْت ، فَوَاَللّهِ لَا أُسْلِمْك لِشَيْءِ أَبَدًا .Sلَوْ
وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي
فَصْلٌ
[ ص 7 ] وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَاَللّهِ
لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ
أَدَعَ هَذَا الّذِي جِئْت بِهِ مَا تَرَكْته أَوْ كَمَا قَالَ . خَصّ الشّمْسَ
بِالْيَمِينِ لِأَنّهَا الْآيَةُ الْمُبْصِرَةُ وَخَصّ الْقَمَرَ بِالشّمَالِ
لِأَنّهَا الْآيَةُ الْمَمْحُوّةُ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ - رَحِمَهُ اللّهُ -
لِرَجُلِ قَالَ لَهُ إنّي رَأَيْت فِي الْمَنَامِ كَأَنّ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ
يَقْتَتِلَانِ وَمَعَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نُجُومٌ فَقَالَ عُمَرُ مَعَ
أَيّهِمَا كُنْت ؟ فَقَالَ مَعَ الْقَمَرِ قَالَ كُنْت مَعَ الْآيَةِ
الْمَمْحُوّةِ اذْهَبْ فَلَا تَعْمَلْ لِي عَمَلًا ، وَكَانَ عَامِلًا لَهُ
فَعَزَلَهُ فَقُتِلَ الرّجُلُ فِي صِفّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَاسْمُهُ حَابِسُ
بْنُ سَعْدٍ ، وَخَصّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
النّيّرَيْنِ حِينَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِهِمَا ؛ لِأَنّ نُورَهُمَا مَحْسُوسٌ
وَالنّورُ الّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ - وَهُوَ الّذِي أَرَادُوهُ عَلَى
تَرْكِهِ - هُوَ لَا مَحَالَةَ أَشْرَفُ مِنْ النّورِ الْمَخْلُوقِ قَالَ اللّهُ
سُبْحَانَهُ { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى
اللّهُ إِلّا أَنْ يُتِمّ نُورَهُ } [ التّوْبَةِ 33 ] . فَاقْتَضَتْ بَلَاغَةُ
النّبُوّةِ - لِمَا أَرَادُوهُ عَلَى تَرْكِ النّورِ الْأَعْلَى - أَنْ
يُقَابِلَهُ بِالنّورِ الْأَدْنَى ، وَأَنْ يَخُصّ أَعْلَى النّيّرَيْنِ وَهِيَ
الْآيَةُ الْمُبْصِرَةُ بِأَشْرَفِ الْيَدَيْنِ وَهِيَ الْيُمْنَى بَلَاغَةٌ لَا
مِثْلُهَا ، وَحِكْمَةٌ لَا يَجْهَلُ اللّبِيبُ فَضْلَهَا .
الْبَدَاءُ
وَقَوْلُ ابْنِ إسْحَاقَ : ظَنّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- أَنْ قَدْ بَدَا لِعَمّهِ بَدَاءٌ أَيْ ظَهَرَ لَهُ رَأْيٌ [ ص 8 ] بَدَاءً
لِأَنّهُ شَيْءٌ يَبْدُو بَعْدَ مَا خَفِيَ وَالْمَصْدَرُ الْبَدْءُ وَالْبَدْوُ
وَالِاسْمُ الْبَدَاءُ وَلَا يُقَالُ فِي الْمَصْدَرِ بَدَا لَهُ بُدُوّ ، كَمَا
لَا يُقَالُ ظَهَرَ لَهُ ظُهُورٌ بِالرّفْعِ لِأَنّ الّذِي يَظْهَرُ وَيَبْدُو
هَاهُنَا هُوَ الِاسْمُ نَحْوَ الْبَدَاءِ وَأَنْشَدَ أَبُو عَلِيّ لَعَلّك
وَالْمَوْعُودُ حَق ّ وَفَاؤُهُ بَدَا لَك فِي تِلْكَ الْقُلُوصِ بَدَاءُ
وَمِنْ أَجْلِ أَنّ الْبُدُوّ هُوَ الظّهُورُ كَانَ الْبَدَاءُ فِي وَصْفِ
الْبَارِي - سُبْحَانَهُ - مُحَالًا ؛ لِأَنّهُ لَا يَبْدُو لَهُ شَيْءٌ كَانَ
غَائِبًا عَنْهُ وَالنّسْخُ لِلْحُكْمِ لَيْسَ بِبَدَاءِ كَمَا تَوَهّمَتْ
الْجَهَلَةُ مِنْ الرّافِضَةِ وَالْيَهُودِ ، إنّمَا هُوَ تَبْدِيلُ حُكْمٍ
بِحُكْمِ بِقَدَرِ قَدّرَهُ وَعِلْمٍ عَلِمَهُ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بَدَا
لَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَرَادَ . وَهَذَا مِنْ
الْمَجَازِ الّذِي لَا سَبِيلَ إلَى إطْلَاقِهِ إلّا بِإِذْنِ مِنْ صَاحِبِ
الشّرْعِ وَقَدْ صَحّ فِي ذَلِكَ مَا خَرّجَهُ الْبُخَارِيّ فِي حَدِيثِ
الثّلَاثَةِ الْأَعْمَى وَالْأَقْرَعِ وَالْأَبْرَصِ وَأَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ
قَالَ بَدَا لِلّهِ أَنْ يَبْتِلَهُمْ فَبَدَا هُنَا بِمَعْنَى : أَرَادَ
وَذَكَرْنَا الرّافِضَةَ ، لِأَنّ ابْنَ أَعْيَنَ وَمَنْ اتّبَعَهُ مِنْهُمْ
يُجِيزُونَ الْبَدَاءَ عَلَى اللّهِ تَعَالَى ، وَيَجْعَلُونَهُ وَالنّسْخَ
شَيْئًا وَاحِدًا ، وَالْيَهُودُ لَا تُجِيزُ النّسْخَ يَحْسَبُونَهُ بَدَاءً
وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ الْبَدَاءَ كَالرّافِضَةِ وَيُرْوَى أَنّ عَلِيّا -
رَحِمَهُ اللّهُ - صَلّى يَوْمًا ، ثُمّ ضَحِكَ فَسُئِلَ عَنْ ضَحِكِهِ فَقَالَ
تَذَكّرْت أَبَا طَالِبٍ حِينَ فُرِضَتْ الصّلَاةُ وَرَآنِي أُصَلّي مَعَ رَسُولِ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِنَخْلَةَ فَقَالَ " مَا هَذَا
الْفِعْلُ الّذِي أَرَى " ؟ فَلَمّا أَخْبَرْنَاهُ قَالَ " ذَا حَسَنٌ
وَلَكِنْ لَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا ، لَا أُحِبّ أَنْ تَعْلُوَنِي اسْتِي "
فَتَذَكّرْت الْآنَ قَوْلَهُ فَضَحِكْت .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ قُرَيْشًا حِينَ عَرَفُوا أَنّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ
أَبَى خِذْلَانَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَإِسْلَامَهُ
وَإِجْمَاعَهُ لِفِرَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ وَعَدَاوَتِهِمْ مَشَوْا إلَيْهِ [ ص 9 ]
بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، قَالُوا لَهُ - فِيمَا بَلَغَنِي
- يَا أَبَا طَالِبٍ هَذَا عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنْهَدُ فَتًى فِي قُرَيْشٍ
وَأَجْمَلُهُ فَخُذْهُ فَلَك عَقْلُهُ وَنَصْرُهُ وَاِتّخِذْهُ وَلَدًا فَهُوَ لَك
، وَأَسْلِمْ إلَيْنَا ابْنَ أَخِيك هَذَا ، الّذِي قَدْ خَالَفَ دِينَك وَدِينَ
آبَائِك ، وَفَرّقَ جَمَاعَةَ قَوْمِك ، وَسَفّهَ أَحْلَامَهُمْ فَنَقْتُلُهُ
فَإِنّمَا هُوَ رَجُلٌ بِرَجُلِ فَقَالَ وَاَللّهِ لَبِئْسَ مَا تَسُومُونَنِي
أَتُعْطُونَنِي ابْنَكُمْ أَغْذُوهُ لَكُمْ وَأُعْطِيكُمْ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ
هَذَا وَاَللّهِ مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا . قَالَ فَقَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ
بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ : وَاَللّهِ يَا أَبَا طَالِبٍ
لَقَدْ أَنْصَفَك قَوْمُك ، وَجَهَدُوا عَلَى التّخَلّصِ مِمّا تَكْرَهُهُ فَمَا
أَرَاك تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ
لِلْمُطْعِمِ وَاَللّهِ مَا أَنْصَفُونِي ، وَلَكِنّك قَدْ أَجْمَعْت خِذْلَانِي
وَمُظَاهَرَةَ الْقَوْمِ عَلَيّ فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك أَوْ كَمَا قَالَ . قَالَ
فَحَقِبَ الْأَمْرُ وَحَمِيَتْ الْحَرْبُ وَتَنَابَذَ الْقَوْمُ وَبَادَى
بَعْضُهُمْ بَعْضًا . فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ عِنْدَ ذَلِكَ - يُعَرّضُ
بِالْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ - وَيَعُمّ مَنْ خَذَلَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ
وَمَنْ عَادَاهُ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ ، وَيَذْكُرُ مَا سَأَلُوهُ وَمَا تَبَاعَدَ
مِنْ أَمْرِهِمْ [ ص 10 ] [ ص 11 ]
أَلَا قُلْ لِعَمْرِو وَالْوَلِيدِ وَمُطْعِمٍ ... أَلَا لَيْتَ حَظّي مِنْ
حِيَاطَتِكُمْ بَكْرُ
مِنْ الْخُورِ حَبْحَابٌ كَثِيرٌ رُغَاؤُهُ ... يُرَشّ عَلَى السّاقَيْنِ مِنْ
بَوْلِهِ قَطْرُ
تَخَلّفَ خَلْفَ الْوِرْدِ لَيْسَ بِلَاحِقِ ... إذَا مَا عَلَا الْفَيْفَاءَ
قِيلَ لَهُ وَبْرُ
أَرَى أَخَوَيْنَا مِنْ أَبِينَا وَأُمّنَا ... إذَا سُئِلَا قَالَا : إلَى
غَيْرِنَا الْأَمْرُ
بَلَى لَهُمَا أَمْرٌ وَلَكِنْ تَجَرْجُمَا ... كَمَا جَرْجَمَتْ مِنْ رَأْسِ ذِي
عَلَقَ صَخْرُ
أَخُصّ خُصُوصًا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... هُمَا نَبَذَانَا مِثْلَ مَا
يُنْبَذُ الْجَمْرُ
هُمَا أَغْمَزَا لِلْقَوْمِ فِي أَخَوَيْهِمَا ... فَقَدْ أَصْبَحَا مِنْهُمْ
أَكُفّهُمَا صِفْرُ
وَتَيْمٌ وَمَخْزُومٌ وَزُهْرَةُ مِنْهُمْ ... وَكَانُوا لَنَا مَوْلًى إذَا
بُغِيَ النّصْرُ
فَوَاَللّهِ لَا تَنْفَكّ مِنّا عَدَاوَةٌ ... لَا مِنْهُمْ مَا كَانَ مِنْ
نَسْلِنَا شَفْرُ
فَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُهُمْ وَعُقُولُهُمْ ... وَكَانُوا كَجَفْرِ بِئْسَ مَا
صَنَعَتْ جَفْرُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتَيْنِ أَقْذَعَ فِيهِمَا .Sعَرْضُ
قُرَيْشٍ عَلَى أَبِي طَالِبٍ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ الْمَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي طَالِبٍ هَذَا عُمَارَةُ بْنُ
الْوَلِيدِ أَنْهَدُ فَتًى فِي قُرَيْشٍ ، وَأَجْمَلُهُ فَخُذْهُ مَكَانَ ابْنِ
أَخِيك . أَنْهَدُ . أَيْ أَقْوَى وَأَجْلَدُ وَيُقَالُ فَرَسٌ نَهْدٌ لِلّذِي
يَتَقَدّمُ الْخَيْلَ وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ التّقَدّمُ وَمِنْهُ يُقَالُ
نَهَدَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ أَيْ بَرَزَ قُدُمًا . [ ص 9 ] وَعُمَارَةُ بْنُ
الْوَلِيدِ هَذَا الْمَذْكُورُ هُوَ الّذِي أَرْسَلَتْهُ قُرَيْشٌ مَعَ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَسُحِرَ هُنَاكَ وَجُنّ وَسَنَزِيدُ فِي
خَبَرِهِ شَيْئًا بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللّهُ . وَذَكَرُوا أَنّ أَبَا طَالِبٍ
قَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ أَنْ يَأْخُذَ عُمَارَةَ بَدَلًا مِنْ مُحَمّدٍ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرَأَيْتُمْ نَاقَةً تَحِنّ إلَى غَيْرِ
فَصِيلِهَا وَتَرْأَمُهُ لَا أُعْطِيكُمْ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ أَبَدًا ، وَآخُذُ
ابْنَكُمْ أَكْفُلُهُ وَأَغْذُوهُ وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ فَحَقِبَ الْأَمْرُ عِنْدَ ذَلِكَ يُرِيدُ اشْتَدّ وَهُوَ مِنْ
قَوْلِك : حَقِبَ الْبَعِيرُ إذَا رَاغَ عَنْهُ الْحَقَبُ مِنْ شِدّةِ الْجَهْدِ
وَالنّصَبِ وَإِذَا عَسُرَ عَلَيْهِ الْبَوْلُ أَيْضًا لِشَدّ الْحَقَبِ عَلَى
ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيُقَالُ مِنْهُ حَقِبَ الْبَعِيرُ ثُمّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمْرِ
إذَا عَسُرَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فَشَرِيَ الْأَمْرُ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْ انْتَشَرَ
الشّرّ ، وَمِنْهُ الشّرَى ، وَهِيَ قُرُوحٌ تَنْتَشِرُ عَلَى الْبَدَنِ يُقَالُ
مِنْهُ شَرِيَ جِلْدُ الرّجُلِ يَشْرَى شَرًى .
شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ شِعْرَ أَبِي طَالِبٍ [ ص 10 ] أَلَا لَيْتَ حَظّي مِنْ حِيَاطَتِكُمْ
بَكْرُ
أَيْ إنّ بَكْرًا مِنْ الْإِبِلِ أَنْفَعُ لِي مِنْكُمْ فَلَيْتَهُ لِي بَدَلًا
مِنْ حِيَاطَتِكُمْ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ فِي عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ :
فَلَيْتَ لَنَا مَكَانَ الْمَلْكِ عَمْرٍو ... رَغُوثًا حَوْلَ قُبّتِنَا تَخُورُ
وَقَوْلُهُ مِنْ الْخُورِ حَبْحَابٌ . الْخُورُ الضّعَافُ وَالْحَبْحَابُ
بِالْحَاءِ الصّغِيرُ . وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ جِبْجَابٌ
بِالْجِيمِ وَفَسّرَهُ فَقَالَ هُوَ الْكَثِيرُ الْهَدْرِ وَفِي الشّعْرِ إذَا مَا
عَلَا الْفَيْفَاءَ قِيلَ لَهُ وَبْرُ
أَيْ يُشَبّهُ بِالْوَبْرِ لِصِغَرِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ يَصْغُرُ
فِي الْعَيْنِ لِعُلُوّ الْمَكَانِ وَبُعْدِهِ وَالْفَيْفَاءُ فَعْلَاءُ وَلَوْلَا
قَوْلُهُمْ الْفَيْفُ لَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى بَابِ الْقَضْقَاضِ وَالْجَرْجَارِ
أَوْلَى ، وَلَكِنْ سُمِعَ الْفَيْفُ فَعُلِمَ أَنّ الْأَلِفَيْنِ زَائِدَتَانِ
وَأَنّهُ مِنْ بَابِ قَلِقَ وَسَلِسَ الّذِي ضُوعِفَتْ فِيهِ فَاءُ الْفِعْلِ
دُونَ عَيْنِهِ وَهِيَ أَلْفَاظٌ يَسِيرَةٌ نَحْوَ قَلِقَ وَسَلِسَ وَثُلُثٌ وَسُدُسٌ
وَقَدْ اعْتَنَيْنَا بِجَمْعِهَا مِنْ الْكَلَامِ وَلَعَلّ لَهَا مَوْضِعًا
تُذْكَرُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ، وَلَا تَكُونُ
أَلِفُ فَيْفَاءَ لِلْإِلْحَاقِ فَيُصْرَفُ لِأَنّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ
فَعْلَالٌ فَإِنْ قِيلَ يَكُونُ مُلْحَقًا بِقَضْقَاضٍ وَبَابِهِ قُلْنَا :
قَضْقَاضٌ ثُنَائِيّ مُضَاعَفٌ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ الثّلَاثِيّ ، كَمَا لَا
يُلْحَقُ الرّبَاعِيّ بِالثّلَاثِيّ وَلَا الْأَكْبَرُ بِالْأَقَلّ وَقَدْ حُكِيَ
فَيْفَاةٌ بِالْقَصْرِ وَلَيْسَتْ أَلِفُهَا لِلتّأْنِيثِ إذْ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ
عَلَامَتَيْ تَأْنِيثٍ فَهِيَ إذًا مِنْ بَابِ أَرْطَاةَ وَنَحْوِهَا ، كَأَنّهَا
مُلْحَقَةٌ بِسَلْهَبَةَ . وَفِي الشّعْرِ كَمَا جَرْجَمَتْ مِنْ رَأْسِ ذِي
عَلَقَ صَخْرُ
[ ص 11 ] وَتُرِكَ صَرْفُ عَلَقَ إمّا لِأَنّهُ جَعَلَهُ اسْمَ بُقْعَةٍ وَإِمّا
لِأَنّهُ اسْمُ عَلَمٍ وَتَرْكُ صَرْفِ الِاسْمِ الْعَلَمِ سَائِغٌ فِي الشّعْرِ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَنّثًا وَلَا عَجَمِيّا نَحْوَ قَوْلِ عَبّاسِ بْنِ
مِرْدَاسٍ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَنَحْوَ قَوْلِ الْآخَرِ
يَا مَنْ جَفَانِي وَمَلّا ... نَسِيت أَهْلًا وَسَهْلَا
وَمَاتَ مَرْحَبُ لَمّا ... رَأَيْت مَا لِي قَلّا
فَلَمْ يَصْرِفْ مَرْحَبَا ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ شَوَاهِدُ
كَثِيرَةٌ عَلَى هَذَا ، وَنَشْرَحُ الْعِلّةَ فِيهِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ،
وَلَوْ رُوِيَ مِنْ رَأْسِ ذِي عَلَقَ الصّخْرُ بِحَذْفِ التّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ
السّاكِنِينَ لَكَانَ حَسَنًا ، كَمَا قُرِئَ { قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ اللّهُ
الصّمَدُ } بِحَذْفِ التّنْوِينِ مِنْ " أَحَدُ " ، وَهِيَ رِوَايَةُ
ابْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَقَالَ الشّاعِرُ حُمَيْدُ الّذِي أَمُجّ
دَارَهُ
[ ص 12 ] وَقَالَ آخَرُ وَلَا ذَاكِرُ اللّهِ إلّا قَلِيلَا
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ قُرَيْشًا تَذَامَرُوا بَيْنَهُمْ عَلَى مَنْ فِي
الْقَبَائِلِ مِنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - الّذِينَ أَسْلَمُوا مَعَهُ فَوَثَبَتْ كُلّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ
فِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُعَذّبُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ
وَمَنَعَ اللّهُ رَسُولَهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْهُمْ بِعَمّهِ
أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ قَامَ أَبُو طَالِبٍ ، حِينَ رَأَى قُرَيْشًا يَصْنَعُونَ
مَا يَصْنَعُونَ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ ، فَدَعَاهُمْ إلَى مَا
هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
وَالْقِيَامِ دُونَهُ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ وَقَامُوا مَعَهُ وَأَجَابُوهُ إلَى
مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ إلّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي لَهَبٍ عَدُوّ اللّهِ
الْمَلْعُونِ . [ ص 12 ] سَرّهُ فِي جَهْدِهِمْ مَعَهُ وَحَدَبِهِمْ عَلَيْهِ
جَعَلَ يَمْدَحُهُمْ وَيَذْكُرُ قَدِيمَهُمْ وَيَذْكُرُ فَضْلَ رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيهِمْ وَمَكَانَهُ مِنْهُمْ لِيَشُدّ لَهُمْ
رَأْيَهُمْ وَلِيَحْدَبُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ فَقَالَ
إذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ ... لِمَفْخَرِ فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرّهَا
وَصَمِيمُهَا
فَإِنْ حُصّلَتْ أَشْرَافُ عَبْدِ مَنَافِهَا ... فَفِي هَاشِمٍ أَشْرَافُهَا
وَقَدِيمُهَا
تَدَاعَتْ قُرَيْشٌ غَثّهَا وَسَمِينُهَا ... عَلَيْنَا فَلَمْ تَظْفَرْ وَطَاشَتْ
حُلُومُهَا
وَكُنّا قَدِيمًا لَا نُقِرّ ظُلَامَةً ... إذَا مَا ثَنَوْا صُعْرَ الْخُدُودِ
نُقِيمُهَا
وَنَحْمِي حِمَاهَا كُلّ يَوْمٍ كَرِيهَةً ... وَنَضْرِبُ عَنْ أَجْحَارِهَا مَنْ
يَرُومُهَا
بِنَا انْتَعَشَ الْعُودُ الذّوَاءُ وَإِنّمَا ... بِأَكْنَافِنَا تَنْدِي
وَتَنْمِي أُرُومُهَاSوَأَنْشَدَ
قَوْلَ أَبِي طَالِبٍ
إذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ لِمَفْخَرِ ... فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرّهَا
وَصَمِيمُهَا
قَوْلُهُ سِرّهَا ، أَيْ وَسَطُهَا ، وَسِرّ الْوَادِي وَسَرَارَتُهُ وَسَطُهُ
وَقَدْ تَقَدّمَ مَتَى يَكُونُ الْوَسَطُ مَدْحًا ، وَأَنّ ذَلِكَ فِي
مَوْضِعَيْنِ فِي وَصْفِ الشّهُودِ وَفِي النّسَبِ وَبَيّنّا السّرّ فِي ذَلِكَ .
وَقَالَ فِي الْقَصِيدَةِ وَنَضْرِبُ عَنْ أَحْجَارِهَا مَنْ يَرُومُهَا . أَيْ
نَدْفَعُ عَنْ حُصُونِهَا وَمَعَاقِلِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ الرّوَايَةُ
أَجْحَارُهَا بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ فَهُوَ جَمْعُ جُحْرٍ وَالْجُحْرُ هُنَا
مُسْتَعَارٌ وَإِنّمَا يُرِيدُ عَنْ بُيُوتِهَا وَمَسَاكِنِهَا .
مَوْقِفُ
الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مِنْ الْقُرْآنِ
ثُمّ إنّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ -
وَكَانَ ذَا سِنّ فِيهِمْ وَقَدْ حَضَرَ [ ص 13 ] فَقَالَ لَهُمْ يَا مَعْشَرَ
قُرَيْشٍ ، إنّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ وَإِنّ وُفُودَ الْعَرَبِ
سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا ،
فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا ، وَلَا تَخْتَلِفُوا ، فَيُكَذّبُ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وَيَرُدّ قَوْلُكُمْ بَعْضُهُ بَعْضًا ، قَالُوا : فَأَنْتَ
يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ ، فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُولُ بِهِ قَالَ بَلْ
أَنْتُمْ فَقُولُوا أَسْمَعُ قَالُوا : نَقُولُ كَاهِنٌ قَالَ لَا وَاَللّهِ مَا
هُوَ بِكَاهِنِ لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ
وَلَا سَجْعِهِ قَالُوا : فَنَقُولُ مَجْنُونٌ قَالَ مَا هُوَ بِمَجْنُونِ لَقَدْ
رَأَيْنَا الْجُنُونَ وَعَرَفْنَاهُ فَمَا هُوَ بِخَنِقِهِ وَلَا تَخَالُجِهِ
وَلَا وَسْوَسَتِهِ قَالُوا : فَنَقُولُ شَاعِرٌ قَالَ مَا هُوَ بِشَاعِرِ لَقَدْ
عَرَفْنَا الشّعْرَ كُلّهُ رَجَزَهُ وَهَزَجَهُ وَقَرِيضَهُ وَمَقْبُوضَهُ
وَمَبْسُوطَهُ فَمَا هُوَ بِالشّعْرِ قَالُوا : فَنَقُولُ سَاحِرٌ قَالَ مَا هُوَ
بِسَاحِرِ لَقَدْ رَأَيْنَا السّحّارَ وَسِحْرَهُمْ فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِمْ وَلَا
عَقْدِهِمْ قَالُوا : فَمَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ ؟ قَالَ وَاَللّهِ
إنّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً ، وَإِنّ أَصْلَهُ لَعَذْقٌ وَإِنّ فَرْعَهُ لَجَنَاةٌ
- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ لَغَدَقٌ - وَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ
هَذَا شَيْئًا إلّا عُرِفَ أَنّهُ بَاطِلٌ وَإِنّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ [ ص 14 ]
وَأَبِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجَتِهِ وَبَيْنَ
الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ . فَتَفْرُقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ
بِسُبُلِ النّاسِ حِينَ قَدِمُوا الْمَوْسِمَ لَا يَمُرّ بِهِمْ أَحَدٌ إلّا
حَذّرُوهُ إيّاهُ وَذَكَرُوا لَهُمْ أَمْرَهُ .Sمَوْقِفُ
الْوَلِيدِ مِنْ الْقُرْآنِ
وَذَكَرَ خَبَرَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَقَوْلَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الْوَحْيِ وَالْقُرْآنِ قَدْ
سَمِعْنَا الشّعْرَ فَمَا هُوَ بِهَزَجِهِ وَلَا رَجَزِهِ . وَالْهَزَجُ مِنْ
أَعَارِيضِ الشّعْرِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ [ ص 13 ] يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي
وَصْفِ الذّبَابِ هَزِجٌ أَيْ مُتَرَنّمٌ وَأَمّا الرّجَزُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ مِنْ رَجَزْت الْحَمْلَ إذَا عَدَلْته بِالرّجَازَةِ وَهُوَ شَيْءٌ
يُعْدَلُ بِهِ الْحَمْلُ وَكَذَلِكَ الرّجَزُ فِي الشّعْرِ أَشْطَارٌ مُعَدّلَةٌ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَجَزَتْ النّاقَةُ إذَا أَصَابَتْهَا رِعْدَةٌ
عِنْدَ قِيَامِهَا ، كَمَا قَالَ الشّاعِرُ حَتّى تَقُومَ تَكَلّفَ الرّجْزَاءِ
فَالْمُرْتَجِزُ كَأَنّهُ مُرْتَعِدٌ عِنْدَ إنْشَادِهِ لِقِصَرِ الْأَبْيَاتِ .
وَقَوْلُهُ قَدْ سَمِعْنَا الْكُهّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ وَلَا
سَجْعِهِ الزّمْزَمَةُ صَوْتٌ ضَعِيفٌ كَنَحْوِ مَا كَانَتْ الْفُرْسُ تَفْعَلُهُ
عِنْدَ شُرْبِهَا الْمَاءَ وَيُقَالُ أَيْضًا : زَمْزَمَ الرّعْدُ وَهُوَ صَوْتٌ
لَهُ قَبْلَ الْهَدْرِ وَكَذَلِكَ الْكُهّانُ كَانَتْ لَهُمْ زَمْزَمَةٌ اللّهُ
أَعْلَمُ بِكَيْفِيّتِهَا ، وَأَمّا زَمْزَمَةُ الْفُرْسِ ، فَكَانَتْ مِنْ
أُنُوفِهِمْ . وَقَوْلُ الْوَلِيدِ إنّ أَصْلَهُ لَعَذْقٌ وَإِنّ فَرْعَهُ
لَجَنَاةٌ . اسْتِعَارَةٌ مِنْ النّخْلَةِ الّتِي ثَبَتَ أَصْلُهَا ، [ ص 14 ]
وَطَابَ فَرْعُهَا إذَا جَنَى ، وَالنّخْلَةُ هِيَ الْعَذْقُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ
وَرِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ أَفْصَحُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ ؛ لِأَنّهَا
اسْتِعَارَةٌ تَامّةٌ يُشْبِهُ آخِرُ الْكَلَامِ أَوّلَهُ وَرِوَايَةُ ابْنِ
هِشَامٍ : إنّ أَصْلَهُ لَغَدْقٌ وَهُوَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ وَمِنْهُ يُقَالُ
غَيْدَقَ الرّجُلُ إذَا كَثُرَ بُصَاقُهُ وَأَحَدُ أَعْمَامِ النّبِيّ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ يُسَمّى : الْغَيْدَاقُ لِكَثْرَةِ عَطَائِهِ
وَالْغَيْدَقُ أَيْضًا وَلَدُ الضّبّ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ الْحِسْلِ قَالَهُ
قُطْرُبٌ فِي كِتَابِ الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ لَهُ .
مَا
نَزَلَ فِي حَقّ الْوَلِيدِ مِنْ الْقُرْآنِ
فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ
قَوْلِهِ { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا
وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلّا
إِنّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا } [ الْمُدّثّرِ 11 - 16 ] أَيْ خَصِيمًا .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَنِيدًا : مُعَانِدٌ مُخَالِفٌ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ
الْعَجّاجِ : وَنَحْنُ ضَرّابُونَ رَأْسَ الْعُنّدِ [ ص 15 ] { سَأُرْهِقُهُ
صَعُودًا إِنّهُ فَكّرَ وَقَدّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ ثُمّ قُتِلَ كَيْفَ
قَدّرَ ثُمّ نَظَرَ ثُمّ عَبَسَ وَبَسَرَ } [ الْمُدّثّرِ 17 - 22 ] . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : بَسَرَ كَرِهَ وَجْهَهُ . قَالَ الْعَجّاجُ مُضَبّرُ اللّحْيَيْنِ
بَسْرًا مِنْهَا يَصِفُ كَرَاهِيَةَ وَجْهِهِ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ
لَهُ { ثُمّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ
إِنْ هَذَا إِلّا قَوْلُ الْبَشَرِ } [ الْمُدّثّرِ 23 - 25 ] . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : فِي رَسُولِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللّهِ تَعَالَى ، وَفِي النّفَرِ الّذِينَ كَانُوا
مَعَهُ يُصَنّفُونَ الْقَوْلَ فِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللّهِ تَعَالَى : { كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى
الْمُقْتَسِمِينَ الّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَرَبّكَ
لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الْحِجْرِ : 90 - 93
] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاحِدَةُ الْعِضِينَ عِضَةٌ يَقُولُ عَضّوْهُ
فَرّقُوهُ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : وَلَيْسَ دِينُ اللّهِ بِالْمُعَضّى
[ ص 16 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَجَعَلَ أُولَئِكَ النّفَرُ يَقُولُونَ ذَلِكَ
فِي رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِمَنْ لَقُوا مِنْ
النّاسِ وَصَدَرَتْ الْعَرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْسِمِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَانْتَشَرَ ذِكْرُهُ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ
كُلّهَا .S{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا }
فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى : { ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيدًا } الْآيَاتِ الّتِي نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ وَفِيهَا لَهُ
تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِأَنّ مَعْنَى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ } أَيْ
دَعْنِي وَإِيّاهُ فَسَتَرَى مَا أَصْنَعُ بِهِ كَمَا قَالَ { فَذَرْنِي وَمَنْ
يُكَذّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ } [ الْقَلَمِ 44ْ ] وَهِيَ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا
الْمُغْتَاظُ إذَا اشْتَدّ غَيْظُهُ وَغَضَبُهُ وَكَرِهَ أَنْ يَشْفَعَ لِمَنْ
اغْتَاظَ عَلَيْهِ فَمَعْنَى الْكَلَامِ أَيْ لَا شَفَاعَةَ تَنْفَعُ لِهَذَا
الْكَافِرِ وَلَا اسْتِغْفَارَ يَا مُحَمّدٌ مِنْك ، وَلَا مِنْ غَيْرِك
وَقَوْلُهُ { وَبَنِينَ شُهُودًا } أَيْ مُقِيمِينَ مَعَهُ غَيْرَ مُحْتَاجِينَ
إلَى الْأَسْفَارِ وَالْغَيْبَةِ عَنْهُ لِأَنّ مَالَهُ مَمْدُودٌ وَالْمَالُ
الْمَمْدُودُ عِنْدَهُمْ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَصَاعِدًا { وَمَهّدْتُ
لَهُ تَمْهِيدًا } أَيْ هَيّأْت لَهُ وَقَدّمْت لَهُ مُقَدّمَاتٍ اسْتِدْرَاجًا
لَهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا } هِيَ عَقَبَةٌ فِي جَهَنّمَ
يُقَالُ لَهَا : الصّعُودُ مَسِيرُهَا سَبْعُونَ سَنَةً يُكَلّفُ الْكَافِرُ أَنْ
يَصْعَدَهَا ، فَإِذَا صَعِدَهَا بَعْدَ [ ص 15 ] صُبّ مِنْ أَعْلَاهَا ، وَلَا
يَتَنَفّسُ ثُمّ لَا يَزَالُ كَذَلِكَ أَبَدًا ، كَذَلِكَ جَاءَ فِي التّفْسِيرِ .
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ } أَيْ لُعِنَ كَيْفَمَا كَانَ
تَقْدِيرُهُ فَكَيْفَ هَاهُنَا مِنْ حُرُوفِ الشّرْطِ وَقِيلَ مَعْنَى قُتِلَ أَيْ
هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُدْعَى عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ وَقَدْ فَسّرَ ابْنُ هِشَامٍ :
بَسَرَ وَالْبَسْرُ أَيْضًا : الْقَهْرُ وَالْبَسْرُ حَمْلُ الْفَحْلِ عَلَى
النّاقَةِ قَبْلَ وَقْتِ الضّرَابِ . وَفَسّرَ عِضِينَ [ ص 16 ] وَجَعَلَهُ مِنْ
عَضّيْت أَيْ فَرّقْت ، وَفِي الْحَدِيثِ " لَا تَعْضِيَةَ فِي مِيرَاثٍ إلّا
مَا احْتَمَلَهُ الْقَسْمُ " وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ
ابْنِ الْقَاسِمِ وَرَأْيِهِ فِي كُلّ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إذَا قُسِمَ أَوْ
كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الشّرِيكَيْنِ أَلّا يُقْسَمَ وَهُوَ خِلَافُ رَأْيِ
مَالِكٍ ، وَحُجّةُ مَالِكٍ قَوْلُ اللّهِ تَعَالَى : { مِمّا قَلّ مِنْهُ أَوْ
كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } [ النّسَاءِ 7 ] . وَقَدْ قِيلَ فِي عِضِينَ إنّهُ
جَمْعُ عِضَةٍ وَهِيَ السّحْرُ وَأَنْشَدُوا :
أَعُوذُ بِرَبّي مِنْ النّافِثَيْا ... ت فِي الْعُقَدِ الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ يَا لِلْعَضِيهَةِ وَيَا لِلْأَفِيكَةِ [ وَيَا لِلْبَهِيتَةِ
]