ثم دخلت سنة ست وستين ذكر الخبر عن الكائن الذي كان فيها من الأمور الجليلة فمما كان فيها من ذلك وثوب المختار بن أبي عبيد بالكوفة طالبًا بدم الحسين بن علي بن أبي طالب وإخراجه منها عامل ابن الزبير عبد الله بن مطيع العدوي. ذكر الخبر عما كان من أمرهما في ذلك وظهور المختار للدعوة إلى ما دعا إليه الشيعة بالكوفة ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن فضيل بن خديج، حدثه عن عبيدة بن عمرو وإسماعيل بن كثير من بني هند، أن أصحاب سليمان بن صرد لما قدموا كتب إليهم المختار: أما بعد، فإن الله أعظم لكم الأجر، وحط عنكم الوزر، بمفارقة القاسطين، وجهاد المحلين؛ إنكم لم تنفقوا نفقة، ولم تقطعوا عقبة، ولم تخطوا خطوة إلا رفع الله لكم بها درجة، وكتب لكم بها حسنة، إلى مالا يحصيه إلا الله من التضعيف؛ فأبشروا فإني لو قد خرجت إليكم قد جردت فما بين المشرق والمغرب في عدوكم السيف بإذن الله، فجعلتهم بإذن الله ركامًا؛ وقتلتهم فذًا وتؤامًا؛ فرحب الله بمن قارب منكم واهتدى؛ ولا يبعد الله إلا من عصى وأبى؛ والسلام يا أهل الهدى. فجاءهم بهذا الكتاب سيحان بن عمرو، من بنى ليث من عبد القيس قد أدخله في قلنسوته يبين الظهارة والبطانة؛ فأتى بالكتاب رفاعة بن شداد والمثنى بن مخربة العبدى وسعد بن حذيفة بن اليمان ويزيد بن أنس وأحمر بن شميط الأحمسى وعبد الله بن شداد البجلى وعبد الله بن كامل؛ فقرأ عليهم الكتاب؛ فبعثوا إليه ابن كامل؛ فقالوا: قل له: قد قرأنا الكتاب؛ ونحن حيث يسرك؛ فإن شئت أن نأتيك حتى نخرجك فعلنا. فأتاه؛ فدخل عليه السجن؛ فأخبره بما أرسل إليه به؛ فسر باجتماع الشيعة له؛ وقال لهم: لا تريدوا هذا؛ فإني أخرج في أيامي هذه. قال: وكان المختار قد بعث غلامًا يدعى زربيًا إلى عبد الله بن عمر ابن الخطاب، وكتب إليه: أما بعد: فإني قد حبست مظلومًا، وظن بي الولاة ظنونًا كاذبة؛ فاكتب في يرحمك الله إلى هذين الظالمين كتابًا لطيفًا؛ عسى الله أن يخلصني من أيديهما بلطفك وبركتك ويمنك؛ والسلام عليك. فكتب إليهما عبد الله بن عمر: أما بعد؛ فقد علمتما الذي بيني وبين المختار بن أبى عبيد من الصهر، والذي بيني وبينكما من الود؛ فأقسمت عليكما بحق ما بيني وبينكما لما خليتما سبيله حين تنظران في كتابي هذا، والسلام عليكما ورحمة الله. فلما أتى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة كتاب عبد الله ابن عمر دعوا للمختار بكفلاء يضمنونه بنفسه، فأتاه أناس من أصحابه كثير، فقال يزيد بن الحارث بن يزيد بن رؤيم لعبد الله بن يزيد: ما تصنع بضمان هؤلاء كلهم! ضمنه عشرة منهم أشرافًا معروفين، ودع سائرهم. ففعل ذلك، فلما ضمنوه، دعا به عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة فحلفاه بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم؛ لا يبغيهما غائلة، ولا يخرج عليهما ما كان لهما سلطان؛ فإن هو فعل فعليه ألف بدنة ينحرها لدى رتاج الكعبة؛ ومما ليكه كلهم ذكرهم وأنثاهم أحرار. فحلف لهما بذلك، ثم خرج فجاء داره فنزلها. قال أبومخنف: فحدثني يحيى بن أبى عيسى، عن حميد بن مسلم، قال: سمعت المختار بعد ذلك يقول: قاتلهم الله! ما أحمقهم حين يرون أنى أفي لهم بأيمانهم هذه! أما حلفي لهم بالله؛ فإنه ينبغي لي إذا حلفت على يمين فرأيت ما هو خير منها أن أدع ما حلفت عليه وآتى الذي هو خير؛ وأكفر يميني، وخروجي عليهم خير من كفى عنهم؛ وأكفر يميني؛ وأما هدى ألف بدنة فهو أهون علي من بصقة؛ وماثمن ألف بدنة فيهولني! وأما عتق مما ليكي فوالله لو ددت أنه قد استتب لي أمري، ثم لم أملك مملوكًا أبدًا. قال: ولما نزل المختار داره عند خروجه من السجن، اختلف إليه الشيعة واجتمعت عليه؛ واتفق رأيها على الرضا به، وكان الذي يبايع له الناس وهو في السجن خمسة نفر: السائب بن مالك الأشعري، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط، ورفاعة بن شداد الفتياني، وعبد الله بن شداد الجشمي. قال: فلم تزل أصحابه يكثرون، وأمره يقوى ويشتد حتى عزل ابن الزبير عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة، وبعث عبد الله بن مطيع على عملهما إلى الكوفة. قال أبو مخنف: فحدثني الصقعب بن زهير، عن عمر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، قال: دعا ابن الزبير عبد الله بن مطيع أخا بنى عدى ابن كعب والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي؛ فبعث عبد الله بن مطيع على الكوفة، وبعث الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة على البصرة. قال: فبلغ ذلك بحير بن ريسان الحميري؛ فلقيهما، فقال لهما: ياهذان؛ إن القمر الليلة بالناطح، فلا تسيرا. فأما ابن أبى ربيعة؛ فأطاعه؛ فأقام يسيرا ثم شخص إلى عمله فسلم؛ عبد الله بن مطيع فقال له: وهل نطلب إلا النطح! قال: فلقي والله نطحًا وبطحًا، قال: يقول عمر: والبلاء موكل بالقول. قال عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: بلغ عبد الملك بن مروان أن ابن الزبير بعث عمالًا على البلاد؛ فقال: من بعث على البصرة؟ فقيل: بعث عليها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة؛ قال: لا حر بوادي عوف، بعث عوفًا وجلس! ثم فال: من بعث على الكوفة؟ قالوا: عبد الله بن مطيع، قال: حازم وكثيرًا ما يسقط، وشجاع وما يكره أن يفر، قال: من بعث على المدينة؟ قالوا: بعث أخاه مصعب بن الزبير، قال: ذاك الليث النهد، وهو رجل أهل بيته. قال هشام: قال أبو مخنف: وقدم عبد الله بن مطيع الكوفة في رمضان سنة خمس وستين يوم الخميس لخمس بقين من شهر رمضان، فقال لعبد الله ابن يزيد: إن أحببت أن تقيم معي أحسنت صحبتك، وأكرمت مثواك؛ وإن لحقت بأمير المؤمنين عبد الله بن الزبير فبك عليه كرامة، وعلى من قبله من المسلمين. وقال لإبراهيم بن محمد بن طلحة: الحق بأمير المؤمنين؛ فخرج إبراهيم حتى قدم المدينة، وكسر على ابن الزبير الحراج؛ وقال: إنما كانت فتنة؛ فكف عنه ابن الزبير. قال: وأقام ابن مطيع على الكوفة على الصلاة والخراج؛ وبعث على شرطته إياس بن مضارب العجلى، وأمره أن يحسن السيرة والشدة على المريب. قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله بن الحارث بن دريد الأزدي - وكان قد أدرك ذلك الزمان، وشهد قتل مصعب بن الزبير - قال: إني لشاهد المسجد حيث قدم عبد الله بن مطيع، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد؛ فإن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بعثنى على مصركم وثغوركم، وأمرني بحباية فيئكم؛ وألا أحمل فضل فيئكم عنكم إلى برضًا منكم، ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وبسيرة عثمان ابن عفان التي سار بها في المسلمين؛ فاتقوا الله واستقيموا ولا تختلفوا، وخذوا على أيدي سفهائكم؛ وإلا تفعلوا فلوموا أنفسكم ولا تلوموني؛ فوالله لأوقعن بالسقيم العاصي؛ ولأقيمن درء الأصعر المرتاب. فقام إليه السائب بن مالك الأشعري، فقال: أما امر ابن الزبير إياك ألا تحمل فضل فيئنا عن إلا برضانا فإنا نشهدك أنا لا نرضى أن تحمل فضل فيئنا عنا؛ وألا يقسم إلا فينا؛ وألا يسار فينا إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادناهذه حتى هلك رحمة الله عليه، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا؛ فإنها إنما كانت أثرة وهوى، ولا في سيرة عمر بن الخطاب في فيئنا؛ وإن كانت أهون السيرتين علينا ضرًا؛ وقد كان لا يألو الناس خيرًا. فقال يزيد ابن أنس: صدق السائب بن مالك وبر، رأينا مثل رأيه، وقولنا مثل قوله. فقال ابن مطيع: نسير فيكم بكل سيرة أحببتموها وهويتموها ثم نزل. فقال: يزيد بن أنس الأسدى: ذهبت بفضلها يا سائب؛ لا يعدمك المسلمون! أما والله لقد قمت وإني لأريد أن أقوم فأقول له نحوًا من مقالتك، وما أحب أن الله ولي الرد عليه رجلًا من أهل المصر ليس من شيعتنا. وجاء إياس بن مضارب إلى ابن مطيع. فقال له: إن السائب بن مالك من رؤوس أصحاب المختار، ولست آمن المختار؛ فابعث إليه فليأتك؛ فإذا جاءك فاحبسه في سجنك حتى يستقيم أمر الناس؛ فإن عيوني قد أتتني فخبرتني أن أمره قد استجمع له؛ وكأنه قد وثب بالمصر. قال: فبعث إليه ابن مطيع زائدة بن قدامة وحسين بن عبد الله البرسمى من همدان. فدخلا عليه، فقالا: أجب الأمير، فدعا بثيابه وأمر بإسراج دابته، وتحشخش للذهاب معهما؛ فلما رأى زائدة بن قدامة ذلك قرأ قول الله تبارك وتعالى: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين "، ففهمها المختار، فجلس ثم ألقى ثيابه عنه، ثم قال: ألقوا على القطيفة؛ ما أراني إلا قد وعكت؛ إني لأجد قفقفة شديدة، ثم تمثل قول عبد العزى بن صهل الأزدي: بن أي ربيعة على البصرة. قال: فبلغ ذلك بحير بن ريسان الحميري؛ فلقيهما، فقال لهما: ياهذان؛ إن القمر الليلة بالناطح، فلا تسيرا. فأما ابن أبى ربيعة؛ فأطاعه؛ فأقام يسيرا ثم شخص إلى عمله فسلم؛ عبد الله بن مطيع فقال له: وهل نطلب إلا النطح! قال: فلقي والله نطحًا وبطحًا، قال: يقول عمر: والبلاء موكل بالقول. قال عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: بلغ عبد الملك بن مروان أن ابن الزبير بعث عمالًا على البلاد؛ فقال: من بعث على البصرة؟ فقيل: بعث عليها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة؛ قال: لا حر بوادي عوف، بعث عوفًا وجلس! ثم فال: من بعث على الكوفة؟ قالوا: عبد الله بن مطيع، قال: حازم وكثيرًا ما يسقط، وشجاع وما يكره أن يفر، قال: من بعث على المدينة؟ قالوا: بعث أخاه مصعب بن الزبير، قال: ذاك الليث النهد، وهو رجل أهل بيته. قال هشام: قال أبو مخنف: وقدم عبد الله بن مطيع الكوفة في رمضان سنة خمس وستين يوم الخميس لخمس بقين من شهر رمضان، فقال لعبد الله ابن يزيد: إن أحببت أن تقيم معي أحسنت صحبتك، وأكرمت مثواك؛ وإن لحقت بأمير المؤمنين عبد الله بن الزبير فبك عليه كرامة، وعلى من قبله من المسلمين. وقال لإبراهيم بن محمد بن طلحة: الحق بأمير المؤمنين؛ فخرج إبراهيم حتى قدم المدينة، وكسر على ابن الزبير الحراج؛ وقال: إنما كانت فتنة؛ فكف عنه ابن الزبير. قال: وأقام ابن مطيع على الكوفة على الصلاة والخراج؛ وبعث على شرطته إياس بن مضارب العجلى، وأمره أن يحسن السيرة والشدة على المريب. قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله بن الحارث بن دريد الأزدي - وكان قد أدرك ذلك الزمان، وشهد قتل مصعب بن الزبير - قال: إني لشاهد المسجد حيث قدم عبد الله بن مطيع، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد؛ فإن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بعثنى على مصركم وثغوركم، وأمرني بحباية فيئكم؛ وألا أحمل فضل فيئكم عنكم إلى برضًا منكم، ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وبسيرة عثمان ابن عفان التي سار بها في المسلمين؛ فاتقوا الله واستقيموا ولا تختلفوا، وخذوا على أيدي سفهائكم؛ وإلا تفعلوا فلوموا أنفسكم ولا تلوموني؛ فوالله لأوقعن بالسقيم العاصي؛ ولأقيمن درء الأصعر المرتاب. فقام إليه السائب بن مالك الأشعري، فقال: أما امر ابن الزبير إياك ألا تحمل فضل فيئنا عن إلا برضانا فإنا نشهدك أنا لا نرضى أن تحمل فضل فيئنا عنا؛ وألا يقسم إلا فينا؛ وألا يسار فينا إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادناهذه حتى هلك رحمة الله عليه، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا؛ فإنها إنما كانت أثرة وهوى، ولا في سيرة عمر بن الخطاب في فيئنا؛ وإن كانت أهون السيرتين علينا ضرًا؛ وقد كان لا يألو الناس خيرًا. فقال يزيد ابن أنس: صدق السائب بن مالك وبر، رأينا مثل رأيه، وقولنا مثل قوله. فقال ابن مطيع: نسير فيكم بكل سيرة أحببتموها وهويتموها ثم نزل. فقال: يزيد بن أنس الأسدى: ذهبت بفضلها يا سائب؛ لا يعدمك المسلمون! أما والله لقد قمت وإني لأريد أن أقوم فأقول له نحوًا من مقالتك، وما أحب أن الله ولي الرد عليه رجلًا من أهل المصر ليس من شيعتنا. وجاء إياس بن مضارب إلى ابن مطيع. فقال له: إن السائب بن مالك من رؤوس أصحاب المختار، ولست آمن المختار؛ فابعث إليه فليأتك؛ فإذا جاءك فاحبسه في سجنك حتى يستقيم أمر الناس؛ فإن عيوني قد أتتني فخبرتني أن أمره قد استجمع له؛ وكأنه قد وثب بالمصر. قال: فبعث إليه ابن مطيع زائدة بن قدامة وحسين بن عبد الله البرسمى من همدان. فدخلا عليه، فقالا: أجب الأمير، فدعا بثيابه وأمر بإسراج دابته، وتحشخش للذهاب معهما؛ فلما رأى زائدة بن قدامة ذلك قرأ قول الله تبارك وتعالى: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين "، ففهمها المختار، فجلس ثم ألقى ثيابه عنه، ثم قال: ألقوا على القطيفة؛ ما أراني إلا قد وعكت؛ إني لأجد قفقفة شديدة، ثم تمثل قول عبد العزى بن صهل الأزدي: إذا ما معشر تركوا نداهم ** ولم يأتوا الكريهة لم يهابوا ارجعا إلى ابن مطيع، فأعلماه حالي التي أنا عليها. فقال له زائدة بن قدامة: أما أنا ففاعل؛ فقال: وأنت ياأخا همدان فاعذرني عنده فإنه خير لك. قال أبو مخنف: فحدثني إسماعيل بن نعيم الهمداني، عن حسين بن عبد الله، قال: قلت في نفسي: والله إن أنا لم أبلغ عن هذا يرضيه ما أنا بآمن من أن يظهر غدًا فيهلكني. قال: فقلت له، نعم، أنا أضع عند ابن مطيع عذرك، وأبلغه كل ما تحب؛ فخرجنا من عنده؛ فإذا أصحابه على بابه، وفي داره منهم جماعة كثيرة. قال: فأقبلنا نحو ابن مطيع، فقلت لزائدة بن قدامة: أما إني قد فهمت قولك حين قرأت تلك الآية؛ وعلمت ما أردت بها، وقد علمت أنها هي ثبطته عن الخروج معنا بعد ما كان قد لبس ثيابه، وأسرج دابته؛ وعلمت حين تمثل البيت الذي تمثل أنما أراد يخبرك أنه قد فهم عنك ما أردت أن تفهمه، وأنه لن يأتيه. قال: فجاحدني أن يكون أراد شيئًا من ذلك؛ فقلت له: لا تحلف؛ والله ما كنت لأبلغ عنك ولا عنه شيئًا تكرهانه؛ ولقد علمت أنك مشفق عليه، تجد له ما يجد المرء لابن عمه. فأقبلنا إلى ابن مطيع؛ فأخبرناه بعلته وشكواه؛ فصدقنا ولها عنه. قال: وبعث المختار إلى أصحابه؛ فأخذ يجمعهم في الدور حوله، وأراد أن يثب بالكوفة في المحرم؛ فجاء رجل من أصحابه من شبام - وكان عظيم الشرف يقال له عبد الرحمن بن شريح - فلقى سعيد بن منقذ الثوري وسعر ابن أبي سعر الحنفي والأسود بن جراد الكندي وقدامة بن مالك جشمي؛ فاجتمعوا في منزل سعر الحنفي، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أمابعد؛ فإن المختار يريد أن يخرج بنا، وقد بايعناه ولا ندري أرسله إلينا ابن الحنفية أم لا؛ فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية فلنخبره بما قدم علينا به وبما دعانا إليه؛ فإن رخص لنا في اتباعه اتبعناه؛ وإن نهانا عنه اجتنبناه؛ فوالله ما ينبغي أن يكون شئ من أمر الدنيا آثر عندنا من سلامة ديننا. فقالوا له: أرشدك الله! فقد أصبت ووفقت؛ اخرج بنا إذا شئت. فأجمع رأيهم على أن يخرجوا من أيامهم، فخرجوا، فلحقوا بابن الحنفية؛ وكان إمامهم عبد الرحمن بن شريح، فلما قدموا عليه سألهم عن حال الناس فخبروه عن حالهم وما هم عليه. قال أبو مخنف: فحدثني خليفة بن ورقاء، عن الأسود بن جراد الكندي قال: قلنا لابن الحنفية؛ إن لنا إليك حاجة؛ قال: فسر هي أم علانية؟ قال: قلنا: لا؛ بل سر، قال: فرويدًا إذًا؛ قال: فمكث قليلًا، ثم تنحى جانبًا فدعانا فقمنا إليه، فبدأ عبد الرحمن بن شريح، فتكلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد؛ فإنكم أهل بيت خصكم الله بالفضيلة، وشرفكم بالنبوة، وعظم حقكم على هذه الأمة؛ فلا يجهل حقكم إلا مغبون الرأي، مخسوس النصيب؛ قد أصبتم بحسين رحمة الله عليه. عظمت مصيبة اختصصتم بها، بعد ما عم بها المسلمون، وقد قدم علينا المختار بن أبي عبيد يزعم لنا أنه قد جاءنا من تلقائكم، وقد دعانا إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ؛ والطلب بدماء أهل البيت، والدفع عن الضعفاء؛ فبايعناه على ذلك. ثم إنا رأينا أن نأتيك فنذكر لك ما دعانا إليه، وندبنا له؛ فإن أمرتنا باتباعه اتبعناه، وإن نهيتنا عنه إجتنبناه. ثم تكلمنا واحدًا واحدًا بنحو مما تكلم به صاحبنا؛ وهو يسمع، حتى إذا فرغنا حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي ﷺ، ثم قال: أما بعد؛ فأما ما ذكرتم مما خصصنا الله به من فضل؛ فإن الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم؛ فلله الحمد! وأما ما ذكرتم من مصيبتنا بحسين؛ فإن ذلك كان في الذكر الحكيم وهي ملحمة كتبت عليه، وكرامة أهداها الله له، رفع بما كان منها درجات قوم عنده، ووضع بها آخرين، وكان أمر الله مفعولا، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا وأما ما ذكرتم من دعاء من دعاكم إلى الطلب بدمائنا؛ فوالله لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. قال: فخرجنا من عنده، ونحن نقول: قد أذن لنا؛ قد قال: لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه، ولو كره لقال: لا تفعلوا. قال: فجئنا وأناس من الشيعة ينتظرون مقدمنا ممن كنا قد أعلمناه بمخرجنا وأطلعناه على ذات أنفسنا؛ ممن كان على رأينا من إخواننا؛ وقد كان بلغ المختار مخرجنا، فشق ذلك عليه، وخشي أن نأتيه بأمر يخذل الشيعة عنه، فكان قد أرادهم على أن ينهض بهم قبل قدومنا؛ فلم يتهيأ ذلك له؛ فكان المختار يقول: إن نفيرًا منكم ارتابوا وتحيروا وخابوا؛ فإن هم أصابوا أقبلوا وأنابوا وإن هم كبوا وهابوا، واعترضوا وانجابوا، فقد ثبروا وخابوا؛ فلم يكن إلا شهرًا وزيادة شئ؛ حتى أقبل القوم على رواحلهم؛ حتى دخلواعلى المختار قبل دخولهم إلى رحالهم، فقال لهم: ما وراءكم؟ فقد فتنتم وارتبتم فقالوا له: قد أمرنا بنصرتك فقال: الله أكبر! أن أبو إسحاق، اجمعوا إلى الشيعة، فجمع له منهم من كان منه قريبًا فقال: يا معشر الشيعة؛ إن نفرًا منكم أحبوا أن يعلموا مصداق ما جئت به، فرحلوا إلى إمام الهدى، والنجيب المرتضى ابن خير من طشى ومشى؛ حاشا النبي المجتبى؛ فسألوه عما قدمت به عليكم؛ فنبأهم أني وزيره وظهيره. ورسوله وخليله؛ وأمركم باتباعي وطاعتي فيما دعوتكم إليه من قتال المحلين، والطلب بدماء أهل بيت نبيكم المصطفين. فقام عبد الله بن شريح، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يا معشر الشيعة؛ فإنا قد كنا أحببنا أن نستثبت لأنفسنا خاصة ولجميع إخواننا عامة؛ فقدمنا على المهدي بن علي، فسألناه عن حربنا هذه، وعما دعانا إليه المختار منها فأمرنا بمظاهرته ومؤازرته وإجابته إلى ما دعانا إليه، فأقبلنا طيبة أنفسنا، منشرحة صدورنا، قد أذهب الله منها الشك والغل والريب، واستقامت لنا في قتال عدونا؛ فليبلغ ذلك شاهد كم، غائبكم، واستعدوا وتأهبوا. ثم جلس وقمنا رجلًا فرجلًا؛ فتكلمنا بنحو من كلامه؛ فاستجمعت له الشيعة وحدبت عليه. قال أبو مخنف: فحدثني نمير بن وعلة والمشرقي، عن عامر الشعبي، قال: كنت أنا وأبي أول من أجاب المختار. قال: فلما تهيأ أمره ودنا خروجه؛ قال له احمر بن شميط ويزيد بن أنس وعبد الله بن كامل وعبد الله بن شداد: إن أشرف أهل الكوفة مجتمعون على قتالك مع ابن مطيع؛ فإن جامعنا على أمرنا إبراهيم بن الأشر رجونا بإذن الله القوة على عدونا، وألا يضرتا خلاف من خالفنا، فإنه فتى بئيس، وابن رجل شريف بعيد الصيت؛ وله عشيرة ذات عز وعدد. قال لهم المختار: فالقوه فادعوه، وأعلموه الذي أمرنا به من الطلب بدم الحسين وأهل بيته. قال الشعبى: فخرجوا إليه وأنا فيهم، وأبى، فتكلم يزيد بن أنس، فقال له: إنا قد أتيناك في أمر نعرضه عليك. وندعوك إليه؛ فإن قبلته كان خيرًا لك، وإن تركته فقد أدينا إليك فيه النصيحة؛ ونحن نحب أن يكون عندك مستورًا. فقال لهم إبراهيم بن الأشتر: وإن مثلي لا تخاف غائلته ولا سعايته؛ ولاالتقرب إلى سلطانه باغتياب الناس، إنما أولئك الصغار الأخطار الدقاق هممًا. فقال له: إنما ندعوك إلى أمر أجمع عليه رأي الملإ من الشيعة؛ إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه، والطلب بدماء أهل البيت، وقتال المحلين، والدفع عن الضعفاء. قال: ثم تكلم أحمر بن شميط، فقال له: إني لك ناصح، ولحظك محب، وإن أباك قد هلك وهو سيد الناس وفيك منه إن رعيت حق الله خلف؛ قد دعوناك إلى أمر إن أجبتنا إليه عادت لك منزلة أبيك في الناس، وأحييت من ذلك أمرًا قد مات؛ إنما يكفي مثلك اليسير حتى تبلغ الغاية التي لا مذهب وراءها، إنه قد بنى لك أولك مفتخرًا. وأقبل القوم كلهم عليه يدعونه إلى أمرهم ويرغبونه فيه. فقال لهم إبراهيم بن الأشتر: فإني قد أجبتكم إلى ما دعوتموني إليه من الطلب بدم الحسين وأهل بيته، على أن تولوني الأمر، فقالوا: أنت لذلك أهل؛ ولكن ليس إلى ذلك سبيل؛ هذا المختار قد جاءنا من قبل المهدي؛ وهو الرسول والمأمور بالقتال؛ وقد أمرنابطاعته. فسكت عنهم ابن الأشتر ولم يجبهم. فانصرفنا من عنده إلى المختار فأخبرناه بما رد علينا؛ قال: فغبر ثلاثًا؛ ثم إن المختار دعا بضعة عشر رجلًا من وجوه أصحابه - قال الشعبي: أنا وأبي فيهم - قال: فسار بنا ومضى أمامنا يقد بنا بيوت الكوفة قدًا لا ندري أين يريد؛ حتى وقف على باب إبراهيم بن الأشتر؛ فاستأذنا عليه فأذن لنا، وألقيت لنا وسائد؛ فجلسنا عليها وجلس المختار معه على فراشه؛ فقال المختار: الحمد لله، وأشهد أن لا اله إلا الله، وصلى الله على محمد، والسلام عليه، أما بعد، فإن هذا كتاب إليك من المهدي محمد بن أمير المؤمنين الوصى؛ وهو خير أهل الأرض اليوم، وابن خير أهل الأرض كلها قبل اليوم بعد أنبياء الله ورسله؛ وهو يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا، فإن فعلت اغتبطت، وإن لم تفعل فهذا الكتاب حجة عليك، وسيغني الله المهدي محمدًا وأولياءه عنك. قال الشعبي: وكان المختار قد دفع الكتاب إلى حين خرج من منزله؛ فلما قضى كلامه قال لي: ادفع الكتاب إليه، فدفعته إليه، فدعا بالمصباح وفض خاتمه، وقرأه فإذا هو: " بسم الله الرحمن الرحيم ". ن محمد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر، سلام عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا اله إلا هو؛ أما بعد فإني قد بعثت إليكم بوزيري وأميني ونجيي الذي ارتضيته لنفسي، وقد أمرته بقتال عدوي والطلب بدماء أهل بيتي؛ فانهض معه بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك؛ فإنك إن تنصرني وأجبت دعوتي وساعدت وزيري كانت لك عندي بذلك فضيلة؛ ولك بذلك أعنة الخيل وكل جيش غاز، وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة ة وأقصى بلاد أهل الشأم، على الوفاء بذلك على عهد الله؛ فإن فعلت ذلك نلت به عند الله أفضل الكرامة، وإن أبيت هلكت هلاكًا لا تستقيله أبدًا، والسلام عليك. فلما قضى إبراهيم قراءة الكتاب، قال: لقد كتب إلى ابن الحنفية؛ وقد كتبت إليه قبل اليوم؛ فما كان يكتب إلي إلا باسمه واسم أبيه، قال له المختار: إن ذلك زمان وهذا زمان، قال إبراهيم: فمن يعلم أن هذا كتاب ابن الحنفية إلى؟ فقال له: يزيد بن أنس وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعتهم - قال الشعبي: إلا أنا وأبي - فقالوا نشهد أن هذا كتاب محمد ابن علي إليك، فتأخر إبراهيم عن ذلك عن صدر الفراش فأجلس المختار عليه، فقال أبسط يدك أبايعك؛ فبسط المختار يده فبايعه إبراهيم، ودعا لنابفاكهة، فأصبنا منها؛ ودعا لنا بشراب من عسل فشربنا ثم نهضنا؛ وخرج معنا ابن الأشتر؛ فركب مع المختار حتى دخل رحله؛ فلما رجع إبراهيم منصرفًا اخذ بيدي، فقال: انصرف بنا يا شعبي، قال: فانصرفت معه ومضى بي حتى دخل بي رحله، فقال: يا شعبي، إني قد حفظت أنك لم تشهد أنت ولا أبوك؛ أفترى هؤلاء شهدوا على حق؟ قال قلت له: قد شهدوا على ما رأيت وهم سادة القراء ومشيخة المصر وفرسان العرب، ولا أرى مثل هؤلاء يقولون إلا حقًا. قال: فقلت له هذه المقالة؛ وأنا والله لهم على شهادتهم متهم؛ غير أني يعجبني الخروج وأنا أرى رأي القوم؛ وأحب تمام ذلك الأمر؛ فلم أطلعه على ما في نفسي من ذلك؛ فقال لي ابن الأشتر: أكتب لي أسماءهم فإني ليس كلهم أعرف. ودعا بصحيفة ودواة، وكتب فيها: " بسم الله الرحمن الرحيم "؛ هذا ما شهد عليه السائب بن مالك الأشعري، ويزيد بن أنس الأسدي وأحمر بن شميط الأحمسي ومالك بن عمرو النهدي؛ حتى على أسماء القوم؛ ثم كتب: شهدوا أن محمد بن علي كتب إلى إبراهيم بن الأشتر يأمره بموآزرة المختار ومظاهرته على قتال المحلين، والطلب بدماء أهل البيت، وشهد على هؤلاء النفر الذين شهدوا على هذه الشهادة شراحيل ابن عبد - وهو أبو عامر الشعبي الفقيه - وعبد الرحمن بن عبد الله النخعي، وعامر بن شراحيل الشعبي. فقلت له: ما تصنع بهذا رحمك الله؟ فقال: دعه يكون. ودعا إبراهيم عشيرته وإخوانه ومن أطاعه، وأقبل يختلف إلى المختار. مان وهذا زمان، قال إبراهيم: فمن يعلم أن هذا كتاب ابن الحنفية إلى؟ فقال له: يزيد بن أنس وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعتهم - قال الشعبي: إلا أنا وأبي - فقالوا نشهد أن هذا كتاب محمد ابن علي إليك، فتأخر إبراهيم عن ذلك عن صدر الفراش فأجلس المختار عليه، فقال أبسط يدك أبايعك؛ فبسط المختار يده فبايعه إبراهيم، ودعا لنابفاكهة، فأصبنا منها؛ ودعا لنا بشراب من عسل فشربنا ثم نهضنا؛ وخرج معنا ابن الأشتر؛ فركب مع المختار حتى دخل رحله؛ فلما رجع إبراهيم منصرفًا اخذ بيدي، فقال: انصرف بنا يا شعبي، قال: فانصرفت معه ومضى بي حتى دخل بي رحله، فقال: يا شعبي، إني قد حفظت أنك لم تشهد أنت ولا أبوك؛ أفترى هؤلاء شهدوا على حق؟ قال قلت له: قد شهدوا على ما رأيت وهم سادة القراء ومشيخة المصر وفرسان العرب، ولا أرى مثل هؤلاء يقولون إلا حقًا. قال: فقلت له هذه المقالة؛ وأنا والله لهم على شهادتهم متهم؛ غير أني يعجبني الخروج وأنا أرى رأي القوم؛ وأحب تمام ذلك الأمر؛ فلم أطلعه على ما في نفسي من ذلك؛ فقال لي ابن الأشتر: أكتب لي أسماءهم فإني ليس كلهم أعرف. ودعا بصحيفة ودواة، وكتب فيها: " بسم الله الرحمن الرحيم "؛ هذا ما شهد عليه السائب بن مالك الأشعري، ويزيد بن أنس الأسدي وأحمر بن شميط الأحمسي ومالك بن عمرو النهدي؛ حتى على أسماء القوم؛ ثم كتب: شهدوا أن محمد بن علي كتب إلى إبراهيم بن الأشتر يأمره بموآزرة المختار ومظاهرته على قتال المحلين، والطلب بدماء أهل البيت، وشهد على هؤلاء النفر الذين شهدوا على هذه الشهادة شراحيل ابن عبد - وهو أبو عامر الشعبي الفقيه - وعبد الرحمن بن عبد الله النخعي، وعامر بن شراحيل الشعبي. فقلت له: ما تصنع بهذا رحمك الله؟ فقال: دعه يكون. ودعا إبراهيم عشيرته وإخوانه ومن أطاعه، وأقبل يختلف إلى المختار. قال هشام بن محمد: قال أبومخنف: حدثني يحيى بن أبي عيسى الأزدي، قال: كان حميد بن مسلم الأزدي صديقًا لإبراهيم بن الأشتر؛ وكان يختلف إليه، ويذهب به معه؛ وكان أبراهيم يروح في كل عشية عند المساء، فيأتي المختار، فيمكث عنده حتى تصوب النجوم، ثم ينصرف؛ فمكثوا بذلك يدبرون أمورهم؛ حتى أجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأول سنة ست وستين، ووطن على ذلك شيعتهم ومن أجابهم. فلما كان عند غروب الشمس، قام إبراهيم بن الأشتر؛ فأذن؛ ثم إنه استقدم، فصلى بنا المغرب، ثم خرج بنا بعد المغرب حين قلت: أخوك أوالذئب - وهو يريد المختار، - فأقبلنا علينا السلاح، وقد أتى إياس بن مضارب عبد الله بن مطيع فقال: إن المختار خارج عليك إحدى الليلتين؛ قال: فخرج إياس في الشرط، فبعث ابنه إلى الكناسة، وأقبل يسيرحول السوق في الشرط. ثم إن إياس بن مضارب دخل على ابن مطيع، فقال له: إني قد بعثت ابني إلى الكناسة، فلو بعث في كل جبانة في الكوفة عظيمة رجلًا من أصحابك في جماعة من أهل الطاعة؛ هاب المريب الخروج عليك. وقال: فبعث ابن مطيع عبد الرحمن بن سعيد بن قيس إلى جبانة السبيع، وقال: أكفني قومك، لا أوتين من قبلك، وأحكم أمر الجبانة التي وجهتك إليها، لا يحدثن بها حدث؛ فأوليك العجز والوهن. وبعث كعب بن أبي كعب الخثعمي إلى جبانة بشر، وبعث زحر بن قيس إلى جبانة كندة، وبعث شمر بن ذي الجوشن إلى جبانة سالم، وبعث عبد الرحمن بن مخنف بن سليم إلى جبانة الصائديين، وبعث يزيد بن الحارث بن رؤيم أبا حوشب إلى جبانة مراد، وأوصى كل رجل أن يكفيه قومه، وألا يؤتى من قبله، وأن يحكم الوجه الذي وجهه فيه؛ وبعث شبث بن ربعى إلى السبخة، وقال: إذا سمعت صوت القوم فوجه نحوهم؛ فكان هؤلاء قد خرجوا يوم الاثنين؛ فنزلوا هذه الجبابين، وخرج إبراهيم بن الأشتر من رحله بعد المغرب يريد إتيان المختار؛ وقد بلغه ان الجبابين قد حشيت رجالًا، وأن الشرط قد أحاطت بالسوق والقصر. قال أبو مخنف: فحدثني يحيى بن أبي عيسى، عن حميد بن مسلم، قال: خرجت مع إبراهيم من منزله بعد المغرب ليلة الثلاثاء حتى مررنا بدارعمرو بن حريث، ونحن مع ابن الأشتر كتيبة نحو من مائة، علينا بالدروع، قد كفرنا عليها بالأقبية، ونحن متقلدو السيوف؛ ليسي معنا سلاح إلا السيوف في عواتقنا، والدروع قد سترناها بأقبيتنا؛ فلما مررنا بدار سعيد بن قيس فجزناها إلى دار أسامة، قلنا: مر بنا على دار خالد بن عرفطة، ثم امض بنا إلى بجيلة، فلنمر في دورهم حتى نخرج إلى دار المختار - وكان إبراهيم فتىً حدثًا شجاعًا؛ فكان لا يكره أن يلقاهم - فقال والله لأمرن على دار عمرو بن حريث إلى جانب القصر وسط السوق، ولأرعبن به عدونا ولأرينهم هوانهم علينا. قال: فأخذنا على باب الفيل على دار ابن هبار؛ ثم أخذ ذات اليمين على دار عمرو بن حريث؛ حتى إذا جاوزها ألفيناإياس بن مضارب في الشرط مظهرين السلاح فقال لنا: من أنتم؟ ما أنتم؟ فقال له إبراهيم: أنا إبراهيم بن الأشتر، فقال له ابن مضارب: ما هذا الجمع معك؟ وما تريد؟ والله إن أمرك لمريب وقد بلغني أنك تمر كل عشية هاهنا، وما أنا بتاركك حتى آتي بك الأمير فيرى فيك رأيه. فقال إبراهيم: لا أبًا لغيرك! خل سبيلنا، فقال: كلا والله لا أفعل - ومع إياس بن مضارب رجل من همدان، يقال له أبو قطن، كان يكون مع إمرة الشرطة فهم يكرمونه ويؤثرونه، وكان لابن الأشتر صديقًا - فقال له ابن الأشتر: يا أبا قطن، أدن مني - ومع أبي قطن رمح له طويل -؛ فدنا منه أبو قطن؛ ومعه الرمح؛ هو يرى أن ابن الأشتر يطلب إليه أن يشفع له إلى ابن مضارب ليخلى سبيله؛ فقال إبراهيم - وتناول الرمح من يده: إن رمحك هذا لطويل؛ فحمل به إبراهيم على ابن مضارب، فطعنه في ثغرة نحره فصرعه، وقال لرجل من قومه: انزل عليه فاحتز رأسه، فنزل إليه فاحتز رأسه، وتفرق أصحابه ورجعوا إلى ابن مطيع. فبعث ابن مطيع ابنه راشد بن إياس مكان أبيه على الشرطة، وبعث مكان راشد بن إياس إلى الكناسة تلك الليلة سويد بن عبد الرحمن المنقري أبا القعقاع بن سويد. وأقبل إبراهيم بن الأشتر إلى المختار ليلة الأربعاء. فدخل عليه فقال له إبراهيم: إنا اتعدنا للخروج للقابلة ليلة الخميس. وقد حدث أمر لا بد من الخروج الليلة، قال المختار: ماهو؟ قال: عرض لي إياس بن مضارب في الطريق ليحبسني بزعمه، فقتلته؛ وهذا رأسه مع أصحابي على الباب. فقال المختار: فبشرك الله بخير! فهذا طير صالح، وهذا أول الفتح إن شاء الله. ثم قال المختار: قم يا سعيد بن منقذ، فأشعل في الهرادي النيران ثم ارفعها للمسلمين، وقم أنت يا عبد الله بن شداد؛ فناد " يا منصور أمت "؛ وقم أنت ياسفيان بن ليل، وأنت يا قدامة ابن مالك، فناد: يا لثأرات الحسين! ثم قال المختار: على بدرعي وسلاحي، فأتى به؛ فأخذ يلبس سلاحه ويقول: قد علمت بيضاء حسناء الطلل ** واضحة الخدين عجزاء الكفل أني غداة الروع مقدام بطل ثم إن إبراهيم قال للمختار: إن هؤلاء الرؤس الذين وضعهم ابن مطيع في الجبابين يمنعون إخواننا أن يأتونا، ويضيقون عليهم؛ فلو أنى خرجت بمن معي من أصحابي حتى آتى قومي؛ فيأتيني كل من قد بايعني من قومي، ثم سرت بهم في نواحي الكوفة، ودعوت بشعارنا؛ فخرج إلى من أراد الخروج إلينا، ومن قدر على إتيانك من الناس؛ فمن أتاك حبسته عندك إلى من معك ولم تفرقهم؛ فإن عوجلت فأتيت كان معك من تمتنع به؛ وأنا لو قد فرغت من هذا الأمر عجلت إليك في الخيل والرجال. قال له. إمالا فاعجل وإياك أن بسير إلى أميرهم تقاتله. ولا تقاتل أحدًا وأنت تستطيع ألا تقاتل، واحفظ ما أوصيتك به إلا أن يبدأك أحد بقتال. فخرج إبراهيم بن الأشتر من عنده في الكتيبة التي أقبل فيها؛ حتى أتى قومه، واجتمع إليه جل من كان بايعه وأجابه. ثم إنه سار بهم في سكك الكوفة طويلًا من الليل؛ وهو في ذلك يتجنب السكك التي فيها الأمراء، فجاء إلى الذين معهم الجماعات الذين وضع ابن مطيع في الجبابين وأفواه الطرق العظام، حتى انتهى إلى مسجد السكون، وعجلت إليه خيل من خيل زحر بن قيس الجعفي ليس لهم قائد ولا عليهم أمير. فشد عليهم إبراهيم بن الأشتر وأصحابه، فكشفوهم حتى دخلوا جبانة كندة. فقال إبراهيم: من صاحب الخيل في جبانة كندة؟ فشد إبراهيم وأصحابه عليهم، وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنا غضبنا لأهل بيت نبيك، وثرنا لهم. فانصرنا عليهم، وتمم لنا دعوتنا؛ حتى أنتهى إليهم هو وأصحابه. فخالطوهم وكشفوهم فقيل له: زحر بن قيس؛ فقال: انصرفوا بنا عنهم. فركب بعضهم بعضًا كلما لقيهم زقاق دخل منهم طائفة، فانصرفوا يسيرون. ثم خرج إبراهيم يسير حتى انتهى إلى جبانة أثير، فوقف فيها طويلًا، ونادى أصحابه بشعارهم، فبلغ سويد بن عبد الرحمن المنقري مكانهم في جبانة أثير، فرجا أن يصيبهم فيحظى بذلك عند ابن مطيع، فلم يشعر ابن الأشتر إلا وهم معه في الجبانة، فلما رأى ذلك ابن الأشتر قال لأصحابه: يا شرطة الله، انزلوا فإنكم أولى بالنصر من الله من هؤلاء الفساق الذين خاضوا دماء أهل بيت رسول الله ﷺ. فنزلوا ثم شد عليهم إبراهيم، فضربهم حتى أخرجهم من الصحراء، ولوا منهزمين يركب بعضهم بعضًا، وهم يتلاومون، فقال قائل منهم: إن هذا الأمر يراد؛ ما يلقون لنا جماعة إلا هزموهم! فلم يزل يهزمهم حتى أدخلهم الكناسة. وقال أصحاب إبراهيم لإبراهيم: اتبعهم واغتنم ما قد دخلهم من الرعب، فقد علم الله إلى من ندعو وما نطلب. وإلى من يدعون وما يطلبون! قال: لا، ولكن سيروا بنا إلى صاحبنا حتى يؤمن الله بنا وحشته، ونكون من أمره على علم، ويعلم هو أيضًا ما كان من عنائنا، فيزداد هو وأصحابه قوة وبصيرة إلى قواهم وبصيرتهم، مع أنى لا آمن أن؟ يكون قد أتى. فأقبل إبراهيم في أصحابه حتى مر بمسجد الأشعث، فوقف به ساعة، ثم مضى حتى أتى دار المختار، فوجد الأصوات عالية، والقوم يقتلون، وقد جاء شبث بن ربعى من قبل السبخة، فعبى له المختار يزيد بن أنس، وجاء حجار بن أبجر العجلي. فجعل المختار في وجهه أحمر بن شميط، فالناس يقتلون، وجاء إبراهيم من قبل القصر، فبلغ حجارًا وأصحابه أن إبراهيم قد جاءهم من ورائهم، فتفرقوا قبل أن يأتيهم إبراهيم، وذهبوا في الأزقة والسكك، وجاء قيس بن طهفة في قريب من مائة رجل من بني نهد من أصحاب المختار، فحمل على شبث بن ربعي وهو يقاتل يزيد بن أنس، فخلى لهم الطريق حتى اجتمعوا جميعًا. ثم إن شبث بن ربعي ترك لهم السكة، وأقبل حتى لقي ابن مطيع، فقال: ابعث إلى أمراء الجبابين فمرهم فليأتوك، فاجمع إليك جميع الناس، ثم انهد إلى هؤلاء القوم فقاتلهم وابعث إليهم من تثق به فليكفك قتالهم، فإن أمر القوم قد قوي، وقد خرج المختار وظهر، واجتمع له أمره. فلما بلغ ذاك المختار من مشورة شبث بن ربعي على ابن مطيع خرج المختار في جماعة من أصحابه حتى نزل في ظهر دير هند مما يلي بستان زائدة في السبخة. قال: وخرج أبو عثمان النهدي فنادى في شاكر وهم مجتمعون في دورهم، يخافون أن يظهروا في الميدان لقرب كعب بن أبي كعب الخثمعي منهم، وكان كعب في جبانة بشر، فلما بلغه أن شاكرًا تخرج جاء يسير حتى نزل بالميدان، وأخذ عليهم بأفواه سككهم وطرقهم. قال: فلما أتاهم أبو عثمان النهدي في عصابة من أصحابه، نادى: يا لثأرات الحسين! يا منصور أمت! يا أيها الحي المهتدون، ألا إن أمير آل محمد ووزيرهم. قد خرج فنزل دير هند، وبعثني إليكم داعيًا ومبشرًا، فاخرجوا إليه يرحمكم الله! قال: فخرجوا من الدور يتداعون: يا لثأرات الحسين! ثم ضاربوا كعب بن أبي كعب حتى خلى لهم الطريق، فأقبلوا إلى المختار حتى نزلوا معه في عسكره، وخرج عبد الله بن قراد الخثمعي في جماعة من خثعم نحو المائتين حتى لحق بالمختار، فنزلوا معه في عسكره، وقد كان عرض له كعب بن أبي كعب فصافه. فلما عرفهم ورأى أنهم قومه خلى عنهم. ولم يقاتلهم. وخرجت شبام من آخر ليلتهم فاجتمعوا إلى جبانة مراد، فلمابلغ ذلك عبد الرحمن بن سعيد بن قيس بعث إليهم: إن كنتم تريدون اللحاق بالمختار فلا تمروا على جبانة السبيع، فلحقوا بالمختار. فتوافى إلى المختارثلاثة آلاف وثمانمائة من اثني عشر ألفًا كانوا بايعوه، فاستجمعوا له قبل انفجار الفجر. فأصبح قد فرغ من تعبيتة. قال أبو مخنف: فحدثني الوالي قال: خرجت أنا وحميد بن مسلم؛ والنعمان بن أبي الجعد إلى المختار ليلة خرج. فأتيناه في داره، وخرجنا معه إلى معسكره؛ قال: فو الله ما انفجر الفجر حتى فرغ من تعبيته؛ فلماأصبح استقدم، فصلى بنا الغداة بغلس، ثم قرأ " والنازعات " و " عبس وتولى " قال: فما سمعنا إمامًا أم قومًا أفصح لهجة منه. قال أبو مخنف: حدثني حصيرة بن عبد الله، أن ابن مطيع بعث إلى أهل الجبابين. فأمرهم أن ينضموا إلى المسجد، وقال لراشد بن إياس بن مضارب: ناد في الناس فليأتوا المسجد، فنادى المنادي: ألا برئت الذمة من رجل لم يحضر المسجد الليلة! فتوافى الناس في المسجد، فلما اجتمعوا بعث ابن مطيع شبث بن ربعي في نحو من ثلاثة ألاف إلى المختار، وبعث راشد بن إياس في أربعة آلاف من الشرط. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الصلت التيمي عن أبي سعيد الصيقل، قال: لما صلى المختار الغداة ثم انصرف سمعنا أصواتًا مرتفعة فيما بين بني سليم وسكة البريد، فقال المختار: من يعلم لنا علم هؤلاء ما هم؟ فقلت له: أنا أصلحك الله! فقال المختار: إما لا فألق سلاحك وانطلق حتى تدخل فيهم كأنك نظار، ثم تأتيني بخبرهم. قال: ففعلت، فلما دنوت منهم إذا مؤذنهم يقيم، فجئت حتى دنوت منهم فإذا شبث بن ربعي معهم خيل عظيمة، وعلى خيله شيبان بن حريث الضبي، وهو في الرجالة معهم منهم كثرة، فلما أقام مؤذنهم تقدم فصلى بأصحابه، فقرأ: " إذا زلزلت الأرض زلزالها "، فقلت في نفيس: أما والله إني لأرجو أن يزلزل الله بكم، وقرأ: " والعاديات ضبحًا "، فقال أناس من أصحابه: لو كنت قرأت سورتين هما أطول من هاتين شيئًا! فقال شبث: ترون الديلم قد نزلت بساحتكم، وأنتم تقولون: لو قرأت سورة البقرة وآل عمران! قال: وكانوا ثلاثة آلاف قال: فأبلت سريعًا حتى أتيت المختار فأخبرته بخبر شبث وأصحابه، وأتاه معي ساعة أتيته سعر بن أبي سعر الحنفي يركض من قبل مراد، وكان ممن بايع المختار فلم يقدر على الخروج معه ليلة خرج مخافة الحرس، فلما أصبح أقبل على فرسه، فمر بجبانة مراد؛ وفيها راشد بن إياس، فقالوا: كما أنت! ومن أنت؟ فراكضهم حتى جاء المختار، فأخبره خبر راشد، وأخبرته أنا خبر شبث، قال: فسرح إبراهيم بن الأشتر قبل راشد بن إياس في تسعمائة - ويقال ستمائة فارس وستمائة راجل - وبعث نعيم بن هبيرة أخا مصقلة بن هبيرة في ثلثمائة فارس وستمائة راجل، وقال لهما: امضيا حتى تلقيا عدوكما، فإذا لقيتماهم فانزلا في الرجال وعجلا الفراغ وابدآهم بالإقدام، ولا تستهدفا لهم؛ فإنهم أكثر منكم، ولا ترجعا إلي حتى تظهرا أن تقتلا. فتوجه إبراهيم إلى راشد، وقدم المختار يزيد بن أنس في موضع مسجد شبث في تسعمائة أمامه. وتوجه نعيم بن هبيرة قبل شبث. قال أبو مخنف: قال أبو سعيد الصيقل: كنت أنا فيمن توجه مع نعيم ابن هبيرة إلى شبث ومعي سعر بن أبي سعر الحنفي، فلما انتهينا إليه قاتلناه قتالًا شديدًا، فجعل نعيم بن هبيرة سعر بن أبي سعر الحنفي على الخيل، ومشى هو في الرجال فقاتلهم حتى أشرقت الشمس وانبسطت، فضربناهم حتى أدخلناهم البيوت؛ ثم إن شبث بن ربعي ناداهم: يا حماة السوء! بئس فرسان الحقائق أنتم! أمن عبيدكم تهربون! قال: فثابت إليه منهم جماعة فشد علينا وقد تفرقنا فهزمنا، وصبر نعيم بن هبيرة فقتل، ونزل سعر فأسروأسرت أنا وخليد مولى حسان بن محدوج، فقال شبث لخليد - وكان وسيمًا جسيمًا: من أنت؟ فقال: خليد مولى حسان بن محدوج الذهلي، فقال له شبث: يا بن المتكاء، تركت بيع الصحناة بالكناسة وكان جزاء من أعتقك أن تعدو عليه بسيفك تضرب رقابه! اضربوا عنقه، فقتل، ورأى سعرًا الحنفي فعرفه، فقال: أخو بني حنيفة؟ فقال له: نعم، فقال: ويحك! ما أردت إلى اتباع هذه السبيئة! قبح الله رأيك، دعوا ذا. فقلت في نفسي: قتل المولى وترك العربي؛ إن علم والله إني مولى قتلني. فلما عرضت عليه قال: من أنت؟ فقلت: من بني تيم الله؛ قال: أعربي أنت أو مولى؟ فقلت: لا بل عربي، أنا من آل زياد بن خصفة، فقال: بخ بخ! ذكرت الشريف المعروف، الحق بأهلك. قال: فأقبلت حتى انتهيت إلى الحمراء، وكانت لي في قتال القوم بصيرة، فجئت حتى انتهيت إلى المختار؛ وقلت في نفسي: والله لآتين أصحابي فلأواسينهم بنفسي، فقبح الله العيش بعدهم! قال: فأتيتهم وقد سبقني إليهم سعر الحنفي، وأقبلت إليه خيل شبث، وجاءه قتل نعيم بن هبيرة، فدخل من ذلك أصحاب المختار أمر كبير؛ قال: فدنوت من المختار، فأخبرته بالذي كان من أمري، فقال لي: اسكت، فليس هذا بمكان الحديث. وجاء شبث حتى أحاط بالمختار وبيزيد بن أنس وبعث ابن مطيع يزيد بن الحارث بي رؤيم في ألفين من قبل سكة لحام جرير، فوقفوا في أفواه تلك السكك. وولى المختار يزيد بن أنس خيله، وخرج هو في الرجالة. قال أبو مخنف: فدثني الحارث بن كعب الوالي؛ والبة الأزد، قال: حملت علينا خيل شبث بن ربعي حملتين. فما يزول من رجل من مكانه، فقال يزيد بن أنس لنا: يا معشر الشيعة، قد كنتم تقتلون وتقطع أيديكم وأرجلكم، وتسمل أعينكم، وترفعون على جذوع النخل في حب أهل بيت نبيكم؛ وأنتم مقيمون في بيوتكم، وطاعة عدوكم. فما ظنكم بهؤلاء القوم إن ظهروا عليكم اليوم! إذًا والله لا يدعون منكم عينًا تطرف، وليقتلنكم صبرًا، ولترون منهم في أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه، والله لا ينجيكم منهم إلى الصدق والصبر. والطعن الصائب في أعينهم، والضرب الدراك على هامهم. فتيسروا للشدة. وتهيئوا للحملة، فإذا ركت رايتي مرتين فاحملوا. قال الحارث: فتهيأنا وتيسرنا، وجشونًا على الركب، وانتظرنا أمره. قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج الكندي أن إبراهيم بن الأشتركان حين توجه إلى راشد بن إياس، مضى حتى لقيه في مراد، فإذا معه أربعة آلاف، فقال إبراهيم لأصحابه: لا يهولنكم كثرة هؤلاء، فو الله لرب رجل خير من عشرة، ولرب فئة قليلة قد غلبت فئة كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين، ثم قال: يا خزيمة بن نصر، سر إليهم في الخيل. ونزل هو يمشي في الرجال، ورايته مع مزاحم بن طفيل، فأخذ إبراهيم يقول له: ازدلف برايتك، امض بها قدمًا قدمًا، واقتتل الناس، فاشتد قتالهم، وبصر خزيمة بن نصر العبسي براشد بن إياس، فحمل عليه فطعنه، فقتله، ثم نادى: قتلت راشدًا ورب الكعبة. وانهزم أصحاب راشد، وأقبل إبراهيم بن الأشتر وخزيمة بن نصر ومن كان معهم بعد قتل راشد نحو المختار، وبعث النعمان بن أبي الجعد بيشر المختار بالفتح عليه وبقتل راشد، فلما أن جاءهم البشير بذلك كبروا، واشتدت أنفسهم، ودخل أصحاب ابن مطيع الفشل، وسرح ابن مطيع حسان بن فائد بن بكير العبسي في جيش كثيف نحو من ألفين. فاعترض إبراهيم بن الأشتر فوبق الحمراء ليرده عمن في السبخة من أصحاب ابن مطيع، فقدم إبراهيم خزيمة بن نصر إلى حسان بن فائد في الخيل، ومشي إبراهيم نحوه في الرجال. فقال: والله ما اطعنا برمح، ولا اضطربنا بسيف، حتى، انهزموا. وتخلف حسان بن فائد في أخريات الناس يحميهم، وحمل عليه خزيمة بن نصر، فلما رآه عرفه، فقال له: يا حسان بن فائد، أما والله لولا القرابة لعرفت أني سألتمس قتلك بجهدي، ولكن النجاء، فعثر بحسان فرسه فوقع. فقال: تعسًا لك؛ أبا عبد الله! وابتدره الناس فأحاطوا به. فضاربهم ساعةً بسيفه، فناداه خزيمة بن نصر، قال: إنك آمن يا أبا عبد الله، لا تقتل نفسك، وجاء حتى وقف عليه ونهنه الناس عنه، ومر به إبراهيم، فقال لهنكم بهؤلاء القوم إن ظهروا عليكم اليوم! إذًا والله لا يدعون منكم عينًا تطرف، وليقتلنكم صبرًا، ولترون منهم في أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه، والله لا ينجيكم منهم إلى الصدق والصبر. والطعن الصائب في أعينهم، والضرب الدراك على هامهم. فتيسروا للشدة. وتهيئوا للحملة، فإذا ركت رايتي مرتين فاحملوا. قال الحارث: فتهيأنا وتيسرنا، وجشونًا على الركب، وانتظرنا أمره. قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج الكندي أن إبراهيم بن الأشتركان حين توجه إلى راشد بن إياس، مضى حتى لقيه في مراد، فإذا معه أربعة آلاف، فقال إبراهيم لأصحابه: لا يهولنكم كثرة هؤلاء، فو الله لرب رجل خير من عشرة، ولرب فئة قليلة قد غلبت فئة كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين، ثم قال: يا خزيمة بن نصر، سر إليهم في الخيل. ونزل هو يمشي في الرجال، ورايته مع مزاحم بن طفيل، فأخذ إبراهيم يقول له: ازدلف برايتك، امض بها قدمًا قدمًا، واقتتل الناس، فاشتد قتالهم، وبصر خزيمة بن نصر العبسي براشد بن إياس، فحمل عليه فطعنه، فقتله، ثم نادى: قتلت راشدًا ورب الكعبة. وانهزم أصحاب راشد، وأقبل إبراهيم بن الأشتر وخزيمة بن نصر ومن كان معهم بعد قتل راشد نحو المختار، وبعث النعمان بن أبي الجعد بيشر المختار بالفتح عليه وبقتل راشد، فلما أن جاءهم البشير بذلك كبروا، واشتدت أنفسهم، ودخل أصحاب ابن مطيع الفشل، وسرح ابن مطيع حسان بن فائد بن بكير العبسي في جيش كثيف نحو من ألفين. فاعترض إبراهيم بن الأشتر فوبق الحمراء ليرده عمن في السبخة من أصحاب ابن مطيع، فقدم إبراهيم خزيمة بن نصر إلى حسان بن فائد في الخيل، ومشي إبراهيم نحوه في الرجال. فقال: والله ما اطعنا برمح، ولا اضطربنا بسيف، حتى، انهزموا. وتخلف حسان بن فائد في أخريات الناس يحميهم، وحمل عليه خزيمة بن نصر، فلما رآه عرفه، فقال له: يا حسان بن فائد، أما والله لولا القرابة لعرفت أني سألتمس قتلك بجهدي، ولكن النجاء، فعثر بحسان فرسه فوقع. فقال: تعسًا لك؛ أبا عبد الله! وابتدره الناس فأحاطوا به. فضاربهم ساعةً بسيفه، فناداه خزيمة بن نصر، قال: إنك آمن يا أبا عبد الله، لا تقتل نفسك، وجاء حتى وقف عليه ونهنه الناس عنه، ومر به إبراهيم، فقال له خزيمة: هذا ابن عمي وقد آمنته؛ فقال له إبراهيم: أحسنت، فأمر خزيمة بطلب فرسه حتى أتى به، فحمله عليه. وقال: الحق بأهلك. قال: وأقبل إبراهيم نحو المختار، وشبث محيط بالمختار ويزيد بن أنس. فلما رآه يزيد بن الحارث وهو على أفواه سكك الكوفة التي تلي السبخة، وإبراهيم مقبل نحو شبث، أقبل نحوه ليصده عن شبث وأصحابه، فبعث إبراهيم طائفةً من أصحابه مع خزيمة بن نصر، فقال: أغن عنا يزيد بن الحارث. وصمد هو في بقية أصحابه نحو شبث بن ربعي. قال أبو مخنف: فحدثني الحارث بن كعب أن إبراهيم لما أقبل نحونارأينا شبشًا وأصحابه ينكصون وراءهم رويدًا، فلما دنا إبراهيم من شبث وأصحابه. حمل عليهم. وأمرنا يزيد بن أنس بالحملة عليهم، فحملنا عليهم، فانكشفوا حتى انتهوا إلى أبيات الكوفة، وحمل خزيمة ابن نصر على يزيد بن الحارث بن رؤيم فهزمه، وازدحموا على أفواه السكك، وقد كان يزيد بن الحارث وضع راميةً على أفواه السكك فوق البيوت، وأقبل المختار في جماعة الناس إلى يزيد بن الحارث، فلما انتهى أصحاب المختار إلى أفواه السكك رمته تلك الرامية بالنبل، فصدوهم عن دخول الكوفة من ذلك الوجه، ورجع الناس من السبخة منهزمين إلى ابن مطيع، وجاءه قتل راشد بن إياس. فأسقط في يده. قال أبو مخنف: فحدثني يحيى بن هانئ، قال: قال عمرو بن الحجاج الزبيدي لا بن مطيع: أيها الرجل لا يسقط في خلدك، ولا تلق بيدك، اخرج إلى الناس فاندبهم إلى عدوك فاغزهم، فإن الناس كثيرعددهم، وكلهم معك إلى هذه الطاغية التي خرجت على الناس، والله مخزيها ومهلكها، وأنا أول منتدب، فاندب معي طائفة، ومع غيري طائفة. قال: فخرج ابن مطيع، فقام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أيها الناس، إن من أعجب العجب عجزكم عن عصبة منكم قليل عددها، خبيث دينها. ضالة مضلة. اخرجوا إليهم فامنعوا منهم حريمكم وقاتلوهم عن مصركم، وامنعوا منهم فيئكم، وإلى والله ليشاركنكم في فيئكم من لا حق له فيه. والله لقد بلغني أن فيهم خمسمائة رجل من محرريكم عليهم أمير منهم، وإنما ذهاب عزكم وسلطانكم وتغير دينكم حين يكثرون. " ثم نزل. قال: ومنعهم يزيد بن الحارث أن يدخلوا الكوفة. قال: ومضى المختارمن السبخة حتى ظهر على الجبانة، ثم ارتفع إلى البيوت؛ بيوت مزينة وأحمس وبارق، فنزل عند مسجدهم وبيوتهم، وبيوتهم شاذة منفردة من بيوت أهل الكوفة، فاستقبلوه بالماء، فسقى أصحابه، وأبى المختار أن يشرب. قال: فظن أصحابه أنه صائم، وقال أحمر بن هديج من همدان لابن كامل: أترى الأمير صائمًا؟ فقال له: نعم، هو صائم، فقال له: فلو أنه كان في هذا اليوم مفطرًا كان أقوى له: إنه معصوم، وهو أعلم بما يصنع؛ فقال له: صدقت. أستغفر الله. وقال المختار: نعم مكان المقاتل هذا، فقال له: إبراهيم بن الأشتر: قد هزمهم الله وفلهم، وأدخل الرعب قلوبهم، وتنزل هاهنا! سر بنا، فو الله ما دون القصر أحد يمنع، ولا يمتنع لبير امتناع؛ فقال المختار: ليقم هاهنا كل شيخ ضعيف وذي علة. وضعوا ما كان لكم من ثقل ومتاع بهذا الموضع حتى تسيروا إلى عدونا. ففعلوا، فاستخلف المختار عليهم أبا عثمان النهدي، وقدم إبراهيم بن الأشتر أماه، وعبى أصحابه على الحال التي عليها في السبخة. قال: وبعث عبد الله بن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفي رجل، فخرج عليهم من سكة الثوريين، فبعث المختار إلى إبراهيم أن اطوه ولا تقم عليه. فطواه إبراهيم، ودعا المختار يزيد بن أنس، فأمره أن يصمد لعمرو بن الحجاج، فمضى نحوه، وذهب المختار في إبراهيم، فمضوا جميعًا حتى إذا انتهى المختار إلى موضع مصلى خالد بن عبد الله وقف، وأمر إبراهيم أن يمضى على وجهه حتى يدخل الكوفة من قبل الكناسة، فمضى، فخرج إليه من سكة ابن محرز، وأقبل شمر بن ذي الجوشن في ألفين، فسرح المختارإليه سعيد بن منقذ الهمداني فواقعه، وبعث إلى إبراهيم أن اطوه، وامض على وجهك. فمضى حتى انتهى إلى سكة شبث، وإذا نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة في نحو من ألفين - أو قال: خمسة آلاف. وهو الصحيح - وقد أمر ابن مطيع سويد بن عبد الرحمن فنادى في الناس: أن الحقوا بابن مساحق. قال: واستخلف شبث بن ربعي على القصر، وخرج ابن مطيع حتى وقف بالكناسة. قال أبو مخنف: حدثني حصيرة بن عبد الله، قال: إني لأنظر إلى ابن الأشتر حين أقبل في أصحابه، حتى إذا دنا منهم قال لهم: انزلوا، فنزلوا، فقال: قربوا خيولكم بعضها إلى بعض، ثم امشوا إليهم مصلتين بالسيوف، ولا يهولنكم أن يقال: جاءكم شبث بن ربعي وآل عتيبة بن النهاس وآلاالأشعث وآل فلان وآل يزيد بن الحارث قال: فسمى بيوتات من بيوتات أهل الكوفة، ثم قال: إن هؤلاء لو قد وجدوا لهم حر السيوف قد انصفقوا عن ابن مطيع انصفاق المعزي عن الذئب. قال حصيرة: فإني لأنظر إليه وإلى أصحابه حين قربوا خيولهم وحين أخذ ابن الأشتر أسفل قبائه فرفعه فأدخله في منطقة له حمراء من حواشي البرود، وقد شد بها على القباء، وقد كفر بالقباء على الدرع، ثم قال لأصحابه: شدوا عليهم فدى لكم عمي وخالي! قال: فو الله ما لبثهم أن هزمهم؛ فركب بعضهم بعضًا على فم السكة وازدحموا، وانتهى ابن الأشتر إلى ابن مساحق، فأخذ بلجام دابته، ورفع السيف عليه، فقال له ابن مساحق: يابن الأشتر، لسيف عليه، فقال له ابن مساحق: يابن الأشتر أنشدك الله، أتطلبني بثأر! هل بيني وبينك من إحنة! فخلى ابن الأشتر سبيله، وقال له: اذكرها؛ فكان بعد ذلك ابن مساحق يذكرها لابن الأشتر، وأقبلوا يسيرون حتى دخلوا الكناسة في آثار القوم حتى دخلوا السوق والمسجد، وحصروا ابن مطيع ثلاثًا. قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صالح أن ابن مطيع مكث ثلاثًا، يرزق أصحابه في القصر حيث حصر الدقيق، ومعه أشراف الناس، إلاما كان من عمرو بن حريث، فإنه أتى داره ولم يلزم نفسه الحصار، ثم خرج حتى نزل البر، وجاء المختار حتى نزل جانب السوق، وولى حصارالقصر إبراهيم بن الأشتر، ويزيد بن أنسن وأحمر بن شميط، فكان ابن الأشتر مما يلي المسجد وباب القصر، ويزيد بن أنس مما يلي بني حذيفة وسكة دار الروميين، وأحمر بن شميط مما يلي دار عمارة ودار أبي موسى. فلما اشتد الحصار على ابن مطيع وأصحابه كلمه الأشراف، فقام إليه شبث فقال: أصلح الله الأمير! انظر لنفسك ولمن معك، فو الله ما عندهم غناء عنك ولا عن أنفسهم. قال ابن مطيع: هاتوا، أشيروا علي برأيكم؛ قال شبث: الرأي أن تأخذ لنفسك من هذا الرجل أمانًا ولنا، وتخرج ولا تهلك نفسك ومن معك. قال ابن مطيع: والله إني لأكره أن آخذ منه أمانًا والأمور مستقيمة لأمير المؤمنين بالحجاز كله وبأرض البصرة؛ قال: فتخرج لا يشعر بك أحد حتى تنزل منزلا بالكوفة عند من تستنصحه وتثق به، ولا يعلم بمكانك حتى تخرج فتلحق بصاحبك؛ فقال لأسماء بن خارجة وعبد الرحمن بن مخنف وعبد الرحمن بن سعيد بن قيس وأشراف أهل الكوفة: ما ترون في هذا الرأي الذي أشار به على شبث؟ فقالوا: مانرى الرأي إلا ما أشار به عليك، قال: فرويدًا حتى أمسي. قال أبو مخنف: فحدثني أبو المغلس الليثي، أن عبد الله بن عبد الله الليثي أشرف على أصحاب المختار من القصر من العشي يشتمهم، وينتحي له مالك بن عمرو أبو نمران النهدي بسهم، فيمر بحلقه، فقطع جلدةً من حلقه فمال فوقع؛ قال: ثم إنه قام وبرأ بعد؛ وقال النهدي حين أصابه: خذها من مالك، من فاعل كذا. قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صاح، عن حسان بن فائد بن بكير، قال لما أمسينا في القصر في اليوم الثالث، دعانا ابن مطيع، فذكرالله بما هو أهله. وصلى على نبيه ﷺ وقال: أما بعد، فقد علمت الذين صنعوا هذا منكم من هم؛ وقد علمت أنما هم أراذلكم وسفهاؤكم وطغامكم وأخساؤكم، ما عدا الرجل أو الرجلين، وأن أشرافكم وأهل الفضل منكم لم يزالوا سامعين مناصحين، وأنا مبلغ ذلك صاحبي، ومعلمه طاعتكم وجهادكم عدوه، حتى كان الله الغالب على أمره، وقد كان من رأيكم وما أشرتم به على ما قد علمتم، وقد رأيت أن أخرج الساعة. فقال له شبث: جزاك الله من أمير خيرًا! فقد والله عففت عن أموالنا، أكرمت أشرافنا، ونصحت لصاحبك، وقضيت الذي عليك، والله ما كنا لنفارقك أبدًا إلا ونحن منك في إذن، فقال: جزاكم الله خيرًا، أخذ امرؤ حيث أحب، ثم خرج من نحو دروب الروميين حتى أتى دار أبي موسى، وخلى القصر، وفتح أصحابه الباب، فقالوا: يا ابن الأشتر، آمنون نحن؟ قال: أنتم آمنون؛ فخرجوا فبايعوا المختار. قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن عامر العدوي؛ من عدى جهينة - وهو أبو الأشعر - أن المختار جاء حتى دخل القصر، فبات به، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر، وخرج المختار فصعد المنبرفحمد الله وأثنى عليه، فقال: الحمد لله الذي وعد وليه النصر، وعدوه الخسر، وجعله فيه آخر الدهر، وعدًا مفعولًا، وقضاءً مقضيًا، وقد خاب من افترى. أيها الناس، إنه رفعت لنا راية، ومدت لنا غاية، فقيل لنا في الراية: أن ارفعوها ولا تضعوها، وفي الغاية: أن اجروا إليها ولا تعدوها، فسمعنا دعوة الداعي، ومقالة الواعي؛ فكم من ناع وناعية، لقتلي في الواعية! وبعدًا لمن طغى وأدبر، وعصى وكذب وتولى، ألا فادخلوا أيها الناس فبايعوا بيعة هدى، فلا والذي جعل السماء سقفًا مكفوفًا، والأرض فجاجًا سبلا، ما بايعتم بعد علي بن أبي طالب وآل على أهدى منها. ثم نزل فدخل، ودخلنا عليه وأشراف الناس، فبسط يده، وابتدره الناس فبايعوه، وجعل يقول: تبايعوني على كتاب الله وسنة نبيه، والطلب بدماء أهل البيت، وجهاد المحلين، والدفع عن الضعفاء، وقتال من قاتلنا، وسلم من سالمنا، والوفاء ببيعتنا، لا نقيلكم ولا نستقيلكم؛ فإذا قال الرجل: نعم، بايعته. قال: فكأني والله أنظر إلى المنذر بن حسان بن ضرار الضبي إذأتاه حتى سلم عليه بالإمرة، ثم بايعه وانصرف عنه، فلما خرج من القصر استقبل سعيد بن منقذ الثوري في عصابة من الشيعة واقفًا عن المصطبة، فلما رأوه ومعه ابنه حيان بن المنذر، قال رجل من سفهائهم: هذا والله من رءوس الجبارين، فشدوا عليه وعلى ابنه، فقتلوهما، فصاح به سعيد بنالمنذر بن حسان بن ضرار الضبي إذأتاه حتى سلم عليه بالإمرة، ثم بايعه وانصرف عنه، فلما خرج من القصر استقبل سعيد بن منقذ الثوري في عصابة من الشيعة واقفًا عن المصطبة، فلما رأوه ومعه ابنه حيان بن المنذر، قال رجل من سفهائهم: هذا والله من رءوس الجبارين، فشدوا عليه وعلى ابنه، فقتلوهما، فصاح به سعيد بن منقذ: لا تعجلوا، لاتعجلوا حتى ننظر مارأى أميركم فيه، قال: وبلغ المختار ذلك، فكرهه حتى رئى ذلك في وجهه، وأقبل المختار يمني الناس، ويستجر مودتهم ومودة الأشراف، ويسحن السيرة جهده. قال: وجاءه ابن كامل فقال للمختار، أعلمت أن ابن مطيع في دار أبي موسى؟ فلم يجبه بشئ، فأعادها عليه ثلاث مرات فلم يجبه، ثم أعادها فلم يجيبه، فظن ابن كامل أن ذلك لا يوافقه، وكان ابن مطيع قبل للمختار صديقًا، فلما أمسى بعث إلى ابن مطيع بمائة ألف درهم فقال له: تجهز بهذه واخراج؛ فإني قد شعرت بمكانك، وقد ظننت أنه لم يمنعك من الخروج إلى أنه ليس في يديك ما يقويك على الخروج. وأصاب المختار تسعة آلاف ألف في بيت مال الكوفة، فأعطى أصحابه الذين قاتل بهم حين حصر ابن مطيع في القصر - وهم ثلاثة آلاف وثمانمائة رجل - كل رجل خمسمائة درهم خمسمائة درهم، وأعطى ستة آلاف من أصحابه أتوه بعد ما أحاط بالقصر، فأقاموا معه تلك الليلة وتلك الثلاثة الأيام حتى دخل القصر مائتين مائتين، واستقبل الناس بخير، ومناهم العدل وحسن السيرة، وأدنى الأشراف، فكانوا جلساءه وحداثه، واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل الشاكري، وعلى حرسه كيسان أبا عمرة مولى عربته؛ فقام ذات يوم على رأسه، فرأى الأشراف يحدثونه، ورآه قد أقبل بوجهه وحديثه عليهم، فقال لأبي عمرة بعض أصحابه من الموالي: أما ترى أبا إسحاق قد أقبل على العرب ما ينظر إلينا! فدعاه المختار فقال له: ما يقول لك أولئك الذين رأيتهم يكلمونك؟ فقال له - وأسر إليه: شق عليهم أصلحك الله صرفك وجهك عنهم إلى العرب، فقال له: قل لهم: لا يشقن ذلك عليكم، فأنتم مني وأنا منكم، ثم سكت طويلًا، ثم قرأ: " إنا من المجرمين منتقمون " قال: فحدثني أبو الأشعر موسى بن عامر قال: ماهو إلى أن سمعها الموالي منه، فقال بعضهم لبعض: أبشروا، كأنكم والله به قد قتلهم. قال أبو مخنف: حدثني حصيرة بن عبد الله الأزدي وفضيل بن خديج الكندي والنضر بن صالح العبسي، قالوا: أول رجل عقد له المختارراية عبد الله بن الحارث أخو الأشتر، عقد له على أرمينية، وبعث محمد ابن عمير بن عطارد على آذربيجان، وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل، وبعث إسحاق بن مسعود على المدائن وأرض جوخى، وبعث قدامة بن أبي عيسى بن ربيعة النصري، وهو حليف لثقيف على بهقباذ الأعلى، وبعث محمد بن كعب بن قرظة على بهقباذ الأوسط، وبعثحبيب بن منقذ الثوري على بهقباذ الأسفل، وبعث سعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان، وكان مع سعد بن حذيفة ألفا فارس بحلوان. قال: ورزقه ألف درهم في كل شهر، وامره بقتال الأكراد، وبإقامة الطرق، وكتب إلى عماله على الجبال يأمرهم أن يحملوا أموال كورهم إلى سعد بن حذيفة بحلوان، وكان عبد الله بن الزبير قد بعث محمد بن الأشعث بن قيس على الموصل وأمر بمكاتبة ابن مطيع وبالسمع له والطاعة، غير أن ابن مطيع لا يقدر على عزله إلا بأمر ابن الزبير، وكان قبل ذلك في إمارة عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن محمد منقطعًا بإمارة الموصل، لا يكاتب أحدًا دون ابن الزبير. فلما قدم عليه عبد الرحمنبن سعيد بن قيس من قبل المختار أميرًا تنحى له عن الموصل، وأقبل حتى نزل تكريت، وأقام بها مع أناس من أشراف قومه وغيرهم، وهو معتزل ينظر ما يصنع الناس، وإلى ما يصير أمرهم، ثم شخص إلى المختار فبايع له، ودخل فيما دخل فيه أهل بلده. قال أبو مخنف: وحدثني صلة بن زهير النهدي، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: لما ظهر المختار واستمكن، ونفى ابن مطيع وبعث عماله، أقبل يجلس للناس غدوةً وعشية، فيقضى بين الخصمين، ثم قال: والله إن لي فيما أزاول وأحاول لشغلا عن القضاء بين الناس، قال: فأجلس للناس شريحًا، وقضى بين الناس، ثم إنه خافهم فمارض، وكانوا يقولون: إنه عثماني، وإنه ممن شهد على حجر بن عدي، وإنه لم يبلغ عن هاني ابن عروة ما أرسله به - وقد كان علي بن أبي طالب عزله عن القضاء - فلماأن سمع بذلك ورآهم يذمونه ويسندون إليه مثل هذا القول تمارض، وجعلالمختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود. ثم إن عبد الله مرض، فجعل مكانهعبد الله بن مالك الطائي قاضيًا. قال مسلم بن عبد الله: وكان قبد الله بن همام سمع أبا عمرة يذكر الشيعة وينال من عثمان بن عفان، فقنعه بالسوط، فلما ظهر المختار كان معتزلًاحتى استأمن له عبد الله بن شداد، فجاء إلى المختار ذات يوم فقال: ألا انتسأت بالود عنك وأدبرت ** معالنةً بالهجر أم سريع وحملها واش سعى غير مؤتل ** فابت بهم في الفؤاد جميع فخفض عليك الشأن لايردك الهوى ** فليس انتقال خلة ببديع وفي ليلة المختارما يذهل الفتى ** ويلهيه عن رؤد الشباب شموع دعا يالثأرات الحسين فأقبلت ** كتائب من همدان بعد هزيع ومن مذحج جاء الئيس ابن مالك ** يقود جموعًا عبيت بجموع ومن أسد وافى يزيد لنصره ** بكل فتى حامي الذمار منيع وجاء نعيم خير شيبان كلها ** بأمر لدى الهيجا أحد جميع وما ابن شميط إذ يحرض قومه ** هناك بمخذول ولا بمضيع ولا قيس نهد لا ولا ابن هوزان ** وكل أخو إخباتة وخشوع وسار أبو النعمان لله سعيه ** إلى ابن إياس مصحرًا لوقوع بخيل عليها يوم هيجا دروعها ** وأخرى حسورًا غير ذات دروع فكر الخيول كرةً ثقفتهم ** وشد بأولاها على ابن مطيع فولى بضرب يشدخ الهام وقعه ** وطعن غداة السكتين وجيع فحوصر في دار الإمارة بائيًا ** بذل وإرغام له وخضوع فمن وزير ابن الوصى عليهم ** وكان له في الناس خير شفيع وآب الهدى حقًا إلى مستقره ** بخير إياب آبه ورجوع إلى الهاشمي المهتدى به ** فنحن له من سامع ومطيع قال: فلما أنشدها المختار قال المختار لأصحابه: قد أثنى عليكم كما تسمعون، وقد أحسن الثناء عليكم، فأحسنوا له الجزاء. ثم قام المختار، فدخل وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى أخرج إليكم؛ قال: وقال عبد الله ابن شداد الجشمي: يابن همام: إن لك عندي فرسًا ومطرفًا، وقال قيس بن طهفة النهدي - وكانت عنده الرباب بنت الأشعث: فإن لك عندي فرسًا ومطرفًا، واستحيا أن يعطيه صاحبه شيئًا لا سعطى مثله، فقال ليزيد بن أنس: فما تعطيه؟ فقال يزيد: إن كان ثواب الله أراد بقوله فما عندالله خير له، وإن كان إنما اعترى بهذا القول أموالنا، فو الله ما في أموالنا ما يسعه؛ قد كانت بقيت من عطائي يقية فقويت بها إخواني؛ فقال أحمر بن شميط مبادرًا لهم قبل أن يكلموه: يا بن همام، إن كنت أردت بهذا القول وجه الله فاطلب ثوابك من الله، وإن كنت إنما اعتريت به رضاالناس وطلب أموالهم، فاكدم الجندل؛ فو الله ما من قال قولا لغير الله وفي غير ذات الله بأهل أن ينحل، ولايوصل؛ فقال به: عضضت بأيرأبيك! فرفع يزيد بن أنس السوط وقلا لابن همام: تقول هذا القول يافاسق! وقال لابن شميط: اضربه بالسيف، فرفع ابن شميط عليه السيف ووثب ووثب أصحابهما يتفلتون على ابن همام. وأخذ بيده إبراهيم بن الأشتر فألقاه وراءه، وقال: أنا له جار، لم تأتون إليه ما أرى! فو الله إنه لواصل الولاية، راض بما نحن عليه، حسن الثناء، فإن أنتم لم تكافئوه بحسن ثنائه، فلا تشتموا عرضه، ولا تسفكوا دمه. ووثبت مذحج فحالت دونه، وقالوا: أجاره ابن الأشتر، لا والله لا يوصل إليه. قال: وسمع لغطهم المختار، فخرج إليهم، وأومأ بيده إليهم، أن اجلسوا، فجلسوا، فقال لهم: إذا قيل لكم خير فاقبلوه، وإن قدرتم على مكافأة فافعلوا، وإن لم تقدروا على مكافأة فتنصلوا، واتقوا لسان الشاعر. فإن شره حاضر، وقوله فاجر، وسعيه بائر. وهو بكم غدًا غادر. فقالوا: أفلا تقتله؟ قال: إنا قدآمناه وأجرناه، وقد أجاره أخوكم إبراهيم بن الاشتر، فجلس مع الناس. قال: ثم إن إبراهيم قام فانصرف إلى منزله فأعطاه ألفًا وفرسًا ومطرفًا فرجع بها وقال: لا والله، لا جاورت هؤلاء أبدًا وأقبلت هوازن وغضبت واجتمعت في المسجد غضبًا لابن همام. فبعث إليهم المختار فسألهم أن يصفحوا عما اجتمعوا له، ففعاوا، وقال ابن همام لابن الأشتر يمدحه: أطفأ عني نار كلبين ألبا ** على الكلاب ذو الفعال ابن مالك فتى حين يلقى الخيل يفرق بينها ** بطعن دراك أو بضرب مواشك وقد غضبت لي من هوازن عصبة ** طوال الذرا فيها عراض المبارك إذا ابن شميط أو يزيد تعرضا ** لها وقعا في مستحار المهالك وثبتم علينا يا موالي طيئ ** مع ابن شميط شر ماش وراتك وأعظم ديار على الله فرية ** وما مفتر طاغ كآخر ناسك فيا عجبًا من أحمس اينة أحمس ** توثب حولي بالقنا والنيازك كأنكم في العز قيس وخثعم ** وهل أنتم إلى لئام عوارك وأقبل عبد الله بن شداد من الغد فجلس في المسجد يقول: علينا توثب بنو أسد وأحمس! والله لا نرضى بهذا أبدًا. فبلغ ذلك المختار، فبعث إليه فدعاه، ودعا بيزيد بن أنس وبابن شميط، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يابن شداد، إن الذي فعلت نزغة من نزغات الشيطان، فتب إلى الله، قال: قد تبت، وقال: إن هذين أخواك، فأقبل إليهما، واقبل منهما، وهب لي هذا الأمر؛ قال: فهو لك، وكان ابن همام قد قال قصيدةً أخرى في أمر المختار، فقال: أضحت سليمي بعد طول عتاب ** وتجرم ونفاد غرب شباب قد أزمعت بصريمتي وتجنبي ** وتهوك مذ ذاك في إعتاب لما رأيت القصر أغلق بابه ** وتوكلت همدان بالأسباب ورأيت أصحاب الدقيق كأنهم ** حول البيوت ثعالب الأسراب ورأيت أبواب الأزقة حولنا ** دربت بكل هراوة وذباب أيقنت أن خيول شيعة راشد ** لم يبق منها فيش أير ذباب ذكر الخبر عن أمر المختار مع قتلة الحسين بالكوفة قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وثب المختار بمن كان بالكوفة من قتلة الحسين والمشايعين على قتله، فقتل من قدر عليه منهم، وهرب من الكوفة بعضهم، فلم يقدر عليه. ذكر الخبر عن سبب وثوبه بهم وتسمية من قتل منهم ومن هرب فلم يقدر عليه منهم وكان سبب ذلك - فيما ذكره هشام بن محمد، عن عوانة بن الحكم - أن مروان بن الحكم لما استوسقت له الشأم بالطاعة، بعث جيشين أحدهما إلى الحجاز عليه حبيش بن دلجة القيني - وقد ذكرنا أمره وخبر مهلكه قبل - والآخر منهما إلى العراق عليهم عبيد الله بن زياد - وقد ذكرنا ما كان من أمره وأمر التوابين من الشيعة بعين الوردة - وكان مروان جعل لعبيد الله بن زياد إذ وجهه إلى العراق ما غلب عليه، وأمره أن ينهب الكوفة إذا هوظفر بأهلها ثلاثًا. قال عوانة: فمر بأرض الجزيرة فاحتبس بها وبها قيس عيلان على طاعة ابن الزبير، وقد كان مروان أصاب قيسًا يوم مرج راهط وهم مع الضحاك بن قيس مخالفين على مروان، وعلى ابنه عبد الملك من بعده، فلم يزل عبيد الله مشغلا بهم عن العراق نحوًا من سنة. ثم إنه أقبل إلى الموصل، فكتب عبد الرحمن بن سعيد بن قيس عامل المختار على الموصل إلى المختار: أما بعد، فإني أخبرك أيها الأمير أن عبيد الله بن زياد قد دخل أرض الموصلن وقد وجه قبلي خيله ورجاله. وأني انحزت إلى تكريت حتى يأتيني رأيك وأمرك، والسلام عليك. فكتب إليه المختار: أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت كل ما ذكرت فيه، فقد أصبت بانحيازك إلى تكريت، فلا تبرحن مكانك الذي أنت به حتى يأتيك أمري إن شاء الله، والسلام عليك. قال هشام. عن أبي مخنف: حدثني موسى بن عامر، أن كتاب عبد الرحمن بن سعيد لما ورد على المختار بعث إلى يزيد بن أنس فدعاه، فقال له: يا يزيد بن أنس، إن العلم ليس كالجاهل، وإن الحق ليس كالباطل، وإني أخبرك خبر من لم يكذب ولم يكذب، ولم يخالف ولم يرتب، وإنا المؤمنون الميامين، الغالبون المساليم، وإنك صاحب الخيل التي تجر جعبها، وتضفر أذنابها، حتى توردها منابت الزيتون، غائرة عيونها، لاحقة بطونها. اخرج إلى الموصل حتى تنزل أدانيها، فإني ممدك بالرجال بعد الرجال. فقال له يزيد بن أنس: سرح معي ثلاثة آلاف فارس أنتخبهم، وخلني والفرج الذي توجهنا إليه، فإن احتجت إلى الرجال فسأكتب إليك؛ قال له المختار: فاخرج فانتخب على اسم الله من أحببت فخرج فانتخب ثلاثة آلاف فارس، فجعل على ربع المدينة النعمان بن عوف بن أبي جابر الأزدي، وعلى ربع تميم وهمدان عاصم بن قيس بن حبيب الهمداني، وعلى مذحج وأسد ورقاء بن عازب الأسدي، وعلى ربع ربيعة وكندة سعر بن أبي سعر الحنفي. ثم إنه فصل من الكوفة، فخرج وخرج معه المختار والناس يشيعونه، فلما بلغ دير أبي موسى ودعه المختار وانصرف، ثم قال له: إذا لقيت عدوك فلا تناظرهم، وإذا أمكنتك الفرصة فلا تؤخرها، وليكن خبرك في كل يوم عندي، وإن احتجت إلى مدد فاكتب إلى؛ مع أني ممدك ولو لم تستمدد، فإنه أشد لعضدك، وأعز لجندك، وأرعب لعدوك. فقال له يزيد بن أنس: لا تمدني إلى بدعائك، فكفى به مددًا. وقال له الناس: صحبك الله وأداك وأيدك. وودعوه فقال لهم يزيد: سلوا الله لي الشهادة وايم الله لئن لقيتهم ففاتني النصر لا تفتني الشهادة إن شاء الله. فكتب المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد بن قيس: أما بعد، فخل بين يزيد وبين البلاد إن شاء الله، والسلام عليك. فخرج يزيد بن أنس بالناس حتى بات بسورًا، ثم غدا بهم سائرًا حتى بات بهم بالمدائن؛ فشكا الناس إليه ما دخلهم من شدة السير عليهم، فأقام بها يومًا وليلة. ثم إنه اعترض بهم أرض جوخى حتى خرج بهم في الراذانات، حتى قطع بهم إلى أرض الموصل، فنزلت ببنا تلى، وبلغ مكانه ومنزله الذي نزل به عبيد الله بن زياد، فسأل عن عدتهم، فأخبرته عيونه أنه خرج معه من الكوفة ثلاثة آلاف فارس، فقال عبيد الله: فأنا أبعث إلى كل ألف ألفين. ودعا ربيعة بن المخارق الغنوي وعبد الله بن حملة الخثعمي، فبعثهما في ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، وبعث ربيعة بن المخارق أولا، ثم مكث يومًا، ثم بعث خلفه عبد الله بن حملة، ثم كتب إليهما: أيكما سبق فهو أمير على صاحبه، وإن انتهيتما جميعًا فأكبركما سنا أمير على صاحبه والجماعة. قال: فسبق ربيعة بن المخارق فنزل بيزيد بن أنس وهو ببنات تلى، فخرج إليه يزيد بن أنس وهو مريض مضنى. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الصلت، عن أبي سعيد الصيقل، قال: خرج علينا يزيد بن أنس وهو مريض على حمار يمشي معه الرجال يمسكونه عن يمينه وعن شماله، بفخذيه وعضديه وجنبيه، فجعل يقف على الأرباع: ربع ربع ويقول: يا شرطة الله، اصبروا تؤجروا، وصابروا عدوكم تظفروا، وقاتلوا أولياء الشيطان. إن كيد الشيطان كان ضعيفًا، إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذري، فإن هلك فأميركم سعر بن أبي سعر الحنفي. قال: وأنا والله فيمن يمشي معه ويمسك يعضده، وإني لأعرف في وجهه أن الموت قد نزل به. قال: فجعل يزيد بن أنس عبد الله بن ضمرة العذري على ميمنته، وسعر بن أبي سعر على ميسرته، وجعل ورقاء بن عازب الأسدي على الخيل، ونزل هو فوضع بين الرجال على السرير، ثم قال لهم: ابرزوا لهم بالعراء، وقد موني في الرجال، ثم إن شئتم فقاتلوا عن أميركم، وإن شئتم ففروا عنه. قال: فأخرجناه في ذي الحجة يوم عرفة سنة ست وستين، فأخذنا نمسك أحيانًا بظهره فيقول: اصنعوا كذا، اصنعوا كذا، وافعلوا كذا، فيأمر بأمره، ثم لا يكون بأسرع من أن يغلبه الوجع فيوضع هنيهة ويقتتل الناس، وذلك عند شفق الصبح قبل شروق الشمس. قال: فحملت ميسرتهم على ميمنتنا، فاشتد قتالهم، وتحمل ميسرتنا على ميمنتهم فتهمزمها، ويحمل ورقاء بن عازب الاسدي في الخيل فهزمهم، فلم يرتفع الضحى حتى هزمناهم، وحوينا عسكرهم. ه، فجعل يقف على الأرباع: ربع ربع ويقول: يا شرطة الله، اصبروا تؤجروا، وصابروا عدوكم تظفروا، وقاتلوا أولياء الشيطان. إن كيد الشيطان كان ضعيفًا، إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذري، فإن هلك فأميركم سعر بن أبي سعر الحنفي. قال: وأنا والله فيمن يمشي معه ويمسك يعضده، وإني لأعرف في وجهه أن الموت قد نزل به. قال: فجعل يزيد بن أنس عبد الله بن ضمرة العذري على ميمنته، وسعر بن أبي سعر على ميسرته، وجعل ورقاء بن عازب الأسدي على الخيل، ونزل هو فوضع بين الرجال على السرير، ثم قال لهم: ابرزوا لهم بالعراء، وقد موني في الرجال، ثم إن شئتم فقاتلوا عن أميركم، وإن شئتم ففروا عنه. قال: فأخرجناه في ذي الحجة يوم عرفة سنة ست وستين، فأخذنا نمسك أحيانًا بظهره فيقول: اصنعوا كذا، اصنعوا كذا، وافعلوا كذا، فيأمر بأمره، ثم لا يكون بأسرع من أن يغلبه الوجع فيوضع هنيهة ويقتتل الناس، وذلك عند شفق الصبح قبل شروق الشمس. قال: فحملت ميسرتهم على ميمنتنا، فاشتد قتالهم، وتحمل ميسرتنا على ميمنتهم فتهمزمها، ويحمل ورقاء بن عازب الاسدي في الخيل فهزمهم، فلم يرتفع الضحى حتى هزمناهم، وحوينا عسكرهم. قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن عامر العدوي، قال: انتهينا إلى ربيعة ابن المخارق صاحبهم، وقد انهزم عنه أصحابه وهو نازل ينادي: يا أولياءالحق، ويا أهل السمع والطاعة، إلى أنا ابن المخارق؛ قال موسى: فأما أنا فكنت غلامًا حدثًا، فهبته ووقفت، ويحمل عليه عبد الله بن ورقاء الأسدي وعبد الله بن ضمرة العذري، فقتلاه. قال أبو مخنف: وحدثني عمرو بي مالك أبو كبشة القيني؛ قال: كنت غلامًا حين راهقت مع أحد عمومي في ذلك العسكر، فلما نزلنا بعسكر الكوفيين عبأنا ربيعة بن المخارق فأحسن التعبئة، وجعل على ميمنته ابن أخيه، وعلى ميسرته عبد ربه السلمي، وخرج هو في الخيل والرجال وقال: ياأهل الشأم، إنكم إنما تقاتلون العبيد الأباق، وقومًا قد تركوا الإسلام وخرجوا منه. ليست لهم تقية، ولا ينطقون بالعربية؛ قال: فو الله إن كنت لأحسب أن ذلك كذلك حتى قاتلناهم؛ قال: فو الله ما هو إلى أن اقتتل الناس إذا رجل من أهل العراق يعترض الناس بسيفه وهو يقول: برئت من دين المحكمينا ** وذاك فينا شر دين دينا ثم إن قتالنا وقتالهم اشتد ساعة من النهار، ثم إنهم هزمونا حين ارتفع الضحى فقتلوا صاحبنا. وحووا عسكرنا؛ فخرجنا منهزمين حتى تلقانا عبد الله بن حملة على مسيرة ساعة من تلك القرية التي يقال لها بنات تلى، فردنا، فأقبلنا معه حتى نزل بيزيد بن أنس، فبتنا متحارسين حتى أصبحنا فصلينا الغداة، ثم خرجنا على تعبئة حسنة، فجعل على ميمنته الزبير بن خزيمة؛ من خثعم، وعلى ميسرته ابن أقيصر القحافي من خثعم، وتقدم في الخيل والرجال، وذلك يوم الاضحى، فاقتتلنا قتالًا شديدًا، ثم إنهم هزمونا هزيمة قبيحة، وقتلونا قتالًا ذريعًا، وحووا عسكرنا، وأقبلناحتى انتهينا إلى عبيد الله بن زياد فحدثناه بما لقينا. قال أيو مخنف: وحدثني موسى بن عامر، قال: أقبل إلينا عبد الله بن حملة الخثعمي؛ فاستقبل فل ربيعة بن المخارق الغنوي فردهم، ثم جاء حتى نزل ببنات تلى، فلما أصبح غادوا غادينا، فتطاردت الخيلان من أول النهار، ثم انصرفوا وانصرفنا؛ حتى إذا صلينا الظهر خرجنا فاقتتلنا، ثم هزمناهم. قال: ونزل عبد الله بن حملة فأخذ ينادي أصحابه: الكرة بعد الفرة، ياأهل السمع والطاعة؛ فحمل عليه عبد الله بن قراد الخثعمي فقتله، وحوينا عسكرهم وما فيه، وأتى يزيد بن أنس بثلثمائة أسير وهو في السوق، فأخذ يومئ بيده أن اضربوا أعناقهم، فقتلوا من عند آخرهم. وقال يزيد بن أنس: إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، فما أمسى حتى مات، فصلى عليه ورقاء بن عازب ودفنه، فلما رأى ذلك أصحابه أسقط في أيديهم، وكسر موته قلوب أصحابه، وأخذوا في دفنه، فقال لهم ورقاء: ياقوم. ماذا ترون؟ إنه قد بلغني أن عبيد الله بن زياد قد أقبل إلينا في ثمانين ألفًا من أهل الشأم، فأخذوا يتسللون ويرجعون. ثم إن ورقاء دعا رءوس الأرباع وفرسان أصحابه فقال لهم: ياهؤلاء، ماذا ترون فيما أخبرتكم؟ إنما أنا رجل منكم، ولست بأفضلكم رأبًا. فأشيروا على. فإن ابن زياد قد جاءكم في جند أهل الشأم الأعظم، وبجلتهم فرسانهم وأشرافهم. ولا أرى لنا ولكم بهم طاقة على هذه الحال، وقد هلك يزيد بن أنس أميرنا، وتفرقت عنا طائفة منا، فلو انصرفنا اليوم من تلقاء أنفسنا قبل أن نلقاهم، وقبل أن نبلغهم، فيعلموا أنا إنما ردنا عنهم هلاك صاحبنا، فلا يزالوا لنا هائبين لقتلنا منهم أميرهم! ولأنا إنما نعتل لانصرافنا بموت صاحبنا. وإنا لقيناهم اليوم كنا مخاطرين، فإن هزمنا اليوم لم تنفعنا هزيمتنا إياهم من قبل اليوم. قالوا: فإنك نعمًا رأيت، انصرف رحمك الله. فانصرف، فبلغ منصرفهم ذلك المختار وأهل الكوفة، فأرجف الناس، ولم يعلموا كيف كان الأمر أن يزيد بن أنس هلك، وأن الناس هزموا، فبعث إلى المختار عامله على المدائن عينًا له من أنباط السواد فأخبره الخبر، فدعا المختار إبراهيم بن الأشتر فعقد له على سبعة آلاف رجل، ثم قال له: سر حتى إذا أنت لقيت جيش ابن أنس فارددهم معك، ثم سر حتى تلقى عدوك فتناجزهم. فخرج إبراهيم فوضع عسكره بحمام أعين. قال أبو مخنف: فحدثني أبو زهير النضر بن صالح، قال: لما مات يزيد أنس التقى أشراف الناس بالكوفة فارجفوا بالمختار وقالوا: قتل يزيد بن أنس، ولم يصدقوا أنه مات، وأخذوا يقولون: والله لقد بأمر علينا هذا الرجل بغير رضًا منا، ولقد أدنى موالينا، فحملهم على الدواب، وأعطاهم وأطعمهم فيئنا، ولقد عصتنا عبيدنا، فحرب بذلك أيتامنا وأراملنا. فاتعدوا منزل شبث بن ربعي وقالوا: نجتمع في منزل شيخنا - وكان شبث جاهليًا إسلاميًا - فاجتمعوا فأتوا منزله، فصلى بأصحابه، ثم تذاكروا هذا النحو من الحديث قال: ولم يكن فيما أحدث المختار عليهم شئ هو أعظم من أن جعل للموالي الفئ نصيبًا - فقال لهم شبث: دعوني حتى ألقاه؛ فذهب فلقيه، فلم يدع شيئًا مما أنكره أصحابه إلى وقد ذاكره إياه، فأخذ لا يذكر خصلة إلا قال له المختار: أرضيهم في هذه الخصلة، وآتى كل شئ أحبوا؛ قال: فذكر المماليك؛ قال: فأنا أرد عليهم عبيدهم، فذكر له الموالي، فقال: عمدت إلى موالينا، وهم فئ أفاءه الله علينا وهذه البلاد جميعًا فأعتقنا رقابهم، نأمل الأجر في ذلك والثواب والشكر، فلم ترض لهم بذلك حتى جعلتهم شركاءنا في فيئنا، فقال لهم المختار: إن أنا تركت لكم موالينا، وجعلت فيئكم فيكم، أتقاتلون معي بني أمية وابن الزبير، وتعطون على الوفاء بذلك عهد الله وميثاقه، وما أطمئن إليه من الأيمان؟ فقال شبث: ما أدري حتى أخرج إلى أصحابي فأذاكرهم ذلك، فخرج فلم يرجع إلى المختار. قال: وأجمع رأى أشراف أهل الكوفة على قتال المختار. قال أبو مخنف: فحدثني قدامة بن حوشب، قال: جاء شبث ابن ربعي وشمر بن ذي الجوشن ومحمد بن الأشعث وعبد الرحمن بن سعيد بي قيس حتى دخلوا على كعب بن أبي الخثعمي، فتكلم شبث، فحمد الله وأثنى عليه، ثم أخبره باجتماع رأيهم على قتال المختار، وسأله أن يجيبهم إلى ذلك، وقال فيما يعيب به المختار: إنه تأمر علينا بغير رضًا منا، وزعم أن ابن الحنفية بعثه إلينا، وقد علمنا أن ابن الحنفية لم يفعل، وأطعم موالينا فيئنا. وأخذ عبيدنا، فحرب بهم يتامانا وأراملنا، وأظهر هو وسبئيته البراءة من أسلافنا الصالحين. قال: فرحب بهم كعب بن أبي كعب، وأجابهم إلى ما دعوه إليه. قال أبو مخنف: حدثني أبي يحيى بن سعيد أن أشراف أهل الكوفة قد كانوا دخلوا على عبد الرحمن بن مخنف، فدعوه إلى أن يجيبهم إلى قتال المختار، فقال لهم: ياهؤلاء، إنكم إن أبيتم إلا أن تخرجوا لم أخذلكم، وإن أنتم أطعتموني لم تخرجوا. فقالوا: لم؟ قال: لأني أخاف أن تتفرقوا وتختلفوا وتتخاذلوا؛ ومع الرجل والله شجعاؤكم وفرسانكم من أنفسكم؛ أليس معه فلان وفلان! ثم معه عبيد كم ومواليكم، وكلمة هؤلاء واحدة، وعبيدكم ومواليكم أشد حنقًا عليكم من عدوكم، فهو مقاتلكم بشجاعة العرب، وعداوة العجم، وإن انتظرتموه قليلا كفيتموه بقدوم أهل الشأم، أو بمجئ أهل البصرة، فتكونوا قد كفيتموه بغيركم، ولم تجعلوا بأسكم بينكم؛ قالوا: ننشدك الله أن تخالفنا، وأن تفسد علينا رأينا وما قد اجتمعت عليه جماعتنا. قال: فأنا رجل منكم، فإذا شئتم فاخرجوا. فسار بعضهم إلى بعض وقالوا: انتظروا حتى يذهب عنه إبراهيم بن الأشتر؛ قال: فأمهلوا حتى إذا بلغ ابن الأشتر ساباط، وثبوا بالمختار. قال: فخرج عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس الهمداني في همدان في جبانة السبيع، وخرج زحر بن قيس الجعفي وإسحاق بن محمد بن الأشعث في جبانة كندة. قال هشام: فحدثني سليمان بن محمد الحضرمي، قال: خرج إليهما جبير الحضرمي فقال لهما: أخرجا عن جبانتنا، فإنا نكره أن نعرى بشر؛ فقال له إسحاق بن محمد: وجبانتكم هي؟ قال: نعم، فانصرفوا عنه؛ وخرج كعب بن أبي كعب الخثعمي في جبانة بشر، وسار بشير بن جرير بن عبد الله إليهم في بمجيلة، وخرج عبد الرحمن بن مخنف في جبانة مخنف، وسار إسحاق بن محمد وزحر بن قيس إلى عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس بجبانة السبيع، وسارت بجيلة وخشعم إلى عبد الرحمن ابن مخنف وهو بالأزد. وبلغ الذين في جبانة السبيع أن المختار قد عبأ لهم خيلا ليسير إليهم فبعثوا الرسل يتلو بعضها بعضًا إلى الأزد وبجيلة وثعم، يسألونهم بالله والرحم لما عجلوا إليهم. فساروا إليهم واجتمعوا جميعًا في جبانة السبيع، ولما أن بلغ ذلك المختار سره اجتماعهم في مكان واحد، وخرج شمر بن ذي الجوشن حتى نزل بجبانة بني سلول في قيس، ونزل شبث بن ربعي وحسان بن فائد العبسي وربيعة بن ثروان الضبي في مضر بالكناسة، ونزل حجار بن أبحر ويزيد بن الحارث بن رؤيم في ربيعة فيما بي التمارين والسبخة، ونزل عمرو بن الحجاج الزبيدي في جبانة مراد بمن تبعه من مذحج، فبعث إليه أهل اليمن: أن ائتنا، فأبى أن يأتيهم وقال لهم: جدوا، فكأني قد أتيتكم. قال: وبعث المختار رسولا من يومه يقال له عمرو بن توبة بالركض إلى إبراهيم بن الأشتر وهو بساباط ألا تضع كتابي من يدك حتى تقبل بجميع من معك إلى قال: وبعث إليهم المختار في ذلك اليوم: أخبروني ما تريدون؟ فإني صانع كل ما أحببتم، فقالوا: فإنا نريد أن تعتزلنا، فإنك زعمت أن ابن الحنفية بعثك ولم يبعثك. فأرسل إليهم المختار أن ابعثوا إليه من قبلكم وفدًا، وأبعث إليه من قبلي وفدًا، ثم انظروا في ذلك حتى تتبينوه؛ وهو يريد أن يريثهم بهذه المقالة ليقدم عليه إبراهيم بن الأشتر، وقد أمر أصحابه فكفوا أيديهم، وقد أخذ أهل الكوفة عليهم بأفواه السكك، فليس شئ يصل إلى المختار ولا إلى أصحابه من الماء إلا القليل الوتح، يجيئهم إذا غفلوا عنه. قال: وخرج عبد الله بن سبيع في الميدان، فقاتلته شاكر قتالًا شديدًا، فجاءه عقبة بن طارق الجشمي فقاتل معه ساعة حتى رد عاديتهم عنه، ثم أقبلا على حاميتهما يسيران حتى نزل عقبة بن طارق مع قيس في جبانة بني سلول، وجاء عبد الله بن سبيع حتى نزل مع أهل اليمن في جبانة السبيع. قال أبو مخنف: حدثني يونس بن أبي إسحاق، أن شمر بن ذي الجوشن أتى أهل اليمن فقال لهم: إن اجتمعتم في مكان نجعل فيه مجنبتين ونقاتل من وجه واحد فأنا صاحبكم، وإلا فلا، والله لا أقاتل في مثل هذا المكان في سكك ضيقة، ونقاتل من غير وجه. وانصرف إلى جماعة قومه في جبانة بني سلول. قال: ولما خرج رسول المختار إلى ابن الأشتر بلغه من يومه عشية، فنادى في الناس: أن ارجعوا إلى الكوفة، فسار بقية عشيته تلك، ثم نزل حين أمسى، فتعشى أصحابه، وأراحوا الدواب شيئًا كلا شئ، ثم نادى في الناس، فسار ليلته كلها، ثم صلى الغداة بسورا، ثم سار من يومه فصلى العصر على باب الجسر من الغد، ثم إنه جاء حتى بات ليلته في المسجد ومعه من أصحابه أهل القوة والجلد، حتى إذا كانت صبيحة اليوم الثالث من مخرجهم على المختار، خرج المختار إلى المنبر فصعده. قال أبو مخنف: فحدثني أبو جناب الكلبي أن شبث بن ربعي بعث إليه أبنه عبد المؤمن فقال: إنما نحن عشيرتك، وكف يمينك، لا والله لا نقاتلك، فثق بذلك منا؛ وكان رأيه قتاله، ولكنه كاده. ولما أن اجتمع أهل اليمن بجبانة السبيع حضرت الصلاة. فكره كل رأس من رءوس أهل اليمن أن يتقدمه صاحبه، فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف: هذا أول الاختلاف، قدموا الرضا فيكم فإن في عشيرتكم سيد قراء أهل مصر، فيلصل بكم رفاعو بن شداد الفتياني من بجيلة، ففعلوا، فلم يزل يصلي بهم حتى كانت الوقعة. قال أبو مخنف: وحدثني وازع بن السري أن أنس بن عمرو الأزدي انطلق فدخل في أهل اليمن، وسمعهم وهم يقولون: إن سار المختار إلى إخواننا من مضر سرنا إليهم، وإن سار إلينا ساروا إلينا، فسمعها منهم رجل، وأقبل جوادًا حتى صعد إلى المختار على المنبر، فاخبره بمقالتهم، فقال: أما هم فخلقاء لو سرت إلى مضر أن يسيروا إليهم، وأما أهل اليمن فأشهد لئن سرت إليهم لا تسير إليهم مضر، فكان بعد ذلك يدعو ذلك الرجل ويكرمه. ثم إن المختار نزل فعبأ أصحابه في السوق - والسوق إذ ذاك ليس فيها هذا البناء - فقال لإبراهيم بن الأشتر: إلى أي الفريقين أحب إليك أن تسير؟ فقال: إلى أي الفريقين أحببت، فنظر المختار - وكان ذا رأي، فكره أن يسير إلى قومه فلا يبالغ في قتالهم - فقال: سر إلى مضر بالكناسة وعليهم شبث بن ربعي ومحمد بن عمير بن عطارد، وأنا أسير إلى أهل اليمن. قال: ولم يزل المختار يعرف بشدة النفس، وقلة البقيا على أهل اليمن وغيرهم إذا ظفر، فسار إبراهيم بن الأشتر إلى الكناسة، وسار المختار إلى جبانة السبيع، فوقف المختار عند دار عمر بن سعد بن أبي وقاص، وسرح بين أيديه أحمر بن شميط البجلي ثم الأحمسي، وسرح عبد الله بن كامل الشاكري، وقال لابن شميط: الزم هذه السكة حتى تخرج إلى أهل جبانة السبيع من بين دور قومك. وقال لعبد الله بن كامل: الزم هذه السكة حتى تخرج على جبانة السبيع من دار آل الأخنس بن شريق، ودعاهما فأسر إليهما أن شبامًا قد بعثت تخبرني أنهم قد أتوا القوم من ورائهم، فمضيا فسلكا الطريقين اللذين أمرهما بهما، وبلغ أهل اليمن مسير هذين الرجلين إليهم، فاقتسموا تينك السكتين، فأما السكة التي في دبر المسجد أحمس فإنه وقف فيها عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني وإسحاق بن الأشعث وزحر بن قيس، وأما السكة التي تلى الفرات فإنه وقف فيها عبد الرحمن بن مخنف، وبشير بن جرير بن عبد الله، وكعب بن أبي كعب. ثم إن القوم اقتتلوا كأشد قتال اقتتله قوم. ثم إن أصحاب أحمر بن شميط انكشفوا وأصحاب عبد الله بن كامل أيضًا، فلم يرع المختار إلا وقد جاءه الفل قد أقبل؛ فقال: ما وراءكم؟ قالوا: هزمنا؛ قال: فما فعل أحمر بن شميط؟ قالوا: تركناه قد نزل عند مسجد القصاص - يعنون مسجد ألي دواد في وادعة، وكان يعتاده رجال أهل ذلك الزمان يقصون فيه، وقد نزل معه أناس من أصحابه - وقال أصحاب عبد الله: ما ندري ما فعل ابن كامل! فصاح بهم: أن انصرفوا. ثم أقبل بهم حتى انتهى إلى دار أبي عبد الله الجدلي، وبعث عبد الله بن قراد الخثعمي - وكان على أربعمائة رجل من أصحابه - فقال: سر في أصحابك إلى ابن كامل، فإن يك هلك فأنت مكانه، فقاتل القوم بأصحابك وأصحابه، وإن تجده حيًا صالحًا فسر في مائة من أصحابك كلهم فارس، وادفع إليه بقية أصحابك ومر بالجد معه والمناصحة له، فغنهم إنما يناصحونني، ومن ناصحني فليبشر، ثم امض في المائة حتى تأتي أهل جبانة السبيع مما يلي حمام قطن ابن عبد الله. فمضى فوجد ابن كامل واقفًا عند حمام عمرو بن حريث معه أناس من أصحابه قد صبروا وهو يقاتل القوم. فدفع إليه ثلثمائة من أصحابه ثم مضى حتى نزل إلى جبانة السبيع. ثم أخذ في تلك السكك حتى انتهى إلى مسجد عبد القيس، فوقف عنده وقال لأصحابه: ماترون؟ قالوا: أمرنا لأمرك تبع وكل من كان معه من حاشد من قومه وهم مئة؛ فقال لهم: والله إني لأحب أن يظهر المختار. ووالله إني لكاره أن يهلك أشراف عشيرتي اليوم، ووالله لأن أموت أحب إلى من أن يحل بهم الهلاك على يدي، ولكن قفوا قليلا فإني قد سمعت شبامًا يزعمون أنهم سيأتونهم من ورائهم، فلعل شبامًا تكون هي تفعل ذلك، ونعافى نحن منه. قال له أصحابه: فرأيك. فثبت كما هو عند مسجد عبد القيس، وبعث المختار مالك بن عمرو النهدي في مائتي رجل - وكان من أشد الناس بأسًا - وبعث عبد الله بن شريك النهدي في مائتي فارس إلى أحمر بن شميط، وثبت مكانه، فانتهوا إليه وقد علاه القوم وكشروه، فاقتتلوا عند ذلك كأشد القتال، ومضى ابن الأشتر حتى لقي شبث بن ربعي، وأناسًا معه من مضر كثيرًا، وفيهم حسان بن فائد العبسي، فقال لهم إبراهيم: ويحكم! انصرفوا، فو الله ما أحب أن يصاب أحد من مضر على يدي، فلا تهلكوا أنفسكم، فأبوا، فقاتلوه فهزمهم، واحتمل حسان بن فائد إلى أهله، فمات حين أدخل إليهم، وقد كان وهو على فراشه قبل موته أفاق إفاقة فقال: أما والله ما كنت أحب أن أعيش من جراحتي هذه، وما كنت أحب أن تكون منيتي إلا بطعنة رمح، أو بضربة بالسيف؛ فلم يتكلم بعدها كلمة حتى مات. وجاءت البشرى إلى المختار من قبل إبراهيم بهزيمة مضر، فبعث المختار البشرى من قبله إلى أحمر بن شميط وإلى ابن كامل، فالناس على أحوالهم كل أهل سكة منهم قد أغنت ما يليها. قال: فاجتمعت شبام وقد رأسو عليهم أبا القلوص، وقد أجمعوا واجتمعوا بأن يأتوا أهل اليمن من ورائهم، فقال بعضهم لبعض: أما والله لو جعلتم جدكم هذا على من خالفكم من غيركم لكان أصوب، فسيروا إلى مضر أو إلى ربيعة فقاتلوهم - وشيخهم أبو القلوص ساكت لا يتكلم - فقالوا: يا أبا القلوص، مارأيك؟ فقال: قال الله جل ثناؤه: " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة " قوموا؛ فقاموا؛ فمشى بهم قيس رمحين أو ثلاثة ثم قال لهم: اجلسوا فجلسوا. ثم مشى بهم أنفس من ذلك شيئًا، ثم قعد بهم، ثم قال لهم: قوموا، ثم مشى بهم الثالثة أنفس من ذلك شيئًا، ثم قعد بهم، فقالوا له: يا أبا القلوص، والله إنك عندنا لأشجع العرب، فما يحملك على الذي تصنع! قال: إن المجرب ليس كمن لم يجرب، إني أردت أن ترجع إليكم أفئدتكم، وأن توطنوا على القتال أنفسكم، وكرهت أن أقحمكم على القتال وأنتم على حال دهش؛ قالوا: أنت أبصر بما صنعت. فلما خرجوا إلى جبانة السبيع استقبلهم على فم السكة الأعسر الشاكري، فحمل عليه الجندعي وأبو الزبير بن كريب فصرعاه، ودخلا الجبانة، ودخل الناس الجبانة في آثارهم، وهم ينادون: يالثارات الحسين! فأجابهم أصحاب ابن شميط يالثارات الحسين! فسمعها يزيد بن عمير بن ذي مران من همدان فقال: يالثارات عثمان! فقال لهم رفاعة بن شداد: مالنا ولعثمان! لاأقاتل مع قوم يبغون دم عثمان، فقال له أناس من قومه: جئت بنا وأطعناك. حتى إذا رأينا قومنا تأخذهم السيوف قلت: انصرفوا ودعوهم! فعطف عليهم وهو يقول: أنا ابن شداد على دين علي ** لست لعثمان بن أروى بولى لأصلين اليوم فيمن يصطلي ** بحر نار الحرب غير مؤتل فقاتل حتى قتل، وقتل يزيد بن عمير بن ذي مران، وقتل النعمان ابن صهبان الجرمي ثم الراسي - وكان ناسكًا - ورفاعة بن شداد بن عوسجة الفتياني عند حمام المهبذان الذي بالسبخة - وكان ناسكًا - وقتيل الفرات ابن زحر بن قيس الجعفي، وارتث بن قيس، وقتل عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس. وقتل عمر بن مخنف، وقاتل عبد الرحمن بن مخنف حتى أرتث، وحملته الرجال على أيديها يشعر، وقاتل حوله رجال من الأزد، فقال حميد بن مسلم: لأضربن عن أبي حكيم ** مفارق الأعبد والصميم وقال سراقة بن مرداس البارقي: يا نفس إلا تصبري تليمي ** لا تتولى عن أبي حكيم واستخرج من دور الوادعين خمسمائة أسير، فأتى بهم المختار مكتفين، فأخذ رجل من بني نهد وهو من رؤساء أصحاب المختار يقول له: عبد الله ابن شريك، لا يخلو بعربي إلا خلى سبيله، فرفع ذلك إلى المختار درهم مولى لبني نهد. فقال له المختار: اعرضوهم على، وانظروا كل من شهد منهم قتل الحسين فأعلموني به، فأخذوا لا يمر عليه برجل قد شهد قتل الحسين إلا قيل له: هذا ممن شهد قتله، فيقدمه فيضرب عنقه، حتى قتل منهم قبل أن يخرج مائتين وثمانية وأربعين قتيلًا، وأخذ أصحابه كلما رأوا رجلًا قد كان يؤذيهم أو يماريهم أو يضربهم خلوا به فقتلوه حتى قتل ناس كثير منهم وما يشعر بهم المختار، فأخبر بذلك المختار بعد، فدعا بمن بقي من الأسارى فأعتقهم، وأخذ عليهم المواثيق ألا يجامعوا عليه عدوا، ولا أصحابه غائلة، إلا سراقة بن مرداس البارقي، فإنه أمر أن يساق معه إلى المسجد. قال: ونادى منادي المختار: إنه من أغلق بابه فهو آمن، إلا رجلًا شرك في دم آل محمد صلى عليه وسلم. قال أبو مخنف: حدثني المجالد بن سعيد، عن عمامر الشعبي.، أن يزيد ابن الحارث بن يزيد بن رؤيم وحجار بن أبجر بعثا رسلا لهما، فقالا لهم: كونوا من أهل اليمن قريبًا، فإن أيتموهم قد ظهروا فأيكم سبق إلينا فليقل صرفان، وإن كانوا هزموا فليقل جمزان، فلما عزم أهل اليمن أتتهم رسلهم، فقال لهم أول من انتهى إليهم: جمزان، فقام الرجلان فقالا لقومهما: انصرفوا إلى بيوتكم، فانصرفوا، وخرج عمرو بن الحجاج الزبيدي - وكان ممن شهد قتل الحسين - فركب راحلته، ثم ذهب عليها، فأخذ طريق شراف وواقصة، فلم ير حتى الساعة. ولا يدري أرض بخسته، أم سماء حصبته! وأما فرات بن زحر بن قيس فإنه لما قتل بعثت عائشة بنت خليفة بن عبد الله الجعفية - وكانت امرأة الحسين بن علي - إلى المختار تسأله أن يأذن له أن تواري جسده، ففعل؛ فدفنته. وبعث المختار غلامًا له يدعى زريبًا في طلب شمر بن ذي الجوشن قال أبو مخنف: فحدثني يونس بن أبي إسحاق، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: تبعنا زربي غلام المختار، فلحقنا وقد خرجنا من الكوفة على خيول لنا ضمر، فأقبل يتمطر به فرسه، فلما دنا منا قال لنا شمر: اركضوا وتباعدوا عني لعل العبد يطمع في؛ قال: فركضنا، فأمعنا، وطمع العبد في شمر، وأخذ شمر ما يستطرد له، حتى إذا انقطع من أصحابه حمل عليه شمر فدق ظهره، وأتى المختار فأخبر بذلك، فقال: بؤسًا لزربى، أما لو يستشيرني ما أمرته أن يخرج لأبي السابغة. قال أبو مخنف: حدثني أبو محمد الهمداني، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: لما خرج شمر بن ذي الجوشن وأنا معه حين هزمنا المختار، وقتل أهل اليمن بجبانة السبيع، ووجه غلامه زربيًا في طلب شمر، وكان من قتل شمر إياه ما كان، مضى شمر حتى ينزل ساتيدما، ثم مضى حتى ينزل إلى جانب قرية يقال لها الكلتانية على شاطئ نهر، إلى جانب تل، ثم أرسل إلى تلك القرية فأخذ منها علجًا فضربه، ثم قال: النجاء بكتابي هذا إلى المصعب بن الزبير وكتب عنوانه: للأمير المصعب بن الزبير من شمر بن ذي الجوشن. قال: فمضى العلج حتى يدخل قرية فيها بيوت، وفيها أبو عمرة، وقد كان المختار بعثه في تلك الأيام إلى تلك القرية لتكون مسلحة فيما بينه وبين أهل البصرة، فلقى ذلك العلج علجًا من تلك القرية، فأقبل يشكو إلية ما لفي من شمر، فإنه لقائم معه يكلمه إذ مر به رجل من أصحاب أبي عمرة، فرأى الكتاب مع العلج، وعنوانه: لمصعب من شمر، فسألوا العلج عن مكانه الذي هو به، فأخبرهم، فإذا ليس بينهم وبينه إلا ثلاثة فراسخ. قال: فأقبلوا يسيرون إليه. قال أبو مخنف: فحدثني مسلم بن عبد الله قال: وأنا والله مع شمر تلك الليلة، فقلنا: لو أنك ارتحلت بنا من هذا المكان فإنا نتخوف به! فقال: أو كل هذا فرقًا من الكذاب! والله لا أحول منه ثلاثة أيام، ملأ الله قلوبكم رعبًا! قال: وكان بذلك المكان الذي كنا فيه دبى كثير، فو الله إني لبين اليقظان والنائم، إذ سمعت وقع حوافر الخيل، فقلت في نفسي: هذا صوت الدبى، ثم سمعته أشد من ذلك، فانتبهت ومسحت عيني، وقلت: لا والله، ما هذا بالدبي. قال: وذهبت لأقوم، فإذا أنا بهم قد أشرفوا علينا من التل، فكبروا، ثم أحاطوا بأبياتنا، وخرجنا نشتد على أرجلنا، وتركنا خيلنا. قال: فأمر على شمر، وإنه لمتزر ببرد محقق - وكان أبرص - فكأني أنظر إلى بياض كشحيه من فوق البرد، فإنه ليطاعنهم بالرمح، قد أعجلوه أن يلبس سلاحه وثيابه، فمضينا وتركناه قال: فما هو إلا أن أمعنت ساعةً، إذ سمعت: الله أكبر، قتل الله الخبيث! قال أبو مخنف: حدثني المشرقي، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود، قال: أنا والله صاحب للكتاب الذي رأيته مع العلج، وأتيت به أبا عمرة وأنا قتلت شمرًا؛ قال: قلت: هل سمعته يقول شيئًا ليلتئذ؟ قال: نعم، خرج علينا فطاعننا برمحه ساعة، ثم ألقى رمحه، ثم دخل بيته فأخذ سيفه، ثم خرج علينا وهو يقول: ى بياض كشحيه من فوق البرد، فإنه ليطاعنهم بالرمح، قد أعجلوه أن يلبس سلاحه وثيابه، فمضينا وتركناه قال: فما هو إلا أن أمعنت ساعةً، إذ سمعت: الله أكبر، قتل الله الخبيث! قال أبو مخنف: حدثني المشرقي، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود، قال: أنا والله صاحب للكتاب الذي رأيته مع العلج، وأتيت به أبا عمرة وأنا قتلت شمرًا؛ قال: قلت: هل سمعته يقول شيئًا ليلتئذ؟ قال: نعم، خرج علينا فطاعننا برمحه ساعة، ثم ألقى رمحه، ثم دخل بيته فأخذ سيفه، ثم خرج علينا وهو يقول: نبهتم ليث عرين باسلا ** جهما محياه يدق الكاهلا لم ير يومًا عن عدو ناكلا ** إلا كذا مقاتلًا أو قاتلا يبرحهم ضربًا ويروي العاملا قال أبو مخنف، عن يونس بن أبي إسحاق: ولما خرج المختار من جبانة السبيع، وأقبل إلى القصر، أخذ سراقة بن مرداس يناديه بأعلى صوته: امنن علي اليوم يا خير معد ** وخير من حل بشحر والجند وخير من حيا ولبى وسجد فبعث به المختار إلى السجن، فحبسه ليلة، ثم أرسل إليه من الغد فأخرجه، فدعا إلى المختار وهو يقول: ألا أبلغ أبا إسحاق أنا ** نزونا نزوة كانت علينا خرجنا لا نرى الضعفاء شيئًا ** وكان خروجنا بطرًا وحينا نراهم في مصافهم قليلًا ** وهم مثل الدبي حين التقينا برزنا إذ رأيناهم فلما ** رأينا القوم قد برزوا إلينا لقينا منهم ضربًا طلحفًا ** وطعنًا صائبًا حتى انثنينا نصرت على عدوك كل يوم ** بكل كتيبة تنعى حسينا كنصر محمد في يوم بدر ** ويوم الشعب إذ لاقى حنينا فأسجح إذ ملكت فلو ملكنا ** لجرنا في الحكومة واعتدينا تقبل توبة مني فإني ** سأشكر إن جعلت النقد دينا قال: فلما انتهى إلى المختار، قال له: أصلحك الله أيها الأمير! سراقة ابن مرداس يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأى الملائكة تقاتل على الخيول البلق بين السماء والأرض؛ فقال له المختار: فاصعد المنبر فأعلم ذلك المسلمين؛ فصعد فأخبرهم بذلك ثم نزل، فخلا به المختار، فقال: فاذهب عني حيث أحببت، لا تفسد علي أصحابي. قال أبو مخنف: الحجاج بن علي البارقي عن سراقة بن مرداس، قال: ما كنت في أيمان حلفت بها قط إجتهادًا ولا مبالغةً في الكذب مني في أيماني هذه التي حلفت لهم بها أني قد رأيت الملائكة معهم تقاتل. فخلوا سبيله. فهرب، فلحق بعبد الرحمن بن مخنف عند المصعب بن الزبير بالبصرة، وخرج أشراف أهل الكوفة والوجوه. فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة، وخرج سراقة بن مرداس من الكوفة وهو يقول: ألا أبلغ أبا إسحاق أني ** رأيت البلق دهمًا مصمتات كفرت بوحيكم وجعلت نذرًا ** على قتالكم حتى الممات أرى عيني ما لم تبصراه ** كلانا عالم بالترهات إذا قالوا أقول لهم كذبتم ** وإن خرجوا لبست لهم أداتي حدثني أبو السائب سلم بن جناده، قال حدثنا محمد بن براد، من ولد أبي موسى الأشعري، عن شيخ، قال: لما أسر سراقة البارقي، قال: وأنتم أسرتموني! ماأسرني إلا قوم على دواب بلق، عليهم ثياب بيض. قال: فقال المختار: أولئك الملائكة. فأطلقه، فقال: ألا أبلغ أبا إسحاق أني ** رأيت البلق دهمًا مصمتات أرى عيني ما لم ترأياه ** كلانا عالم بالترهات قال أبو مخنف: حدثني عمير بن زياد أن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني قال يوم جبانة السبيع: ويحكم! من هؤلاء الذين أتونا من ورائنا؟ قيل له: شبام؛ فقال: ياعجبا! يقاتلني بقومي من لاقوم له. قال أبو مخنف: وحدثني أبو روق أن شرحبيل بن ذي يقلان من الناعطيين قتل يومئذ، وكان من بيوتات همدان، فقال يومئذ قبل أن يقتل: يالها قتلةً، ما أضل مقتولها! قتال مع غير إمام، وقتال على غير نية، وتعجيل فراق الأحبة، ولو قتلناهم إذًا لم نسلم منهم، إنا لله وإنا إليه راجعون! أما والله ما خرجت إلا مواسيًا لقومي بنفسي مخافة أن يضطهدوا، وايم الله مانجوت من ذلك ولاأنجوا، ولا أغنيت عنهم ولا أغنوا. قال: ويرميه رجل من الفائشيين من همدان يقال له أحمر بن هديج بسهم فيقتله. قال: واختصم في عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني نفر ثلاثة: سعر ابن أبي سعر الحنفي، وأبو الزبير الشبامي: ورجل آخر، فقال سعر: طعنته طعنة، وقال أبو الزبير: لكن ضربته أنا عشر ضربات أو أكثر، وقال لي ابنه: يا أبا الزبير، أتقتل عبد الرحمن بن سعيد سيد قومك! فقلت: " لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أوعشيرتهم " فقال المختار: كلكم محسن. وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلا من قومه. قال أبو مخنف: حدثني النصر بن صالح أن القتل إذ ذاك كان استحر في أهل اليمن، وأن مضر أصيب منهم بالكناسة بضعة عشر رجلا، ثم مضو حتى مروا بربيعة، فرجع حجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث بن رؤيم وشداد بن المنذر - أخو حضين - وعكرمة بن ربعى، فانصرف جميع هؤلاء إلى رحالهم، وعطف عليهم عكرمة فقاتلهم قتالا شديدًا، ثم انصرف عنهم وقد خرج، فجاء حتى دخل منزله، فقيل له: قد مرت خيل في ناحية الحي؛ فخرج فأراد أن يثب من حائط داره إلى دار أخرى إلى جانبه فلم يستطع حتى حمله غلام له. وكانت وقعة جبانة السبيع يوم الأربعاء لست ليال بقين من ذي الحجة سنة ست وستين. قال: وخرج أشراف الناس فلحقوا بالبصرة. وتجرد المختار لقتلة الحسين فقال: ما من ديننا ترك قوم قتلوا الحسين يمشون أحياء في الدنيا آمنين؛ بئس ناصر آل محمد أنا إذًا في الدنيا! أنا إذًا الكذاب كما سموني، فإنى بالله أستعين عليهم، الحمد لله الذي جعلني سيفًا ضربهم به، ورمحًا طعنهم به، وطالب وترهم، والقائم بحقهم، إنه كان حقًا على الله أن يقتل من قتلهم، وأن يذل من جهل حقهم، فسموهم لى ثم اتبعوهم حتى تفنوهم. قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن عامر أن المختار قال لهم: اطلبوا لى قتلة الحسين، فإنه لا يسوغ لى الطعام والشراب حتى أطهر الأرض منهم، وأنفى المصر منهم. قال أبو مخنف: وحدثني مالك بن أعين الجهنى أن عبد الله بن دباس، وهو الذي قتل محمد بن عمار بن ياسر الذي قال الشاعر: قتيل ابن دباس أصاب قذاله هو الذي دل المختار على نفر ممن قتل الحسين، منهم عبد الله بن أسيد بن النزال الجهنى من حرقة، ومالك بن النسير البداى، وحمل بن مالك المحاربي؛ فبعث إليهم المختار أبا نمران مالك بن عمرو النهدي وكان من رؤساء أصحاب المختارفأتاهم وهم بالقادسية، فأخذهم فأقبل بهم حتى أدخلهم عليه عشاء، فقال لهم المختار: يا أعداء الله وأعداء كتابه وأعداء رسوله وآل رسوله، أين الحسين بن علي؟ أدوا إلى الحسين، قتلتم من أمرتم بالصلاة عليه في الصلاة، فقالوا: رحمك الله! بعثنا ونحن كارهون، فامنن علينا واستبقنا، قال المختار: فهلا مننتم على الحسين ابن بنت نبيكم واستبقيتموه وسسقيتموه! ثم قال المختار للبدى: أنت صاحب برنسه؟ فقال له عبد الله بن كامل: نعم، هو هو؛ فقال المختار، اقطعوا يدي هذا ورجليه. ودعوه فليضطرب حتى يموت، ففعل ذلك به وترك، فلم يزل ينزف الدم حتى مات، وأمر بالآخرين فقدما، فقتل عبد الله بن كامل عبد الله الجهني، وقتل سعر بن أبي سعر حمل بن مالك المحاربي. قال أبو مخنف: وحدثني أبو الصلت التيمي، قال حدثني أبو سعيد الصيقل أن المختار دل على رجال من قتلة الحسين، دله عليهم سعر الحنفي؛ قال: فبعث المختار عبد الله بن كامل، خرجنا معه حتى مر ببني ضبيعة، فأخذ منهم رجلا يقال له زياد بن مالك؛ قال: ثم مضى إلى عنزة فأخذ منهم رجلا يقال له عمران بن خالد. قال: ثم بعثني في رجال معه يقال لهم الدبابة إلى دار في الحمراء، فيها عبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي وعبد الله بن قيس الخولاني، فجئنا بهم حتى أدخلناهم عليه، فقال لهم: ياقتلة الصالحين، وقتلة سيد شباب أهل الجنة، ألا ترون الله قد أقاد منكم اليوم! لقد جاءكم الورس، بيوم نحس - وكانوا قد أصابوا من الورس الذي كان مع الحسين - أخرجوهم إلى السوق فضربوا رقابهم. ففعل ذلك بهم، فهؤلاء أربعة نفر. قال أبو مخنف: وحدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال: جاءنا السائب بن مالك الأشعري في خيل المختار، فخرجت نحو عبد القيس، وخرج عبد الله وعبد الرحمن ابنا صلخب في أثري، وشغلوا بالاحتباس عليهما عني، فنجوت وأخذوهما، ثم مضوا بهما حتى مروا على منزل رجل يقال له عبد الله بن وهب بن عمرو ابن عم أعشى همدان من بني عبد، فأخذوه، فانتهوا بهم إلى المختار، فأمر بهم فقتلوا في السوق، فهؤلاء ثلاثة. فقال حميد بن مسلم في ذلك حيث نجا منهم: ألم ترني على دهش ** نجوت ولم أكد أنجو رجاء الله أنقذني ** ولم أك غيره أرجو قال أبو مخنف: حدثني موسى ين عامر العدوي من جهينة - وقد عرف ذلك الحديث شهم بن عبد الرحمن الجهني - قال: بعث المختار عبد الله ابن كامل إلى عثمان بن خالد بن أسير الدهماني من جهينة، وإلى أبي أسماء بشر بن سوط القابضي - وكانا ممن شهدا قتل الحسين، وكانا اشتركا في دم عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب وفي سلبه - فأحاط عبد الله بن كامل عند العصر بمسجد بني دهمان، ثم قال: على مثل خطايا بني دهمان منذ يوم خلقوا إلى يوم يبعثون إن لم أوت بعثمان بن خالد بن أسير، إن لم أضرب أعناقكم من عند آخركم، فقلنا له: أمهلنا نطلبه، فخرجوا مع الخيل في طلبه، فوجدوهما جالسين في الجبانة - وكانا يريدان أن يخرجا إلى الجزيرة - فأتى بهما عبد الله بن كامل، فقال: الحمد لله الذي كفى المؤمنين القتال، لو لم يجدوا هذا مع هذا عنانا إلى منزله في طلبه، فالحمد لله الذي حينك حتى أمكن منك. فخرج بهما حتى إذا كان في موضع بئر الجعد ضرب أعناقهما، ثم رجع فأخبر المختار خبرهما، فأمره أن يرجع إليهما فيحرقهما بالنار، وقال: لا يدفنان حتى يحرقا. فهذان رجلان، فقال أعشى همدان يرثى عثمان الجهني: يا عين بكى فتى الفتيان عثمانا ** لا يبعدن الفتى من آل دهمانا واذكر فتى ماجدًا حلوا شمائله ** ما مثله فارس في آل همدانا قال موسى بن عامر: وبعث معاذ بن هاني بن عدى الكندي، ابن أخي حجر، وبعث أبا عمرة صاحب حرسه، فساروا حتى أحاطوا بدار خولى بن يزيد الأصبحي وهو صاحب رأس الحسين الذي جاء به، فاختبأ في مخرجه، فأمر معاذ أبا عمرة أن يطلبه في الدار، فخرجت امرأته إليهم، فقالوا لها: أين زوجك؟ فقالت: لا أدري أين هو - وأشارت بيدها إلى المخرج، فدخلوا فوجدوه قد وضع على رأسه قوصرةً، فأخرجوه، وكان المختار يسير بالكوفة. ثم إنه أقبل في أثر أصحابه وقد بعث أبو عمرة إليه رسولا، فاستقبل المختار الرسول عند دار بلال، ومعه ابن كامل، فأخبره الخبر، فأقبل المختار نحوهم، فاستقبل به، فردده حتى قتله إلى جانب أهله. ثم دعا بنار فحرقه بها ثم لم يبرح حتى عاد رمادًا، ثم انصرف عنه. وكانت امرأته من حضرموت يقال لها العيوف بنت مالك بن نهار بن عقرب، وكانت نصبت له العداوة حين جاء برأس الحسين. قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن عامر أبو الأشعر أن المختار قال ذات يوم وهو يحدث جلساءه: لأقتلن غدًا رجلا عظيم القدمين، غائر العينين مشرف الحاجبين، يسر مقتله المؤمنين والملائكة المقربين. قال: وكان الهيثم بن الأسود النخعي عند المختار حين سمع هذه المقالة. فوقع في نفسه أن الذي يريد عمر بن سعد بن أبي وقاص، فلما رجع إلى منزله دعا ابنه العريان فقال: الق ابن سعد الليلة فخبره بكذا وكذا، وقل له: خذ حذرك، فإنه لا يريد غيرك. قال: فأتاه فاستخلاه، ثم حدثه الحديث، فقال له عمر بن سعد: جزى الله أباك والإخاء خيرًا! كيف يريد هذا بي بعد الذي أعطاني من العهود والمواثيق! وكان المختار أول ماظهر أحسن شئ سيرة وتألفًا للناس، وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة أكرم خلق الله على المختار لقرابته بعلي فكلم عمر بن سعد عبد الله بن جعدة وقال له: إني لا آمن هذا الرجل - يعني المختار - فخذ لي منه آمانًا، ففعل؛ قال: فأنا رأيت أمانه وقرأته وهو " بسم الله الرحمن الرحيم " هذا أمان من المختار بن أبي عبيد لعمر بن سعد ابن أبي وقاص، إنك آمن بأمان الله على نفسك ومالك وأهلك وأهل بيتك وولدك، لا تؤاخذ بحدث كان منك قديمًا ما سمعت وأطعت ولزمت رحلك وأهلك ومصرك، فمن لقي عمر بن سعد من شرطة الله وشيعة آل محمد ومن غيرهم من الناس، فلا يعرض له إلا بخير. شهد السائب بن مالك وأحمر بن شميط وعبد الله بن شداد وعبد الله بن كامل. وجعل المختار على نفسه عهد الله وميثاقه ليفين لعمر بن سعد بما أعطاه من الأمان، إلا أن يحدث حدثًا، وأشهد الله على نفسه، وكفى بالله شهيدًا. قال: فكان أبو جعفر محمد بن علي يقول: أما أمان المختار لعمر بن سعد: إلا أن يحدث حدثًا، فإنه كان يريد به إذا دخل الخلاء فأحدث. قال: فلما جاءه العريان بهذا خرج من تحت ليلته حتى أتى حمامه، ثم قال في نفسه: أنزل داري، فرجع فعبر الروحاء، ثم أتى داره غدوة، وقد أتى حمامه، فأخبر مولى له بما كان من أمانه وبما أريد به، فقال له مولاه: وأي حدث أعظم مما صنعت! إنك تركت رحلك وأهلك وأقبلت إلى ها هنا، ارجع إلى رحلك، لا تجعن للرجل عليك سبيلا. فرجع إلى منزله، وأتى المختار بانطلاقه، فقال: كلا إن في عنقه سلسلة سترده، لو جهد أن ينطلق ما استطاع. قال: وأصبح المختار فبعث إليه أبا عمرة، وأمره أن يأتيه به، فجاءه حتى دخل عليه فقال: أجب الأمير، فقام عمر: فعثر في جبة له، ويضربه أبو عمرة بسيفه، فقتله، وجاء برأسه في أسفل قبائه حتى وضعه بين يدي المختار، فقال المختار لابنه حفص بن عمر بن سعد وهو جالس عنده: أتعرف هذا الرأس؟ فاسترجع وقال: نعم، ولا خير في العيش بعده، قال له المختار: صدقت، فإنك لاتعيش بعده، فأمر به فقتل، وإذا رأسه مع رأس أبيه. ثم إن المختار قال: هذا بحسين هذا بعلي بن حسين، ولا سواء، والله لوقتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله؛ فقالت حميدة بنت عمر بن سعد تبكي أباها: لو كان غير أخي قسي غره ** أو غير ذي يمن وغير الأعجم سخي بنفسي ذاك شيئًا فاعلموا ** عنه وما البطريق مثل الألأم أعطي ابن سعد في الصحيفة وابنه ** عهدًا يلين له جناح الأرقم فلما قتل المختار عمر بن سعد وابنه بعث برأسيهما مع مسافر بن سعيد ابن نمران الناعطي وظبيان بن عمارة التميمي، حتى قدما بهما على محمد ابن الحنفية، وكتب إلى ابن الحنفية في ذلك بكتاب. قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن عامر، قال: إنما كان هيج المختار على قتل عمر بن سعد أن يزيد بن شارحيل الأنصاري أتى محمد بن الحنفية، فسلم عليه؛ فجرى الحديث إلى أن تذاكروا المختار وخروجه وما يدعو إليه من الطلب بدماء أهل البيت، فقال محمد بن الحنفية: على أهون رسله يزعم أنه لنا شيعة، وقتلة الحسين جلساؤه على الكراسي يحدثونه! قال: فوعاها الآخر منه، فلما قدم الكوفة أتاه فسلم عليه، فسأله المختار: هل لقيت المهدي؟ فقال له: نعم، فقال: ما قال لك وماذاكرك؟ قال: فخبره الخبر. قال: فما لبث المختار عمر بن سعد وابنه أن قتلهما، ثم بعث برأسيهما إلى ابن الحنفية مع الرسولين اللذين سمينا، وكتب معهما إلى ابن الحنفية: " بسم الله الرحمن الرحيم " للمهدي محمد بن علي من المختار بن أبي عبيد. سلام عليك يا أيها المهدي، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله بعثني نقمة على أعدائكم، ونصر مؤازريكم. وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه، وقد قتلنا من شرك في دم الحسين وأهل بيته - رحمة الله عليهم - كل من قدرنا عليه، ولن يعجز الله من بقي، ولست بمنجم عنهم حتى لا يبلغني أن على أديم الأرض منهم أرميا فاكتب إلى أيها المهدي برأيك أتبعه وأكون عليه. والسلام عليك أيها المهدي ورحمة الله وبركاته. ثم إن المختار بعث عبد الله بن كامل إلى حكيم بن طفيل الطائي السنبسي - وقد كان أصاب صلب العباس بن علي، ورمى حسينًا بسهم، فكان يقول: تعلق سهمي بسرباله وما ضره فأتاه عبد الله ابن كامل، فأخذه ثم أقبل به، وذهب أهله فاستغاثوه بعدى بن حاتم، فلحقهم في الطريق، فكلم عبد الله بن كامل فيه، فقال: ما إلى من أمره شىء، إنما ذلك إلى الأمير المختار. قال: فإني آتيه؛ قال: فأته راشدًا. فمضى عدى نحو المختار، وكان المختار قد شفعه في نفر منقومه أصابهم يوم جبانة السبيع، لم يكونوا نطقوا بشىء من أمر الحسين ولا أهل بيته، فقالت الشيعة لابن كامل: إنا نخاف أن يشفع الأمير عدى بن حاتم في هذا الحبيث، وله من الذنب ما قد علمت، فدعنا نقتله. قال: شأنكم به، فلما انتهوا به إلى دار العنزيين وهو مكتوف نصبوه غرضًا، ثم قالوا له: سلبت ابن علي ثيابه، والله لنسلبن ثيابك وأنت حي تنظر! فنزعوا ثيابه، ثم قالوا له: رميت حسينًا، واتخذته غرضًا لنبلك، وقلت: تعلق شهمي بسرباله ولم يضره، وايم الله لنرمينك كما رميته بنبال ما تعلق بك منها أجزاك. قال: فرموه رشقًا واحدًا، فوقعت به منهم نبال كثيرة فخر ميتًا. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الجارود، عمن رآه قتيلًا كأنه قنفذ لما فيه من كثرة النبل: ودخل عدى بن حاتم على المختار فأجلسه معه على مجلسه، فأخبره عدى عما جاء له، فقال له المختار: أتستحل يا أبا طريف أن تطلب في قتلة الحسين! قال: إنه مكذوب عليه أصلحك الله! قال: إذًا ندعه لك قال: فلم يكن بأسرع من أن دخل ابن كامل فقال له المختار: ما فعل الرجل؟ قال: قتلته الشيعة: قال: وما أعجلك إلى قتله قبل أن تأتيني به وهو لايسره أنه لم يقتله وهذا عدى قد جاء فيه، وهو أهل أن يشفع ويؤتي ما سره! قال: غلبتني والله الشيعة، قال له عدى: كذبت يا عدو الله، ولكن ظننت أن من هو خير منك سيشفعني فيه، فبادرتني فقتلته، ولم يكن خطر يدفعك عما صنعت، قال: فاسحنفر إليه ابن كامل بالشتيمة، فوضع المختار إصبعه على فيه، يأمر ابن كامل بالسكوت والكف عن عدى، فقام عدى، راضيًاعن المختار ساخطًا على ابن كامل، يشكوه عند من لفى من قومه. وبعث المختار إلى قاتل علي بن الحسين عبد الله ابن كامل. وهو رجل من عبد القيس يقال له مرة بن منقذ بن النعمان العبدي وكان شجاعًا، فأتاه ابن كامل فأحاط بداره، فخرج إليهم وبيده الرمح، وهو على فرس جواد، فطعن عبيد الله بن ناجية الشبامى، فصرعه ولم يضره. قال: ويضربه ابن كامل بالسيف فيتقيه بيده اليسرى، فأسرع فيها السيف، وتمطرت به الفرس، فأفلت ولحق بمصعب، وشلت يده بعد ذلك. قال: وبعث المختار أيضًا عبد الله الشاكري إلى رجل من جنب يقال له زيد بن رقاد. كان يقول: لقد رميت فتى منهم بسهم وإنه لواضع كفه على جبهته يتقى النبل فأثبت كفه في جبهته، فما استطاع أن يزيل كفه عن جبهته. قال أبو مخنف: فحدثني أبو عبد الأعلى الزبيدي أن ذلك الفتى عبد الله ابن مسلم بن عقيل، وأنه قال حيث أثبت كفه في جبهته: اللهم إنهم استقلونا واستذلونا، اللهم فاقتلهم كما قتلونا، وأذلهم كما استذلونا. ثم إنه رمى الغلام بسهم آخر فقتله، فكان يقول: جئته ميتًا فنزعت سهمي الذي قتلته به من جوفه، لم أزل أنضنض السهم من جبهته حتى نزعته، وبقى النصل في جبهته مثبتًا ما قدرت على نزعه. قال: فلما أتى ابن كامل داره أحاط بها، واقتحم الرجال عليه، فخرج مصلتًا بسيفه - وكان شجاعًا - فقال ابن كامل: لا تضربوه بسيف، ولا تطعنوه برمح، ولكن ارموه بالنبل، وارجموه بالحجارة، ففعلوا ذلك به، فسقط، فقال ابن كامل: إن كان به رمق فأخرجوه؛ فأحرجوه وبه رمق، فدعا بنار فحرقه بها وهو حي لم تخرج روحه. وطلب المختار سنان ابن أنس الذي كان يدعى قتل الحسين، فوجده قد هرب إلى البصرة. فهدم داره. وطلب المختار عبد الله بن عقبة الغنوي فوجده قد هرب، ولحق بالجزيرة، فهدم داره وكان ذلك الغنوي قد قتل منهم غلامًا. وقتل رجل آخر من بني أسد يقال له حرملة بن كاهل رجلًا من آل الحسين، ففيهما يقول ابن أبي عقب الليثي: وعند غنى قطرة من دمائنا ** وفي أسد أخرى تعد وتذكر وطلب رجلًا من خشعم يقال له عبد الله بن عروة الخثعمي - كان يقول: رميت فيهم باثنى عشر سهمًا ضيعة - ففاته ولحق بصعب، فهدم داره. وطلب رجلًا من صداء يقال له عمرو بن صبيح، وكان يقول: لقد طعنت بعضهم وجرحت فيهم وما قتلت منهم أحدًا، فأتى ليلًا وهو على سطحه وهو لا يشعر بعد ما هدأت العيون. وسيفه تحت رأسه، فأخذوه أخذًا، وأخذوا سيفه، فقال: قبحك الله سيفاُ، ما أقربك وما أبعدك! فجيء به إلى المختار، فحبسه معه في القصر، فلما أن أصبح أذن لاُصحابه، وقيل: ليدخل من شاء أن يدخل، ودخل الناس، وجيء به مقيدًا، ففال: أما والله يا معشر الكفرة الفجرة أن لو بيدي سيفي لعلم أني بنصل السيف غير رعش ولا رعديد، ما يسرني إذا كانت منيتي قتلًا أنه قتلني من الخلق أحد غيركم. لقد علمت أنكم شرار خلق الله. غير أني وددت أن بيدي سيفاُ أضرب به فيكم ساعة، ثم رفع يده فلطم عين ابن كامل وهو إلى جنبه، فضحك ابن كامل، ثم أخذ بيده وأمسكها، ثم قال: إنه يزعم أنه قد جرح في آل محمد وطعن، فمرنا بأمرك فيه، فقال المختار: علي بالرماح، فأتى بها، فقال: أطعنوه حتى يموت، فطعن بالرماح حتى مات. قال: أبو مخنف: حدثني هشام بن عبد الرحمن وابنه بن هشام أن أصحاب المختار مروا بدار بني أبي زرعة بن مسعود، فرموهم من فوقها، فأقبلوا حتى دخلوا الدار، فقتلوا الهبياط بن عثمان بن أبي زرعة الثقفي وعبد الرحمن بن عثمان بن أبي زرعة الثفقي، وأفلتهم عبد الملك ابن أبي زرعة بضربة في رأسه، فجاء يشتد حتى دخل على المختار، فأمر امرأته أم ثابت ابنة سمرة بن جندب، فداوت شجته، ثم دعاه، فقال: لا ذنب لي، إنكم رميم القوم فأغضبتموهم. وكان محمد بن الشعث بن قيس في قرية الشعث إلى جانب القادسية، فبعث المختار إليه حوشبًا سادن الكرسي في مائة، فقال: انطلق إليه فإنك تجده لاهيًا متصيدًا، أو قائمًا متلبدًا، أو خائفًا متلددًا، أو كامنًا متغمدًا، فإن قدرت عليه فأتني برأسه. فخرج حتى أتى قصره فأحاط به، وخرج منه محمد بن الأشعث فلحق بمصعب، وأقاموا على القصر وهم يرون أنه فيه، ثم دخلوا فعلموا أنه قد فاتهم، فانصرفوا ألى المختار، فبعث إلى داره فهدمها، وبنى بلبنها وطينها دار حجر بن عدي الكندي، وكان زياد بن سمية قد هدمها ذكر الخبر عن البيعة للمختار بالبصرة قال أبو جعفر: وفي بهذه السنة دعا المثنى بن مخربة العبدي إلى البيعة للمختار بالبصرة أهلها؛ فحدثني أحمد ين زهير، عن علي بن محمد، عن عبد الله بن عطية الليثي وعامر بن الأسود، أن المثنى بن مخربة العبدي كان ممن شهد عين الوردة مع سليمان بن صرد، ثم رجع مع من رجع ممن بقى من التوابين إلى الكوفة، والمختار محبوس، فأقام حتى خرج المختار من السجن، فبايعه المثنى سرًا، وقال له المختار: الحق ببلدك بالبصرة فارع الناس، وأسر أمرك؛ فقدم البصرة فدعا، فأجابه رجال من قومه وغيرهم فلما أخرج المختار ابن مطيع من الكوفة ومنع عمر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام من الكوفة خرج المثنى بن مخربة فاتخذ مسجدًا، واجتمع إليه قومه، ودعا إلى المختار، ثم أتى مدينة الرزق فعسكر عندها، وجمعوا الطعام في المدينة، ونحروا الجزر، فوجه إليهم القباع عباد بن حصين وهو على شرطته، وقيس بن الهيثم في الشرط والمقاتلة، فأخذوا في سكة الموالي حتى خرجوا إلى السبخة، فوقفوا، ولزم الناس دورهم، فلم يخرج أحد، فجعل عباد ينظر هل يرى أحدًا يسأله! فلم ير أحدًا؛ فقال: أما ها هنا رجل من ينس تميم؟ فقال خليفة الأعور مولى بني عدي، عدى الرباب: هذه دار وراد مولى بني عبد شمس؛ قال: دق الباب، فدقه، فخرج إليه وراد، فشتمه عباد وقال: ويحك! أنا واقف ها هنا، لم لم تخرج إلي! قال: لم أدر ما يوافقك، قال: شد عليك سلاحك واركب، ففعل، ووقفوا، وأقبل أصحاب المثنى فوافقوهم، فقال عباد لوراد: قف مكانك مع قيس، فوقف قيس بن الهيثم ووراد، ورجع عباد فأخذ في طريق الذباحين، والناس وقوف في السبخة، حتى أتى الكلاُ، ولمدينة الرزق أربعة أبواب: باب مما يلي البصرة، وباب إلى الخلالين، وباب إلى المسجد، وباب إلى مهيب الشمال، فأتى الباب الذي يلي النهر مما يلي أصحاب السقط، وهو باب صغير، فوقف ودعا بسلم فوضعه مع حائط المدينة، فصعد ثلاثون رجلًا، وقال لهم: إلزموا السطح، فإذا سمعتم التكبير فكسروا على السطوح، ورجع عباد إلى قيس بن الهيثم وقال لوراد: حرش القوم؛ فطاردهم وراد، ثم التبس القتال فقتل أربعون رجلًا من أصحاب المثنى، وقتل رجل من أصحاب عباد، وسمع الذين على السطوح في دار الرزق الضجة والتكبير، فكبروا، فهرب من كان في المدينة، وسمع المثنى وأصحابه التكبير من ورائهم، فانهزموا، وأمر عباد وقيس بن الهيثم الناس بالكف عن أتباعهم وأخذوا مدينة الرزق وما كان فيها، وأتى المثنى وأصحابه عبد القيس ورجع عباد وقيس ومن معهما إلى القباع فوجههما إلى عبد القيس، فأخذ قيس بن الهيثم من ناحية الجسر، وأتاهم عباد من طريق المربد، فالتقوا فأقبل زياد بن عمرو العتكي إلى القباع وهو في المسجد جالس على المنبر، فدخل زياد المسجد على فرسه، فقال: أيها الرجل، لتردن خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنها. فأرسل القباع الأحنف بن قيس وعمر بن عبد الرحمن المخزومي ليصلحا أمر الناس، فأتيا عبد القيس، فقال الأحنف لبكر والأسد والعامة: ألستم على بيعة ابن الزبير؟ قالوا: بلى، ولكنا لا نسلم إخواننا. قال: فمروهم فليخرجوا إلى أي بلد أحبوا، ولا يفسدوا هذا المصر على أهله، وهم آمنون فليخرجوا حيث شاءوا. فمشى مالك بن مسمع وزياد بن عمرو ووجوه أصحابهم إلى المثنى، فقالوا له ولأصحابه: إنا والله ما نحن على رأيكم، ولكننا كرهنا أن تضاموا، فالحقوا بصاحبكم، فإن من أجابكم إلى رأيكم قليل، وأنتم آمنون. فقبل المثنى قولهما وما أشارا به، وانصرف ورجع الأحنف وقال: ما غبنت رأيي إلا يومي هذا القباع، وشخص المثنى إلى المختار بالكوفة في نغر يسير من أصحابه. وأصيب في تلك الحرب سويد بن رئاب الشنى، وعقبة بن عشيرة الشنى، قتله رجل من بني تميم وقتل التميمي فولغ أخو عقبة بن عشيرة في دم التميمي، وقال: ثأري. وأخبر المختار حين قدم عليه بما كان من أمر مالك بن مسمع وزياد بن عمرو ومسيرهما إليه، وذبهما عنه حتى شخص عن البصرة، فطمع المختار فيهما، فكتب إليهما: أما بعد، فاسمعا وأطيعا أوتيكما من الدنيا ما شئتما، وأضمن لكما الجنة. فقال. مالك لزياد: يا أبا المغيرة، قد أكثر لنا أبو إسحاق إعطاءنا الدنيا والآخرة! فقال زياد لمالك مازحًا: يا أبا غسان، أما أنا فلا أقاتل نسيئة، من أعطانا الدراهم قاتلنا معه. وكتب المختار إلى الأحنف بن قيس: من المختار إلى الأحنف ومن قبله، فسلم أنتم، أما بعد، فويل أم ربيعة من مضر، فإن الأحنف مورد قومه سقر، حيث لا يستطيع لهم الصدر، وإني لا أملك ما خط في القدر، وقد بلغني أنكم تسمونني كذابًا، وقد كذب الأنبياء من قبلي، ولست بخير من كثير منهم. وكتب إلى الأحنف: إذا اشتريت فرسًا من مالكًا ** ثم أذت الجوب في شمالكا فاجعل مصاعًا حذما من بالكا حدثني أبو السائب سليم بن جنادة، قال: حدثنا الحسن بن حمادة، عن حبان بن علي، عن المجالد، عن الشعبي، قال: دخلت البصرة فقعدت إلى حلقة فيها الأحنف بن قيس، فقال لي بعض القوم: من أنت؟ قلت: رجل من أهل الكوفة؛ قال: أنتم موال لنا؛ قلت: وكيف؟ قال: قد أنقذناكم من أيدي عبيدكم من أصحاب المختار، قلت: تدري ما قال شيخ همدان فينا وفيكم؟ فقال الأحنف بن قيس: وما قال؟ قلت قال: أفخرتم أن قتلتم أعبدًا ** وهزمتم مرة آل عزل وإذا فاخرتمونا فاذكروا ** ما فعلنا بكم يوم الجمل بين شيخ غاضب عثنونه ** وفتى أبيض وضاح رفل جاءنا يهدج في سابغة ** فذبحناه ضحى ذبح الحمل وعفونا فنسيتم عفونا ** وكفرتم نعمة الله الأجل وقتلتم خشبيين بهم ** بدلًا من قومكم شر بدل فعضب الأحنف، فقال: يا غلام، هات تلك النصيحة، فأتى بصحيفة فيها: " بسم الله الرحمن الرحيم ". من المختار بن أبي عبيد إلى الأحنفبن قيس، أما بعد، فويل أم ربيعة ومضر، فإن الأحنف مورد قومه سقر، حيث لا يقدرون على الصدر، وقد بلغني أنكم تكذبوني، وإن كذبت فقد كذب رسل من قبلي، ولست أنا خير منهم، فقالوا: هذا منا أو منكم. وقال هشام بن محمد عن أبي مخنف، قال: حدثني منيع بن العلاء السعدي أن مسكين بم عامر بن أنيف بن شريح بن عمرو بن عدس كان فيمن قاتل المختار، فلما هزم الناس لحق بآذربيجان بمحمد بن عمير بن عطارد. وقال: عجبت دختنوس لما رأتني ** قد علاني من المشيب خمار فأهلت بصوتها وأرنت ** لاتهالى قد شاب منى العذار إن تريني فقد بان غرب شبابي ** وأتى دون مولدي إعصار فابن عامين وابن خمسين عامًا ** أى دهر إلا له أدهار؟ ليت سيفي لها وجوبتها لي ** يوم قالت ألا كريم يغار ليتنا قبل ذلك اليوم متنا ** أو فعلنا ما تفعل الأحرار فعل قوم تقاذف الخير عنهم ** لم نقاتل وقاتل العيزار ؟ وتوليت عنهم وأصيبوا ** ونفاني عنهم شنار وعار لهف نفسي علي شهاب قريش ** يوم يؤتى برأسه المختار وقال المتوكل الليثي: قتلوا حسينًا ثم هم ينعونه ** إن الزمان بأهله أطوار لا تبعدن بالطف قتلى ضيعت ** وسقى مساكن هامها الأمطار ما شرطة الجال تحت لوائه ** بأضل ممن غره المختار أبنى قسى أوثقوا دجالكم ** يجل الغبار وأنتم أحرار لو كان علم الغيب عند أخيكم ** لتوطات لكم به الأخبار ولكان أمرًا بينًا فيما مضى ** تأتى به الأنباء والأخبار إني لأرجو أن يكذب وحيكم ** طعن يشق عصاكم وحصار ويجيئكم قوم كأن سيوفهم ** بأكفهم تحت العجاجة نار لاينثنون إذا هم لاقوكم ** إلا وهام كماتكم أعشار ذكر الخبر عن بعث المختار جيشه للمكر بابن الزبير قال أبو جعفر: وفي هذه السنة بعث المختار جيشًا إلى المدينة للمكر بابن الزبير، وهو مظهر لهم أنه وجههم معونة له لحرب الجيش الذي كان عبد الملك بن مروان وجهه إليه لحروبه، فنزلوا وادي القرى. ذكر الخبر عن السبب الداعي كان للمختار إلى توجيه الجيش وإلى ما صار أمرهم: قال: هشام بن محمد: قال أبو محنف: حدثني موسى بن عامر، قال: لما أخرج المختار ابن مطيع من الكوفة لحق بالبصرة. وكره أن يقدم ابن الزبير بمكة وهو مهزوم مفلول، فكان بالبصرة مقيمًا حتى قدم عليه عمر بن عبد الرحمن بن هشام، فصارا جميعًا بالبصرة. وكان سبب قدوم عمر البصرة أن المختار حين ظهر بالكوفة واستجمع له الأمر وهو عند الشيعة إنما يدعو إلى ابن الحنفية والطلب بدماء أهل البيت، أخذ يخادع ابن الزبير ويكتب إليه، فكتب إليه: أما بعد، فقد عرفت مناصحتي إياك وجهدي على أهل عداوتك، وما كنت أعطيتني إذا أنا فعلت ذلك من نفسك فلما وفيت لك، وقضيت الذي كان لك علي، خست بي، ولم تفي بما عاهدتني عليه، ورأيت مني ما قد رأيت، فإن ترد مراجعتي أراجعك، وإن ترد مناصحتي أنصح لك. وهو يريد بذلك كفه عنه، حتى يستجمع له الأمر، وهو لا يطلع الشيعة على شيء من هذا الأمر، وإذا بلغهم شيء منهم أراهم أنه أبعد الناس عن ذلك، قال: فأراد ابن الزبير أن يعلم أسلم هو أم حرب! فدعا عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي فقال له: تجهز إلى الكوفة فقد وليناكها، فقال: كيف وبها المختار! قال: إنه يزعم أنه سامع مطيع. قال: فتجهز بما بين الثلاثين ألف درهم إلى الأربعين ألفًا، ثم خرج مقبلًا إلى الكوفة. قال: ويجيء عين المختار من مكة حتى أخبره الخبر، فقال له: بكم تجهز؟ قال: بما بين الثلاثين ألفًا إلى الأربعين ألفًا. قال: فدعا المختار زائدة بن قدامة وقال له: احمل معك سبعين ألف درهم ضعف ما أنفق هذا في مسيره إلينا وتلقه في المفاوز، واخرج معك مسافر بن سعيد بن نمران الناعطي في خمسمائة فارس دارع رامح، عليهم البيض، ثم قل له: خذ هذه النفقة فإنها ضعف نفقتك، فإنه قد بلغنا أنك تجهزت وتكلفت قدر ذلك، فكرهنا أن تغرم، فخذها وانصرف، فإن فعل وإلا فأره الخيل وقل له: إن وراء هؤلاء مثلهم مائة كتيبة. قال: فأخذ زائد المال، وانصرف معه الخيل، وتلقاه بالمفاوز، وعرض عليه المال، وأمره بالانصراف، فقال له: إن أمير المؤمنين قد ولاني الكوفة ولا بد من إنفاذ أمره. فدعا زائدة بالخيل وقد أكمنها في جانب، فلما رآها قد قبلت قال: هذا الآن أعذر لي وأجمل بي، هات المال، فقال له زائدة: أما إنه لم يبعث به إليك إلا لما بنيك وبينه، فدفعه إليه فأخذه، ثم مضى راجعًا نحو البصرة، فاجتمع بها هو وابن مطيع في إمارة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وذلك قبل وثوب المثنى بن مخربة العبدي بالبصرة. قال أبو مخنف: فحدثني إسماعيل بن نعيم أن المختار أخبر أن أهل الشام قد أقبلوا نحو العراق، فعرف أنه به يبدأ، فخشي أن يأتيه أهل الشام من قبل المغرب، ويأتيه مصعب بن الزبير من قبل البصرة، فوادع ابن الزبير وداره وكايده؛ وكان عبد الملك بن مروان قد بعث عبد الملك ابن الحارث بن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى، والمختار لابن الزبير مكايد موادع، فكتب المختار إلى ابن الزبير: أما بعد، فقد بلغني أن عبد الملك بن مروان قد بعث إليك جيشًا، فإن أحببت أن أمدك بمدد أمددتك. فكتب إليه عبد الله بن الزبير: أما بعد، فإن كنت على طاعتي فلست أكره أن تبعث الجيش إلى بلادي وتبايع لي الناس قبلك، فإذا أتتني بيعتك صدقت مقالتك، وكففت جنودي على بلادك، وعجل علي بتسريح الجيش الذي أنت باعثه، ومرهم فليسيروا إلى من بوادي القرى من جند بن مروان فليقاتلوهم. والسلام. فدعا المختار شرحبيل بن ورس من همذان، فسرحه في ثلاثة آلاف أكثرهم الموالي، ليس فيهم من العرب إلا سبعمائة رجل، فقال له: سر حتى تدخل المدينة، فإذا دخلتها فاكتب إلي بذلك حتى يأتيك أمري، وهو يريد إذا دخلوا المدينة أن تبعث عليهم أميرًا من قبله، ويأمر ابن ورس أن يمضي إلى مكة حتى يحاصر ابن الزبير ويقاتله بمكة، فخرج الآخر يسير قبل المدينة، وخشى ابن الزبير أن يكون المختار إنما يكيده، فبعث من مكة إلى المدينة عباس بن سهل بن سعد في ألفين، وأمره أن يستنفر الأعراب، وقال له ابن الزبير: إن رأيت القوم في طاعتي فاقبل منهم. وإلا فكايدهم حتى تهلكهم. ففعلوا، وأقبل عباس بن سهل حتى لقي ابن ورس بالرقيم، وقد عبى ابن ورس أصحابه، فجعل على ميمنته سلمان ابن حمير الثورى من همدان، وعلى ميسرته عياش بن جعدة الجدلي، وكانت خيله كلها في الميمنة والميسرة، فدنا فسلم عليه، ونزل هو يمشي في الرجالة، وجاء عباس في أصحابه وهم منقطعون على غير تعبية، فيجد ابن ورس على الماء قد عبى أصحابه تعبية القتال، فدنا منهم فسلم عليهم، ثم قال: اخل معي ها هنا، فخلا به، فقال له: رحمك الله! ألست في طاعة ابن الزبير! فقال له ابن ورس: بلى، قال: فسر بنا إلى عدوه هذا الذي بوادي القرى، فإن ابن الزبير حدثني أنه إنما أشخصكم صاحبكم إليهم، قال ابن ورس: ما أمرت بطاعتك، إنما أمرت أن أسير حتى آتى المدينة، فإذا نزلتها رأيت رأيى. قال له عباس بن سهل: فإن كنت في طاعة ابن الزبير فقد أمرني أن أسير بك وبأصحابك إلى عدونا الذين بوادي القرى، فقال له ابن ورس: ما أمرت بطاعتك، وما أنا بمتبعك دون أن أدخل المدينة، ثم أكتب إلى صاحبي فيأمرني بأمره. فلما رأى عباس بن سهل لجاجته عرف خلافه، فكره أن يعلمه أنه قد فطن له، فقال: فرأيك أفضل، اعمل بما بدا لك؛ فأما أنا فإني سائر إلى وادي القرى. ثم جاء عباس بن سهل فنزل بالماء، وبعث إلى ابن ورس بجزائر كانت معه، فأهداها له، وبعث إليه بدقيق وغنم مسلخة وكان ابن ورس وأصحابه قد هلكوا جوعًا فبعث عباس بن سهل إلى كل عشرة منهم شاة، فذبحوها، واشتغلوا بها، واختلطوا على الماء، وترك القوم تعبيتهم، وأمن بعضهم بعضًا، فلما رأى عباس بن سهل ما هم فيه من الشغل جمع من أصحابه نحوًا من ألف رجل من ذوي البأس والنجدة ثم أقبل نحو فسطاط شرحبيل بن ورس، فلما رآهم ابن ورس مقبلين إليه نادى في أصحابه، فلم يتواف إليه مائة رجل حتى انتهى إليه عباس بن سهل وهو يقول: يا شرطة الله، إلى إلي! قاتلوا المحلين، أولياء الشيطان الرجيم، فإنكم على الحق والهدى، قد غدروا وفجروا. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف أن عباسًا انتهى إليهم، وهو يقول: أنا ابن سهل فارس غير وكل ** أروع مقدام إذا الكبش نكل وأعتلي رأس الطرماح البطل ** بالسيف يوم الروع حتى ينخزل قال: فوالله ما اقتتلنا إلا شيئًا ليس بشىء حتى قتل ابن ورس في سبعين من أهل الحفاظ، ورفع عباس بن سهل راية أمان لأصحاب ابن ورس، فأتوها إلا نحوًا من ثلثمائة رجل انصرفوا مع سلمان بن حمير الهمداني وعياش بن جعدة الجدلى، فلما وقعوا في يد عباس بن سهل أمر بهم فقتلوا إلا نحوًا من مائتي رجل، كره ناس من الناس ممن دفعوا إليهم قتلهم، فخلوا سبيلهم، فرجعوا، فماتأكثرهم في الطريق، فلما بلغ المختار أمرهم، ورجع من رجع منهم، قام خطيبًا فقال: ألا إن الفجار الأشرار، قتلوا الأبرار الأخيار. ألا إنه كان أمرًا مأتيًا، وقضاء مقضيًا. وكتب المختار إلى ابن الحنفية مع صالح بن مسعود الخثمعي: " بسم الله الرحمن الرحيم ". أما بعد، فإني كنت بعثت إليك جندًا ليبذلوا لك الأعداء. وليحوزوا لك البلاد، فساروا إليك حتى إذا أظلوا على طيبة، لقيهم جند الملحد، فخدعوهم بالله، وغروهم بعهد الله، فلما اطمأنوا إليهم، ووثقوا بذلك منهم، وثبوا عليهم فقتلوهم، فإن رأيت أنا بعث إلى المدينة من قبلي جيشًا كثيفًا، وتبعث إليهم من قبلك رسلًا؛ يعلم أهل المدينة أني في طاعتك، وإنما بعثت الجند إليهم عن أمرك، فافعل، فإنك ستجد عظمهم بحقهم أعرف، وبكم أهل البيت أرأف منهم بآل الزبير الظلمة الملحدين. والسلام عليكم. فكتب إليه ابن الحنفية: أما بعد، فإن كتابك لما بلغني قرأته، وفهمت تعظيمك لحقي، وما تنوي به من سروري. وإن أحب الأمور كلها إلى ما أطيع الله فيه، فأطع الله ما استطعت فيما أعلنت وأسررت، واعلم أني لو أردت لوجدت الناس إلي سراعًا، والأعوان لي كثيرًا، ولكني أعتزلهم، وأصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. فأقبل صالح بن مسعود إلى ابن الحنفية فودعه وسلم عليه، وأعطاه الكتاب وقال له: قل للمختار فليتق الله، وليكفف عن الدماء، قال: فقلت له: أصلحك الله! أولم تكتب بهذا إليه! قال له ابن الحنفية: قد أمرته بطاعة الله. وطاعة الله تجمع الخير كله، وتنهى عن الشر كله. فلما قدم كتابه على المختار أظهر للناس أنى قد أمرت بأمر يجمع البر واليسر، ويضرح الكفر والغدر. ذكر الخبر عن قدوم الخشبية مكة وموافاتهم الحج قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قدمت الخشبية مكة، ووافوا الحج وأميرهم أبو عبد الله الجدلي. ذكر الخبر عن سبب قدومهم مكة وموافاتهم الحج وكان السبب في ذلك - فيما ذكر هشام، عن أبي مخنف وعلي بن محمد، عن مسلمة ابن محارب - أن عبد الله بن الزبير حبس محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته وسبعة عشر رجلًا من أهل الكوفة بزمزم، وكرهوا البيعة لمن لم تجتمع عليه الأمة، وهربوا إلى الحرم، وتوعدهم بالقتل والإحراق، وأعطى الله عهدًا إن لم يبايعوا أن ينفذ فيهم ما توعدهم به، وضرب لهم في ذلك أجلًا، فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه أن يبعث إلى المختار وإلى من بالكوفة رسولًا يعلمهم حالهم وحال من معهم، وما توعدهم به ابن الزبير. فوجه ثلاثة نفر من أهل الكوفة حين نام الحرس على باب زمزم، وكتب معهم إلى المختار وأهل الكوفة يعلمهم حاله وحال من معه، وما توعدهم به ابن الزبير من القتل والتحريق بالنار، ويسألهم ألا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل بيته. فقدموا إلى المختار، فدفعوا إليه الكتاب فنادى في الناس وقرأ عليهم الكتاب وقال: هذا كتاب مهديكم وصريح أهل بيت نبيكم، وقد تركوا محظورًا عليهم كما يحظروا على الغنم ينتظرون القتل والتحريق بالنار في آناء الليل وتارات النهار، ولست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصرًا مؤزرًا، وإن لم أسرب إليهم الخيل في أثر الخيل، كالسيل يتلوه السيل، حتى يحل بابن الكاهلية الويل. ووجه ابا عبد الله الجدلي في سبعين راكبًا من أهل القوة، ووجه ظبيان ابن عمارة أخا بني تميم ومعه أربعمائة، وأبا المعتمر في مائة، وهانئ ابن قيس في مائة، وعميربن طارق في أربعين، ويونس بن عمران في أربعين، وكتب إلى محمد بن علي مع الطفيل بن عامر ومحمد بن قيس بتوجيه الجنود إليه، فخرج الناس بعضهم في أثر بعض، وجاء أبو عبد الله حتى نزل ذات عرق في سبعين راكبًا، ثم لحقه عمير بن طارق في أربعين راكبًا، ويونس ابن عمران في أربعين راكبًا، فتموا خمسين ومائة، فسار بهم حتى دخلوا المسجد الحرام، ومعهم الكافركوبات، وهم ينادون: يالثارات الحسين! حتى انتهوا إلى زمزم، وقد أعد ابن الزبير الحطب ليحرقهم، وكان قد بقي من الأجل يومان، فطردوا الحرس، وكسروا أعواد زمزم، ودخلوا على ابن الحنفية. فقالوا له: خل بيننا وبين عدو الله ابن الزبير، فقال لهم: إني لأستحل القتال في حرم الله فقال ابن الزبير: أتحسبون أني مخل سبيلهم دون أن يبايع ويبايعوا! فقال أبو عبد الله الجدلى: إي ورب الركن والمقام، ورب الحل والحرام، لتخلين سبيله أو لنجالدنك بأسيافنا جلادًا يرتاب منه المبطلون. فقال ابن الزبير: والله ما هؤلاء إلا أكلة رأس، والله لأذنت لأصحابي ما مضت ساعة حتى تقطف رؤوسهم، فقال له قيس بن مالك: أما والله إني لأرجو إن رمت ذلك أن يوصل إليك قبل أن ترى فينا ما تحب. فكف ابن الحنفية أصحابه وحذرهم الفتنة، ثم قدم أبو المعتمر في مائة، وهانىء بن قيس في في مائة، وظبيان بن عمارة في مائتين، ومعه المال حتى دخلوا المسجد، فكبروا: يالثارات الحسين! فلما رآهم ابن الزبير خافهم، فخرج محمد بن الحنفية ومن معه إلى شعب على وهم يسبون ابن الزبير. ويستأذنون ابن الحنفية فيه، فيأبى عليهم، فاجتمع مع محمد ابن علي في الشعب أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم ذلك المال. ذكر الخبر عن حصار بني تميم بخراسان قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان حصار عبد الله بن خازم من كان بخراسان من رجال بني تميم بسبب قتل من قتل منهم ابنه محمدًا. قال علي بن محمد: حدثنا الحسن بن رشيد الجوزجاني عن الطفيل ابن مرداس العمى، قال: لما تفرقت بنو تميم بخراسان أيام ابن خازم، أتى فصر فرتنا عدة من فرسانهم ما بين السبعين إلى الثمانين؛ فولوا أمرهم عثمان بن بشر بن المحتفر المزني، ومعه شعبة بن ظهير النهشلي، وورد بن الفلق العنبري، وزهير بن ذؤيب العدوي، وجيهان بن مشجعة الضبى، والحجاج بن ناشب العدوي، ورقبة بن الحر في فرسا بني تميم. قال: فأتاهم ابن خازم، فحصرهم وخندق خندقًا حصينًا. قال: وكانوا يخرجون إليه فيقاتلونه، ثم يرجعون إلى القصر. قال: فخرج ابن خازم يومًا على تعبية من خندقه في ستة آلاف، وخرج أهل القصر إليه، فقال لهم عثمان بن بشر بن المحتفر: انصرفوا اليوم عن ابن خازم، فلا أظن لكم به طاقة، فقال زهير بن ذؤيب العدوي: امرأته طالق إن رجع حتى ينقض صفوفهم وإلى جنبهم نهر يدخله الماء في الشتاء، ولم يكن يومئذ فيه ماء، فاستبطنه زهير، فسار فيه، فلم يشعر به أصحاب ابن خازم حتى حمل عليهم، فحطم أولهم على آخرهم، واستداروا وكر راجعًا، واتبعوه على جنبي النهر يصيحون به: لاينزل إليه أحد، حتى انتهى إلى الموضع الذي انحدرفيه، فخرج فحمل عليهم، فأفرجوا له حتى رجع؛ قال: فقال ابن خازم لأصحابه: إذا طاعنتم زهيرًا فاجعلوا في رماحكم كلاليب فأعلقوها في أداته إن قدرتم عليه، فخرج إليهم يومًا وفي رماحكم كلاليب قد هيئوها له، فطاعنوه، فأعلقوا في درعه أربعة أرماح، فالتفتت إليهم ليحمل عليهم، فاضطربت أيديهم، فخلوا رماحهم، فجاء يجر أربعة أرماح حتى دخل القصر؛ قال: فأرسل ابن خازم غزوان بن جزء العدوي إلى زهير فقال: قل له: أرأيتك إن آمنتك وأعطيتك مائة ألف، وجعلت لك باسار طعمة تناصحني؛ فقال لغزوان: ويحك! كيف أناصح قومًا قتلوا الأشعث ابن ذؤيب! فأسقط بها غزوان عند موسى بن عبد الله بن خازم. قال: فلما طال عليهم الحصار أرسلوا إلى خازم أن خلنا نخرج فنتفرق، فقال: لا إلا أن تنزلوا على حكمي؛ قالوا: فإنا ننزل على حكمك، فقال لهم زهير: ثكلتكم أمهاتكم! والله ليقتلنكم عن آخركم، فإن طبتم بالموت أنفسًا فموتوا كرامًا، اخرجا بنا جميعًا فإما أن تموتوا جميعًا وإما أن ينجو بغضكم ويهلك بعضكم، وايم الله لئن شددتم عليهم شدةً صادقةً ليفرجن لكم عن مثل طريق المربد، فإن شئتم كنت أمامكم، وإن شئتم كنت خافكم قال: فأبوا عليه، فقال: أما إني سأريكم، ثم خرج هو ورقبة بن الحر ومع رقبة غلام له ترمى وشعبة بن ظهير. قال: فحملوا على القوم حملةً منكرةً فأفرجوا لهم، فمضوا؛ فأما زهير فرجع إلى أصحابه حتى دخل القصر فقال لأصحابه: قد رأيتم فأطيعوني، ومضى رقبة وغلامه وشعبة. قالوا: إن فينا من يضعف عن هذا ويطمع في الحياة، قال: أبعدكم الله! أتأخذون عن أصحابكم! والله لا أكون أجزعكم عند الموت. قال: ففتحوا القصر ونزلوا، فأرسل فقيدهم، ثم ملوا إليه رجلا رجلًا، فأراد أن يمن عليهم، فأبى ابنه موسى، وقال: والله لئن عفوت عنهم لأتكئن على سيفي حتى يخرج من ظهري؛ فقال له عبد الله: أما والله إني لأعلم أن الغي فيما تأمرني به، ثم قتلهم جميعًا إلا ثلاثة؛ قال: أحدهم الحجاج بن ناشب العدوي - وكان رمى ابن خازم وهو محاصرهم بكسر ضرسه، فحلف لئن ظفر به ليقتلنه أو ليقطعن يده، وكان حدثًا، فكلمه فيه رجال من بني تميم كانوا معتزلين؛ من عمرو بن حنظلة، فقال رجل منهم: ابن عمي وهو غلام حدث جاهل؛ هبه لي، قال: فوهبه له، وقال: النجاء! لا أرينك قال: وجيهان بن مشجعة الضبي الذي ألقى نفسه على ابنه محمد يوم قتل، فقال ابن خازم: خلوا هذا البغل الدارج، ورجل من بني سعد، وهو الذي قال يوم لحقوا ابن خازم: انصرفوا عن فارس مضر. قال: وجاءوا بزهير بن ذؤيب فأرادوا حمله وهو مقيد، فأبى وأقبل يحجل حتى جلس بين يديه، فقام له ابن خازم: كيف شكرك إن أطلقتك وجعلت لك باسار طعمة؟ قال: لو لم تصنع بي إلا جقن دمى لشكرتك، فقام ابنه موسى فقال: تقتل الضبع وتترك الذيخ! تقتل اللبؤة وتترك الليث! قال: ويحك! نقتل مثل زهير! من لقتال عدو المسلمين! من النساء العرب! قال: والله لوشركت في دم أخي أنت لقتلتك؛ فقام رجل من بني سليم إلى ابن خازم، فقال: أذكرك الله في زهير! فقال له موسى: اتخذه فحلًا لبناتك، فغضب ابن خازم، فأمر بقتله، فقال له زهير: إن لي حاجة، قال: وما هي؟ قال: تقتلني على حدة، ولا تخلط دمي بدماء هؤلاء اللئام، فقد نهيتهم عما صنعوا وأمرتهم أن يموتوا كرامًا، وأن يخرجوا عليكم مصلتين، وايم الله أن لو فعلوا لذعروا بنيك هذا، وشغلوه بنفسه عن طلب الثأر بأخيه فأبوا، ولو فعلوا ما قتل منهم رجل حتى يقتل رجالًا فأمر به فنحى ناحية فقتل. قال مسلمة بن محارب: فكان الأحنف بن قيس إذا ذكرهم قال: قبح الله ابن خازم! قتل رجالًا من بني تميم بابنه، ضبي وغدا أحمق لايساوي علقًا. ولو قتل منهم رجلًا به لكان وفى. قال: وزعمت بنو عدي انهم لا أرادوا حمل زهير بن ذؤيب أبى واعتمد على رمحه وجمع رجليه فوثب الخندق، فلما بلغ الحريش بن هلال قتلهم قال: أعاذل إني لم ألم في قتالهم ** وقد عض سيفي كبشهم ثم صمما أعاذل ما وليت حتى تبددت ** رجال وحتى لم أجد متقدما أعاذل أفناني السلاح ومن يطل ** مقارعو الأبطال يرجع مكلما أعيني إن أنزفتما الدمع فاسكبا ** دمًا زمًا لي دون أن تسكبا الدما أبعد زهير وابن بشر تتابعا ** وورد أرجى في خراسان مغنما أعذل كم من يوم حرب شهدته ** أكر إذا ما فارس السوء أحجما يعني بقوله: أبعد زهير، زهير بن ذؤيب، وابن بشر، عثمان بن بشر المحتفز المازني، وورد بن الفلق العنبري، قتلوا يومئذ، وقتل سليمان بن المحتفز أخو بشر. قال أبو جعفر: وجج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان على المدينة مصعب بن الزبير من قبل أخيه عبد الله، وعلى البصرة الحارث ابن عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وكانت الكوفة بها المختار غالبًا عليها، وبخراسان عبد الله بن خازم. شخوص إبراهيم بن الأشتر لحرب عبيد الله بن زياد وفي هذه السنة شخص إبراهيم بن الأشتر متوجهًا إلى عبيد الله ابن زياد لحربه، وذلك لثمان يقين من ذي الحجة. قال هشام بن محمد: حدثني أبو مخنف، قال: حدثني النضر بن صالح - وكان قد أدرك ذلك - قال: حدثني فضيل بن خديج - وكان قد شهد ذلك - وغيرهما. قالوا: ما هو إلا أن فرغ المختار من أهل السبيع وأهل الكناسة، فما نزل إبراهيم بن الأشتر إلا يومين حتى أشخصه إلى الوجه الذي كان وجهه له لقتال أهل الشام، فخرج يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة سنة ست وستين، وأخرج المختار معه من وجوه أصحابه وفرسانهم وذوي البصائر منهم: ممن قد شهد الحرب وجربها، وخرج معه قيس بن طهفة النهدي على ربع أهل المدينة، وأمر عبد الله بن حية الأسدي على ربع مذبح جج وأسد، وبعث الأسود بن جراد الكندي على ربع كندة وربيعة. وبعث حبيب بن منقذ الثوري من همدان على ربع تميم وهمدان، وخرج معه المختار يشيعه حتى إذا بلغ دير عبد الرحمن بن أم الحكم، إذا أصحاب المختار قد استقبلوه، قد حملوا الكرسي على بغل أشهب كانوا يحملونه عليه، فوقفوا به على القنطرة، وصاحب أمر الكرسي حوشب البرسمي، وهو يقول: يا رب عمرنا في طاعتك، وانصرنا على الأعداء، واذكرنا ولا تنسنا واسترنا، قال: وأصحابه يقولون: آمين آمين؛ قال فضيل: فأنا سمعت ابن نوف الهمداني يقول: قال المختار: أما ورب المرسلات عرفا ** لنقتلن بعد صف صفا وبعد ألف قاسطين ألفًا قال: فلما انتهى إليهم المختار وابن الأشر ازدحموا ازدحامًا شديدًا على القنطرة، ومضى المختار مع إبراهيم إلى قناطر رأس الجالوت - وهي إلى جنب دير عبد الرحمن - فإذا أصحاب الكرسي قد وقفوا على قناطر رأس الجالوت يستنصرون، فلما صار المختار بين قنطرة دير عبد الرحمن وقناطر رأس الجالوت وقف، وذلك حين أراد أن ينصرف، فقال لابن الأشتر: خذ عني ثلاثًا: خف الله في سر أمرك وعلانيته، وعجل السير، وإذا لقيت عدوك فناجزهم ساعة تلقاهم، وإن لقيتهم نهارًا فلا تنتظر بهم الليل حتى تحاكمهم إلى الله. ثم قال: هل حفظت ماأوصيتك به؟ قال: نعم، قال: صحبك الله؛ ثم انصرف. وكان موضع عسكر إبراهيم بموضع حمام أعين، ومنه شخص بعسكره. ذكر أمر الكرسي الذي كان المختار يستنصر به قال أبو مخنف: فحدثني فضيل بن خديج قال: لما انصرف المختار مضى إبراهيم ومعه أصحابه حتى انتهى إلى أصحاب الكرسي وقد عكفوا حوله وهم رافعو أيديهم إلى السماء يستنصرون، فقال إبراهيم: اللهم لاتؤاخذنا بما فعل السفهاء - سنة بني إسرائيل، والذي نفسي بيده إذ عكفوا على عجلهم - فلما جاز القنطرة إبراهيم وأصحابه انصرف أصحاب الكرسي. ذكر الخبر عن سبب كرسي المختار الذي يستنصر به هو وأصحابه قال أبو جعفر: وكان بدء سببه ما حدثني به عبد الله بن أحمد بن شبويه، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله ابن المبارك، عن إسحاق بن طلحة، قال: حدثني معبد بن خالد، قال: حدثني طفيل بن جعدة بن هبيرة، قال: أعدمت مرة من الورق، فإني لكذلك إذ خرجت يومًا فإذا زيات جار لي، له كرسي قد ركبه وسخ شديد، فخطر على بالي أن لو قلت للمختار في هذا! فرجعت فأرسلت إلى الزيات: أرسل إلي بالكرسي، فأرسل إلي به، فأتيت المختار، فقلت: إني كنت أكتمك شيئًا لم أستحل ذلك، فقد بدا لي أن أذكره لك، قال: وما هو؟ قلت: كرسي كان جعد بن هبيرة يجلس عليه كأنه يرى أن فيه أثرة من علم، قال: سبحان الله! فأخرت هذا إلى اليوم! ابعث إليه، ابعث إليه، قال: وقد غسل وخرج عود نضار، وقد تشرب الزيت، فخرج يبص، فجئ به وقد غشي، فأمر لي باثني عشر ألفًا، ثم دعا: الصلاة جامعة. فحدثني معبد بن خالد الجدلي فقال: انطلق بي وبإسماعيل بن طلحة ابن عبيد الله وشبث بن ربعى والناس يجرون إلى المسجد، فقال المختار: إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله، وإنه كان في بني إسرائيل التابوت فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وإن هذا فينا مثل التابوت، اكشفوا عنه؛ فكشفوا عنه أثوابه، وقامت السبئية فرفعوا أيديهم، وكبروا ثلاثًا، فقام شبت بن ربعى وقال: يا معشر مضر، لاتكفرن، فنحوه فذبوه وصدوه وأخرجوه، قال إسحاق: فوالله إني لأرجو أنها لشبت، ثم لم يلبث أن قيل: هذا عبيد الله بن زياد قد نزل بأهل الشام باجميرة، فخرج بالكرسي على بغل وقد غشى، يمسكه عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة، فقتل أهل الشام مقتلة لم يقتلوا مثلها، فزادهم ذلك فتنة، فارتفعوا فيه حتى تعاطوا الكفر، فقلت: إنا لله! وندمت على ما صنعت، فتكلم الناس في ذلك، فغيب، فلم أره بعد. حدثني عبد الله، قال: حدثني أبي قال: قال أبو صالح: فقال في ذلك أعشى همدان كما حدثني غير عبد الله: شهدت عليكم أنكم سبئية ** وإني بكم يا شرطة الشرك عارف وأقسم ما كرسيكم بسكينة ** وإن كان قد لفت عليه اللفائف وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت ** شبام حواليه ونهد وخارف وإني امرؤ أحببت آل محمد ** وتابعت وحيًا ضمنته المصاحف وتابعت عبد الله لما تتابعت ** عليه قريش: شمطها والغطارف وقال المتوكل الليثي: أبلغ أبا إسحاق إن جئته ** أنى بكرسيكم كافر تنزو شبام حول أعواده ** وتحمل الوحى له شاكر محمرة أعينهم حوله ** كأنهن الحمص الحادر فأما أبو مخنف: فإنه ذكر عن بعض شيوخ قصة هذا الكرسي غير الذي ذكره عبد الله بن أحمد بالإسناد الذي حدثنا به، عن طفيل بن جعدة. والذي ذكر من ذلك ما حدثنا به، عن هشام بن محمد. عنه، قال: حدثنا هشام بن عبد الرحمن وابنه الحكم بن هشام، أن المختار قال لآل جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي - وكانت أم جعدة أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي بن أبي طالب عليه السلام لأبيه وأمه: ائتوني بكرسي علي بن أبي طالب؛ فقالوا لا والله ما هو عندنا، وما ندري من أين نجيء به! قال: لا تكونن حمقى، اذهبوا فأتوني به، قال: فظن القوم عند ذلك أنهم لا يأتون بكرسي، فيقولون: هو هذا إلا قبله منهم، فجاءوا بكرسي فقالوا: هو هذا فقبله، قال: فخرجت شبام وشاكر ورؤوس أصحاب المختار وقد عصبوه بالحرير والديباج. قال أبو مخنف، عن موسى بن عامر أبي الأشعر الجبهني: إن الكرسي لما بلغ ابن الزبير أمره قال: أين بعض جنادبة الأزد عنه! قال أبو الأشعر: لما جيء بالكرسي كان أول من سدنه موسى بن أبي موسى الأشعري، وكان يأتي المختار أول ما جاء ويحف به، لأن أمه أم كلثوم بنت الفضل بن العباس بن عبد المطلب. ثم إنه بعد ذلك عتب عليه فاستحيا منه، فدفعه إلى حوشب البرسمي، فكان صاحبه حتى هلك المختار. قال: وكان أحد عمومة الأعشى رجلًا يكنى أبا أمامة يأتي مجلس أصحابه فيقول: قد وضع لنا اليوم وحي ما سمع الناس بمثله، فيه نبأ ما يكون من شيء. قال أبو مخنف: حدثنا موسى بن عامر أنه إنما كان يضع ذلك لهم عبد الله بن نوف. ويقول: المختار أمرني به، ويتبرأ المختار منه. ثم دخلت سنة سبع وستين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك: مقتل عبيد الله بن زياد ومن كان معه من أهل الشام ذكر الخبر عن صفة مقتله ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الصلت، عن أبي سعيد الصيقل، قال: مضينا مع إبراهيم بن الأشتر ونحن نريد عبيد الله بن زياد ومن معه من أهل الشام، فخرجنا مسرعين لا ننثني، نريد أن نلقاه قبل أن يدخل أرض العراق. قال: فسبقناه إلى تخوم أرض العراق سبقًا بعيدًا، ووغلنا في أرض الموصل، فتعجلنا إليه، وأسرعنا السير، فنلقاه في خازر إلى جنب قرية يقال لها باربيثا، بينها وبين مدينة الموصل خمسة فراسخ، وقد كان ابن الأشتر جعل على مقدمة الطفيل بن لقيط؛ من وهبيل من النخع - رجلًا من قومه - وكان شجاعًا بئيسًا، فلما أن دنا من ابن زياد ضم حميد بن حريث إليه، وأخذ ابن الأشتر لايسير إلا على تعبية، وضم أصحابه كلهم إليه بخيله ورجاله، فأخذ يسير بهم جميعًا لايفرقهم، إلا يبعث الطفيل بن لقيط في الطلائع حتى نزل تلك القرية. قال: وجاء عبيد الله بن زياد حتى نزل قريبًا مكنهم على شاطئ خازر. وارسل عمير بنالحباب السلمى إلى ابن الأشتر: إني معك، وأنا أريد الليلة لقاءك، فأرسل إليه ابن الأشتر: أن القنى إذا شئت؛ وكانت قيس كلها بالجزيرة، فهم أهل خلاف لمروان وآل مروان، وجند مروان يومئذ كلب وصاحبهم ابن بحدل. فأتاه عمير ليلًا فبايعه، وأخبره أنه على ميسرة صاحبه، وواعده أن ينهزم بالناس، وقال ابن الأشتر: ما رأيك؟ أخندق على وأتلوم يومين أو ثلاثة؟ قال عمير بن الحباب: لا تفعل، إنا لله! هل يريد القوم إلا هذه! إن طاولوك وما طالوك فهو خير لهم، هم كثير أضعافكم. وليس يطيق القليل الكثير في المطاولة، ولكن ناجز القوم فإنهم قد ملئوا منكم رعبًا، فأتهم فإنهم إن شاموا أصحابك وقاتلوهم يومًا بعد يوم، ومرة بعد مرة أنسوا بهم، واجترءوا عليهم؛ قال إبراهيم: الآن علمت أنك لي مناصح، صدقت، الرأي ما رأيت، أما إن صاحبي بهذا أوصاني، وبهذا الرأي أمرني. قال عمير: فلا تعدون رأيه، فإن الشيخ قد ضرسته الحروب، وقاسى منها ما لم نقاس، أصبح فناهض الرجل. ثم إن عميرًا انصرف، وأذكى ابن الأشتر حرسه تلك الليلة الليل كله، ولم يدخل عينه غمض، حتى إذا كان في السحر الأول عبى أصحابه، وكتب كتائبه، وأمر أمراءه. فبعث سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي على ميمنته، وعلي بن مالك الجشمي على ميسرته، وهو أخو أبي الأخوص. وبعث عبد الرحمن بن عبد الله - وهو أخو إبراهيم الأشتر لأمه - على الخيل، وكانت خيله قليلة فضمها إليه، وكانت في الميمنة والقلب، وجعل على رجالته الطفيل بن لقيط، وكانت رايته مع مزاحم بن مالك. قال: فلما انفجر الفجر صلى بهم الغداة بغلس، ثم خرج بهم فصفهم، ووضع أمراء الأرباع في مواضعهم، وألحق أمير الميمنة بالميمنة، وأمير الميسرة بالميسرة، وأمير الرجالة بالرجالة. وضم الخيل إليه، وعليها أخوه لأمه عبد الرحمن بن عبد الله، فكانت وسطًا من الناس، ونزل إبراهبم يمشي، وقال للناس: ازحفوا، فزحف الناس معه على رسلهم رويدًا رويدًا حتى أشرف على تل عظيم مشرف على القوم، فجلس عليه، وإذا أولئك لم يتحرك منهم أحد بعد - فسرح عبد الله بن زهير السلولي وهو على فرس له يتأكل تأكلًا، فقال: قرب على فرسك حتى تأتيني بخبر هوْلاء، فانطلق، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى جاء، فقال: قد خرج القوم على دهش وفشل، لقيني رجل منهم فما كان له هجيري إلا يا شيعة أبي تراب، يا شيعة المختار الكذاب! فقلت: ما بيننا وبينكم أجل من الشتم، فقال لي: يا عدو الله، إلام تدعوننا! أنتم تقاتلون مع غير إمام، فقلت له: بل يالشارات الحسن، ابن رسول الله! ادفعوا إلينا عبيد الله بن زياد، فإنه قتل ابن رسول الله وسيد شباب أهل الجنه حتى نقتله ببعض موالينا الذين قتلهم مع الحسين، فإنا لانراه لحسين ندًا فنرضى أن يكون منه قودًا، وإذا دفعتموه إلينا فقتلناه ببعض موالينا الذين قتلهم جعلنا بيننا وبينكم كتاب الله، أو أي صالح من المسلمين شتم حكمًا، فقال لي: قد جربناكم مرة أخرى في مثل هذا - يعني الحكمين - فغدرتم. فقلت له: وما هو؟ فقال: قد جعلنا بيننا وبينكم حكمين فلم ترضوا بحكمهما؛ فقلت له: ما جئت بحجة، ئغنما كان صلحنا على أنهما إذا اجتمعنا على رجل تبعنا حكمهما. ورضينا به وبايعناه. فلم يجتمعا على واحد، وتفرقا، فكلاهما لم يوفقه الله لخير ولم يسدده. فقال: من أنت؟ فأخبرته، فقلت له: من أنت؟ فقال: عدس - لبغلته يزجرها - فقلت له: ما أنصفتني، هذا أول غدرك! قال: ودعا ابن الأشتر بفرس له فركبه، ثم أمر بِأصحاب الرايات كلها، فكلما مر على راية وقف عليها، ثم قال: يا أنصار الدين. وشيعة الحق، وشرطة الله، هذا عبيد الله بن مرجانة قاتل الحسين بن علي، ابن فاطمة بنت رسول الله. حال بينه وبين بناته ونسائه وشيعته وبين ماء الفرات أن يشربوا منه، وهم ينظرون إليه، ومنعه أن يأتي ابن عمه فيصالحه، ومنعه أن ينصرف إلى رحله وأهله، ومنعه الذهاب في الأرض العريضة حتى قتله وقتل أهل بيته؛ فوالله ما عمل فرعون بنجباء بني إسرائيل ما عمل ابن مرجانة بأهل بيت رسول الله ﷺ الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا. قد جاءكم الله به، وجاءه بكم، فوالله إني لأرجو ألا يكون الله جمع بينكم في هذا الموطن وبينه إلا ليشفي صدوركم بسفك دمه على أيديكم، فقد علم الله أنكم خرجتم غضبًا لأهل بيت نبيكم. فسار فيما بين الميمنة والميسرة، وسار في الناس كلهم فرغبهم في الجهاد، وحرضهم على القتال. ثم رجع حتى نزل تحت رايته، وزحف لقوم إليه، وقد جعل ابن زياد على ميمنته الحصين بن نمير السكوني، وعلى ميسرته عمير بن الحباب السلمى، وشرحبيل بن ذي الكلاع على الخيل وهو يمشي في الرجال، فلما تدانى الصفان حمل الحصين بن نمير في ميمنة أهل الشام على ميسرة أهل الكوفة، وعليها علي بن مالك الجشمي؛ فثبت له هو بنفسه فقتل، ثم أخذ رايته قرة بن علي، فقتل أيضًا في رجال من أهل الحفاظ قتلوا وانهزمت الميسرة، فأخذ راية علي بن مالك الجشمي عبد الله بن ورقاء بن جنادة السلولي ابن أخا حبشى بن جنادة صاحب رسول الله ﷺ، فاستقبل أهل الميسرة حين انهزموا، فقال: إلي يا شرطة الله؛ فأقبل إليه جلهم، فقال: هذا أميركم يقاتل، سيروا بنا إليه، فأقبل حتى أتاه وإذا هو كاشف عن رأسه ينادي: يا شرطة الله، إلي أنا ابن الأشتر! إن خير فراركم كراركم، ليس مسيئًا من أعتب، فثاب إليه أصحابه، وأرسل إلي صاحب الميمنة: احمل على مسيرتهم - وهو يرجو أن ينهزم لهم عمير ابن الحباب كما زعم، فحمل عليهم صاحب الميمنة، وهو سفيان بن يزيد ابن المغفل، فثبت له عمير بن الحباب وقاتله قتالًا شديدًا، فلما رأى إبراهيم ذلك قال لأصحابه: أموا هذا السواد الأعظم، فوالله لو قد فضضناه لانجفل من ترون منهم يمنة ويسرة انجفال طير ذعرتها فطارت. قال أبو مخنف: حدثني إبراهيم بن عبد الله الأنصاري، عن ورقاء ابن عازب، قال: مشينا إليهم حتى إذا دنونا منهم أطلعنا بالرماح قليلًا، ثم صرنا إلى السيوف والعمد، فاضطربنا بها مليًا من النهار، فوالله ما شبهت ما سمعت بيننا وبينهم من وقع الحديد إلا مياجن قصارى دار الوليد بن عقبة بن أبي معيط. قال: فكان ذلك كذلك، ثم إن الله هزمهم، ومنحنا أكتافهم. قال أبو مخنف: وحدثني الحارث بن حصيرة، عن أبي صادق أن إبراهيم بن الأشتر كان يقول لصاحب رايته: انغمس برايتك فيهم، فيقول له: إنه - جعلت فداك - ليس لي متقدم، فيقول: بلى، فإن أصحابك يقاتلون؛ وإن هؤلاء لا يهربون إن شاء الله؛ فإذا تقدم صاحب الراية برايته شد إبراهيم بسيفه فلا يضرب به رجلًا إلا صرعه. وكرد إبراهيم الرجال من بين يديه كأنهم الحملان، وإذا حمل برايته شد أصحابه شدة رجل واحد. قال أبو مخنف: حدثني المشرقي أنه كان مع عبيد الله بن زياد يومئذ حديدة لا تليق شيئًا مرت به، وأنه لما هزم أصابه حمل عيينة ابن أسماء أخت هند بنت أسماء - وكانت امرأة عبيد الله بن زياد - فذهب بها وأخذ يرتجز ويقول: إن تصرمى حبالنا فربما ** أرديت في الهيجاء الكمى المعلما قال أبو مخنف: وحدثني فيصل بن خديج أن إبراهيم لما شد على ابن زياد وأصحابه انهزموا بعد قتال شديد وقتلى كثيرة بين الفريقين، وإن عمير بن الحباب لما رأى أصحاب إبراهيم قد هزموا أصحاب عبيد الله بعث إليه: أجيئك الآن؟ فقال: لا تأتيني حتى تسكن فورة شرطة الله، فإني أخاف عليك عاديتهم. وقال ابن الأشتر: قتلت رجلًا وجدت منه رائحة المسك، شرقت يداه وغربت رجلاه، تحت راية منفردة، على شاطئ نهر خازر. فالتمسوه فإذا هو عبيد الله بن زياد قتيلًا، ضربه فقده بنصفين، فذهبت رجلاه في المشرق، ويداه في المغرب. وحمل شريك بن جدير التغلبي على الحصين بن نمير السكوني وهو يحسبه عبيد الله بن زياد، فاعتنق كل واحد منهما صاحبه، ونادى التغلبي: اقتلوني وابن الزانية؛ فقتل ابن نمير. وحدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله بن المبارك، قال: حدثني الحسن بن كثير، قال: كان شريك بن جدير التغلبي مع علي عليه السلام، أصيبت عينه معه، فلما انقضت حرب علي لحق ببيت المقدس، فكان به، فلما جاءه قتل الحسين، قال: أعاهد الله إن قدرت على كذا وكذا - يطلب بدم الحسين - لأقتلن ابن مرجانة أو لأموتن دونه. فلما بلغه أن المختار خرج يطلب بدم الحسين أقبل إليه. قال: فكان وجهه مع إبراهيم بن الأشتر، وجعل على خيل ربيعة، فقال لأصحابه: إني عاهدت الله على كذا وكذا فبايعه ثلثمائة على الموت، فلما التقوا حمل فجعل يهتكها صفًا صفًا مع أصحابه حتى وصلوا إليه، وثار الرهج فلا يسمع إلا وقع الحديد والسيوف، فانفرجت عن الناس وهما قتيلان ليس بينهما أحد، التغلبي وعبيد الله ابن زياد، قال: وهو الذي يقول: كل عيش قد أراه قذرًا ** غير ركز الرمح في ظل الفرس قال هشام: قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج، قال: قتل شرحبيل بن ذي الكلاع، فادعى قتله ثلاثة: سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي، وورقاء بن عازب الأسدي، وعبيد الله بن زهير السلمي. قال: ولما هزم أصحاب عبيد الله تبعهم أصحاب إبراهيم بن الأشتر، فكان من غرق أكثر ممن قتل، وأصابوا عسكرهم فيه من كل شيء، وبلغ المختار وهو يقول لأصحابه: يأتيكم الفتح أحد اليومين إن شاء الله من قبل إبراهيم ابن الأشتر وأصحابه، قد هزموا أصحاب عبيد الله بن مرجانة. قال: فخرج المختار من الكوفة، واستخلف عليها السائب بن مالك الأشعري، وخرج بالناس، ونزل ساباط. قال أبو مخنف: حدثني المشرقي، عن الشعبي، قال: كنت أنا وأبي ممن خرج معه، قال: فلما جزنا ساباط قال للناس: أبشروا فإن شرطة الله قد حسوهم بالسيوف يومًا إلى الليل بنصيبين أو قريبًا من نصيبين ودوين منازلهم، إلا أن جلهم محصور بنصيبين. قال: ودخلنا المدائن، واجتمعنا إليه، فصعد المنبر، فوالله إنه ليخطبنا ويأمرنا بالجد وحسن الرأي والاجتهاد والثبات على الطاعة، والطلب بدماء أهل البيت عليهم السلام، إذ جاءته البشرى تترى يتبع بعضها بعضًا بقتل عبيد الله بن زياد وهزيمة أصحابه، وأخذ عسكره. وقتل أشراف أهل الشام، فقال المختار: يا شرطة الله، ألم أبشركم بهذا قبل أن يكون! قالوا: بلى والله لقد قلت ذلك، قال: فيقول لي رجل من بعض جيراننا من الهمذانيين: أتؤمن الآن يا شعبي؟ قال: قلت بأي شيء أؤمن؟ أؤمن بأن المختار يعلم الغيب! لاأؤمن بذلك أبدًا. قال: أولم يقل لنا: إنهم قد هزموا! فقلت له: إنما زعم لنا أنهم هزموا بنصيبين من أرض الجزيرة، وإنما هو بخازر من أرض الموصل، فقال: والله لا تؤمن يا شعبي حتى ترى العذاب الأليم، فقلت له: من هذا الهمذاني الذي يقول لك هذا؟ فقال: رجل لعمري كان شجاعًا - قتل مع المختار بعد ذلك يوم حروراء - يقال له: سلمان بن حمير من الثوريين من همذان، قال: وانصرف المختار إلى الكوفة، ومضى ابن الأشتر من عسكره إلى الموصل، وبعث عماله عليها، فبعث أخاه عبد الرحمن بن عبد الله على نصيبين، وغلب على سنجار ودارا، وما والاها من أرض الجزيرة، وخرج أهل الكوفة الذين كان المختار قاتلهم فهزمهمن فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة. وكان فيمن قدم على مصعب شبث بن ربعي، فقال سراقة ابن مرداس البارقي يمدح إبراهيم بن الأشتر وأصحابه في قتل عبيد الله ابن زياد: أتاكم غلام من عرانين مذحج ** جري على الأعداء غيرنكول فيابن زياد بؤ بأعظم مالك ** وذق حد ماضي الشفرتين صقيل ضربناك بالعضب الحسام بحدة ** إذا ما أبأنا قاتلا بقتيل جزى الله خيرًا شرطة الله إنهم ** شفوا من عبيد الله أمس غليلي ذكر الخبر عن عزل القباع عن البصرة وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير القباع عن البصرة، وبعث عليها أخاه مصعب بن الزبير، فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي ابن محمد، قال: حدثنا الشعبي. قال: حدثني وافد بن أبي ياسر. قال: كان عمرو بن سرح مولى الزبير يأتينا فيحدثنا. قال: كنت والله في الرهط الذين قدموا مع المصعب بن الزبير من مكة إلى البصرة؛ قال: فقدم متلثمًا حتى أناخ على باب المسجد، ثم دخل فصعد المنبر، فقال الناس: أمير أمير. قال: وجاء الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة - وهو أميرها قبله - فسفر المصعب فعرفوه. وقالوا: مصعب بن الزبير! فقال: للحارث: اظهر اظهر، فصعد حتى جلس تحته من المنبر درجة؛ قال: ثم قام المصعب فحمد الله وأثنى عليه. قال: فو الله ما أكثر الكلام. ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم: " طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبإ موسى " إلى قوله: " إنه كان من المفسدين " - وأشار بيده نحو الشام - " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " - وأشار بيده نحو الحجاز - " وترى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " - وأشار بيده نحو الشام حدثني عن عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن محمد، عن عوانة، قال: لما قدم مصعب البصرة خطبهم فقال: يا أهل البصرة، بلغني أنكم تلقبون أمراءكم، وقد سميت نفسي الجزار. ذكر خبر قتل مصعب المختار بن أبي عبيد وفي هذه السنة سار مصعب بن الزبير إلى المختار فقتله. ذكر الخبر عن سبب مسير مصعب إليه والخبر عن مقتل المختار قال هشام بن محمد، عن أبي مخنف، حدثني حبيب بن بديل، قال: لما قدم شبث على مصعب بن الزبير البصرة وتحته بغله له قد قطع ذنبها، وقطع طرف أذنها وشق قباءه، وهو ينادي: ياغوثاه ياغوثاه! فأتى مصعب، فقيل له: إن بالباب رجلًا ينادي: ياغوثاه ياغوثاه! مشقوق القباء، من صفته كذا وكذا، فقال لهم: نعم، هذا شبث بن ربعي لم يكن ليفعل هذا غيره، فأدخلوه، فأدخل عليه، وجاءه أشراف الناس من أهل الكوفة فدخلوا عليه، فأخبروه بما اجتمعوا له، وبما أصيبوا به ووثوب عبيدهم ومواليهم عليهم، وشكوا إليه، وسألوه النصر لهم، والمسير إلى المختار معهم. وقدم عليهم محمد بن الأشعث بن قيس - ولم يكن شهد وقعة الكوفة، كان في قصر له مما يلي القادسية بطيزناباذ - فلما بلغه هزيمة الناس تهيأ للشخوص، وسأل عنه المختار، فأخبر بمكانه، فسرح إليه عبد الله بن قراد الخثعمي في ماء، فلما ساروا إليه، وبلغه أن قد دنوا منه، خرج في البرية نحو المصعب حتى لحق به، فلما قدم على المصعب استحثه بالخروج، وأدناه مصعب وأكرمه لشرفه. قال: وبعث المختار إلى دار محمد بن الأشعث فهدمها. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف بن يزيد أن المصعب لما أراد المسير إلى الكوفة حين أكثر الناس عليه، قال لمحمد بن الأشعث: إني لا أسير حتى يأتني المهلب بن أبي صفرة. فكتب المصعب إلى المهلب - وهو عامله على فارس: أن أقبل إلينا لتشهد أمرنا، فإنا نريد المسير إلى الكوفة. فأبطأ عليه المهلب وأصحابه، واعتل بشيء من الخراج، لكراهة الخروج، فأمر مصعب محمد بن الأشعث في بعض ما يستحثه أن يأتي المهلب فيقبل به، وأعلمه أنه لا يشخص دون أن يأتي المهلب؛ فذهب محمد بن الأشعث بكتاب المصعب إلى المهلب، فلما قرأه قال له: مثلك يا محمد من يأتي بريدًا! أما وجد المصعب بريدًا غيرك! قال محمد: إني والله ما أنا ببريد أحد، غير أن نساءنا وأبناءنا وحرمنا غلبنا عليهم عبداننا وموالينا. فخرج المهلب، وأقبل بجموع كثيرة وموال عظيمة معه في جموع وهيئة ليس بها أحد من أهل البصرة. ولما دخل المهلب البصرة أتى باب المصعب ليدخل عليه وقد أذن للناس، فحجبه الحاجب وهو لا يعرفه، فرفع المهلب يده فكسر أنفه، فدخل إلى المصعب وأنفه يسيل دمًا، فقال له: مالك؟ فقال: ضربني رجل ما أعرفه، ودخل المهلب فلما رآه الحاجب قال: هو ذا، قال له المصعب: عد إلى مكانك، وأمر المصعب الناس بالمعسكر عند الجسر الأكبر، ودعا عبد الرحمن بن مخنف فقال له: ائت الكوفة فأخرج إلى جميع من قدرت عليه أن تخرجه، وادعهم إلى بيعتي سرًا، وخذل أصحاب المختار، فانسل من عنده حتى جلس في بيته مسترًا لايظهر، وخرج المصعب فقدم أمامه عباد بن الحصين الحبطي من بني تميم على مقدمته، وبعث عمر بن عبيد الله بن معمر على ميمنته، وبعث المهلب بن أبي صفرة على ميسرته، وجعل مالك بن مسمع على خمس بكر بن وائل، ومالك بن المنذر على خمس عبد القيس، والأحنف بن قيس على خمس تميم وزياد بن عمرو الأزدي على خمس الأزد، وقيس الهيثم على خمس أهل العالية؛ وبلغ ذلك المختار، فقام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل الكوفة، يا أهل الدين، وأعوان الحق، وأنصار الضعيف، وشيعة الرسول، وآل الرسول، إن فراركم الذين بغوا عليكم أتوا أشباههم من الفاسقين فاستغووهم عليكم ليمصح الحق، وينتعش الباطل، ويقتل أولياء الله، والله لو تهلكون ما عبد الله في الأرض إلا بالفرى على الله واللعن لأهل بيت نبيه. انتدبوا مع أحمر بن شميط فإنكم لو قد لقيتموه لقد قتلتموه إنا شاء الله قتل عاد وإرم. فخرج أحمر بن شميط، فعسكر بحمام أعين، ودعا المختار رءوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر، فبعثهم مع أحمر بن شميط، كما كانوا مع أبي الأشتر، فإنهم إنما فارقوا بن الأشتر؛ لأنهم رأوه كالمتهاون بأمر المختار، فانصرفوا عنه، وبعثهم المختار مع ابن شميط، وبعث معه جيشًا كثيفًا، فخرج ابن شميط، فبعث على مقدمته ابن كامل الشاكري، وسار أحمر بن شميط حتى ورد المذار، وجاء المصعب حتى عسكر منه قريبًا. ثم إن كل واحد منهما عبى جنده. ثم تزاحقا، فجعل أحمر بن شميط على ميمنته عبد الله بن كامل الشاكري، وعلى ميسرته عبد الله ابن وهب بن نضلة الجشمي، وعلى الخيل رزين بن عبد السلولي. وعلى الرجالة كثير بن إسماعيل الكندي - وكان يوم خازر مع ابن الأشتر - وجعل كيسان أبا عمرة - وكان مولى لعرينة - على الموالي، فجاء عبد الله بن وهب بن أنس الجشمي إلى ابن شميط وقد جعله على ميسرته، فقال له: إن الموالي والعبيد آل خور عند المصدوقة، وإن معهم رجالًا كثيرًا على الخيل. وأنت تمشي. فمرهم فلينزلوا معك، فإن لهم بك أسوةً. فإني أتخوف إن طوردوا ساعةً وطوعنوا وضوربوا أن يطيروا على منزلها ويسلموك، وإنك إن أرجلتهم لم يجدوا من الصبر بدًا، وإنما كان هذا منه غشًا للموالي والعبيد، لما كانوا لقوا منهم بالكوفة، فأحب إن كانت عليهم الدبرة أن يكونوا رجالًا لا ينجو منهم أحد، ولم يتهمه ابن شميط، وظن أنه إنما أراد بذلك نصحه ليصبروا ويقاتلوا، فقال: يا معشر الموالي، انزلوا معي فقاتلو، فنزلوا معه، ثم مشوا بين يديه وبين يدي رايته، وجاء مصعب بن الزبير وقد جعل عباد ابن الحصين على الخيل، فجاء عباد حتى دنا من ابن شميط وأصحابه فقال: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى بيعة أمير المؤمنين عبد الله ابن الزبير؛ وقال الآخرون: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى بيعة الأمير المختار، وإلى أن نجعل هذا الأمر شورى في آل الرسول، فمن زعم من الناس أن أحدًا ينبغي له أن يتولى عليهم برئنا منه وجاهدناه فانصرف عباد إلى المصعب فأخبره، فقال له: ارجع فاحمل عليهم. فرجع فحمل على ابن شميط وأصحابه فلم يزل منهم أحد، ثم انصرف إلى موقفه وحمل المهلب على ابن كامل، فجال أصحابه بعضهم في بعض، فنزل ابن كامل، ثم انصرف عنه المهلب، فقام مكانه، فوقفوا ساعةً ثم قال المهلب لأصحابه: كروا كرة صادقة، فإن القوم قد أطعموكم، وذلك بجولتهم التي جالوا، فحمل عليهم حملة منكرة فولوا، وصبر ابن كامل في رجال من همدان، فأخذ المهلب يسمع شعار القوم: أنا الغلام الشاكري، أنا الغلام الشبامي، أنا الغلام الثوري، فما كان إلا ساعة حتى هزموا، وجعل عمر بن عبيد الله بن معمر على عبد الله بن أنس، فقاتل ساعة ثم انصرف، وحمل الناس جميعًا على ابن شميط، فقاتل حتى قتل، وتنادوا: يا معشر بجيلة وخشعم، الصبر الصبر! فناداهم المهلب: الفرار الفرار! اليوم أنجى لكم، علام تقتلون أنفسكم مع هذه العبدان، أضل الله سعيكم. ثم نظر إلى أصحابه فقال: والله ما أرى استحرار القتل اليوم إلا في قومي. ومالت الخيل على رجالة ابن شميط، فافترقت فانهزمت وأخذت الصحراء. فبعث المصعب عباد بن الحصين على الخيل، فقال: أيما أسير أخذته فاضرب عنقه. سرح محمد بن الأشعث في خيل عظيمة من خيل أهل الكوفة ممن كان المختار طردهم، فقال: دونك ثأركم! فكانوا حيث انهزموا أشد عليهم من أهل البصرة، لا يدركون منهزمًا إلا قتلوه. ولا يأخذون أسيرًا فيعفون عنه. قال: فلم ينج من ذلك الجيش إلا طائفة من أصحاب الخيل؛ وأما رجالتهم فأبيدوا إلا قليلا. فال أبو مخنف: حدثني ابن عياش المنتوف، عن معاوية بن قرة المزني، قال: انهيت إلى رجل منهم، فأدخلت سنان الرمح في عينه، فأخذت أخضخض عينه بسنان رمحي، فقلت له: وفعلت به هذا؟ قال: نعم، إنهم كانوا أحل عندنا دماء من الترك والديلم؛ وكان معاوية بن قرة قاضيًا لأهل البصرة، ففي ذلك يقول الأعشى: ألا هل أتاك والأنباء تنمى ** بما لاقت بجلة بالمذار أتيح لهم بها ضرب طلحف ** وطعن صائب وجه النهار كأن سحابة صعقت عليهم ** فعمتهم هنالك بالدمار فبشر شيعة المختار إما ** مررت على الكويفة بالصغار أقر العين صرعاهم وفل ** لهم جم يقتل بالصحارى وما إن سرني إهلاك قومي ** وإن كانوا وجدك في خيار ولكني سررت بما يلاقي ** أبو إسحاق من خزي وعار وأقبل المصعب حتى قطع من تلقاء واسط القصب، ولم تك واسط هذه بنيت حينئذ بعد، فأخذ في كسكر، ثم حمل الرجال وأثقالهم وضعفاء الناس في السفن، فأخذوا في نهر يقال له: نهر خرشاذ، ثم خرجوا من ذلك النهر إلى نهر يقال له قوسان؛ ثم أخرجهم من ذلك النهر إلى الفرات. قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج الكندي، أن أهل البصرة كانوا يخرجون فيجرون سفنهم ويقولون: عودنا المصعب جر القلس ** والزنبريات الطوال القعس قال: فلما بفغ من مع المختار من تلك الأعاجم مالقي إخوانهم مع ابن شميط قالوا بالفارسية: " ابن بارد روغ كفت " يقولون: هذا المرة كذب. قال أبو مخنف: وحدثني هشام بن عبد الرحمن الثقفي، عن عبد الرحمن بن أبي عمير الثقفي، قال: والله إني لجالس عند المختار حين أتاه هزيمة القوم ومالقوا، قال: فأصغى إلى، فقال: قتلت والله العبيد قتلةً ما سمعت بمثلها قط. ثم قال: وقتل ابن شميط وابن كامل وفلان وفلان، فسمى رجالًا من العرب أصيبوا، كان الرجل منهم في الحرب خيرًا من فئام من الناس. قال: فقلت له: فهذه والله مصيبة، فقال لي: ما من الموت بد، وما من ميتة أموتها أحب إلي من مثل ميتة ابن شميط، حبذامصارع الكرام! قال: فعلمت أن الرجل قد حدث نفسه إن لم يصب حاجته أن يقاتل حتى يموت. ولما بلغ المختار أنهم قد أقبلوا إليه في البحر، وعلى الظهر، سار حتى نزل بهم السيلحينن، ونظر إلى مجتمع الأنهار نهر الحيرة ونهر السيلحين ونهر القادسية، ونهر يوسف، فسكر الفرات على مجتمع الأنهار، فذهب ماء الفرات كله في هذه الأنهار، وبقيت سفن أهل البصرة في الطين، فلما رأوا ذلك خرجوا من السفن يمشون، وأقبلت خيلهم تركض حتى أتوا ذلك السكر، فكسروه وصمدوا صمد الكوفة، فلما رأى ذلك المختار أقبل إليهم حتى نزل حروراء، وحال بينهم وبين الكوفة. وقد كان حصن قصره والمسجد، وأدخل في قصره عدة الحصار، وجاء المصعب يسير إليه وهو بحروراء وقد استعمل على الكوفة عبد الله ابن شداد، وخرج إليه المختار وقد جعل على ميمنته سليم بن يزيد الكندي، وجعل على ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني ثم الثوري، وكان على شرطته يومئذ عبد الله بن قراد الخشعمي، وبعث على الخيل عمر بن عبد الله النهدي، وعلى الرجال مالك بن عمرو النهدي. وجعل مصعب على ميمنته المهلب بن أبي صفرة، وعلى ميسرته عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعلى الخيل عباد بن الحصين الحبطي، وعلى الرجال مقاتل بن مسمع البكري، ونزل هو يمشي متنكبًا قوسًا له. قال: وجعل على أهل الكوفة محمد بن الأشعث، فجاء محمد حتى نزل بين المصعب والمختار مغربًا ميامنا. قال: فلما رأى ذلك المختار بعث إلى كل خمس من أخماس أهل البصرة رجلا من أصحابه، فبعث إلى بكر ابن وائل سعيد بن منقذ صاحب ميسرته، وعليهم مالك بن مسمع البكري، وبعث إلى عبد القيس وعليهم مالك بن المنذر عبد الرحمن بن شريح الشبامي، وكان على بيت ماله، وبعث إلى أهل العالية وعليهم قيس ابن الهيثم السلمي عبد الله بن جعدة القرشي، ثم المخزومي، وبعث إلى الأزد وعليهم زياد بن عمرو العتكي مسافر بن سعيد بن نمران الناعطي، وبعث إلى بني تميم وعليهم الأحنف بن قيس سليم بن يزيد الكندي، وكان صاحب ميمنته، وبعث إلى محمد بن الأشعث السائب بن مالك الأشعري، ووقف في بقية أصحابه، وتزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، ويحمل سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح على بكر بن وائل، وعبد القيس، وهم في الميسرة وعليهم عمر بن عبيد الله بن معمر؛ فقاتلتهم ربيعة قتالًا شديدًا، وصبروا لهم، وأخذ سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح لا يقلعان، إذا حمل واحد فانصرف حمل الآخر، وربما حملا جميعًا؛ قال: فبعث المصعب إلى المهلب: ما تنتظر أن تحمل على من بإزائك! ألا ترى ما يلقى هذان الخمسان منذ اليوم! احمل بأصحابك، فقال: إي لعمري ماكنت لأجزر الأزد وتميمًا خشية أهل الكوفة حتى أرى فرصتي. قال: وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة أن احمل على من بإزائك، فحمل على أهل العلية فكشفهم حتى انتهوا إلى المصعب، فبحثا المصعب على ركبتيه - ولم يكن فرارًا - فرمى بأسهمه. ونزل الناس عنده فقاتلوا ساعةً، ثم تحاجزوا. قال: وبعث المصعب إلى المهلب وهو في خمسين جامين كثيري العدد والفرسان: لا أبا لك! ما تنتظر أن تحمل على القوم! فمكث غير بعيد، ثم إنه قال لأصحابه: قد قاتل الناس منذ اليوم وأنتم وقوف، وقد أحسنوا، وقد بقى ما عليكم، احملوا واستعينوا بالله واصبروا، فحمل على من يليه حملةً منكرةً، فحطموا أصحاب المختار حطمةً منكرة، فكشوفهم. وقال عبد الله بن عمرو النهدي - وكان من أصحاب صفين: اللهم إني على ما كنت عليه ليلة الخميس بصفين، اللهم إني أبرأ إليك من فعل هؤلاء لأصحابه حين انهزموا، وأبرأ إليك من أنفس هؤلاء - يعني أصحاب المصعب - ثم جالد بسيفه حتى قتل، وأتى مالك بن عمرو أبو نمران النهدي وهو على الرجالة بفرسه فركبه، وانقصف أصحاب المختار انقصافةً شديدة كأنهم أجمة فيها حريق. فقال مالك حين ركب: ما أصنع بالركوب! والله لأن أقتل ها هنا أحب إلي من أن أقتل في بيتي؛ أين أهل البصائر؟ أين أهل الصبر؟ فئاب إليه نحو من خمسين رجلًا، وذلك عند المساء، فكر على أصحاب محمد بن الأشعث، فقتل محمد بن الأشعث إلى جانبه هو وعامة أصحابه، فبعض الناس يقول: هو قتل محمد بن الأشعث، ووجد أبو نمران قتيلًا إلى جانبه - وكندة تزعم أن عبد الملك بن أشاءة الكندي هو الذي قتله - فلما مر المختار في أصحابه على محمد بن الأشعث قتيلًا قال: يا معشر الأنصار، كروا على الثعالب الرواغة، فحملوا عليهم، فقتل؛ فخشعم تزعم أن عبد الله بن قراد هو الذي قتله. قال أبو مخنف: وسمعت عوف بن عمرو الجشمي يزعم أن مولى لهم قتله، فادعى قتله أربعة نفر. كلهم يزعم أنه قتله، وانكشف أصحاب سعيد بن منقذ، فقاتل في عصابة من قومه نحو من سبعين رجلًا فقتلوا، وقاتل سليم بن يزيد الكندي في تسعين رجلًا من قومه، وغيرهم ضارب حتى قتل، وقاتل المختار على فم سكة شبث، ونزل وهو يريد ألا يبرح، فقاتل عامة ليلته حتى انصرف عنه القوم، وقتل معه ليلتئذ رجال من أصحابه من أهل الحفاظ، منهم عاصم بن عبد الله الأزدي، وعياش بن خازم الهمداني، ثم الثوري. وأحمر بن هديج الهمداني ثم الفايشي. قال أبو مخنف: حدثنا أبو الزبير أن همدان تنادوا ليلتئذ: يا معشر همدان، سيفوهم فقاتلوهم أشد القتال؛ فلما أن تفرقوا عن المختار قال له أصحابه: أيها الأمير، قد ذهب القوم فانصرف إلى منزلك إلى القصر، فقال المختار: أما والله ما نزلت وأنا أريد أن آتى القصر، فأما إذ انصرفوا فاركبوا بنا على اسم الله؛ فجاء حتى دخل القصر فقال الأعشى في قتل محمد بن الأشعث: تأوب عينك عوارها ** وعاد لنفسك تذكارها وإحدى لياليك راجعتها ** أرقت ولوم سمارها وما ذاقت العين طعم الرقا ** د حتى تبلج إسفارها وقام نعاة أبي قاسم ** فأسبل بالدمع تحدارها فحق العيون على ابن الأشج ** ألا يفتر تقطارها وألا تزال تبكي له ** وتبتل بالدمع أشفاها عليك محمد لما ثوي ** ت تبكي البلاد وأشجارها وما يذكرونك إلا بكوا ** إذا ذمة خانها جارها وعارية من ليالي الشتا ** ء لا يتمنح أيسارها ولا ينبح الكلب فيها العقو ** ر إلا الهرير وتختارها ولا ينفع الثوب فيها الفتى ** ولا ربة الخدر تخدارها فأنت محمد في مثلها ** مهين الجزائر نحارها تظل جفانك موضوعة ** تسيل من الشحم أصبارها وما في سقائك مستنطف ** إذا الشول روح أغبارها فيا واهب الوصفاء الصبا ** ح إن شبرت تم إشبارها ويا واهب الجرد مثل القدا ** ح قد يعجب الصف شوارها ويا واهب البكرات الهجا ** ن عوذا تجاوب أبكارها وكنت كدجلة إذ ترتمي ** فيقذف في البحر تيارها وكنت جليدًا وذا مرة ** إذا يبتغي منك إمرارها وكنت إذا بلدة أصفقت ** وآذان بالحرب جبارها بعثت عليها ذواكي العيو ** ن حتى تواصل أخبارها بإذن من الله والخيل قد ** أعد لذلك مضمارها وقد تطعم الخيل منك الوجي ** ف حتى تنبذ أمهارها وقد تعلم البازل العيسجو ** ر أنك بالخبث حسارها فيا أسفي يوم لاقيتهم ** وخانت رجالك فرارها وأقبلت الخيل مهزومة ** عثارًا تضرب أدبارها بشط حروراء واستجمعت ** عليك الموالي وسحارها فأخطرت نفسك من دونهم ** قحاز الرزيئة أخطارها فلا تبعدان أبا قاسم ** فقد يبلغ النفس مقدارها وأفني الحوادث ساداتنا ** ومر الليالي وتكرارها قال هشام: قال أبي: كان السائب أتى مع مصعب بن الزبير، فقتله ورقاء النخعي من وهيبل، فقال ورقاء: من مبلغ عني عبيدًا بأنني ** علوت أخاه بالحسام المهند فإن كنت تبغي العلم عنه فإنه ** صريع لدى الديرين غير موسد وعمدًا علوت الرأس منه بصارم ** فأثكلته سفيان بعد محمد قال هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني حصيرة بن عبد الله، أن هندًا بنت المتكلفة الناعطية كان يجتمع إليها كل غال من الشيعة فيتحدث في بيتها وفي بيت ليلى بنت قمامة المزنية، وكان أخوها رفاعة بن قمامة من شيعة علي، وكان مقتصدًا، فكانت لا تحبه، فكان أبو عبد الله الجدلي ويزيد بن شراحيل قد أخبرا ابن الحنفية خبر هاتين المرأتين وغلوهما وخبر أبي الأحراس المرادي والبطين الليثي وأبي الحارث الكندي. قال هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني يحيى بن أبي عيسى، قال: فكان ابن الحنفية قد كتب مع يزيد بن شراحيل إلى الشيعة بالكوفة يحذرهم هؤلاء، فكتب إليهم: من محمد بن علي إلى من بالكوفة من شيعتنا أما بعد، فاخرجوا إلى المجالس والمساجد فاذكروا الله علانية وسرًا ولاتتخذوا من دون المؤمنين بطانة، فإن خشيتم على أنفسكم فاحذروا على دينكم الكذابين، وأكثروا الصلاة والصيام والدعاء، فإنه ليس أحد من الخلق يملك لأحد ضرًا ولا نفعًا إلا ما شاء الله، وكل نفس بما كسبت رهينة، ولا تزر وازرة وزر أخرى، والله قائم على كل نفس بما كسبت؛ فاعملوا صالحًا، وقدموا لأنفسكم حسنًا، ولا تكونوا من الغافلين، والسلام عليكم. قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله، أن عبد الله بن نوف خرج من بيت هند بنت المتكلفة حين خرج الناس إلى حروراء وهو يقول: يوم الأربعاء، ترفعت السماء، ونزل القضاء، بهزيمة الأعداء، فاخرجوا على اسم الله إلى حروراء. فخرج، فلما التقى للقتال ضرب على وجهه ضربة، ورجع الناس منهزمين، ولقيه عبد الله بن شريك النهدي، وقد سمع مقالته، فقال له: ألم تزعم لنا يا بن نوف أن سنهزمهم! قال: أو ما قرأت في كتاب الله: " يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب "! قال: فلما أصبح المصعب أقبل يسير بمن معه من أهل البصرة ومن خرج إليه من أهل الكوفة، فأخذ بهم نحو السبخة، فمر بالمهلب. فقال له المهلب: يا له فتحًا ما أهناه لو لم يكن محمد بن الأشعث قتل! قال: صدقت، فرحم الله محمدًا. ثم سار غير بعيد، ثم قال: يا مهلب، قال: لبيك أيها الأمير؛ قال: هل علمت أن عبيد الله بن علي بن أبي طالب قد قتل! قال: " إنا لله وإنا إليه راجعون " قال: المصعب: أما إنه كان ممن أحب أن يرى هذا الفتح، ثم لا نجعل أنفسنا أحق بشئ مما نحن فيه منه، أتدري من قتله؟ قال: لا؛ قال: إنما قتله من يزعم أنه لأبيه شيعة، أما إنهم قد قتلوه وهم يعرفونه. قال: ثم مضى حتى نزل السبخة فقطع عنهم الماء والمادة، وبعث عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فنزل الكناسة، وبعث عبد الرحمن ابن مخنف بن سليم إلى جبانة السبيع، وقد كان قال لعبد الرحمن بن مخنف: ما كنت صنعت فيما كنت وكلتك به؟ قال: أصلحك الله! وجدت الناس صنفين؛ أما من كان له فيك هوى فخرج إليك. وأما من كان يرى رأى المخار، فلم يكن ليدعه، ولا ليؤثر أحدًا عليه، فلم أبرح بيتي حتى قدمت؛ قال: صدقت؛ وبعث عباد بن الحصين إلى جبانة كندة، فكل هؤلاء كان يقطع عن المختار وأصحابه الماء والمادة. وهم في قصر المختار، وبعث زحر بن قيس إلى جبانة مراد، وبعث عبيد الله بن الحر إلى جبانة الصائديين. قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج، قال: لقد رأيت عبيد الله بن الحر؛ وإنه ليطارد أصحاب خيل المختار، يقاتلهم في جبانة الصائديين ولربما رأيت خيلهم تطرد خيله، وإنه لوراء خيله يحميها حتى ينتهي إلى دار عكرمة، ثم يكر راجعًا هو وخيله، فيطردهم حتى يلحقهم بجبانة الصائدين، ولربما رأيت خيل عبيد الله قد أخذت السقاء والسقاءين فيضربون، وإنما كانوا يأتونهم بالماء أنهم كانوا يعطونهم بالراوية الدينار والدينار من الجهد. وكان المختار ربما خرج هو وأصحابه فقاتلوا قتالًا ضعيفًا، ولا نكاية لهم، وكانت لا تخرج له خيل إلا رميت بالحجارة من فوق البيوت، ويصب عليهم الماء القذر. واجترأ عليهم الناس، فكانت معايشهم أفضلها من نسائهم، فكانت المرأة تخرج من منزلها معها الطعام واللطف والماء، قد التحقت عليه، فتخرج كأنما تريد المسجد الأعظم للصلاة، وكأنها تأتي أهلها وتزور ذات قرابة لها، فإذا دنت من القصر فتح لها، فدخلت على زوجها وحميمها بطعامه وشرابه ولطفه. وإن ذلك بلغ المصعب وأصحابه، فقال له المهلب - وكان مجربًا: اجعل عليهم دروبًا حتى تمنع من يأتيهم من أهليهم وأبنائهم، وتدعهم في حصنهم حتى يموتوا فيه. وكان القوم إذا اشتد عليهم العطش في قصرهم استقوا من ماء البئر. ثم أمر لهم المختار بعسل فصب فيه لغير طعمه فيشربوا منه، فكان ذلك أيضًا مما يروي أكثرهم. ثم إن مصعبًا أمر أصحابه فاقتربوا من القصر، فجاء عباد بن الحصين الحبطي حتى نزل عند مسجد جهينة، وكان ربما تقدم حتى ينتهي إلى مسجد بني مخزوم، وحتى يرمي أصحابه من أشرف عليهم من أصحاب المختار من القصر، وكان لا يلقى امرأة قريبًا من القصر إلا قال لها: من أنت؟ ومن أين جئت؟ وما تريدين؟ فأخذ في يوم ثلاث نسوة للشباميين وشاكر أتين أزواجهن في القصر، فبعث بهن إلى مصعب، وإن الطعام لمعهن، فردهن مصعب ولم يعرض لهن، وبعث زحر بن قيس، فنزل عند الحدادين حيث تكرى الدواب، وبعث عبيد الله بن الحر فكان موقفه عند دار بلال، وبعث محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس فكان موقفه عند دار أبيه، وبعث حوشب بن يزيد فوقف عند عند زقاق البصريين عند فم سكة بين جذيمة بن مالك من بني أسد بن خزيمة، وجاء المهلب يسير حتى نزل جهار سوج خنيس، وجاء عيد الرحمن بن مخنف من قبل دار السقاية، وابتدر السوق أناس من شباب أهل الكوفة وأهل البصرة، أغمارها ليس لهم علم بالحرب، فأخذوا يصيحون - وليس لهم أمير: يابن دومة، يابن دومة! فأشرف عليهم المختار فقال: أما والله لو أن الذي يعيرني بدومة كان من القريتين عظيمًا ما عيرني بها. وبصر بهم وبتفرقهم وهيئتهم وانتشارهم، فطمع فيهم، فقال لطائفة من أصحابه: اخرجوا معي، فخرج معه منهم نحو من مائتي رجل، فكر عليهم، فشدخ نحوًا من مائة، وهزمهم، فركب بعضهم بعضًا، وأخذوا على دار فرات بن حيان العجلي. ثم إن رجلا من بني ضبة من أهل البصرة يقال له يحيى بن ضمضم، كانت رجلاه تكادان تخطان الأرض إذا ركب من طوله، وكان أقتل شئ للرجال وأهيبه عندهم إذا رأوه، فأخذ يحمل على أصحاب المختار فلا يشبت له رجل صمد صمده، وبصر به المختار، فحمل عليه فضربه ضربة على جبهته فأطار جبهته وقحف رأسه، وخر ميتًا، ثم إن تلك الأمراء وتلك الرءوس أقبلوا من كل جانب، فلم تكن لأصحابه بهم طاقة، فدخلوا القصر، فكانوا فيه، فاشتد عليهم الحصار فقال لهم المختار: ويحكم! إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفًا، انزلوا بنا فلنقاتل حتى نقتل كرامًا إن نحن قتلنا، والله ما أنا بآيس إن صدقتموهم أن ينصركم الله، فضعفوا وعجزا، فقال لهم المختار: أما أنا فوالله لا أعطي بيدي ولا أحكمهم في نفسي، ولما رأى عبد الله بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب ما يريد المختار تدلى من القصر بحبل، فلحق بأناس من إخوانه، فاختبأ عندهم. ثم إن المختار أزمع بالخروج إلى القوم حين رأى من أصحابه الضعف، ورأى ما بأصحابه من الفشل، فأرسل إلى امرأته أم ثابت بنت سمرة بن نجيب الفزاري، فأرسلت إليه بطيب كثير، فاغتسل وتحنط، ثم وضع ذلك الطيب على رأسه ولحيته، ثم خرج في تسعة عشر رجلا، فيهم السائب بن مالك الأشعري -وكان خليفته على الكوفة إذا خرج إلى المدائن- وكانت تحته عمرة بنت أبي موسى الأشعري، فولدت له غلاما فسماه محمدا، فكان مع أبيه في القصر، فلما قتل أبوه وأخذ من في القصر وجد صبيا فترك، ولما خرج المختار من القصر قال للسائب: ماذا ترى؟ قال: الرأي لك، فماذا ترى؟ قال: أنا أرى أم الله يرى! قال: الله يرى، قال: ويحك! أحمق أنت! إنما أنا رجل من العرب رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة، ومروان على الشام، فلم أكن دون أحد من رجال العرب، وأخذت هذه البلاد، فكنت كأحدهم، إلا أني قد طلبت بثأر أهل بيت النبي ﷺ إذ نامت عنه العرب، فقتلت من شرك في دمائهم، وبالغت في ذلك إلى يومي هذا، فقاتل على حسبك إن لم تكن لك نية، فقال: { إنا لله وإنا إليه راجعون }، وما كنت أصنع أن أقاتل على حسبي! فقال المختار عند ذلك يتمثل بقول غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي: ولو يراني أبو غيلان إذ حسرت ** عني الهموم بأمر ما له طبق لقال رهبا ورعبا يجمعان معا ** غنم الحياة وهول النفس والشفق إما تسف على مجد ومكرمة ** أو إسوة لك فيمن تهلك الورق فخرج في تسعة عشر رجلا فقال لهم: أتؤمنوني وأخرج إليكم؟ فقالوا: لا، إلا على الحكم، فقال: لا أحكمكم في نفسي أبدا. فضارب بسيفه حتى قتل. وقد كان قال لأصحابه حين أبوا أن يتابعوه على الخروج معه: إذا أنا خرجت إليهم فقتلت لم تزدادوا إلا ضعفا وذلا، فإن نزلتم على حكمهم وثب أعداؤكم الذين وترتموهم، فقال كل رجل منهم لبعضكم: هذا عنده ثأري فيقتل وبعضكم ينظر إلى مصارع بعض فيقول: يا ليتنا أطعنا المختار وعملنا برأيه! ولو أنكم خرجتم معي كنتم إن أخطأتم الظفر مُتم كرامًا، وإن هرب منكم هارب فدخل في عشيرته اشتملت عليه عشيرته، أنتم غدا هذه الساعة أذل من على ظهر الأرض، فكان كما قال. قال: وزعم الناس أن المختار قتل عند موضع الزياتين اليوم، قتله رجلان من بني حنيفة أخوان يدعى أحدهما طرفة والآخر طرافا، ابنا عبد الله بن دجاجة من بني حنيفة. ولما كان من الغد من قتل المختار قال بجير بن عبد الله المُسْلي: يا قوم، قد كان صاحبكم أمس أشار عليكم بالرأي لو أطعتموه. يا قوم، إنكم إن نزلتم على حكم القوم ذبحتم كما تذبح الغنم، اخرجوا باسيافكم فقاتلوا حتى تموتوا كراما. فعصوه وقالوا: لقد أمرنا بهذا من كان أطوع عندنا وأنصح لنا منك، فعصيناه، أفنحن نطيعك! فأمكن القوم من أنفسهم، ونزلوا على الحكم. فبعث إليهم مصعب عباد بن الحصين الحَبَطي فكان هو يخرجهم مكتفين، وأوصى عبد الله بن شداد الجُشَمي إلى عبّاد بن الحُصَين، وطلب عبد الله بن قراد عصاه أو حديدة أو شيئا يقاتل به فلم يجده، وذلك أن الندامة أدركته بعدما دخلوا عليه، فأخذوا سيفه وأخرجوه مكتوفا، فمر به عبد الرحمن وهر يقول: ما بت أخشى أن أرى أسيرا ** إن الذين خالفوا الأميرا قد رغموا وتبروا تتبيرا فقال عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث: عليّ بذا، قدموه إلي أضرب عنقه، فقال له: أما إني على دين جدك الذي آمن ثم كفر، إن لم أكن ضربت أباك بسيفي حتى فاض. فنزل ثم قال: أدنوه مني، فأدنوه منه، فقتله فغضب عباد، فقال: قتلته ولم تؤمر بقتله! ومر بعبد الله بن شداد الجشمي وكان شريفا فطلب عبد الرحمن إلى عباد أن يحبسه حتى يكلم فيه الأمير، فأتى مصعبا، فقال: إني أحب أن تدفع إلي عبد الله بن شداد فأقتله، فإنه من النار، فأمر له به، فلما جاءه أخذه فضرب عنقه، فكان عباد يقول: أما والله لو علمت أنك إنما تريد قتله لدفعته إلى غيرك فقتله، ولكني حسبت أنك تكلمه فيه فتخلي سبيله. وأتي بابن عبد الله بن شداد، وإذا اسمه شدادا وهو رجل محتلم، وقد اطّلَى بنُورة، فقال: اكشفوا عنه هل أدرك! فقالوا: لا إنما هو غلام، فخلوا سبيله، وكان الأسود بن سعيد قد طلب إلى مصعب أن يفرض على أخيه الأمان، فإن نزل تركه له، فأتاه فعرض عليه الأمان، فأبى أن ينزل، وقال: أموت مع أصحابي أحب إلي من حياة معكم، وكان يقال له قيس، فأخرج فقتل فيمن قتل، وقال بجير بن عبد الله المسلي -ويقال: كان مولى لهم حين أتى به مصعب ومعه منهم ناس كثير- فقال له المسلي: الحمد لله الذي ابتلانا بالإسار، وابتلاك بأن تعفو عنا، وهما منزلتان إحداهما رضا الله، والأخرى سخطه، من عفا عفا الله عنه وزاده عزا، ومن عاقب لم يؤمن القصاص. يا ابن الزبير، نحن أهل قبلتكم، وعلى ملتكم، ولسنا تركا ولا ديلما، فإن خالفنا إخوانا من أهل مصرنا فإما أن نكون أصبنا وأخطئوا، وإما أن نكون أخطأنا وأصابوا، فاقتتلنا كما اقتتل أهل الشأم بينهم، فقد اختلفوا واقتتلوا ثم اجتمعوا، وكما اقتتل أهل البصرة بينهم فقد اختلفوا واقتلوا ثم اصطلحوا واجتمعوا، وقد ملكتم فاسجحوا، وقد قدرتم فاعفوا، فما زال بهذا القول ونحوه حتى رق لهم الناس، ورق لهم مصعب، وأراد أن يخلي سبيلهم، فقام عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقال: تخلي سبيلهما! اخترنا يا ابن الزبير أو اخترهم. ووثب محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني فقال: قتل أبي وخمسمائة من حمدان وأشراف العشيرة أهل المصر ثم تخلي سبيلهم، ودمماؤنا ترقرق في أجوافهم! اخترنا أو اخترهم. ووثب كل قوم وأهل بيت كان أصيب منهم رجل فقالوا نحوا من هذا الفول. فلما رأى مصعب بن الزبير ذلك أمر بقتلهم، فنادوه بأجمعهم: يا ابن الزبير، لا تقتلنا، اجعلنا مقدمتك إلى أهل الشام غدًا، فوالله ما بك ولا بأصحابك عنا غدا غنى، إذا لقيتم عدوكم فإن قتلنا لم نقتل حتى نرقهم لكم، وإن ظفرنا بهم كان ذلك لك ولمن معك. فأبى عليهم وتبع رضا العامة، فقال بجير المسلي: إن حاجتي إليك ألا أقتل مع هؤلاء القوم، إني أمرتهم أن يخرجرا بأسيافهم فيقاتلوا حتى يموتوا كراما فعصوني، فقدم فقتل. قال أبو مخنف: وحدثني أبي، قال: حدثني أبو روق أن مسافر بن سعيد بن نمران قال لمصعب بن الزبير: يا ابن الزبير، ما تقول لله إذا قدمت عليه وقد قتلت أمة من السلمين صبرا! حكموك في دمائهم، فكان الحق في دمائهم ألا تقتل نفسا مسلمة بغير نفس مسلمة، فإن كنا قتلنا عدة رجال منكم فاقتلوا عدة من قتلنا منكم، وخلوا سبيل بقيتنا، وفينا الآن رجال كثير لم يشهدوا موطنا من حربنا وحربكم يوما واحدا، كانوا في الجبال والسواد يجبون الخراج، ويؤمنون السبيل، فلم يستمع له، فقال: قبح الله قوما أمرتهم أن يخرجوا ليلا على حرس سكةٍ من هذه السكك فنطردهم، ثم نلحق بعشائرنا، فعصوني حتى حملوني على أن أعطيت التي هي أنقص وأدنى وأوضع، وأبو أن يموتوا إلا ميتة العبيد، فأنا أسألك ألا تخلط دمي بدمائهم. فقدم فقتل ناحية. ثم إن المصعب أمر بكف المختار فقطعت ثم سمرت بمسمار حديد إلى جنب المسجد، فلم يزل على ذلك حتى قدم الحجاج بن يوسف، فنظر إليه فقال: ما هذه؟ قالوا: كف المختار، فأمر بنزعها. وبعث مصعب عماله على الجبال والسواد، ثم إنه كتب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول له: إن أنت أجبتني ودخلت في طاعتي فلك الشام وأعنة الخيل، وما غلبت عليه من أرض المغرب ما دام لآل الزبير سلطان. وكتب عبد الملك بن مروان من الشام إليه يدعوه إلى طاعته، ويقول: إن أنت أجبتني ودخلت في طاعتي فلك العراق. فدعا إبراهيم أصحابه فقال: ما ترون؟ فقال بعضهم: تدخل في طاعة عبد الملك، وقال بعضهم: تدخل مع ابن الزبير في طاعته، فقال ابن الاشتر: ذاك لو لم أكن أصبت عبيد الله بن زياد ولا رؤساء أهل الشام تبعت عبد الملك، مع أني لا أحب أن أختار على أهل مصري مصرا ولا على عشيرتي عشيرة. فكتب إلى مصعب، فكتب إليه مصعب أن أقبل، فأقبل إليه بالطاعة. قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي أن كتاب مصعب قدم على ابن الأشتر وفيه: أما بعد، فإن الله قد قتل المختار الكذاب وشيعته الذين دانوا بالكفر، وكادوا بالسحر، وإنا ندعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه، وإلى بيعة أمير المزمنين، فإن أجبت إلى ذلك فأقبل إلي، فإن لك أرض الجزيرة وأرض المغرب كلها ما بقيت وبقي سلطان آل الزبير، لك بذلك عهد الله وميثاقه وأشد ما أخذ الله على النبيين من عهد أو عقد، والسلام. وكتب إليه عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإن آل الزبير انتزوا على أئمة الهدى، ونازعوا الأمر أهله وألحدوا في بيت الله الحرام، والله ممكن منهم، وجاعل دائرة السوء عليهم، وإني أدعوك إلى الله وإلى سنة نبيه، فإن قبلت وأجبت فلك سلطان العراق ما بقيتَ وبقيتُ، علي بالوفاء بذلك عهد الله وميثاقه. قال: فدعا أصحابه فاقرأهم الكتاب، واستثسارهم في الرأي، فقائل يقول: عبد الملك، وقائل يقوله: ابن الزبير، فقال لهم: ورأيي اتباع أهل الشام، ولكن كيف لي بذلك، وليس قبيلة تسكن الشام إلا وقد وترتها، ولست بتارك عشيرتي وأهل مصري! فاتصل إلى مصاب، فلما بلغ مصعبا إقباله بعث المهلب إلى عمله، وهي السنة التي نزل فيها المهلب على الفرات. قال أبو مخنف: حدثني أبو علقمة الخثعمي أن المصعب بعث إلى أم ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار وإلى عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاري -وهي امرأة المختار- فقال لهما: ما تقولان في المختار؟ فقالت أم ثابت: ما عسينا أن نقول! ما نقول فيه إلا ما تقولون فيه أنتم، فقالوا لها: اذهبي، وأما عمرة فقالت: رحمة الله عليه، إنه كان عبدا من عباد الله الصالحين، فرفعها مصعب إلى السجن، وكاتب فيها إلى عبد الله بن الزبير إنها تزعم أنه نبي، فكاتب إليه أن أخرجها فاقتلها. فأخرجها بين الحيرة والكوفة بعد العتمة، فضربها مطر ثلاث ضربات بالسيف -ومطر تابع لآل قفل من بني تيم الله بن ثعلبة، كان يكون مع الشرط- فقالت: يا أبتاه، يا أهلاه، يا عشيرتاه! فسمع بها بعض الأنصار، وهو أبان بن النعمان بن بشير، فأتاه فلطمه وقال له: يا ابن الزانية، قطعت نفسها قطع الله يمينك! فلزمه حتى رفعه إلى مصعب، فقال: إن أمي مسلمة، وادعى شهادة بني قفل، فلم يشهد له أحد، فقال مصعب: خلو سبيل الفتى فإنه رأى أمرا فظيعًا. فقال عمر بن أبى ربيعة القرشي في قتل مصعب عمرة بنت النعمان بن بشير: إن من أعجب العجائب عندي ** قتل بيضاء حرة عطبول قتلت هكذا على غير جرم ** إن لله درها من قتيل كتب القتل والقتال علينا ** وعلى المحصنات جر الذيول قال أبو مخنف: حدثني عمد بن يوسف أن مصعبا لقي عبد الله بن عمر فسلم عليه، وقال له: أنا ابن أخيك مصعب، فقال له ابن عمر: نعم أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة، عش ما استطعت! فقال مصعب: إنهم كانوا كفرة سحرة، فقال ابن عمر: والله لو قتلت عددهم غنما من تراث أبيك لكان ذلك سرفا. فقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت في ذلك: أتى راكب بالأمر ذي النبأ العجب ** بقتل ابنة النعمان ذي الدين والحسب بقتل فتاة ذات دل ستيرة ** مهذبة المخلاف والخيم والنسب مطهرة من نسل قوم أكارم ** من المؤثرين الخير في سالف الحقب خليل النبي المصطفى ونصيره ** وصاحبه في الحرب والنكب والكرب أتاني بأن الملحدين توافقوا ** على قتلها لا جنبوا القتل والسلب فلا هنأت آل الزبير معيشة ** وذاقوا لباس الذل والخوف والحرب كأنهم إذ أبرزوها وقطعت ** بأسيافهم فازوا بمملكة العرب ألم تعجيب الأقوام من قتل حرة ** من المحصنات الدين محمودة الأدب من الغافلات المؤمنات، بريئة ** من الذم والبهتان والشك والكذب علينا كتاب القتل والبأس واجب ** وهن العفاف في الحجال وفي الحجب على دين أجداد لها وأبوة ** كرام مضت لم نخز أهلا ولم ترب من الخفرات لا خروج بذية ** ملائمة تبغي على جارها الجنب ولا الجار ذي القربى ولم تدر ما الخنا ** ولم تزدلف يوما بسوء ولم تحب عجبت لها إذ كفنت وهي حية ** ألا إن هذا الخطب من أعجب العجب حدثت عن علي بن حرب الموصلي، قال: حدثني إبراهيم بن سليمان الحنفي، ابن أخي أبي الأحوص، قال: حدثنا محمد بن أبان، عن علقمة بن مَرْثد، عن سُويد بن غَفْلة، قال: بينا أنا أسير بظهر النجف إذ لحقني رجل فطعنني بمخصرة من خلفي، فالتفت إليه، فقال: ما قولك في الشيخ؟ قلت: أي الشيوخ؟ قال: علي بن أبي طالب، قلت: إني أشهد أني أحبه بسمعي وبصري وقلبي ولساني، قال: وأنا أشهدك أني أبغضه بسمعي وبصري وقلبي ولساني. فسرنا حتى دخلوا الكوفة، فافترقنا، فمكث بعد ذلك سنين -أو قال: زمانا- قال: ثم إني لفي المسجد الأعظم إذ دخل رجل معتم يتصفح وجوه الخلق، فلم يزل ينظر فلم ير لحي أحمق من لحي حمدان، فجلس إليهم، فتحولت فجلست معهم، فقالوا: من أين أقبلت؟ قال: من عند أهل بيت نبيكم، قالوا: فماذا جئتنا به؟ قال: ليس هذا موضع ذلك، فوعدهم من الغد موعدا، فغدا وغدوت، فإذا قد أخرج كتتابا معه في أسفله طابع من رصاص، فدفعه إلى غلام، فقال له: يا غلام، اقرأه -وكان أميا لا يكتب- فقال الغلام: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب للمختار بن أبي عبيد، كتبه له وصي آل محمد، أما بعد فكذا وكذا. فاستفرغ القوم البكاء، فقال: يا غلام، ارفع كتابك حتى يفيق القوم، قلت: معاشر همدان، أنا أشهد بالله لقد أدركني هذا بظهر النجف، فقصصت عليهم قصته، فقالوا: أبيت والله إلا تثبيطا عن آل محمد وتزيينا لنعثل شقاق المصاحف، قال: قلت: معاشر همدان، لا أحدثكم إلا ما سمعته أذناي ووعاه قلبي من علي بن أبي طالب عليه السلام، سمعته يقول: لا تسموا عثمان شقاق المصاحف، فوالله ما شققها إلا عن ملإ منا أصحاب محمد، ولو وليتها لعملت فيها مثل الذي عمل، قالوا: آلله أنت سمعت هذا من علي؟ قلت: والله لأنا سمعته منه، قال: فتفرقوا عنه، فعند ذلك مال إلى العبيد، واستعان بهم وصنع ما صنع. قال أبو جعفر: واقتص الواقدي من خبر المختار بن أبي عبيد بعض ما ذكرنا، فخالف فيه من ذكرنا خبره، فزعم أن المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة، وأن مصعبا لما سار إليه فبلغه مسيره إليه بعث إليه أحمر بن شميط التجلي، وأمره أن يواقعه بالمذار، وقال: إن الفتح بالمذار، وإنما قال ذلك المختار لأنه قيل له إن رجلا من ثقيف يفتح عليه بالمذار فتح عظيم، فظن أنه هو، وإنما كان ذلك للحجاج بن يوسف في قتاله عبد الرحمن بن الأشعث. وأمر مصعب صاحب مقدمته عباد الحبطي أن يسير إلى جمع المختار فتقدم ويقدم معه عبيد الله بن علي بن أبي طالب، ونزل مصعب نهر البصريين على شط الفرات، وحفر هنالك نهرا فسمي نهر البصريين من أجل ذلك، قال: وخرج المختار في عشرين ألفا حتى وقف بإزائهم وزحف مصعب ومن معه، فوافوه مع الليل على تعبية، فأرسل إلى أصحابه حين أمسى: لا يبرحن أحد منكم موقفه حتى يسمع مناديا ينادي: يا محمد، فإذا سمعتموه فاحملوا. فقال رجل من القوم من أصحاب المختار: هذا والله كذاب على الله، وانحاز ومن معه إلى المصعب، فتمهل المختار حتى إذا طلع الفجر أمر مناديا فنادى: يا محمد، ثم حملوا على مصعب وأصحابه فهزموهم، فأدخلوه عسكره، فلم يزالوا يقاتلونهم حتى أصبحوا وأصبح المختار وليس عنده أحد، وإذا أصحابه قد وغلوا في أصحاب مصعب، فانصرف المختار منهزما حتى دخل قصر الكوفة، فجاء أصحاب المختار حين أصبحوا، فوقفوا مليًا فلم يروا المختار، فقالوا: قد قتل، فهرب منهم من أطاق الهرب، واختفوا في دور الكوفة، وتوجه منهم نحو القصر ثمانية آلاف لم يجدوا من يقاتل بهم، ووجدوا المختار في القصر، فدخلوا معه، وكان أصحاب المختار قتلوا في تلك الليلة من أصحاب مصعب بشرا كثيرا، فيهم عبد بن الأشعث، وأقبل مصعب حين أصبح حتى أحاط بالقصر، فأقام مصعب يحاصره أربعة أشهر يخرج إليهم في كل يوم فيقاتلهم في سوق الكوفة من وجه واحد، ولا يقدر عليه حتى قُتل المختار، فلما قتل المختار بعث من في القصر يطلب الأمان، فأبى مصعب حتى نزلوا على حكمه، فلما نزلوا على حكمه قتل من العرب سبعمائة أو نحو ذلك، وسائرهم من العجم، قال: فلما خرجوا أراد مصعب أن يقتل العجم ويترك العرب، فكلمه من معه فقالوا: أي دين هذا؟ وكيف ترجو النصر وأنت تقتل العجم وتترك العرب ودينهم واحد! فقدمهم فضرب أعناقهم. قال أبو جعفر: وحدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: لما قتل المختار شاور مصعب أصحابه في المحصورين الذين نزلوا على حكمه، فقال عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس وأشباههم ممن وترهم المختار: اقتلهم، وضجت ضبة، وقالوا: دم منذر بن حسان، فقال عبيد الله بن الحر: أيها الأمير، ادفع كل رجل في يديك إلى عشيرئه تمن عليهم بهم، فإنهم إن كانوا قتلونا فقد قتلناهم، ولا غنى بنا عنهم في ثغورنا، وادفع عبيدنا الذين في يديك إلى مواليهم فإنهم لأيتامنا وأراملنا وضعفائنا، يردونهم إلى أعمالهم، وأقتل هؤلاء الموالي، فإنهم قد بدا كفرهم، وعظم كبرهم، وقل شكرهم. فضحك مصعب وقال للأحنف: ما ترى يا أبا بحر؟ قال: قد أرادني زياد فعصيته -يعرض بهم- فأمر مصعب بالقوم جميعا فقتلوا، وكانوا ستة آلاف. فقال عقبة الأسدي: قتلتم ستة الآلاف صبرا ** مع العهد الموثق مكتفينا جعلتم ذمة الحَبَطي جسرا ** ذلولا ظهره للواطئينا وما كانوا غداة دُعُوا فغُرّوا ** بعهدهم بأول حائنينا وكنت أمرتهم لو طاوعوني ** بضرب في الأزقة مُصْلتينا وقتل المختار-فيما قيل- وهو ابن ست وستين سنة، لأربع عشرة خلت من شهر رمضان في سنة سبع وستين. فلما فرغ مصعب من أمر المختار وأصحابه، وصار إليه إبراهيم ابن الأشتر، وجّه المهلب بن أبي صفرة على الموصل والجزيرة وآذَربيجان وأرمينية وأقام بالكوفة. خبر عزل عبد الله بن الزبير أخاه المصعب وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير أخاه مصعب بن الزبير عن البصرة، وبعث بابنه حمزة بن عبد الله إليها، فاختلف في سبب عزله إياه عنها، وكيف كان الأمر في ذلك. فقال بعضهم في ذلك ما حدثني به عمر، قال: حدثني علي بن محمد قال: لم يزل المصعب على البصرة حتى سار منها إلى الحصار، واستخلف على البصرة عبيد الله بن معمر، فقتل المختار، ثم وفد إلى عبد الله بن الزبير فعزله وحبسه عنده، واعتذر إليه من عزله وقال: والله إني لايعلم أنك أحرى وأكفى من حمزة، ولكني رأيت فيه رأي عثمان في عبد الله بن عامر حين عزل أبا موسى الأشعري وولاه. وحدثني عمر، قال حدثني علي بن محمد، قال: قدم حمزة البصرة وإليا، وكان جوادا سخيا مخلطا، يجود أحيانا حتى لا يدع شيئا يملكه، ويمنع أحيانا ما لا يمنع مثله، فظهرت منه بالبصرة خفة وضعف، فيقال: إنه ركب يوما إلى فيض البصرة، فلما رآه قال: إن هذا الغدير إن رفقوا به ليكفينهم صيفهم، فلما كان بعد ذلك ركب إليه فوافقه جازرا، فقال: قد رأيت هذا ذات بوم، وظننت أن لن يكفيهم، فقال له الأحنف: إن هذا ماء يأتينا ثم يغيض عنا، وشخص إلى الأهواز، فلما رأى جبلها قال: هذا قُعَيقِعان -لموضع بمكة- فسمي الجبل قعيقعان، وبعث إلى مَردانْشاه فاستحثه بالخراج، فأبطأ به، فقام إليه بسيفه فضربه فقتله، فقال الأحنف: ما أحدّ سيف الأمير! حدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، قال: لما خطط حمزة بالبصرة وظهر منه ما ظهر، وهمّ بعبد العزيز بن بشر أن يضربه، كتب الأحنف إلى ابن الزبير بذلك، وسأله أن يعيد مصعبا. قال: وحمزة الذي عقد لعبد الله بن عمير الليثي على قتال النجدية بالبحرين. حدثني عمر قال: حدثنا علي بن محمد، قال: لما عزل ابن الزبير حمزة احتمل مالا كثيرا من مال البصرة، فعرض له مالك بن سمع، فقال: لا ندعك تخرج بأعطياتنا. فضمن له عبيد الله بن عبيد بن معمر العطاء، فكف، وشخص حمزة بالمال، فترك أباه وأتى المدينة، فأودع ذلك المال رجالا، فذهبوا به إلا يهوديا كان أودعه فوفى له، وعلم ابن الزبير بما صنع، فقال: أبعده الله، أردت أن أباهي به بني مروان فنكص. وأما هشام بن محمد فإنه ذكر عن أبي مخنف في أمر مصعب وعزل أخيه إياه عن البصرة ورده إياه إليها غير هذه القصة، والذي ذكر من ذلك عنه في سياق خبر حدثت به عنه، عن أبي المخارق الراسبي، أن مصعبا لما ظهر على الكوفة أقام بها سنة معزولا عن البصرة، عزله عنها عبد الله، وبعث ابنه حمزة، فمكث بذلك سنة، ثم إنه وفد على أخيه عبد الله بمكة، فرده على البصرة. وفيل: إن مصعبا لما فرغ من أمر المختار انصرف إلى البصرة وولى الكوفة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة. قال: وقال محمد بن عمر: لما قتل مصعب المختار ملك الكوفة والبصر ة. أخبار متفرقة وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير. وكان عامله على الكوفة مصعبا. وقد ذكرت اختلاف أهل السير في العامل على البصرة. وكان على قضاء الكوفة عبد الله بن عقبة بن مسعود، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وبالشام عبد الملك بن مروان. وكان على خراسان عبد الله بن خازم السلمي. ثم دخلت سنة ثمان وستين ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليلة فمن ذلك ما كان من رد عبد الله أخاه مصعبا إلى العراق أمير،ا وقد ذكرنا السبب في رد عبد الله أخاه مصعبا إلى العراق أميرا بعد عزله إياه، ولما رده عليها أميرا بعث مصعب الحارث بن أبي ربيعة على الكوفة أميرا، وذلك أنه بدأ بالبصرة مرجعه إلى العراق أميرا بعد العزل، فصار إليها. ذكر الخبر عن رجوع الأزارقة من فارس إلى العراق وفي هذه السنة كان مرجع الأزارقة من فارس إلى العراق حتى صاروا إلى قرب الكوفة، ودخلوا المدائن. ذكر الخبر عن أمرهم ومسيرهم ومرجعهم إلى العراق ذكر هشام عن أبي مخنف قال: حدثني أبو المخارق الراسبي، أن مصعبا وجه عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس أميرا، وكانت الأزارقة لحقت بفارس وكرمان ونواحي أصبهان بعد ما أوقع بهم المهلب بالأهواز، فلما شخص المهلب عن ذلك الوجه ووجه إلى الوصل ونواحيها عاملا عليها، وعمر بن عبيد الله بن معمر على فارس، انحطت الأزارقة مع الزبير بن الماحوز على عمر بن عبيد الله بفارس، فلقيهم بسابور، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم إنه ظفر بهم ظفرا بينا، غير أنه لم يكن بينهم كثير قتلى، وذهبوا كأنهم على حامية، وقد تركوا على ذلك المعركة. قال أبو مخيف: فحدثني شيخ للحي بالبصرة، قال: إني لأسمع قراءة كتاب عمر بن عبيد الله: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني لقيت الأزارقة التي مرقت من الدين واتبعت أهواءها بغير هدى من الله فقاتلتهم بالمسلمين ساعة من النهار أشد القتال. ثم إن الله ضرب وجوههم وأدبارهم، ومنحنا أكتافهم، فقتل الله منهم من خاب وخسر، وكلٌّ إلى خسران، فكتبت إلى الأمير كتابي هذا وأنا على ظهر فرسي في طلب القوم، أرجو أن يجُذَّهم الله إن شاء الله، والسلام. ثم إنه تبعهم ومضوا من فورهم ذلك حتى نزلوها إصطخر، فسار إليهم حتى لقيهم على قاطرة طَمَستان، فقاتلهم قتالا شديدا، وقُتل ابنه، ثم إنه ظفر بهم، فقطعوا قنطرة طمستان، وارتفعوا إلى نحو من أصفهان وكرمان، فأقاموا بها حتى اجتبروا وقووا، واستعدوا وكثروا، ثم أقبلوا حتى مرور بفارس وبها عمر بن عبيد الله بن معمر، فقطعوا أرضه من غير الوجه الذي كان فيه أخذوا على سابور، ثم خرجوا على أرجان، فلما رأى عمر بن عبيد الله أن قد قطعت الخوارج أرضه متوجهة إلى البصرة خشي ألا يحتملها له مصعب بن الزبير، فشمر في آثارهم مسرعا حتى أتى أرجان، فوجدهم حين خرجوا منها متوجهين قبل الأهواز، وبلغ مصعبا إقبالهم، فخرج فعسكر بالناس بالجسر الأكبر، وقال: والله ما أدري ما الذي أغنى عني أن وضعت عمر بن عبيد الله بفارس، وجعلت معه جندا أجري عليهم أرزاقهم في كل شهر، وأوفيهم أعطياتهم في كل سنة، وآمر لهم من المعاون في كل سنة بمثل الأعطيات، تقطع أرضه الخوارج إلي! وقد قطعت علته فأمددته بالرجال وقويتهم، والله لو قاتلهم ثم فر كان أعذر له عندي، وإن كان الفار غير مقبول العذر، ولا كريم الفعل. وأقبلت الخوارج وعليهم الزبير بن الماحوز حتى نزلوا الأهواز، فأتتهم عيونهم أن عمر بن عبيد الله في أثرهم، وأن مصعب بن الزبير قد خرج من البصرة إليهم، فقام فيهم الزبير فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن من سوء الرأي والحيرة وقوعكم فيما بين هاتين الشوكتين، ونهضوا بنا إلى عدونا نلقهم من وجه واحد. فسار بهم حتى قطع بهم أرض جوخى، ثم أخذ على النهروانات، ثم لزم شاطئ دجلة حتى خرج على المدائن وبها كردم بن مرشد بن نجبة الفزاري، فشنوا الغارة على أهل الدائن، يقتلون الولدان والنساء والرجال، ويبقرون الحبالى، وهرب كردم، فأقبلوا إلى سباط فوضعوا أسيافهم في الناس، فقتلوا أم ولد لربيعة بن ماجد، وقتلوا بُنانة ابنة أبي يزيد بن عاصم الأزدي، وكانت قد قرأت القرآن، وكانت من أجمل الناس، فلما غشوها بالسيوف قالت: ويحكم، هل سمعتم بأن الرجال كانوا يقتلون النساء! ويحكم، تقتلون من لا يبسط إليكم يدًا ولا يريد بكم شرا، ولا يملك لنفسه نفعا! أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين! فقال بعضهم: اقتلوها، وقال رجل منهم: لو أنكم تركتموها! فقال بعضهم: أعجبك جمالها يا عدو الله! قد كفرث وافتتنت، فانصرف الآخر عنهم وتركهم، فظننا أنه فارقهم، وحملوا عليها فقتلوها، فقالت رَيطة بنت يزيد: سبحان الله! أترون الله يرضى بما تصنعون! تقتلون النساء والصبيان ومن لم يذنب إليكم ذنبا! ثم انصرفت وحملوا عليها وبين يديها الرواغ بنت إياس بن شريح الهمداني، وهي ابنة أخيها لأمها، فحملوا عليها فضربوها على رأسها بالسيف، ويصيب ذباب السيف رأس الرواغ فسقطتا جميعا إلى الأرض، وقاتلهم إياس بن شريح ساعة، ثم صرع فوقع بين القتلى، فنزعوا عنه وهم يرون أنهم قد قتلوه، وصرع منهم رجل من بكر بن وائل يقال له: رزين بن المتوكل. فلما انصرفوا عنهم لم يمت غير بنانة بنت أبي يزيد، وأم ولد ربيعة بن ناجد، وأفاق سائرهم، فسقى بعضهم بعضا من الماء، وعصبوا جراحاتهم ثم استأجروا دواب، ثم أقبلوا نحو الكوفة. قال أبو مِخْنَف: فحدثني الرواع ابنة إياس، قالت: ما رأيت رجلا فط كان أجبن من رجل كان معنا وكانت معه ابنته، فلما غشينا ألقاها إلينا وهرب عنها وعنا، ولا رأينا رجلا قط كان أكرم من رجل كان معنا، ما نعرفة ولا يعرفنا، لما غُشينا قاتل دوننا حتى صرع بيننا، وهو رُزين بن المتوكل البَكري، وكان بعد ذلك يزورنا ويواصلنا. ثم إنه هلك في إمارة الحجاج، فكانت ورثته الأعراب، وكان من العباد الصالحين. قال هشام بن محمد -وذكره عن أبي مخنف- قال: حدثني أبي عن عمه أن مصعب بن الزبير كان بعث أبا بكر بن مخنف على إستان العال، فلما قدم الحارث بن أبي ربيعة أقصاه، ثم أقره بعد ذلك على عمله السنة الثانية، فلما قدمت الخوارج الدائن سرحوا إليه عصابة منهم، عليها صالح بن مِخراق، فلقيه بالكرخ فقاتله ساعة، ثم تنازلوا فنزل أبو بكر ونزلت الخوارج، فقُتل أبو بكر ويسار مولاه وعبد الرحمن بن أبي جِعال، ورجل من قومه، وانهزم سائر أصحابه، فقال سراقة بن مِرداس البارقي في بطن من الأزد: ألا يا لقومي للهموم الطوارق ** وللحدث الجاري بإحدى الصفائقِ ومقتل غِطريف كريم نِجارُهُ ** من المُقدِمين الذائدين الأصادق أتاني دوين الخف قتل ابن مخنف ** وقد غورت أولى النجوم الخوافق فقلت: تلقاك الإله برحمة ** وصلى عليك الله رب المشارق لحا الله قوما عَرَّدوا عنك بكرة ** ولم يصبروا للامعات البوارق تولوا فأجلوا بالضحى عن زعيمنا ** وسيدنا في المأزق المتضايق فأنت متى ما جئتنا في بيوتنا ** سمعت عويلا من عًوان وعاتق يبكين محمود الضريبة ماجدا ** صبورا لدى الهيجاء عند الحقائق لقد أصبحت نفسي لذاك حزينة ** وشابت لِما حمّلتُ في مفارقي قال أبو مخنف: فحدثني حدرة بن عبد الله الأزدي، والنضر بن صالح العبسي، وفضيل بن خديج، كلهم أخبرنيه أن الحارث بن أبي ربيعة الملقب بالقباع أتاه أهل الكوفة، فصاحوا إليه وقالوا له: اخرج فإن هذا عدو لنا قد أظل علينا ليست له تقية، فخرج وهو يكد كدا حمى نزل النخيلة، فأقام بها أباما، فوثب إليه إبراهيم بن الأشتر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإنه سار إلينا عدو ليست له تقية، يقتل الرجل والمرأة والمولود، ويخيف السبيل، ويخرب البلاد، فانهض بنا إليه، فأمر بالرحيل - فخرج فنزل دير عبد الرحمن، فأقام فيه حتى دخل إليه شبث بن ربعي، فكلمه بنحو مما كلمه به ابن الأشتر، فارتحل ولم يكد، فلما رأى الناس بطء سيره رجزوا به فقالوا: سار بنا القطاع سيراه نكرا ** يسير يوما ويقيم شهرا فأشخصوه من ذلك المكان، فكلما نزل بهم منزلا أقام بهم حتى يضج الناس به من ذلك، ويصيحوا به حول فسطاطه، فلم يبلغ الصراع إلا في بضعة عشر يوما، فأتى الصراة وقد انتهى إليها طلائع العدو وأوائل الخيول، فلما أتتهم العيون بأنه قد أتاهم جماعة أهل المصر قطعوا الجسر بينهم وبين الناس، وأخذ الناس يرتجزون: إن القاع سار سيرا ملسا ** بين دبيرى ودَباها خمسا قال أبو مخنف: وحدثني يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه أن رجلا من الربيع كان به لمم، وكان بقرية يقال لها جوبر عند الخرارة، وكان يدعى سماك بن يزيد، فأتت الخوارج قريته فأخذوه وأخذوا ابنته، فقدموا ابنته فقتلوها، وزعم لي أبو الربيع السلولي أن اسم ابنته أم يزيد، وأنها كانت تقول لهم: يا أهل الإسلام، إن أبي مصاب فلا تقتلوه، وأما أنا فإنما أنا جارية، والله ما أتيت فاحشة قط، ولا آذيت جارة لي قط، ولا تطلعت ولا تشرفت قط. فقدموها ليقتلوها، وأخذت تنادي: ما ذنبي ما ذنبي! ثم سقطت مغشيا عليها أو ميتة، ثم قطعوها بأسيافهم. قال أبو الربيع: حدثتني بهذا الحديث ظئر لها نصرانية من أهل الخورنق كانت معها حين قتلت. قال أبو مخنف: حدثني يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، أن الأزارقة جاءت وسماك بن يزيد معهم حتى أشرفوا على الصراة. قال: فاستقبل عسكرنا، فرأى جماعة الناس وكثرتهم، فأخذ ينادينا ويرفع صوته: اعبروا إليهم فإنهم فل خبيث، فضربوا عند ذلك عنقه وصلبوه ونحن ننظر إليه. قال. فلما كان الليل عبرت إليه أنا ورجل من الحي. فأنزلناه فدفناه. ليال أبو مخنف: حدثني أبي أن إبراهيم بن الأشتر قال للحارث بن أبي ربيعة: اندب معي الناس حتى أعبر إلى هؤلاء الأكلب، فأجيئك برؤوسهم الساعة، فقال شبث بن ربعي وأسماء بن خارجة ويزيد بن الحارث ومحمد بن الحارث ومحمد بن عمير: أصلح الله الأمير! دعهم فليذهبوا، لا تبدأهم، قال: وكأنهم حسدوا إبراهيم بن الأشتر. قال أبو مخنف: وحدثني حصيرة بن عبد الله وأبو زهير العبسي أن الازارقة لما انتهوا إلى جسر الصلاة فرأوا أن جماعة أهل المصر قد خرجوا إليهم، قطعوا الجسر، واغتنم ذلك الحارث، فتحبس. ثم إنه جلس للناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن أول القتال الرميا بالنبل، ثم إشراع الرماح، ثم الطعن بها شزرا، ثم السلة آخر ذلك كله. قال: فقام اليه رجل فقال: قد أحسن الأمير أصلحه الله الصفة، ولكن حتام نصنع هذا وهذا البحر بيننا وبين عدونا! مر بهذا الجسر فليعد كما كان، ثم اعبر بنا إليهم، فإن الله سيريك فيهم ما تحبه، فأمر بالجسر فأعيد، ثم عبر الناس إليهم فطاروا حتى انتهوا إلى المدائن، وجاء المسلمون حتى انتهوا إلى المدائن، وجاءت خيل لهم فطاردت خيلا للمسلمين طردا ضعيفا عند الجسر. ثم إنهم خرجوا منها فاتبعهم الحارث بن أبي ربيعة عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، فإذا وقعوا فى أرض البصرة خلاهم فاتبعهم حتى إذا خرجوا من أرض الكوفة ووقعوا إلى أصبهان انصرف عنهم ولم يقاتلهم ولم يكن بينه وبينهم قتال، ومضوا حتى نزلوا بعتاب بن ورقاء بحي، فأقاموا عليه وحاصروه، فخرج إليهم فقاتلهم فلم يطقهم، وشدوا على أصحابه حتى دخلوا المدينة، وكانت أصبهان يومئذ طعمة لإسماعيل بن طلحة بن مصعب بن الزبير، فبعث عليها عتابا، فصبر لهم عتاب، وأخذ يخرج إلبهم في كل يوم فيقاتلهم على باب المدينة، ويرمرن من السور بالنبل والنشاب والحجارة، وكان مع عتاب رجل من حضرموت يقال له أبو هريرة بن شريح، فكان يخرج مع عتاب، وكان شجاعا، فكان يحمل عليهم ويقول: كيف ترون يا كلاب النار ** شد أبي هُريرة الهَرّار يهِرُّكم بالليل والنهار ** يا ابن أبي الماحوز والأشرار كيف تُرى جَيَّ على المِضمار فلما طال ذلك على الخوارج من قوله كمن له رجل من الخوارج يظنون أنه عبيدة بن هلال، فخرج ذات يرم فصنع كما كان يصنع، ويقول ما كان يقول، إذ حمل عليه عبيدة بن هلال فضربه بالسيف ضربة على حبل عاتقه فصرعه، وحمل أصحابه عليه فاحتملوه فأدخلوه وداووه، وأخذت الأزارقة بعد ذلك تناديهم يقولون: يا أعداء الله، ما فعل أبو هريرة الهرار؟ فينادونهم: يا أعداء الله، والله ما عليه من بأس، ولم يلبث أبو هريرة أن برئ، ثم خرج عليهم بعد، فأخذوا يقولون: يا أعداء الله، أما والله لقد رجونا أن نكون قد أزرناك أمك، فقال لهم: يا فساق، ما ذكركم أمي! فأخذوا يقولون: إنه ليغضب لأمه، وهو آتيها عاجلا. فقال له أصحابه: ويحك إنما يعنون النار، ففطن فقال: يا أعداء الله، ما أعقكم بأمكم حين تنتفون منها! إنما تلك أمكم، وإليها مصيركم. ثم إن الخوارج أقامت عليهم أشهرا حتى هلك كُراعهم ونفدت أطعمتهم، واشتد عليهم الحصار، وأصابهم الجهد الشديد، فدعاهم عتاب بن ورقاء فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإنه قد أصابكم من الجهد ما قد ترون، فوالله إن بقي إلا أن يموت أحدكم على فراشه فيجيء أخوه فيدفنه إن استطاع، وبالحري أن يضعف عن ذلك، ثم يموت هو فلا مجد من يدفنه، ولا يصلي عليه، فاتقوا الله، فوالله ما أنتم بالقليل الذين تهون شوكتهم على عدوهم، وإن فيكم لفرسان أهل المصر، وإنكم لصلحاء. من أنتم منه! اخرجوا بنا إلى هؤلاء القوم وبكم حياة وقوة قبل ألا يستطيع رجل منكم أن يمشي إلى عدوه من الجهد، وقبل ألا يستطيع رجل أن يمتنع من امرأة لو جاءته، فقاتل رجل عن نفسه وصبر وصدق، فوالله إني لأرجو إن صدقتموه أن يظفركم الله بهم، وأن يظهركم عليهم. فناداه الناس من كل جانب؟ وفقت وأصبت، اخرج بنا إليهم، فجمع إليه الناس من الليل، فأمر لهم بعشاء كثير، فعشي الناس عنده، ثم إنه خرج بهم حين أصبح على راياتهم، فصبحهم في عسكرهم وهم آمنون من أن يؤتوا في عسكرهم، فشدوا عليهم في جانبه، فضاربوهم فاخلوا عن وجه العسكر حتى انتهوا إلى الزبير بن الماحوز، فنزل في عصابة من أصحابه فقاتل حتى قتل، وانحازت الأزارقة إلى قطري، فبايعوه، وجاء عتاب حتى دخل مدينته، وقد أصاب من عسكرهم ما شاء، وجاء قطري في أثره كأنه يريد أن يقاتله، فجاء حتى نزل في عسكر الزبير بن الماحوز. فتزعم الخوارج أن عينا لقطري جاءه فقال: سمعت عتابا يقول إن هؤلاء القوم إن ركبوا بنات شحاج، وقادوا بنات صهال، ونزلوا اليوم أرضا وغدا أخرى، فبالحري أن يبقوا، فلما بلغ ذلك قطريا خرج فذهب وخلاهم. قال أبو مخنف: قال أبو زهير العبسي وكان معهم: خرجنا إلى قطري من الغد مشاة مصلتين بالسيوف، قال: فارتحلوا والله فكان آخر العهد بهم. قال: ثم ذهب قطري حتى أتى ناحية كرمان فاقام بها حتى اجتمعت إليه جموع كثيرة، وأكل الأرض واجتبى المال وقوي، ثم أقبل حتى أخذ في أرض أصبهان. ثم إنه خرج من شعب ناشط إلى أيذج، فاقام بأرض الأهواز والحارث بن أبي ربيعة عامل المصعب بن الزبير على البصرة، فكتب إلى مصعب يخبره أن الخوارج قد تحدرت إلى الأهواز، وأنه ليس لهم إلا المهلب، فبعث إلى المهلب وهو على الموصل والجزيرة. فأمره بقتال الخوارج والمسير إليهم، وبعث إلى عمله إبراهيم بن الأشتر، وجاء المهلب حتى قدم البصرة، وانتخب الناس، وسار بمن أحب، ثم توجه نحو الخوارج، وأقبلوا اليه حتى التقوا بسولاف، فاقتتلوا بها ثمانية أشهر أشد قتال رآه الناس، لا يُنقع بعضهم لبعض من الطعن والضرب ما يصد بعضهم عن بعض. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان القحط الشديد بالشام حتى لم يقدروا من شدته على الغزو. وفيها عسكر عبد الملك بن مروان ببطنان حبيب من أرض قنسرين، فمطروا بها، فكثر الوحل فسموها بطنان الطين، وشتا بها عبد الملك، ثم انصرف منها إلى دمشق. وفيها قتل عبيد الله بن الحر. ذكر الخبر عن مقتل عبد الله بن الحر ذكر الخبر عن مقتله والسبب الذي جر ذلك عليه روى أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، أن عبيد الله بن الحر كان رجلا من خيار قومه صلاحا وفضلا وصلاة واجتهادا، فلما قتل عثمان وهاج ذلك الهيج بين علي ومعاوية، قال: أما إن الله ليعلم أني أحب عثمان، ولأنصرنه ميتا. فخرح إلى الشام، فكان مع معاوية وخرج مالك بن مسمع إلى معاوية على مثل ذلك الرأي في العثمانية، فأقام عبيد الله عند معاوية، وشهد معه صفين، ولم يزل معه حتى قُتل علي عليه السلام، فلما قتل علي قدم الكوفة فأتى إخوانه ومن قد خف في الفتنة فقال لهم: يا هؤلاء، ما أرى أحدا ينفعه اعتزاله، كنا بالشام، فكان من أمر معاوية كيت وكيت. فقال له القوم: وكان من أمر علي كيت وكيت، فقال: يا هؤلاء، إن تمكننا الأشياء فاخلعوا عذركم، واملكوا أمركم، قالوا: سنلتقي، فكانوا يلتقون على ذلك. فلما مات معاوية هاج ذلك الهيج في فتنة ابن الزبير، قال: ما أرى قريشا تنصف، أين أبناء الحرائر! فأتاه خليع كل قبيلة، فكان معه سبعمائة فارس، فقالوا: مرنا بأمرك، فلما هرب عبيد الله بن زياد ومات يزيد بن معاوية، قال عبيد الله بن الحر لفتيانه: قد بين الصبح لذي عينين، فإذا شئتم! فخرج إلى المدائن فلم يدع مالا قدم من الجبل للسلطان إلا أخذه، فأخذ منه عطاءه وأعطية أصحابه، ثم قال: إن لكم شركاء بالكوفة في هذا المال قد استوجبوه، ولكن تعجلوا عطاء قابل سلفا، ثم كتب لصاحب المال براءة بما قبض من المال، ثم جعل يتقصى الكور على مثل ذلك. قال: قلت: فهل كان يتناول أموال الناس والتجار؟ قال لي: إنك لغير عالم بأبي الاشرس، والله ما كان في الأرض عربي أغير عن حرة ولا أكف عن قبيح وعن شراب منه، ولكن إنما وضعه عند الناس شعره، وهو من أشعر الفتيان. فلم يزل على ذلك من الأمر حتى ظهر المختار، وبلغه ما يصنع بالسواد، فأمر بامرأته أم سلمة الجعفية فرجعت، وقال: والله لأقتلنه أو لأقتلن أصحابه، فلما بلغ ذلك عبيد الله بن الحر أقبل في فتيانه حتى دخل الكوفة ليلا، فكسر باب السجن، وأخرج امرأته وكل امرأة ورجل كان فيه، فبعث إليه المختار من يقاتله، فقاتلهم حتى خرج من المصر، فقال حين أخرج امرأته من السجن: ألم تعلمي يا أم توبة أنني ** أنا الفارس الحامي حقائق مَذحِجِ وأني صَبَحت السجن في سورة الضحى ** بكل فتى حامي الذمار مُدجّج فما إن برحنا السجن حتى بدا لنا ** جبين كقرن الشمس غير مُشنّج وخد أسيل عن فتاة حَييّة ** إلينا سقاها كل دان مثجّج فما العيش إلا أن أزورك آمنا ** كعادتنا من قبل حربي ومَخرجي وما أنتِ إلا همة النفس والهوى ** عليك السلام من خليط مُسَحّج وما زلت محبوسا لحبسك واجما ** وإني بما تلقين من بعده شَجِ فبالله هل أبصرت مثلي فارسا ** وقد ولجوا في السجن من كل مولج ومثلي يحامي دون مثلك إنني ** أشُدُّ إذا ما غمرة لم تفرّج أضارقهم بالسيف عنك لترجعي ** إلى الأمن والعيش الرفيع المخرفج إذا ما أحاطوا بي كررت عليهم ** ككر أبي شبلين في الخيس مُحرج دعوت إلى الشاكري ابن كامل ** فولى حثيثا رفضه لم يُعرّج وإن هتفوا باسمي عَطَفْتُ عليهم ** خيولَ كرامِ الضرب أكثرُها الوجي فلا غرو إلا قول سلمى ظعينتي ** أما أنت يا ابن الحر بالمتحرّج دع القوم لا تقتلهم وانجُ سالما ** وشمر هداك الله بالخيل فاخرج واني لأرجو يا ابنة الخير أن أُرى ** على خير أحوال المؤمل فارتجي ألا حبذا قولي لأحمر طيء ** ولابن خبيب قد دنا الصبح فادلج وقولي لهذا سر وقولي لذا ارتحل ** وقولي لذا من بعد ذلك أسرج وجعل يعبث بعمال المختار وأصحابه. ووثبت همدان مع المختار فأحرقرا داره، وانتهبوا ضيعته بالجُبّة والبُداة، فلما بلغه ذلك سار إلى ماه إلى ضياع عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، فأنهبها وأنهب ما كان لهمدان بها، ثم أقبل إلى السواد فلم يدع مالا لهمداني إلا أخذه. ففي ذلك يقول: وما ترك الكذاب من جل مالنا ** ولا الزرق من همدان غير شريدِ أفي الحق أن تنهب ضياعي شاكر ** وتأمن عندي ضيعة ابن سعيد! ألم تعلمي يا أم توبة أنني ** على حدثان الدهر غير بليد أشد حيازيمي لكل كريهة ** وإني على ما ناب جد جليد فإن لم أصبح شاكرا بكتيبة ** فعالجت بالكفين غُل حديد هم هدموا داري وقادوا حليلتي ** إلى سجنهم والمسلمون شهودي وهم أعجلوها أن تشد خمارها ** فيا عجبا هل الزمان مقيدي فما أنا بابن الحر إن لم أرُعْهُمُ ** بخيل تعادي بالكماة أسود وما جَبُنَتْ خيلي ولكن حَملتُها ** على جَحفل ذي عُدّة وعديد وهي طويلة. قال: وكان يأتي الدائن فيمر بعمال جُوخَى فيأخذ ما معهم من الأموال، ثم يميل إلى الجبل، فلم يزل على ذلك حتى قتل المختار، فلما قتل المختار، قال الناس لمصعب في ولايته الثانية: إن ابن الحر شاق ابن زياد والمختار، ولا نأمنه أن يثب السواد كما كان يفعل، فحبسه مصعب فقال ابن الحر: من مبغ الفتيان أن أخاهم ** أتى دونه باب شديد وحاجبه بمنزلة ما كاد يرضى بمثلها ** إذا قام عنه كبول تجاوبه على الساق فرق الكعب أسود صامت ** شديد يداني خطوه ويقاربه وما كاد ذا من عظم جرم جنيته ** ولكن سعى الساعي بما هو كاذبه وقد كلاد في الأرض العريضة مسلك ** وأي امرئ ضاقت عيه مذاهبه وفي الدهر والأيام للمرء عبرة ** وفيما مضى إن ناب يوما نوائبه فكلم عبيد الله قوما من مذحج أن ياتوا مصعبا في أمره، وأرسل إلى وجوههم، فقال: ائتوا مصعبا فكلموه في أمري ذاته، فإنه حبسني على غير جرم، سعى بي قوم كذبة وخوفوه ما لم أكن لأفعله، وما لم يكن من شأني. وأرسل إلى فتيان من مذحج وقال: البسوا السلاح، وخذوا عدة القتال، فقد أرسك قوما إلى مصعب يكلمونه في أمري، فأقيموا بالباب، فإن خرج القوم وقد شفعهم فلا تعرضوا لأحد، وليكن سلاحكم مكفرا بالثياب. فجاء قوم من مذجح فدخلوا على مصعب فكلموه فشفعهم فاطلقه، وكان ابن الحر قال لأصحابه: إن خرجوا ولم يشفعهم فكابروا السجن فإني أعينكم من داخل، فلما خرج ابن الحر قال لهم: أظهروا السلاح، فأظهروه، ومضى لم يعرض له أحد، فأتى منزله، وندم مصعب على إخراجه، فاظهر ابن الحر الخلاف، وأتاه الناس يهنؤنه، فقال: هذا الأمر لا يصلح ألا لمثل خلفائكم الماضين، وما نرى لهم فينا ندا ولا شبيها فنلقي إليه أزمتنا ونمحضه نصيحتنا، فإن كان إنما هو مَن عَزَّ بَزَّ، فعلام نعقد لهم في أعناقنا بيعة، وليسوا بأشجع منا لقاة ولا أعظم منا غناء، وقد عهد إلينا رسول الله ﷺ ألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وما رأينا بعد الأربعة الماضين إماما صالحا ولا وزيرا تقيا. كلهم عاص مخالف، قوي الدنيا، ضعيف الآخرة؟ فعلام تستحل حرمتنا، ونحن أصحاب النخيلة والقادسية وجلولاء ونهاوند! نلقى الأسنة بنحورنا والسيوف بجباهنا، ثم لا يعرف لنا حقنا وفضلنا، فقاتلوا عن حريمكم، فاي الأحمر ما كان فلكم فيه الفضل، وإني قد قلبت ظهر المجن، وأظهرت لهم العداوة، ولا قوة إلا بالله. وحاربهم فأغار فأرسل إليه مصعب سيف بن هانئ المعادي، فقال له: إن مصعبا يعطيك خراج بادوريا على أن تبايع وتدخل في طاعته، قال: أوليس لي خراج بادوريا وغيرها،لست قابلا شيثا ولا آمنهم على شيء، ولكني أراك يا فتى- وسيف يومئذ حدث- حدثا، فهل لك أن تتبعني وأموّلُك! فأبى عليه، فقال ابن الحر حين خرج من الحبس: لا كوفة أمي ولا بصرة أبي ** ولا أنا يثنيني عن الرحلة الكسل قال أبو الحسن: يروى هذا البيت لسحيم بن وثيل الرياحي فلا تحسبني ابن الزبير كناعس ** إذا حل أغفى أو يقال له ارتحل فإن لم أزرك الخيل تردي عوابسا ** بفرسانها لا أُدْعَ بالحازم البطل وإن لم تر الغارات من كل جانب ** عليك فتندم عاجلا أيها الرجل فلا وضعت عندي حصان قناعها ** ولا عشتُ إلا بالأماني والعلل وهي طويلة. فبعث مصعب الأبرد بن قرة الرياحي في نفر، فقاتله فهزمه ابن الحر، وضربه ضربة على وجهه، فبعث إليه مصعب حريث بن زيد -أو يزيد- فبارزه فقتله عبيد الله بن الحر، فبعث إليه مصعب الحجاج بن جارية الخثعمي ومسلم بن عمرو، فلقياه بنهر صرصر، فقاتلهم فهزمهم، فأرسل إليه مصعب قوما يدعونه إلى أن يؤمنه ويصله، ويوليه أي بلد شاء، فلم يقبل، وأتى نرسي ففر دهقانها ظيزجشنس بمال الفلوجة، فتبعه ابن الحر حتى مر بعين التمر وعليها بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، فتعوذ بهم الدهقان، فخرجوا إليه فقاتلوه -وكانت خيل بسطام خمسين ومائة فارس- فقال يونس بن هاعان الهمداني من خيوان، ودعاه ابن الحر إلى المبارزة: شر دهر آخره، ما كنت أحسبني أعيش حتى يدعوني إنسان إلى المبارزة! فبارزه فضربه ابن الحر ضربة أثخنته، ثم اعتنقا فخرا جميعا عن فرسيهما، وأخذ ابن الحر عمامة يونس وكتفه بها ثم ركب، ووافاهم الحجاج بن حارثة الخثعمي، فحمل عليه الحجاج فأسره أيضا عبيد الله، وبارز بسطام بن مصقلة المجشر، فاضطربا حتى كره كل واحد منهما صاحبه وعلاه بسطام، فلما رأى ذلك ابن الحر حمل على بسطام واعتنقه بسطام، فسقطا إلى الأرض، وسقط ابن الحر على صدر بسطام فأسره، وأسر يومئد ناسا كثيرا، فكان الرجل يقول: أنا صاحبك يوم كذا، ويقول الآخر: أنا نازل فيكم، ويمت كل واحد منهم بما يرى أنه ينفعه، فيخلي سبيله، وبعث فوارس من أصحابه عليهم دلهم المرادي يطلبون الدهقان، فأصابوه، فأخذوا المال قبل القتال، فقال ابن الحر: لو أن لي مثل جرير أربعه ** صبحت بيت المال حتى أجمعه ولم يهلني مصعب ومن معه ** نعم الفتى ذلكم ابن مشجعه ثم إن عبيد الله أتى تكريت، فهرب عامل المهلب عن تكريت، فأقام عبيد الله يجبي الخراج، فوجه إليه مصعب الأبرد بن قرة الرياحي والجون بن كعب الهمداني في ألف، وأمدهما المهلب بيزيد بن الغفل في خمسمائة، فقال رجل من جعفى لعبيد الله: قد أتاك عدد كئير فلا تقاتلهم، فقال: يخوفني بالقل قومي وإنما ** أموت إذا جاء الكتاب المؤجل لعل القنا تدني بأطرافها الغنى ** فنحيا كراما أو نكر فنقتل فقال للمجشر ودفع إليه رايته، وقدم معه دلهما المرادي، فقاتلهم يومين وهو في ثلائمائة، فخرج جرير بن كريب، وقتل عمرو بن جندب الأزدي وفرسان كثير من فرسانه، وتحاجزوا عند المساء، وخرج عبيد الله من تكريت فقال لأصحابه: إني سائر بكم إلى عبد الملك بن مروان، فتهيئوا، وقال: إني أخاف أن أفارق الحياة ولم أذعر مصعبا وأصحابه، فارجعوا بنا إلى الكوفة. قال: فسار إلى كسكر فنفى عاملها، وأخذ بيت مالها، ثم أتى الكوفة فنزل لحام جرير، فبعث إليه مصعب عمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتله، فخرج إلى دير الأعور، فبعث إليه مصعب حجار بن أبجر، فانهزم حجار، فشتمه مصعب ورده، وضم إليه الجون بن كعب الهمداني وعمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتلوه بأجمعهم، وكثرت الجراحات في أصحاب ابن الحر وعقرت خيولهم، وجرح المجشر، وكان معه لواه ابن الحر، فدفعه إلى أحمر طيء، فانهزم حجار بن أبجر ثم كر، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى أمسوا، فقال ابن الحر: لو أن لي مئل الفتى المجشر ** ثلاثة بَيَّتُهُم لا أمتري ساعدني ليلة دير الأعور ** بالطعن والضرب وعند المعبر لطاح فيها عمر بن معمر وخرج ابن الحر من الكوفة، فكتب مصعب إلى يزيد بن الحارث بن رؤيم الشيباني -وهو بالمدائن- يأمره بقتال ابن الحر، فقدم ابنه حوشبا فلقيه بباجسري، فهزمه عبيد الله وقُتل فيهم، وأقبل ابن الحر فدخل المدائن، فتحصنوا، فخرح عبيد الله فوجه إليه الجون بن كعب الهمداني وبشر بن عبد الله الأسدي، فنزل الجون بحولايا، وقدم بشر إلى تامرا فلقي ابن الحر، فقتله ابن الحر وهزم أصحابه، ثم لقي الجون بن كعب بحولايا، فخرج إلبه عبد الرحمن بن عبد الله، فحمل عليه ابن الحر فطعنه فقتله وهزم أصحابه، وتبعهم، فخرج إليه بشير بن عبد الرحمن بن بشير العجلي، فالتقوا بسورا فاقتتلوا قتالا شديدا، فانحاز بشير عنه، فرجع إلى عمله، وقال: قد هزمت ابن الحر، فبلغ قوله مصعبا فقال: هذا من الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا. وأقام عبيد الله في السواد يغير ويجبي الخراج، فقال ابن الحر في ذلك: سلو ابن رؤيم عن جلادي وموقفي ** بديوان كسرى لا أوليهمُ ظهري أكر عليهم معلما وتراهمُ ** كمعزى تحنى خشية الذئب بالصخرِ ولهم في حصن كِسرى بن هُرْمُزٍ ** بمشحوذة بيض وخطية سُمر فأجزيتهم طعا وضربا تراهم ** يلوذون نما موهنًا بذرا القَصْر يلوذون مني رهبة ومخافة ** لواذًا كما لاذ الححائم من صَقْر ثم إن عبيد الله بن الحر -فيما ذكر- لحق بعبد الملك بن مروان، فلما صار إليه وجهه في عشرة نفر نحو الكوفة، وأمره بالسير نحوها حتى تلحقه الجنود، فسار بهم، فلما بلغ الأنبار وجّه إلى الكوفة من يخبر أصحابه بقدومه، ويسألهم أن يخرجوا إليه، فبلغ ذلك القيسية، فأتوا الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة عامل ابن الزبير على الكوفة، فسالوه أن يبعث معهم جيشا، فوجه معهم، فلما لقوا عبيد الله قاتلهم صاعة، ثم غرقت فرسه، وركب معبرا فوثب عليه رجل من الأنباط فأخذ بعضديه وضربه الباقون بالمرادي، وصاحوا إن هذا طلبة أمير المؤمنين، فاعتنقا فغرقا، ثم استخرجوه فجزوا رأسه، فبعثوا به إلى الكوفة ثم إلى البصرة. قال ابو جعفر: وقد قيل في مقتله غير ذلك من القول، قبل: كان سبب مقتل عبيد الله بن الحر أنه كان يغشى بالكوفة مُصعبا، فرآه يقدم عليه أهل البصرة، فكتب إلى عبد الله بن الزبير -فيما ذكر- قصيدة يعاتب بها مصعبا ويخوفه مسيره إلى عبد الملك بن مروان، يقول فيها: أبلغ أمير المؤمنين رسالة ** فلست على رأي قبيح أواربُهْ أفي الحق أن أجفى ويَجعل مصعب ** وزيريه من كنت فيه أحاربه فكيف وقد أبليتكم حق بيعتي ** وحقي يُلوى عندكم وأطالبه وأبليتكم ما لا يضيع مثله ** وآسيتكم والأمر صعب مراتبه فلما استنار الملك وانقادت العدا ** وأدرك من مال العراق رغائبه جفا مصعب عني ولوكان غيره ** لأصبح فيما بيننا لا أعاتبه لقد رابني من مصعب ان مصعبا ** أرى كل ذي غش لثا هو صاحبه وما أنا إن حَلّأتموني بوارد ** على كدر قد غُصَّ بالصفو شاربه وما لامرئ إلا الذي الله سائق ** إليه وما قد خط في الزبر كاتبه إذا قمت عند الباب أدخِلَ مُسلمٌ ويمنعني أن أدخل الباب حاجبُه وهي طويلة. وقال لمصعب وهو في حبسه، وكان قد حبس معه عطية بن عمرو البكري، فخرج عطية، فقال عبيد الله: أقول له صبرًا عَطيُّ فإنما ** هو السجن حتى يجعل الله مخرجا أرى الدهر لي يومين يوما مطردا ** شريدا ويوما في الملوك متوّجا أتَطعَنُ في دبني غداة أتيتُكم ** وللدين تُدني الباهلي وحَشْرَجا! ألم تر أن الملك قد شين وجهه ** ونَبْعُ بلاد الله قد صار عَوْسَجَا! وهي طويلة. وقال أيضا يعاتب مصعبا في ذلك، ويذكر له تقريبه سويد بن منجوف، وكان سويد خفيف اللحية: بأي بلاء أم بأية نعمة ** تَقدَّمُ قبلي مسلمٌ والمهلّبُ ويدعى ابن منجوف أمامي ** كأنه خصي أتى للماء والعَير يَسرُبُ وشيخ تميم كالثغامة رأسُه ** وعيلان عنا خائف مترقب جعلت قصور الأزد ما بين منبجٍ ** إلى الغاف من وادي عُمان تصوّب بلاد نفى عنها العدوَّ سيوفنا ** وصُفرة عنها نازحُ الدار أجنب وقال قصيدة يهجو فيها قيس عَيلان، يقول فيها: أنا ابن بني قيس فإن كنت سائلا ** بقيس تجدهم ذروة في القبائل ألم تر قيسا قيس عيلان بَرَقَعَت ** لحاها وباعت نَبلَها بالمغازل وما زلت أرجو الأزد حتى رأيتُها ** تُقَصِّرُ عن بنيانها المتطاول فكتب زُفَر بن الحارث إلى مصعب: قد كفيتك قتال ابن الزرقاء وابن الحر يهجو قيسا. ثم إن نفرا من بني سليم أخذوا ابن الحُرّ فأسروه، فقال: إني إنما قلت: ألم تر قيسا قيس عيلان أقبلت ** إلينا وسارت بالقَنا والقنابل فقتله رجل منهم يقال له عياش، فقال زفر بن الحارث: لما رأيتُ الناس أولاد علة ** وأغرق فينا نَزغةً كلُّ قائلِ تكلم عنا مَشيُنا بسيوفنا ** إلى الموت واستنشاط حبل المراكل فلو يَسألُ ابنُ الحُرِّ أُخبِرَ أنها ** يمانية لا تُشتَرى بالمغازل وأُخبر أنا ذاتُ علمٍ سيوفُنا ** بأعناقِ ما بين الطُّلى والكواهل وقال عبد الله بن هَمّام: ترنمت يا بنَ الحر وحدك خاليا ** بقول امرئ نَشوان أو قول ساقِطِ أتذكر قوما أوجعتك رماحهم ** وذبوا عن الأحساب عند المآقط وتبكي لِما لاقت ربيعة منهم ** وما أنت في أحساب بكر بواسط فهلّا بجعفي طَلبتَ ذُحُولَها ** ورهطك دُنيا في السنين الفوارط تركناهم يوم الثَّري أذلة ** يلوذون من أسيافنا بالعرافط وخالطكم يوم النخيل بجمعه ** عُميرٌ فما استبشرتم بالمُخالِط ويوم شراحيلٍ جدعنا أنوفكم ** وليس علينا يوم ذاك بقاسط ضربنا بحد السيف مفرِق رأسه ** وكان حديثا عهدُه بالمواشط فإن رغمتْ من ذاك آنُفُ مَذحجٍ ** فرغما وسخطا للأنوف السواخط أخبار متفرقة قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وافت عرفات أربعة ألوية. قال محمد بن عمر: حدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: وقفت في سنة ثمانية وستين بعرفات أربعة ألوية: ابن الحنفية في أصحابه في لواء قام عند جبل الشاة، وابن الزبير في لواء، فقام مقام الإمام اليوم، ثم تقدم ابن الحنفية بأصحابه حتى وقفوا حذاء ابن الزبير، ونجدة الحروري خلفهما، ولواء بني أمية عن يسارهما، فكان أول لواء انفض لواء محمد بن الحنفية، ثم تبعه نجدة، ثم لواء بني أمية، ثم لواء ابن الزبير، واتبعه الناس. قال محمد: حدثني ابن نافع، عن أبيه، قال: كان ابن عمر لم يدفع تلك العشية إلا بدفعة ابن الزبير، فلما أبطأ ابن الزبير وقد مضى ابن الحنفية ونجدة وبنو أمية قال ابن عمر: ينتظر ابن الزبير أمر الجاهلية، ثم دفع، فدفع ابن الزبير على أثره. قال محمد: حدثني هشام بن عمارة، عن سعيد بن محمد بن جبير، عن أبيه، قال: خفت الفتنة، فمشيت إليهم جميعا، فجئت محمد بن علي في الشعب، فقلت: يا أبا القاسم، اتق الله فإنا في مشعر حرام، وبلد حرام، والناس وفد الله إلى هذا البيت، فلا تفسد عليهم حجهم، فقال: والله ما أريد ذلك، وما أحول بين أحد وبين هذا البيت، ولا يؤتى أحد من الحاج من قبلي، ولكني رجل أدفع عن نفسي من ابن الزبير، وما يروم مني، وما أطلب هذا الأمر إلا ألا يختلف علي فيه اثنان! ولكن ائت ابن الزبير فكلمه، وعليك بنجدة، قال محمد: فجئت ابن الزبير فكلمته بنحو ما كلمت به ابن الحنفية، فقال، أنا رجل قد اجتمع علي الناس وبايعوني، وهؤلاء أهل خلاف، فقلت: أرى خيرا لك الكف، قال: أفعل، ثم جئت نجدة الحروري فأجده في أصحابه، وأجد عكرمة غلام ابن عباس عنده، فقلت له: استاذن لي على صاحبك، قال: فدخل، فلم ينشب أن أذن لي، فدخلت فعظمت عليه، وكلمته كما كلمت الرجلين، فقال: أما أن ابتدئ أحدا بقتال فلا، ولكن من بدأ بقتال قاتلته، قلت: فإني رأيت الرجلين لا يريدان قتالك، ثم جئت شيعة بني أمية فكلمتهم بنحو ما كلمت به القوم، فقالوا: نحن على ألا نقاتل أحدا إلا أن يقاتلنا. فلم أر في تلك الألوية قوما أسكن ولا أسلم دفعة من ابن الحنفية. قال أبو جعفر: وكان العامل لابن الزبير في هذه السنة على المدينة جابر بن الأسود بن عوف الزهري، وعلى البصرة والكوفة أخوه مصعب، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى خراسان عبد الله بن خاتم السلمي؛ وبالشام عبد الله بن مروان. ثم دخلت سنة تسع وستين ذكر خبر قتل عبد الملك سعيد بن عمرو ففيها كان خروج عبد الملك بن مروان -فيما زعم الواقدي- إلى عين وردة، واستخلف عمرو بن سعيد بن العاص على دمشق فتحصن بها، فبلغ ذلك عبد الملك فرجع إلى دمشق، فحاصره -قال: ويقال: خرج معه- فلما كان ببطنان حبيب رجع إلى دمشق فتحصن فيها، ورجع عبد الملك إلى دمشق. وأما عوانة بن الحكم فإنه قال -فيما ذكر هشام بن محمد عنه-: إن عبد الملك بن مروان لما رجع من بطنان حبيب إلى دمشق مكث بدمشق ما شاء الله، ثم سار يريد قرقيسياء، وفيها زفر بن الحارث الكلابي ومعه عمرو بن سعيد، حتى إذا كان ببطنان حبيب فتك عمرو بن سعيد، فرجع ليلا ومعه حميد بن حريث بن بحدل الكلبي وزهير بن الأبرد الكلبي، حتى أتى دمشق وعليها عبد الرحمن ابن أم الحكم الثقفي قد استخلفه عبد الملك، فلما بلغه رجوع عمرو بن سعيد هرب وترك عمله، ودخلها عمرو فغلب عليها وعلى خزائنها. وقال غيرهما: كانت هذه القصة في سنة سبعين. وقال: كان مسير عبد الملك من دمشق نحو العراق يريد مصعب بن الزبير، فقال له عمرو بن سعيد بن العاص: إنك تخرج إلى العراق، وقد كان أبوك وعدني هذا الأمر من بعده، وعلى ذلك جاهدت معه، وقد كان من بلائي معه ما لم يخف عليك، فاجعل لي هذا الأمر من بعدك، فلم يجبه عبد الملك إلى شيء، فانصرف عنه عمرو راجعا إلى دمشق، فرجع عبد الملك في أثره حتى انتهى إلى دمشق. رجع الحديث إلى حديث هشام، عن عوانة قال: ولما غلب عمرو على دمشق طلب عبد الرحمن بن أم الحكم فلم يصبه، فأمر بداره فهدمت واجتمع الناس، وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر إلا زعم أن له جنة ونارا، يدخل الجنة من أطاعه، والنار من عصاه. وإني أخبركم أن الجنة والنار بيد الله، وأنه ليس إلي من ذلك شيء، غير أن لكم علي حسن المؤاساة والعطية. ونزل. وأصبح عبد الملك، ففقد عمرو بن سعيد، فسأل عنه، فأُخبر خيره، فرجع عبد الملك إلى دمشق، فإذا عمرو قد جلل دمشق المسوح فقاتله بها أياما، وكان عمرو بن سعيد إذا أخرج حميد بن حريث الكلبي على الخيل أخرج إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي، وإذا أخرج عمرو بن سعيد زهير بن الأبرد الكلبي أخرج إليه عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل الكلبي. قال هشام: حدثني عوانة أن الخيلين توافقتا ذات يوم، وكان مع عمرو بن سعيد رجل من كلب يقال له رجاء بن سراج، فقال رجاء: يا عبد الرحمن بن سراج، ابرز -وكان عبد الرحمن مع عبد الملك- فقال عبد الرحمن: قد أنصف القارة من راماها، وبرز له، فاطّعنا وانقطع ركاب عبد الرحمن، فنجا منه ابن سراج، فقال عبد الرحمن: والله لولا انقطاع الركاب لرميت بما في بطنك من تبن، وما اصطلح عمرو وعبد الملك أبدا، فلما طال قتالهم جاء نساء كلب وصبيانهم فبكين وقلن لسفيان بن الأبرد ولابن بحدل الكلبي: علام تقتلون أنفسكم لسلطان قريش! فحلف كل واحد منهما ألا يرجع حتى يرجع صاحبه، فلما أجمعوا على الرجوع نظروا فوجدوا سفيان أكبر من حريث، فطلبوا إلى حريث، فرجع. ثم إن عبد الملك وعمرا اصطلحا، وكتبا بينهما كتابا، وآمنه عبد الملك وذلك عشية الخميس. قال هشام: فحدثني عوانة أن عمرو بن سعيد خرج في الخيل متقلدا قوسا سوداء، فأقبل حتى أوطأ فرسه أطناب سرادق عبد الملك فانقطعت الأطناب وسقط السرادق، ونزل عمرو فجلس وعبد الملك مغضب، فقال لعمرو: يا أبا أمية، كأنك تشبه بتقلدك هذه القوس بهذا الحي من قيس! قال: لا، ولكني أتشبه بمن هو خير منهم، العاص بن أمية. ثم قام مغضبا والخيل معه حتى دخل دمشق، ودخل عبد الملك دمشق يوم الخميس، فبعث إلى عمرو أن أعط الناس أرزاقهم، فأرسل إليه عمرو إن هذا ليس لك ببلد فاشخص عنه. فلما كان يوم الاثنين وذلك بعد دخول عبد الملك دمشق بأربع بعث إلى عمرو أن ائتني -وهو عند امرأته الكلبية، وقد كان عبد الملك دعا كريب بن أبرهة بن الصباح الحميري فاستشاره في أمر عمرو بن سعيد، فقال له: في هذا هلكت حمير، لا أرى لك ذلك، لا ناقتي في ذا ولا جملي- فلما أتى رسول عبد الملك عمرا يدعوه صادف الرسول عبد الله بن يزيد بن معاوية عند عمرو، فقال عبد الله لعمرو بن سعيد: يا أبا أمية، والله لأنت أحب إلي من سمعي وبصري، وقد أرى هذا الرجل قد بعث إليك أن تأتيه، وأنا أرى لك ألا تفعل، فقال له عمرو: ولم؟ قال: لأن تبيع ابن امرأة كعب الأحبار قال: إن عظبما من عظماء ولد إسماعيل يرجع فيغلق أبواب دمشق، ثم يخرج منها، فلا يلبث أن يقتل، فقال له عمرو: والله لو كنت نائما ما تخوفت أن ينبهني ابن الزرقاء، ولا كان ليجترئ على ذلك مني، مع أن عثمان بن عفان أتاني البارحة في المنام فألبسني قميصه -وكان عبد الله بن يزيد زوج أم موسى بنت عمرو بن سعيد- فقال عمرو للرسول: أبلغه السلام، وقل له: أنا رائح إليك العشية إن شاء الله. فلما كان العشي لبس عمرو درعا حصينة بين قباء قوهي وقميص قوهي، وتقلد سيفه وعنده امرأته الكلبية وحميد بن حريث بن مجدل الكلبي، فلما نهض متوجها عثر بالبساط، فقال له حميد: أما والله لئن أطعتني تأته، وقالت له امرأته تلك المقالة، فلم يلتفت إلى قولهم، ومضى في مائة رجل من مواليه، وقد بعث عبد الملك إلى بني مروان فاجتمعوا عنده، فلما بلغ عبد الملك أنه بالباب أمر أن يحبس من كان معه، وأذن له فدخل، ولم تزل أصحابه يحبسون عند كل باب حتى دخل عمرو قاعة الدار، وما معه إلا وصيف له، فرمى عمرو ببصره نحو عبد الملك، فإذا حوله بنو مروان، وفيهم حسان بن مالك بن بحدل الكلبي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي. فلما رأى جماعتهم أحس بالشر، فالتفت إلى وصيفه فقال: انطلق ويحك إلى يحيى بن سعيد، فقل له يأتيني. فقال له الوصيف ولم يفهم ما قال له: لبيك! فقال له: اغرب عني في حرق الله وناره. وقال عبد الملك لحسان وقبيصة: إذا شئتما فقوما فالتقيا وعمرا في الدار، فقال عبد الملك لهما كالمازح ليطمئن عمرو بن سعيد: أيكما أطول؟ فقال حسان: قبيصة يا أمير الؤمنين أطول مني بالإمرة، وكان قبيصة على الخاتم. ثم التفت عمرو إلى وصيفه فقال: انطلق إلى يحيى فمره أن يأتيني، فقال له: لبيك، ولم يفهم عنه، فقال له عمرو: اغرب عني، فلما خرج حسان وقبيصة أمر بالأبواب فغلقت، ودخل عمرو فرحب به عبد الملك، وقال: هاهنا يا أبا أمية، يرحمك الله! فأجلسه معه على السرير، وجعل يحدثه طويلا، ثم قال: يا غلام، خذ السيف عنه، فقال عمرو: إنا لله يا أمير الؤمنين. فقال عبد الملك: أوتطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك! فأخذ السيف عنه، ثم تحدثا ما شاء الله، ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية، قال: لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: إنك حيث خلعتني آليت بيمين إن أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة، فقال له بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير الؤمنين؟ قال: ثم أطلقه، وما عسيت أن أصنع بأبي أمية، فقال بنو مروان: أبر قسم أمير المؤمنين، فقال عمرو: قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنبن، فاخرج من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه، ثم قال: يا غلام، قم فاجمعه فيها، فقام الغلام فجمعه فيها، فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس! فقال عبد الملك: أمكرا أبا أمية عند الموت! لا ها الله إذًا، ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس، ولما نخرجها منك إلا صعدا، ثم اجتبذه اجتباذة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته، فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن يدعوك إلى كسر عظم مني أن تركب ما هو أعظم من ذلك. فقال له عبد الملك: والله لو أعلم أنك تبقي علي إن أبقي عليك وتصلح قريش لأطلقتك، ولكلن ما اجتمع رجلان قط في بلدة على مل ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه. فلما رأى عمرو أن ثنيته قد اندقت وعرف الذي يريد عبد الملك، قال: أغدرًا يا ابن الزرقاء! وقيل: إن عبد الملك لما جذب عمرا فسقطت ثنيته جعل عمرو يمسها، فقال عبد الملك له: أرى ثنيتك تد وقعت منك موقعا لا تطيب نفس ك بعدها. فأمر به فضرب عنقه. رجع الحديث إلى حديث عوانة. وأذن المؤذن العصر، فخرج عبد الملك يصلي بالناس، وأمر عبد العزيز بن مروان أن يقتله، فقام إليه عبد العزيز بالسيف، فقال له عمرو: أذكرك الله والرحم أن تلي أنت قتلي، وليتول ذلك من هو أبعد رحما منك! فألقى عبد العزيز السيف وجلس، وصلى عبد الملك صلاة خفيفة، ودخل، وغلقث الأبواب ورأى الناس عبد الملك حيث خرج وليس عمرو معه، فذكروا ذلك ليحيى بن سعيد فأقبل في الناس حتى حل بباب عبد الملك ومعه ألف عبد لعمرو، وأناس بعد من أصحابه كثير، فجعل من كان معه يصيحون: أسمعنا صوتك يا أبا أمية! وأقبل مع يحيى بن سعيد حميد بن حريث وزهير بن ا لأبرد فكسروا باب المقصورة، وضربوا الناس بالسيوف، وضرب عبد لعمرو بن سعيد يقال له مصقلة الوليد بن عبد الملك ضربة على رأسه، واحتمله إبراهيم بن عربي صاحب الديوان فأدخله بيت القراطيس، ودخل عبد الملك حين صلى فوجد عمرا حيا، فقال لعبد العزيز: ما منعك من أن تقتله! قال: منعني أنه ناشدني الله والرحم فرفقت له. فقال له عبد الملك: أخزى الله أمك البوالة على عقبيها. فإنك لم تشبه غيرها - وأم عبد الملك عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وكانت أم عبد العزيز ليلى، وذلك تول ابن الرقيات: ذاك ابن ليلى عبد العزيز ببا ** بليون تغدو جفانه رذما ثم إن عبد الملك قال: يا كلام، ائتني بالحربة. فأتاه بالحربة فهزها، ثم طعنه بها فلم تجز، ثم ثنى فلم تجز، فضرب بيده إلى عضد عمرو، نوجد مس الدرع، فضحك، ثم قال: ودارع أيضا يا أبا أمية! إن كنت لمعدا! يا غلام، ائتني بالصمصامة، فأتاه بسيفه، ثم أمر بعمرو فصرع، وجلس على صدره فذبحه وهو يقول: يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصني ** أضربك حيث تقول الهامة اسقوني وانتفض عبد الملك رعدة -وكذلك الرجل زعموا يصيبه إذا قتل ذا قرابة له- فحمل عبد الملك عن صدره فوضع على سريره، فقال: ما رأيت مثل هذا قط، قتله صاحب دنيا ولا طالب آخرة. ودخل يحيى بن سعيد ومن معه على بني مروان الدار فجرحوهم ومن كان معهم من مواليهم، فقاتلوا يحيى وأصحابه، وجاء عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي فدفع إليه الرأس، فألقاه إلى الناس، وقام عبد العزيز بن مروان فأخذ المال في البدور، فجعل يلقيها إلى الناس، فلما نظر الناس إلى الأموال ورأوا الرأس انتهبوا الأموال وتفرقوا. وقد قيل: إن عبد الملك بن مروان لما خرج إلى الصلاة أمر غلامه أبا الزعيزعة بقتل عمرو، فقتله وألقى رأسه إلى الناس وإلى أصحابه. قال هشام: قال عوانة: فحدثت أن عبد الملك أمر بتلك الأموال التي طرحت إلى الناس فجبيت حتى عادت كلها إلى بيت المال، ورمي يحيى بن سعيد يومئذ في رأسه بصخرة، وأمر عبد الملك بسريره فأبرز إلى المسجد، وخرج يجلس عليه، وفقد الوليد بن عبد الملك فجعل يقول: ويحكم أين الوليد؟ وأبيهم لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم، فأتاه إبراهيم بن عربي الكناني فمال: هذا الوليد عندي، قد أصابته جراحة، وليس عليه بأس، فأتي عبد الملك بيحيى بن سعيد، فأمر به أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز، فقال: جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين أتراك قاتلا بني أمية في يوم واحد، فأمر بيحيى فحبس، ثم أتي بعنبسة بن سعيد، فأمر به أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وهلاكها فأمر بعنبسة فحبس، ثم أتي بعنبسة بن سعيد فأمر به أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز بن مروان، فقال أذكرك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وهلاكها، فأمر بعنبسة فحبس، ثم أتي بعامر بن الأسود الكلبي فضرب رأسه عبد الملك بقضيب خيزران كان معه، ثم قال: أتقاتلني مع عمرو وتكون معه علي قال: نعم، لأن عمرا أكرمني وأهنتني، وأدناني وأقصيتني، وقربني وأبعدتني، وأحسن إلي وأسأت إلي، فكنت معه عليك. فأمر به عبد الملك أن يقتل، فقام عبد العزيز فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين في خالي فوهبه له. وأمر ببني سعيد فحبسوا، ومكث يحيى في الحبس شهرا أو أكثر. ثم إن عبد الملك صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم استشار الناس في قتله، فقام بعض خطباء الناس فقال: يا أمير الؤمنين، هل تلد الحية إلا حية، نرى والله أن تقتله فإنه منافق عدو. ثم قام عبد الله بن مسعدة الفزاري، فقال: يا أمير المؤمنين، إن يحيى ابن عمك، وقرابته ما قد علمت، وقد صنعوا ما صنعوا، وصنعت بهم ما قد صنعت، ولست لهم بآمن، ولا أرى لك قتلهم، ولكن سيرهم إلى عدوك، فإن هم قتلوا كنت قد كفيت أمرهم بيد غيرك، وإن هم سلموا ورجعوا رأيت فيهم رأيك. فأخذ برأيه، وأخرج آل سعيد فالحقهم بمصعب بن الزبير، فلما قدمرا عليه دخل يحيى بن سعيد، فقال له ابن الزبير: انفلت وانحص الذنب، فقال: والله إن الذنب لبهلبه. ثم إن عبد الملك بعث إلى امرأة عمرو الكلبية: ابعثي إلي بالصلح الذي كنت كتبته لعمرو، فقالت لرسوله: ارجع إليه فأعلمه أني قد لففت ذلك الصلح معه في أكفانه ليخاصمك به عند ربه، وكان عمرو بن سعيد وعبد الملك يلتقيان في النسب إلى أمية، وكانت أم عمرو أم البنين ابنة الحكم ابن أبي العاص عمة عبد الملك. قال هشام: فحدثنا عوانة أن الذي كان بين عبد الملك وعمرو كان شرا قديما، وكان ابنا سعيد أمهما أم البنين، وكان عبد الملك ومعاوية ابني مروان، فكانوا وهم غلمان لا يزالون يأتون أم مروان بن الحكم الكنانية يتحدثون عندها، فكان ينطلق مع عبد الملك ومعاوية غلام لهم أسود، وكانت أم مروان إذا أتوها هيأت لهم طعاما، ثم تأتيهم به لتضع بين يدي كل رجل صحفة على حدة، وكانت لا تزال تؤرش بين معاوية بن مروان ومحمد بن سعيد، وبين عبد الملك وعمرو بن سعيد، فيقتتلون ويتصارمون الحين، لا يكلم بعضهم بعضا، وكانت تقول: إن لم يكن عد هذين عقل فعند هذين، فكان ذلك دأبها كلما أتوها حتى أثبتت الشحناء في صدورهم. وذكر أن عبد الله بن يزيد القسري أبا خالد كان مع يحيى بن سعيد حيث دخل المسجد فكسر باب المقصورة، فقاتل بني مروان، فلما قتل عمرو وأخرج رأسه إلى الناس ركب عبد الله وأخوه خالد فلحقوا بالعراق، فقام مع ولد سعيد وهم مع مصعب حتى اجتمعت الجماعة على عبد الملك، وقد كانت عين عبد الله بن يزيد فقئت يوم المرج، وكان مع ابن الزبير يقاتل بني أمية، وإنه دخل على عبد الملك بعد الجماعة، فقال: كيف أنتم آل يزيد؟ فقال عبد الله: حرباء حرباء، فقال عبد الملك: ذلك بما قدمت أيديكم، وما الله بظلام للعبيد. قال هشام عن عوانة: إن ولد عمرو بن سعيد دخلوا على عبد الملك بعد الجماعة وهم أربعة: أمية، وسعيد، وإسماعيل، ومحمد، فلما نظر إليهم عبد الملك قال لهم: إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون لكم على جميع قومكم فضلا لم يجعله الله لكم، وإن الذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثا بل كان قديما في أنفس أوليكم على أولينا في الجاهلية. فأقطع بأمية بن عمرو -وكان أكبرهم- فلم يقدر أن يتكلم، وكان أنبلهم وأعقلهم، فقام سعيد بن عمرو وكان الأوسط فقال: يا أمير المؤمنين، ما تنعى علينا أمرا كان في الجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك، فوعدنا جنة، وحذرنا نارا! وأما الذي كان بينك وبين عمرو فإن عمرا ابن عمك، وأنت أعلم وما صنعت، وقد وصل عمرو إلى الله، وكفى بالله حسيبا، ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطن الأرض خير لك من ظهرها. فرق لهم عبد الملك رقة شديدة، وقال: إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله، فاخترت قتله على قتلي، وأما أنتم فما أرغبني فيكم، وأوصلني لقرابتكم، وأرعاني لحقكم؛ فأحسن جائزئهم ووصلهم وقربهم. وذكر أن خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم: عجب منك ومن عمرو بن سعيد، كيف أصبت غرته فقتلته، فقال عبد الملك: دانيته مني ليسكن روعه ** فأصول صولة حازم مستمكن غضبا ومحمية لديني إنه ** ليس المسيء سبيله كالمحسن قال عوانة: لقي رجل سعيد بن عمرو بن سعيد بمكة، فقال له: ورب هذه البنية، ما كان في القوم مثل أبيك، ولكنه نازع القوم ما في أيديهم فعطب. وكان الواقدي يقول: إنما كان في سنة تسع وستين بين عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد الحصار، وذلك أن عمرو بن سعيد تحصن بدمشق فرجع عبد الملك إليه من بطنان حبيب، فحاصره فيها، وأما قتله أباه فإنه كان في سنة سبعين. أخبار متفرقة وفي هذه السنة حَكَّم محكِّم من الخوارج بالخيف من منى فقتل عند الجمرة، ذكر محمد بن عمر أن يحيى بن سعيد بن دينار حدثه عن أبيه قال: رأيته عند الجمرة سل سيفه، وكانوا جماعة فأمسك الله بأيديهم، وبدر هو من بينهم، فحكم، فمال الناس عليه فقتلوه. وأقام الحج للناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير. وكان عامله فيها على المصرين: الكوفة والبصرة أخوه مصعب بن الزبير. وكان على قضاء الكوفة شريح وعلى قضاء البصرة هاشم بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم. ثم دخلت سنة سبعين ذكر ما كان فيها من الأحداث ففي هذه السنة ثارت الروم، واستجاشوا على من بالشأم من ذلك من المسلمين، فصالح عبد الملك ملك الروم على أن يؤدي إليه في كل جمعة ألف دينار خوفا منه على المسلمين. وفيها شخص-فيما ذكر محمد بن عمر- مصعب بن الزبير إلى مكة فقدمها بأموال عظيمة، فقسمها في قومه وغيرهم، وقدم بدواب كثيرة وظهر وأثقال، فأرسل إلى عبد الله بن صفوان وجبير بن شيبة وعبد الله بن مطيع مالا كثيرا ونحر بدنا كثيرة. وحج بالناس في هذه السنة عيد الله بن الزبير. وكان عماله على الأمصار في هذه السنة عماله في السنة التي قبلها على المعاون والقضاء. ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ذكر ما كان فيها من الأحداث خبر مسير عبد الملك بن مروان لحرب مصعب بن الزبير ثم قتله فمن ذلك مسير عبد الملك بن مروان فيها إلى العراق لحرب مصعب بن الزبير، وكان عبد الملك فبما قيل لا يزال يقرب من مصعب، حتى يبلغ بُطنان حَبيب، ويخرج مصعب إلى باجُمَيرا، ثم تهجم الشتاء فيرجع كل واحد منهما إلى موضعه، ثم يعودان، فقال عدي بن زيد بن عدي بن الرقاع العاملي: لعمري لقد أصحرت خيلنا ** بأكناف دجلة للمُصعَبِ إذا ما منافق أهل العرا ** ق عوتب ثُمّثَ لم يُعتب دلفنا إليه بذي تُدرَإٍ ** قليل التفقد للغُيّب يهزون كل طويل القنا ** ة ملتثم النصل والثعلب كأن وعاهم إذا ما غدوا ** ضجيج قطا بلد مخصب فقدمنا واضح وجهه ** كريم الضرائب والمنصب أُعينَ بنا ونصرنا به ** ومن ينصر الله لم يُغلب فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن محمد، قال: أقبل عبد الملك من الشام يريد مصعبا -وذلك قبل هذه السنة، في سنة سبعين- ومعه خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فقال خالد لعبد الملك: إن وجهتني إلى البصرة وأتبعتني خيلا يسيرة رجوت أن أغلب لك عليها. فوجهه عبد الملك، فقدمها مستخفيا في مواليه وخاصته، حتى نزل على عمرو بن أصمع الباهلي. قال عمر: قال أبو الحسن: قال مسلمة بن محارب: أجار عمرو بن أصمع خالدا، وأرسل إلى عباد بن الحصين وهو على شرطة ابن معمر -وكان مصعب إذا شخص عن البصرة استخلف عليها عبيد الله بن عبيد الله بن معمر - ورجا عمرو بن أصمع أن يبايعه عباد بن الحصين- بأني قد أجرت خالدا فأحببت أن تعلم ذلك لتكون لي ظهرا. فوافاه رسوله حين نزل عن فرسه، فقال له عباد: قل له: والله لا أضع لبد فرسي حتى آتيك في الخيل. فقال عمرو لخالد: إني لا أغرك، هذا عباد يأتينا الساعة. ولا والله ما أقدر على منعك، ولكن عليك بمالك بن مسمع. قال أبو زيد: قال أبو الحسن: ويقال إنه نزل على علي بن أصمع، فبلغ ذلك عبادا فأرسل إليه عباد: إني سائر إليك. حدثننى عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن محمد، عن مسلمة وعوانة أن خالدا خرج من عند ابن أصمع يركض، عليه قميص قوهي رقيق، قد حسره عن فخذيه، وأخرج رجليه من الركابين، حتى أتى مالكا، فقال: إني قد اضطررت إليك، فأجرني، قال: نعم، وخرج هو وابنه، وأرسل إلى بكر بن وائل والأزد، فكانت أول راية أتته راية بني يشكر. وأقبل عباد في الخيل، فتواقفوا، ولم يكن بينهم، فلما كان من الغد غدوا إلى حفرة نافع بن الحارث الني نسبت بعد إلى خالد، ومع خالد رجال من بني تميم قد أتوه، منهم صعصعة بن معاوية وعبد العزيز بن بشر ومرة بن محكان، في عدد منهم، وكان أصحاب خالد جفرية ينسبون إلى الجفرة، وأصحاب ابن معمر زبيرية، فكان من الجفرية عبيد الله بن أبي بكرة وحمران والمغيرة بن المهلب، ومن الزبيرية قيس بن الهيثم السلمي، وكان يستأجر الرجال يقاتلون معه، فتقاضاه رجل أجرة فقال: غدا أعطيكها، فقال غطفان بن أنيف، أحد بني كعب بن عمرو: لبئس ما حكمت يا جلاجل** النقد دبن والطعان عاجل وأنت بالباب سمير آجل وكان قيس يعلق في عنق فرسه جلاجل، وكان على خيل بني حنظلة عمرو بن وبرة القحيفي، وكان له عبيد يؤاجرهم بثلاثين ثلاثين كل يوم، فيعطيهم عشرة عشرة، فقيل له: لبئس ما حكمت يا ابن وبرة ** تعطي ثلاثين وتعطي عشرة ووجه المصعب زحر بن قيس الجعفي مددا لابن معمر في ألف، ووجه عبد الملك عبيد الله بن زياد بن ظبيان مددا لخالد، فكره أن يدخل البصرة، وأرسل مطر بن التوأم فرجع إليه فأخبره بتفرق الناس، فلحق بعبد الملك. قال أبو زيد: قال أبو الحسن: فحدثني شيخ من بني عرين عن السكن بن قتادة، قال: اقتتلوا أربعة وعشرين يوما، وأصيبت عين مالك، فضجر من الحرب، ومشت السفراء، بينهم يوسف بن عبد الله بن عثمان بن أبي العاص، فصالحه، على أن يخرج خالدا وهو آمن، فأخرج خالدا من البصرة، وخاف ألا يجيز المصعب أمان عببد الله، فلحق مالك بثأج، فقال الفرزدق يذكر مالكا ولحوق التميمية به وبخالد: عجبت لأقوام تميم أبوهم ** وهم في بني سعد عظام المبارك وكانوا أعز الناس قبل مسيرهم ** إلى الأزد مصفرا لحاها ومالك فما ظنكم بابن الحواري مصعب ** إذا أفتر عن أنيابه غير ضاحك ونحن نفينا مالكا عن بلاده ** ونحن فقأنا عينه بالنيازك قال أبو زيد: قال أبو الحسن: حدثني مسلمة أن المصعب لما انصرف عبد الله إلى دمشق لم يكن له همة إلا البصرة، وطمع أن يدرك بها خالدا، فوجده قد خرح، وأمن ابن معمر الناس، فأقام أكثرهم، وخاف بعضهم مصعبا فشخص، فغضب مصعب على ابن معمر، وحلف ألا يوليه، وأرسل إلى الجفرية فسبهم وأنبهم. قال أبو زيد: فزعم المدائني وغيره من رواة أهل البصرة أنه أرسل إليهم فأتي بهم، فأقبل على عبيد الله بن أبي بكرة، فقال: يا ابن مسروح، إنما أنت ابن كلبة تعاورها الكلاب. فجاءت بأحمر وأسود وأصفر من كل كلب بما يشبهه، إنما كان أبوك عبدا نزل إلى رسول الله ﷺ من حصن الطائف، ثم أقمتم البينة تدعون أن أبا سفيان زنى بأمكم، أما والله لئن بقيت لألحقنكم بنسبكم. ثم دعا بحمران فقال: يا ابن اليهودية، إنما أنت علج نبطي سبيت من عين التمر. ثم قال للحكم بن المنذر بن الجارود: يا ابن الخبيث، أتدري من أنت ومن الجارود، إنما كان الجارود علجا بجزيرة ابن كاوان فارسيا، فقطع إلى ساحل البحر، فانتمى إلى عبد القيس، ولا والله ما أعرف حيا أكثر اشتمالا على سوءة منهم. ثم أنكح أخته المكعبر الفارسي فلم يصب شرفا قط أعظم منه، فهؤلاء ولدها يا ابن قباذ. ثم أتي بعبد الله بن فضالة الزهراني فقال: ألست من أهل هجر، ثم من أهل سماهيج، أما والله لأردنك إلى نسبك. ثم أتي بعلي بن أصمع، فقال: أعبدٌ لبني تميم مرة وعزي من باهلة! ثم أتي بعبد العزيز بن بشر بن حناط فقال: يا ابن المشتورر، ألم يسرق عمك عنزا في عهد عمر، فأمر به فسير ليقطعه، أما والله ما أعنت ألا من ينكح أختك -وكانت أخته تحت مقاتل بن مسمع- ثم أتي بأبي حاضر الأسدي فقال: يا ابن الإصطخرية، ما أنت والأشراف! إنما أنت من أهل قطر دعيّ في بني أسد، ليس لك فيهم قريب ولا نسيب. ثم أتي بزياد بن عمرو فقال: يا ابن الكرماني، إنما أنت علج من أهل كرمان قطعت إلى فارس فصرت ملاحا، ما لك وللحرب! لأنت بجر القلس أحذق. ثم أتي بعبد الله بن عثمان بن أبي العاص فقال: أعلي تكثر وأنت علج من أهل هجر، لحق أبوك بالطائف وهم يضمون من تأشَّب إليهم يتعززون به، أما والله لأردنك إلى أصلك. ثم أتي بشيخ بن النعمان فقال: يا ابن الخبيث، إنما أنت علج من أهل زندورد، هربت أمك وقتل أبوك، فتزوج أخته رجل من بني يشكر. فجاءث بغلامين فألحقناك بنسبهما، ثم ضربهم مائة مائة. وحلق رؤوسهم ولحاهم، وهدم دورهم، وصهرهم في الشمس ثلاثا. وحملهم على طلاق نسائهم، وجمر أولادهم في البعوث، وطاف بهم في أقطار البصرة، وأحلفهم ألا ينكحوا الحرائر. وبعث مصعب خداش بن يزيد الأسدي في طلب من هرب من أصحاب خالد، فأدرك مرة بن محكان فأخذه، فقال مرة: بني أسد إن تقتلوني تحاربوا ** تميما إذا الحرب العوان اشمَعَلَّتِ بني أسد هل فيكم من هوادة ** فتعفون إن كانت بي النعل زلّتِ فلا تحسبِ الأعداء إذ غبت عنهم ** وأوريت معنا أن حربي كلّت تمشَّى خداش في الأسكة آمنا ** وقد نهلت مني الرماح وعلّت فقربه خداش فقتله -وكان خداش على شرطة مصعب يومئذ- وأمر مصعب سنان بن ذهل أحد بني عمرو بن مرثد بدار مالك بن مسمَع فهدمها، وأخذ مُصعب ما كان في دار مالك، فكان فيما أخذ جارية ولدت له عمر بن مصعب. قال: وأقام مصعب بالبصرة حتى شخص إلى الكوفة، ثم لم يزل بالكوفة حتى خرج لحرب عبد الملك، ونزل عبد الملك مسكَن، وكتب عبد الملك إلى المروانية من أهل العراق، فأجابه كلهم وشرطوا عليه ولاية أصبهان، فأنعم بها لهم كلهم، منهم حجار بن أبجر، والغضبان بن القبعثري، وعتاب بن ورقاء، وقَطَن بن عبد الله الحارثي، ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وزحر بن قيس، ومحمد بن عمير، وعلى مقدمته محمد بن مروان، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية، وعلى ميسرته خالد بن يزيد، وسار إليه مصعب وقد خذله أهل الكوفة. قال عروة بن المغيرة بن شعبة: فخرج يسير متكئا على معرفة دابته، ثم تصفح الناس يمينا وشمالا فوقعت عينه علي، فقال: يا عروة، إليّ، فدنوت منه، فقال: أخبرني عن الحسين بن علي، كيف صنع بإبائه النزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب؟ فقال: إن الأُلى بالطَّف من آل هاشم ** تأسَّوا فسَنُّوا للكرام التأسيا قال: فعلمتُ أنه لا يريم حتى يقتل، وكان عبد الملك -فيما ذكر محمد بن عمر عن عبد الله بن عمد بن عبد الله بن أبي قرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن رجاء بن حيوة- قال: لما قتل عمرو بن سعيد وضع السيف فقتل من خالفه، فلما أجمع بالمسير إلى مصعب وقد صفت له الشأم وأهلها خطب الناس وأمرهم بالتهيؤ إلى مصعب، فاختلف عليه رؤساء أهل الشأم من غير خلاف لما يريده، ولكنهم أحبوا أن يقيم ويقدم الجبوش، فإن ظفروا فذاك، وإن لم يظفروا أمدهم بالجيوش خشية على الناس إن أصيب في لقائه مصعبا لم يكن وراءه ملك، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو أقمت مكانك وبعثت على هؤلاء الجيوش رجلا من أهل بيتك، ثم سرحته إلى مصعب! فقال عبد الملك: إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي، ولعلي أبعث من له شجاعة ولا رأي له، وإني أجد في نفسي أني بصير بالحرب، شجاع بالسيف إن ألجئت إلى ذلك، ومصعب في بيت شجاعة، أبوه أشجع قريش، وهو شجاع ولا علم له بالحرب، يحب الخفض، ومعه من يخالفه، ومعي من ينصح لي، فسار عبد الملك حنى نزل مسكن، وسار مصعب إلى باجميرا. وكتب عبد الملك إلى شيعته من أهل العراق، فأقبل إبراهيم بن الأشتر بكتاب عبد الملك مختوما لم يقرأه، فدفعه إلى مصعب، فقال: ما فيه؟ فقال: ما قرأته، فقرأه مصعب فإذا هو يدعوه إلى نفسه، وجعل له ولاية العراق، فقال لمصعب: إنه والله ما كان من أحد آيس منه مني. ولقد كتب إلي أصحابك كلهم بمثل الذي كتب إلي، فأطعني فيهم فاضرب أعناقهم. قال: إذا لا تناصحنا عشائرهم. قال: فأوقرهم حديدا وابعث بهم إلى أبيض كسرى فاحبسهم هنالك ووكل بهم من إن غلبت ضرب أعناقهم، وإن غلبت مننت بهم على عشائرهم. فقال: يا أبا النعمان، إني لفي شغل عن ذلك، يرحمم الله أبا بحر، إن كان ليحذرني غدر أهل العراق، كأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه. حدثني عمر، قال: حدثنا محمد بن سلام، عن عبد القاهر بن السري، قال: همّ أهل العراق بالغدر بمصعب. فقال قيس بن الهيثم: ويحكم لا تدخلوا أهل الشام عليكم، فوالله لئن تطعموا بعيشكم ليصفين عليكم منازلكم، والله لقد رأيت سيد أهل الشام على باب الخليفة يفرح إن أرسله في حاجة، ولقد رأيتنا في الصرائف وأحدنا على ألف بعير، وإن الرجل من وجوههم ليغزو على فرسه وزاده خلفه. قال: ولما تدانى العسكران بدير الجاثليق من مسكن، تقدم إبراهيم بن الأشتر فحمل على محمد بن مروان فأزاله عن موضعه، فوجه عبد الملك بن مروان عبد الله بن يزيد بن معاوية، فقرب من محمد بن مروان. والتقى القوم فقتل مسلم بن عمرو الباهلي، وقتل يحيى بن مبشر، أحد بني ثعلبة بن يربوع، وقتل إبراهيم بن الأشتر، فهرب عتاب بن ورقاء -وكان على الخيل مع مصعب- فقال مصعب لقطن بن عبد الله الحارثي: أبا عثمان، قدم خيلك، قال: ما أرى ذلك، قال: ولم؟ قال: أكره أن تقتل مذحج في غير شيء؟ فقال لحجار بن أيحر: أبا أسيد، قدم رايتك، قال: إلى هذه العذرة! قال: ما تتأخر إليه والله أنتن وألأم، فقال لمحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس مثل ذلك، فقال: ما أرى أحدا فعل ذلك فأفعله. فقال مصعب: يا إبراهيم ولا إبراهيم لي اليوم. حدثني أبو زيد، قال حدثني محمد بن سلام، قال: أخبر ابن خازم بمسير مصعب إلى عبد الملك، فقال: أمعه عمر بن عبيد الله بن معمر؟ قيل: لا، استعمله على فارس، قال: أمعه المهلب بن أبي صفرة؟ قيل: لا؟ استعمله على الموصل، قال: أمعه عباد بن الحصان؟ قل: لا، استخلفه على البصرة، فقال: وأنسا بخر اسان! خذيني فجُرّيني جَعارِ وأبشِري ** بلحمِ امرئ لم يَشهَدِ اليومَ ناصرُهْ فقال مصعب لابنه عيسى بن مصعب: يا بني، اركب أنت ومن معك إلى عمك بمكة فأخبره ما صنع أهل العراق، ودعني فإني مقتول. فقال ابنه: والله لا أخبر قريشا عنك أبدا، ولكن إن أردت ذلك فالحق بالبصرة فهم على الجماعة، أو الحق بأمير المؤمنين. قال مصعب: والله لا تتحدث قريش أني فررت بما صنعت ربيعة من خذلانها حتى أدخل الحرم منهزما، ولكن أقاتل، فإن قتلت فلعمري ما السيف بعار، وما الفرار لي بعادة ولا خلق، ولكن إن أردت أن ترجع فارجع فقاتل، فرجع فقاتل حتى قتل. قال علي بن محمد عن يحيى بن سعيد بن أبي المهاجر، عن أبيه: إن عبد الملك أرسل إلى مصعب مع أخيه محمد بن مروان: إن ابن عمك يعطيك الأمان، فقال مصعب: إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبا أو مغلوبا. وقال الهيثم بن عدي: حدثنا عبد الله بن عياش، عن أبيه، قال: إنا لوقوف مع عبد الملك بن مروان وهو يحارب مصعبا إذ دنا زياد بن عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين، إن إسماعيل بن طلحة كان لي جار صدق، قلما أرادني مصعب بسوء إلا دفعه عني، فإن رأيت أن تؤمنه على جرمه! قال: هو آمن، فمضى زياد -وكان ضخما على ضخم- حتى صار بين الصفين، فصاح: أين أبو البختري إسماعيل بن طلحة؟ فخرج اليه، فقال: إني أريد أن أذكر لك شيئا، فدنا حتى اختلفت أعناق دوابهما -وكان الناس ينتطقون بالحواشي المحشوة- فوضع زياد يده في منطقة إسماعيل، ثم اقتلعه عن سرجه -وكان نحيفا- فقال: أنشدك الله يا أبا المغيرة، إن هذا ليس بالوفاء لمصعب، فقال: هذا أحب إلي من أن أراك غدا مقتولا. ولما أبى مصعب قبول الأمان نادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب وقال له: يا ابن أخي، لا تقتل نفسك. لك الأمان. فقال له مصعب: قد آمنك عمك فامض إليه. قال: لا تتحدث نساء قريش أني أسلمتك للقتل، قال: فتقدم بين يدي أحتسبك، فقاتل بين يديه حتى قتل، وأثخن مصعب بالرمي، ونظر إليه زائدة بن قدامة فشد عليه فطعنه، وقال: يا لثارات المختار! فصرعه، ونزل إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فاحتز رأسه، وقال: إنه قتل أخي النابئ بن زياد. فأتى به عبد الملك بن مروان فأثابه ألف دينار، فأبى أن ياخذها. وقال: إني لم أقتله على طاعتك، إنما قتلته على وتر صنعه بي، ولا آخذ في حمل رأس مالا، فتركه عند عبد الملك. وكان الوتر الذي ذكره عبيد الله بن زياد بن ظبيان أنه قتل عليه مصعبا أن مصعبا كان ولي في بعض ولايته شرطة مطرّف بن سيدان الباهلي ثم أحد بني جأوة. فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني أبو الحسن المدائني ومخلد بن يحيى بن حاضر، أن مطرفا أتى بالنابئ بن زياد بن ظبيان ورجل من بني نُمبر قد قطعا الطريق، فقتل النابئ، وضرب النميري بالسياط فتركه، فجمع له عبيد الله بن زياد بن ظبيان جمعا بعد أن عزله مصعب عن البصرة وولاه الأهواز، فخرج يريده، فالتقيا فتواقفا وبينهما نهر، فعبر مطرف إليه النهر، وعاجله ابن ظبيان فطعنه فقتله، فبعث مصعب مكرم بن مطرف في طلب ابن ظبيان، فسار حتى بلغ عسكر مكرم، فنسب إليه، ولم يلق ابن ظبيان، ولحق ابن ظبيان بعبد الملك لما قتل أخوه، فقال البعيث اليشكري بعد قتل مصعب يذكر ذلك: ولما رأينا الأمر نكسا صدوره ** وهم الهوادي أن تكن تواليا صبرنا لأمر الله حتى يقيمه ** ولم نرض إلا من أمية واليا ونحن قتلنا مصعبا وابن مصعب ** أخا أسد والنخعي اليمانيا ومرت عقاب الموت منا بمسلم ** فأهوت له نابا فأصبح ثاويا سقينا ابن سيدان بكأس روية ** كفتنا وخير الأمر ما كان كافيا حدثني أبو يزيد، قال: حدثني علي بن عمد، قال: مر ابن ظبيان بابنة مطرّف بالبصرة، فقيل لها: هذا قاتل أبيك، فقالت: في سبيل الله أبي، فقال ابن ظبيان: فلا في سبيل الله لاقى حمامَهُ ** أبوكِ ولكن في سبيل الدراهم فلما قتل مصعب دعا عبد الملك بن مروان أهل العراق إلى البيعة، فبايعوه، وكان مصعب قتل على نهر يقال له الدجيل عند دير الجاثليق، فلما قتل أمر به عبد الملك وبابنه عيسى فدفنا. ذكر الواقدي عن عثمان بن محمد، عن أبي بكر بن عمر، عن عروة قال: قال عبد الملك حين قتل مصعب: واروه فقد والله كانت الحرمة بيننا وبينه قديمة، ولكن هذا الملك عقيم. قال أبو زيد: وحدثني أبو نعيم، قال: حدثني عبد الله بن الزبير أبو أبي أحمد، عن عبد الله بن شريك العامري، قال: إني لواقف إلى جنب مصعب بن الزبير فأخرجت له كتابا من قبائي، فقلت له: هذا كتاب عبد الملك، فقال: ما شئتَ، قال: ثم جاء رجل من أهل الشأم فدخل عسكره، فأخرج جارية فصاحت: واذُلّاه! فنظر إليها مصعب، ثم أعرض عنها. قال: وأتي عبد الملك برأس مصعب، فنظر إليه فقال: متى تغدو قريش مثلك، وكانا يتحدثان إلى حُبَّى، وهما بالمدينة، فقيل لها: قتل مصعب، فقالت: تعس قاتله! قيل: قتله عبد الملك بن مروان، قالت: بأبي القاتل والقتول. قال: وحج عبد الملك بعد ذلك، فدخلت عليه حبى، فقالت؟ أقتلت أخاك مصعبا؟ فقال: من يذق الحرب يجد طعمها ** مرا وتتركه بجعجاع وقال ابن قيس الرقيات: لقد أورثت المصرين خزيا وذلة ** قتيل بدير الجاثليق مقيم فما نصحت لله بكر بن وائل ** ولا صبرت عند اللقاء تميم ولو كان بكريا تعطف حوله ** كتائب يغلي حميمها ويدوم ولكنه ضاع الذمام ولم يكن ** بها مضري يوم ذاك كريم جزى الله كوفيا هناك ملامة ** وبصريهم إن المليم مليم وإن بني العلات أخلوا ظهورنا ** ونحن صريح بينهم وصميم فإن نفن لا يبقوا ولا يك بعدنا ** لذي حرمة في المسلمين حريم قال أبو جعفر: وقد قيل إن ما ذكرت من مقتل مصعب والحرب التي جرت بينه وبين عبد الملك كانت في سنة الثانية وستين، وإن أمر خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد ومصيره إلى البصرة من قبل عبد الملك كان في سنة إحدى وسبعين، وقتل مصعب في جمادى الأخرة. ذكر الخبر عن دخول عبد الملك بن مروان الكوفة وفي هذه السنة دخل عبد الملك بن مروان الكوفة وفرق أعمال العراق والمصرين الكوفة والبصرة على عماله في قول الواقدي، وأما أبو الحسن فإنه ذكر أن ذلك في سنة الثانية وسبعبن. وحدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، قال: قتل مصعب يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى أو الأخرة سنة الثانية وسبعين. ولما أتى عبد الملك الكوفة -فيما ذكر- نزل النُّخَيلة ثم دعا الناس إلى البيعة، فجاءت قُضاعةُ، فرأى قلة، فقال: يا معشر قضاعة، كيف سلمتم من مُضَرَ مع قلتكم! فقال عبد الله بن يعلى النَّهدي: نحن أعز منهم وأمنع، قال: بمن؟ قال: بمن معك منا يا أمير المؤمنين. ثم جاءت مَذْحج وهَمْدان، فقال: ما أرى لأحد مع هؤلاء بالكوفة شيئا. ثم جاءت جُعْفِيٌّ، فلما نظر إليهم عبد الملك قال: يا معشر جعفي، اشتملتم على ابن أختكم، وواريتموه؟ -يعني يحيى بن سعيد بن العاص- قالوا: نعم. قال: فهاتوه، قالوا: وهو آمن؟ قال: وتشترطون أيضا! فقال رجل منهم: إنا والله ما نشترط جهلا بحقك، ولكنا نتسحَّب عليه تسحب الولد على والده، فقال: أما والله لنعم الحي أنتم، إن كنتم لفرسانا في الجاهلية والإسلام، هو آمن، فجاؤوا به وكان يكنى أبا أيوب فلما نظر إلى عبد الملك قال: أيا قبيح، بأي وجه تنظر إلى ربك وقد خلعتني! قال: بالوجه الذي خلقه، فبايع ثم ولى فنظر عبد الملك في قفاه فقال: لله دره، أي ابن زوملة هو! يعني غريبة. وقال علي بن محمد: حدثني القاسم بن معن وغيره أن مَعبَد بن خالد الجَدَلي قال: ثم تقدمنا إليه معشر عَدْوان، قال: فقدمنا رجلا وسيما جميلا، وتأخرت -وكان معبد دميما- فقال عبد الملك: من؟ فقال الكاتب: عدوان، فقال عبد الملك: عذيرَ الحي من عَدْوا ** نَ كانوا حَيَّةَ الأرض بغى بعضهم بعضا ** فلم يَرْعَوا على بعض ومنهم كانت السادا ** ت والموفون بالقرض ثم أقبل على الجميل فقال: إيه، فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: ومنهم حكم يقضي ** فلا يُنقَض ما يقضي ومنهم من يجيز الحج ** بالسُّنة والفَرض وهم مذ ولِدوا شَبّوا ** بسِر النسب المحض قال: تركني عبد الملك، ثم أقبل على الجميل فقال: من هو؟ قال: لا أدري، فقلت من خلفه: ذو الإصبع، قال: فأقبل على الجميل فقال: ولم سمي ذا الإصبع؟ فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: لأن حية عضت إصبعه فقطعتها، فأقبل على الجميل فقال: ما كان اسمه؟ فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: حرثان بن الحارث، فأقبل على الجميل، فقال: من أيكم كان؟ قال: لا أدري. فقلت من خلفه: من بني ناج، فقال: أبعد بني ناج وسعيك بينهم ** فلا تُتبِعنْ عينيك ما كان هالكَا إذا قلتُ معروفا لأصلح بينهم ** يقول وُهَيْبٌ لا أُصالح ذلكا فأضحى كظهر العير جُبّ سَنامُهُ ** تُطيفُ به الوِلدانُ أحدبَ باركا ثم أقبل على الجميل، فقال: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة، فقال لي: في كم أنت؟ قلت: في ثلاثمائة، فأقبل على الكاتبينِ، فقال: حطا من عطاه هذا أربعمائة، وزيداها في عطاء هذا، فرجعت وأنا في سبعمائة، وهو في ثلاثمائة. ثم جائت كندة فنظر إلى عبد الله بن إسحاق بن الأشعث، فأوصى به بشرا أخاه، وقال: اجعله في صحابتك. وأقبل داود بن قحذم في مائتين من بكر بن وائل، عليهم الأقبية الداودية، وبه سميت، فجلس مع عبد الملك على سريره، فأقبل عليه عبد الملك، ثم نهض ونهضوا معه، فأتبعهم عبد الملك بصره، فقال: هؤلاء الفساق، والله لولا أن صاحبهم جاءني ما أعطاني أحد منهم طاعة. ثم إنه ولى -فيما قيل- قطن بن عبد الله الحارثي الكوفة أربعين يوما ثم عزله، وولى بشر بن مروان وصعد منبر الكوفة فخطب فقال: إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه، ولم يغرز ذنبه في الحرم. ثم قال: إني قد استعملت عليكم بشر بن مروان، وأمرته بالإحسان إلى أهل الطاعة، والشدة على أهل المعصية، فاسمعوا له وأطيعوا. واستعمل محمد بن عمير على همدان، ويزيد بن رؤيم على الري، وفرق العمال، ولم يف لأحد شرط عليه ولاية أصبهان، ثم قال: علي هؤلاء الفساق الذين أنغلوا الشام، وأفسدوا العراق، فقيل: قد أجارهم رؤساء عشائرهم، فقال: وهل يجير علي أحد. وكان عبد الله بن يزيد بن أسد لجأ إلى علي بن عبد الله بن عباس، ولجأ إليه أيضا يحيى بن معيوف الهمداني، ولجأ الهذيل بن زفر بن الحارث وعمرو بن زيد الحكمي إلى خالد بن يزيد بن معاوية، فآمنهم عبد الملك، فظهروا. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة تنازع الرياسة بالبصرة عبيد الله بن أبي بكرة وحمران بن أبان. فحدثني عمر بن شبة قال: حدثني علي بن محمد قال: لما قتل المصعب وثب حمران بن أبان وعبد الله بن أبي بكرة فتنازعا في ولاية البصرة، فقال ابن أبي بكرة: أنا أعظم غناء منك، أنا كنت أنفق على أصحاب خالد يوم الجفرة. فقيل لحمران: إنك لا تقوى على ابن أبي بكرة، فاستعن بعبد الله بن الأهتم، فإنه إن أعانك لم يقو عليك ابن أبي بكرة. ففعل، وغلب حمران على البصرة وابن الأهتم على شرطها. وكان لحمران منزلة عند بني أمية، حدثني أبو زيد قال: حدثني أبو عاصم النبيل قال: أخبرني رجل: قدم شيخ أعرابي فرأى حمران فقال: من هذا؟ فقالوا: حمران، فقال: لقد رأيت هذا وقد مال رداؤه عن عاتقه فابتدره مروان وسعيد بن العاص أيهما يسويه. قال أبو زيد: قال أبو عاصم: فحدثت بذلك رجلا من ولد عبد الله بن عامر، فقال: حدثني أبي أن حمران مد رجله فابتدر معاوية وعبد الله بن عامر أيهما يغمزها. ذكر خبر ولاية خالد بن عبد الله على البصرة وفي هذه السنة بعث عبد الملك خالد بن عبد الله على البصرة واليا. حدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، قال: مكث حمران على البصرة يسيرا وخرج ابن أبي بكرة حتى قدم على عبد الملك الكوفة بعد مقتل مصعب، فولى عبد الملك خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد على البصرة وأعمالها، فوجه خالد عبيد الله بن أبي بكرة خليفته على البصرة، فلما قدم على حمران قال: أقد جئت، لا جئت! فكان ابن أبي بكرة على البصرة حتى قدم خالد. وفي هذه السنة رجع عبد الملك -فيما زعم الواقدي- إلى الشام. قال: وفيها نزع ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف عن المدينة، واستعمل عليها طلحة بن عبد الله بن عوف؟ قال: وهو آخر وال لابن الزبير على المدينة، حتى قدم عليها طارق بن عمرو مولى عثمان، فهرب طلحة، وأقام طارق بالمدينة حتى كتب إليه عبد الملك. وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير في قول الواقدي. خطبة عبد الله بن الزبير بعد مقتل مصعب وذكر أبو زيد عن أبي غسان محمد بن يحيى، قال: حدثني مصعب بن عثمان، قال: لما انتهى إلى عبد الله بن الزبير قتل مصعب قام في الناس فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء. ألا إنه لم يُذْلِلِ اللهُ من كان الحق معه وإن كان فردا، ولم يعزز من كان وليه الشيطان وحزبُه وإن كان معه الأنام طُرًّا. ألا وإنه قد أتانا من العراق خبرٌ حزننا وأفرحنا، أتانا قتل مُصعَب رحمة الله عليه، فأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله له شهادة، وأما الذي حزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمُهُ عند المصيبة، ثم يرعوي من بعدها ذو الرأي إلى جميل الصبر وكريم العزاء، ولئن أُصبتُ بمصعب لقد أصبت بالزبير قبله، وما أنا من عثمانَ بخِلْوِ مصيبة، وما مصعب إلا عبدٌ من عبيد الله وعون من أعواني. ألا إن أهلَ العراق أهلُ الغَدر والنفاق، أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا والله ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو أبي العاص، والله ما قتل منهم رجل في زَحف في الجاهلية ولا الاسلام، وما نموت إلا قَعصًا بالرماح، وموتا تحت ظلال السيوف. ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه ولا يبيدُ مُلكُه، فإن تقبل لا آخذها أخذَ الأشِرِ البَطر، وإن تدبر لا أبكِ عليها بكاءَ الحَرِقِ المَهِين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وذكر أن عبد الملك لما قتل مصعبا ودخل الكوفة أمر بطعام كثير فصُنع. وأمر به إلى الخَوَرْنَق، وأذن إذنا عاما، فدخل الناس فأخذوا مجالسهم. فدخل عمرو بن حُرَيث المخزومي فقال: إلي وعلى سريري، فأجلسه معه. ثم قال: أي الطعام أكلت أحب إليك وأشهى عندك؟ قال: عَناق حمراء قد أجيد تمليحها، وأحكم نضجها، قال: ما صنعت شيئا، فأين أنت من عُمروس راضع قد أجيد سَمطه، وأحكم نُضجه، اختلجتَ إليك رجله. فأتبعتَها يده، غُذي بشَريجَين من لبن وسمن. ثم جاءت الموائد فأكلوا، فقال عبد الملك بن مروان: ما ألذ عيشها لو أن شيئا يدوم! ولكنّا كما قال الأول: وكل جديد يا أُمَيمَ إلى بُلًى ** وكل امرئ يوما يصير إلى كانْ فلما فرغ من الطعام طاف عبد الملك في القصر يقول لعمرو بن حريث: لمن هذا البيت؟ ومن بنى هذا البيت؟ وعمرو يخبره، فقال عبد الملك: وكل جديد يا أميم إلى بلى ** وكل امرئ يوما يصير إلى كان ثم أتى مجلسه فاستلقى وقال: اعمل على مَهَلٍ فإنك مَيّتٌ ** واكدَح لنفسك أيها الإنسانْ فكأن ما قد كان لم يكُ إذ مضى ** وكأن ما هو كائنٌ قد كان وفي هذه السنة افتتح عبد الملك -في قول الواقدي- قَيْسارية. ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة قال أبو جعفر: فمن ذلك ما كان من أمر الخوارج وأمر المهلب بن أبي صفرة وعبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد. ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن حصيرة بن عبد الله وأبا زهير العبسي حدثاه أن الأزارقة والمهلب بعدما اقتتلوا بسولاف ثمانية أشهر أشد القتال، أتاهم أن مصعب بن الزبير قد قُتل، فبلغ ذلك الخوارج قبل أن يبلغ المهلب وأصحابه، فناداهم الخوارج: ألا تخبرونا ما قولكم في مصعب؟ قالوا: إمام هدى، قالوا: فهو وليكم في الدنيا والآخرة؟ قالوا: نعم، قالوا: وأنتم أولياؤه أحياء وأمواتا؟ قالوا: ونحن أولياؤه أحياء وأمواتا؟. قالوا: فما قولكم في عبد الملك بن مروان؟ قالوا: ذلك ابن اللعين، نحن إلى الله منه براء، هو عندنا أحل دما منكم، قالوا: فأنتم منه بُراء في الدنيا والآخرة؟ قالوا: نعم كبراءتنا منكم، قالوا: وأنتم له أعداء أحياء وأمواتا؟ قالوا: نعم نحن له أعداء كعداوتنا لكم، قالوا: فإن إمامكم مصعبا قد قتله عبد الملك بن مروان، ونراكم ستجعلون غدا عبد الملك إمامكم، وأنتم الآن تتبرؤون منه، وتلعنون أباه، قالوا: كذبتم يا أعداء الله. فلما كان من الغد تبين لهم قتل مصعب، فبايع المهلب الناس لعبد الملك بن مروان، فأتتهم الخوارج فقالوا: ما تقولون في مصعب؟ قالوا: يا أعداء الله، لا نخبركم ما قولنا فيه، وكرهوا أن يكذبوا أنفسهم عندهم، قالوا: فقد أخبرتمونا أمس أنه وليكم في الدنيا والآخرة، وأنكم أولياؤه أحياء وأمواتا، فأخبرونا ما قولكم في عبد الملك؟ قالوا: ذاك إمامنا وخليفتنا -ولم يجدوا إذ بايعوه بدا من أن يقولوا هذا القول- قالت لهم الأزارقة: يا أعداء الله، أنتم أمس تتبرؤون منه في الدنيا والاخرة، وتزعمون أنكم له أعداء أحياء وأموالا، وهو اليوم إمامكم وخليفتكم، وقد قتل إمامكم الذي كنتم تولونه فأيهما المحق، وأيهما المهتدي، وأيهما الضال! قالوا لهم: يا أعداء الله، رضينا بذاك إذ كان ولي أمورنا، ونرضى بهذا كما رضينا بذاك، قالوا: لا والله ولكنكم إخوان الشياطين، وأولياء الظالمين، وعبيد الدنيا. وبعث عبد الملك بن مروان بشر بن مروان على الكوفة، وخالد بن عبد الله بن خالد بن أسِيد على البصرة، فلما قدم خالد أثبت المهلب على خراج الأهواز ومعونتها، وبعث عامر بن مِسْمَع على سابور، ومقاتل بن مسمع على أرْدشِير خُرَّه، ومسمع بن مالك بن مسمع على فَساودرابْجِرد، والمغيرة بن المهلب على إصطخر. ثم إنه بعث إلى مقاتل فبعثه على جيش، وألحقه بناحية عبد العزيز، فخرج يطلب الأزارقة، فانحطوا عليه من قبل كرمان حتى أتوا دَرابْجِرد، فسار نحوهم. وبعث قَطَريٌّ مع صالح بن مخراق سبعمائة فارس، فأقبل يسير بهم حتى استقبل عبد العزيز وهو يسير بالناس ليلا، يجزون على غير تعبية، فهزم الناس، ونزل مقاتل بن مسمع فقاتل حتى قتل، وانهزم عبد العزيز بن عبد الله، وأخذت امرأته ابنة المنذر بن الجارود، فأقيمت فيمن يزيد، فبلغت مائة ألف -وكانت جميلة- فغار رجل من قومها كان من رؤوس الخوارج يقال له أبو الحديد الشَّنّي فقال: تنحوا هكذا، ما أرى هذه المشركة إلا قد فتنتكم، فضرب عنقها. ثم زعموا أنه لحق بالبصرة، فرآه آل منذر فقالوا: والله ما ندري أنحمدك أم نذمك! فكان يقول: ما فعلته إلا غيرة وحمية. وجاء عبد العزيز حتى انتهى إلى رامهرمز، وأتى المهلب فأخبر به، فبعث إليه شيخا من أشياخ قومه كان أحد فرسانه، فقال: ائته فإن كان منهزما فعزه وأخبره أنه لم يفعل شيئا لم يفعله الناس قبله، وأحبره أن الجنود تأتيه عاجلا، ثم يعزه الله وينصره. فأتاه ذلك الرجل، فوجده نازلا في نحو من ثلائين رجلا كئيبا حزينا، فسلم عليه الأزدي وأخبره أنه رسول المهلب، وبلغه ما أمره به وعرض عليه أن يذكر له ما كانت له من حاجة. ثم انصرف إلى المهلب فأخبره الخبر، فقال له المهلب: الحق الآن بخالد بالبصرة فأخبره الخبر، فقال: أنا آتيه أخبره أن أخاه هزم! والله لا آتيه. فقال المهلب: لا والله لا يأتيه غيرك، أنت الذي عاينه ورأيته، وأنت كنت رسولي إليه، قال: هو إذا بهديك يا مهلب أن ذهب إليه العام، ثم خرج. قال المهلب: أما أنت والله فإنك لي آمن، أما والله لو أنك مع غيري، ثم أرسلك على رجليك خرجت تشتد! قال له وأقبل عليه: كانك إنما تمن علينا بحلمك! فنحن والله نكافئك بل نزيد، أما تعلم أنا نُعرّض أنفسنا للقتل دونك، ونحميك من عدوك! ولو كنا والله مع من يجهل عليها ويبعثنا في حاجاته على أرجلنا، ثم احتاج إلى قتالنا ونصرتنا جعلناه بينا وبين عدونا، ووقينا به أنفسنا. قال له المهلب: صدقت صدقت. ثم دعا فتى من الأزد كان معه فسرحه إلى خالد يخبره خبر أخيه، فأتاه الفتى الأزدي وحوله الناس، وعليه جبة خضراء ومطرف أخضر، فسلم عليه، فرد عليه، فقال: ما جاء بك؟ قال: أصلحك الله! أرسلني إليك المهلب لأخبرك خبر ما عاينته، قال: وما عاينت؟ قال: رأيت عبد العزيز برامهرمز مهزوما، قال: كذبت، قال: لا، والله ما كذبت، وما قلت لك إلا الحق، فإن كنت كاذبا فاضرب عنقي، وإن كنت صادقا فأعطني أصلحك الله جبتك ومطرفك. قال: ويحك ما أيسر ما سألت، ولقد رضيت مع الخطر العظيم إن كنت كاذبا بالخطر الصغير إن كنت صادقا. فحبسه وأمر بالإحسان إليه حتى تبينت له هزيمة القوم، فكتب إلى عبد الملك: أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أني بعثت عبد العزيز بن عبد الله في طلب الخوارج. وأنهم لقوه بفارس، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم عبد العزيز لما انهزم عنه الناس، وقتل مقاتل بن مسمع، وقدم الفَلّ إلى الأهواز. أحببت أن أعلم أمير المؤمنين ذلك ليأتيني رأيه وأمره أنزل عنده إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله. فكتب إليه: أما بعد، فقد قدم رسولك في كتابك، تعلمني فيه بعثتك أخاك على قتال الحوإرج، وبهزيمة من هُزم، وقتل من قتل، وسألت رسولك عن مكان المهلب، فحدثني أنه عامل لك على الأهواز، فقبح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابيا من أهل مكة على القتال، وتدع المهلب إلى جنبك يجبي الخراج، وهو الميمون النقيبة، الحسن السياسة، البصير بالحرب، المقاسي لها، ابنها وابن أبنائها! انظر أن تنهض بالناس حتى تستقبلهم بالأهواز ومن وراء الأهواز. وقد بعثت إلى بِشر أن يُمدك بجيش من أهل الكوفة، فإذا أنت لقيت عدوك فلا تعمل فيهم برأي حتى تحضره المهلب، وتستشيره فيه إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله. فشق عليه أنه فَيَّل رأيه في بعثة أخيه وترك المهلب، وفي أنه لم يرض رأيه خالصا حتى قال: أحضره المهلب واستشره فيه. وكتب عبد الملك إلى بشر بن مروان: أما بعد، فإني قد كتبت إلى خالد بن عبد الله آمره بالنهوض إلى الخوارج، فسرِح إليه خمسة آلاف رجل، وابعث عليهم رجلا من قبلك ترضاه، فإذا قضوا غزاتهم تلك صرفتهم إلى الري فقاتلوا عدوهم، وكانوا في مسالحهم، وجبوا فيئهم حتى تأتي أيام عقبهم فتُعقبهم وتبعث آخرين مكانهم. فقطع على أهل الكوفة خمسة آلاف، وبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وقال: إذا قضيت غزاتك هذه فانصرف إلى الري. وكتب له عليها عهدا. وخرج خالد بأهل البصرة حتى قدم الأهواز، وجاء عبد الرحمن بن محمد ببعث أهل الكوفة حتى وافاهم بالأهواز، وجاءت الأزارقة حتى دنوا من مدينة الأهواز ومن معسكر القوم. وقال المهلب لخالد بن عبد الله: إني أرى هاهنا سفنا كثيرة، فضمها إليك. فوالله ما أظن القوم إلا محرقيها. فما لبث إلا ساعة حتى ارتفعت خيل من خيلهم إليها فحرقتها. وبعث خالد بن عبد الله على ميمنته المهلب، وعلى ميسرته داود بن قحذم من بني قيس بن ثعلبة، ومر المهلب على عبد الرحمن بن محمد ولم يخندق، فقال: يا ابن أخىِ، ما يمنعك من الخندق! فقال: والله لهم أهون علي من ضرطة الجمل، قال: فلا يهونوا عليك يا ابن أخي، فإنهم سباع العرب، لا أبرح أو تضرب عليك خندقا، ففعل. وبلغ الخوارج قول عبد الرحمن بن محمد لهم "أهون علي من ضرطة الجمل"، فقال شاعرهم: يا طالب الحق لا تُستَهو بالأمل ** فإن من دون ما تهوى مدى الأجل واعمل لربك واسأله مثوبته ** فإن تقواه فاعلم أفضلُ العمل واغزُ المخانيث في الماذي مُعْلِمة ** كيما تصبح غَدوًا ضرطة الجمل فاقاموا نحوا من عشرين ليلة. ثم إن خالدا زحف إليهم بالناس، فرأوا أمرًا هالهم من عدد الناس وعدتهم، فأخذوا ينحازون، واجترأ عليهم الناس، فكرت عليهم الخيل وزحف إليهم، فانصرفوا كأنهم على حامية وهم مولون لا يرون لهم طاقة بقتال جماعة الناس، وأتبعهم خالد بن عبد الله داود بن قحذم في جيش من أهل البصرة، وانصرف خالد إلى البصرة، وانصرف عبد الرحمن بن محمد إلى الري وأقام المهلب بالأهواز، فكتب خالد بن عبد الله إلى عبد الملك: أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين أصلحه الله أني خرجت إلى الأزارقة الذين مرقوا من الدين، وخرجوا من ولاية المسلمين، فالتقينا بمدينة الأهواز فتناهضنا فاقتتلنا كأشد قتال كان في الناس. ثم إن الله أنزل نصره على المؤمنين والمسلمين، وضرب الله وجوه أعدائه، فاتبعهم المسلمون يقتلونهم، ولا يَمنعون ولا يمتنعون، وأفاء الله ما في معسكرهم على المسلمين، ثم أتبعتهم داود بن قحذم، والله إن شاء مهلكهم ومستأصلهم، والسلام عليك. فلما قدم هذا الكتاب على عبد الملك كتب عبد الملك إلى بشر بن مروان: أما بعد، فابعث من قبلك رجلا شجاعا بصيرا بالحرب في أربعة آلاف فارس، فليسيروا إلى فارس في طلب المارقة، فإن خالدا كتب إلي يخبرني أنه قد بعث في طلبهم داود بن قَحْذَم، فمر صاحبك الذي تبعث ألا يخالف داود بن قحذم إذا ما التقيا، فإن اختلاف القوم بينهم عون لعدوهم عليهم. والسلام عليك. فبعث بشر بن مروان عَتّاب بن ورقاء في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة، فخرجوا حتى التقوا هم وداود بن قذحم بأرض فارس ثم اتبعوا المقوم يطلبونهم حتى نفقت خيول عامهم، وأصابهم الجهد والجوع، ورجع عامة ذَيْنِك الجيشين مشاة إلى الأهواز، فقال ابن قيس الرقيات -من بني مخزوم- في هزيمة عبد العزيز وفراره عن امرأته: عبدَ العزيز فضحتَ جيشك كلهم ** وتركتهم صرعى بكل سبيلِ من بين ذي عطش يجود بنفسه ** ومُلَحَّب بين الرجال قتيل هلّا صبرت مع الشهيد مقاتلا ** إذ رُحت منتكث القُوَى بأصيل وتركت جيشك لا أمير عليهمُ ** فارجع بعار في الحياة طوبل ونسيت عِرسك إذ تُقاد سبيةً ** تُبكى العيونَ برنّة وعويل خروج أبي فديك الخارجي وغلبته على البحرين وفي هذه السنة كان خروج أبي فُدَيك الخارجي، وهو من بني قيس بن ثعلبة، فغلب على البحرين، وقتل نجدة بن عامر الحنفي، فاجتمع على خالد بن عبد الله نزول قطري الأهواز وأمر أبي فديك، فبعث أخاه أمية بن عبد الله على جند كثيف إلى أبي فديك، فهزمه أبو فديك، وأخذ جارية له فاتخذها لنفسه، وسار أمية على فرس له حتى دخل البصرة في ثلاثة أيام، فكتب خالد إلى عبد الملك بحاله وحال الأزارقة. خبر توجيه عبد الملك الحجاج لقتال ابن الزبير وفي هذه السنة وجه عبد الملك الحجاج بن يوسف إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير، وكان السبب في توجيه الحجاج إليه دون غيره -فيما ذكر- أن عبد الملك لما أراد الرجوع إلى الشام، قام إليه الحجاج بن يوسف فقال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه، وولني قتاله. فبعثه في جيش كثيف من أهل الشام، فسار حتى قدم مكة وقد كتب إليهم عبد الملك بالأمان إن دخلوا في طاعه. فحدثني الحارث، قال: حدثني عمد بن سعد، قال أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثنا مصعب بن ثابب، عن أبي الاسود، عن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، قال: بعث عبد الملك بن مروان حين قُتل مصعب بن الزبير الحجاج بن يوسف إلى ابن الزبير بمكة، فخرج في ألفين من جند أهل الشام في جمادى من سنة اثنتين وسبعين، فلم يعرض للمدينة، وسلك طريق العراق، فنزل بالطائف، فكان يبعث البعوث إلى عرفة في الخيل، ويبعث ابن الزبير بعئا فيقتتلون هنالك، فكل ذلك تهزم خيل ابن الزبير وترجع خيل الحجاج بالظفر. ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في حصار ابن الزبير ودخول الحرم عليه ويخبره أن شوكته قد كلّت، وتفرق عنه عامة أصحابه، ويسأله أن يمده برجال، فجاءه كتاب عبد الملك، وكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه من الجند بالحجاج، فسار في خمسة آلاف من أصحابه حتى لحق بالحجاج، وكان قدوم الحجاج الطائف في شعبان سنة الثانية وسبعين. فلما دخل ذو القعدة رحل الحجاج من الطائف حتى نزل بئر ميمون وحصر ابن الزبير. حج الحجاج بالناس في هذه السنة وابن الزبير محصور، وكان قدوم طارق مكة لهلال ذي الحجة، ولم يطف بالبيت ولم يصل إليه وهو محرم، وكان يلبس السلاح ولا يقرب النساء ولا الطيب إلى أن قتل عبد الله بن الزبير. ونحر ابن الزبير بدنا بمكة يوم النحر، ولم يحج ذلك العام ولا أصحابه لأنهم لم يقفوا بعرفة. قال محمد بن عمر: حدثني سعيد بن مسلم بن بابك، عن أبيه، قال: حججت في سنة الثانية وسبعين فقدمنا مكة، فدخنلاها من أعلاها، فنجد أصحاب الحجاج وطارق فيما بين الحَجون إلى بئر ميمون، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حج بالناس الحجاج، فرأيته واقفا بالهضبات من عرفة على فرس، وعليه الدرع والمغفر، ثم صَدَر فرأيته عدل إلى بئر ميمون، ولم يطُف بالبيت وأصحابه متسلحون، ورأيت الطعام عندهم كثيرا، ورأيت العير تأتي من الشأم تحمل الطعام، الكعك والسَّويق والدقيق، فرأيت أصحابه مخاصيب، ولقد ابتعنا من بعضهم كعكا بدرهم، فكفانا إلى أن بلغنا الجُحفة وإنا لثلاثة نفر. قال محمد بن عمر: حدثني مصعب بن ثابت، عن نافع مولى بني أسد، قال -وكان عالما بفتنة ابن الزبير- قال: حصر ابن الزبير ليلة هلال ذي القعدة سنة الثانية وسبعين. أمر عبد الله بن خازم السلمي مع عبد الملك وفي هذه السنة كتب عبد الملك إلى عبد الله بن خازم السُّلمي يدعوه إلى بيعته ويُطعِمه خُراسان سبع سنين، فذكر علي بن محمد أن المفضَّل بن محمد ويحيى بن طُفيل وزهير بن هُنيد حدثوه -قال: وفي خبر بعضهم زيادة على خبز بعض- أن مُصعب بن الزبير قتل سنة الثانية وسبيعن وعبد الله بن خازم بأبْرشَهْر يقاتل بحير بن ورقاء الصُّريمي صُرَيم بن الحارث، فكتب عبد الملك بن مروان إلى ابن خازم مع سورة بن أشيم النُّمَيري: إن لك خراسان سبع سنين على أن تبايع لي. فقال ابن خازم لسورة: لولا أن أضرب بين بني سُلَيم وبني عامر لقتلتك ولكن كلْ هذه الصحيفة، فأكلها. قال: وقال أبو بكر بن محمد بن واسع: بل قدم بعهد عبد الله بن خازم سوادةُ بن عبيد الله النميري. وقال بعضهم: بعث عبد الملك إلى ابن خازم سِنان بن مكمّل الغَنوي، وكتب إليه: إن خراسان طُعمة لك، فقال له ابن خازم: إنما بعثك أبو الذبان لأنك من غَني، وقد علم أني لا أقتل رجلا من قيس، ولكن كُلْ كتابه. قال: وكتب عبد الملك إلى بكير بن وشاح أحد بني عوف بن سعد -وكان خليفة ابن خازم على مرو- بعهده على خراسان ووعده ومنّاه، فخلع بكير بن وشاح عبد الله بن الزبير، ودعا إلى عبد الملك بن مروان، فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم فخاف أن يأتيه بكير بأهل مَرْو، فيجتمع عليه أهل مرو وأهل أبرشهر، فترك بحيرا، وأقبل إلى مرو يريد أن يأتي ابنه بالتِّرمِذ، فاتبعه بحير، فلحقه بقرية يقال لها بالفارسية: شاهميغد، بينها وبين مرو ثمانية فراسخ. قال: فقاتله ابن خازم، فقال مولى لبني ليث: كنت قريبا من معترك القوم في منزل، فلما طلعت الشمس تهايج العسكران، فجعلت أسمع وقع السيوف، فلما ارتفع النهار خفيت الأصرات، فقلت: هذا لارتفاع النهار، فلما صليت الظهر -أو قبل الظهر- خرجت، فتلقاني رجل من بني تميم، فقلت: ما الخبر؟ قال: قتلتُ عدو الله ابن خازم وها هو ذا، وإذا هو محمول على بغل، وقد شدوا في مذاكيره حبلا وحجرا وعدلوه به على البغل. قال: وكان الذي قتله وكيع بن عُميرة القُريعي وهو ابن الدَّوْرَقية، اعتَور عليه بحير بن ورقاء وعمار بن عبد العزيز الجُشمي ووكيع، فطعنوه فصرعوه، فقعد وكيع على صدره فقتله، فقال بعض الولاة لوكيع: كيف قتلت ابن خازم؟ قال: غلبته بفضل القَنا، فلنا صرع قعدت على صدره، فحاول القيام فلم يقدر عليه، وقلت: يا لثارات دويلة ودويلة - أخ لوكيع لأمه، قُتل قبل ذلك في غير تلك الأيام. قال وكيع: فتنخم في وجهي وقال: لعنك الله تقتل كبش مضر بأخيك، علْج لا يساوي كفا من نوى -أو قال: من تراب- فما رأيت أحدا أكثر ريقا منه على تلك الحال عند الموت. قال: فذكر ابن هبيرة يوما هذا الحديث فقال: هذه والله البسالة. قال: وبعث بحير ساعة قتل ابن خازم رجلا من بني غُدانة إلى عبد الملك بن مروان يخبره بقتل ابن خازم، ولم يبعث بالرأس، وأقبل بكير بن وشاح في أهل مرو فوافاهم حين قتل ابن خازم، فارأد أخذ رأس ابن خازم، فمنعه بحير، فضربه بكير بعمود، وأخذ الرأس وقيد بحيرا وحبسه، وبعث بكير بالرأس إلى عبد الملك، وكتب إليه يخبره أنه هو الذي قتله، فلما قدم بالرأس على عبد الملك دعا الغُداني رسول بَحير وقال: ما هذا؟ قال: لا أدري، وما فارقت القوم حتى قتل، فقال رجل من بني سليم: أليلتنا بنيسابور رُدّي ** على الصبح ويحك أو أنيري كواكبها زواحف لاغِبات ** كأن سماءها بيدي مُديرِ تلوم على الحوادث أم زيد ** وهل لك في الحوادث من نكير! جهلن كرامتي وصددن عني ** إلى أجل من الدنيا قصير فلو شهد الفوارس من سُليمٍ ** غداة يطاف بالأسد العقير لنازل حوله قوم كرام ** فعز الوِترُ في طلب الوتور فقد بقيتْ كلاب نابحات ** وما في الأرض بعدك من زئير فولى الحج بالناس في هذه السنة الحجاج بن يوسف. وكان العامل على المدينة طارق مولى عثمان من قبل عبد الملك، وعلى الكوفة بشر بن مروان، وعلى قضائها عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود. وعلى البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى قضائها هشام بن هبيرة. وعلى خراسان في قول بعضهم عبد الله بن خازن السلمي، وفي قول بعض: بكير بن وشاح. وزعم من قال كان على خراسان في سنة الثانية وسبعين عبد الله بن خازم أن عبد الله بن خازم إنما قتل بعدما قتل عبد الله بن الزبير، وأن عبد الملك إنما كتب إلى عبد الله بن خازم يدعوه إلى الدخول في طاعته على أن يطعمه خراسان عشر سنين بعدما قتل عبد الله بن الزبير، وبعث برأسه إليه، وأن عبد الله بن خازم حلف لما ورد عليه رأس عبد الله بن الزبير ألا يعطيه طاعة أبدا، وأنه دعا بطست فغسل رأس ابن الزبير، وحنطه وكفنه، وصلى عليه، وبعث به إلى أهل عبد الله بن الزبير بالمدينة، وأطعم الرسول الكتاب، وقال: لولا أنك رسول لضربت عنقك. وقال بعضهم: قطع يديه ورجليه وضرب عنقه. فصل نذكر فيه الكتاب من بدء أمر الإسلام روى هشام وغيره أن أول من كتب من العرب حرب بن أمية بن عبد شمس بالعربية. وأن أول من كتب بالفارسية بيوراسب، وكان في زمان إدريس. وكان أول من صنف طبقات الكتاب وبين منازلهم لهراسب بن كاوغان بن كيموس. وحكي أن أبرويز قال لكاتبه: إنما الكلام أربعة أقسام: سؤالك الشيء، وسؤالك عن الشيء، وأمرك بالشيء، وخبرك عن الشيء، فهذه دعائم المقالات إن التمس لها خامس لم يوجد، وإن نقص منها رابع لم تتم، فإذا طلبت فأسجح، وإذا سألت فأوضح، وإذا أمرت فأحتم، وإذا أخبرت فحقق. وقال أبو موسى الأشعري: أول من قال أما بعد داود، وهي فصل الخطاب الذي ذكره الله عنه. وقال الهيثم بن عدي: أول من قال "أما بعد" قس بن ساعدة الإيادي. أسماء من كتب للنبي ﷺ علي بن أبي طالب عليه السلام وعثمان بن عفان، كانا يكتبان الوحي، فإن غابا كتبه أبي بن كعب وزيد بن ثابت. وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان يكتبان بين يديه في حوائجه. وكان عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث والعلاء بن عقبة يكتبان بين القوم في حوائجهم، وكان عبد الله بن الأرقم ربما كتب إلى الملوك عن النبي ﷺ. أسماء من كان يكتب للخلفاء والولاة وكتب لأبي بكر عثمان وزيد بن ثابت وعبد الله بن الأرقم وعبد الله بن خلف الخزاعي وحنظلة بن الرببع. وكتب لعمر بن الخطاب زيد بن ثابت وعبد الله بن الأرقم وعبد الله بن خلف الخزاعي أبو طلحة الطلحات على ديوان البصرة. وكتب له على ديوان الكوفة أبو جبيرة بن الضحاك الأنصاري. وقال عمر بن الخطاب لكتابه وعماله: إن القوة على العمل ألا تؤخروا عمل اليوم لغد، فإنكم إذا فعلتم ذلك تذاءبت عليكم الأعمال، فلا تدرون بأيها تبدؤون وأيها تأخذون. وهو أول من دون الدواوين في العرب في الإسلام. وكان يكتب لعثمان مروان بن الحكم، وكان عبد الملك يكتب له على ديوان المدينة، وأبو جبيرة الأنصاري على ديوان الكوفة، وكان أبو غطفان بن عوف بن سعد بن دينار من بني دهمان بن قيس عيلان يكتب له، وكان يكتب له أهيب مولاه، وحمران مولاه. وكان يكتب لعلي عليه السلام سعيد بن نمران الهمداني، ثم ولي قضاء الكوفة لابن الزبير. وكان يكتب له عبد الله بن مسعود، وروي أن عبد الله بن جبير كتب له. وكان عبيد الله به أبي رافع يكتب له. واختلف في اسم أبي رافع، فقيل اسمه إبراهيم، وقيل أسلم، وقيل سنان، وقيل عبد الرحمن. وكان يكتب لمعاوية على الرسائل عبيد بن أوس الغساني. وكان يكتب له على ديوان الخراج سرجون بن منصور الرومي. وكتب له عبد الرحمن بن دراج، وهو مولى معاوية، وكتب على بعض دواوينه عبيد الله بن نصر بن الحجاج بن علاء السلمي. وكان يكتب لمعاوية بن يزيد الريان بن مسلم، ويكتب له على الديوان سرجون. ويروى أنه كتب له أبو الزعيزعة. وكتب لعبد الملك بن مروان قبيصة بن ذؤيب بن حلجلة الخزاعي، ويكنى أبا إسحاق. وكتب على ديوان الرسائل أبو الزعيزعة مولاه. وكان يكتب للوليد القعقاع بن خالد -أو خليد العبسي- وكتب له على ديوان الخراج سليمان بن سعد الخشني، وعلى ديوان الخاتم شعيب العماني مولاه، وعلى ديوان الرسائل جناح مولاه، وعلى المستغلات نفيع بن ذؤيب مولاه. وكان يكتب لسليمان سليمان بن نعيم الحميري. وكان يكتب لمسلمة سجيع مولاه، وعلى ديوان الرسائل الليث بن أبي رقية مولى أم الحكم بنت أبي سفيان، وعلى ديوان الخراج سليمان بن سعد الخشني، وعلى ديوان الخاتم نعيم بن سلامة مولى لأهل اليمن من فلسطين، وقيل بل رجاء بن حيوة كان يتقلد الخاتم. وكان يكتب ليزيد بن المهلب المغيرة بن أبي فروة. وكان يكتب لعمر بن عبد العزيز الليث بن أبى رقية مولى أم الحكم بنت أبي سفيان، ورجاء بن حيوة. وكتب له إسماعيل بن أبى الحكم مولى الزبير، وعلى ديوان الخراج سليمان بن سعد الخشني، وقلد مكانه صالح بن جبير الغساني -وقيل: الغداني- وعدي بن الصباح بن المثنى، ذكر الهيثم بن عدي أنه كان من جلة كتابه. وكتب ليزيد بن عبد الملك قبل الخلافة رجل يقال له يزيد بن عبد الله، ثم استكتب أسامة بن زيد السليحي. وكتب لهشام سعيد بن الوليد بن عمرو بن جبلة الكلبي الأبرش، ويكنى أبا مخاشع، وكان نصر بن سيار يتقلد ديوان خراج خراسان لهشام. وكان من كتابه بالرصافة شعيب بن دينار. وكان يكتب للوليد بن يزيد بكير بن الشماخ، وعلى ديوان الرسائل سالم مولى سعيد بن عبد الملك، ومن كتابه عبد الله بن أبي عمرو، ويقال عبد الأعلى بن أبي عمرو، وكتب له على الحضرة عمرو بن عتبة. وكتب ليزيد بن الوليد الناقص عبد الله بن نعيم، وكان عمرو بن الحارث مولى بني جمح يتولى له ديوان الخاتم، وكان يتقلد له ديوان الرسائل ثابث بن سليمان بن سعد الخشني -ويقال الربيع بن عرعرة الخشني- وكان يتقلد له الخراج والديوان الذي للخاتم الصغير النضر بن عمرو من أهل اليمن. وكتب لإبراهيم بن الوليد ابن أبي جمعة، وكان يتقلد له الديوان بفلسطين، وبايع الناس إبراهيم -أعني ابن الوليد- سوى أهل حمص، فإنهم بايعوا مروان بن محمد الجعدي. وكتب لمروان عبد الحميد بن يحيى مولى العلاء بن وهب العامري ومصعب بن الربيع الخثعمي، وزياد بن أبي الورد. وعلى ديوان الرسائل عثمان بن قيس مولى خالد القسري. وكان من كتابه مخلد بن محمد بن الحارث -ويكنى أبا هاشم- ومن كتابه مصعب بن الربيع الخثعمي، ويكنى أبا موسى. وكان عبد الحميد بن يحيى من البلاغة في مكان مكين، ومما اختير له من الشعر: تَرحّلَ ما ليس بالقافل ** وأعقَبَ ما ليس بالزائلِ فلهفي على الخَلَف النازل ** ولهفي على السلف الراحل أُبكّي على ذا وأَبكِي لذا ** بكاء مولهة ثاكل تُبَكّي من ابن لها قاطع ** وتبكي على ابن لها واصل فليستْ تفتَّرُ عن عَبْرة ** لها في الضمير ومن هامل تقضَّت غَواياتُ سُكْرِ الصبى ** وردَّ التُّقى عَنَنَ الباطل وكتب لأبي العباس خالد بن بَرْمَك، ودفع أبو العباس ابنته رَيطة إلى خالد بن برمك حتى أرضعتها زوجته أم خالد بنت يزيد بلِبان بنت لخالد تدعى أم يحيى، وأرضعت أم سلمة زوجة أبي العباس أم يحيى بنت خالد بلبان ابنتها ريطة. وقلد ديوان الرسائل صالح بن الهيثم مولى ريطة بنت أبي العباس. وكتب لأبي جعفر المنصور عبد الملك بن حُميد مولى حاتم بن النعمان الباهلي من أهل خُراسان، وكتب له هاشم بن سعيد الجُعفي وعبد الأعلى بن أبي طلحة من بني تميم بواسط. وروي أن سليمان بن مخلد كان يكتب لأبي جعفر، ومما كان يتمثل به أبو جعفر المنصور: وما إنْ شَفى نفسا كأمر صريمة ** إذا حاجة في النفس طال اعتراضتُها وكتب له الربيع. وكان عُمارة بن حمزة من نبلاء الرجال، وله: لا تَشْكون دهرا صَحَحتَ به ** إن الغنى في صحة الجسم هبك الإمام أكنت منتفعا ** بغضارة الدنيا مع السقم وكان يتمثل بقول عبد بني الحَسحاس: أمِنْ أمية دمع العين مذروف ** لو أن ذا منك في اليوم معروفُ لا تُبكِ عينَك إن الدهر ذو غِيَرٍ ** فيه تفرَّق ذو إلف ومألوفُ وكتب للمهدي أبو عببد الله وأبان بن صدقة على ديوان رسائله، ومحمد بن حُميد الكاتب على ديوان جنده ويعقوب بن داود، وكان اتخذه على وزارئه وأمره، وله: عجبا لتصريف الأمو ** ر محبةً وكراهيه والدهر يلعب بالرجا ** لِ له دوائرُ جاريه ولابنه عبد الله بن يعقوب - وكان له محمد ويعقوب، كلاهما شاعر مجيد: وزع المشيب شراستي وغرامي ** ومَرَى الجفون بمُسبَل سَجّام ولقد حرصتُ بأن أواري شخصه ** عن مقلتي فرُمتُ غير مرام وصبغت ما صبغ الزمان فلم يدم ** صِبغي ودامت صِبغة الأيام لا تَبعدنَّ شيبة ذيالة ** فارقتُها في سالف الأعوام ما كان ما استصحبت من أيامها ** إلا كبعض طوارق الأحلام ولأبيه: طلق الدنيا ثلاثا ** واتخذ زوجا سواها إنها زوجة سوء ** لا تبالي من أتاها واستوزر بعده الفيض بن أبي صالح، وكان جوادا. وكتب للهادي موسى عُبيد الله بن زياد بن أبي ليلى ومحمد بن حُميد. وسأل المهدي يوما أبا عبيد الله عن أشعار العرب، فصنفها له، فقال: أحكمها قول طَرفة بن العبد: أرى قبر نحام بخيل بماله ** كقبر غَوي في البطالة مُفسدِ ترى جثوتين من تراب عليهما ** صفائح صُمٌّ من صفيح مصمَّد أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ** عقيلة مال الفاحش المتشدد أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة ** وما تنقص الأيام والدهر يَنفَدِ لعمرُك إن الموت ما أخطأ الفتى ** لكالطول المُرخى وثِنياه باليد وقوله: وقد أرانا كلانا هَمّ صاحبه ** لو أن شيئا إذا ما فاتنا رَجعا وكان شيء إلى شيء ففرّقَه ** دهر يكرُّ على تفريق ما جمَعا وقول لبيد: ألا تسألانِ المرءَ ماذا يحاولُ ** أنَحبٌ فيُقضى أم ضلالٌ وباطلُ ألا كلُّ شيء ما خلا اللهَ باطلُ ** وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ أرى الناس لا يدرون ما قدرُ أمرِهمْ ** بلى كل ذي رأيٍ إلى الله واسِلُ وكقول النابغة الجعدي: وفد طال عهدي بالشباب وأهله ** ولاقيتُ رَوعات تٌشيبٌ النواصيا فلم أجِدِ الإخوان إلا صحابةً ** ولم أجِدِ الأهلين إلا مثاويا ألم تعلمي أن قد رُزِئتُ مُحاربا ** فما لك من اليوم شيءٌ ولا ليا وكقول هُدبة بن خَشرَم: ولستُ بمفراح إذا الدهر سرّني ** ولا جازع من صرفه المتقلبِ ولا أبتغي الشر والشرُّ تاركي ** ولكن متى أحمل على الشر أركبِ وما يعرفُ الأقوامُ للدهر حقَّه ** وما الدهر مما يكرهون بمُعتِبِ وللدهر في أهل الفتى وتِلادِه ** نصيب كحزِّ الجازِر المتشعِّب وكقول زيادة بن زيد، وتمثل به عبد الملك بن مروان: تذكَّر عن شحط أميمة فارعَوى ** لها بعد إكثار وطول نحيبِ وإنَّ امرأً قد جرب الدهرلم يخَفْ ** تقلب عَصرَيه لغيرُ لبيب هل الدهر والأيام إلا كما ترى ** رزيئة مال أو فراق حبيب وكل الذي يأتي فأنت نسيبُهُ ** ولست لشيء ذاهب بنسيب وليس بعيد ما يجيءكمقبل ** ولا ما مضى من مُفرح بقريب وكقول ابن مُقبل: لما رأت بَدل الشباب بكت له ** والشيب أرذلُ هذه الأبدالِ والناس همهم الحياة ولا أرى ** طول الحياة يزيدُ غير خَبال وإذا افتقرت إلى الذخائرَ لم تجد ** ذخرا يكون كصالح الأعمال ووزر له يحيى بن خالد. ووزر للرشيد ابنه جعفر بن يحيى بن خالد، فمن مليح كلامه: "الخط سمة الحكمة، به تفصَّل شُذورها، وينظم منثورها". قال ثمامة: قلت لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ فقال: أن يكرن الاسم محيطا بمعناك، مخبرا عن مغزاك، مخرجا من الشركة، غير مستعان عليه بالفكرة. قال الأصمعي: سمعت يحيى بن خالد يقول: الدنيا دول، والمال عارية، ولنا بمن قبلنا أسوة، وفينا لمن بعدنا عبرة. ونأتي بتسمية باقي كتّاب خلفاء بني العباس إذا انتهينا إلى الدولة العباسية إن شاء الله تعالى. ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ذكر الكائن الذي كان فيها من الأمور الجليلة خبر مقتل عبد الله بن الزبير فمن ذلك مقتل عبد الله بن الزبير. ذكر الخبر عن صفة ذلك حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر. قال: حدثني إسحاق بن يحيى، عن عبيد الله بن القبطية، قال: كانت الحرب بين ابن الزبير والحجاج ببطن مكة ستة أشهر وسبع عشرة ليلة. قال محمد بن عمر: وحدثني مصعب بن ثابت، عن نافع مولى بني أسد -وكان عالما بفتنة ابن الزبير- قال: حصر ابن الزبير ليلة هلال ذي القعدة سنة الثانية وسبعين وقتل لسبع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وكان حصر الحجاج لابن الزبير ثمانية أشهر وسبع عشرة ليلة. حدثنا الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني إسحاق بن يحيى، عن يوسف بن ماهك. قال: رأيت المنجنيق يرمى به، فرعدت السماء وبرقت، وعلا صوت الرعد والبرق على الحجارة، فاشتمل عليها، فأعظم ذلك أهل الشام، فأمسكوا بأيديهم، فرفع الحجاج بركة قبائه فغرزها في منطقته، ورفع حجر المنجنيق فوضعه فيه، ثم قال: ارموا، ورمى معهم. قال: ثم أصبحوا، فجاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا، فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: يا أهل الشام، لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة، هذه صواعق تهامة، هدا الفتح قد حضر فأبشروا، إن القوم يصيبهم مثل ما أصابكم، فصعقت من الغد. فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون، وأنتم على الطاعة وهم على خلاف الطاعة. فلم تزل الحرب ببن ابن الزبير والحجاج حتى كان قبيل مقتله وقد تفرق عنه أصحابه، وخرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في الأمان. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني إسحاق بن عبد الله، عن المنذر بن جهم الأسدي، قال: رأيت ابن الزبير يوم قتل وقد تفرق عنه أصحابه وخذله من معه خذلانا شديدا. وجعلوا يخرجون إلى الحجاج حتى خرج إليه نحو من عشرة آلاف. وذكر أنه كان ممن فارقه وخرج إلى الحجاج ابناه حمزة وخُبيب، فأخذا منه لأنفسهما أمانا، فدخل على أمه أسماء، كما ذكر محمد بن عمر عن أبي الزناد، عن مخرمة بن سليمان الوالبي، قال: دخل ابن الزبير على أمه حين رأى من الناس ما رأى من خذلانهم، فقال: يا أمه، خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطوني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له. فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت! أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك. وإن قلت: كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا! القتل أحسن. فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيا إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه. ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتني بصيرة مع بصيرتي. فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عملا بفاحشة، ولم يجُر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته. ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي. اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني. فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي، اخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. قال: جزاك الله يا أمه خيرا، فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد. فقلت: لا أدعه أبدا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي. اللهم قد سلمت لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين. قال مصعب بن ثابت: فما مكثت بعده إلا شهرا، ويقال: خمسة أيام. قال محمد بن عمر: حدثني موسى بن يعقوب بن عبد الله عن عمه قال: دخل ابن الزبير على أمه وعليه الدرع والغفر فوقف فسلم، ثم دنا فتناول يدها فقبلها. فقالت: هذا وداع فلا تبعد، قال ابن الزبير: جئت مودعا إني لأرى هذا آخر يوم من الدنيا يمر بي، واعلمي يا أمه أني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي، قالت: صدقت يا بني، أتمم على بصيرتك، ولا تمكن ابن أبي عقيل منك، وادن مني أودعك، فدنا منها فقبلها وعانقها، وقالت حيث مست الدرع: ما هذا صنيع من يريد ما تريد! قال: ما لبست هذا الدرع إلا لأشُد منك، قالت العجوز: فإنه لا يشد مني، فنزعها ثم أدرج كميه، وشد أسفل قميصه، وجبة خز تحت القميص فأدخل أسفلها في المنطقة، وأمه تقول: البس ثيابك مشمرة، ثم انصرف ابن الزبير وهو يقول: إني إذا أعرف يومي أصبر ** إذ بعضهم يعرف ثم ينكرْ فسمعت العجوز قوله، فقالت: تصبر والله إن شاء الله، أبوك أبو بكر والزبير، وأمك صفية بنت عبد المطلب. حدثني الحارث، قال: حدثني ابن سعد، قال: أخبرني محمد بن عمر، قال: أخبرنا ثور بن يزيد، عن شيخ من أهل حمص شهد وقعة ابن الزبير مع أهل الشام، قال: رأيته يوم الثلاثاء وإنا لنطلع عليه أهل حمص خمسمائة خمسمائة من باب لنا ندخله، لا يدخله غيرنا، فيخرج إلينا وحده في أثرنا، ونحن منهزمرن منه، فما أنسى أرجوزة له: إني إذا أعرف يومي أصبِرْ ** وإنما يعرف يومَيهِ الحرّْ إذا بعضُهم يَعرِف ثم يُنكِرْ فأقول: أنت والله الحر الشريف، فلقد رأيته يقف في الأبطح ما يدنو منه أحد حتى ظننا أنه لا يقتل. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن نافع مولى بني أسد، قال: رأيت الأبواب قد شحنت من أهل الشام يوم الثلاثاء، وأسلم أصحاب ابن الزبير المحارس، وكثرهم القوم فأقاموا على كل باب رجالا وقائدا وأهل بلد، فكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم، وكان الحجاج وطارق بن عمرو جميعا في ناحية الأبطح إلى المروة، فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية، ومرة في هذه الناحية. فلكأنه أسد في أجمة ما يقدم عليه الرجال. فيعدو في أثر القوم وهم على الباب حتى يخرجهم وهو يرتجز: إني إذا أعرف يومي أصبر ** وأنما يعرف يومَيْه الحر ثم يصيح: يا أبا صفوان، ويل أمه فتحا لو كان له رجال! لو كان قِرني واحدا كفيتهْ قال ابن صفوان: إي والله وألف. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: فحدثني ابن أبي الزناد وأبو بكر بن عبد الله بن مصعب، عن أبي المنذر. وحدثنا نافع مولى بني أسد، قالا: لما كان يوم الثلاثاء صبيحة سبع عشرة من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وقد أخذ الحجاج على ابن الزبير بالأبواب، بات ابن الزبير يصلي عامة الليل، ثم احتبى بحمائل سيفه فأغفى، ثم انتبه بالفجر فقال: أذن يا سعد، فأذن عند المقام، وتوضأ ابن الزبير، وركع ركعتي الفجر، ثم تقدم، وأقام المؤذن، فصلى بأصحابه، فقرأ (ن والقلم) حرفا حرفا، ثم سلم، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اكشفوا وجوهكم حتى أنظر، وعليهم المغافر والعمائم، فكشفوا وجوههم فقال: يا آل الزبير، لو طبتم لي نفسا عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطُلِمنا في الله لم تصبنا زبّاءُ بتّة. أما بعد يا آل الزبير، فلا يرُعكم وقع السيوف، فإني لم أحضر موطئا قط إلا ارتثثت فيه من القتل، وما أجد من أدواء جراحها أشد مما أجد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، لا أعلم امرأ كسر سيفه واستبقى نفسه، فإن الرجل إذا ذهب سلاحه فهر كالمرأة أعزل، غضوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كل امرئ قِرنه، ولا يلهينكم السؤال عني، ولا تقولن أين عبد الله بن الزبير، ألا من كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول: أبى لابن سلمى أنه غيرُ خالد ** ملاقي المنايا أيَّ صَرْفٍ تيمَّما فلستُ بمُبتاع الحياة بسُبّةٍ ** ولا مُرتَقٍ من خشية الموت سُلَّما احملوا على بركة الله. ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحَجون، فرمي بآجرة فأصابته في وجهه فأرعش لها، ودُمي وجهه، فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه ولحيته قال: فلسنا على الأعقاب تدمى كلومُنا ** ولكن على أقدامنا تقطر الدما وتغاوَوا عليه. قالا: وصاحت مولاة لنا مجنونة: وا أمير المؤمنيناه! قالا: وقد رأته حيث هوى، فأشارت لهم إليه، فقتل وإن عليه ثياب خَزّ. وجاء الخبر إلى الحجاج، فسجد وسار حتى وقف عليه وطارق بن عمرو، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكرَ من هذا، فقال الحجاج: تمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين! قال: نعم، هو أعذر لنا، ولولا هذا ما كان لنا عذر، إنا محاصروه وهو في غير خندق ولا حصن ولا منعة منذ سبعة أشهر ينتصف منا، بل يفضل علينا في كل ما التقينا نحن وهو. فبلغ كلامهما عبد الملك، فصوّب طارقا. حدثنا عمر قال: حدثنا أبو الحسن، عن رجاله، قال: كأني أنظر إلى ابن الزبير وقد قتل غلاما أسود ضربه فعرقبه، وهو يمر في حملته عليه ويقول: صبرا يا ابن حام، ففي مثل هذه المواطن تصبر الكرام. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الجبار بن عمارة، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: بعث الحجاج برأس ابن الزبير ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة فنصبت بها، ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان، ثم دخل الحجاج مكة فبايع من بها من قريش لعبد الملك بن مروان. أخبار متفرقة قال أبو جعفر: وفى هذه السنة ولى عبد الملك طارقا مولى عثمان المدينة فوليها خمسة أشهر. وفي هذه السنة توفي بشر بن مروان في قول الواقدي، وأما غيره فإنه قال كانت وفاته في سنة أربع وسبعين. وفيها أيضا وجّه -فيما ذكر- عبد الملك بن مروان عمر بن عبيد الله بن معمر لقتال أبي فديك، وأمره أن يندب معه من أحب من أهل المصرين، فقدم الكوفة فندب أهلها، فانتدب معه عشرة آلاف، ثم قدم البصرة فندب أهلها، فانتدب معه عشرة آلاف، فأخرج لهم أرزاقهم وأعطياتهم، فأعطوها. ثم سار بهم عمر بن عبيد الله، فجعل أهل الكوفة على الميمنة وعليهم محمد بن موسى بن طلحة، وجعل أهل البصرة على الميسرة وعليهم ابن أخيه عمر بن موسى بن عبيد الله، وجعل خيله في القلب، حتى انتهوا إلى البحرين، فصف عمر بن عبيد الله أصحابه. وقدم الرجالة في أيديهم الرماح قد ألزموها الأرض، واستتروا بالبراذع. فحمل أبو فديك وأصحابه حملة رجل واحد، فكشفوا ميسرة عمر بن عبيد الله حتى ذهبوا في الأرض إلا المغيرة بن المهلب ومعن بن الغيرة ومجاعة بن عبد الرحمن وفرسان الناس فنهم مالوا إلى صف أهل الكوفة وهم ثابتون، وارتث عمر بن موسى بن عبيد الله، فهو في القتلى قد أثخن جراحة. فلما رأى أهل البصرة أهل الكوفة لم ينهزموا تذمموا ورجعوا وقاتلوا وما عليهم أمير حتى مروا بعمر بن موسى بن عبيد الله جريحا فحملوه حتى أدخلوه عسكر الخوارج وفيه تبن كثير فأحرقره. ومالت عليهم الريح، وحمل أهل الكوفة وأهل البصرة حتى استباحوا عسكرهم وقتلوا أبا فديك وحصروهم في المشقر، فنزلوا على الحكم، فقتل عمر بن عبيد الله منهم فيما ذكر نحوا من ستة آلاف، وأسر ثمانمائة، وأصابوا جارية أمية بن عبد الله حبلى من أبي فديك وانصرفوا إلى البصرة. وفي هذه السنة عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة وولاها أخاه بشر بن مروان، فصارت ولايتها وولاية الكوفة إليه. فشخص بشر لما ولي مع الكوفة البصرة إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث. وفيها غزا محمد بن مروان الصائفة. فهزم الروم. وقيل: إنه كان في هذه السنة وقعة عثمان بن الوليد بالروم في ناحية أرمينية، وهو في أربعة آلاف والروم في ستين ألفا. فهزمهم وكثر القتل فيهم. وأقام الحج في هذه السنة للناس الحجاج بن يوسف وهو على مكة واليمن واليمامة. وعلى الكوفة والبصرة -في قول الواقدي- بشر بن مروان، وفي قول غيره على الكوفة بشر بن مروان، وعلى البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسعد وعلى قضاء الكوفة شريح بن الحارث. وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة. وعلى خراسان بكير بن وشاح. ثم دخلت سنة أربع وسبعين ذكر ما كان فيها من الأحداث الجليلة قال أبو جعفر: فمما كان فيها من ذلك عزل عبد الملك طارق بن عمرو عن المدينة، واستعماله عليها الحجاح بن يوسف. فقدمها فيما ذكر فأقام بها شهرا ثم خرج معتمرا. وفيها كان فيما ذكر نقض الحجاج بن يوسف بنيان الكعبة الذي كان ابن الزبير بناه، وكان إذ بناه أدخل في الكعبة الحجر، وجعل لها بابين، فأعادها الحجاج على بنائها الأول في هذه السنة، ثم انصرف إلى المدينة في صفر، فأقام بها ثلاثة أشهر يتعبث بأهل المدينة ويتعنتهم، وبنى بها مسجدا في بني سلمة، فهو ينسب إليه. واستخف فيها بأصحاب رسول الله ﷺ، فختم في أعناقهم، فذكر محمد بن عمران بن أبي ذئب حدثه عمن رأى جابر بن عبد الله مختوما في يده. وعن ابن أبي ذئب، عن إسحاق بن يزيد، أنه رأى أنس بن مالك مختوما في عنقه، يريد أن يذله بذلك. قال ابن عمر: وحدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: رأيت الحجاج أرسل إلى سهل بن سعد فدعاه، فقال: ما منعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان؟ قال: قد فعلت. قال: كذبت. ثم أمر به فختم في عنقه برصاص. وفيها استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولاني فيما ذكر الواقدي. وفي هذه السنة شخص في قول بعضهم بشر بن مروان من الكوفة إلى البصرة واليا عليها. ذكر الخبر عن حرب المهلب الأزارقة وفي هذه السنة وُلِّيَ المهلب حرب الأزارقة من قبل عبد الملك. ذكر الخبر عن أمره وأمرهم فيها ولما صار بشر بالبصرة كتب عبد الملك إليه فيما ذكر هشام عن أبي مخنف، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه: أما بعد: فابعث المهلب في أهل مصره إلى الأزارقة، ولينتخب من أهل مصره وجوههم وفرسانهم وأولي الفضل والتجربة منهم، فإنه أعرف بهم وخله ورأيه في الحرب، فإني أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين. وأبعث من أهل الكوفة بعثا كثيفا، وابعث عليهم رجلا معروفا شريفا حسيبا صليبا، يعرف بالبأس والنجدة والتجربة للحرب، ثم أنهض إليهم أهل المصرين فليتبعوهم أي وجه ما توجهوا حتى يبيدهم الله ويستأصلهم. والسلام عليك. فدعا بشر المهلب فأقرأه الكتاب، وأمره أن ينتخب من شاء، فبعث بجديع بن سعيد بن قببصة بن سراق الأزدي -وهو خال يزيد ابنه- فأمره أن يأتي الديوان فينتخب الناس، وشق على بشر أن إمرة المهلب جاءت من قبل عبد الملك، فلا يستطيع أن يبعث غيره، فأوغرت صدره عليه حتى كأنه كان له إليه ذنب. ودعا بشر بن مروان عبد الرحمن بن مخنف فبعثه على أهل الكوفة، وأمره أن ينتخب فرسان الناس ووجوههم وأولي الفضل منهم والنجدة. قال أبو مخنف: فحدثني أشياخ الحي عن عبد الرحمن بن مخنف قال: دعاني بشر بن مروان فقال لي: إنك قد عرفت منزلتك مني وأثرتك عندي، وقد رأيت أن أوليك هذا الجيش للذي عرفت من جزئك وغنائك وشرفك وبأسك، فكن عند أحسن ظني بك. انظر هذا الكذا كذا -يقع في المهلب- فاستبد عليه بالأمر، ولا تقبلن له مشورة ولا رأيا، وتنقصه وقصر به. قال: فترك أن يوصيني بالجند وقتال العدو والنظر لأهل الإسلام، وأقبل يغريني بابن عمتي كأني من السفهاء أو ممن يستصبى ويستجهل، ما رأيت شيخا في مثل هيئتي ومنزلتي طمع منه في مثل ما طمع فيه هذا الغلام مني، شب عمرو عن الطوق. قال: ولما رأى أني لست بالنشيط إلى جوابه قال لي: ما لك؟ قلت: أصلحك الله! وهل يسعني إلا إنفاذ أمرك في كل ما أحببت وكرهت! قال: امض راشدا. قال: فودعته وخرجت من عنده. وخرج المهلب بأهل البصرة حتى نزل رامَ مَهُرْمُز فلقي بها الخوارج، فخندق عليهم، وأقبل عبد الرحمن بن مخنف بأهل الكوفة على ربع أهل المدينة معه بشر بن جرير، وعلى ربع تميم وهمدان محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وعلى ربع كندة وربيعة إسحاق بن محمد بن الأشعث، وعلى ربع مَذحج وأسد زَحْر بن قيس. فأقبل عبد الرحمن حتى نزل من المهلب على ميل أو ميل ونصف. حيث تراءى العسكران برام مهرمز، فلم يلبث الناس إلا عشرا حتى أتاهم نعي بشر بن مروان، وتوفي بالبصرة، فارفضَّ ناس كثير من أهل البصرة وأهل الكوفة، واستخلف بشر خالد بن عبد الله بن أسيد، وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث، وكان الذين انصرفوا من أهل الكوفة زحر بن قيس وإسحاق بن محمد بن الأشعث ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، فبعث عبد الرحمن بن مخنف ابنه جعفرا في آثارهم، فرد إسحاق ومحمدا، وفاته زحر بن قيس، فحبسهما يومين ثم أخذ عليهما ألا يفارقاه، فلم يلبثا إلا يوما حتى انصرفا، فأخذا غير الطريق، وطُلبا فلم يلحقا، وأقبلا حتى لحقا زحر بن قيس بالأهواز، فاجتمع بها ناس كثير ممن يريد البصرة، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله فكتب إلى الناس كتابا وبعث رسولا يضرب وجوه الناس ويردهم، فقدم بكتابه مولى له، فقرأ الكتاب على الناس، وقد جمعوا له: بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن عبد الله، إلى من بلغه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإن الله كنب على عباده الجهاد، وفرض طاعة ولاة الامر، فمن جاهد فإنما يجاهد لنفسه، ومن ترك الجهاد في الله كان الله عنه أغنى، ومن عصى ولاة الأمر والقوّام بالحق أسخط الله عليه، وكان قد استحق العقوبة في بشره، وعرض نفسه لاستفاءة ماله وإلقاء عطائه، والتسيير إلى أبعد الأرض وشر البلدان. أيها المسلمون، اعلموا على من اجترأتم ومن عصيتم، إنه عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين، الذي ليست فيه غميزة، ولا لأهل المعصية عنده رخصة، سوطه على من عصى، وعلى من خالف سيفه، فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، فإني لم آلكم نصيحة. عباد الله، ارجعوا إلى مكتبكم وطاعة خليفتكم، ولا ترجعوا عاصين مخالفين فيأتيكم ما تكرهرن. أقسم بالله لا أثقف عاصيا بعد كتابي هذا إلا قتلته إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله. وأخذ كلما قرا عليهم سطرا أو سطرين قال له زحر: أوجز، فيقول له مولى خالد: والله إني لأسمع كلام رجل ما يريد أن يفهم ما يسمع. أشهد لا يعيج بشيء مما في هذا الكتاب. فقال له: اقرأ أيها العبد الأحمر ما أمرت به، ثم ارجع إلى أهلك، فإنك لا تدري ما في أنفسنا. فلما فرغ من قراءته لم يلتفت الناس إلى ما في كتابه، وأقبل زحر واسحاق بن محمد ومحمد بن عبد الرحمن حتى نزلوا قرية لآل الأشعث إلى جانب الكرفة، وكتبوا إلى عمرو بن حريث: أما بعد، فإن الناس لما بلغهم وفاة الأمير رحمة الله عليه تفرقوا فلم يبق معنا أحد، فأقبلنا إلى الأمير وإلى مصرنا، وأحببنا ألا ندخل الكوفة إلا بإذن الأمير وعلمه. فكتب إليهم: أما بعد. فإنكم تركتم مكتبكم وأقبلتم عاصين مخالفين، فلن يكون لكم عندنا إذن ولا أمان. فلما أتاهم ذلك انتظروا حتى إذا كان الليل دخلوا إلى رحالهم، فلم يزالوا مقيمين حتى قدم الحجاج بن يوسف. عزل بكير بن وشاح عن خراسان وولاية أمية بن عبد الله عليها وفي هذه السنة عزل عبد الملك بُكَير بن وِشاح عن خراسان وولاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. ذكر الخبر عن سبب عزل بكير وولاية أمية وكانت ولاية بكير بن وشاح خراسان إلى حين قدم أمية عليها واليا سنتين في قول أبي الحسن، وذلك أن ابن خازم قتل سنة ثلاث وسبعين وقدم أمية سنة أربع وسبعين. وكان سبب عزل بكير عن خراسان أن بحيرا -فيما ذكر علي عن المفضل- حبسه بكير بن وشاح لما كان منه فيما ذكرت في رأس ابن خازم حين قتله، فلم يزل محبوسا عنده حتى استعمل عبد الملك أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فلما بلغ ذلك بكيرا أرسل إلى بحير ليصالحه، فأبى عليه وقال: ظن بكير أن خراسان تبقى له في الجماعة! فمشت السفراء بينهم، فأبى بحير، فدخل عليه ضرار بن حصين الضبي. فقال: ألا أراك مائقا، يرسل إليك ابن عمك يعتذر إليك وأنت أسيره، والمشرفي في يده -ولو قتلك ما حبقت فيك عنز- ولا تقبل منه! ما أنت بموفق. اقبل الصلح، واخرج وأنت على أمرك. فقبل مشورته. وصالح بكيرا، فأرسل إليه بكير بأربعين ألفا، وأخذ على بحير ألا يقاتله. وكانت تميم قد اختلفت بخراسان، فصارت مقاعس والبطون يتعصبون له، فخاف أهل خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد ويقهرهم عدوهم من المشركين، فكتبوا إلى عبد الملك بن مروان: إن خراسان لا تصلح بعد الفتنة إلا على رجل من قريش لا يحسدونه ولا يتعصبون عليه، فقال عبد الملك: خراسان ثغر المشرق، وقد كان به من الشر ما كان، وعليه هذا التميمي، وقد تعصب الناس وخافوا أن يصيروا إلى ما كانوا عليه، فهلك الثغر ومن فيه. وقد سألوا أن أولي أمرهم رجلا من قريش فيسمعوا له وطيعوا، فقال أمية بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، تداركهم برجل منك، قال: لولا انحيازك عن أبي فديك كنت ذلك الرجل. قال: يا أمير المؤمنين، والله ما انحزت حتى لم أجد مقاتلا، وخذلني الناس، فرأيت من انحيازي إلى فئة أفضل من تعريضي عصبة بقيت من المسلمين للهلكة، وقد علم ذلك مرار بن عبد الرحمن بن أبي بكرة، وكتب إليك خالد بن عبد الله بما بلغه من عذري -قال: وكان خالد كتب إليه بعذره، ويخبره أن الناس قد خذلوه- فقال مرار: صدق أمية يا أمير المؤمنين، لقد صبر حتى لم يجد مقاتلا، وخذله الناس. فولاه خراسان، وكان عبد الملك يحب أمية، ويقول نتيجتي أي لِدتي، فقال الناس: ما رأينا أحدا عوض من هزيمة ما عوض أمية، فر من أبي فديك فاستعمل على خراسان. فقال رجل من بكر بن وائل في محبس بُكير بن وشاح: أتتك العيس تنفخ في بُراها ** تشف عن مناكبها القُطوعُ كأن مواقع الأكوار منها ** حمام كنائسٍ بُقعٌ وُقوع بأبيضَ من أمية مضرحي ** كأن جبينه سيفٌ صنيع وبحير يومئذ بالسنج يسأل عن مسير أمية، فلما بلغه أنه قد قارب أبرشهر قال لرجل من عجم أهل مرو يقال له رُزَين -أو زرير-: دلني على طريق قريب لألقى الأمير قبل قدومه، ولك كذا وكذا، وأجزل لك العطية، وكان عالما بالطريق، فخرج به فسار من السنج إلى أرض سَرَخْسَ في ليلة، ثم مضى به إلى نيسابور فوافى أمية حين قدم أبرشهر، فلقيه فأخبره عن خراسان وما يصلح أهلها وتحسن به طاعتهم ويخف على الوالي مئونتهم، ورفع عن بكير أموالا أصابها، وحذره غدره. قال: وسار معه حتى قدم مرو، وكان أمية سيدا كريما، فلم يعرض لبكير ولا لعماله، وعرض عليه أن يوليه شرطته، فأبى بكير، فولاها بحير بن ورقاء، فلام بكيرا رجال من قومه، فقالوا: أبيت أن تلي فولى بحيرا وقد عرفت ما بينكما! قال: كنت أمس والي خراسان تُحمل الحراب بين يدي، فأصير اليوم على الشرطة أحمل الحربة! وقال أمية لبكير: اختر ما شئت من عمل خراسان، قال: طُخارستان، قال: هي لك. قال: فتجهز بكير وأنفق مالا كثيرا، فقال بحير لأمية: إن أتى بكير طخارستان خلعك، فلم يزل يحذره حتى حذر، فأمره بالمقام عنده. أخبار متفرقة وحج بالناس في هذه السنة الحجاج بن يوسف. وكان ولي قضاء المدينة عبد الله بن قيس بن مَخرَمة قبل شخوصه إلى المدينة كذلك، ذُكر ذلك عن محمد بن عمر. وكان على المدينة ومكة الحجاج بن يوسف، وعلى الكوفة والبصرة بشر بن مروان، وعلى خراسان أمية بن عبد الله بن خالد بن أسعد، وعلى قضاء الكوفة شُريح بن الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هُبَيرة، وقد ذكر أن عبد الملك بن مروان اعتمر في هذه السنة، ولا نعلم صحة ذلك. ثم دخلت سنة خمس وسبعين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك غزوة محمد بن مروان الصائفة حين خرجت الروم من قبل مَرْعش. وفي هذه السنة ولى عبد الملك يحيى بن الحكم بن أبي العاص المدينة. وفي هذه السنة ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف العراق دون خُراسان وسِجِسْتان. ولاية الحجاج على الكوفة وخطبته في أهلها وفيها قدم الحجاج الكوفة. فحدثني أبو زيد، قال: حدثني محمد بن يحيى أبو غسان، عن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: خرج الحجاج بن يوسف من المدينة حين أتاه كتاب عبد الملك بن مروان بولاية العراق بعد وفاة بشر بن مروان في اثني عشر راكبا على النجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار فجاءةً، وقد كان بشر بعث المهلب إلى الحرورية، فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بعمامة خَزّ حمراء، فقال: علي بالناس، فحسبوه وأصحابه خارجةً، فهمّوا به، حتى إذا اجتمع إليه الناس قام فكشف عن وجهه وقال: أنا ابن جَلَا وطَلّاع الثنايا ** متى أضَعِ العِمامة تَعرفوني أما والله إني لأحمل الشر محمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمئله، وإني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قِطافها، وإني لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللِّحى. قد شمَّرتْ عن ساقها تشميرا هذا أوان الشَّد فاشتدّي زِيَمْ ** قد لّفَّها الليلُ بسَوّاقٍ حُطَمْ ليس براعي إبل ولا غنم ** ولا بجزارٍ على ظهر وَضَم قد لفها الليل بعصلَبي ** أروَعَ خَرّاجٍ من الدوّيِّ مُهاجرٍ ليس بأعرابيِّ ليس أوان يكره الخِلاطُ ** جاءت به والقُلُص الأعلاطُ تَهوي هُويَّ سابقِ الغَطاطِ وإني والله يا أهل العراق ما أغمز كتغماز التين، ولا يقَعقَعُ لي بالشِّنان، ولقد فُرِرتُ عن ذكاء، وجَرَيت إلى الغاية القصوى. إن أمير المؤمنين عبد الملك نثر كنانته ثم عَجَم عيدانها فوجدني أمرها عودا، وأصلبها مكسرا، فوجهني إليكم، فإنكم طالما أوضعم في الفتن، وسننتم سنن الغي. أما والله لألحونكم لحو العود، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. إني والله لا أعد إلا وفيت، ولا أخلق إلا فريت. فإياي وهذه الجماعات وقيلا وقالا وما يقول وفيم أنتم وذاك! والله لتستقيمن على سبل الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده. من وجدت بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه، وأنهبت ماله. ثم دخل منزله ولم يزد على ذلك. قال: ويقال: إنه لما طال سكوته تناول محمد بن عُمير حصى فأراد أن يحصبه بها، وقال: قاتله الله! ما أعياه وأدمّه! والله إني لأحسب خبره كرُوائه. فلا تكلم الحجاج جعل الحص ينتثر من يده ولا يعقل به، وأن الحجاج قال في خطبته: شاهت الوجوه! إن الله ضرب { مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون }، وأنتم أولئك وأشباه أولئك، فاستوثقوا واستقيموا. فوالله لأذيقنكم الهوان حتى تَدِرّوا، ولأعصبَّنكم عَصْب السَّلَمة حتى تنقادوا، أقسم بالله لتقبلن على الإنصاف، ولتَدَعُنّ الإرجاف، وكان وكان، وأخبرني فلان عن فلان، والهبْر وما الهبر! أو لأهْبُرنكم بالسيف هبْرا يدَع النساء أيامى، والولدان يتامى، وحتى تمشوا السُّمَّهى، وتقلعوا عن ها وها. إياي وهذه الزرافات، لا يركبن الرجل منكم إلا وحده. ألا إنه لو ساغ لأهل المعصية معصيتهم ما جبي فيء ولا قوتل عدو، ولعطلت الثغور، ولولا أنهم يغزون كرها ما غزو طوعا، وقد بلغني رفضكم المهلب وإقبالكم على مصركم عصاة مخالفين، وإني أقسم لكم بالله لا أجد أحدا بعد ثالثة إلا ضربت عنقه. ثم دعا العُرَفاء فقال: ألحقوا الناس بالمهلب، وائتوني بالبراءات بموافاتهم ولا تغلقنّ أبواب الجسر ليلا ولا نهارا حتى تنقضي هذه المدة. تفسير الخطبة: قوله: " أنا ابن جلا " فابن جلا الصبح لأنه يجلو الظلمة. والثنايا: ما صغر من الجبال ونتأ. أوينع الثمر: بلغ إدراكه. وقوله: " فاشتد زيم " فهى اسم للحرب. والحطم: الذي يحطم كل شئ يمر به. والوضم: ما وقى به اللحم من الأرض. والعصلبي: الشديد. والدوية: الأرض الفضاء التي يسمع فيها دوي أخفاف الإبل. والأعلاط: الإبل التي لا أرسان عليها. أنشد أبو زيد الأصمعي: واعرورت العلط العرضي تركضه ** أم الفوارس بالديداء والربعة والشنان، جمع شنة: القرية البالية اليابسة، قال الشاعر: كأنك من جمال بني أقيش ** يقعقع خلف رجليه بشن وقوله: " فعجم عيدانها " أي عضها، والعجم بفتح الجيم: حب الزبيب، قال الأعشى: وملفوظها كلقيط العجم وقوله: " أمرها عودًا " أي أصلبها، يقال: حبل ممر، إذا كان شديد الفتل. وقوله: " لأعصبنكم عصب السلمة " فالعصب القطع، والسلمة؛ شجرة من العضاه. وقوله: " لا أخلق إلا فريت " فالخلق: التقدير، قال الله تعالى: " من مضغة مخلقة وغير مخلقة " أي مقدرة وغير مقدرة. يعني ما يتم وما يكون سقطًا، قال الكميت يصف قربة: لم تجثم الخالقات فريتها ** ولم يفض من نطاقها السرب وإنما وصف حواصل الطير، يقول: لبست كهذه. وصخرة خلقاء، أي ملساء، قال الشاعر: وبهو هواء فوق مور كأنه ** من الصخرة الخلقاء زحلوق ملعب ويقال: فريت الأديم إذا أصلحته، وأفريت، بالألف إذا أنت أفسدته. والسمهى: الباطل، قال أبو عمرو الشيباني: وأصله ما تسميه العامة مخاط الشيطان، وهو لعاب الشمس عند الظهيرة، قال أبو النجم العجلي: وذاب للشمس لعاب فنزل ** وقام ميزان الزمان فاعتدل والزرقات: الجماعات. تم التفسير. قال أبو جعفر: قال عمر: فحدثني محمد بن يحيى، عن عبد الله بن أبي عبيدة، قال: فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيرًا في السوق، فخرج حتى جلس على المنبر، فقال: يا أهل العراق، وأهل الشقاق والنفاق، ومساوىء الأخلاق، إني سمعت تكبيرًا ليس بالتكبير الذي يراد الله به في الترغيب، ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف. يا بني اللكيعة وعبيد العصا، وأبناء الأيامي، ألا يرجع رجل منكم على ظلعه. ويحسن حقن دمه، ويبصر موضع قدمه! فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكونون نكالًا لما قبلها، وأدبًا لما بعدها. قوله: " تحتها قصف "، فهو شدة الريح. واللكعاء: الورهاء، وهي الحمقاء من الإماء. والظلع: الضعف والوهن من شدة السير. وقوله: " تهوي هوي سابق الغطاط "، فالغطاط بضم الغين: ضرب من الطير. قال الأصمعي: الغطاط بفتح الغين: ضرب من الطير، وأنشد لحسان ابن ثابت: يغشون حتى ما تهر كلابهم ** لايسألون عن الغطاط المقبل بقتح الغين. قال: والغطاط بضم الغين: اختلاط الضوء بالظلمة من آخر الليل، قال الراجز: قام إلى أدماء في الغطاط ** يمشي بمثل قائم الفسطاط تم التفسير. قال: فقام إليه عمير بن ضابىء التميمي ثم الحنظلي فقال: أصلح الله الأمير! أنا في هذا البعث، وأنا شيخ كبير عليل، وهذا ابني، وهو أشب مني؛ قال: ومن أنت؟ قال: عمير بن ضابىء التميمي، قال: أسمعت كلامنا بالأمس؟ قال: نعم، قال: ألست الذي غزا أمير المؤمنين عثمان؟ قال: بلى؛ قال: وما حملك على ذلك؟ قال: كان حبس أبي، وكان شيخًا كبيرًا، قال: أوليس يقول: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ** تركت على عثمان تبكي حلائله إني لأحسب في قتلك صلاح المصرين، قم إليه يا حرسي فاضرب عنقه؛ فقام إليه رجل فضرب عنقه، وأنهب ماله. ويقال: إن عنبسة بن سعيد قال للحجاج: أتعرف هذا؟ قال: لا، قال: هذا أحد قتلة أمير المؤمنين عثمان؛ فقال الحجاج: يا عدو الله، أفلا إلى أمير المؤمنين بعثت بديلًا! ثم أمر بضرب عنقه، وأمر مناديًا فنادى: ألا إن عمير بن ضابىء أتى بعد ثالثة؛ وقد كان سمع النداء، فأمرنا بقتله. ألا فإن ذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلب. فخرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرجت العرفاء إلى المهلب وهو برا مهرمز فأخذوا كتبه بالموافاة، فقال المهلب قدم العراق اليوم رجل ذكر: اليوم قوتل العدو. قال ابن أبي عبيدة في حديثه: فعبر الجسر تلك الليلة أربعة آلاف من مذجح؛ فقال المهلب: قدم العراق رجل ذكر. قال عمر عن أبي الحسن، قال: لما قرأ عليه كتاب عبد الملك قال القارىء: أما بعد، سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله. فقال له: اقطع، يا عبيد العصا، أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا يرد راد منكم السلام! هذا أدب ابن نهية، أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، ابدأ بالكتاب، فلما بلغ إلى قوله: " أما بعد سلام عليكم "، لم يبق منهم أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله. قال عمر: حدثني عبد الملك بن شيبان بن عبد الملك بن مسمع، قال: حدثني عمرو بن سعيد، قال: لما قدم الحجاج الكوفة خطبهم فقال: إنكم قد أخللتم بعسكر المهلب، فلا يصبحن بعد ثالثة من جنده أحد، فلما كان بعد ثالثة أتى رجل يستدمى، فقال: من بك؟ قال: عمير بن ضابىء البرجمي، أمرته بالخروج إلى معسكره فضربني - وكذب عليه. فأرسل الحجاج إلى عمير بن ضابىء، فأتي به شيخًا كبيرًا، فقال له: ما خلفك عن معسكرك؟ قال: أنا شيخ كبير لا حراك بي، فأرسلت ابني بديلًا فهو أجلد مني جلدًا، وأحدث مني سنًا، فسل عما أقول لك، فإن كنت صادقًا وإلا فعاقبني. قال: فقال عنبسة بن سعيد: هذا الذي أتى عثمان قتيلًا؛ فلطم وجهه ووثب عليه فكسر ضلعين من أضلاعه، فأمر به الحجاج فضربت عنقه. قال عمرو بن سعيد: فوالله إني لأسير بين الكوفة والحيرة إذ سمعت رجزًا مضريًا، فعدلت إليهم فقلت: ما الخبر؟ فقالوا: قدم علينا رجل من شر أحياء العرب من هذا الحي من ثمود، أسقف الساقين، ممسوح الجاعرتين، أخفش العينين، فقدم سيد الحي عمير بن ضابىء فضرب عنقه. ولما قتل الحجاج عمير بن ضابىء لقى إبراهيم بن عامر أحد بني غاضرة من بني أسد عبد الله بن الزبير في السوق فسأله عن الخبر. فقال ابن الزبير: أقول لإبراهيم لما لقيته ** أرى الأمر أمسى منصبًا متشعبًا تجهز وأسرع والحق الجيش لا أرى ** سوى الجيش إلا في المهالك مذهبا تخير فإما أن تزور ابن ضابىء ** عميرًا وإما أن تزور المهلبا هما خطتا كره نجاؤك منهما ** ركوبك حوليًا من الثلج أشهبا فحال ولو كانت خراسان دونه ** رآها مكان السوق أو هي أقربا فكائن ترى من مكره العدو ممسن ** تحمم حنو السرج حتى تحنبا وكان قدوم الحجاج الكوفة - فيما قيل - في شهر رمضان من هذه السنة، فوجه الحكم بن أبي الشقفي على البصرة أميرًا، وأمره أن يشتد على خالد بن عبد الله، فلما بلغ خالدًا الخبر خرج من البصرة قبل أن يدخلها الحكم، فنزل الجلحاء وشيعه أهل البصرة، فلم يبرح مصلاه حتى قسم فيهم ألف ألف. وحج بالناس في هذه السنة عبد الملك بن مروان، حدثني بذلك أحمد ابن ثابت عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. ووفد يحيى بن الحكم في هذه السنة على عبد الملك بن مروان، واستخلف على عمله بالمدينة أبان بن عثمان، وأمر عبد الملك يحيى بن الحكم أن يقر على عمله على ما كان عليه بالمدينة. وعلى الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف. وعلى خراسان أمية بن عبد الله. وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة ابن أوفى. وفي هذه السنة خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة أبا يعفور عروة بن المغيرة بن شعبة، فلم يزل عليها حتى رجع إليها بعد وقعة رستقباذ. ذكر الخبر عن ثورة الناس بالحجاج بالبصرة وفي هذه السنة ثار الناس بالحجاج بالبصرة. ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به: ذكر هشام، عن أبي مخنف، عن أبي زهير العبسي، قال: خرج الحجاج بن يوسف من الكوفة بعد ما قدمها، وقتل ابن ضابىء في فوره ذلك حتى قدم البصرة. فقام فيها بخطبة مثل الذي قام بها في أهل الكوفة، وتوعدهم مثل وعيده إياهم، فأتى برجل من بني يشكر فقيل: هذا عاص، فقال: إن بي فتقًا. وقد رآه بشر فعذرني، وهذا عطائي مردود في بيت المال، فلم يقبل منه وقتله، ففزع لذلك أهل البصرة، فخرجوا حتى تداكئوا على العارض بقنطرة رامهرمز، فقال المهلب: جاء الناس رجل ذكر. وخرج الحجاج حتى نزل رستقباذ في أول شعبان سنة خمس وسبعين فثار الناس بالحجاج، عليهم عبد الله بن الجارود، فقتل عبد الله بن الجارود، وبعث بثمانية عشر رأسًا فنصبت برامهرمز للناس، فاشتدت ظهور المسلمين، وساء ذلك الخوارج، وقد كانوا رجوا أن يكون من الناس فرقة واختلاف، فانصرف الحجاج إلى البصرة. وكان سبب أمر عبد الله بن الجارود أن الحجاج لما ندب الناس إلى اللحاق بالمهلب بالبصرة فشخصوا سار الحجاج حتى نزل رستقباذ قريبًا من دستوى في آخر شعبان ومعه وجوه أهل البصرة، وكان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخًا، فقام في الناس، فقال: إن الزيادة التي زادكم ابن الزبير في أعطياتكم زيادة فاسق منافق، ولست أجيزها. فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدي فقال: إنها ليست بزيادة فاسق منافق، ولكنها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أثبتها لنا. فكذبه وتوعده، فخرج ابن الجارود على الحجاج وتابعه وجوه الناس، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فقتل ابن الجارود وجماعة من أصحابه، وبعث برأسه وبرءوس عشرة من أصحابه إلى المهلب، وانصرف إلى البصرة، وكتب إلى المهلب وإلى عبد الرحمن ابن مخنف: أما بعد، إذا أتاكم كتابي هذا فناهضوا الخوارج؛ والسلام. نفي المهلب وابن مخنف الأزارقة عن رامهرمز في هذه السنة نفى المهلب وابن مخنف الأزارقة عن رامهرمز. ذكر الخبر عن ذلك وما كان من أمرهم في هذه السنة ذكر هشام عن أبي مخنف، عن أبي زهير العبسي، قال: ناهض المهلب وابن مخنف الأزارقة برامهروز بكتاب الحجاج إليهما لعشر بقين من شعبان يوم الاثنين سنة خمس وسبعين، فأجلوهم عن رامهرمز من غير قتال شديد، ولكنهم زحفوا إليهم حتى أزالوهم، وخرج القوم كأنهم على حامية، حتى نزلوا سابور بأرض منها يقال لها كازرون، وسار المهلب وعبد الرحمن بن مخنف حتى نزلوا بهم في أول رمضان، فخندق المهلب عليه، فذكر أهل البصرة أن المهلب قال لعبد الرحمن بن مخنف: إن رأيت أن تخندق عليك فافعل؛ وإن أصحاب عبد الرحمن أبوا عليه وقالوا: إنما خندقنا سيوفنا. وإن الخوارج زحفوا إلى المهلب ليلًا ليبيتوه، فوجدوه قد أخذ حذره، فمالوا نحو عبد الرحمن بن مخنف فوجدوه لم يخندق، فقاتلوه، فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل في أناس من أصحابه فتل، وقتلوا حوله، فقال شاعرهم: لمن العسكر المكلل بالصر ** عى فهم بين ميت وقتيل فتراهم تسفى الرياح عليهم ** حاصب الرمل بعد جر الذيول وأما أهل الكوفة فإنهم ذكروا أن كتاب الحجاج بن يوسف أى المهلب وعبد الرحمن بن مخنف؛ أن ناهضًا الخوارج حين يأتيكما كتابي. فناهضاهم يوم الأربعاء لعشر بقين من رمضان سنة خمس وسبعين واقتتلوا قتالًا شديدًا لم يكن بينهم فيما مضى قتال كان أشد منه، وذلك بعد الظهر، فمالت الخوارج على المهلب بن أبي صفرة فاضطروه إلى عسكره، فسرح إلى عبد الرحمن رجالًا من صلحاء الناس، فأتوه، فقالوا: إن المهلب يقول لك: إنما عدونا واحد، وقد ترى ما قد لقى المسلمون، فأمد إخوانك يرحمك الله. فأخذ يمده بالخيل بعد الخيل، والرجال بعد الرجال، فلما كان بعد العصر ورأت الخوارج ما يجئ من عسكر عبد الرحمن من الخيل والرجال إلى عسكر المهلب ظنوا أنه قد خف أصحابه، فجعلوا خمس كتائب أو ستا تجاه عسكر المهلب، وانصرفوا بحدهم وجمعهم إلى عبد الرحمن بن مخنف، فلما رآهم قد صمدوا له نزل ونزل معه القراء، عليهم أبو الأحوص صاحب عبد الله بن مسعود، وخزيمة بن نصر أبو نصر ابن خزيمة العبسي الذي قتل مع زيد بن علي وصلب معه بالكوفة، ونزل معه من خاصة قومه أحد وسبعون رجلا، وحملت عليهم الخوارج فقاتلتهم قتالا شديدًا. ثم إن الناس انكشفوا عنه، فبقى في عصابة من أهل الصبر ثبتوا معه، وكان ابنه جعفر بن عبد الرحمن فيمن بعثه إلى المهلب، فنادى في الناس ليتبعوه إلى أبيه، فلم يتبعه إلا ناس قليل، فجاء حتى إذا دنا من أبيه حالت الخوارج بينه وبين أبيه، فقاتل حتى ارتشته الخوارج، وقاتل عبد الرحمن بن مخنف ومن معه على تل مشرف حتى ذهب نحو من ثلثي الليل، ثم قتل في تلط العصابة، فلما أصبحوا جاء المهلب حتى أتاه، فدفنه وصلى عليه، وكتب بمصابه إلى الحجاج، فكتب بذلك الحجاج إلى عبد الملك بن مروان، فنعى عبد الرحمن بمنىً، وذم أهل الكوفة، وبعث الحجاج على عسكر عبد الرحمن بن مخنف عتاب بن ورقاء، وأمره إذا ضمتهما الحرب أن يسمع للمهلب ويطيع، فساءه ذلك، فلم يجد بدًا من طاعة الحجاج ولم يقدر على مراجعته، فجاء حتى أقام في ذلك العسكر، وقاتل الخوارج وأمره إلى المهلب، وهو في ذلك يقضي أموره، ولا يكاد يستشير المهلب في شئ. فلما رأى ذلك المهلب اصطنع رجالًا من أهل الكوفة فيهم بسطام بن مصقلة بن هبيره، فأغراهم بعتاب. قال أبو مخنف عن يوسف بن يزيد: إن عتابا أتى المهلب بسأله أن يرزق أصحابه، فأجلسه المهلب معه على مجلسه، قال: فسأله أن يرزق أصحابه سؤالًا فيه غلظة وتحبهم، قال: فقال له المهلب: وإنك لها هنا بابن اللخناء! فبنو تميم يزعمون أنه رد عليه، وأما يوسف بن يزيد وغيره فيزعمون أنه قال: والله إنها لمعمة مخولة، ولوددت أن الله فرق بيني وبينك، قال: فجرى بينهما الكلام حتى ذهب المهلب ليرفع القضيب عليه، فوثب عليه ابنه المغيرة، فقبض على القضيب وقال: أصلح الله الأمير! شيخ من أشياخ العرب، وشريف من أشرافهم، إن سمعت منه بعض ما تكرهه فاحتمله له. فإنه لذلك منك أهل، ففعل، وقام عتاب فرجع من عنده، واستقبله بسطام بن مصقلة يشتمه، ويقع فيه فلما رأى ذلك كتب إلى الحجاج يشكو إليه المهلب ويخبره أنه قد أغرى به سفهاء أهل المصر، ويسأله أن يضمه إليه، فوافق ذلك من الحجاج حاجة إليه فيما لقى أشراف الكوفة من شبيب، فبعث إليه أن اقدم واترك أمر ذلك الجيش إلى المهلب، فبعث المهلب عليه حبيب بن المهلب. وقال حميد بن مسلم يرثي عبد الرحمن بن مخنف: إن يقتلوك أبا حكيم غدوة ** فلقد تشد وتقتل الأبطالا أو يثكلونا سيدا لمسود ** سمح الخليقة ماجدًا مفضالا فلمثل قتلك هد قومك كلهم ** من كان يحمل عنهم الأثقالا من كان يكشف غرمهم وقتالهم ** يومًا إذا كان القتال نزالا! أقسمت ما نيلت مقاتل نفسه ** حتى تدرع من دم سربالا وتناجز الأبطال تحت لوائه ** بالمشرفية في الأكف نصالًا يومًا طويلًا ثم آخر ليلهم ** حين استبانوا في السماء هلالا وتكشفت عنه الصفوف وخيله ** فهناك نالته الرماح فمالا وقال سراقة بن مرداس البارقي: أعيني جودا بالدموع السواكب ** وكونا كواهي شنة مع راكب على الأزد لما أن أصيب سراتهم ** فنوحا لعيش بعد ذلك خائب نرحي الخلود بعدهم وتعوقنا ** عوائق موت أو قراع الكتائب وكنا بخير قبل قتل ابن مخنف ** وكل امرئ يومًا لبعض المذاهب أمار دموع الشيب من أهل مصره ** وعجل في الشبان شيب الذوائب وقاتل حتى مات أكرم ميتة ** وخر على خد كريم وحاجب وضارب عنه المارقين عصابة ** من الأزد تمشي بالسيوف القواضب فلا ولدت أنثى ولا آب غائب ** إلى أهله إن كان ليس بآيب فيا عين بكى مخنفًا وابن مخنف ** وفرسان قومي قصرةً وأقاربي وقال سراقة أيضًا يرثي عبد الرحمن بن مخنف: ثوى سيد الأزدين أزد شنوءة ** وأزد عمان رهن رمس بكازر وضارب حتى مات أكرم ميتة ** بأبيض صاف كالعقيقة باتر وصرع حول التل تحت لوائه ** كرام المساعي من كرام المعاشر قضى نحبه يوم اللقاء ابن مخنف ** وأدبر عنه كل ألوث داثر أمد فلم يمدد فراح مشمرًا ** إلى الله لم يذهب بأثواب غادر وأقام المهلب بسابور يقاتلهم نحوًا من سنة. وفي هذه السنة تحرك صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس، وكان يرى رأى الصفرية، وقيل: إنه أول من خرج من الصفرية. ذكر الخبر عن تحرك صالح للخروج وما كان منه في هذه السنة ذكر أن صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس حج سنة خمس وسبعين ومعه شبيب بن يزيد وسويد والبطين وأشباههم. وحج في هذه السنة عبد الملك بن مروان، فهم شبيب بالفتك به، وبلغه ذرء من خبرهم، فكتب إلى الحجاج بعد انصرافه يأمره بطلبهم، وكان صالح يأتي الكوفة فيقيم بها الشهر ونحوه فيلقى أصحابه ليعدهم، فنبت بصالح الكوفة لما طلبه الحجاج، فتنكبها. ثم دخلت سنة ست وسبعين ذكر الكائن من الأحداث فيها فمن ذلك خروج صالح بن مسرح. ذكر الخبر عن خروج صالح بن مسرح وعن سبب خروجه وكان سبب خروجه - فيما ذكر هشام، عن أبي مخنف، عن عبد الله ابن علقمة، عن قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي - أن صالح بن مسرح التميمي كان رجلا ناسكًا مخبتًا مصفر الوجه، صاحب عبادة، وأنه كان بدارا وأرض الموصل والجزيرة له أصحاب يقرئهم القرآن وفقههم وقص عليهم، فكان قبيصة بن عبد الرحمن حدث أصحابنا أن قصص صالح بن مسرح عنده، وكان ممن يرى رأيهم، فسألوه أن يبعث بالكتاب إليهم، ففعل. وكان قصصه: " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ". اللهم إنا لا نعدل بك. ولا نحفد إلا إليك، ولا نعبد إلا إياك، لك الخلق والأمر، ومنك النفع والضر، وإليك المصير. ونشهد أن محمدًا عبدك الذي اصطفيته، ورسولك الذي اخترته وارتضيته لتبليغ رسالاتك، ونصيحة عبادك، ونشهد أنه قد بلغ الرسالة، ونصح للأمة، ودعا إلى الحق، وقام بالقسط، ونصر الدين. وجاهد المشركين، حتى توفاه الله ﷺ. أوصيكم بتقوى الله والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وكثرة ذكر الموت، وفراق الفاسقين، وحب المؤمنين، فإن الزهادة في الدنيا ترغب العبد فيما عند الله، وتفرغ بدنه لطاعة الله، وإن كثرة ذكر الموت يخيف العبد من ربه حتى يجأر إليه، ويستكين له، وإن فراق الفاسقين حق على المؤمنين، قال الله في كتابه: " ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون " وإن حب المؤمنين للسبب الذي تنال به كرامة الله ورحمته وجنته، جعلنا الله وإياكم من الصادقين الصابرين. ألا إن من نعمة الله على المؤمنين أن بعث فيهم رسولًا من أنفسهم، فعلمهم الكتاب والحكمة وزكاهم وطهرهم ووفقهم في دينهم، وكان بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، حتى قبضه الله، صلوات الله عليه، ثم ولى الأمر من بعده التقي الصديق على الرضا من المسلمين، فاقتدى بهديه، واستن بسنته، حتى لحق بالله - رحمه الله - واستخلف عمر، فولاه الله أمر هذه الرعية، فعمل بكتاب الله، وأحيا سنة رسول الله، ولم يحنق في الحق على جرته، ولم يخف في الله لومة لائم، حتى لحق به رحمة الله عليه، وولى المسلمين من بعده عثمان، فاستأثر بالفئ، وعطل الحدود، وجار في الحكم، واستذل المؤمن، وعزز المجرم، فسار إليه المسلمون فقتلوه، فبرئ الله منه ورسوله وصالح المؤمنين؛ وولى أمر الناس من بعده علي بن أبي طالب، فلم ينشب أن حكم في أمر الله الرجال، وشك في أهل الضلال، وركن وأدهن، فنحن من علي وأشياعه براء، فتيسروا رحمكم الله لجهاد هذه الأحزاب المتحزبة، وأئمة الضلال الظلمة وللخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الموقنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، وأنفقوا أموالهم التماس رضوان الله في العاقبة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم غير ما ترجم الظنون، فمفرق بينكم وبين آبائكم وأبنائكم، وحلائلكم ودنياكم، وإن اشتد لذلك كرهكم وجزعكم. ألا فبيعوا الله أنفسكم طائعين وأموالكم تدخلوا الجنة آمنين، وتعانقوا الحور العين، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين، الذين يهدون بالحق وبه يعدلون. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الله بن علقمة، قال: بينا أصحاب صالح يختلفون إليه إذ قال لهم ذات يوم: ما أدري ما تنتظرون! حتى متى أنتم مقيمون! هذا الجوار قد فشا، وهذا العدل قد عفا، ولا تزداد هذه الولاة على الناس إلا غلوا وعتوا، وتباعدًا عن الحق، وجرأة على الرب؛ فاستعدوا وابعثوا إلى إخوانكم الذين يريدون من إنكار الباطل والدعاء إلى الحق مثل الذي تريدون، فيأتوكم فنلتقي وننظر فيما نحن صانعون، وفي أي وقت إن خرجنا نحن خارجون. قال: فتراسل أصحاب صالح، وتلاقوا في ذلك، فبيناهم في ذلك إذ قدم عليهم المحلل بن وائل اليشكري بكتاب من شبيب إلى صالح بن مسرح: أما بعد، فقد علمت أنك كنت أردت الشخوص، وقد كنت دعوعتني إلى ذلك فاستجبت لك، فإن كان ذلك اليوم من شأنك فأنت شيخ المسلمين، ولن نعدل بك منا أحدًا، وإن أردت تأخير ذلك اليوم أعلمتني؛ فإن الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تختر مني المنية ولما أجاهد الظالمين، فياله غبنًا، وياله فضلا متروكًا! جعلنا الله وإياك ممن يريد بعمله الله ورضوانه، والنظر إلى وجهه، ومرافقة الصالحين في دار السلام، والسلام عليك، قال: فلما قدم على صالح المحلل بن وائل بذلك الكتاب من شبيب كتب إليه صالح: أما بعد، فقد كان كتابك وخبرك أبطآ عني حتى أهمني ذلك، ثم إن امرأً من المسلمين نبأني بنبإ مخرجك ومقدمك، فنحمد الله على قضاء ربنا. وقد قدم على رسولك بكتابك، فكل ما فيه فهمته، ونحن في جهاز واستعداد للخروج، ولم يمنعني من الخروج إلا إنتظارك، فأقبل إلينا، ثم اخرج بنا متى ما أحببت، فإنك ممن لا يستغني عن رأيه، ولا تقضى دونه الأمور. والسلام عليك، فلما قدم على شبيب كتابه بعث إلى نفر من أصحابه فجمعهم إليه؛ منهم أخوه مصاد بن يزيد بن نعيم، والمحلل بن وائل اليشكري، والصقر ابن حاتم من بني تيم بن شيبان، وإبراهيم بن حجر أبو الصقير بن بني محلم، والفضل بن عامر من بني ذهل بن شيبان، ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرح بدارًا، فلما لقيه قال: اخرج بنا رحمك الله! فو الله ما تزداد السنة إلا دروسًا، ولا يزداد المجرمون إلا طغيانًا، فبث صالح رسله في أصحابه، وواعدهم الخروج في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وسبعين، فاجتمع بعضهم إلى بعض، وتهيئوا، وتيسروا للخروج في تلك الليلة، واجتمعوا جميعًا عنده في تلك الليلة لميعاده. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط الأزدي، قال: والله إني لمع شبيب بالمدائن إذ حدثنا عن مخرجهم، قال: لما هممنا بالخروج اجتمعنا إلى صالح بن مسرح ليلة خرج، فكان رأيي استعراض الناس لما رأيت من المنكر والعدوان والفساد في الأرض، فقمت إليه فقلت: يا أمير المؤمنين، كيف ترى في السيرة في هؤلاء الظلمة؟ أتقتلهم قبل الدعاء، أم ندعوهم قبل القتال؟ وسأخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني فيهم برأيك؛ أما أن فأرى أن نقتل كل من لا يرى رأينا فريبًا كان أو بعيدًا، فإنا نخرج على قوم غاوين طاغين باغين قد تركوا أمر الله، واستحوذ عليهم الشيطان. فقال: لا بل ندعوهم، فلعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك وليقاتلنك من يزري عليك، والدعاء أقطع لحجتهم، وأبلغ في الحجة عليهم. قال: فقلت له: فكيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به؟ ما تقول في دمائهم وأموالهم؟ فقال: إن قتلنا وغنمنا فلنا، وإن تجاوزنا وعفونا فموسع علينا ولنا. وقال: فأحسن القول وأصاب، رحمة الله عليه وعلينا. قال أبو مخنف: فحدثني رجل من بني محلم أن صالح بن مسرح لأصحابه ليلة خرج: اتقوا الله عباد الله، ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس غلا أن يكونوا قومًا يريدونكم، وينصبون لكم، فإنكم إنما خرجتم غضبًا لله حيث انتهكت محارمه، وعصى في الأرض، فسفكت الدماء بغير حلها، وأخذت الأموال بغير حفها، فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملوا بها، فإن كل ما أنتم عاملون أنتم عنه مسؤلون، وإن عظمكم رجالة، وهذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق، فابدءوا بها، فشدوا عليها، فاحملوا أراجلكم، وتقووا بها على عدوكم فخرجوا فأخذوا تلك الليلة الدواب فحملوا رجالتهم عليها، وصارت رجالتها فرسانًا، وأقاموا بأرض دارا ثلاث عشرة ليلة، وتحصن منهم أهل دارا وأهل نصيبين وأهل سنجار، وخرج صالح ليلة خرج في مائة وعشرين - وقيل في مائة وعشرة - قال: وبلغ مخرجهم محمد بن مروان وهو يومئذ أمير الجزيرة، فاستخف بأمرهم، وبعث إليهم عدى بن عدى بن عميرة من بني الحارث بن معاوية بن ثور في خمسمائة، فقال له: أصلح الله الأمير! أتبعثني إلى رأس الخوارج منذ عشرين سنة! قد خرج معه رجال من ربيعة قد سموا لي، كانوا يعازوننا، الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة رجل، قال له: فإني أزيدك خمسمائة أخرى، فسر إليهم في ألف، فسار من حران في ألف رجل، فكان أول جيش سار إلى صالح وسار إليه عدي، وكأنما يساق إلى الموت، وكان عدي رجلا يتنسك، فأقبل حتى إذا نزل دوغان نزل بالناس وسرح إلى صالح بن مسرح رجلا دسه إليه من بني خالد من بني الورثة؛ يقال له: زياد بن عبد الله، فقال: إن عديا بعشي إليك يسألك أن تخرج من هذا البلد وتأتي بلدًا آخر فتقاتل أهله؛ فإن عديا للقائك كاره، فقال له صالح: ارجع إليه، فقل له: إن كنت ترى رأينا فأرنا من ذلك ما نعرف، ثم نحن مدلجون عنك من هذا البلد إلى غيره، وإن كنت على رأى الجبابرة وأئمة السوء رأينا رأينا، فإن شئنا بدأنا بك، وإن شئنا رحلنا إلى غيرك، فانصرف إليه الرسول فأبلغه ما أرسل به، فقال له: ارجع إليه فقل له: إني والله ما أنا على رأيك، ولكني أكره قتالك وقتال غيرك، فقاتل غيري، فقال صالح لأصحابه: اركبوا، فركبوا وحبس الرجل عنده حتى خرجوا، ثم تركه ومضى بأصحابه حتى يأتي عدي بن عدي بن عميرة في سوق دوغان وهو قائم يصلي الضحى، فلم يشعر إلا والخيل طالعة عليهم، فلما بصروا بها تنادوا، وجعل صالح شبيبًا في كتيبة في ميمنة أصحابه، وبعث سويد بن سليم الهندي من بني شيبان في كتيبة في ميسرة أصحابه، ووقف هو في كتيبة في القلب، فلما دنا منهم رآهم على غير تعبية، وبعضهم يجول في بعض، فأمر شبيبًا فحمل عليهم، ثم حمل سويد عليهم فكانت هزيمتهم ولم يقاتلوا، وأتى عدي بن عدي بدابته وهو يصلي فركبها ومضى على وجهه، وجاء صالح بن مسرح حتى نزل عسكره وحوى ما فيه، وذهب فل عدي وأوائل أصحابه حتى دخلوا على محمد بن مروان، فغضب، ثم دعا خالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعا الحارث بن جعونة من بني ربيعة بن عامر بن صعصعة فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعاهما، فقال: اخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة، وعجلا الخروج، وأغذا السير، فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه؛ فخرجا من عنده فأغذا السير، وجعلا يسألان عن صالح بن مسرح فيقال لهما: إنه توجه نحو آمد، فأتبعاه حتى انتهيا إليه، وقد نزل على أهل آمد فنزلا ليلا، فيخندقا وانتهيا إليه وهما متساندان كل واحد منهما في أصحابه على حدته، فوجه صالح شبيبًا إلى الحارث بن جعونة العامري في شطر أصحابه، وتوجه هو نحو خالد بن جزء السلمي. قال أبو مخنف: فحدثني المحلمي، قال: انتهوا إلينا في أول وقت العصر، فصلى بنا صالح العصر، ثم عبانا لهم فاقتتلنا كأشد قتال اقتتله قوم قط، وجعلنا والله نرى الظفر يحمل الرجل منا على العشرة منهم فيهزمهم، وعلى العشرين فكذلك، وجعلت خليهم لا تثبت لخيلنا. فلما رأى أميراهم ذلك ترجلا وأمرا جل من معهما فترجل، فعند ذلك جعلنا لا نقدر منهم على الذي نريد، إذا حملنا عليهم استقبلنا رجالتهم بالرماح، ونضحتنا رماتهم بالنبل، وخيلهم تطاردنا في خلال ذلك، فقاتلناهم إلى المساء حتى حال الليل بيننا وبينهم، وقد أفشوا فينا الجراحة، وأفشيناها فيهم، وقد قتلوا منا نحوًا من ثلاثين رجلًا، وقتلنا منهم أكثر من سبعين، ووالله ما أمسينا حتى كرهناهم وكرهونا، فوقفنا مقابلهم ما يقدمون علينا وما نقدم عليهم، فلما أمسوا رجعوا إلى عسكرهم، ورجعنا إلى عسكرنا فصلينا وتروحنا وأكلنا من الكسر. ثم إن صالحًا دعا شبيبًا وروءس أصحابه فقال: يا أخلائي، ماذا ترون؟ فقال شبيب: أرى أنا قد لقينا هؤلاء القوم فقاتلناهم، وقد اعتصموا بخندقهم، فلا أرى أن نقيم عليهم، فقال صالح: وأنا أرى ذلك، فخرجوا من تحت ليلتهم سائرين، فمضوا حتى قطعوا أرض الجزيرة، ثم دخلوا أرض الموصل فساروا فيها حتى قطعوها ومضوا حتى قطعوا الدسكرة. فلما بلغ ذلك الحجاج سرح إليهم الحارث بن عميرة بن ذي المشعار الهمداني في ثلاثة آلاف رجل من أهل الكوفة، ألف من المقاتلة الأولى، وألفين من الفرض الذي فرض لهم الحجاج. فسار حتى إذا دنا من الدسكرة خرج صالح بن مسرح نحو جلولاء وخانقين، وأتبعه الحارث ابن عميرة حتى انتهى إلى قرية يقال لها المدبج من أرض الموصل على تخوم ما بينها وبين أرض جوخى، وصالح يومئذ في تسعين رجلا، فعبي الحارث ابن عميرة يومئذ أصحابه، وجعل على ميمنته أبا الرواغ الشاكري، وعلى ميسرته الزبير بن الأروح التميمي، ثم شد عليهم - وذلك بعد العصر وقد جعل أصحابه ثلاثة كراديس؛ فهو في كردوس، وشبيب في كردوس في ميمنته، وسويد بن سليم في كردوس في الميسرة، في كل كردوس منهم ثلاثون رجلا فلما شد عليهم الحارث بن عميرة في جماعة أصحابه انكشف سويد ابن سليم، وثبت صالح وثبت صالح بن مسرح فقتل، وضارب شبيب حتى صرع، فوقع رجالة، فشد عليهم فانكشفوا، فجاء حتى انتهى إلى موقف صالح ابن مسرح فأصابه قتيلا، فنادى: إلى يا معشر المسلمين؛ فلاذوا به، فقال لأصحابه: ليعجل كل واحد منكم ظهره إلى ظهره صاحبه، وليطاعن عدوه إذا أقدم عليه حتى ندخل هذا الحصن، ونرى رأينا، ففعلوا ذلك حتى دخلوا الحصن وهم سبعون رجلا بشبيب، وأحاط بهم الحارث بن عميرة ممسيًا، وقال لأصحابه: احرقوا الباب، فإذا صار حمرًا فدعوه فإنهم لا يقدرون على أن يخرجوا منه حتى نصبحهم فنقتلهم، ففعلوا ذلك بالباب، ثم انصرفوا إلى عسكرهم، فأشرف شبيب عليهم وطائفة من أصحابه، فقال بعض أولئك الفرض: يا بني الزواني، ألم يخزكم الله! فقالوا: يافساق، نعم تقاتلوننا لقتالنا إياكم إذ أعماكم الله عن الحق الذي نحن عليه، فما عذركم عند الله في الفري على أمهاتنا! فقال له حلماؤهم إنما هذا من قول شباب فينا سفهاء، والله ما يعجبنا قولهم ولا نستحله. وقال شبيب لأصحابه: يا هؤلاء، ما تنظرون! فو الله لئن صبحكم هؤلاء غدوة إنه لهلاككم، فقالوا له: مرنا بأمرك، فقال لهم: إن الليل أخفى للويل، بايعوني ومن شئم منكم، ثم اخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم، فإنهم لذلك منكم آمنون، وأنا أرجوا أن ينصركم الله عليهم. قالوا: فابسط يدك فلنبايعك، فبايعوه، ثم جاءوا ليخرجوا، وقد صار بابهم جمرًا، فأتوا باللبود فبلوها بالماء، ثم ألقوها على الجمر، ثم قطعوا عليها، فلم يشعر الحارث بن عميرة ولا أهل العسكر إلا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم، فضارب الحارث حتى صرع، واحتمله أصحابه وانهزموا، وخلوا لهم العسكر وما فيه، ومضوا حتى نزلوا المدائن، فكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب، وأصيب صالح بن مسرح يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من جمادى الأولى من سنته. خبر دخول شبيب الكوفة وما كان من أمره مع الحجاج وفي هذه السنة دخل الكوفة ومعه زوجته عزالة. ذكر الخبر عن دخوله الكوفة وما كان من أمره وأمر الحجاج بها والسبب الذي دعا شبيبا إلى ذلك وكان السبب في ذلك - فيما ذكر هشام، عن أبي مخنف، عن عبد الله ابن علقمة، عن قبيصة بن عبد الرحمن الخشعمي - أن شبيبًا لما قتل صالح بن مسرح بالمدبج وبايعه أصحاب صالح، ارتفع إلى أرض الموصل فلقى سلامة بن سيار بن المضاء التيمي تيم شيبان، فدعاه إلى الخروج معه، وكان يعرفه قبل ذلك إذ كانا في الديوان والمغازي، فاشترط عليه سلامة أن ينتخب ثلاثين فارسًا، ثم لا يغيب عنه إلا ثلاث ليال عددًا. ففعل، فانتخب ثلاثين فارسًا، فانطلق بهم نحو عنزة، وإنما أرادهم ليشفي نفسه منهم لقتلهم أخاه فضالة، وذلك أن فضالة كان خرج قبل ذلك في ثمانية عشر نفسًا حتى نزل ماء يقال له الشجرة من أرض الجبال عليه أثلة عظيمة، وعليه عنزة، فلما رأته عنزة قال بعضهم لبعض: نقتلهم ثم نغدو بهم إلى الأمير فنعطي ونجى، فأجمعوا على ذلك، فقال بنو نصر أخواله: لعمر الله لا نساعدكم على قتل ولدنا. فنهضت عنزة إليهم فقاتلوهم فقتلوهم، وأتوا برءوسهم عبد الملك بن مروان، فلذلك أنزلهم بانقيا، وفرض لهم، ولم تكن لهم فرائض قبل ذلك إلا قليلة، فقال سلامة بن سيار، أخو فضالة يذكر قتل أخيه وخذلان أخواله إياه: وما خلت أخوال الفتى يسلمونه ** لوقع السلاح قبل ما فعلت نصر قال: وكان خروج أخيه فضالة قبل خروج صالح بن مسرح وشبيب. فلما بايع سلامة شبيبًا اشترط عليه هذا الشرط، فخرج في ثلاثين فارسًا حتى انتهى إلى عنزة، فجعل يقتل المحلة منهم بعد المحلة حتى انتهى إلى فريق منهم فيهم خالته، وقد أكبت على ابن لها وهو غلام حين احتلم، فقالت وأخرجت ثديها إليه: أنشدك برحم هذا يا سلامة! فقال: لا والله، ما رأيت فضالة مذ أناخ بعمر الشجرة - يعني أخاه - لتقومن عنه، أو لأجمعن حافتك بالرمح، فقامت عن ابنها عند ذلك فقتله. قال أبو مخنف: فحدثني المفضل بن بكر من بني تيم بن شيبان أن شبيبًا أقبل في أصحابه نحو راذان. فلما سمعت به طائفة من بني تيم ابن شيبان خرجوا هرابًا منه، ومعهم ناس من غيرهم قليل، فأقبلوا حتى نزلوا دير خرزاد إلى جنب حولايا، وهم نحو من ثلاثة آلاف، وشبيب في نحو من سبعين رجلا أو يزيدون قليلا، فنزل بهم؛ فهابوه وتحصنوا منه، ثم إن شبيبًا سرى في اثني عشر فارسًا من أصحابه إلى أمه، وكانت في سفح ساتيد ما نازلة في مظلة من مظال الأعراب: فقال: لأتين بأمي فلأجعلنها في عسكري فلا تفارقني أبدًا حتى أموت أو تموت. وخرج رجلان من بني تيم بن شيبان تخوفا على أنفسهما فنزلا من الدير، فلحقا بجماعة من قومهما وهم نزول بالجال منهم على مسيرة ساعة من النهار، وخرج شبيب، في أولئك الرهط في أولهم وهم اثنا عشر، يريد أمه بالسفح، فإذا هو بجماعة من بني تيم بن شيبان غارين في أموالهم مقيمين، لا يرون أن شبيبًا يمر بهم لمكانهم الذي هم به، ولا يشعر بهم، فحمل عليهم في فرسانه تلك، فقتل منهم ثلاثين شيخًا؛ فيهم حوثرة بن أسد ووبرة بن عاصم الذان كانا نزلا من الدير، فلحقا بالجبال. ومضى شبيب إلى أمه فحملها من السفح، فأقبل بها، وأشرف رجل من أصحاب الدير من بكر بن وائل على أصحاب شبيب، وقد استخلف شبيب أخاه على أصحابه مصاد بن يزيد، ويقال لذلك الرجل الذي أشرف عليهم سلام بن حيان، فقال لهم: يا قوم، القرآن بيننا وبينكم. ألم تسمعوا قول الله: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه " قالوا: بلى، قال لهم: فكفوا عنا حتى نصبح، ثم نخرج إليكم على أمان لنا منكم، لكيلا تعرضوا لنا بشئ نكرهه حتى تعرضوا علينا أمركم هذا، فإن نحن قبلناه حرمت عليكم أموالنا ودماؤنا، وكنا لكم إخوانًا وإن نحن لم نقبله رددتمونا إلى مأمننا، ثم رأيتم رأيكم فيما بيننا وبينكم؛ قالوا لهم: فهذا لكم. فلما أصبحوا خرجوا إليهم، فعرض عليهم أصحاب شبيب قولهم، ووصفوا لهم أمرهم، فقبلوا ذلك كله، وخالطوهم ونزلوا إليهم، فدخل بعضهم إلى بعض، وجاء شبيب وقد اصطلحوا، فأخبره أصحابه خبرهم، فقال: أصبتم ووفقتم وأحسنتم. ثم إن شبيبًا ارتحل فخرجت معه طائفة وأقامت طائفة جانحة، وخرج يومئذ معه إبراهيم بن حجر المحلمي أبو الصقير كان مع بني تيم بن شيبان نازلًا فيهم، ومضى شبيب في أداني أرض الموصل وتخوم أرض جوخى، ثم ارتفع نحو أذربيجان، وأقبل سفيان بن أبي العالية الخشعمي في خيل قد كان أمر أن يدخل بها طبرستان، فأمر بالقفول، فأقبل راجعًا في نحو من ألف فارس، فصالح صاحب طبرستان. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الله بن علقمة عن سفيان بن أبي العالية الخثعمي أن كتاب الحجاج أتاه: أما بعد، فسر حتى تنزل الدسكرة فيمن معك، ثم أقيم حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة الهمداني بن ذي المشعار، وهو الذي قتل صالح بن مسرح وخيل المناظر، ثم سر إلى شبيب حتى تناجزه، فلما أتاه الكتاب أقبل حتى نزل الدسكرة، ونودي في جيش الحارث بن عميرة بالكوفة والمدائن: أن برئت الذمة من رجل من جيش الحارث بن عميرة لم يواف سفيان بن أبي العالية بالدسكرة قال: فخرجوا حتى أتوه، وأتته خيل المناظر، وكانوا خمسمائة، عليهم سورة بن أبجر التميمي من بني أبان بن دارم، فوافوه إلا نحوًا من خمسين رجلا تخلفوا عنه، وبعث إلى سفيان بن أبي العالية ألا تبرح العسكر حتى آتيك. فعجل سفيان فارتحل في طلب شبيب، فلحقه بخانقين في سفح جبل على ميمنته خازم بن سفيان الخثعمي من بني عمر بن شهران، وعلى ميسرته عدي بن عميرة الشيباني، وأصحر لهم شبيب، ثم ارتفع عنهم حتى كأنه يكره لقاءه، وقد أكن له أخاه مصادًا معه خمسون في هزم من الأرض، فلما رأوه جمع أصحابه ثم مضى في سفح الجبل مشرفًا فقالوا: هرب عدو الله فاتبعوه، فقال لهم عدي بن عميرة الشيباني: أيها الناس، لا تعجلوا عليهم حتى نضرب في الأرض ونسير بها، فإن يكونوا قد أكمنوا لنا كمينًا كنا قد حذرناه، وإلا فإن طلبهم لن يفوتنا. فلم يسمع منه الناس، وأسرعوا في آثارهم. فلما رأى شبيب أنهم قد جازوا الكمين عطف عليهم ولما رأى الكمين أن قد جاوزهم خرجوا إليهم، فحمل عليهم شبيب من أمامهم، وصاح بهم الكمين من ورائهم، فلم يقاتلهم أحد، وكانت الهزيمة، فثبت ابن أبي العالية في نحو من مائتي رجل، فقاتلهم قتالا شديدًا حسنًا؛ حتى ظن أنه انتصف من شبيب وأصحابه، فقال سويد بن سليم لأصحابه: أمنكم أحد يعرف أمير القوم ابن أبي العالية؟ فو الله لئن عرفته لأجهدن نفسي في قتله، فقال شبيب: أنا من أعرف الناس به، أما ترى صاحب الفرس الأغر الذي دونه المرامية! فإنه ذلك، فإن كنت تريده فأمهله قليلًا، ثم قال: يا قعنب، اخرج في عشرين فأتهم من ورائهم فخرج قعنب في عشرين فارتفع عليهم. فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم جعلوا يتنقضون ويتسسللون، وحمل سويد بن سليم على سفيان بن أبي العالية فطاعنه، فلم تصنع رمحاهما شيئًا، ثم اضطربا بسيفهما ثم اعتنق كل منهما صاحبه، فوقعا إلى الأرض يعتركان؛ ثم تحاجزوا وحمل عليهم شبيب فانكشفوا، وأتى سفيان غلام له يقال له غزوان، فنزل عن برذونة، وقال: اركب يا مولاي، فركب سفيان، وأحاط به أصحاب شبيب، فقاتل دونه غزوان فقتل، وكانت معه رايته. وأقبل سفيان بن أبي العالية حتى انتهى إلى بابل مهروذ، فنزل بها، وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني أتبعت هذه المارقة حتى لحقتهم بخانقين فقاتلتهم، فضرب الله وجوههم، ونصرنا عليهم، فبينا نحن كذلك إذ أتاهم قوم كانوا غيبًا عنهم، فحملوا على الناس فهزموهم، فنزلت في رجال من أهل الدين والصبر فقاتلتهم، حتى خررت بين القتلى، فحملت مرتثًا، فأتى بي بابل مهروذ، فهأنذا بها والجند الذين وجههم إلى الأمير وافوا إلا سورة بن أبجر فإنه لم يأتني ولم يشهد معي حتى إذا نزلت بابل مهروذ أتاني يقول ما لا أعرف، ويعتذر بغير العذر والسلام. فلما قرأ الحجاج الكتاب قال: من صنع كما صنع هذا، وأبلى كما أبلى فقد أحسن. ثم كتب إليه: أما بعد: فقد أحسنت البلاء، وقضيت الذي عليك، فإذا خف عنك الوجع فأقبل مأجورًا إلى أهلك والسلام. وكتب إلى سورة بن أبحر: أما بعد فيا بن أم سورة، ما كنت خليقًا أن تجترئ على ترك عهدي وخذلان جندي، فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك صليبًا إلى الخيل التي بالمدائن، فلينتخب منهم خمسمائة رجل، ثم ليقدم بهم عليك، ثم سر بهم حتى تلقى هذه المارقة. واحزم في أمرك، وكد عدوك، فإن أفضل أمر الحرب حسن المكيدة. والسلام. فلما أتى سورة كتاب الحجاج بعث عدي بن عميرة إلى المدائن. وكان بها ألف فارس، فانتخب منهم خمسمائة، ثم دخل على عبد الله بن أبي عصيفير - وهو أمير المدائن في إمارته الأولى - فسلم عليه، فأجازه بألف درهم، وحمله على فرس، وكساه أثوابًا. ثم إنه خرج من عنده، فأقبل بأصحابه حتى قدم بهم على سورة بن أبجر ببابل مهروذ، فخرج في طلب شبيب، وشبيب يجول في جوخى وسورة في طلبه، فجاء شبيب حتى انتهى إلى المدائن فتحصن منه أهل المدائن وتحرزوا. وهي أبنية المدائن الأولى، فدخل المدائن، فأصاب بها دواب جند كثيرة فقتل من ظهر له ولم يدخلوا البيوت. فأتى فقيل له: هذا سورة بن أبجر قد أقبل إليك. فخرج في أصحابه حتى انتهى إلى النهروان، فنزلوا به وتوضئوا وصلوا، ثم أتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم علي بن أبي طالب عليه السلام، فاستغفروا لإخوانهم، وتبرءوا من علي وأصحابه، وبكوا فأطالوا البكاء، ثم خرجوا فقطعوا جسر النهروان، فنزلوا من جانبه الشرقي، وجاء سورة حتى نزل بقطراثا، وجاءته عيونه فأخبرته بمنزل شبيب بالنهروان، فدعا رءوس أصحابه فقال: إنهم قلما يلقون مصحرين أو على ظهر إلا انتصفوا منكم، وظهروا عليكم، وقد حدثت أنهم لا يزيدون على مائة رجل إلا قليلا، وقد رأيت أن أنتخبكم فأسير في ثلثمائة رجل منكم من أقويائكم وشجعانكم فآتيهم الآن إذ هم آمنون لبياتكم؛ فو الله إلى لأرجو أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم الذين صرعوا منهم بالنهروان من قبل فقالوا: اصنع ما أحببت. فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة الخثعمي، وانتخب من أصحابه ثلثمائة رجل من أهل القوة والجلد الشجاعة، ثم أقبل بهم نحو النهروان، وبات شبيب وقد أذكى الحرس، فلما دنا أصحاب سورة منهم نذروا بهم، فاستووا على خيولهم وتعبوا تعبيتهم. فلما انتهى إليهم سورة وأصحابه أصابوهم قد حذروا واستعدوا فحمل عليهم سورة وأصحابه فثبتوا لهم، وضاربوهم حتى صد عنهم سورة وأصحابه، ثم صاح شبيب بأصحابه، فحمل عليهم حتى تركوا له العرصة، وحملوا عليهم معه، وجعل شبيب يضرب ويقول: من ينك العير ينك نياكا ** جندلتان اصطكتا اصطكاكا فرجع سورة إلى عسكره وقد هزم الفرسان وأهل القوة، فتحمل بهم حتى أقبل بهم نحو المدائن، فدفع إليهم وقد تحمل وتعدى الطريق الذي فيه شبيب، واتبعه شبيب وهو يرجو أن يلحقه فيصيب عسكره، ويصيب بهزيمته أهل المعسكر، فأخذ السير في طلبهم، فانتهوا إلى المدائن فدخلوها، وجاء شبيب حتى انتهى إلى بيوت المدائن. فدفع إليهم وقد دخل الناس، وخرج ابن أبي عصيفير في أهل المدائن فرماهم الناس بالنبل، ورموا من فوق البيوت بالحجارة، فارتفع شبيب بأصحابه عن المدائن، فمر على كلواذا فأصاب بها دواب كثيرة للحجاج فأخذها، ثم خرج يسير في أرض جوخى، ثم مضى نحو تكريت، فبينا ذلك الجند في المدائن إذ أرجف الناس بينهم، فقالوا: هذا شبيب قد دنا، وهو يريد أن يبيبت أهل المدائن الليلة، فارتحل عامة الجند. فلحقوا بالكوفة. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الله بن علقمة الخثعمي، قال: والله لقد هربوا من المدائن وقالوا: نبيت الليلة، وإن شبيبًا لبتكبريت، قال: ولما قدم الفل على الحجاج سرح الجزل بن سعيد بن شرحبيل بن عمرو الكندي. قال أبو مخنف: حدثنا النضر بن صالح العبسي وفضيل بن خديج الكندي أن الحجاج لما أتاه الفل قال: قبح الله سورة! ضيع العسكر والجند، وخرج يبيت الخوارج، أما والله لأسوءنه، وكان بعد قد حبسه ثم عفا عنه. قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج أن الحجاج دعا الجزل - وهو عثمان بن سعيد - فقال له: تيسر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخرق، ول تحجم إحجام الواني الفرق، هل فهمت؟ لله أنت يا أخا بني عمرو بن معاوية! فقال: نعم أصلح الله الأمير قد فهمت؛ قال له: فاخرج فعسكر بدير عبد الرحمن حتى يخرج إليك الناس، فقال: أصلح الله الأمير! لاتبعثن معي أحدًا من أهل هذا الجند المفلول المهزوم، فإن الرعب قد دخل قلوبهم، وقد خشيت ألا ينفعك والمسلمين منهم أحد؛ قال له: فإن ذلك لك، ولا أراك إلا قد أحسنت الرأي ووفقت. ثم دعا أصحاب الدواووين فقال: اضربوا على الناس البعث، فأخرجوا أربعة آلاف من الناس، من كل ربع ألف رجل، وعجلوا ذلك، فجمعت العرفاء، وجلس أصحاب الدواوين، وضربوا البعث فأخرجوا أربعة آلاف، فأمرهم بالعسكر فعسكروا، ثم نودى فيهم بالرحيل، ثم ارتحلوا ونادى منادي الحجاج: أن برئت الذمة من رجل أصبناه من هذا البعث متخلفًا؛ قال: فمضى الجزل بن سعيد، وقد قدم بين يديه عياض بن أبي لينة الكندي على مقدمته، فخرج حتى أتى المدائن، فأقام فيها ثلاثًا، وبعث إليه ابن أبي عصيفير بفرس وبرذون وبغلين وألفي درهم، ووضع للناس من الجزر والعلف ما كفاهم ثلاثة أيام حتى ارتحلوا، فأصاب الناس ما شاؤوا من تلك الجزر والعلف الذي وضع لهم ابن عصيفير. ثم إن الجزل بن سعيد خرج بالناس في أثر شبيب، فطلبه في أرض جوخى، فجعل شبيب يريه الهيبة، فيخرج من رستاق إلى رستاق، ومن طسوج إلى طسوج، ولا يقيم له إرادة أن يفرق الجزل أصحابه، ويتعجل إليه فيلقاه في يسير من الناس على غير تعبية، فجعل الجزل لا يسير إلا على تعبية، ولا ينزل إلا خندق على نفسه خندقًا، فلما طال ذلك على شبيب أمر أصحابه ذات ليلة فسروا. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط أن شبيبًا دعانا ونحن بدير بيرما ستون مائة رجل، فجعل على كل أربعين من أصحابه رجلًا، وهو في أربعين، وجعل أخاه مصادًا في أربعين، وبعث سويد بن سليم في أربعين، وبعث المحلل بن وائل في أربعين، وقد أتته عيونه فأخبرته أن الجزل بن سعيد قد نزل دير يزيد جرد، قال: فدعانا عند ذلك فعبانا هذه التعبئة، وأمرنا على دوابنا، وقال لنا: تيسروا فإذا قضمت دوابكم فاركبوا، وليسر كل امرئ منكم مع أميره الذي أمرناه عليه، ولينظر كل امرئ منكم ما يأمره أميره فليتبعه. ودعا أمرائنا فقال لهم: إني أريد أن أبيت هذا العسكر الليلة، ثم قال لأخيه مصاد: إيتهم فارتفع من فوقهم حتى تأتيهم من ورائهم من قبل حلوان، وسآتيهم أنا من أمامي من قبل الكوفة، وأتهم أنت يا سويد من قبل المشرق، وأتهم أنت من قبل المغرب، وليلج كل امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه، ولا تقلعوا عنهم، تحملون وتكرون عليهم، وتصيحون بهم حتى يأتيكم أمري. فلم نزل على تلك التعبئة، وكنت أنا في الأربعين الذين كانوا معه، حتى إذا قضمت دوابنا - وذلك أول الليل أول ما هدأت العيون - خرجنا حتى انتهينا إلى دير الحرارة، فإذا القوم مسلحة، عليهم عياض بن أبي لينة، فما هو إلا أن انتهينا إليهم، فحمل عليهم مصاد أخو شبيب في أربعين رجلًا، وكان أمام شبيب، وقد كان أراد أن يسبق شبيبًا حتى يرتفع عليهم ويأتيهم من ورائهم كما أمره، فلما لقى هؤلاء قاتلهم فصبروا ساعة، وقاتلوهم. ثم إنا دفعنا إليهم جميعًا، فحملنا عليهم فهزمناهم، وأخذوا الطريق الأعظم، وليس بينهم وبين عسكرهم بدير جرد إلا قريب من ميل. فقال لنا شبيب: اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم حتى تدخلوا معهم عسكرهم إن استطعتم؛ فأتبعناهم والله ملظين بهم، ملحين عليهم، ما نرفه عنهم وهم منهزمون، ما لهم همة إلا عسكرهم، فانتهوا إلى عسكرهم، ومنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم، ورشقوا بالنبل، وكانت عيون لهم قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا، وكان الجزل قد خندق عليه، وتحرز ووضع هذه المسلحة الذين لقيناهم بدير الحرارة، ووضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان على الطريق. فلما أن دفعنا إلى هذه المسلحة التي كانت بدير الحرارة فألحقناهم بعسكر جماعتهم ورجعت المسالح الأخر حتى اجتمعت، منعها أهل العسكر دخول العسكر وقالوا لهم: قاتلوا، وانضحوا عنكم بالنبل. قال أبو مخنف: وحدثني جرير بن الحسين الكندي، قال: كان على المسلحتين الأخريين عاصم بن حجر على التي تلي حلوان، وواصل ابن الحارث السكوني إلى الأخرى. فلما اجتمعت المسالح جعل شبيب يحمل عليها حتى اضطرها إلى الخندق، ورشقهم أهل العسكر بالنبل حتى ردوهم عنهم. فلما رأى شبيب أنه لا يصل إليهم قال لأصحابه: سيروا ودعوهم، فمضى على الطريق نحو حلوان حتى إذا كان قريبًا من موضع قباب حسين بن زفر من بني بدر بن فزارة - وإنما كانت قباب حسين بن زفر بعد ذلك - قال لأصحابه: انزلوا فاقضموا وأصلحوا نبلكم وتروحوا وصلوا ركعتين، ثم اركبوا؛ فنزلوا ففعلوا ذلك. ثم إنه أقبل بهم راجعًا إلى عسكر أهل الكوفة أيضًا، وقال: سيروا على تعبيتكم التي عبأتكم عليها بدير بيرما أول الليل، ثم أطيفوا بعسكرهم كما أمرتكم، فأقبلوا. قال: فأقبلنا معهم وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إلهم، وقد أمنونا فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر خيولنا قريبًا منهم، فانتهينا إليهم قبيل الصبح فأحطنا بعسكرهم، ثم صحنا بهم من كل جانب، فإذا هم يقاتلوننا من كل جانب، ويرموننا بالنبل. ثم إن شبيبًا بعث إلى أخيه مصاب وهو يقاتلهم من نحو الكوفة أن أقبل إلينا وخل لهم سبيل الطريق إلى الكوفة، فأقبل إليه، وترك ذلك الوجه، وجعلنا نقاتلهم من تلك الوجوه الثلاثة، حتى أصبحنا، فأصبحنا ولم نستفل منهم شيئًا، فسرنا وتركناهم، فجعلوا يصيحون بنا: أين يا كلاب النار! أين أيتها العصابة المارقة! أصبحوا نخرج إليكم، فارتفعنا عنهم نحوًا من ميل ونصف، ثم نزلنا فصلينا الغداة، ثن أخذنا الطريق على براز الروذ، ثم مضينا إلى جسر جسرايا وما يليها، فأقبلوا في طلبنا. قال أبو مخنف: فحدثني مولى لنا يدعى غاضرة أو قيصر، قال: كنت مع الناس تاجرًا وهم في طلب الحرورية، وعلينا الجزل بن سعيد، فجعل يتبعهم فلا يسير إلا على تعبية، ولا ينزل إلا على خندق، وكان شبيب يدعه ويضرب في أرض جوخى وغيرها يكسر الخراج، وطال ذلك على الحجاج، فكتب إليه كتابًا، فقر على الناس: أما بعد، فأني بعثتك في فرسان أهل المصر ووجوه الناس، وأمرتك بإتباع هذه المارقة الضالة المضلة حتى تلقاها، فلا تقلع عنها حتى تقتلها وتفنيها، فوجدت التعريس في القرى والتخييم في الخنادق أهون عليك من المضي لما أمرتك به من مناهضتهم ومناجزتهم. والسلام. فقرئ الكتاب علينا ونحن بقطراثا ودير أبي مريم، فشق ذلك على الجنرال. وأمر الناس بالسير. فخرجوا في طلب الخوارج جادين، وأرجفنا بأميرنا وقلنا: يعزل. قال أبو مخنف: فحدثني إسماعيل بن نعيم الهمذاني ثم البرسمي أن الحجاج بعث سعيد بن المجالد على ذلك الجيش، وعهد إليه أن لقيت المارقة فازحف إليهم ولا تناظرهم ولا تطاولهم وواقفهم واستعن بالله عليهم، ولا تصنع صنيع الجزل، واطلبهم طلب السبع، وحد عنهم حيدان الضبع. وأقبل الجزل في طلب شبيب حتى انتهوا إلى النهروان فأدركوه فلزم عسكره، وخندق عليه. وجاء إليه سعيد بن المجالد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرًا، فقام فيهم خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ياأهل الكوفة، إنكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم وكسروا خراجكم، وأتنم حاذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها إلا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم، ونزلوا بلدًا سوى بلدكم، فأخرجوا على اسم الله إليهم. فخرج وأخرج الناس معه، وجمع إليه خيول أهل العسكر، فقال له الجزل: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أقدم على شبيب في هذه الخيل، فقال له الجزل: أقم أنت في جماعة الجيش، فارسهم وراجلهم، وأصحر له، فوالله ليقدمن عليك، فلا تفرق أصحابك، فإن ذلك شر لهم وخير لك. فقال له: قف أنت في الصف، فقال: يا سعيد بن مجالد، ليس لي فيما صنعت رأي، أنا بريء من رأيك هذا، سمع الله ومن حضر من المسلمين. فقال: هو رأيي إن أصبت، فالله وفقني له، وإن يكن غير صواب فأنتم منه براء، قال: فوقف الجزل في صف أهل الكوفة وقد أخرجهم من الخندق، وجعل على ميمنتهم عياض بن أبي لينة الكندي، وعلى ميسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حميد الرواسي، ووقف الجزل في جماعتهم واستقدم سعيد بن مجالد، فخرج وأخرج الناس معه، وقد أخذ شبيب إلى براز الروز، فنزل فطفتا، وأمر دهقانها أن يشتري لهم ما يصلحهم، ويتخذ لهم غداء، ففعل، ودخل مدينة قطفتا وأمر بالباب فأغلق، فلم يفرغ من الغداء حتى أتاه سعيد بن مجالد في أهل ذلك العسكر، فصعد الدهقان السور فنظر إلى الجند مقبلين قد دنوا من حصنه، فنزل وقد تغير لونه، فقال له شبيب: ما لي أراك متغير اللون! فقال له الدهقان: قد جاءتك الجنود من كل ناحية، قال: لا بأس، هل أدرك غداءنا؟ قال: نعم، قال: فقربه، وقد أغلق الباب، وأتى بالغداء، فتغدى وتوضأ وصلى ركعتين، ثم دعا ببغل له فركبه. ثم إنهم اجتمعوا على باب المدينة، فأمر بالباب ففتح، ثم خرج على بغله فحمل عليهم. وقال: لا حكم إلا للحكم الحكيم، أنا أبو مدله، أثبتوا إن شئتم. وجعل سعيد يجمع قومه وخيله، ويزلفها في أثره، ويقول: ما هؤلاء! إنما هم أكلة رأس، فلما رآهم شبيب قد تقطعوا وانتشروا لف خيله كلها، ثم جمعها، ثم قال: استعرضوهم استعراضًا، وانظروا إلى أميرهم، فو الله لأقتلنه أو يقتلني. وحمل عليهم مستعرضًا لهم، فهزمهم وثبت سعيد بن المجالد، ثم نادى أصحابه: إلي إلي، أنا ابن ذا مران! وأخذ قلنسوته فوضعها على قربوص سرجه، وحمل عليه شبيب فعممه بالسيف، فخالط دماغه، فخر ميتًا، وانهزم ذلك الجيش، وقتلوا كل قتلة، حتى انتهوا إلى الجزل، ونزل الجزل ونادى: أيها الناس، إلي. وناداهم عياض بن أبي لينة: أيها الناس، إن كان أميركم القادم قد هلك فأميركم الميمون النقيبة المبارك حي لم يمت فقاتل الجزل قتالًا شديدًا حتى حمل من بين القتلى، فحمل إلى المدائن مرتثًا، وقدم فل أهل ذلك العسكر الكوفة، وكان من أشد الناس بلاءً يومئذ خالد بن نهيك من بني ذهل بن معاوية وعياض بن أبي لينة، حتى استنقذاه وهو مرتث. هذا حديث طائفتك من الناس، والحديث الأخر قتالهم فيما بين دير أبي مريم إلى براز الروز. ثم إن الجزل كتب إلى الحجاج. قال: وأقبل شبيب حتى قطع دجلة عند الكرخ، وبعث إلى سوق بغداد فأمنهم، وذلك اليوم يوم سوقهم، وكان بلغه أنهم يخافونه، فأحب أن يأمنهم، وكان أصحابه يريدون أن يشتروا من السوق دواب وثياب وأشياء ليس لهم منها بد، ثم أخذ بهم نحو الكوفة، وساروا أول الليل حتى نزلوا عقر الملك الذي يلي قصر ابن هبيرة، ثم أغذ السير من الغد، فبات بين حمام عمر بن سعد وبين قبين. فلما بلغ الحجاج مكانه بعث إلى سويد بن عبد الرحمن السعدي، فبعثه في ألفي فارس نقاوة، وقال له: اخرج إلى شبيب فالقه، واجعل ميمنة وميسرة، ثم أنزل إليه في الرجال فإن استطرد ذلك فدعه ولا تتبعه. فخرج فعسكر بالسبخة، فبلغه أن شبيب قد أقبل، فأقبل نحوه وكأنما يساقون إلى الموت، وأمر الحجاج عثمان ابن قطن فعسكر بالناس بالسبخة، ونادى: ألا برئت الذمة من رجل من هذا الجند بات الليلة بالكوفة لم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة! وأمر سويد بن عبد الرحمن أن يسير في الألفين الذين معه حتى يلقى شبيبًا فعبر بأصحابه إلى زرارة وهو يعبئهم ويحرضهم إذ قيل له: قد غشيك شبيب، فنزل ونزل معه جل أصحابه، وقدم رايته ومضى إلى أقصى زرارة، فأخبر أن شبيبًا قد أخبر بمكانك فتركك، ووجد مخاضة فعبر الفرات وهو يريد الكوفة من غير الوجه الذي أنت به. ثم قيل له: أما تراهم! فنادى: في أصحابه، فركبوا في آثارهم. وإن شبيبًا أتى دار الرزق. فنزلها، فقيل: إن أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون بالسبخة، فلما بلغهم مكان شبيب صاح بعضهم ببعض وجالوا، وهموا أن يدخلوا الكوفة حتى قيل لهم: إن سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم في الخيل. قال هشام: وأخبرني عمر بن بشير، قال: لما نزل شبيب الدير أمر بغنم تهيأ له، فصعد الدهقان، ثم نزل وقد تغير لونه، فقال: مالك! قال: قد والله جاءك جمع كثير؛ قال: أبلغ الشواء بعد! قال: لا، قال: دعه. قال: ثم أشرف إشرافة أخرى، فقال: قد والله أحاطوا بالجوسق، قال: هات شواءك، فجعل يأكل غير مكترث لهم، فلما فرغ توضأ وصلى بأصحابه الأولى، ثم تقلد سيفين بعدما لبس درعه، وأخذ عمود حديد ثم قال: أسرجوا لي البغلة، فقال أخوه مصاد: أفي هذا اليوم تسرج بغلة! قال: نعم أسرجوها، فركبها، ثم قال: يا فلان، أنت على الميمنة وأنت يا فلان على الميسرة، وقال لمصاد: أنت في القلب، وأمر الدهقان ففتح الباب في وجوههم. قال: فخرج إليهم وهو يحكم، فجعل سعيد وأصحابه يرجعون القهقرى حتى صار بينهم وبين الدير نحو من ميل. قال: وجعل سعيد يقول: يا معشر همدان، أنا ابن ذي مران، إلي إلي. ووجه سربًا مع ابنه وقد أحس أنها تكون عليه، فنظر شبيب إلى مصاد فقال: أثكلينك الله إن لم أثكله ولده. قال: ثم علاه بالعمود، فسقط ميتًا، وانهزم أصحابه وما قتل بينهم يومئذ إلا قتيل واحد. قال: وانكشف أصحاب سعيد بن مجالد حتى أتوا الجزل، فناداهم الجزل: أيها الناس، إ لي إلي. وناداهم عياض بن أبي لينة: أيها الناس، إن يكن أميركم هذا القادم قد هلك فهذا أميركم الميمون النقيبة، أقبلوا إليه، وقاتلوا معه؛ فمنهم من أقبل إليه، ومنهم من ركب رأسه منهزمًا، وقاتل الجزل قتالًا شديدًا حتى صرع، وقاتل عنه خالد بن نهيك وعياض ابن أبي لينة حتى استنقذاه وهو مرتث، وأقبل الناس منهزمين حتى دخلوا الكوفة، فأتى بالجزل حتى أدخل المدائن، وكتب إلى الحجاج بن يوسف. قال أبو مخنف: حدثني بذلك ثابت مولى زهير: أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني خرجت فيمن قبلي من الجند الذي وجهني إلى عدوه، وقد كنت حفظت عهد الأمير إلي فيهم ورأيه، فكنت أخرج إليهم إذا رأيت الفرصة، وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة، فلم أزل كذلك، وقد أرادني العدو بكل ريدة فلم يصب مني غرة، حتى قدم على سعيد بن مجالد رحمة الله عليه، ولقد أمرته بالتؤدة، ونهيته عن العجلة، وأمرته ألا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامة فعصاني، وتعجل إليهم في الخيل، فأشهد عليه أهل المصرين أني بريئ من رأيه الذي رأى، وأني لا أهوى ما صنع. فمضى فأصيب تجاوز الله عنه، ودفع الناس إلي، فنزلت ودعوتهم إلي، ورفعت لهم رايتي، وقاتلت حتى صرعت، فحملني أصحابي من بين القتلى، فما أفقت إلا وأنا على أيديهم على رأس ميل من المعركة، فأنا اليوم بالمدائن في جراحة قد يموت الرجل من دونها ويعافى من مثلها. فليسأل الأمير أصلحه الله عن نصيحتي له ولجنده، وعن مكايدتي عدوه، وعن موقفي يوم البأس، فإنه يستبين له عند ذلك أني قد صدقته ونصحت له. والسلام. فكتب إليه الحجاج: أما بعد، فقد أتاني كتابك وقرأته، وفهمت كل ما ذكرت فيه، وقد صدقتك في كل ما وصفت به نفسك من نصيحتك لأميرك، وحيطتك على أهل مصرك، وشدتك على عدوك، وقد فهمت ما ذكرت من أمر سعيد وعجلته إلى عدوه، فقد رضيت عجلته وتؤدتك، فأما عجلته فإنها أفضت به الجنة، وأما تؤدتك فإنها لم تدع الفرصة إذا أمكنت، وترك الفرصة إذا لم تمكن حزم، وقد أصبت وأحسنت البلاء، وأجرت وأنت عندي من أهل السمع والطاعة والنصيحة، وقد أشخصت إليك حيان ابن أبجر ليداويك ويعالج جراحتك، وبعثت إليك بألفي درهم فأنفقها في حاجتك وما ينوبك. والسلام. فقدم عليه حيان بن أبجر الكناني من بني فراس - وهم يعالجون الكي وغيره - فكان يداويه، وبعث إليه عبد الله بن أبي عصيفير بألف درهم، وكان يعوده ويتعاهده باللطف والهدية. قال: وأقبل شبيب نحو المدائن، فعلم أنه لا سبيل له إلى أهلها مع المدينة، فأقبل حتى انتهى إلى الكرخ، فعبر دجلة إليه، وبعث إلى أهل سوق بغداد وهو بالكرخ أن اثبتوا في سوقكم فلا بأس عليكم - وكان ذلك يوم سوقهم - وقد كان بلغه أنهم يخافونه قال: ويخرج سويد حتى جعل بيوت مزينة وبني سليم في ظهره وظهور أصحابه، وحمل عليهم شبيب حملةً منكرة، وذلك عند المساء، فلم يقدر منهم على شئ، فأخذ على بيوت الكوفة نحو الحيرة، وأتبعه سويد لا يفارقه حتى قطع بيوت الكوفة كلها إلى الحيرة، وأتبعه سويد حتى انتهى إلى الحيرة، فيجده قد قطع قنطرة الحيرة ذاهبًا، فتركه وأقام حتى أصبح. وبعث إليه الحجاج أن أتبعه فأتبعه، ومضى شبيب حتى أغار في أسفل الفرات على من وجد من قومه، وارتفع في البر من وراء خفان في أرض يقال لها الغلظة، فيصيب رجالا من بني الورثة، فحمل عليهم، فاضطرهم إلى جدد من الأرض، فجعلوا يرمونه وأصحابه بالحجارة من حجارة الأرحاء كانت حولهم، فلما نفدت وصل إليهم فقتل منهم ثلاثة عشر رجلا، منهم حنظلة بن مالك ومالك بن حنظلة وحمران بن مالك؛ كلهم من بني الورثة. قال أبو مخنف: حدثني بذلك عطاء بن عرفجة بن زياد بن عبد الله الورثي. ومضى شبيب حتى يأتي بني أبيه على اللصف ماء لرهطه وعلى ذلك الماء الفرز بن الأسود، وهو أحد بني الصلت، وهو الذي كان ينهي شبيبًا عن رأيه، وأن يفسد بني عمه وقومه، فكان شبيب يقول: والله لئن ملكت سبعة أعنة لأغزون الفزر. فلما غشيهم شبيب في الخيل سأل عن الفزر فاتقاه الفزر، فخرج على فرس لا تجارى من وراء البيوت، فذهب عليها في الأرض، وهرب منه الرجال، ورجع وقد أخاف أهل البادية حتى أخذ على القطقطانة؛ ثم على قصر مقاتل، ثم أخذ على شاطئ الفرات حتى أخذ على الحصاصة، ثم على الأنبار، ثم مضى حتى دخل دقوقاء، ثم ارتفع إلى أداني أذربيجان. فتركه الحجاج وخرج إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة، فما شعر الناس بشيء حتى جاء كتاب من ماذرواسب دهقان بابل مهروذ وعظيمها إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أن تاجرًا من تجار الأنبار من أهل بلادي أتاني فذكر أن شبيبًا يريد أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل، أحببت إعلامك ذلك لترى رأيك، ثم لم ألبث إلا ساعة حتى جاءني جابيان من جباتي فحدثاني أنه قد نزل خانيجار. فأخذ عروة كتابه فأدرجه وسرح به إلى الحجاج بالبصرة، فلما قرأه الحجاج أقبل جوادًا إلى الكوفة، وأقبل شبيب يسير حتى انتهى إلى قرية يقال لها حربى على شاطئ دجلة فعبر منها، فقال: مااسم هذه القرية؟ فقالوا: حربى؛ فقال: حربى يصلى بها عدوكم، وحرب تدخلونه بيوتهم، إنما يتطير من يقوف ويعيف، ثم ضرب رايته وقال لأصحابه: سيروا؛ فأقبل حتى نزل عقرقوفا، فقال له سويد بن سليم: يا أمير المؤمنين، لو تحولت بنا من هذه القرية المشؤومة الاسم! قال: وقد تطيرت أيضًا! والله لا أتحول عنها حتى أسير إلى عدوي منها، إنما شؤمها إن شاء الله على عدوكم تحملون عليهم فيها، فالعقر لهم. ثم قال لأصحابه: يا هؤلاء، إن الحجاج ليس بالكوفة، وليس دون الكوفة إن شاء الله شيء، فسيروا بنا. فخرج يبادر الحجاج إلى الكوفة، وكتب عروة إلى الحجاج أن شبيبًا قد أٌقبل مسرعًا يريد الكوفة، فالعجل العجل. فطوى الحجاج المنازل، واستبقا إلى الكوفة، ونزلها الحجاج صلاة الظهر، ونزل شبيب السبخة صلاة المغرب، فصلى المغرب والعشاء، ثم أصاب هو وأصحابه من الطعام شيئًا يسيرًا، ثم ركبوا خيولهم فدخلوا الكوفة، فجاء شبيب حتى انتهى إلى السوق، ثم شد حتى ضرب باب القصر بعموده قال أبو المنذر: رأيت ضربة شبيب بباب القصر قد أثرت أثرًا عظيمًا، ثم أقبل حتى وقف عند المصطبة، ثم قال: وكأن حافرها بكل خميلة ** كيل يكيل به شحيح معدم عبد دعى من ثمود أصله ** لا بل يقال أبو أيهم يقدم ثم اقتحموا المسجد الأعظم وكان كبيرًا لا يفارقه قوم يصلون به فقتل عقيل بن مصعب الوادعي وعدي بن عمر الثقفي وأبا ليث بن أبي سليم مولى عنبسة بن أبي سفيان، وقتلوا أزهر بن عبد الله العامري، ومروا بدار حوشب وهو على الشرط فوقفوا على بابه وقالوا: إن الأمير يدعوا حوشبًا، فأخرج ميمون غلامه برذون حوشب ليركبه حوشب، فكأنه أنكرهم فظنوا أنه قد اتهمهم، فأراد أن يدخل، فقالوا له: كما أنت، حتى يخرج صاحبك. فسمع حوشب الكلام، فأنكر القوم، فخرج إليهم، فلما رأى جماعتهم أنكرهم، وذهب لينصرف، فجعلوا نحوه، ودخل وأغلق الباب، وقتلوا غلامه ميمونًا، وأخذوا برذونه ومضوا حتى مروا بالجحاف ابن نبيط الشيباني من رهط حوشب، فقال له سويد: إنزل إلينا، فقال له: ما تصنع بنزولي! قال له سويد: أقضيك ثمن البكرة التي كنت ابتعت منك بالبادية، فقال له الجحاف: بئس ساعة القضاء هذه الساعة، وبئس قضاء الدين هذا المكان! أما ذكرت أمانتك إلا والليل مظلم، وأنت على ظهر فرسك! قبح الله يا سويد دينًا لا يصلح ولا يتم إلا بقتل ذوي القرابة وسفك دماء هذه الأمة. قال: ثم مضوا فمروا بمسجد بن ذهل فلقوا ذهل بن الحارث، وكان يصلي في مسجد قومه فيطيل الصلاة، فصادفوه منصرفًا إلى منزله، فشدوا عليه ليقتلوه، فقال: اللهم إني أشكو إليك هؤلاء وظلمهم وجهلهم. اللهم إني عنهم ضعيف، فانتصر لي منهم! فضربوه حتى قتلوه، ثم مضوا حتى خرجوا من الكوفة متوجهين نحو المردمة. قال هشام: قال أبو بكر بن عياش: واستقبله النضر بن قعقاع ابن شور الذهلي، وأمه ناجية بنت هاني بن قبيصة بن الشيباني فأبطره حين نظر إليه - قال: يعني بقوله: أبطره أفزعه - فقال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله؛ قال له سويد مبادرًا: أمير المؤمنين، ويلك! فقال: أمير المؤمنين. حتى خرجوا من الكوفة متوجهين نحو المردمة، وأمر الحجاج المنادي فنادى: يا خيل الله اركبي وأبشري، وهو فوق باب القصر، وثم مصباح مع غلام له قائم، فكان أول من جاء إليه من الناس عثمان بن قطن بن عبد الله بن الحصين ذي الغصة، ومعه مواليه، وناس من أهله، فقال: أنا عثمان بن قطن، أعلموا الأمير مكاني، فيليأمر بأمره، فقال له ذلك الغلام: قف مكانك حتى يأتيك أمر الأمير، وجاء الناس من كل جانب، وبات عثمان فيمن اجتمع إليه من الناس حتى أصبح. ثم إن الحجاج بعث بسر بن غالب الأسدي من بني والية في ألفي رجل، وزائدة بن قدامة الثقفي في ألفي رجل، وأبا الضريس مولى بني تميم في ألف من الموالي، وأعين - صاحب حمام أعين مولى بشر بن مروان - في ألف رجل، وكان عبد الملك بن مروان قد بعث محمد بن موسى بن طلحة على سجستان، وكتب له عليها عهده، وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإذا قدم عليك محمد بن موسى فجهز معه ألفي رجل إلى سجستان، وعجل سراحه. وأمر عبد الملك محمد بن موسى بمكاتبة الحجاج، فلما قدم محمد ابن موسى جعل يتحبس في الجهاز، فقال له نصحاؤه: تعجل أيها الأمير إلى عملك؛ فإنك لا تدري ما يكون من أمر الحجاج! وما يبدو له. فأقام على حاله، وحدث من أمر شبيب ما حدث، فقال الحجاج لمحمد ابن موسى بن طلحة بن عبيد الله: تلقى شبيبًا وهذه الخارجة فتجاهدهم ثم تمضي إلى عملك، وبعث الحجاج مع هؤلاء الأمراء أيضًا عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر بن كريز القرشي وزيادة بن عمرو العشكي. وخرج شبيب حيث خرج من الكوفة. فأتى المردمة وبها رجل من حضرموت على العشور يقال له ناجية بن مرثد الحضرمي، فدخل الحمام ودخل عليه شبيب فاستخرجه فضرب عنقه، واستقبل شبيب النضر بن القعقاع بن شور - وكان مع الحجاج حين أقبل من البصرة، فلما طوى الحجاج المنازل خلفه وراءه - فلما رآه شبيب ومعه أصحابه عرفه، فقال له شبيب: يانضر بن القعقاع، لاحكم إلا لله - وإنما أراد شبيب بمقالته له تلقينه. فلم يفهم النضر - فقال: " إنا لله وإنا إليه راجعون " فقال أصحاب شبيب: يا أمير المؤمنين؛ كأنك إنما تريد بمقالتك أن تلقنه. فشدوا على نضر فقتلوه. قال: واجتمعت تلك الأمراء في أسفل الفرات. فترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة أولئك القواد. وأخذ نحو القادسية، ووجه الحجاج زحر بن قيس في جريدة خيل نقاوة ألف وثمانمائة فارس، وقال له: أتبع شبيبًا حتى تواقعه حيثما أدركته، إلا أن يكون منطلقًا ذاهبًا فاتركه ما لم يعطف عليك أو ينزل فيقيم لك، فلا تبرح إن هو أقام حتى تواقعه، فخرج زحر حتى انتهى إلى السيلحين، وبلغ شبيبًا مسيره إليه، فأقبل نحوه فالتقيا، فجعل زحر على ميمنته عبد الله بن كناز النهدي، وكان شجاعًا، وعلى ميسرته عدي بن عدي بن عميرة الكندي الشيباني، وجمع شبيب خيله كلها كبكبة واحدة ثم اعترض بها الصف، فوجف وجيفًا، واضطرب حتى انتهى إلى زحر بن قيس، فنزل زحر بن قيس، فقاتل زحر حتى صرع، وانهزم أصحابه، وظن القوم أنهم قد قتلوه، فلما كان في السحر وأصابه البرد قام يتمشى حتى دخل قرية فبات بها، وحمل منها إلى الكوفة وبوجهه ورأسه بضع عشرة جراحة ما بين ضربة وطعنة، فمكث أيامًا، ثم أتى الحجاج وعلى وجهه وجراحة القطن، فأجلسه الحجاج معه على السرير وقال لمن حوله: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين الناس وهو شهيد فينظر إلى هذا وقال أصحاب شبيب لشبيب وهم يظنون أنهم قد قتلوا زحرًا: قد هزمنا لهم جندًا. وقتلنا لهم أميرًا من أمرائهم عظيمًا. انصرف بنا الآن وافرين، فقال لهم: إن قتلنا هذا الرجل، وهزيمتنا هذا الجند، قد أرعبت هذه أرعبت هذه الأمراء والجنود التي بعثت في طلبكم فاقصدوا بنا قصدهم، فو الله لئن نحن قتلناهم ما دون الحجاج من شئ وأخذ الكوفة إن شاء الله فقالوا: نحن لرأيك سمع تبع، ونحن طوع يديك قال: فانقض بهم جوادًا حتى يأتي نجران - وهي نجران الكوفة ناحية عين التمر - ثم سأل عن جماعة القوم فخبر باجتماعهم بروذبار في أسفل الفرات في بهقباذ الأسفل، على رأس أربعة وعشرين فرسخًا من الكوفة. فبلغ الحجاج مسيره إليهم، فبعث إليهم عبد الرحمن بن الغرق مولى ابن أبي عقيل - وكان على الحجاج كريمًا - فقال له: الحق بجماعتهم - يعني جماعة الأمراء - فأعلمهم بمسير المارقة إليهم، وقل لهم: إن جمعكم قتال فأمير الناس زائدة بن قدامة، فأتاهم ابن الغرق فأعلمهم ذلك وانصرف عنهم. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب قال: انتهى إلينا شبيب وفينا سبعة أمراء على جماعتهم زائدة بن قدامة، وقد عبى كل أمير أصحابه على حدة، ففي ميمنتنا زياد بن عمرو العتكي، وفي ميسرتنا بشر بن غالب الأسدي، وكل أمير واقف في أصحابه. فأقبل شبيب حتى وقف على تل، فأشرف على الناس وهو على فرس له كميت أغر. فنظر إلى تعبيتهم، ثم رجع إلى أصحابه، فأقبل في ثلاث كتائب يوجفون، حتى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم، فتقف في ميمنتنا، ومضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب، فوقفت على ميسرتنا، وجاء شبيب في كتيبة حتى وقف مقابل القلب. قال: وخرج زائدة ابن قدامة يسير في الناس فيما بن ميمنتهم إلى ميسرتهم يحرض الناس ويقول: يا عباد الله أنتم الكثيرون الطيبون وقد نزل بكم القليلون الخبيثون فاصبروا - جعلت لكم الفداء - لكرتين أو ثلاث تكرون عليهم، ثم هو النصر ليس بينه حاجز ولا دونه شئ ألا ترون إليهم والله ما يكونون مائتي رجل، إنما هم أكلة رأس، إنما هم السراق المراق، إنما جاءوكم ليهريقوا دماءكم، ويأخذوا فيثكم، فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه، وهم قليل وأنتم كثير، وهم أهل فرقة وأنتم أهل جماعة، غضوا الأبصار، واستقبلوهم بالأسنة، ولا تحملوا عليهم حتى آمركم، ثم انصرف إلى موقفه. قال: ويحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو، فانكشف صفهم، وثبت زياد في نحو من نصف أصحابه، ثم ارتفع عنهم سويد قليلًا، ثم كر عليهم ثانيةً، ثم اطعنوا ساعة. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: أنا والله فيهم يومئذ، قال: اطعنا ساعة وصبروا لنا حتى ظننت أنهم لن يزولوا، وقاتل زياد بن عمرو قتالا شديدًا، وجعل ينادي: ياخيلي، ويشد بالسيف فيقاتل قتالا شديدًا، فلقد رأيت سويد بن سليم يومئذ وإنه لأشجع العرب وأشده قتالًا وما يعرض له. قال: ثم إنا ارتفعنا عنهم آخرًا فإذا هم يتقوضون، فقال له أصحابه: ألا تراهم يتقوضون! احمل عليهم، فقال لهم شبيب: خلوهم حتى يخفوا، فتركوهم قليلًا، ثم حمل عليهم الثالثة فانهزموا. فنظرت إلى زياد ابن عمرو وإنه ليضرب بالسيف وما من سيف يضرب به إلا نبا عنه وهو مجفف، ولقد رأيته اعتوره أكثر من عشرين سيفًا فما ضره من ذلك شئ ثم إنه انهزم وقد جرح جراحة يسيرة. وذلك عند المساء قال: ثم شددنا على عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فهزمناه، وما قاتلنا كثير قتال، وقد ضارب ساعة، وقد بلغني أنه كان جرح ثم لحق بزياد بن عمرو، فمضينا منهزمين حتى انتهينا إلى محمد بن موسى بن طلحة عند المغرب، فقاتلناه قتالًا شديدًا وصبر لنا. ذكر هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني عبد الرحمن بن جندب وفروة بن لقيط، أن أخا شبيب مصادًا حمل على بشر بن غالب وهو في الميسرة، فأبلى وكرم والله وصبر، فنزل ونزل معه رجال من أهل الصبر نحو من خمسين، فضاربوا بأسيافهم حتى قتلوا عن آخرهم. وكان فيهم عروة بن زهير بن ناجذ الأزدي، وأمه زارة امرأة ولدت في الأزد، فيقال لهم بنو زارة، فلما قتلوه وانهزم أصحابه مالوا فشدوا على أبي الضريس مولى بني تميم، وهو يلي بشر بن غالب، فهزموه حتى انتهى إلى موقف أعين، ثم شدوا عليه وعلى أعين جميعًا فهزموهما حتى انتهوا بهما إلى زائدة بن قدامة، فلما انتهوا إ ليه نزل ونادى: يا أهل الإسلام، الأرض الأرض، إلى إلى! لا يكونوا على كفرهم أصبر منكم على إمانكم؛ فقاتلهم عامة الليل حتى كان السحر. ثم إن شبيبًا شد عليه في جماعة من أصحابه فقتله وأصحابه وتركهم ربضةً حوله من أهل الحفاظ. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الرحمن بن جندب قال: سمعت زائدة ابن قدامة ليلتئذ رافعًا صوته يقول: يأيها الناس، اصبروا وصابروا، " يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " ثم والله ما برح يقاتلهم مقبلا غير مدبر حتى قتل. قال أبو مخنف: وحدثني فروة بن لقيط أن أبا الصقير الشيباني ذكر أنه قتل زائدة بن قدامة، وقد حاجه في ذلك آخر يقال له الفضل ابن عامر. قال: ولما قتل شبيب زائدة بن قدامة دخل أبو الضريس وأعين جوسقًا عظيمًا، وقال شبيب لأصحابه: ارفعوا السيف عن الناس وادعوهم إلى البيعة، فدعوهم إلى البيعة عند الفجر. قال عبد الرحمن بن جندب: فكنت فيمن قدم إليه فبايعه وهو واقف على فرس وخيله واقفة دونه، فكل من جاء ليبايعه نزع سيفه عن عاتقه، وأخذ سلاحه منه، ثم يدنى من شبيب فيسلم عليه بإمرة المؤمنين، ثم يخلى سبيله. قال: وإنا لكذلك إذ انفجر الفجر ومحمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله في أقصى العسكر، معه عصابة من أصحابه قد صبروا، فلما انفجر الفجر أمر مؤذنه فأذن، فلما سمع شبيب الأذان قال: ماهذا؟ فقال: هذا محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله لم يبرح؛ فقال: قد ظننت أن حمقه وخيلاءه سيحمله على هذا؛ نحوًا هؤلاء عنا وانزلوا بنا فلنصل. قال: فنزل فأذن هو، ثم استقدم فصلى بأصحابه، فقرأ: " ويل لكل همزة لمزة "، و " أرأيت الذي يكذب بالدين "، ثم سلم، ثم ركبوا فحمل عليهم فانكشفت طائفة من أصحابه، وثبتت طائفة قال فروة: فما أنسى قوله وقد غشيناه وهو يقاتل بسيفه وهو يقول: " آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " قال: وضارب حتى قتل. قال: فسمعت أصحابي يقولون: إن شبيبًا هو الذي قتله. ثم إنا نزلنا فأخذنا ما كان في العسكر من شئ، وهرب الذين كانوا بايعوا شبيبًا، فلم يبق منهم أحد. وقد ذكر من أمر محمد بن موسى بن طلحة غير أبي مخنف أمرًا غير الذي ذكرته عنه، والذي ذكر من ذلك أن عبد الملك بن مروان كان ولي محمد بن موسى بن طلحة سجستان، فكتب إليه الحجاج: إنك عامل كل بلد مررت به، وهذا شبيب في طريقك. فعدل إليه محمد، فأرسل إليه شبيب: إنك امرؤ مخدوع، قد اتقى بك الحجاج، وأنت جار لك حق، فانطلق لما أمرت به ولك الله لا آذيتك، فأبى إلا محاربته، فواقفه شبيب، وأعاد إليه الرسول، فأبى إلا قتاله، فدعا إلى البراز، فبرز إليه البطين ثم قعنب ثم سويد، فأبى إلا شبيبًا، فقالوا لشبيب: قد رغب عنا إليك، قال: فما ظنكم هذه الأشراف! فبرز إليه شبيب، وقال: إني أنشدك الله في دمك، فإن لك جوارًا. فأبى إلا قتاله، فحمل عليه شبيب فضربه بعصا حديد فيها أثنا عشر رطلا بالشأمى، فهشم بها بيضه عليه ورأسه فسقط، ثم كفنه ودفنه، وابتاع ما غنموا من عسكره، فبعث به إلى أهله، واعتذر إلى أصحابه وقال: هو جاري بالكوفة، ولي أن أهب ما غنمت لأهل الردة. قال عمر بن شبة: قال أبو عبيدة: كان محمد بن موسى مع عمر ابن عبيد الله بن معمر بفارس، وشهد معه قتال أبي فديك وكان ميمنته، وشهر بالنجدة وشدة البأس وزوجه عمر بن عبيد الله بن معمر ابنته أم عثمان وكانت أخته تحت عبد الملك بن مروان - فولاه سجستان، فمر بالكوفة وبها الحجاج بن يوسف، فقيل للحجاج: إن صار هذا إلى سجستان مع نجدته وصهره لعبد الملك فلجأ إليه أحد ممن تطلب، منعك منه؛ قال: فما الحيلة؟ قيل: تأتيه وتسلم عليه، وتذكر نجدته وبأسه وأن شبيبًا في طريقه، وأنه قد أعياك، وأنك ترجو أن يريح الله منه على يده، فيكون له ذكر ذلك وشهرته. ففعل، فعدل إليه محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، فواقعه شبيب، فقال له شبيب: إني قد علمت خداع الحجاج، وإنما اغترك ووقى بك نفسه، وكأني بأصحابك لو قد التقت حلقتا البطان قد أسلموك، فصرعت مصرع أصحابك؛ فأطعني وانطلق لشأنك، فإني أنفس بك عن الموت؛ فأبى محمد بن موسى، فبارزه شبيب فقتله. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف. قال عبد الرحمن: لقد كان فيمن بايعه تلك الليلة أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، فلما بايعه قال له شبيب: ألست أبا بردة! قال: بلى؛ قال شبيب لأصحابه: يا أخلائي، أبو هذا أحد الحكمين، فقالوا: ألا نقتل هذا؟ فقال: إن هذا لاذنب له فيما صنع أبوه؛ قالوا: أجل قال: وأصبح شبيب: فأتى مقبلا نحو القصر الذي فيه أبو الضريس وأعين فرموه بالنبل، وتحصنا منه، فأقام ذلك اليوم عليهم، ثم شخص عنهم، فقال له أصحابه: مادون الكوفة أحد يمنعنا؛ فنظر فإذا أصحابه قد جرحوا؛ فقال لهم: ما عليكم أكثر مما قد فعلتم، فخرج بهم على نفر، ثم على الصراة، ثم على بغداد، ثم خرج إلى خانيجار فأقام بها. قال: ولما بلغ الحجاج أن شبيبًا قد أخذ نحو نفر ظن أنه يريد المدائن - وهي باب الكوفة، ومن أخذ المدائن كان ما في يده من أرض الكوفة أكثر - فهال ذلك الحجاج، وبعث إلى عثمان بن قطن، ودعاه وسرحه إلى المدائن، وولاه منبرها والصلاة ومعونة جوخى كلها وخراج الأستان. فخرج مسرعًا حتى نزل المدائن، وعزل الحجاج عبد الله بن أبي عصيفير؛ وكان بها الجزل مقيمًا أشهرًا يداوي جراحته، وكان ابن أبي عصيفير يعوده بكرمه، فلما قدم عثمان بن قطن المدائن لم يعده، ولم يكن يتعاهده ولا يلطفه بشئ، فقال الجزل: اللهم زد ابن عصيفير جودًا وكرمًا وفضلا وزد عثمان بن قطن ضيقًا وبخلا، قال: ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقال: انتخب الناس، واخرج في طلب هذا العدو، فأمره بنخبة ستة آلاف، فنتخب فرسان الناس ووجوههم، وأخرج من قومه ستمائة من كندة وحضرموت، واستحثه الحجاج بالعسكر، فعسكر بدير عبد الرحمنن فلما أراد الحجاج إشخاصهم كتب إليهم: أما بعد، فقد اعتدتم عادة الأذلاء. ووليتم الدبر يوم الزحف، وذلك دأب الكافرين، وإني قد صفحت عنكم مرة بعد مرة، ومرة بعد مرة وإني أقسم لكم بالله قسمًا صادقًا لئن عدتم لذلك لأوقعن بكم إ يقاعًا أكون أشد عليكم من هذا العدو الذي تهربون منه في بطون الأودية والشعاب، وتسترون منه بأثناء الأنهار وألواذ الجبال، فخاف من له معقول على نفسه، ولم يجعل عليها سبيلًا، وقد أعذر من أنذر: وقد أسمعت لو ناديت حيا ** ولكن لا حياة لمن تنادي والسلام عليكم. قال: ثم سرح ابن الأصم مؤذنه، فأتى عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث عند طلوع الشمس، فقال له: ارتحل الساعة وناد في الناس: أن برئت الذمة من رجل من هذا البعث وجدناه متخلفًا. فخرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث في الناس حتى مر بالمدائن فنزل يومًا وليلة، وتشرى أصحابه حوائجهم، ثم نادى في الناس بالرحيل، فارتحلوا، ثم أقبلوا حتى دخل على عثمان بن قطن، ثم أتى الجزل فسأله عن جراحته، وسأله ساعة وحدثه. ثم إن الجزل قال له: يا بن عم: إنك تسير إلى فرسان العرب وأبناء الحرب، وأحلاس الخيل، والله لكأنما خلقوا من ضلوعها، ثم بنوا على ظهورها، ثم هم أسد الأجم، الفارس منهم أشد من مائة، إن لم تبدأ به بدأ، وإن هجهج أقدم، فإني قد قاتلتهم وبلوتهم، فإذا أصحرت لهم إنتصفوا مني، وكان لهم الفضل علي، وإذا خندقت علي وقاتلتهم في مديق نلت منهم بعض ما أحب، وكان لي عليهم الظفر، فلا تلقهم وأنت تستطيع إلا في تعبية أو في خندق. ثم إنه ودعه، فقال له الجزل: هذه فرسي الفسيفساء، خذها فإنها لا تجارى. فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبيب، فلما دنا منه ارتفع عنه شبيب إلى دقوقاء وشهرزور، فخرج عبد الله في طلبه، حتى إذا كان على التخوم أقام، وقال: إنما هو في أرض الموصل، فليقاتلوا عن بلادهم أو ليدعوه، فكتب إليه الحجاج بن يوسف: أما بعد، فاطلب شبيبًا واسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده. والسلام. فخرج عبد الرحمن حين قرأ كتاب الحجاج في طلب شبيب، فكان شبيب يدعه حتى إذا دنا منه بيته، فيجده قد خندق على نفسه وحذر، فيمضي ويدعه، فيتبعه عبد الرحمن، فإذا بلغه أنه قد تحمل وأنه يسير أقبل في الخيل، فإذا انتهى إليه وجده قد صف الخيل والرجال وأدنى المرامية، فلا يصيب له غرة ولا له علة، فيمضي ويدعه. قال: ولما رأى شبيب أنه لا يصيب لعبد الرحمن غرة ولا يصل إليه، جعل يخرج إذا دنا منه عبد الرحمن في خيله، فينزل على مسيرة عشرين فرسخًا، ثم يقيم في أرض غليظة حزنة، فيجيء عبد الرحمن، فإذا دنا من شبيب أرتحل شبيب فسار خمسة عشر أو عشرين فرسخًا، فنزل منزلًا غليظًا خشنًا، ثم يقيم حتى يدنو عبد الرحمن. قال أبو مخنث: فحدثني عبد الرحمن بن جندب أن شبيبًا كان قد عذب ذلك العسكر وشق عليهم، وأخفى دوابهم، ولقوا منه كل بلاء، فلم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى مر به على خانقين ثم على جلولاء ثم على تامرًا، ثم أقبل حتى نزل البت - قرية من قرى الموصل على تخوم الموصل، ليس بينها وبين سواد الكوفة إلا نهر يسمى حولايا - قال: وجاء عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث حتى نزل في نهر حولايا وفي راذان الأعلى من أرض جوخى، ونزل عواقيل من النهر، ونزلها عبد الرحمن حيث نزلها وهي تعجبه، يرى أنها مثل الخندق والحصن. قال: وأرسل شبيب إلى عبد الرحمن: إن هذه الأيام أيام عيد لنا ولكم، فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضي هذه الأيام فافعلوا، فقال له عبد الرحمن: نعم، ولم يكن شيء أحب إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة. قال: وكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن عبد الرحمن بن محمد قد حفر جوخى كلها خندقًا واحدًا، وخلى شبيبًا وكسر خراجها وهو يأكل أهلها. والسلام. فكتب إليه الحجاج: أما بعد، فقد فهمت ما ذكرت لي عن عبد الرحمن، وقد لعمري فعل ما ذكرت، فسر إلى الناس فأنت أميرهم، وعاجل المارقة حتى تلقاهم، فإن الله إن شاء الله ناصرك عليه. والسلام. قال: وبعث الحجاج إلى المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة، وخرج عثمان حتى قدم على عبد الرحمن بن محمد ومعه من أهل الكوفة وهم معسكرون على نهر حولايا قريبًا من البت. عشية الثلاثاء، وذلك يوم التروية، فنادى الناس وهو على بغلة: أيها الناس، أخرجوا إلى عدوكم. فوثب إليه الناس، فقالوا: ننشدك الله، هذا المساء قد غشينا، والناس لم يوطنوا أنفسهم على القتال، فبت الليلة ثم اخرج بالناس على تعبية. فجعل يقول: لأجازنهم، ولتكون الفرصة لي أولهم. فأتلهم عبد الرحمن فأخذ بعنان دابته، وناشده الله لما نزل، وقال له عقيل بن شداد السلولي: إن الذي تريد من مناجزتهم الساعة أنت فاعله غدًا، وهو غدًا خيرًا لك وللناس. إن هذه ساعة ريح وغبرة، وقد أمسيت فانزل، ثم أبكر بنا إليهم غدوة. فنزل، فسفت عليه الريح، وشق عليه الغبار، ودعا صاحب الخراج العلوج فبنوا له قبة فبات فيها، ثم أصبح يوم الأربعاء، فجاء أهل البت إلى شبيب - وكان قد نزل بيعتهم - فقالوا: أصلحك الله! أنت ترحم الضعفاء وأهل الجزية، ويكلمك من تلي عليه، ويشكون إليك ما نزل بهم فتنظر لهم، وتكف عنهم، وإن هؤلاء القوم جبابرة لا يكلمون ولا يقبلون العذر، والله لئن بلغهم أنك مقيم في بيعتنا ليقتلننا إن قضي لك أن ترتحل عنا، فإن رأيت جانب القرية ولا تجعل لهم علينا مقالًا، قال: فإني أفعل ذلك بكم، ثم خرج فنزل جانب القرية. قال: فبات عثمان ليلته كلها يحرضهم؛ فلما أصبح - وذلك يوم الأربعاء - خرج بالناس فاستقبلتهم ريح شديدة وغبرة، فصاح الناس إليه، فقالوا: ننشدك الله أن تخرج بنا هذا اليوم، فإن الريح علينا! فأقام بهم ذلك اليوم، وأراد شبيب قتالهم، وخرج أصحابه، فلما رآهم لم يخرجوا إليه أقام، فلما كان ليلة الخميس خرج عثمان فعبى الناس على أرباعهم، فجعل كل ربع في جانب العسكر، وقال لهم: أخرجوا على هذه التعبية، وسألهم: من كان على ميمنتكم؟ قالوا: خالد بن نهيك بن قيس الكندي، وكان على ميسرتنا عقيل بن شداد السلولي، فدعاهما فقال لهما: قفا مواقفكما التي كنتما بها، وليتكما المجنبتين، فاثبتا ولا تفرا، فوالله لا أزول حتى يزول نخل راذان على أصوله. فقالا: ونحن والله الذي لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل، فقال لهما: جزاكما الله خيرًا. ثم أقام حتى صلى بالناس الغداة، ثم خرج فجعل ربع أهل المدينة تميم وهمدان نحو نهر حولايا في المسيرة، وجعل ربع كندة وربيعة ومذحج وأسد في الميمنة، ونزل يمشي في الرجال. وخرج شبيب وهو يومئذ في مائة وأحد وثمانين رجلًا، فقطع إليهم النهر، فكان هو في ميمنة أصحابه، وجعل على ميسرته سويد بن سليم، وجعل في القلب مصاد بن يزيد أخاه، وزحفوا وسما بعضهم لبعض. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح العبسي أن عثمان كان يقول فيكثر: " لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لاتمتعون إلا قليلًا ". أين المحافظون على دينهم، المحامون عن فيئهم! فقال عقيل بن شداد بن حبشي السلولي: لعلي أن أكون أحدهم، قتل أولئك يوم روذبار. ثم قال شبيب لأصحابه: إني حامل على ميسرتهم مما ياي النهر، فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم، ولايبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري، وحمل في ميمنة أصحابه مما يلي النهر على ميسرة عثمان بن قطن فانهزموا، ونزل عقيل بن شداد فقاتل حتى قتل، وقتل يومئذ مالك بن عبد الله الهمداني ثم المرهبي، عم عياش بن عبد الله بن عياش المنتوف، وجعل يومئذ عقيل بن شداد يقول وهو يجالدهم: لأضربن بالحسام الباتر ** ضرب غلام من سلول صابر ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد بن سليم في ميسرة شبيب على ميمنة عثمان بن قطن فهزمها، وعليها خالد بن نهيك بن قيس الكندي، فنزل خالد فقاتل قتالًا شديدًا، وحمل عليه شبيب من ورائه وهو على ربع كندة وربيعة يومئذ، وهو صاحب الميمنة، فلم ينثني شبيب حتى علاه بالسيف فقتله، ومضى عثمان بن قطن وقد نزلت معه العرفاء وأشراف الناس والفرسان نحو القلب، وفيه أخو شبيب في نحو من ستين راجلًا، فلما دنا منهم عثمان بن قطن شد عليهم في الأشراف وأهل الصبر فضاربوهم حتى فرقوا بينهم، وحمل شبيب بالخيل من ورائهم، فما شعروا إلا والرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم، وعطف عليهم سويد بن سليم أيضًا في خيله، ورجع مصاد وأصحابه، وقد كان شبيب رجلهم، فاضطربوا ساعة، وقاتل عثمان بن قطن فأحسن القتال. ثم إنهم شدوا عليهم فأحاطوا به، وحمل عليه مصاد أخو شبيب فضربه ضربة بالسيف استدار لها، ثم قال: " وكان أمر الله مفعولًا ". ثم إن الناس قتلوه، وقتل يومئذ الأبرد بن ربيعة الكندي، وكان على تل، فألقى سلاحه إلى غلامه وأعطاه فرسه، وقاتل حتى قتل. ووقه عبد الرحمن فرآه ابن أبي سبرة الجعفي وهو على بغلة فعرفه، فنزل إليه فناوله الرمح وقال له: اركب، فقال عبد الرحمن ابن محمد: أينا الرديف؟ قال ابن أبي سبرة: سبحان الله! أنت الأمير تكون المقدم، فركب وقال لابن أبي سبرة: ناد في الناس: الحقوا بدير أبي مريم، فنادى، ثم انطلقا ذاهبين، ورأى واصل بن الحارث السكوني فرس عبد الرحمن الذي حمل عليه الجزل يجول في المعسكر، فأخذها بعض أصحاب شبيب، فظن أنه قد هلك، فطلبه في القتلى فلم يجده، وسأل عنه فقيل له: قد رأينا رجلًا قد نزل عن دابته فحمله عليها، فما أخلقه أن يكون إياه؛ وقد أخذ هاهنا آنفًا. فأتبعه واصل بن الحارث على برذونه ومع واصل غلامه على بغل، فلما دنوا منهما قال محمد بن أبي سبرة لعبد الرحمن: قد والله لحق بنا فارسان، فقال عبد الرحمن: فهل غير اثنين؟ فقال: لا، فقال عبد الرحمن: فلا يعجز اثنان عن اثنين. قال: وجعل يحدث ابن أبي سبرة وكأنه لا يكترث بهما، حتى لحقهما الرجلان، فقال له ابن أبي سبرة: رحمك الله! قد لحقنا الرجلان، فقال له: فانزل بنا، فنزلا فانتضيا سيفهما، ثم مضيا إليهما، فلما رآهما واصل عرفهما، فقال لهما: إنكما قد تركما النزول في موضعه، فلا تنزلا الآن، ثم حسر العمامة عن وجهه، فعرفاه فرحبا به، وقال لابن الأشعث: إني لما رأيت فرسك يجول في العسكر ظننتك رجلًا، فأتيتك ببردوني هذا لتركبه، فترك لابن أبي سبرة بغلته، وركب البرذون، وانطلق عبد الرحمن بن الأشعث حتى نزل دير اليعار، وأمر شبيب أصابه فرفعوا عن الناس السيف، ودعاهم إلى البيعة، فأتاه من بقي من الرجالة فبايعوه، وقال له أبو الصقير المحملي: قتلت من الكوفيين سبعة في جوف النهر كان آخرهم رجلًا تعلق بثوبي وصاح، ورهبني حتى رهبته، ثم إني أقدمت عليه فقتلته. وقتل من كندة مائة وعشرون يومئذ وألف من سائر الناس أو ستمائة، وقتل عظم العرفاء يومئذ. قال أبو مخنف: حدثني قدامة بن حازم بن سفيان الخثعمي أنه قتل منهم يومئذ جماعة، وبات عبد الرحمن بن محمد تلك الليلة بدير اليعار، فأتاه فارسان فصعدا إليه فوق البيت، وقام آخر قريبًا منهما فخلا أحدهما بعبد الرحمن طويلًا يناجيه، ثم نزل هو وأصابه، وقد كان الناس يتحدثون أن ذلك كان شبيبًا، وأنه قد كان كاتبه، ثم خرج عبد الرحمن آخر الليل فسار حتى أتى دير أبي مريم، فإذا هو بأصحاب الخيل قد وضع لهم محمد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة صبر الشعير وألقت بعضه على بعض كأنه القصور، ونحر لهم من الجزر ما شاءوا، فأكلوا يومئذ، وعلفوا دوابهم، واجتمع الناس إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقالوا له: إن سمع شبيب بمكانك أتاك وكنت له غنيمة، قد ذهب الناس وتفرقوا وقتل خيارهم فالحق أيها الرجل بالكوفة. فخرج إلى الكوفة ورجع الناس أيضًا، وجاء فاختبأ من الحجاج حتى أخذ منه الأمان بعد ذلك. نقش الدنانير والدراهم بأمر عبد الملك بن مروان وفي هذه السنة أمر عبد الملك بن مروان بنقش الدنانير والدراهم. ذكر الواقدي: أن سعد بن راشد حدثه عب صالح بن كيسان بذلك. قل: وحدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، أن عبد الملك ضرب الدراهم والدنانير عامئذ، وهو أول من أحدث ضربها. قال: وحدثني خالد بن أبي ربيعة، عن أبي هلال، عن أبيه، قال: كانت مثاقيل الجاهلية التي ضرب عليها عبد الملك اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبة، وكان العشرة وزن السبعة. قال: وحدثني عبد الرحمن بن جرير الليثي عن هلال بن أسامة قال: سألت سعيد بن المسيب في كم تجب الزكاة من الدنانير؟ قال: في كل عشرين مثقالًا بالشأمى نصف مثقال، قلت: ما بال الشأمي من المصري؟ قال: هو الذي تضرب عليه الدنانير. وكان ذلك وزن الدنانير قبل أن تضرب الدنانير، كانت اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبة، قال سعيد. قد عرفته، قد أرسلت بدنانير إلى دمشق فضربت على ذلك. وفي هذه السنة: وفد يحيى بن الحكم على عبد الملك بن مروان وولي أبان بن عثمان المدينة في رجب. وفيها استقضي أبان بن نوفل بن مساحق بن عمرو بن خداش من بني عامر بن لؤي. وفيها ولد مروان بن محمد بن مروان. وأقام الحج للناس في هذه السنة أبان بن عثمان وهو أمير على المدينة، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي. وكان على الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان أمية بن عبد الله بن خالد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة بن أوفى. ثم دخلت سنة سبع وسبعين محاربة شبيب عتاب بن ورقاء وزهرة بن حوية وقتلهما ففي هذه السنة قتل شبيب عتاب بن ورقاء الرياحي وزهرة بن حوية ذكر الخبر عن سبب مقتلهما وكان سبب ذلك فيما ذكر هشام عن أبي مخنف، عن عبد الرحمن ابن جندب وفروة بن لقيط، أن شبيبًا لما هزم الجيش الذي كان الحجاج وجهه مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إليه، وقتل عثمان ابن قطن، ذلك في صيف وحر شديد، اشتد الحر عليه وعلى أصحابه. فأتى ماه بهزاذان فتصيف بها ثلاثة أشهر، وأتاه ناس كثير ممن يطلب الدنيا فلحقوا به. وناس ممن كان الحجاج يطلبهم الحجاج بمال أو تباعات؛ كان منهم رجل من الحي يقال له الحر بن عبد الله بن عوف. وكان دهقانان من أهل نهر درقيط قد أساءا إليه وضيقا عليه، فشد عليهما فقتلهما، ثم لحق بشبيب فكان معه بماه، وشهد معه مواطنه حتى قتل. فلما آمن الحجاج كل من كان خرج إلى شبيب من أصحاب المال والتباعات - و1لك بعد يوم السبخة - خرج إليه الحر فيمن خرج، فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه الحجاج. فأتى به فدخل. وقد أوصى ويئس من نفسه، فقال له الحجاج. يا عدو الله. قتلت رجلين من أهل الخراج! فقال له: قد كان أصلحك الله ما هو أعظم من هذا. فقال: وما هو؟ قال: خروجي من الطاعة وفراق الجماعة. ثم آمنت كل من خرج إليك، فهذا أماني وكتابك لي. فقال له الحجاج: أولى لك! قد لعمري فعلت، وخلى سبيله. قال: ولما انفسخ الحر عن شبيب خرج من ماه في نحو من ثمانمائة رجل. فأقبل نحو المدائن وعليها مطرف بن المغيرة بن شعبة. فجاء حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان، فكتب ماذرواسب عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج: أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن شبيبًا قد أقبل حتى نزل قناطر حذيفة، ولا أدري أين يريد! فلما قرأ الحجاج كتابه قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، والله لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأسمع وأبصر على اللأواء والغيظ منكم، فيقاتلون عدوكم، ويأكلون فيئكم. فقام إليه الناس من كل جانب، وقالوا نحن نقاتلهم ونعتب الأمير، فليند بنا الأمير إليهم فإنا حيث سره. وقام إليه زهرة بن حوية وهو شيخ كبير لا يستم قائمًا حتى يؤخذ بيده. فقال له: أصلح الله الأمير! إنك إنما تبعث إليهم الناس متقطعين، فاستنفر الناس إليهم كافة فلينفروا إليهم كافة، وأبعث عليهم رجلًا ثبتًا شجاعًا مجربًا للحرب ممن يرى الفرار هضمًا وعارًا والصبر مجدًا وكرمًا. فقال الحجاج: فأنت ذاك فاخرج، فقال: أصلح الله الأمير! إنما يصلح للناس في هذا رجل يحمل الرمح والدرع، ويهز السيف، ويثبت على متن الفرس، وأنا لا أطيق من هذا شيئًا، وقد ضعف بصري وضعفت، ولكن أخرجني في الناس مع الأمير، فإني إما أثبت على الراحلة فأكون نع الأمير في عسكره وأشير عليه برأيي. فقال له الحجاج: جزاك الله عن الإسلام وأهله في أول الإسلام خيرًا، وجزاك الله عن الإسلام في آخر الإسلام خيرًا، فقد نصحت وصدقت، أنا مخرج الناس كافة. ألا فسيروا أيها الناس. فانصرف الناس وليس يدرون من هو أميرهم! وكتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أن شبيبًا قد شارف المدائن وإنما يريد الكوفة، وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة، في كلها يقتل أمراءهم. ويفل جنودهم؛ فإن رأي أمير المؤمنين أن يبعث إلى أهل الشام فيقاتلوا عدوهم ويأكلوا بلادهم فليفعل. والسلام. فلما أتى عبد الملك كتابه بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف، وبعث إليه حبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ألفين. فسرحهم حين أتاه الكتاب إلى الحجاج. وجعل أهل الكوفة يتجهزون إلى شبيب ولا يدرون من أميرهم! وهم يقولون: يبعث فلانًا أو فلانًا، وقد بعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء ليأتيه وهو على خيل الكوفة مع المهلب، وقد كان ذلك الجيش من أهل الكوفة هم الذين كان بشر بن مروان بعث عبد الرحمن بن مخنف عليهم إلى قطري. فلم يلبث عبد الرحمن بن مخنف إلا نحوًا من شهرين حتى قدم الحجاج على العراق. فلم يلبث عليهم عبد الرحمن بن مخنف بعد قدوم الحجاج إلا رجب وشعبان. وقتل قطري عبد الرحمن في آخر رمضان. فبعث الحجاج عتاب بن ورقاء على ذلك الجيش من أهل الكوفة الذين أصيب فيهم عبد الرحمن ابن مخنف، وأمر الحجاج عتابًا بطاعة المهلب، فكأن ذلك قد كبر على عتاب، ووقع بينه وبين المهلب شر، حتى كتب عتاب إلى الحجاج يستعفيه من ذلك الجيش ويضمه إليه، فلما أن جاء كتاب الحجاج بإتيانه سر بذلك، قال: ودعا الحجاج أشراف أهل الكوفة؛ فيهم زهرة بن حوية السعدي من بني الأعرج، وقبيصة بن والق التغلبي، فقال لهم: من ترون أن أبعث على هذا الجيش؟ فقلوا: رأيك أيها الأمير أفضل؛ قال: فإني قد بعثت إلى عتاب بن ورقاء؛ وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة فيكون هو الذي يسير في الناس؛ قال زهرة بن حوية: أصلح الله الأمير! رميتهم بحجرهم، لا والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل وقال له قبيصة بن والق: إني مشير عليك برأيي، فإن يكن خطأ فبعد اجتهادي في النصيحة لأمير المؤمنين وللأمير ولعامة المسلمين، وإن يك صوابًا فا لله سد دني له؛ إنا قد تحدثنا وتحدث الناس أن جيشًا قد فصل إليك من قبل الشام، وأن أهل الكوفة قد هزموا وفلوا واستخفوا بالصبر، وهان عليهم عار الفرار، فقلوبهم كأنها ليست فيهم، كأنما هي في قوم آخرين، فإن رأيت أن تبعث إلى جيشك الذي أمددت به من أهل الشام فيأخذوا حذرهم، ولا يبيتوا إلا وهم يرون أنهم مبيتون فعلت، فإنك تحارب حولا قلبًا، ظعانًا رحالا، وقد جهزت إليه أهل الكوفة ولست واثقًا بهم كل الثقة، وإنما إخوانهم هؤلاء القوم الذين بعثوا إليك من الشام، إن شبيبًا بينا هو في أرض إذ هو في أخرى، ولا آمن أن يأتيهم وهو غارون فإن يهلكوا نهلك ويهلك العراق، فقال: لله أنت! ما أحسن ما رأيت! وما أحسن ما أشرت به علي! قال: فبعث عبد الرحمن بن الغرق مولى عقيل إلى من أقبل من أهل الشام. فأتاهم وقد نزلوا هيت بكتاب من الحجاج: أما بعد، فإذا حاذيتم هيت فدعوا طريق الفرات والأنبار، وخذوا على عين التمر حتى تقدموا الكوفة إن شاء الله، وخذوا حذركم، وعجلوا السير. والسلام. فأقبل القوم سراعًا. قال: وقدم عتاب بن ورقاء في الليلة التي قال الحجاج إنه قادم عليكم فيها. فأمره الحجاج فخرج بالناسفعسكر بهم بحمام أعين، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذا فقطع منها دجلة، ثم أقبل حتى نزل مدينة بهر سير الدنيا. فصار بينه وبين مطرف بن المغيرة ابن شعبة جسر دجلة. فلما نزل شبيب مدينة بهرسير قطع مطرف الجسر، وبعث إلى شبيب: أن ابعث إلى رجالا من وجوه أصحابك أدارسهم القرآن، وأنظر فيما تدعو إليه، فبعث إليه شبيب رجالا من وجوه أصحابه؛ فيهم قعنب وسويد والمحلل، فلما أرادوا أن ينزلوا في السفينة بعث إليهم شبيب ألا تدخلوا السفينة حتى يرجع إلى رسول من عند مطرف، فرجع الرسول، وبعث إلى مطرف أن ابعث إلى من أصحابك بعدد أصحابي يكونوا رهنًا في يدي حتى ترد علي أصحابي. فقال مطرف لرسوله: القه وقل له: كيف آمنك أنا على أصحابي إذا أنا بعثتهم الآن إليك، وأنت لا تأمنني على أصحابك! فرجع الرسول إلى شبيب فأبلغه، فأرسل إليه شبيب: إنك قد علمت أنا لا نستحل الغدر في ديننا، وأنتم تفعلونه وتستحلونه، فبعث إليه مطرف الربيع بن يزيد الأسدي وسليمان بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني ويزيد بن أبي زياد مولاه وصاحب حرمه، فلما صاروا في يدي شبيب سرح إليه أصحابه، فأتوا مطرف فمكثوا أربعة أيام يتراسلون، ثم لم يتفقوا على شئ، فلما تبين لشبيب أن مطرفًا غير تابعه ولا داخل معه تهيأ للمسير إلى عتاب بن ورقاء وإلى أهل الشام. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط أن شعيبًا دعا رءوس أصحابه فقال لهم: إنه لم يثبطني على رأي قد كنت رأيته إلا هذا الثقفي منذ أربعة أيام، قد كنت حدثت نفسي أن أخرج في جريدة خيل حتى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام رجاء أن أصادف غرتهم أو يحذروا فلا أبالي كنت ألقاهم منقطعين من المصر، ليس عليهم أمير كالحجاج يستندون إليه ولا مصر كالكوفة يعتصمون به؛ وقد جاءتني عيوني اليوم فخبروني أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر، فهم الآن قد شارفوا الكوفة، وجاءتني عيوني من نحو عتاب بن ورقاء فحدثوني أنه قد نزل بجماعة أهل الكوفة الصراة، فما أقرب بيننا وبينهم! فتيسروا بنا للمسير إلى عتاب بن ورقاء. قال: وخاف مطرف أن يبلغ خبره وما كان من إرساله إلى شبيب الحجاج، فخرج نحو الجبال، وقد كان أراد أن يقيم حتى ينظر ما يكون بين شبيب وعتاب. فأرسل إليه شبيب: أما إذ لم تبايعني فقد نبذت إليك على سواء، فقال مطرف لأصحابه: اخرجوا بنا وافرين فإن الحجاج سيقاتلنا، فيقاتلنا وبنا قوة أمثل. فخرج ونزل المدائن؛ فعقد شبيب الجسر، وبعث إلى المدائن أخاه مصادًا، وأقبل إليه عتاب حتى نزل بسوق حكمة، وقد أخرج الحجاج جماعة أهل الكوفة مقاتلتهم، ومن نشيط إلى الخروج من شبابهم، وكانت مقاتلتهم أربعين ألفًا سوى الشباب، ووافى مع عتاب يومئذ أربعون ألفًا من المقاتلة وعشرة آلاف من الشباب بسوق حكمة فكانوا خمسين ألفًا، ولم يدع الحجاج قرشيًا ولا رجلا من بيوتات العرب إلا أخرجه. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب، قال: سمعت الحجاج وهو على منبر حين وجه عتابًا إلى شبيب في الناس وهو يقول: يا أهل الكوفة، اخرجوا مع عتاب بن ورقاء بأجمعكم، لا أرخص لأحد من الناس في الإقامة إلا رجلا قد وليناه من أعمالنا، ألا إن للصابر المجاهد الكرامة والأثرة، ألا وإن للناكل الهارب الهوان والجفوة. والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذا الموطن كفعلكم في المواطن التي كانت لأولينكم كنفًا خشنًا، ولأعركنكم بكلكل ثقيل. ثم نزل، وتوافى الناس مع عتاب بسوق حكمة. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: عرضنا شبيب بالمدائن فكنا ألف رجل، فقام فينا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر المسلمين، إن الله قد كان ينصركم عليهم وأنتم مائة ومائتان وأكثر من ذلك قليلا، وأنقص منه قليلا، فأنتم اليوم مئون ومئون، ألا إني مصل الظهر ثم سائر بكم، فصلى الظهر ثم نودي في الناس: يا خيل الله اركبي وأبشري، فخرج في أصحابه، فأخذوا يتخلفون ويتأخرون، فلما جاوزنا ساباط ونزلنا معه قص علينا وذكرنا بأيام الله، وزهدنا في الدنيا، ورغبنا في الآخرة ساعة طويلة، ثم أمر مؤذن فأذن، ثم تقدم فصلى بنا العصر، ثم أقبل حتى أشرف بناعلى عتاب بن روقاء وأصحابه، فلما أن رآهم من ساعته نزل وأمر مؤذنه فأذن، ثم تقدم فصلى بنا المغرب، وكان مؤذنه سلام بن سيار الشيباني. وكانت عيون عتاب بن ورقاء قد جاءوه فأخبروه أنه قد أقبل إليه، فخرج بالناس كلهم فعبأهم، وكان قد خندق أول يوم نزل، وكان يظهر كل أنه يريد أن يسير إلى شبيب بالمدائن، فبلغ ذلك شبيبًا، فقال: أسير إليه أحب إلى من أن يسير إلى، فأتاه، فلما صف عتاب الناس بعث على ميمنته محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وقال: يا بن أخي، إنك شريف فاصبر وصابر، فقال: أما أنا فوالله لأقاتلن ما ثبت معي إنسان. وقال لقبيصة بن والق - وكان يومئذ على ثلث بني تغلب: اكفني الميسرة فقال: أنا شيخ كبير، كثير من أن أثبت تحت رايتي، قد أنيت مني القيام، ما أستطيع القيام إلا أن أقام؛ ولكن هذا عبيد الله بن الحليس ونعيم بن عليم التغلبيان - وكان كل واحد منهما على ثلثي من أثلاث تغلب - فقال: ابعث أيهما أحببت، فأيهما بعثت فلبتعثن ذا حزم وعزم وغناء. فبعث نعيم بن عليم على ميسرته، وبعث حنظلة بن الحارث اليربوعي - وهو ابن عم عتاب شيخ أهل بيته - على الرجالة، وصفهم ثلاثة صفوف: صف فيهم الرجال معهم السيوف، وصف وهم أصحاب الرماح، وصف فيه المرامية، ثم سار فيما بين الميمنة إلى الميسرة يمر بأهل راية راية؛ فيحثهم على تقوى الله، ويأمرهم بالصبر ويقص عليهم. قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله أن تميم بن الحارث الأزدي قال: وقف علينا فقص علينا قصصًا كثيرًا، كان مما حفظت منه ثلاث كلمات؛ قال: يا أهل الإسلام، إن أعظم الناس نصيبًا في الجنة الشهداء. وليس الله لأحد من خلقه بأحمد منه للصابرين، ألا ترون أنه يقول: " واصبروا إن الله مع الصابرن "! فمن حمد الله فعله فما أعظم درجته، وليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي؛ ألا ترون أن عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه، لا يرون إلا أن ذلك لهم قربة عند الله! فهم شرار أهل الأرض وكلاب أهل النار، أين القصاص؟ قال ذلك فلم يجيبه والله أحد منا؛ فلما رآى ذلك، قال: أين من يروي شعر عنترة؟ قال: فلا والله مرد عليه إنسان كلمةً، فقال: إنا لله! كأني بكم قد فررتم عن عتاب بن ورقاء وتركتموه تسفي في استه الريح ثم أقبل حتى جلس في القلب معه زهرة بن حوية جالس وعبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث وأبو بكر من محمد بن أبي جهم العدوي، وأقبل شبيب وهو في ستمائة وقد تخلف عنه من الناس أربعمائة، فقال: لقد تخلف عنا من لا أحب أن يرى فينا. فبعث سويد بن سليم في مائتين إلى الميسرة، وبعث المحلل بن وائل إلى القلب، ومضى هو في مائتين إلى الميمنة بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر، فناداهم: لمن هذا الريات؟ قالوا: رايات ربيعة، فقال: شبيب: رايات طالما نصرت الحق، وطالما نصرت الباطل، لها في كل نصيب، والله لأجاهدنكم محتسبًا للخير في جهادكم، أنتم ربيعة وأنا شبيب، أنا أبو المدله، لا حكم إلا للحكم، اثبتوا إن شئتم. ثم حمل عليهم وهو على مسناة أمام الخندق ففضهم، فثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق بن الحليس ونعيم بن عليم، فقتلوا، وانهزمت الميسرة كلها وتنادى أناس من بني تغلب: قتل قبيصة بن والق. فقال شبيب: قتلتم قبيصة بن والق التغلبي يا معشر المسلمين! قال الله: " واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان منا الغاوين "، هذا مثل ابن عمكم قبيصة بن والق، أتى رسول الله ﷺ فأسلم، ثم جاء يقاتلكم مع الكافرين! ثم وقف عليه فقال: ويحك! لو ثبت على إسلامك الأول سعدت، ثم حمل من الميسرة على عتاب بن ورقاء، وحمل سويد بن سليم على الميمنة وعليها محمد بن عبد الرحمن، فقاتل في الميمنة رجال من بني تميم وهمدان، فأحسنوا القتال، فما زالوا كذلك حتى أتوا فقيل لهم: قتل عتاب بن ورقان، فانفضوا، ولم يزل عتاب جالسًا على طنفسة في القلب وزهرة بن حورية معه، إذ غشيهم شبيب، فقال له عتاب: يا زهرة بن حوية، هذا يوم كثر فيه العدد، وقل فيه الغناء، والهفى على خمسمائة فارس من نحو رجال تميم معي من جميع الناس! ألا صابر لعدوه! ألا مؤاس بنفسه! فانفضوا عنه وتركوه، فقال له زهرة: أحسنت يا عتاب، فعلت فعل مثلك، والله والله لو منحتهم كتفك ما كان بقاؤك إلا قليلًا، أبشر فإني أرجو أن يكون الله قد أهدى إلينا الشهادة عند فناء أعمارنا؛ فقال له: جزاك الله خيرًا من جزى آمرًا بمعروف وحاثًا على تقوى. فلما دنا منه شبيب وثب في عصابة صبرت معه قليلة، وقد ذهب الناس يمينًا وشمالًا، فقال له عمار بن يزيد الكلبي من بني المدينة: أصلحك الله! إن عبد الرحمن بن محمد قد هرب عنك فانصفق معه أناس كثير، فقال له: قد فر قبل اليوم، وما رأيت ذلك الفتى يبالي ما صنع، ثم قاتلهم ساعة وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط موطنًا لم أبتل بمثله قط أقل مقاتلًا ولا أكثر هاربًا خاذلًا؛ فرآه رجل من بني تغلب من أصحاب شبيب من بني زيد بن عمرو يقال له عامر بن عمرو بن عبد عمرو، وكان قد أصاب دمًا في قومه، فلحق بشبيب، وكان من الفرسان، فقال لشبيب: والله إني لأظن هذا المتكلم عتاب بن ورقاء! فحمل عليه فطعنه، فوقع فكان هو ولي قتله. ووطئت الخيل زهرة بن حوية، فأخذ يذب بسيفه وهو شيخ كبير لايستطيع أن يقوم، فجاء الفضل بن عامر الشيباني فقتله، فانتهى إليه شبيب فوجده صريعًا فعرفه، فقال: من قتل هذا؟ فقال الفضل: أنا قتلته، فقال شبيب: هذا زهرة حوية، أما والله لئن كنت قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك، وعظم فيه غناؤك! ولرب خيل للمشركين قد هزمتها، وسرية لهم قد ذعرتها وقرية من قراهم جم أهلها قد افتتحتها، ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرًا للظالمين! قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط قال: رأيناه والله توجع له، فقال رجل من شبان بكر بن وائل: والله إن أمير المؤمنين منذ الليلة ليتوجع لرجل من الكافرين! قال: إنك لست بأعرف بضلالهم مني، ولكني أعرف من قديم أمرهم مالا تعرف؛ ما لو ثبتوا عليه كانوا إخوانًا. وقتل في المعركة عمار بن يزيد الكلبي، وقتل أبو خثيمة بن عبد الله يومئذ، واستمكن شبيب من أهل العسكر والناس، فقال: ارفعوا عنهم السيف، ودعا إلى البيعة، فبايعه الناس من ساعتهم، وهربوا من تحت ليلتهم، وأخذ شبيب يبايعهم، ويقول إلى ساعة يهربون. وحوى شبيب على ما في العسكر، وبعث إليه أخيه، فأتاه من المدائن، فلما وافاه بالعسكر أقبل إلى الكوفة وقد أقام بعسكره ببيت قرة يومين، ثم توجه نحو وجه أهل الكوفة، وقد دخل سفيان بن الأبرد الكلبي وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج فيمن معهما من أهل الشام الكوفة، فشدوا للحجاج ظهره، فاستغنى بهما عن أهل الكوفة، فقام على منبر الكوفة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد يا أهل الكوفة، فلا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا، ولا تشهدوا معنا قتال عدونا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى، ولا تقاتلوا معنا إلا من كان لنا عاملًا، ومن لم يكن شهد قتل عتاب بن ورقاء. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: والله لخرجنا نتبع آثار الناس، فانتهى إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، وهما يمشيان كأني أنظر إلى رأس عبد الرحمن قد امتلاُ طينًا، فصددت عنهما، وكرهت أن أذعرهما، ولو أني أوذن بهما أصحاب شبيب لقتلا مكانهما، وقلت في نفسي: لئن سقت إلى مثلكما من قومي القتل ما أنا برشيد الرأي؛ وأقبل شبيب حتى نزل الصراة. قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن سوار أن شبيبًا خرج يريد الكوفة، فانتهى إلى سوار، فندب الناس، فقال: أيكم يأتي برأس عامل سوار؟ فانتدب له بطين وقعنب وسويد ورجلان من أصحابه، فساروا مغذين حتى انتهوا إلى دار الخراج والعمال في سمرجة فدخلوا الدار وقد كادوا الناس بأن قالوا: أجيبوا الأمير، فقالوا: أي الأمراء؟ قالوا: أمير خرج من قبل الحجاج يريد هذا الفاسق شبيبًا، فاغتر بذلك العامل منهم. ثم إنهم شهروا السيوف وحكموا حين وصلوا إليه فضربوا عنقه، وقبضوا على ما كان من مال، ولحقوا بشبيب، فلما انتهوا إليه قال: ما الذي أتيتمونا به؟ قالوا: جئناك برأس الفاسق وما وجدنا من مال، والمال على دابة في بدوره، فقال شبيب: أتيتمونا بفتنة للمسلمين، هلم الحربة يا غلام، فخرق بها البدور، وأمر فنخس بالدابة والمال يتناثر من بدوره حتى وردت الصراة، فقال: إن كان بقي شيء فاقذفه في الماء. ثم خرج إليه سفيان بن الأبرد مع الحجاج، وكان اتاه قبل خروجه معه، فقال: إبعثني أستقبله قبل أن يأتيك، فقال: ما أحب أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم والكوفة في ظهورنا والحصن في أيدينا. ذكر الخبر عن دخول شبيب الكوفة مرة ثانية وفي هذه السنة دخل شبيب الكوفة دخلته الثانية. ذكر الخبر عن ذلك وما كان من حربه بها الحجاج قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن موسى بن سوار، قال: قدم سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف من الدسكرة الكوفة بعدما قدم جيش الشام الكوفة، وكان مطرف بن المغيرة كتب إلى الحجاج: إن شبيبًا قد أطل علي، فابعث إلى المدائن بعثًا. فبعث إليه سيرة بن عبد الرحمن ابن مخنف في مائتي فارس، فلما خرج مطرف يريد الجبل خرج بأصحابه معه وقد أعلمهم ما يريد، وكتم ذلك سبرة، فلما انتهى إلى دسكرة الملك دعا سبرة فأعلمه ما يريدن ودعا إلى أمره، فقال له: نعم أنا معك، فلما خرج من عنده بعث إلى أصحابه فجمعهم، وأقبل بهم فصادف عتاب ابن ورقاء قد قتل وشبيبًا قد مضى إلى الكوفة، فأقبل حتى انتهى إلى قرية يقال لها بيطرى، وقد نزل شبيب حمام عمر، فخرج سبرة حتى يعبر الفرات في معبر قرية شاهي، ثم أخذ الظهر حتى قدم على الحجاج، فوجد أهل الكوفة مسخوطًا عليهم، فدخل على سفيان بن الأبرد، فقص قصته عليه وأخبره بطاعته وفراقه مطرفًا، وانه لم يشهد عتابًا ولم يشهد هزيمة في مواطن أهل الكوفة، ولم أزل للأمير عاملًا، ومعي مائتا رجل لم يشهدوا معي هزيمة قط، وهم على طاعتهم ولم يدخلوا في فتنة. فدخل سفيان إلى الحجاج فخبره بخبر ما قص عليه سبرة بن عبد الرحمن، فقال: صدق وبر! قل له: فليشهد معنا لقاء عدونا، فخرج إليه فأعلمه ذلك. وأقبل شبيب حتى نزل موضع حمام أعين، ودعا الحجاج الحارث بن معاوية بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي فوجهه في ناس من الشرط لم يكونوا شهدوا يوم عتاب، ورجال كانوا عمالًا في نحو من مائتي رجل من أهل الشام، فخرج في نحو من ألف، فنزل زرارة، وبلغ ذلك شبيبًا، فتعجل إليه في أصحابه، فلما أنتهى إليه حمل عليه فقتله، وهزم أصحابه، وجاءت المنهزمة فدخلوا الكوفة. وجاء شبيب حتى قطع الجسر، وعسكر دونه إلى الكوفة، وأقام شبيب في عسكره ثلاثة أيام؛ فلم يكن في أول يوم إلا قتل الحارث بن معاوية، فلما كان في اليوم الثاني أخرج الحجاج مواليه وغلمانه عليهم السلاح، فأخذوا بأفواه السكك مما يلي الكوفة، وخرج أهل الكوفة فأخذوا بأفواه سككهم، وخشوا إن لم يخرجوا موجدة الحجاج وعبد الملك بن مروان. وجاء شبيب حتى ابتنى مسجدًا في أقصى السبخة مما يلي موقف أصحاب القت عند الإيوان، وهو قائم حتى الساعة، فلما كان اليوم الثالث أخرج الحجاج ابا الورد مولىً له عليه تجفاف، وأخرج مجففة كثيرة وغلماناُ له، وقالوا له: هذا الحجاج، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحمتكم منه. ثم إن الحجاج أخرج له غلامه طهمان في مثل تلك العدة على مثل تلك الهيئة، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال إن كان هذا الحجاج فقد أرحمتكم منه. ثم إن الحجاج خرج ارتفاع النهار من القصر فقال: ائتوني ببغل أركبه ما بينى وبين السبخة، فأتى ببغل محجل، فقيل له: إن الأعاجم أصلحك الله تطير أن تركب في مثل هذا اليوم مثل هذا البغل، فقال: أدنوه منى، فإن اليوم يوم أغر محجل؛ فركبه ثم خرج في أهل الشام حتى أخذ في سكة البريد، ثم خرج في أعلى السبخة، فلما نظر الحجاج إلى شبيب وأصحابه نزل، وكان شبيب في ستمائة فارس، فلما رأى الحجاج قد خرج إليه أقبل بأصحابه، وجاء سبرة بن عبد الرحمن إلى الحجاج فقال: أين يأمرني الأمير أن أقف؟ فقال: قف على أفواه السكك، فإن جاءوكم فكان فيكم قتال فقاتلوا، فانطلق حتى وقف في جماعة الناس، ودعا الحجاج بكرسي له فقعد عليه، ثم نادى: يا أهل الشام، أنتم أهل السمع والطاعة والصبر واليقين، لا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غضوا الأبصار، واجثوا على الركب، واستقبلوا القوم بأطراف الأسنة، فجثوا على الركب، وأشرعوا الرماح، وكأنهم حرة سوداء. وأقبل إليهم شبيب حتى إذا دنى منهم عبى أصحابه ثلاثة كراديس، كتيبة معه، وكتيبة مع سويد بن سليم، وكتيية مع المحلل بن وائل، فقال لسويد. احمل عليهم في خيلكن فحمل عليهم، فثبتوا له، حتى إذا غشي أطراف الأسنة وثبوا في وجهه ووجوه أصحابه، فطعنوهم قدمًا حتى انصرف، وصاح الحجاج: يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا. قدم كرسي يا غلام، وأمر شبيب المحلل. فحمل عليهم، ففعلوا به مثل ما فعلوا بسويد، فناداهم الحجاج: يا أهل السمع والطاعة؛ هكذا فافعلوا، قدم كرسي يا غلام. ثم إن شبيبًا حمل عليهم في كتيبته فثبتوا له، حتى إذا غشى أطراف الرماح وثبوا في وجهه، فقاتلهم طويلًا. ثم إن أهل الشام طعنوه قدمًا حتى ألحقوه بأصحابه، فلما رأى صبرهم نادى: يا سويد، احمل في خيلك على أهل هذه السكة - يعني سكة لحام جرير - لعلك تزيل أهلها عنها، فتأتي الحجاج من ورائه، ونحمل نحن عليه من أمامه. فانفرد سويد بن سليم فحمل على أهل تلك السكة؛ فرمى من فوق البيوت رأفواه السكك، فانصرف، وقد كان الحجاج جعل عروة بن المغيرة بن شعبة في نحو من ثلثمائة رجل من أهل الشام ردءًا له ولأصحابه لئلا يؤتوا من ورائه. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط: إن شبيبًا قال لنا يومئذ: يا أهل الإسلام إنما شرينا الله. ومن شرى الله لم يكبر عليه ما أصابه من أذى والألم في جنب الله. الصبر الصبر، شدة كشداتكم في مواطنكم الكريمة. ثم جمع أصحابه، فلما ظن الحجاج أنه حامل عليهم قال لأصحابه: يا أهل السمع والطاعة، اصبروا لهذه الشدة الواحدة. ثم ورب السماء ما شيء دون الفتح. فجثوا على الركب. وحمل عليهم شبيب بجميع أصحابه. فلما غشيهم نادى الحجاج بجماعة الناس. فوثبوا في وجه، فما زالوا يطعنون ويضربون قدمًا ويدفعون شبيبًا وأصابه وهو يقاتلهم حتى بلغوا موضع بستان زائدة. فلما بلغ ذلك المكان نادى شبيب أصحابه: يا أولياء الله، الأرض الأرض. ثم نزل وأمر أصحابه فنزل نصفهم وترك نصفهم مع سويد بن سليم، وجاء الحجاج حتى انتهى إلى مسجد شبث، ثم قال: يا أهل الشام، يا أهل السمع والطاعة، هذا أول الفتح والذي نفس الحجاج بيده! وصعد المسجد معه نحو من عشرين رجلًا معهم النبل، فقال: إن دنوا منا فارشقوهم، فاقتتلوا عامة النهار من أشد قتال في الأرض، حتى أقر كل واحد من الفريقين لصاحبه. ثم إن خالد بن عتاب قال للحجاج: إئذن لي في قتالهم فإني موتور، وأنا ممن لا يتهم في نصيحة، قال: فإني قد أذنت لك، قال: فإني آتيهم من ورائهم حتى أغير على عسكرهم، فقال له: افعل ما بدا لك، قال: فخرج معه بعصابة من أهل الكوفة حتى دخل عسكرهم من ورائهم، فقتل مصادًا أخا شبيب، وقتل غزالة امرأته، قتلها فروة بن الدفان الكلبي، وحرق في عسكره، وأتى ذلك الخبر الحجاج وشبيبًا، فأما الحجاج وأصحابه فكبروا تكبيرة واحدة، وأما شبيب فوثب هو وكل راجل معه على خيولهم، وقال الحجاج لأهل الشام: شدوا عليهم فإنه قد أتاهم ما أرعب قلوبهم. فشدوا عليهم فهزموهم، وتخلف شبيب في حامية الناس. قال هشام: فحدثني أصغر الخارجي، قال: حدثني من كان مع شبيب قال: لما انهزم الناس فخرج من الجسر تبعه خيل الحجاج، قال: فجعل يخفق برأسه، فقلت: يا أمير المؤمنين، التفت فانظر من خلفك؛ قال: فالتفت غير مكترث، ثم أكب يخفق برأسه؛ قال: ودنوا منا؛ فقلنا يا أمير المؤمنين، قد دنوا منك، قال: فالتفت والله غير مكترث، ثم جعل يخفق برأسه. قال: فبعث الحجاج إلى خيله أن دعوه في حرق الله وناره، فتركوه ورجعوا. قال هشام: قال أبو مخنف: حدثني أبو عمرو العذرى، قال: قطع شبيب الجسر حين عبر. قال: وقال لي فروة: كنت معه حين انهزمنا فما حرك الجسر، ولا اتبعونا حتى قطعنا الجسر. ودخل الحجاج الكوفة، ثم صعد المنبر فحمد الله، ثم قال: والله ما قوتل شبيب قبلها، ولى والله هاربًا، وترك امرأته يكسر في أستها القصب. وقد قيل في قتال الحجاج شبيبًا بالكوفة ما ذكره عمر بن شبة قال: حدثني عبد الله بن المغيرة بن عطية، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا مزاحم بن زفر بن جساس التيمي، قال: لما فض شبيب كتائب الحجاج أذن لنا فدخلنا عليه في مجلسه الذي يبيت فيه وهو على سرير عليه لحاف، فقال: إني دعوتكم لأمر فيه أمان ونظر، فأشير علي؛ إن هذا الرجل قد تبحبح بحبوحتكم، ودخل حريمكم، وقتل مقاتلتكم، فأشيروا على؛ فأطرقوا. وفصل رجل من الصف بكرسيه فقال: إن أذن لي الأمير تكلمت، فقال: تكلم، فقال: إن الأمير والله ما راقب الله، ولا حفظ أمير المؤمنين. ولا نصح للرعية. ثم جلس بكرسيه في الصف. قال: وإذا هو قتيبة، قال: فغضب الحجاج وألقى اللحاف، ودلى قدميه من السرير كأني أنظر إليهما؛ فقال: من المتكلم؟ قال: فخرج قتيبة بكرسيه من الصف فأعاد الكلام، قال: فما الرأي؟ قال: أن تخرج إليه فتحاكمه؛ قال: فارتد لي معسكرًا ثم اغد إلى، قال: فخرجنا نلعن عنسبة بن سعيد، وكان كلم الحجاج في قتيبة، فجعله من أصحابه، فلما أصيحنا وقد أوصينا جميعًا. غدونا في السلاح، فصلى الحجاج الصبح ثم دخل، فجعل رسوله يخرج ساعة بعد ساعة فيقول: أجاء بعد؟ أجاء بعد؟ ولا ندري من يريد! وقد أفعمت المقصورة بالناس، فخرج الرسول فقال: أجاء بعد؟ وإذا قتيبة يمشي في المسجد عليه قباء هروى أصفر، وعمامة خز أحمر، متقلدًا سيفًا عريضًا قصير الحمائل كأنه في إبطه، قد أدخل بركة قبائه في منطقته، والدرع يصفق ساقيه وفتح له الباب فدخل ولم يحجب، فلبث طويلًا ثم خرج، وأخرج معه لواءً منشورًا. فصلى الحجاج ركعتين، ثم قام فتكلم، وأخرج اللواء من باب الفيل. وخرج الحجاج يتبعه، فإذا بالباب بغلة شقراء غراء محجلة فركبها، وعارضه الوصفاء بالدواب، فأبى غيرها. وركب الناس. وركب قتيبة فرسًا أغر محجلا كوميتًا كأنه في سرجه رمانة من عظم السرج، فأخذ في طريق دار السقاية حتى خرج إلى السبخة وبها عسكر شبيب، وذلك يوم الأربعاء، فتواقفوا، ثم غدوا يوم الخميس للقتال، ثم غادوهم يوم الجمعة. فلما كان وقت الصلاة انهزمت الخوارج. قال أبو زيد: حدثني خلاد بن يزيد، قال: حدثنا الحجاج بن قتيبة، قال: جاء شبيب وقد بعث إليه الحجاج أميرًا فقتله، ثم آخر فقتله. أحدهما أعين صاحب حمام أعين، قال: فجاء حتى دخل الكوفة ومعه غزالة، وقد كانت نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران. قال: ففعلت. قال: واتخذ شبيب في عسكره أخصاصًا، فقام الحجاج فقال: لا أراكم تناصحون في قتال هؤلاء القوم يا أهل العراق! وأنا كاتب إلى أمير المؤمنين ليمدني بأهل الشام. قال: فقام قتيبة فقال: إنك لم تنصح لله ولا لأمير المؤمنين في قتالهم. قال عمر بن شبة: قال خلاد: فحدثني محمد بن حفص بن موسى ابن عبيد الله بن معمر بن عثمان التميمي أن الحجاج خنق قتيبة بعمامته خنقًا شديدًا. ثم رجع الحديث إلى حديث الحجاج وقتيبة. قال: فقال: وكيف ذاك؟ قال: تبعث الرجل الشريف وتبعث معه رعاعًا من الناس فينهزمون عنه. ويستحي فيقاتل حتى يقتل؛ قال: فما الرأي؟ قال: أن تخرج بنفسك ويخرج معك نظراؤك فيؤاسونك بأنفسم. قال: فلعنه من ثم. وقال: والله لأبرزن له غدًا؛ فلما كان الغد حضر الناس، فقال قتيبة: اذكر يمينك أصلح الله الأمير! فلعنوه أيضًا. وقال الحجاج: اخرج فارتد لي معسكرًا، فذهب فتهيأ وهو وأصحابه فخزجوا، ف أتى على موضع فيه بعض القذر: موضع كناسة، فقال: ألقوا لي هاهنا. فقيل: إن الموضع قذر، فقال: ما تدعونني إليه أقذر، الأرض تحته طيبة، والسماء فوقه طيبة. قال: فنزل وصف الناس وخالد بن عتاب بن ورقاء مسخوط عليه فليس في القوم، وجاء شبيب وأصحابه فقربوا دوابهم، وخزجوا يمشون، فقال لهم شبيب: الهوا عن رميكم، ودبوا تحت تراسكم، حتى إذا كانت أسنتهم فوقها، فأصدقوها صعدًا، ثم ادخلوا تحتها لتستقلوا فتقطعوا أقدامهم، وهي الهزيمة بإذن الله. فأقبلوا يدبون إليهم. وجاء خالد بن عتاب في شاكريته، فدار من وراء عسكرهم، فأضرم أخصاصهم بالنار. فلما رأوا ضوء النار وسمعوا معمعتها التفتوا فرأوها في بيوتهم، فولوا إلى خيلهم وتبعهم الناس، وكانت الهزيمة. ورضي الحجاج عن خالد، وعقد له على قتالهم. قال: ولما قتل شبيب عتابًا أراد دخول الكوفة ثانية، فأقبل حتى شارفها فوجه إليه الحجاج سيف بن هانىء ورجلًا معه ليأتياه بخبر شبيب، فأتيا عسكره، ففطن بهما، فقتل الرجل، وأفلت سيف، وتبعه رجل من الخوارج، فأوثب سيف فرسه ساقية، ثم سأل الرجل الأمان على أن يصدقه، فآمنه، فأخبره ان الحجاج بعثه وصاحبه ليأتياه بخبر شبيب. قال: فأخبره أنا نأتيه يوم الاثنين. فأتى سيف الحجاج فأخبره؛ فقال: كذب وماق، فلما كان يوم الاثنين توجهوا يريدون الكوفة، فوجه إليهم الحجاج الحارث بن معاوية الثقفي، فلقيه شبيب بزرارة فقتله، وهزم أصحابه ودنا من الكوفة فبعث البطين في عشرة فوارس يرتاد له منزلًا على شاطىء الفرات في دار الرزق. فأقبل البطين وقد وجه الحجاج حوشب بن يزيد في جمع من أهل الكوفة، فأخذوا بأفواه السكك، فقاتلهم البطين فلم يقوى عليهم، فبعث إلى شبيب فأمده بفوارس، فعقروا فرس حوشب وهزموه ونجا، ومضى البطين إلى دار الرزق، وعسكر على شاطىء الفرات. وأقبل شبيب فنزل دون الجسر، فلم يوجه إليه الحجاج أحدًا، فمضى فنزل السبخة بين الكوفة والفرات، فأقام ثلاثًا لا يوجه إليه الحجاج أحدًا، فأشير على الحجاج ان يخرج بنفسه، فوجه قتيبة بن مسلم، فهيأ له عسكرًا ثم رجع، فقال: وجدت المآتي سهلًا، فسر على الطائر الميمون؛ فنادى في أهل الكوفة فخرجوا، وخرج معه الوجوه حتى نزلوا في ذلك العسكر وتواقفوا، وعلى ميمنة شبيب البطين. وعلى ميسرته قعنب مولى بني أبي ربيعة بن ذهل، وهو في زهاء مائتين. وجعل الحجاج على ميمنته مطر بن ناجية الرياح. وعلى ميسرته خالد بن عتاب بن ورقاء الرياح في زهاء أربعة آلاف. وقيل له: لاتعرفه موضعك، فتنكر وأخفي مكانه، وشبه له أبا الورد مولاه، فنظر إليه شبيب، فحمل عليه، فضربه بعمود وزنه خمسة عشر رطلًا فقتله، وشبه له أعين صاحب حمام أعين بالكوفة، وهو مولىً لبكر بن وائل فقتله، فركب الحجاج بغلة غراء محجلة، وقال: إن الدين أغر محجل، وقال لأبي كعب: قدم لواءك، أنا ابن أبي عقيل. وحمل شبيب على خالد بن عتاب وأصحابه، فبلغ بهم الرحبة، وحملوا على مطر بن ناجية فكشفوه، فنزل عند ذلك الحجاج وأمر أصحابه فنزلوا، فجلس على عباءة ومع عنبسة بن سعيد، فإنهم على ذلك إذ تناول مصقلة بن مهلول الضبي لجام شبيب؛ فقال: ما تقول في صالح بن مسرح؟ وبم تشهد عليه؟ قال: أعلى هذا الحال، وفي هذه الحزة؟! والحجاج ينظر، قال: فبرىء من صالح، فقال مصقلة: برىء الله منك. وفلرقوه إلا أربعين فارسًا هم أشد أصحابه، وانحاز الآخرون إلى دار الرزق؛ وقال الحجاج: قد اختلفوا، وأرسل إلى خالد بن عتاب فأتاهم فقاتلهم، فقتلت غزالة، ومر برأسها إلى الحجاج فارس فعرفه شبيب، فأمر علوان فشد على الفارس فقتله وجاء بالرأس، فأمر به فغسل ودفنه وقال: هي أقرب إليكم رحمًا - يعني غزالة. ومضى القوم على حاميتهم، ورجع خالد إلى الحجاج فأخبره بانصراف القوم. فأمره أن يحمل على شبيب فحمل عليهم. وأتبعه ثمانية، منهم قعنب والبطين وعلوان وعيسى والمهذب وابن عويمر وسنان، حتى بلغوا به الرحبة، وأتى شبيب في موقفه بخطوط بني عمير السدوسي. فقال له شبيب: يا خوط، لاحكم إلا لله، فقال: لاحكم إلا لله، فقال شبيب: خوط من أصحابكم. ولكنه كان يخاف، فأطلقه. وأتى بعمير بن القعقاع، فقال له: لاحكم إلا لله يا عمير، فجعل لايفقه عنه، ويقول: في سبيل الله شبابي. فردد عليه شبيب: لاحكم إلا لله. ليتخلصه، فلم يفقه، فأمر بقتله، وقتل مصاد أخو شبيب، وجعل شبيب ينتظر النفر الذين تيعوا خالدًا فأبطئوا. ونعس شبيب فأيقظه حبيب بن خدرة، وجعل أصحاب الحجاج لايقدمون عليه هيبة له، وسار إلى دار الرزق، فجمع رثة من قتل من أصحابه، وأقبل الثمانية إلى موضع شبيب فلم يجدوه، فظنوا أنهم قتلوه، ورجع مطر وخالد إلى الحجاج فأمرهما فأتبعا الرهط الثمانية. واتبع الرهط شبيبًا، فمضوا جميعًا حتى قطعوا جسر المدائن، فدخلوا ديرًا هناك وخالد يقفوهم. فحصرهم في الدير، فخرجوا عليه فهزموه نحوًا من فرسخين حتى ألقوا أنفسهم في دجلة بخيلهم، وألقى خالد نفسه بفرسه فمر به ولواؤه في يده، فقال شبيب: قاتله الله فارسًا وفرسه! هذا أشد الناس، وفرسه أقوى فرس في الأرض؛ فقيل له: هذا خالد بن عتاب، فقال: معرق له في الشجاعة؛ والله لو علمت لأقحمت خلفه ولو دخل النار. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف، عن أبي عمرو العذري، أن الحجاج دخل الكوفة حين انهزم شبيب، ثم صعد المنبر، فقال: والله ما قوتل شبيب قط قبلها مثلها، ولى الله هاربًا، وترك امرأته يكسر في أستها القصب. ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن الحكمي فبعثه في أثره ثلاثة آلاف من أهل الشام، فقال له الحجاج: احذر بياته، وحيثما لقيته فنازله، فإن الله قد فل حده، وقصم نابه. فخرج حبيب بن عبد الرحمن في أثر شبيب حتى نزل الأنبار، وبعث الحجاج إلى العمال أن دسوا إلى أصحاب شبيب أن من جاءنا منهم فهو آمن؛ فكان كل من ليست تلك البصيرة ممن قد هده القتال يجيء فيؤمن، وقبل ذلك ما قد نادى فيهم الحجاج يوم هزموا: عن من جاءنا منكم فهو آمن، فتفرق عنه ناس كثير من أصحابه، وبلغ شبيبًا منزل حبيب بن عبد الرحمن الأنبار، فأقبل بأصحابه حتى إذا دنا من عسكرهم نزل فصلى بهم المغرب. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أنا والله في أهل الشام ليلة جاءنا شبيب بيتنا. قال: فلما أمسينا جميعًا حبيب بن عبد الرحمن فجعلنا أرباعًا. وقال لكل ربع منا: ليجزي كل ربع منكم جانبه، فإن قاتل هذا الربع فلا يغثهم هذا الربع الآخر، فإنه قد بلغني أن هذه الخوارج منا قريب، فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون ومقاتلون؛ فما زلنا على تعبيتنا حتى جاءنا شبيب فبيتنا، فشد على ربع منا، عليهم عثمان بن سعيد العذري فضاربهم طويلًا، فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل على الربع الآخر، وقد جعل عليهم سعيدبن بحل العامري فقاتلهم، فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل على الربع الآخر وعليهم النعمان بن سعيد الحميري فما قدر منهم على شيء، ثم أقبل على الربع الآخر وعليهم ابن أقيصر الخثعمي فقاتلهم طويلًا، فلم يظفر بشيء، ثم أطاف بنا يحمل علينا حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل، وألز بنا حتى قلنا، لايفارقنا، ثم نازلنا راجلًا طويلًا، فسقط والله بيننا وبينهم الأيدي، وفقئت الأعين، وكثرت القتلى، قتلنا منهم نحوًا من ثلاثين، وقتلوا منا نحوًا من مائة، والله لو كانوا فيما نرى يزيدون على مائة رجل لأهلكونا، وايم الله على ذلك ما فارقونا حتى مللناهم وملونا، وكرهونا وكرهناهم، ولقد رأيت الرجل منا يضرب بسيفه الرجل منهم فما يضره شئ من الإعياء والضعف، ولقد رأيت الرجل منا يقاتل جالسًا ينفح بسيفه ما يستطيع أن يقوم من الإعياء، فلما يأسوا منا ركب شبيب ثم قال لمن كان نزل من أصحابه: أركبوا، فلما استووا على متون خيولهم وجه منصرفًا عنا. قال أبو مخنف: حدثني فروة بن لقيط، عن شبيب، قال: لما انصرفنا عنهم وبنا كآبة شديدة، وجراحة ظاهرة، قال لنا: ما أشد هذا الذي لو كنا إنما نطلب الدنيا! وما أيسر هذا في ثواب الله! فقال أصحابه: صدقت يا أمير المؤمنين، قال: فما أنسى منه إقباله على سويد بن سليم ولا مقاتلته له: قتلت منهم أمس رجلين: أحدهما أشجع الناس، ولآخر أجبن الناس، خرجت عشية أمس طليعة لكم فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته، ثم خرج قبل أصحابه وخرجت معه، فقال: كأنك لم تشتر علفًا، فقلت: إن لي رفقاء قد كفوني ذلك، فقلت له: أين ترى عدونا هذا نزل؟ قال: بلغني أنه قد نزل منا قريبًا، وايم الله لوددت اني قد لقيت شبيبهم هذا، قلت: فتحب ذلك؟ قال: نعم، قلت: فخذ حذرك، فأنا والله شبيب، وانتضيت سيفي، فخر والله ميتًا، فقلت له: ارتفع ويحك! وذهبت أنظر فإذا هو مات، فانصرفت راجعًا، فأستقبل الآخر خارجًا من القرية، قال: أين تذهب هذه الساعة؟ وإنما يرجع الناس إلى عسكرهم! فلم أكلمه، ومضيت يقرب بي فرسي، وأتبعني حتى لحقني، فقطعت عليه فقلت له: ما لك؟ فقال: أنت والله من عدونا؟ فقلت: أجل والله، فقال: والله لا تبرح حتى تقتلني أو أقتلك، فحملت عليه وحمل علي، فاضربنا بسيفنا ساعة، فوالله ما فضلته في شدة نفس ولا إقدام إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه، فقتلته؛ قال: فمضينا حتى قطعنا دجلة، ثم أخذنا في أرض جوخى حتى قطعنا دجلة مرة أخرى من عند واسط، ثم أخذنا إلى الأهواز ثم إلى فارس، ثم ارتفعنا إلى كرمان. ذكر الخبر عن مهلك شبيب وفي هذه السنة في قول هشام بن محمد، وفي قول غيره كان هلاكه سنة ثمان وسبعين. ذكر سبب هلاكه قال هشام: عن أبي مخنف: قال: حدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أقفلنا الحجاج إليه - يعني إلى شبيب - فقسم فينا مالًا عظيمًا، وأعطى كل جريح منا وكل ذي بلاء، ثم أمر سفيان بن الأبرد أن يسير إلى شبيب، فتجهز سفيان، فشق ذلك على حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، وقال: تبعث سفيان إلى رجل قد فللته وقتلت فرسان أصحابه! فأمضى سفيان بعد شهرين، وأقام شبيب بكرمان، حتى إذا انجبر واستراش هو وأصحابه أقبل راجعًا، فيستقبله سفيان بجسر دجيل الأهواز، وقد كان الحجاج كتب إلى الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، وهو زوج ابنة الحجاج وعامله على البصرة. أما بعد، فابعث رجلًا شجاعًا شريفًا من أهل البصرة في أربعة آلاف إلى شبيب، ومره فليلحق بسفيان بن الأبرد، وليسمع له وليطع. فبعث إليه زياد بن عمرو العتكي في أربعة آلاف، فلم ينته إلى سفيان حتى التقى سفيان وشبيب، ولما أن التقيا بجسر دجيل عبر شبيب إلى سفيان فوجد سفيان قد نزل في الرجال، وبعث مهاصر بن صيفي العذري على الخيل، وبعث على ميمنته بشر بن حسان الفهري، وبعث على ميسرته عمر بن هبيرة الفزاري، فأقبل شبيب في ثلاثة كراديس من أصحابه، وهو كتيبة وسويد في كتيبة، وقعنب المحلمي في كتيبة، وخلف المحلل بن وائل في عسكره. قال: قلما حمل سويد وهو في ميمنته على ميسرة سفيان، وقعنب وهو في ميسرته على ميمنته حمل هو على سفيان، فاضطربنا طويلًا من النهار، حتى انحازوا فرجعوا إلى المكان الذي كانوا فيه. فكر علينا هو وأصحابه أكثر من ثلاثين كرة، كل ذلك لا نزول من صفنا. وقال لنا سفيان بن الأبرد: لاتنصرفوا. ولكن لتزحف الرجال إليهم زحفًان فوالله لازلنا نطاعنهم ونضاربهم حتى اضطررناهم إلى الجسر، فلما اتنهى شبيب إلى الجسر نزل ونزل معه نحو من مائة رجل، فقاتلناهم حتى المساء أشد قتال قاتله قوم قط، فما هو إلا أن نزلوا فأوقعوا لنا من اطعن والضرب شيئًا ما رأينا مثله من قوم قط. فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم، ولا يأمن من ذلك ظفرهم. دعا الرماة فقال: ارشقوهم بالنبل، وذلك عند المساء، وكان التقاؤهم نصف النهار، فرماهم أصحاب النبل بالنبل عند المساء، وقد صفهم سفيان بم الأبرد على حدة، وبعث على المرامية رجلًا، فلما رشقوهم بالنبل ساعة شدوا عليهم، فلما شدوا على رماتنا شددنا عليهم، فشغلناهم عنهم، فلما رموا بالنبل ساعة ركب شبيب وأصحابه ثم كروا على أصحاب النبل كرة صرع منهم أكثر من ثلاثين رجلًا، ثم عطف بخيله علينا، فمشى عامدًا نحونا؛ فطاعناه حتى اختلط الظلام، ثم انصرف عنا. فقال سفيان لأصحابه: أيها الناس، دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم غدوة. قال: فكففنا عنهم وليس شيء أحب إلينا من أن ينصرفوا عنا. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: فما هو إلا أن انتهينا إلى الجسر، فقال: اعبروا معاشر المسلمين، فإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله، فعبرنا أمامه، وتخلف في أخرانا، فأقبل على فرسه، وكانت بين يديه فرس انثى ماذيانة، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر فاضطربت الماذيانة، ونزل حافر رجل فرس شبيب على حرف السفينة، فسقط في الماء، فلما سقط قال: " ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا ". فارتمس في الماء، ثم ارتفع فقال: " ذلك تقدير العزيز العليم ". قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي بهذا الحديث - وكان ممن يقاتله من أهل الشام. وحدثني فروة بن لقيط، وكان ممن شهخد مواطنه - فأما رجل من بني رهطة من بني مرة بن همام فإنه حدثني انه كان معه قوم يقاتلون من عشيرته، ولم يكن لهم تلك البصيرة النافذة، وكان قد قتل من عشائرهم رجالًا كثيرًا، فكأن ذلك قد أوجع قلوبهم، وأوغر صدورهم؛ وكان رجل يقال له مقاتل من بني تيم بن شيبان من أصحاب شبيب، فلما قتل شبيب رجالًا من بني تيم بن شيبان أغار هو على بني مرة بن همام فأصاب منهم رجلًا، فقال له شبيب: ما حملك على قتلهم بغير أمري! فقال له: أصلحك الله! قتلت كفار قومي، وقتلت كفار قومك، قال: وأنت الوالي علي حتى تقطع الأمور دوني! فقال: أصلحك الله! أليس من ديننا قتل من كان على غير رأينا، منا كان أو من غيرنا! قال بلى، قال: فإنما فعلت ما كان ينبغي، ولا والله يا أمير المؤمنين ما أصبت م رهطك عشر ما أصبت من رهطي، وما يحل لك يا أمير المؤمنين أن تجد من قتل الكافرين؛ قال: إني لا أجد من ذلك. وكان معه رجال كثير قد أصاب من عشائرهم، فزعموا انه لما تخلف في أخريات أصحابه قال بعضهم لبعض: هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثأرنا الساعة! فقطعوا الجسر، فمالت السفن، ففزع الفرس ونفر، ووقع في الماء فغرق. قال أبو مخنف: فحدثني ذلك المري بهذا الحديث، وناس من رهط شبيب يذكرون هذا أيضًا؛ وأما حديث العامة فالحديث الأول. قال أبو مخنف: وحدثني أبو يزيد السكسكي، قال: إنا والله لنتهيأ للانصراف إذ جاء صاحب الجسر فقال: أين اميركم؟ قلنا: هو هذا، فجاءه فقال: أصلحك الله! عن رجلًا منهم وقع في الماء فتنادوا بينهم: غرق أمير المؤمنين! ثم إنهم انصرفوا راجعين، وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد، فكبر سفيان وكبرنا، ثم أقبل حتى انتهى إلى الجسر، وبعث مهاصر بن صيفي فعبر إلى عسكرهم، فإذا ليس فيه منهم صافر ولا آثر. فنزل فيه، فإذا أكثر عسكر خلق الله خيرًا، وأصبحنا فطلبنا شبيبًا حتى استخرجناه وعليه الدرع، فسمعت الناس يزعمون أنه ثق شق بطنه فأخرج قلبه، فكان مجتمعًا صلبًا كأنه صخرة، وإنه كان يضرب به الأرض فيثب قامة إنسان؛ فقال سفيان: إحمدوا الله الذي أعانكم فأصبح عسكرهم في أيدينا. قال أبو زيد عمر بن شبة: حدثني خلاد بن يزيد الأرقط، قال: كان شبيب ينعى لأمه فيقال: قتل فلا تقبل قال: فقيل لها: إنه غرق، فقبلت، وقالت: إني أعلم أني لما ولدته أنه خرج مني شهاب من نار، فعلمت إنه لا يطفئه إلا الماء. قال هشام عن أبي مخنف: حدثني فروة بن لقيط الأزدي ثم الغامري أن يزيد بن نعيم أبا شبيب كان ممن دخل في جيش سليمان بن ربيعة إذ بعث به وبمن معه الوليد بن عقبة عن أمر عثمان إياه بذلك مددًا لأهل الشام أرض الروم، فلما قفل المسلمون أقيم السبي للبيع، فرأى يزيد ابن نعيم أبو شبيب جارية حمراء، لا شهلاء ولا زرقاء طويلة جميلة تأخذها العين، فابتاعها ثم أقبل بها، وذلك سنة خمس وعشرين اول السنة، فلما أدخلها الكوفة قال: أسلمي، فأبت عليه، فضربها فلم تزدد إلا عصيانًا، فلما رأى ذلك امر بها فأصلحت، ثم دعا بها فأدخلت عليه، فلما تغشاها تلقت منه بحمل فولدت شبيبًا، وذلك سنة خمس وعشرين في ذي الحجة في يوم النحر يوم السبت. وأحبت مولاها حبًا شديدًا - وكانت حدثة - وقالت: إن شئت أجبتك إلى ما سألتني من الإسلام، فقال لها: شئت، فأسلمت، وولدت شبيبًا وهي مسلمة، وقالت: إني رأيت فيما يرى النائم انه خرج من قبلي شهاب فثقب يسطع حتى بلغ السماء وبلغ الآفاق كلها، فبينا هو كذلك إذ وقع في ماء كثير جار فخبا، وقد ولدته في يومكم هذا الذي تهرقون فيه الدماء، وإني قد أولت رؤياي هذه إني أرى ولدي هذا غلامًا، أراه سيكون صاحب دماء يهريقها، وإني أرى أمره سيعلو ويعظم سريعًا. قال: فكان أبوه يختلف به وبأمه إلى البادية إلى أرض قومه على ماء يدعى اللصف. قتال أبو مخنف: وحدثني موسى بن أبي سويد بن رادي أن أن جند أهل الشام الذين جاؤوا حملوا معهم الحجر فقالوا: لانفر من شبيب حتى يفر هذا الحجر؛ فبلغ شبيبًا امرهم، فأراد أن يكيدهم، فدعا بأفراس أربعة. أذنابها ترسة في ذنب كل فرس ترسين، ثم ندب معه ثمانية نفر من أصحابه، وعه غلام له يقال له حيان، وأمره أن يحمل معه إدواة من ماء، ثم سار حتى يأتي ناحية من المعسكر، فأمر أصحابه أن يكونوا في نواحي العسكر، وأن يجعلوا مع كل رجلين فرسًا، ثم يمسوها الحديد حتى تجد حره ويخلوها في العسكر، وواعدهم تلعة قريبة من العسكر، فقال: من نجا منكم فإن موعده هذه التلعة؛ وكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم به، فنزل حيث رأى منهم حتى صنع بالخيل مثل الذي أمرهم، ثم وغلت في العسكر، ودخل يتلوها محكمًا فضرب الناس بعضهم بعضًا، فقام صحبهم الذي كان عليهم، وهو حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، فنادى: أيها الناس، إن هذه مكيدة، فالزموا الأرض حتى يتبين لكم الأمر، ففعلوا وبقي شبيب في عسكرهم، فلزم الأرض حيث رآهم قد سكنوا، وقد أصابته ضربة عمود وأوهنته، فلما أن هدأ الناس ورجعوا إلى أبنيتهم خرج في غمارهم حتى أتى التلعة، فإذا هو بحيان، فقال: أفرغ يا حيان على رأسي من الماء، فلما مد رأسه ليصب عليه الماء هم حيان أن يضرب عنقه، فقال لنفسه لا أجد لي مكرمة ولا ذكرًا أرفع من قتلي هذا، وهو أماني عند الحجاج، فاستقبلته الرعدة حيث هم بما هم به، فلما أبطأ بحل الإدواة قال: ما يبطئك بحلها! فتناول السكين من موجزه فخرقها به، ثم ناولها إياه، فأفرغ عليه الماء. فقال حيان: منعني والله الجبن وما أخذني من الرعدة أن أضرب عنقه بعد ما هممت به. ثم لحق شبيب بأصحابه في عسكره. خروج مطرف بن المغيرة على الحجاج وعبد الملك قال أبو جعفر: وفي هذه السنة خرج مطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج، وخلع عبد الملك بن مروان ولحق بالجبال فقتل. ذكر السبب الذي كان عند خروجه وخلعه عبد الملك بن مروان: قال هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني يوسف بن يزيد بن بكر الأزدي أن بني المغيرة بن شعبة كانوا صلحاء نبلاء، أشرافًا بأبدانهم سوى شرف أبيهم ومنزلتهم في قومهم. قال: فلما قدم الحجاج فلقوه وشافههم علم أنهم رجال قومه وبنو أبيه، فاستعمل عروة بن المغيرة على الكوفة، ومطرف بن المغيرة على المدائن، وحمزة بن المغيرة على همذان. قال أبو مخنف: فحدثني الحصين بن يزيد بن عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، قال: قدم علينا مطرف بن المغيرة بن شعبة المدائن فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن الأمير الحجاج أصلحه الله قد ولاني عليكم، وأمرني بالحكم بالحق، والعدل في السيرة، فإن عملت بما أمرني فأنا أسعد الناس، وإن لم أفعل فنفسي أوبقت، وحظ نفسي ضيعت، ألا إني جالس لكم العصرين، فارفعوا إلى حوائجكم، وأشيروا علي بما يصلحكم ويصلح بلادكم، فإني لن آلوكم خيرًا ماستطعت. ثم نزل. وكان بالمدائن إذ ذاك رجال من أشراف أهل المصر وبيتوتات الناس، وبها مقاتلة لا تسعها عدة، عن كان كون بأرض جوخى أو بأرض الأنبار فأقبل مطرف حين نزل حتى جلس للناس في الإيوان، وجاء حكيم بن الحارث الأزدي يمشي نحوه، وكان من وجوه الأزد وأشرافهم، وكان الحجاج قد استعمله بعد ذلك على بيت المال - فقال له: أصلحك الله! إني كنت منك نائيًا حين تكلمت، وإني أقبلت نحوك لأجيبك، فوافق ذلك نزولك، إنا قد فهمنا ماذكرت لنا، أنه عهد إليك، فأرشد الله العاهد والمعهود إليه، وقد منيت من نفسك العدل، وسألت المعونة على الحق، فأعانك الله على ما نويت، إنك تشبه أباك في سرته برضا الله والناس، فقال له مطرف: هاهنا إلي؛ فأوسع له وجلس في جنبه. قال أبو مخنف: فحدثني الحصين بن يزيد انه كان من خير عامل قدم عليهم قط، أقمعه لمريب، وأشده إنكارًا للظلم، فقدم عليه بشر بن الأجدع الهمداني، ثم الثوري، وكان شاعرًا فقال: إني كلفت بخود غير فاحشة ** غراء وهنانة حسانة الجيد كأنها الشمس يوم الدجن إذ برزت ** تمشي مع الآنس الهيف الأماليد سل الهوى بعلنداة مذكرة ** عنها إلى المجتدي ذي العرف والجود إلى الفتى الماجد الفياض نعرفه ** في الناس ساعة يحلى كل مردود من الأكارم أنسابًا إذا نسبوا ** والحامل الثقل يوم المغرم الصيد إني أعيذك بالرحمن من نفر ** حمر السبال كأسد الغابة السود فرسان شيبان لم نسمع بمثلهم ** أبناء كل كريم النجل صنديد شدوا على ابن حصين في كتيبته ** فغادره صريعًا ليلة العيد وابن المجالد أردته رماحهم ** كأنما زل عن خوصاء صيخود وكل جمع بروذابار كان لهم ** قد فيض بالطعن بين النخل والبيد فقال له: ويحك! ما جئت إلا لترغبنا. وقد كان شبيب أقبل من ساتيدما، فكتب مطرف إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أكرمه الله أن شبيبًا قد أقبل نحونا، فإن رأى الأمير أن يمدني برجال أضبط بهم المدائن فقل، فإن المدائن باب الكوفة وحصنها. فبعث إليه الحجاج بن يوسف سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف في مائتين وعبد الله بن كناز في مائتين، وجاء شبيب فأقبل حتى نزل قناطر حذيفة، ثم جاء حتى انتهى إلى كلواذا، فعبر منها دجلة، ثم أقبل حتى نزل مدينة بهرسير ومطرف بن المغيرة في المدينة العتيقة التي فيها منزل كسرى والقصر الأبيض، فلما نزل شبيب بهرسير قطع مطرف الجسر فيما بينه وبين شبيب، وبعث إلى شبيب أن ابعث إلى رجالا من صلحاء أصحابك أدارسهم القرآن، وأنظر ما تدعون إليه، فبعث إليه رجالا منهم سويد بن سليم وقعنب والمحلل بن وائل، فلما أدنى منهم المعبر وأرداوا أن ينزلوا فيه أرسل إليهم شبيب ألا تدخلوا السفينة حتى يرجع إلي رسولي من عند مطرف، وبعث إلى مطرف: أن ابعث إلي بعدة من أصحابك حتى ترد علي أصحابي، فقال لرسوله: القه فقل له: فكيف أمنك على أصحابي إذا بعثتهم الآن إليك، وأنت لا تأمنني على أصحابك! فأرسل إليه شبيب: إنك قد علمت أنا لا نستحل في ديننا الغدر، وأنتم تفعلونه وتهونونه. فسرح إليه مطرف الربيع بن يزيد الأسدي، وسليمان بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني، ويزيد بن أبي زياد مولى المغيرة - وكان على حرس مطرف - فلما وقعوا في يديه بعث أصحابه إليه. قال أبو مخنف: حدثني النضر بن صالح، قال: كنت عند مطرف بن المغيرة بن شعبة فما أدري أقال: إني كنت في الجند الذين كانوا معهم، أو قال: كنت بإزائه حيث دخلت عليه رسل شبيب! وكان لي ولأخي ودًا مكرمًا، ولم يكن ليستر منا شيئًا، فدخلوا عليه وما عنده أحد من الناس غيري وغير أخي حلام بن صالح، وهم ستة ونحن ثلاثة، وهم شاكون في السلاح، ونحن ليس علينا إلا سيوفنا، فلما دنوا قال سويد: السلام على من خاف مقام ربه وعرف الهدى وأهله، فقال له مطرف: أجل، فسلم الله على أولئك، ثم جلس القوم، فقال لهم مطرف: قصوا على أميركم، وخبروني ماالذي تطلبون؟ وإلام تدعون؟ فحمد الله سويد بن سليم وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الذي ندعوا إليه كتاب الله وسنة محمد ﷺ، وإن الذي نقمنا على قومنا الاستئثار بالفئ وتعطيل الحدود والتسلط بالجبرية. فقال لهم مطرف: ما دعوتم إلا إلى حق، ولا نقمتم إلا جورًا ظاهرًا، أنا لكم على هذا متابع، فتابعوني إلى ما أدعوكم إليه ليجتمع أمري وأمركم، وتكون يدي وأيديكم واحدة، فقالوا: هات، اذكر ما تريد أن تذكر فإن يكن ما تدعون إليه حقًا نجبك؛ قال: فإني أدعوكم إلى أن نقاتل هؤلاء الظلمة العاصين على إحداثهم الذي أحدثوه، وأن ندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين، يؤمرون عليهم من يرضون لأنفسهم على مثل الحال التي تركهم عليها عمر بن الخطاب؛ فإن العرب إذا علمت أن ما يراد بالشورى الرضا من قريش رضوا، وكثر تبعكم منهم وأعوانكم على عدوكم، وتم لكم هذا الأمر الذي تريدون. قال: فوثبوا من عنده، وقالوا: هذا ما لا نجيبك إليه أبدًا، فلما مضوا فكادوا أن يخرجوا من صفة البيت التفت إليه سويد بن سليم، فقال: يا بن المغيرة لو كان القوم عداةً غدرًا كنت قد أمكنتهم من نفسك، ففزع لها مطرف، وقال: صدقت وإله موسى وعيسى. قال: ورجعوا إلى شبيب فأخبروه بمقالته، فطمع فيه، وقال لهم: إن أصبحتم فليأته أحدكم؛ فلما أصبحوا بعث إليه سويدًا وأمره بأمره، فجاء سويد حتى انتهى إلى باب مطرف، فكنت أنا المستأذن له، فلما دخل وجلس أردت أن انصرف، فقال لي مطرف: اجلس فليس دونك ستر؛ فجلست وأنا يومئذ شاب أغيد، فقال له سويد: من هذا الذي ليس لك دونه ستر؟ فقال له: هذا الشريف الحسيب، هذا ابن مالك بن زهير بن جذيمة، فقال له: بخ أكرمت فارتبط، إن كان دينه على قدر حسبه فهو الكامل، ثم أقبل عليه فقال: إن لقينا أمير المؤمنين بالذي ذكرت لنا، فقال لنا: القوه فقولوا له: ألست تعلم أن إختيار المسلمين منهم خيرهم لهم فيما يرون رأي رشيد! فقد مضت به السنة بعد الرسول ﷺ، فإذا قال لكم: نعم، فقولوا له: فإن قد اخترنا لأنفسنا أرضانا فينا، وأشدنا إضطلاعًا لما حمل، فما لم يغير ولم يبدل فهو ولي أمرنا. وقال لنا: قولوا له فيما ذكرت لنا من الشورى حين قلت: إن العرب إذا علمت أنكم إنما تريدون بهذا الأمر قريشًا كان أكثر لتبعكم منهم؛ فإن أهل الحق لا ينقصهم عند الله أن يقلوا، ولا يزيد الظالمين خيرًا أن يكثروا، وإن تركنا حقنا الذي خرجنا له، ودخولنا فيما دعوتنا إليه من الشورى خطيئة وعجز ورخصة إلى نصر الظالمين ووهن، لأنا لا نرى أن قريشًا أحق بهذا الأمر من غيرها من العرب. وقال: فإن زعم أنهم أحق بهذا الأمر من غيرها من العرب فقولوا له: ولم ذاك؟ فإن قال: لقرابة محمد ﷺ بهم فقولوا له: فوالله ما كان ينبغي إذًا لأسلافنا الصالحين من المهاجرين الأولين أن يتولوا على أسرة محمد، ولا على ولد أبي لهب لو لم يبقى غيرهم؛ ولو لا أنهم علموا أن خير الناس عند الله أتقاهم، وأن أولاهم بهذا الأمر أتقاهم وأفضلهم فيهم، وأشدهم اضطلاعًا بحمل أمورهم ما تولى أمور الناس. ونحن أول من أنكر الظلم وغير الجور وقاتل الأحزاب، فإن اتبعنا فله ما لنا وعليه ما علينا، وهو رجل من المسلمين وإلا يفعل، فهو كبعض من نعادي ونقاتل من المشركين. فقال له مطرف: قد فهمت ما ذكرت، ارجع يومك هذا حتى تنظر في أمرنا. فرجع، ودعا مطرف رجالًا من أهل ثقاته وأهل نصائحه؛ منهم سليمان بن حذيفة المزني، والربيع بن يزيد الأسدي. قال النضر بن صالح: وكنت أنا ويزيد بن أبي زياد مولى المغيرة بن شعبة قائمين على رأسه بالسيف، وكان على حرسه، فقال لهم مطرف: يا هؤلاء، إنكم نصحائي وأهل مودتي ومن أثق بصلاحه وحسن رأيه، والله مازلت لأعمال هؤلاء الظلمة كارهًا، أنكرها بقلبي، وأغيرها ما استطعت بفعلي وأمري، فلما عظمت خطيئتهم، ومر بي هؤلاء القوم يجاهدونهم، لم أر أنه يسعني إلا مناهضتهم وخلافهم إن وجدت أعوانًا عليهم، وإني دعوت هؤلاء القوم فقلت لهم كيت وكيت، وقالوا لي كيت وكيت، فلست أرى القتال معهم، ولو تابعوني على رأيي وعلى ما وصفت لهم لخلعت عبد الملك والحجاج، ولسرت إليهم أجاهدهم. فقال له المزني: إنهم لن يتابعوك، وإنك لن تتابعهم فأخف هذا الكلام ولا تظهره لأحد، وقال له الأسدي مثل ذلك، فجثا مولاه ابن أبي زياد على ركبتيه ثم قال: والله لا يخفى مما كان بينك وبينهم على الحجاج كلمة واحدة، وليزادن على كل كلمة عشرة أمثالها، والله أن لو كنت في السحاب هاربًا من الحجاج ليلتمسن أن يصل إليك حتى يهلكك أنت ومن معك؛ فالنجاء النجاء من مكانك هذا، فإن أهل المدائن من هذا الجانب ومن ذاك الجانب، وأهل عسكر شبيب يتحدثون بما كان بينك وبين شبيب، ولا تمس من يومك هذا حتى يبلغ الخبر الحجاج؛ فاطلب دارًا غير المدائن. فقال له صاحباه: ما نرى الرأي إلا كما ذكر لك، قال لهما مطرف: فما عندكما؟ قالا: الإجابه إلى ما دعوتنا إليه والمؤاساة لك بأنفسنا على الحجاج وغيره. قال: ثم نظر إلي، فقال: ما عندك؟ فقلت: قتال عدوك، والصبر معك ما صبرت، فقال لي: ذاك الظن بك. قال: ومكث حتى إذا كان في اليوم الثالث أتاه قعنب فقال له: إن تابعتنا فأنت منا، وإن أبيت فقد نابذناك، فقال: لا تعجلوا اليوم فإنا ننظر. قال: وبعث إلى أصحابه أن ارحلوا الليلة من عندي آخركم حتى توفوا الدسكرة معي لحدث حدث هنالك. ثم أجدلج وخرج أصحابه معه حتى مر بدير يزد جرد فنزله، فلقيه قبيصة بن عبد الرحمن القحافي من خثعم، فدعاه إلى صحبته، فصحبه فكساه وحمله. وأمر له بنفقة، ثم سار حتى نزل الدسكرة، فلما أراد أن يرتحل منها لم يجد بدًا من أن يعلم أصحابه ما يريد، فجمع إليه رؤوس أصحابه، فذكر الله بما هو أهله وصلى على رسوله، ثم قال لهم: أما بعد، فإن الله كتب الجهاد على خلقه، وأمر بالعدل والإحسان، وقال فيما أنزل علينا: " وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب " وإني أشهد الله أني قد خلعت عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف، فمن أحب منكم صحبي وكان على مثل رأيي فليتابعني، فإن له الأسوة وحسن الصحبة، ومن أبى فليذهب حيث شاء، فإني لست أحب أن يتبعني من ليست له نية في جهاد أهل الجود، أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإلى قتال الظلمة، فإذا جمع الله لنا أمرنا كان هذا الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم من أحبوا. قال: فوثب إليه أصحابه فبايعوه، ثم إنه دخل رحله وبعث إلى سبر بن عبد الرحمن بن مخنف وإلى عبد الله بن كناز النهدي فاستخلاهما، ودعاهما إلى مثل ما دعا إليه عامة أصحابه، فأعطياه الرضا، فلما ارتحل انصرفا بمن معهما من أصحابه حتى أتيا الحجاج فوجداه قد نازل شبيبًا، فشهدا معه وقعة شبيب. قال: وخرج مطرف بأصحابه من الدسكرة موجهًا نحو حلوان، وقد الحجاج بعث في تلك السنة سويد بن عبد الرحمن السعدي على حلوان وماسبذان؛ فلما بلغه أن مطرف بن المغيرة قد أقبل نحو أرضه عرف أنه إن رفق في أمره أو داهن لا يقبل ذلك منه الحجاج، فجمع له سويد أهل البلد والأكراد، فأما الأكراد فأخذوا عليه ثنية حلوان، وخرج إليه سويد وهو يحب أن يسلم من قتاله، وأن يعافى من الحجاج، فكان خروجه كالتعذير. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الله بن علقم الخثعمي أن الحجاج بن جارية الخثعمي حين سمع بخروج مطرف من المدائن نحو الجبل أتبعه في نحو من ثلاثين رجلا من قومه وغيرهم. قال: وكنت فيهم فلحقناه بحلوان، فكنا ممن شهد معه قتال سويد بن عبد الرحمن. قال أبو مخنف: وحدثني بذلك أيضًا النضر. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الله بن علقمة. قال: ما هو إلا أن قدمنا على مطرف بن المغيرة، فسر بمقدمنا عليه. وأجلس الحجاج ابن جارية معه على مجلسه. قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صالح. وعبد الله بن علقمة، أن سويدًا لما خرج إليهم بمن معه وقف في الرجال ولم يخرج بهم من البيوت، وقدم ابنه القعقاع في الخيل، وما خيله يومئذ بكثير. قال أبو مخنف: قال النضر بن صالح: أراهم كانوا مائتين، وقال ابن علقمة: أراهم كانوا ينقصون عن الثلثمائة. قال: فدعا مطرف الحجاج بن جارية فسرحه إليهم في نحو من عدتهم، فأقبلوا نحو القعقاع وهم جادون في قتاله، وهم فرسان متعالمون، فلما رآهم سويد قد تيسروا نحو ابنه أرسل إليهم غلامًا يقال له رستم - قتل معه بعد ذلك بدير الجماجم - وفي يده راية بني سعد، فانطلق وغلامه حتى انتهى إلى الحجاج بن جارية، فأسر إليه: إن كنتم تريدون الخروج من بلادنا هذه إلى غيرها فاخرجوا عنا، فإنا لا نريد قتالكم، وإن كنتم إيانا تريدون فلا بد من منع ما في أيدينا. فلما جاءه بذلك قال له الحجاج بن جارية: إئت أميرنا فاذكر له ماذكرت لي، فخرج حتى أتى مطرفًا فذكر له مثل الذي ذكر للحجاج بن جارية، فقال له مطرف: ما أريدكم ولا بلادكم، فقال له: فالزم هذا الطريق حتى تخرج من بلادنا، فإنا لا نجد بدًا من أن يرى الناس وتسمع بذلك أنا قد خرجنا إليك. قال: فبعث مطرف إلى الحجاج فأتاه، ولزموا الطريق حتى مروا بالثنية فإذا الأكراد بها، فنزل مطرف ونزل معه عامة أصحابه وصعد إليهم في الجانب الأيمن الحجاج بن جارية، وفي الجانب الأيسر سليمان بن حذيفة، فهزماهم وقتلاهم، وسلم مطرف وأصحابه فمضوا حتى دنوا من همذان، فتركها وأخذ ذات اليسار إلى ما دينار، وكان أخوه حمزة بن المغيرة على همذان، فكره أن يدخلها فيتهم أخوه عند الحجاج، فلما دخل مطرف أرض ماه دينار كتب إلى أخيه حمزة: أما بعد، فإن النفق قد كثرت والمؤنة قد اشتدت، فامدد أخاك بما قدرت عليه من مال وسلاح. وبعث إليه يزيد بن أبي زياد مولى المغيرة بن شعبة، فجاء حتى دخل على حمزة بكتاب مطرف ليلًا، فلما رآه قال له: ثكلتك أمك! أنت قتلت مطرفًا؟ فقال له: ما أنا قتلته جعلت فداك! ولكن مطرفًا قتل نفسه وقتلني، وليته لا يقتلك، فقال له: ويحك! من سول له هذا الأمر! فقال: نفسه سولت هذا له. ثم جلس إليه فقص عليه القصص، وأخبره بالخبر، ودفع كتاب مطرف إليه، فقرأه ثم قال: نعم، وأنا باعث إليه بمال وسلاح، ولكن أخبرني ترى ذلك يخفى لي؟ قال: ما أظن أن يخفى، فقال له حمزة: فوالله لئن أنا خذلته في أنفع النصرين له نصر العلانية، لا أخذله في أيسر النصرين نصر السريرة. قال: فسرح إليه مع يزيد بن أبي زياد بمال وسلاح، فأقبل به حتى أتى مطرفًا ونحن نزول في رستاق من رساتيق ماه دينار، يقال له: سامان متاخم أرض أصبهان، وهو رستان كانت الحمراء تنزله. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح، قال: والله ما هو إلا أن مضى يزيد بن أبي زياد، فسمعت أهل العسكر يتحدثون أن الأمير بعث إلى أخيه يسأله النفقة والسلاح، فأتيت مطرفًا فحدثته بذلك، فضرب بيده على جبهته ثم قال: سبحان الله! قال الأول: ما يخفى إلا ما لا يكون، قال: وما هو إلا أن قدم يزيد بن أي زياد علينا. فسار مطرف بأصحابه حتى نزل قم وقاشان وأصبهان. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الله بن علقمة أن مطرفًا حين نزل قم وقاشان واطمئن، دعا الحجاج بن جارية فقال له: حدثني عن هزيمة شبيب يوم السبخة أكانت وأنت شاهدها، أم كنت خرجت قبل الوقعة؟ قال: لا. بل شهدتها؛ قال: فحدثني حديثهم كيف كان؟ فحدثه، فقال: إني كنت أحب أن يظفر شبيب وإن كان ضالًا فيقتل ضالًا. قال: فظننت أنه تمنى ذلك لأنه كان يرجوا أن يتم له الذي يطلب لو هلك الحجاج، قال: ثم إن مطرفًا بعث عماله. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح أن مطرفًا عمل عملًا حازمًا لو لا أن الأقدار غالبة. قال: كتب مع الربيع بن يزيد إلى سويد ابن سرحان الثقفي، وإلى بكير بن هارون البجلي: أما بعد، فإنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وإلى جهاد من عند عن الحق، واستأثر بالفئ، وترك حكم الكتاب، فإذا ظهر الحق ودمغ الباطل، وكانت كلمة الله هي العليا، جعلنا هذا الأمر شورى بين الأمة يرتضي المسلمون لأنفسهم الرضا، فمن قبل هذا منا كان أخانا في ديننا. وولينا في محيانا ومماتنا، ومن رد ذلك علينا جاهدناه واستنصرنا الله عليه فكفى بنا عليه حجة، وكفى بتركه الجهاد في سبيل الله غبناُ، وبمداهنة الظالمين في أمر الله وهنًا! إن الله كتب القتال على المسلمين وسماه كرهًا، ولن ينال رضوان الله إلا بالصبر على أمر الله، وجهاد أعداء الله، فأجيبوا رحمتكم الله إلى الحق. وادعوا إليه من ترجون إجابته، وعرفوه ما لا يعرفه، وليقبل إلى كل من رأى رأينا، وأجاب دعوتنا، ورأى عدوه عدونا. أرشدنا الله وإياكم، وتاب علينا وعليكم، إنه هو التواب الرحيم. والسلام. فلما قدم الكتاب على ذينك الرجلين دبًا في رجال من أهل الري ودعوا من تابعهما، ثم خرجا في نحو من مائة من أهل الري سرًا لا يفطن بهم، فجاءوا حتى وافوا مطرفًا. وكتب البراء بن قبيصة، وهو عامل الحجاج على أصبهان: أما بعد، فإن كان للأمير أصلحه الله حاجة في أصبهان فليبعث إلى مطرف جيشًا كثيفًا يسأصله ومن معه، فإنه لا تزلا عصابة قد انتفحت له من بلدة من البلدان حتى توافيه بمكانه الذي هو به، فإنه قد استكشف وكثر تبعه، والسلام. فكتب إليه الحجاج: أما بعد، إذا أتاك رسولي فعسكر بمن معك، فإذا مر بك عدي بن وتاد فاخرج معه في أصحابك، واسمع له وأطع. والسلام. فلما قرأ كتابه خرج فعسكر، وجعل الحجاج بن يوسف يسرح إلى البراء بن قبيصة الرجال على دواب البريد عشرين عشرين. وخمسة عشر خمسة عشر، وعشرة وعشرة، حتى سرح إليه نحوًا من خمسمائة، وكان في ألفين. وكان الأسود بن سعد الهمذاني أتى الري في فتح الله على الحجاج يوم لقي شبيبًا بالسبخة، فمر بهمذان والجبال، ودخل على حمزة فاعتذر إليه، فقال الأسود: فأبلغت الحجاج عن حمزة، فقال: قد بلغني ذاك، وأراد عزله، فخشي أن يمكر به، وأن يمتنع منه، فبعث إلى قيس بن سعيد العجلي - وهو يومئذ على شرطة حمزة بن المغيرة ولبني عجل وربيعة عدد بهمذان - فبعث إلى قيس بن سعد بعهده على همذان، وكتب إليه أن أوثق حمزة ابن المغيرة في الحديد، واحبسه قبلك حتى يأتيك أمري. فلما أتاه عهده وأمره أقبل ومعه ناس من عشيرته كثير، فلما دخل المسجد وافق الإقامة لصلاة العصر. فصلى حمزة، فلما انصرف حمزة انصرف معه قيس بن سعد العجلي صاحب شرطة، فأقرأه كتاب الحجاج إليه، وأراه عهده، فقال حمزة. سمعًا وطاعةً؛ فأوثقه وحبسه في السجن، وتولى أمر همذان، وبعث عماله عليها، وجعل عماله كلهم من قومه؛ وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله، أني قد شددت حمزة بن المغيرة في الحديد، وحبسته في السجن وبعث عمالي على الخراج، ووضعت يدي في الجباية، فإن رأي الأمير أبقاه الله أن يأذن لي في المسير إلى مطرف أذن لي حتى أجاهده في قومي، ومن أطاعني من أهل بلادي؛ فإني أرجو أن يكون الجهاد أعظم أجرًا من جباية الخراج. والسلام. فلما قرأ الحجاج كتابه ضحك ثم قال: هذا جانب آثرًا ما قد أمناه. وقد كان حمزة بهمذان أثقل ما خلق الله على الحجاج مخافة أن يمد أخاه بالسلاح والمال، ولا يدري لعله يبدو له فيعق، فلم يزل يكيده حتى عزله؛ فاطمأن وقصد قصد مطرف. قال أبو مخنف: فحدثني مطرف بن عامر بن واثل أن الحجاج لما قرأ كتاب قيس بن سعد العجلي وسمع قوله: إن أحب الأمير سرت إليه حتى أجاهده في قومي، قال: ما أبغض إلى أن تكثر العرب في أرض الخراج. قال: فقال لي ابن الغرق: ما هو إلا أن سمعتها من الحجاج فعلمت أنه لو قد فرغ له قد عزله. قال: وحدثني النضر بن صالح أن الحجاج كتب إلى عدي بن وتاد الإيادي وهو على الري يأمره بالمسير إلى مطرف بن المغيرة وبالممر على البراء ابن قبيصة، فإذا اجتمعوا فهو أمير الناس. قال أبو مخنف: وحدثني أبي عند عبد الله بن زهير، عن عبد الله بن سليم الأزدي، قال: إني لجالس مع عدي بن وتاد على مجلسه بالري إذ أتاه كتاب الحجاج، فقرأه ثم دفعه إلي، فقرأته فإذا فيه: أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فانهض بثلاثة أرباع من معك من أهل الري، ثم أقبل حتى تمر بالبراء بن قبيصة بجي، ثم سيرا جميعًا، فإذا لقيتهما فأنت أمير الناس حتى يقتل الله مطرفًا، فإذا كفى الله المؤمنين مؤنته فانصرف إلى عملك في كنف من الله وكلاءته وستره، فلما قرأته قال لي: قم وتجهز. قال: وخرج فعسكر، ودعا الكتاب فضربوا البعث على ثلاثة أرباع الناس، فما مضت جمعة حتى سرنا فانتهينا إلى جي، ويوافينا بها قبيص القحافي تسعمائة من أهل الشام، فيهم عمر بن هبيرة، قال: ولم نلبث بجي إلا يومين حتى نهض عدي بن وتاد بمن أطاعه من الناس ومعه ثلاثة آلاف مقاتل من أهل الري وألف مقاتل مع البراء بن قبيص بعثهم إليه الحجاج من الكوفة، وسبعمائة من أهل الشام، ونحو ألف رجل من أهل أصبهان والأكراد، فكان في قريب من ستة آلاف مقاتل، ثم أقبل حتى دخل على مطرف بن المغيرة. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح، عن عبد الله بن علقمة. أن مطرفًا لما بلغه مسيرهم إليه خندق على أصحابه خندقًا، فلم يزالوا فيه حتى قدموا عليه. قال أبو مخنف: وحدثني يزيد مولى عبد الله بن زهير، قال: كنت مع مولاي إذ ذاك؛ قال: خرج عدي بن وتاد فعبى الناس، فجعل على ميمنته عبد الله بن زهير، ثم قال للبراء بن قبيصة: قم في الميسرة، فغضب البراء، وقال: تأمرني بالوقوف في الميسرة وأن أمير مثلك! تلك خيلي في الميسرة، وقد بعثت عليها فارس مصر الطفيل بن عامر بن واثلة، قال: فأنهي ذلك إلى عدي بن وتاد، وقال لابن أقيصر الخثعمي: إنطلق فأنت على الخيل، وانطلق إلى البراء بن قبيص فقل له: إنك قد أمرت بطاعتي، ولست من الميمنة والميسرة والخيل والرجالة في شئ، إنما عليك أن تؤمر فتطيع، ولا تعرض لي في شئ أكرهه فأتنكر لك - قد كان له مكرمًا. ثم إن عديًا بعث على الميسرة عمر بن هبيرة، وبعث في مائة من أهل الشام، فجاء حتى وقف برايته، فقال رجل من أصحابه للطفيل بن عامر: خل رايتك وتنح عنا، فإنما نحن أصحاب هذا الموقف، فقال الطفيل: إني لا أخاصمكم، إنما عقد لي هذه الراية البراء من قبيصة، وهو أميرنا، وقد علمنا أن صاحبكم على جماعة الناس، فإن كان قد عقد لصاحبكم هذا فبارك الله له، ما أسمعنا وأطوعنا! فقال لهم عمر بن هبيرة: مهلًا، كفوا عن أخيكم وابن عمكم، رايتنا رايتك، فإن شئت آثرناك بها. قال: فما رأينا رجلين كانا أحلم منهما في موقفهما ذلك. قال: ونزل عدي بن وتاد ثم زحف نحو مطرف. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح وعبد الله بن علقمة أن مطرفًا بعث على ميمنته الحجاج بن جارية، وعلى ميسرته الربيع بن يزيد الأسدي، وعلى الحامية سليمان بن صخر المزني، ونزل هو يمشي في الرجال، ورأيته مع يزيد بن أبي زياد مولى أبيه المغيرة بن شعبة. قال: فلما زحف القوم بعضهم إلى بعض وتدانوا قال لبكير بن هارون البجلي: اخرج إليهم فادعهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وبكتم بأعماله الخبيثة. فخرج إليهم بكير بن هارون على فرس لهم أدهم أرح ذنوب عليه الدرع والمغفر والساعدان، في يده الرمح، شد درعه بعصابة حمراء من حواشي البرود، فنادى بصوت عال رفيع: يا أهل قبلتنا، وأهل ملتنا، وأهل دعوتنا، إنا نسألكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي علمه بما تسرون مثل علمه بما تعلنون لما أنصفتمونا وصدقتمونا، وكانت نصيحتكم لله لا لخلقه، وكنتم شهداء لله على عباده بما يعلمه الله من عباده. خبروني عن عبد الملك بن مروان، وعب الحجاج بن يوسف، ألستم تعلمونهما جبارين مستأثرين يتبعان الهوى، فيأخذان بالظنة، ويقتلان على الغضب. قال: فتنادوا من كل جانب: يا عدو الله كذبت، ليسا كذلك، فقال لهم: ويلكم " لا تفترون على الله كذبًا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى " ويلكم، أو تعلمون من الله ما لا يعلم، إني قد استشهدتكم وقد قال الله في الشهادة: " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ". فخرج إليه صارم مولى عدي بن وتاد وصاحب رايته، فحمل على بكير ابن هارون البجلي، فاضربا بسيفهما، فلم تعمل ضربة مولى عدي شيئًا، وضربه بكير بالسيف فقتله، ثم استقدم، فقال: فارس لفارس، فلم يخرج إليه أحد، فجعل يقول: صارم قد لاقيت سيفًا صارمًا ** وأسدًا ذا لبدة ضارمًا قال: ثم إن الحجاج بن جارية حمل وهو في الميمنة على عمر بن هبيرة وهو في الميسرة، وفيها الطفيل بن عامر بن واثلة، فالتقى هو والطفيل - وكانا صديقين متؤاخيين - فتعارفا، وقد رفع كل منهما السيف على صاحبه، فكفا أيديهما، واقتتلوا طويلًا، ثم إن ميسرة عدي بن وتاد زالت غير بعيد، وانصرف الحجاج بن جارية إلى موقفه. ثم إن الربيع بن يزيد حمل على عبد الله بن زهير، فاقتتلوا طويلًا، ثم إن جماعة الناس حملت على الأسدي فقتلته، وانكشف ميسرة مطرف ابن المغيرة حتى انتهت إليه. ثم إن عمر بن هبيرة حمل على الحجاج بن جارية وأصحابه فقاتله قتالًا طويلًا، ثم إنه حذره حتى اتنهى إلى مطرف، وحمل ابن أقيصر الخثعمي في الخيل على سليمان بن صخر المزني فقتله، وانكشف خيلهم، حتى انتهى إلى مطرف، فثم اقتتلت الفرسان أشد قتال رآه الناس قط، ثم إنه وصل إلى مطرف. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح أنه جعل يناديهم يومئذ: " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ". قال: ولم يزل يقاتل حتى قتل، واحتز رأسه عمر بن هبيرة، وذكر أنه قتله، وقد كان أسرع إليه غير واحد، غير أن ابن هبيرة احتز رأسه وأوفده إلى عدي بن وتاد وحظي به، وقاتل عمر بن هبيرة يومئذ وأبلى بلاء حسنًا. قال أبو مخنف: وقد حدثني حكيم بن أبي سفيان الأزدي أنه قتل يزيد بن زياد مولى المغيرة بن شعبة، وكان صاحب راية مطرف. قال: ودخلوا عسكر مطرف، وكان مطرف قد جعل على عسكره عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي، فقتل، وكان صالحًا ناسكًا عفيفًا. أبو مخنف: حدثني زيد مولاهم أنه رأى رأسًا مع ابن أقيصر الخثعمي، فما ملكت نفسي أن قلت له: أما والله قد قتلته من المصلين العابدين الذاكرين الله كثيرًا. قال: فأقبل نحوي وقال: من أنت؟ فقال له مولاي: هذا غلامي ماله؟ قال: فأخبره بمقالتي؛ فقال إنه ضعيف العقل؛ قال: ثم انصرفنا إلى الري بن عدي بن وتاد. قال: وبعث رجالًا من أهل البلاء إلى الحجاج، فأكرمهم وأحسن إليهم. قال: ولما رجع إلى الري جاءت بجيلة إلى عدي بن وتاد فطلبوا لبكير بن هارون الأمان فآمنه، وطلبت ثقيف لسويد بن سرحان الثقفي الأمان فآمنه، وطلبت في كل رجل كان مع مطرف عشيرته، فآمنهم وأحسن في ذلك، وقد كان رجال مكن أصحاب مطرف أحيط بهم في عسكر مطرف، فنادوا: يا براء، خذ لنا الأمان، يا براء، اشفع لنا. فشفع لهم، فتركوا، وأسر عدي ناسًا كثيرًا فخلى عنهم. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح أنه أقبل حتى قدم على سويد بن عبد الرحمن بحلوان، فأكرمه وأحسن إليه، ثم إنه انصرف بعد ذلك إلى الكوفة. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الله بن علقمة أن الحجاج بن جارية الخثعمي أتى الري وكان مكتبه بها، فطلب إلى عدي فيه، فقال: هذا رجل مشهور قد شهر مع صاحبه، وهذا كتاب الحجاج إلى فيه. قال أبو مخنف: فحدثني أبي عن عبد الله بن زهير، قال: كنت فيمن كلمه في الحجاج بن جارية، فأخرج إلينا كتاب الحجاج بن يوسف: أما بعد: فإن كان الله قتل الحجاج بن جارية فبعدًا له. فذاك ما هو أهوى وأحب؛ وإن كان حيًا فاطلبه قبلك حتى توثقه، ثم سرح به إلى إن شاء الله. والسلام. قال: فقال لنا: قد كتب إلي فيه، ولابد من السمع والطاعة، ولو لم يكتب إلي فيه آمنته لكم، وكففت عنه فلم أطلبه. وقمنا من عنده. قال: فلم يزل الحجاج بن جارية خائفًا حتى عزل عدي بن وتاد، وقدم خالد ابن عتاب بن ورقاء، فمشيت إليه فيه، فكلمته فآمنته. وقال حبيب بن خدرة مولى لبنى هلال بن عامر: هل أتى فائد عن أيسارنا ** إذ خشينا من عدو خرقا إذ أتاني الخوف من مأمننا ** فطوينا في سواد أفقا وسلي هدية يوم هل رأيت ** بشرًا أكرم منا خلقا! وسليها أعلى العهد لنا ** أو يصيرون علينا حنقا! ولكم من خلة من قبلها ** قد صرمنا حبلها فانطلقا قد أصبنا العيش عيش ناعمًا ** وأصبنا العيش عيشًا رنقا وأصبت الدهر دهرًا اشتهى ** طبقًا منه وألوى طبقا وشهدت الخيل في ملومة ** ما ترى منهن إلا الحدقا يتساقون بأطراف القنا ** من نجيع الموت كأسا دهقا فطراد الخيل قد يؤنقني ** ويرد اللهو عني الأنقا بمشيح البيض حتى يتركوا ** لسيوف الهند فيها طرقا فكأني من غد وافقتها ** مثل ما وافق شن طبقا ذكر الخبر عن وقوع الخلاف بين الأزارقة قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وقع الاختلاف بين الأزارقة أصحاب قطري بن الفجاءة، فخالفه بعضهم واعتزله، وبايع عبد ربه الكبير، وأقام بعضهم على بيعة قطري. ذكر الخبر عن ذلك وعن السبب الذي من أجله حدث الاختلاف بينهم حتى صار أمرهم إلى الهلاك ذكر هشام عن أبي مخنف، عن يوسف بن يزيد، أن المهلب أقام بسابور فقاتل قطريًا وأصحابه من الأزارقة بعدما صرف الحجاج عتاب بن ورقاء عن عسكره نحوًا من سنة. ثم إنه زاحفهم يوم البستان فقاتلهم قتالًا شديدًا، وكانت كرمان في أيدي الخوارج، وفارس في يد المهلب، فكان قد ضاق عليهم مكانهم الذي هم به، لا يأتيهم من فارس مادة، وبعدت ديارهم عنهم، فخرجوا حتى أتوا كرمان وتبعهم المهلب حتى نزل بجيرفت - وجيرفيت مدينة كرمان - فقاتلهم بها أكثر من سنة قتالًا شديدًا. وحازهم عن فارس كلها، فلما صارت فارس كلها في يد المهلب بعث الحجاج عليها عماله وأخذها من المهلب، فبلغ ذلك عند عبد الملك، فكتب إلى الحجاج: أما بعد، فدع بيد المهلب خراج جبال فارس، فإنه لا بد للجيش من قوة، ولصاحب الجيش من معونة، ودع له كورة فساودرابجرد. وكورة إصطخر. فتركها للمهلب، فبعث المهلب عليها عماله، فكانت له قوة على عدوه وما يصلحه، ففي ذلك يقول الشاعر الأزد وهو يعاتب المهلب: نقاتل عن قصور درابجرد ** ونجبي للمغيرة والرقاد وكان الرقاد بن زياد بن همام - رجل من العتيك - كريمًا على المهلب، وبعث الحجاج إلى المهلب البراء بن قبيصة. وكتب إلى المهلب: أما بعد، فإنك والله لو شئت فيما أرى لقد اصطلمت هذه الخارجة المارقة، ولكنك تحب طول بقائهم لتأكل الأرض حولك. وقد بعثت إليك البراء بن قبيصة لينهضك إليهم، فانهض إليهم إذا قدم عليك بجميع المسلمين، قم جاهدهم أشد الجهاد. وإياك والعلل والأباطيل، والأمور التي ليست لك عندي بسائغة ولا جائزة؛ والسلام. فأخرج المهلب بنيه؛ كل ابن له في كتيبة، وأخرج الناس على راياتهم ومصافهم وأخماسهم، وجاء البراء بن قبيصة فوقف على تل قريب منهم حيث يراهم. فأخذت الكتائب تحمل على الكتائب، والرجال على الرجال، فيقتلون أشد قتال رآه الناس من صلاة الغداة إلى انتصاف النهار، ثم انصرفوا. فجاء البراء بن قبيصة إلى المهلب فقال له: لا والله ما رأيت كبنيك فرسانًا قط، ولا كفرسانك من العرب فرسانًا قط، ولا رأيت مثل قوم يقاتلونك قط أصبر ولا أبأس، أنت والله المعذور. فرجع بالناس المهلب، حتى إذا كان عند العصر خرج إليهم بالناس وبنيه في كتائبهم، فقاتلوه كقتالهم في أول مرة. قال أبو مخنف: وحدثني أبو المغلس الكناني، عن عمه أبي طلحة، قال: خرجت كتيبة من كتائبهم لكتيبة من كتائبنا، فاشتد بينهما القتال، فأخذت كل واحدة منهما لا تصد عن الأخرى، فاقتتلتا حتى حجز الليل بينهما، فقالت إحداهما للأخرى: ممن أنتم؟ فقال هؤلاء: نحن من بني تميم؛ وقال هؤلاء: نحن من بني تميم؟ فانصرفوا عند المساء، قال المهلب للبراء: كيف رأيت؟ قال: رأيت قومًا والله ما يعينك عليهم إلا الله. فأحسن إلى البراء بن قبيصة وأجازه. وحمله وكساه، وأمر له بعشرة آلاف درهم، ثم انصر إلى الحجاج فآتاه بعذر المهلب، وأخبره بما رأى، وكتب المهلب إلى الحجاج: أما بعد، فقد آتاني كتاب الأمير أصلحه الله. واتهامه إياي في هذه الخارجة المارقة، وأمرني الأمير بالنهوض إليهم، وإشهاد رسوله ذلك، وقد فعلت، فليسأله عما رأى، فأما أنا فوالله لو كنت أقدر على استئصالهم وإزالتهم عن مكانهم ثم أمسكت عن ذلك لقد غششت المسلمين، وما وفيت لأمير المؤمنين، ولا نصحت للأمير - أصلحه الله - فمعاذ الله أن يكون هذا من رأيي، ولا مما أدين الله به، والسلام. ثم إن الهلب قاتلهم بها ثمانية عشر شهرًا لا يستقل منهم شيئًا، ولا يرى في موطن ينقعون له ولمن معه من أهل العراق من الطعن والضرب ما يردعونهم به ويكفونهم عنهم. ثم إن رجلًا منهم كان عاملًا لقطرى على ناحية من كرمان خرج في سرية لهم يدعى المقعطر من بني ضبة، فقتل رجلًا قد كان ذا بأس من الخوارج، ودخل منهم في ولاية، فقتله المقعطر، فوثبت الخوارج إلى قطرى، فذكروا له ذلك، وقالوا: أمكنا من الضبي نقتله بصاحبنا، فقال لهم: ما أرى أن أفعل! رجل تأول فأخطأ في التأويل ما أرى أن تقتلوه، وهو من ذوي الفضل منكم، والسابقة فيكم، قالوا: بلى! قال لهم: لا، فوقع الاختلاف بينهم، فولوا عبد ربه الكبير، وخلعوا قطريًا، وبايع قطريًا منهم عصابة نحوًا من ربعهم أو خمسهم، فقاتلهم نحوًا من شهر غدوة وعشية. فكتب بذلك المهلب إلى الحجاج: أما بعد، فإن الله قد ألقى بأس الخوارج بينهم، فخلع عظمهم قطريًا وبايعوا عبد رب، وبقيت عصابة منهم مع قطري، فهم يقاتل بعضهم بعضأ غدوًا وعشيًا، وقد رجزت أن يكون ذلك من أمرهم سبب هلاكهم إن شاء الله! والسلام. فكتب إليه: أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه اختلاف الخوارج بينها، فإذا آتاك كتابي هذا فناهضهم على حال اختلافهم وافتراقهم قبل أن يجتمعوا، فتكون مأونتهم عليك أشد، والسلام. فكتب إليه: أما بعد، فقد بلغني كتاب الأمير، وكل ما فيه قد فهمت، ولست أرى أن أقاتلهم ما داموا يقتل بعضهم بعضًا، وينقص بعضهم عدد بعض، فإن تموا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضًا. فأناهضهم على تفئة ذلك، وهم أهون ما كانوا وأضعفه شوكة، إن شاء الله، والسلام. فكف عنه الحجاج، وتركهم المهلب يقتتلون شهرًا لا يحركهم. ثم إن قطريًا خرج بمن اتبعه نحو طبرستان. وبايع عامتهم عبد ربه الكبير، فنهض إليهم المهلب، فقاتلوه قتالًا شديدًا. ثم إن الله قتلهم فلم ينج منهم إلا قليل، وأخذ عسكرهم وما فيه وسبوا، لأنهم كانوا يسبون المسلمين. وقال كعب الأشقري - والأشقر بطن من الأزد - يذكر يوم رامهرمز، وأيام سابور. وأيام جيرفت: يا حفص إن عداني عنكم السفر ** وقد أرقت فآذى عيني السهر علقت يا كعب بعد الشيب غانية ** والشيب فيه عن الأهواء مزدجر أممسك أنت عنها بالذي عهدت ** أم حبلها إذ نأتك اليوم منبتر علقت خودًا بأعلى الطف منزلها ** في غرفة دونها الأبواب والحجر درمًا مناكبها ريا مآكمها ** تكاد إذ نهضت بالمشي تنبتر وقد تركت بشط الزابيين لها ** دارًا بها يسعد البادون والحضر واخترت دارًا بها حي أسر بهم ** ما زال فيهم لمن تختارهم خير لما نيت بي بلادي سرت منتجعًا ** وطالب الخير مرتاد ومنتظر أبا سعيد فإني جئت منتجعًا ** أرجو نوالك لما مسني الضرر لولا المهلب ما زرنا بلادهم ** ما دامت الأرض فيها الماء والشجر فما من الناس من حي علمتهم ** إلا يرى فيهم من سيبكم أثر أحييتهم بسجال من نداك كما ** تحيا البلاد إذا ما مسها المطر إني لأرجو إذا ما فاقه نزلت ** فضلا من الله في كفيك يبتدر فاجبر أخًا لك أوهى الفقر قوته ** لعله بعد وهي العظم ينجبر جفا ذوو نسبي عني وأخلقني ** ظني فلله دري كيف آتمر يا واهب القينة الحسناء سنتها ** كالشمس هر كولة في طرفها فتر وما تزال بدور منك رائحة ** وآخرون لهم من سيبك الغرر نماك للمجد أملاك ورثتهم ** شم العرانين في أخلاقهم يسر ثاروا بقتلى وأوتار تعددها ** في حين لاحدث في الحرب يتئر واستسلم الناس إذ حل العدو بهم ** فما لأمرهم ورد ولا صدر وما تجاوز باب الجسر من أحد ** وعضت الحرب أهل المصر فانجحروا وأدخل الخوف أجواف البيوت على ** مثل النساء رجال ما بهم غير واشتدت الحرب والبلوى وحل بنا ** أمر تشمر في أمثاله الأزر نظل من دون خفض معصمين بهم ** فشمر الشيخ لما أعظم الخطر كنا نهون قبل اليوم شأنهم ** حتى تفاقم أمر كان يحتقر لما وهنا وقد حلوا بساحتنا ** واستنفر الناس تارات فما نفروا نادى امرؤ لا خلاف في عشيرته ** عنه وليس به في مثله قصر أفشى هنالك مما كان مذ عصروا ** فيهم صنائع مما كان يدخر تلبسوا لقراع الحرب بزتها ** فأصبحوا من وراء الجسر قد عبروا ساروا بألوية للمجد قد رفعت ** وتحتهن ليوث في الوغى وقر حتى إذا خلفوا الأهواز واجتمعوا ** برامهرمز وافاهم بها الخبر نعي بشر فجال اليوم وانصدعوا ** إلا بقايا إذا ما ذكروا ذكروا ثم استمر بنا راض ببيعته ** ينوي الوفاء ولم نغدر كما غدروا حتى اجتمعنا بسابور الجنود وقد ** شبت لنا ولهم نار لها شرر نلقي مساعير أبطالًا كأنهم ** جن نقارعهم ما مثلهم بشر نسقى ونسقيهم سمًا على حنق ** مستأنفي الليل حتى أسفر السحر قتلى هنالك لا عقل ولا قود ** منا ومنهم دماء سفكها هدر حتى تنحوا لنا عنها تسوقهم ** منا ليوث إذا ما أقدموا جسروا لم يغن عنهم غداة التل كيدهم ** عند الطعان ولا المكر الذي مكروا باتت كتائبنا تردى مسومةً ** حول المهلب حتى نور القمر هناك ولوا حزانًا بعدما فرحوا ** وحال دونهم الأنهار والجدر عبوا جنودهم بالسفح إذ نزلوا ** بكازرون فما عزوا ولا ظفروا وقد لقوا مصدقًا منا بمنزلة ** ظنوا بأن ينصروا فيها فما نصروا بدشت بارين يوم الشعب إذ لحقت ** أسد بسفك دماء الناس قد زئروا لاقوا كتائب لا يخلون ثغرهم ** فيهم على من يقاسي حربهم صعر المقدمين إذ ما خيلهم وردت ** والعاطفين إذا ما ضيع الدبر وفي جبيرين إذ صفوا بزحفهم ** ولوا خزايا وقد فلوا وقد قهروا والله ما نزلوا يومًا بساحتنا ** إلا أصابهم من حربنا ظفر ننفيهم با لقنا عن كل منزلة ** تروح منا مساعير وتبتكر ولوا حذارًا وقد هزوا أسنتنا ** نحو الحروب فما نجاهم الحذر صلت الجبين طويل الباع ذو فرح ** ضخم الدسيعة لا وان ولا غمر مجرب الحرب ميمون نقيبته ** لا يستخف ولا من رأيه البطر وفي ثلاث سنين يستديم بنا ** يقارع الحرب أطوارًا ويأتمر يقول إن غدًا مبد لناظره ** وفي الليالي وفي الأيام معتبر دعوا التتابع والإسراع وارتقبوا ** إن المحارب يستأني وينتظر حتى أتته أمور عندها فرج ** وقد تبين ما يأتي وما يذر لما زواهم إلى كرمان وانصدعوا ** وقد تقاربت الآجال والقدر سرنا إليهم بمثل الموج وازدلفوا ** وقبل ذلك كانت بيننا مئر وزادنا حنقًا قتلى نذكرها ** لا تستفيق عيون كلما ذكروا إذا ذكرنا جروزًا والذين بها ** قتلى مضى لهم حولان ما قبروا تأتي علينا حزازات النفوس فما ** نبقي عليهم وما يبقون إن قدروا ولا يقيلوننا في الحرب عثرتنا ** ولا نقيلهم يومًا إذا عثروا لا عذر يقبل منا دون أنفسنا ** ولا لهم عندنا عذر لو اعتذروا صفان بالقاع كالطودين بينهما ** كالبرق يلمع حتى يشخص البصر على بصائر كل غير تاركها ** كلا الفريقين تتلى فيهم السور يمشون في البيض والأبدان إذ وردوا ** مشي الزوامل تهدي صفهم زمر وشيخنا حوله منا ململمة ** حي من الأزد فيما نابهم صبر في موطن يقطع الأبطال منظره ** تشاط فيه نفوس حين تبتكر مازال منا رجال ثم نضربهم ** بالمشرفي ونار الحرب تستعر وباد كل سلاح يستعان به ** في حومة الموت إلا الصارم الذكر ندوسهم بعناجيج مجففة ** وبيننا ثم من صم القنا كسر يغشين قتلي وعقري ما بها رمق ** كأنما فوقها الجادي يعتصر قتلى بقتلى قصاص يستقاد بها ** تشفي صدور رجال طالما وتروا مجاوين بها خيلاُ معقرة ** للطير فيها وفي أجسادهم جزر في معرك تحسب القتلى بساحته ** أعجاز نخل زفته الريح ينعقر وفي مواطن قبل اليوم قد سلفت ** قد كان للأزد فيها الحمد والظفر في كل يوم تلاقى الأزد مفظعةً ** يشيب في ساعة من هولها الشعر والأزد قومي خيار القوم قد علنوا ** إذا قرومهم يوم الوغى خطر فيهم معاقل من عز يلاذ بها ** يومًا إذا شمرت حرب لها درر حي بأسيافهم يبغون مجدهم ** إن المكارم في المكروه تبتدر لولا المهلب للجيش الذي وردوا ** أنهار كرمان بعد الله ما صدروا إن اعتصمنا بحبل الله إذ جحدوا ** بالمحكمات ولم نكفر كما كفروا جاروا عن القصد والإسلام واتبعوا ** دينًا يخالف ما جاءت به النذر قالت طفيل بن عامر بن واثلة وهو يذكر قتل عبد ربه الكبير وأصحابه، ذهاب قطري في الأرض واتباعهم إياه ومراوغته إياهم: لقد مس منا عبد رب وجنده ** عقاب فأمسى سبيهم في المقاسم سما لهم بالجيش حتى أزاحهم ** بكرمان عن مثوى من الأرض ناعم وما قطري الكفر إلا نعامة ** طريد يدوي ليله غير نائم إذا فر منا هارب كان وجهه ** طريقًا سوى قصد الهدى والمعالم فليس بمنجيه الفرار وإن جرت ** به الفلك في لج من البحر دائم ذكر الخبر عن هلاك قطري وأصحابه قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت هلكة قطري وعبيدة بن هلال وعبد رب الكبير ومن كان معهم من الأزارقة ذكر سبب مهلكهم: وكان سبب ذلك أن أمر الذين ذكرنا خبرهم من الأزارقة لما تشتت بالاختلف الذي حدث بينهم بكرمان فصار بعضهم مع عبد ربه الكبير وبعضهم مع قطري ووهي أمر قطري، توجه يريد طبرستان، وبلغ أمره الحجاج، فوجه - فيما ذكر هشام عن أبي مخنف. عن يونس بن يزيد - سفيان بن الأبرد، ووجه معه جيشًا من أهل الشام عظيمًا في طلب قطري، فأقبل سفيان حتى أتى الري ثم أتبعهم، وكتب الحجاج إلى إسحاق بن محمد ابن الأشعث وهو على جيش لأهل الكوفة بطبرستان، أن اسمع وأطيع لسفيان. فأقبل إلى سفيان فسار معه في طلب قطري حتى لحقوه في شعب من شعاب طبرستان، فقاتلوه، فتفرق عنه أصحابه، ووقع عن دابته في أسفل الشعب فتد هدى حتى خر إلى أسفله، فقال معاوية بن محصن الكندي: رأيته حيث هوى ولم أعرفه، ونظرت إلى خمس عشرة امرأة عربية هن في الجمال والبزازة وحسن الهيئة كما شاء ربك، ما عدا عجوزًا فيهن، فحملت عليهن فصرفتهن إلى سفيان بن الأبرد. فلما دنوت بهن منه انتحت لي بسيفها العجوز فتضرب به عنقي فقطعت المغفر، وقطعت جلدةً من حلقي وأختلج السيف فأضرب به وجهها. فأصاب قحف رأسها، فوقعت ميتةً، وأقبلت بالفتيات حتى دفعتهن إلى سفيان وإنه ليضحك من العجوز. وقال: ما أردت إلى قتل هذه أخزاها الله - فقلت: أو ما رأيت أصلحك الله ضربتها إياي! والله إن كادت لتقتلني؛ قال: قد رأيت، فوالله ما ألومك على فعلك، أبعدها الله ويأتي قطريًا حيث تدهدى من الشعب علج من أهل البلد، فقال له قطري: اسقني من الماء - وقد كان اشتد عطشه - فقال: أعطني شيئًا حتى أسقيك، فقال: ويحك؛ والله ما معي إلا ما ترى من سلاحي، فأنا مؤتيكه إذا أتيني بماء، قال: لا، بل أعطنيه الآن، قال: لا، ولكن ائتني بماء قبل، فانطلق العلج حتى أشرف على قطري، ثم حدر عليه حجرًا عظيمًا من فوقه دهداه عليه، فأصاب إحدى وركيه فأوهته، وصاح بالناس، فأقبلوا نحوه. والعلج حينئذ لا يعرف قطريًا، غير أنه يظن أنه من أشرافهم لحسن هيئته، وكمال سلاحه، فدفع إليه نفر من أهل الكوفة فابتدروه فقتلوه، منهم سورة بن أبجر التميمي، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف، والصباح بن محمد بن الأشعث، وباذام مولى بني الأشعث، وعمر بن أبي الصلت بن كنارة مولى بني نصر بن معاوية، وهو من الدهاقين، فكل هؤلاء ادعوا قتله. فدفع إليهم أبو الجهم بن كنانة الكلبي - وكلهم يزعم أنه قاتله - فقال لهم: ادفعوه إلي حتى تصتلحوا، فدفعوه إليه. فأقبل به إلى إسحاق بن محمد - وهو على أهل الكوفة - ولم يأته جعفر لشئ كان بينه وبينه قبل ذلك - وكان لا يكلمه، وكان جعفر مع سفيان بن الأبرد، ولم يكن معه إسحاق. وكان جعفر على ربع أهل المدينة بالري، فلما مر سفيان بأهل الري انتخب فرسانهم بأمر الحجاج. فسار بهم معه، فلما أتى القوم بالرأس فاختصموا به إليه وهو في يدي أبي الجهم بن كنانة الكلبي، قال له: امض به أنت، ودع هؤلاء المختلفين، فخرج برأس قطري حتى قدم به على الحجاج، ثم أتى به عبد الملك بن مروان، فألحق في ألفين، وأعطى فطما - يعني أنه يفرض للصغار في الديوان - وجاء جعفر إلى سفيان فقال له: أصلحك الله! إن قطريًا كان أصاب والدي فلم يكن لي هم غيره. فاجمع بيني وبين هؤلاء الذين ادعوا قتله، فسلهم، ألم أكن أمامهم حتى بدرتهم فضربته ضربةً فصرعته، ثم جاؤوني بعد، فأقبلوا يضربونهم بأسيافهم! فإن أقروا لي بهذا فقد صدقوا، وإن أبوا فأنا أحلف بالله أني صاحبه، وإلا فليحلفوا بالله أنهم أصحابه الذين قتلوه، وأنهم لا يعرفون ما أقول، ولا حق لي فيه، قال: جئت الآن وقد سرحنا بالرأس. فانصرف عنه فقال له أصحابه: أما والله إنك لأخلق القوم أن تكون صاحبه. ثم إن سفيان بن الأبرد أقبل منصرفًا إلى عسكر عبيدة بن هلال، وقد تحصن في قصر بقومس، فحاصره فقاتله أيامًا. ثم إن سفيان بن الأبرد سار بنا إليهم حتى أحطنا بهم، ثم أمر مناديه فنادى فيهم: أيما رجل قتل صاحبه ثم خرج إلينا فهو آمن؛ فقال عبيدة بن هلال: لعمري لقد قام الأصم بخطبة ** لذي الشك منها في الصدور غليل لعمري لأن أعطيت سفيان بيعتي ** وفارقت ديني إنني لجهول إلى الله أشكو ما ترى بجيادنا ** تساوك هزلى مخهن قليل تعاورها القذاف من كل جانب ** بقومس حتى صعبهن ذلول فإن يك أفناها الحصار فربما ** تشحط فيما بينهن قتيل وقد كنا مما إن يقدن على الوجى ** لهن بأبواب القباب صهيل فحاصرهم حتى جهدوا، وأكلوا دوابهم، ثم إنهم خرجوا إليه فقاتلوه، فقتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحجاج، ثم دخل إلى دنباوند وطبرستان، فكان هنالك حتى عزله الحجاج قبل الجماجم. ذكر الخبر عن مقتل أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل بكير بن وشاح السعدي أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد: ذكر سبب قتله إياه. وكان سبب ذلك - فيما ذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد - أن أمية بن عبد الله وهو عامل عبد الملك بن مروان على خراسان، ولى بكيرًا غزو ما وراء النهر، وقد كان ولاه قبل ذلك طخارستان، فتجهز للخروج إليها، وأنفق نفقةً كثيرة، فوشى به إليه بحير بن ورقاء الصريمي على ما بينت قبل، فأمره أمية بالمقام. فلما ولاه غزو ماوراء النهر تجهز وتكلف الخيل والسلاح، وادان من رجال السغد وتجارهم، فقال بحير لأمية: إن صار بينك وبينه النهر ولقي الملوك خلع الخليفة ودعا إلى نفسه، فأرسل إليه أمية: أقم لعلي أغزو فتكون معي، فغضب بكير وقال: كأنه يضارني. وكان عتاب اللقوة الغداني استدان ليخرج مع بكير، فلما أقام أخذه غرماؤه، فحبس فأدى عنه بكير وخرج، ثم أجمع أمية على الغزو. قال: فأمر بالجهاز ليغزو بخارى، ثم يأتي موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ، فاستعد الناس وتجهزوا، واستخلف على الخراسان ابنه زيادًا، وسار معه بكير فعسكر بكشماهن، فأقام أيامًا، ثم أمر بالرحيل، فقال له بحير: إني لا آمن أن يتخلف الناس فقيل لبكير: فلتكن في الساقة ولتحشر الناس. قال: فأمره أمية فكان على الساقة حتى أتى النهر، فقال له أمية: إقطع يا بكير؛ فقال عتاب اللقوة الغداني: أصلح الله الأمير! إعبر ثم يعبر الناس بعدك. فعبر ثم عبر الناس، فقال أمية لبكير: قد خفت ألا يضبط ابني عمله وهو غلام حدث، فارجع إلى مرو فاكفنيها فقد وليتكها، فزين ابني وقم بأمره. فانتخب بكير فرسانًا من فرسان خراسان قد كان عرفهم ووثق بهم وعبر، ومضى أمية إلى بخارى وعلى مقدمته أبو خالد ثابت مولى خزاعة. فقال عتاب اللقوة لبكير لما عبر وقد مضى أمية: إن قتلنا أنفسنا وعشائرنا حتى ضبطنا خراسان، ثم طلبنا أميرًا من قريش يجمع أمرنا، فجاءنا أمير يلعب بنا يحولنا من سجن إلى سجن، قال: فما ترى؟ قال: إحرق هذه السفن. وامض إلى مرو فخلع أمية، وتقيم بمرو وتأكلها إلى يوم ما؛ قال: فقال الأحنف بن عبد الله العنبري: الرأي مارأى عتاب، فقال بكير: إني أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي، فقال: أتخاف عدم الرجال! أنا آتيك من أهل مرو بما شئت إن هلك هؤلاء الذين معك، قال: يهلك المسلون؛ قال: إنما يكفيك أن ينادي مناد: من أسلم رفعنا عنه الخراج فيأتيك خمسون ألفًا من المصلين أسمع لك من هؤلاء وأطوع؛ قال: فيهلك أمية ومن معه؛ قال: ولم يهلكون ولهم عدة وعدد ونجدة وسلاح ظاهر وأداة كاملة، ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين! فأحرق بكير السفن، ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أمية فحبسه، ودعا الناس إلى خلع أمية فأجابوه، وبلغ أمية، فصالح أهل بخارى على فدية قليلة، ورجع فأمر باتخاذ السفن، فاتخذت له وجمعت، وقال لمن معه من وجوه تميم: ألا تعجبون من بكير! إني قدمت خراسان فحذرته، ورفع عليه وشكا منه، وذكروا أموالًا أصابها، فأعرضت عن ذلك كله، ثم لم أفتشه عن شيء ولا أحد من عماله، ثم عرضت عليه شرطتي فأبى، فعفيته، ثم وليته فحذرته، فأمرته بالمقام وما كان ذلك إلا نظرًا له، ثم رددته إلى مرو، ووليته الأمر، فكفر ذلك كله، وكافأني بما ترون. فقال له قوم: أيها الأمير، لم يكن هذا من شأنه، إنما أشار عليه بإحراق السفن عتاب اللقوة، فقال: وما عتاب! وهل عتاب إلا دجاجة حاضنة، فبلغ قوله عتابًا، فقال عتاب في ذلك: إن الحواضن تلقاها مجففة ** غلب الرقاب على المنسوبة النجب تركت أمرك من جبن ومن خور ** وجئتنا حمقًا يا ألأم العرب لما رأيت جبال السغد معرضةً ** وليت موسى ونوحًا عكوة الذنب وجئت ذيخًا مغذى ما تكلمنا ** وطرت من سعف البحرين كالخرب أوعد وعيدك إني سوف تعرفني ** تحت الخوافق دون العارض اللجب يخب بي مشرف عار نواهقه ** يغشى الكتيبة بين العدو والخبب قال: فلما تهيأت السفن، عبر أمية وأقبل إلى مرو، وترك موسى بن عبد الله، وقال: اللهم إني أحسنت إلى بكير، فكفر إحساني، وصنع ما صنع، اللهم أكفنيه. فقال شماس بن دثار - وكان رجع من سجستان بعد قتل ابن خازم، فغزا مع أمية: أيها الأمير، أنا أكفيكه إن شاء الله. فقدمه أمية في ثمانمائة، فأقبل حتى نزل باسان وهي لبني نصر، وسار إليه بكير ومعه مدرك بن أنيف وأبوه مع شماس، فقال: أما كان في تميم أحد يحاربني غيرك! ولامه. فأرسل إليه شماس: أنت ألوم وأسوأ صنيع مني، لم تفي لأمية ولم تشكر له صنيعه بك؛ قدم فأكرمك ولم يعرض لك ولا لأحد من عمالك. قال: فبيته بكير ففرق جمعه وقال: لا تقتلوا منهم أحدًا، وخذوا سلاحهم، فكانوا إذا أخذوا رجلا سلبوه وخلوا عنه، فتفرقوا، ونزل شماس في قرية لطيئ يقال لها: بوينة، وقدم أمية فنزل كشماهن، ورجع إليه شماس بن دثار فقدم أمية ثابت بن قطبة مولى خزاعة، فلقيه بكير فأسر ثابتًا وفرق جمعه، وخلى بكير سبيل ثابت ليد كانت له عنده. قال: فرجع إلى أمية، فأقبل أمية بالناس، فقاتله بكير وعلى شرطة بكير أبو رستم الخليل بن أوس العبشمي، فأبلى يومئذ، فنادوه: يا صاحب شرطة عارمة - وعارمة جارية بكير - فأحجم، فقال له بكير: لا أبالك، لا يهدك نداء هؤلاء القوم، فإن للعارم فحل يمنعها، فقدم لوائك، فقاتلوا حتى انحاز بكير فدخل الحائط، فنزل السوق العتيقة، ونزل أمية باسان فكانوا يلتقون في ميدان يزيد، فانكشفوا يومًا، فحماهم بكير، ثم التقوا يومًا آخر في الميدان، فضرب رجل من بني تميم على رجله فجعل يسحبها، وهريم يحميه، فقال الرجل: اللهم أيدنا فأمدنا بالملائكة، فقال له هريم: أيها الرجل، قاتل عن نفسك، فإن الملائكة في شغل عنك، فتحامل ثم أعاد قوله: اللهم أمدنا بالملائكة، فقال هريم: لتكفن عني أو لأدعنك والملائكة، وحماه حتى ألحقه بالناس. قال: ونادى رجل من بني تميم: يا أمية، يا فاضح قريش؛ فآلى أمية إن ظفر به أن يذبحه، فظفر به فذبحه بين شرفتين من المدينة، ثم التقوا يومًا آخر، فضرب بكير بن وشاح ثابت بن قطبة على رأسه وانتمى: أنا ابن وشاح؛ فحمل حريث من قطبة أخو ثابت على بكير، فانحاز بكير، وانكشف أصحابه، وأتبع حريث بكيرًا حتى بلغ القنطرة، فناداه: أين يا بكير؟ فكر عليه، فضربه حريث على رأسه، فقطع المغفر، وعض السيف برأسه، فصرع، فاحتمله أصحابه، فأدخلوه المدينة. قال: فكانوا على ذلك يقاتلونهم، وكان أصحاب بكير يغدون متفضلين في ثياب مصبغة، وملاحف وأزر صفر وحمر، فيجلسون على نواحي المدينة يتحدثون، وينادي مناد: من رمى بسهم رمينا إليه برأس رجل من ولده وأهله؛ فلا يرميهم أحد. قال: فأشفق بكير، وخاف إن طال الحصار أن يخذله الناس، فطلب الصلحة، وأحب ذلك أيضًا أصحاب أمية لمكان عيالاتهم بالمدينة، فقالوا لأمية: صالحه - وكان أمية يحب العافية - فصالحه على أن يقضي عنه أربعمائة ألف، ويصل أصحابه ويوليه أيضًا أي كور خراسان شاء، ولا يسمع قول بحير فيه، وإن رابه منه ريب فهو آمن أربعين يومًا حتى يخرج عن مرو، فأخذ الآمان لبكير من عبد الملك، وكتب له كتابًا على باب سنجان، ودخل أمية بالمدينة. قال: وقوم يقولون: لم يخرج بكير مع أمية غازيًا، ولكن أمية لما غزا استخلفه على مرو فخلعه، فرجع أمية فقاتله، ثم صالحه ودخل مرو ووفى أمية لبكير. وعاد إلى ما كان عليه من الإكرام وحسن الإذن، وأرسل إلى عتاب اللقوة، فقال: أنت صاحب المشورة؛ فقال: نعم أصلح الله الأمير! قال: ولم؟ قال: خف ما كان في يدي، وكثر ديني، وأعديت على غرامائي؛ قال: ويحك! فضربت بين المسلمين، وأحرقت السفن والمسلمون في بلاد العدو، وما خفت الله! قال: قد كان ذلك، فاستغفر الله، قال: كم دينك؟ قال: عشرون ألفًا؛ قال: تكف عن غش المسلمين وأقضي دينك؟ قال: نعم، جعلني الله فداك! قال: فضحك أمية وقال: إن ظني بك غير ما تقول، وسأقضي عنك. فأدى عنه عشرين ألفًا. وكان أمية سهلًا لينًا سخيًا، لم يعط أحد من عمال خراسان بها مثل عطاياه؛ قال: وكان مع ذلك ثقيلاُ عليهم، كان فيه زهو شديد، وكان يقول: ما أكتفي بخراسان وسجستان لمطبخي. وعزل أمية بحيرًا عن شرطته، وولاها عطاء بن أبي السائب. وكتب إلى عبد الملك بما كان من أمر بكير وصفحه عنه. فضرب عبد الملك بعثًا إلى أمية بخراسان، فتجاعل الناس، فأعطى شقيق بن سليل الأسدي جعالته رجلًا من جرم، وأخذ أمية الناس بالخراج، واشتد عليهم فيه فجلس بكير يومًا في المسجد وعنده ناس من بني تميم، فذكروا شدة أمية على الناس، فذموه، وقالوا: صلت علينا الدهاقين في الجباية وبحير وضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية ابن قدامة في المسجد، فنقل بحير ذلك إلى أمية فكذبه فادعى شهادة هؤلاء، وادعى شهادة مزاح بن أبي المجشر السلمي، فدعا أمية مزاحمًا فسأله فقال: إنما كان يمزح، فأعرض عنه أمية، ثم أتاه بحير فقال: أصلح الله الأمير! إن بكيرًا والله قد دعاني إلى خلعك، وقال: لو لا مكانك لقتلت هذا القرشي وأكلت خراسان؛ فقال أمية: ما أصدق بهذا وقد فعل ما فعل؛ فآمنته ووصلته. قال: فأتاه بضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية فشهدا أن بكيرًا قال لهما: لو أطعتماني لقتلت هذا القرشي المخنث، وقد دعانا إلى الفتك بك. فقال أمية: أنتم أعلم وما شهدتم، وما أظن هذا به وإن تكركه، وقد شهدتم بما شهدتم عجز؛ وقال لحاجبه عبيدة ولصاحب حرسه عطاء بن أبي السائب: إذ دخل بكير، وبدل وشمردل ابنا أخيه، فنهضت فخذوهم. وجلس أمية للناس، وجاء بكير وابنا أخيه، فلما جلسوا قام أمية عن سريره فدخل، وخرج الناس وخرج بكير، فحبسوه وابني أخيه، فدعا أمية ببكير فقال: أنت القائل كذاوكذا؟ قال: تثبت أصلحك الله ولا تسمعن قول ابن المحلوقة! فحبسه، وأخذ جاريته العارمة فحبسها، وحبس الأحنف ابن عبد الله العنبري، وقال: أنت ممن أشار على بكير بالخلع. فلما كان من الغد أخرج بكيرًا فشهد عليه بحير وضرار وعبد العزيز بن جارية أنه دعاهم إلى خلعك والفتك به، فقال: أصلحك الله! تثبت فإن هؤلاء أعدائي، فقال أمية لزياد بن عقبة - وهو رأس أهل العالية - ولابن والآن العدوي - وهو يومئذ من رؤساء بني تميم - ليعقوب بن خالد الذهلي: أتقتلونه؟ فلم يجيبوه؛ فقال لبحير: أتقتله؟ قال: نعم، فدفعه إليه. فنهض يعقوب بن القعقاع الأعلم الأزدي من مجلسه - وكان صديقًا لبكير - فاحتضن أمية، وقال: أذكرك الله أيها الأمير في بكير، فقد أعطيته ما أعطيته من نفسك، قال: ما يقتله إلا قومه، شهدوا عليه، فقال: عطاء بن أبي السائب الليثي وهو على حرس أمية: خل عن الأمير؛ قال: لا، فضربه عطاء بقائم السيف، فأصاب أنفه فأدماه، فخرج، ثم قال لبحير: يا بحير، إن الناس أعطوا بكيرًا ذمتهم في صلحه، وأنت منهم، فلا تخفر ذمتك؛ قال: يا بعقوب، ما أعطيته ذمة، ثم أخذ بحير سيف بكير الموصول الذي كان أخذه من أسوار الترجمان ترجمان ابن خازم، فقال له بكير: يا بحير، إنك تفرق أمر بني أسد إن قتلتني، فدع هذا القرشي يلي مني ما يريد؛ فقال بحير: لا والله يابن الأصبهانية لا تصلح بنو سعد ما دمنا حيين، قال: فشأنك يا بن المحلوقة، فقتله، وذلك يوم جمعة. وقتل أمية ابني أخي بكير، ووهب جارية بكير العارمة لبحير، وكلم أمية في الأحنف بن عبد الله العنبري، فدعا به من السجن، فقال: وأنت من أشار على بكير، وشتمه، وقال: قد وهبتك لهؤلاء. قال: ثم وجه أمية رجلًا من خزاعة إلى موسى بن عبد الله بن خازم، فقتله عمرو بن خالد بن حصين الكلابي غيلة، فتفرق جيشه؛ فاستأمن طائفة منهم موسى، فصاروا معه، ورجع بعضهم إلى أمية. وفي هذه السنة عبر النهر، نهر بلخ أمية للغزو، فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعدما أشرفوا على الهلاك؛ فانصرف والذين معه من الجند إلى مرو. وقال عبد الرحمن بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة يهجو أمية: ألا أبلغ أمية أن سيجزي ** ثواب الشر إن له ثوابا ومن ينظر عتابك أو يرده ** فلست بناظر منك العتابا محا المعروف منك خلال سوء ** منحت صنيعها بابًا فبابا ومن سماك إذا قسم الأسامي ** أمية إذ ولدت فقد أصابا قال أبو جعفر: وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، وهو أمير على المدينة، وكان على الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان أمية ابن عبد الله بن خالد بن أسيد. وحدثني أحمد بن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: حج أبان بن عثمان وهو على المدينة بالناس حجتين سنة ست وسبعين وسنة سبع وسبعين. وقد قيل: إن هلاك شبيب كان في سنة ثمان وسبعين، وكذلك قيل في هلاك قطري وعبيدة بن هلال وعبد ربه الكبير. وغزا في هذه السنة الصائفة الوليد. ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ذكر الخبر عن الكائن في هذه السنة من الأحداث الجليلة في ذلك عزل عبد الملك بن مروان أمية بن عبد الله عن خراسان وضمه خراسان وسجستان إلى الحجاج بن يوسف. فلم ضم ذلك إليه فرق فيه عماله. ذكر الخبر عن العمال الذين ولاهم الحجاج خراسان وسجستان وذكر سبب في توليته من ولاه ذلك وشيئا منه ذكر أن الحجاج لما فرغ من شبيب ومطرف شخص من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل - وقد قيل: إنه استخلف عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمي، ثم عزله، وجعل مكانه المغيرة بن عبد الله - فقدم عليه المهلب بها، وقد فرغ من أمر الأزارقة. فقال هشام: حدثني أبو مخنف عن أبي المخارق الراسبي، أن المهلب بن أبي صفرة لما فرغ من الأزارقة قدم على الحجاج - وذلك سنة ثمان وسبعين - فأجلسه معه، ودعا بأصحاب البلاء من أصحاب المهلب، فأخذ الحجاج لا يذكر له المهلب رجلًا من أصحابه ببلاء حسن إلا صدقه الحجاج بذلك، فحملهم الحجاج وأحسن عطاياهم، وزاد في أعطياتهم، ثم قال: هؤلاء أصحاب الفعال، وأحق بالأموال، هؤلاء حماة الثغور، وغيظ الأعداء. قال هشام عن أبي مخنف: قال يونس بن أبي إسحاق: وقد كان الحجاج ولى المهلب سجستان مع خراسان، فقال له المهلب: إلا أدلك على رجل هو أعلم بسجستان مني، وقد كان ولي كابا وزابل، وجباهم وقاتلهم وصالحهم؟ قال له: بلى، فمن هو؟ قال عبيد الله بن أبي بكرة. ثم إنه بعث المهلب على خراسان وعبيد الله بن أبي بكرة على سجستان، وكان العامل هناك أمية بن هبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، وكان عاملًا لعبد الملك بن مروان، لم يكن للحجاج شيء من أمره حين بعث على العراق حتى كانت تلك السنة، فعزله عبد الملك وجمع سلطانه للحجاج، فمضى المهلب إلى خراسان، وعبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، فمكث عبيد الله بن أبي يكرة بقية سنته. فهذه رواية أبي مخنف عن أبي المخارق. وأما علي بن محمد فإنه ذكر عن المفضل بن محمد أن خراسان وسجستان جمعتا للحجاج مع العراق في أول سنو ثمان وسبعين بعد ما قتل الخوارج، فاستعمل عبيد الله بن أبي بكرة على خراسان، والمهلب بن أبي صفرة على سجستان، فكره المهلب سجستان، فلقي عبد الرحمن بن عبيد طارق العبشمي - وكان على شرطة الحجاج - فقال: إن الأمير ولاني سجستان، وولى ابن أبي بكرة خراسان، وأنا أعرف بخراسان منه، قد عرفتها أيام الحكم بن عمرو الغفاري، وابن أبي بكرة أقوى على سجستان مني، فكلم الأمير يحولني إلى خراسان، وابن أبي بكرة إلى سجستان؛ قال: نعم، وكلم زاذان فروخ يعينني؛ فكلمه، فقال: نعم، فقال عبد الرحمن بن عبيد للحجاج: وليت المهلب سجستان وابن أبي بكرة أقوى عليها منه، فقال زاذان فروخ: صدق، قال: إنا قد كتبنا عهده؛ قال زاذان فروخ: ما أهون تحويل عهده! فحول ابن أبي بكرة إلى سجستان، والمهلب إلى خراسان، وأخذ المهلب بألف ألف من خراج الأهواز، وكان ولاها إياه خالد بن عبد الله، فقال المهلب لابنه المغيرة: إن خالدًا ولاني الأهواز، وولاك إصطخر، وقد أخذني الحجاج بألف ألف، فنصف علي ونصف عليك، ولم يكن عند المهلب مال، كان إذا عزل استقرض؛ قال: فكلم أبا معاوية مولى عبد الله بن عامر - وكان أبو ماوية على بيت مال عبد الله بن عامر - فأسلف المهلب ثلثمائة ألف، فقالت خيرة القشيرية امرأة المهلب: هذا لا يفي بما عليك؛ فباعت حليًا لها ومتاعًا، فأكمل خمسمائة ألف، وحمل المغيرة إلى أبيه خمسمائة ألف فحملها إلى الحجاج، ووجه المهلب ابنه حبيبًا على مقدمته، فأتى الحجاج فودعه، فأمر الحجاج له بعشرة آلاف وبغلة خضراء، قال: فسار حبيب على تلك البغلة حتى قدم خراسان هو وأصحابه على البريد، فسار عشرين يومًا، فتلقاهم حين دخلوا حمل حطب، فنفرت البغلة فتعجبوا منها ومن نفارها بعدذلك التعب وشدة السير. فلم يعرض لأمية ولا لعماله، وأقام عشرة أشهر حتى قدم عليه المهلب سنة تسع وسبعين. وحج بالناس في هذه السنة الوليد بن عبد الملك، حدثني بذلك أحمد ابن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكان أمير المدينة في هذه السنة أبان بن عثمان، وامير الكوفة والبصرة وخراسان وسجستان وكرمان الحجاج بن يوسف، وخليفته بخراسان المهلب، وبسجستان عبيد الله ابن أبي بكرة، وعلى فضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة - فيما قيل - موسى بن أنس. وأغزى عبد الملك في هذه السنة يحيى بن الحكم. ثم دخلت سنة تسع وسبعين ذكر ما كان فيها من الأحداث الجليلة في ذلك ما أصاب أهل الشام في هذه السنة من الطاعون حتى كادوا يفنون من شدته، فلم يغز في تلك السنة أحد - فيما قيل - للطاعون الذي كان بها وكثرة الموت. وفيها - فيما قيل -: أصابت الروم أهل أنطاكية. ذكر الخبر عن غزو عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل وفيها غزا عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل. ذكر الخبر عن غزوته إياه قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي المخارق الراسبي، قال: لما ولى الحجاج المهلب خراسان، وعبيد الله بن أبي بكرة سجستان، مضى المهلب إلى خراسان وعبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، وذلك في سنة ثمان وسبعين، فمكث عبيد الله بن أبي بكرة بقية سنته. ثم إنه غزا رتبيل وقد كان مصالحًا، وقد كانت العرب قبل ذلك تأخذ منه خراجًا، وربما امتنع فلم يفعل، فبعث الحجاج إلى عبيد الله بن أبي بكرة أن ناجزه بمن معك من المسلمين فلا ترجع حتى تستبيح أرضه، وتهدم قلاعه، وتقتل مقاتلته، وتسبي ذريته. فخرج بمن معه من المسلمين من أهل الكوفة وأهل البصرة، وكان على أهل الكوفة شريح بن هانئ الحارثي ثم الضباني، وكان من أصحاب علي، وكان عبيد الله على أهل البصرة، وهو أمير الجماعة، فمضى حتى وغل في بلاد رتبيل، فأصاب من البقر والغنم والأموال ماشاء وهدم قلاعًا وحصونًا، وغلب على أرض من أرضهم كثيرة، وأصحاب رتبيل من الترك يخلون لهم عن أرض بعد أرض، حتى أمعنوا في بلادهم ودنوا من مدينتهم، وكانوا منها ثمانية عشر فرسخًا، فأخذوا على المسلمين العقاب والشعاب، وخلوهم والرساتيق، فسقط في أيدي المسلمين، وظنوا أن قد هلكوا، فبعث ابن أبي بكرة إلى شريح بن هانئ: إني مصالح القوم على أن أعطيهم مالًا، ويخلوا بيني وبين الخروج، فأرسل إليهم فصالحهم على سبعمائة ألف درهم، فلقيه شريح فقال: إنك لا تصالح على شئ إلا حسبه السلطان عليكم في أعطياتكم، قال: لو منعنا العطاء ما حيينا كان أهون علينا من هلاكنا؛ قال شريح: والله لقد بلغت سنًا، وقد هلكت لداتي، ما تأتي على ساعة من ليل أو نهار فأظنها تمضي حتى أموت، ولقد كنت أطلب الشهادة منذ زمان، ولئن فاتتني اليوم ما إخالني مدركها حتى أموت، وقال: يا أهل الإسلام، تعاونوا على عدوكم؛ فقال له ابن أبي بكرة: إنك شيخ قد خرفت، فقال شريح: إنما حسبك أن يقال: بستان ابن أبي بكرة وحمام ابن أبي بكرة، يا أهل الإسلام، من أراد منكم الشهادة فإلي. فاتبعه ناس من المتطوعة غير كثير، وفرسان الناس وأهل الحفاظ، فقاتلوا حتى أصيبوا إلا قليلا، فجعل شريح يرتجز مومئذ ويقول: أصبحت ذا بث أقاسي الكبرا ** قد عشت بين المشركين أعصرا ثمت أدركت النبي المنذرا ** وبعده صيقه وعمرا ويوم مهران ويوم تسترا ** والجمع في صفينهم والنهرا وبا جميرات مع المشقرا ** هيهات ما أطول هذا عمرا فقاتل حتى قتل في ناس من أصحابه، ونجا من نجا، فخرجوا من بلاد رتبيل حتى خرجوا منها، فاستقبلهم من خرجوا إليهم من المسلمين بالأطمعة، فإذا أكل أحدهم وشبع مات، فلما رأى ذلك الناس حذروا يطعمونهم، ثم جعلوا يطعمونهم السمن قليلا قليلا، حتى استمرءوا. وبلغ ذلك الحجاج، فأخذه ما تقدم وما تأخر، وبلغ ذلك منه كل مبلغ، وكتب إلى عبد الملك: أما بعد، فإن جند أمير المؤمنين الذي بسجستان أصيبوا فلم ينج منهم إلا القليل، وقد اجترأ العدو بالذي أصابه على أهل الإسلام فدخلوا بلادهم، وغلبوا على حصونهم وقصورهم، وقد أردت أن أوجه إليهم جندًا كثيفًا من أهل المصرين، فأحببت أن أستطلع رأى أمير المؤمنين في ذلك، فإن رأى لي بعثة ذلك الجند أمضيته، وإن لم ير ذلك فإن أمير المؤمنين أولى بجنده، مع أني أتخوف إن لم يأت رتبيل ومن معه من المشركين جند كثيف عاجلا أن يستولوا على ذلك الفرج كله. وفي هذه السنة قدم المهلب خراسان أميرًا، وانصرف عنها أمية بن عبد الله، وقيل استعفى شريح القاضي من القضاء في هذه السنة، وأشار بأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، فأعفاه الحجاج وولى أبا بردة. وحج بالناس في هذه السنة - فيما حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر - أبان بن عثمان، وكذلك قال الواقدي وغيره من أهل السير. وكان أبان هذه السنة أميرًا على المدينة من قبل عبد الملك بن مروان وعلى العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف. وكان على خراسان المهلب من قبل الحجاج وقيل: إن المهلب كان على حربها، وابنه المغيرة على خراجها، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس ثم دخلت سنة ثمانين ذكر الأحداث الجليلة التي كانت في هذه السنة وفي هذه السنة جاء - فيما حدثت عن ابن سعد، عن محمد بن عمر الواقدي - سيل بمكة ذهب بالحجاج، فغرقت بيوت مكة فسمى ذلك العام عام الجحاف، لأن ذلك السيل جحف كل شئ مر به. قال محمد بن عمر: حدثني محمد بن رفاعة بن ثعلبة، عن أبيه، عن جده، قال: جاء السيل حتى ذهب بالحجاج ببطن مكة، فسمى لذلك عام الجحاف، ولقد رأيت الإبل عليها الحمولة والرجال والنساء تمر بهم ما لأحد فيهم حيلة، وإني لأنظر إلى الماء قد بلغ الركن وجاوزه. وفي هذه السنة كان بالبصرة طاعون الجارف، فيما زعم الواقدي. ذكر خبر غزو المهلب ما وراء النهر وفي هذه السنة قطع المهلب نهر بلخ فنزل على كس، فذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد وغيره أنه كان على مقدمة المهلب حين نزل على كس أبو الأدهم زياد بن عمرو الزماني في ثلاثة آلاف وهم خمسة آلاف إلا أن أبا الأدهم كان يغني غناء ألفين في البأس والتدبير والنصيحة. قال: فأتى المهلب وهو نازل على كس ابن عم ملك الختل، فدعاه إلى غزو الختل، فوجه معه ابنه يزيد، فنزل في عسكره، ونزل ابن عم الملك - وكان الملك يومئذ اسمه السبلي في عسكره على ناحية، فبيت السبل ابن عمه، فكبر عي عسكره، فظن ابن عم السبل أن العرب قد غدروا به، وأنهم خافوه. إلى الغدر حين اعتزل عسكرهم، فأسره السبل، فأتى به قلعته فقتله. قال: فأطاف يزيد بن المهلب بقلعة السبل، فصالحوه على فدية حملوها إليه، ورجع إلى المهلب فأرسلت أم الذي قتله السبل إلى أم السبل: كيف ترجين بقاء السبل بعد قتل ابن عمه، وله سبعة إخوة قد وترهم! وأتت أم واحد فأرسلت إليها: إن الأسد تقل أولادها، والخنازير كثير أولادها. ووجه المهلب ابنه حبيبًا إلى ربنجن فوافى صاحب بخارى في أربعين ألفًا، فدعا رجل من المشركين إلى المبارزة، فبرز له جبلة غلام حبيب، فقتل المشرك، وحمل على جمعهم، فقتل منهم ثلاثة نفر، ثم رجع ورجع العسكر، ورجع العدو إلى بلادهم، ونزلت جماعة من العدو قرية، فسار إليهم حبيب في أربعة آلاف، فقاتلهم فظفر بهم، فأحرقها، ورجع إلى أبيه فسميت المحترقة. ويقال إن الذي أحرقها جبلة غلام حبيب قال: فمكث المهلب سنتين مقيمًا بكس، فقيل له: لو تقدمت إلى السغد وما وراء ذلك! قال: ليت حظي من هذه الغزوة سلامة هذه الجند، حتى يرجعوا إلى مرو سالمين. قال: وخرج رجل من العدو بومًا فسأله البراز، فبرز إليه هريم بن عدي أبو خالد بن هريم وعليه عمامة قد شدها فوق البيضة، فانتهى إلى جدول، فجاوله المشرك ساعة فقتله هريم وأخذ سلبه، فلامه المهلب، وقال: لو أصبت ثم أمددت بألف فارس ما عد لوك عندي، واتهم المهلب وهو بكس قومًا من مضر فحبسهم بها، فلما قفل وصار صلح خلاهم، فكتب إليه الحجاج: إن كنت أصبت بحبسهم فقد أخطأت في تخليتهم؛ وإن كنت أصبت بتخليتهم فقد ظلمتهم إذ حبستهم. فقال المهلب: خفتهم فحبستهم، فلما أمنت خليتهم. وكان فيمن حبس عبد الملك بن أبي شيخ القشيري. ثم صالح المهلب أهل كس على فدية، فأقام ليقبضها، وأتاه كتاب ابن الأشعث بخلع الحجاج ويدعوه إلى مساعدته على خلعه، فبعث بكتاب ابن الأشعث إلى الحجاج. تسيير الجنود مع ابن الأشعث لحرب رتبيل وفي هذه السنة وجه الحجاج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى سجستان لحرب رتبيل صاحب الترك؛ وقد اختلف أهل السير في سبب توجيهه إياه إليها، وأين كان عبد الرحمن يوم ولاه الحجاج سجستان وحرب رتبيل؛ فأما يونس بن أبي إسحاق - فيما حدث هشام، عن أبي مخنف عنه - فإنه ذكر أن عبد الملك لما ورد عليه كتاب الحجاج بن يوسف بخبر الجيش الذي كان مع عبيد الله بن أبي بكرة في بلاد رتبيل وما لقوا بها كتب إليه: أما بعد: فقد أتاني كتابك تذكر فيه مصاب المسلمين بسجستان، وأولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وعلى الله ثوابهم وأما ما أردت أن يأتيك فيه من توجيه الجنود وإمضائها إلى ذلك الفرج الذي أصيب فيه المسلمون أو كفها، فإن رأيي في ذلك أن تمضي رأيك راشدًا موفقًا. وكان الحجاج وليس بالعراق رجل أبغض إليه من عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث، وكان يقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله. قال أبو مخنف: فحدثني نمير بن وعلة الهمداني، ثم اليناعي عن الشعبي، قال: كنت عند الحجاج جالسًا حين دخل عليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فلما رآه الحجاج قال: انظر إلى مشيته، والله لهممت أن أضرب عنقه. قال: فلما خرج عبد الرحمن خرجت فسبقته وانتظرته على باب سعيد بن قيس السبيعي، فلما انتهى إلي قلت: ادخل بنا الباب، إني أريد أن أحدثك حديثًا هو عندك بأمانة الله أن تذكره ما عاش الحجاج. فقال: نعم، فأخبرته بمقالة الحجاج له؛ فقال: وأنا كما زعم الحجاج إن لم أحاول أن أزيله عن سلطانه، فأجهد الجهد إذ طال بي وبه بقاء. ثم إن الحجاج أخذ في جهاز عشرين ألف رجل من أهل الكوفة، وعشرين ألف رجل من أهل البصرة، وجد في ذلك وشمر، وأعطى الناس أعطياتهم كملًا وأخذهم بالخيول الروائع، والسلاح الكامل، وأخذ في عرض الناس، ولا يرى رجلا تذكر منه شجاعة إلا أحسن معونته، فمر عبيد الله بن أبي محجن الثقفي على عباد بن الحصين الحبطي، وهو مع الحجاج يريد عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي، وهو يعرض الناس، فقال عباد: ما رأيت فرسًا أروع ولا أحسن من هذا، وإن الفرس قوة وسلاح وإن هذه البغلة علنداة، فزاده الحجاج خمسين وخمسمائة درهم، ومر به عطية العنبري، فقال له الحجاج؛ يا عبد الرحمن، أحسن إلى هذا فلما استتب له أمر ذينك الجندين، بعث الحجاج عطارد بن عمر التميمي فعسكر بالأهواز، ثم بعث عبيد الله بن حجر بن ذي الجوشن العامري من بني كلاب. ثم بدا له، فبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وعزل عبيد الله بن حجر، فأتى الحجاج عمه إسماعيل بن الأشعث، فقال له: لا تبعثه فإني أخاف خلافه، والله ما جاز جسر الفرات قط فرأى لوال من الولاة عليه طاعة وسلطانًا. فقال الحجاج: ليس هنالك، هولى أهيب وفي أرغب من أن يخالف أمري، أو يخرج من طاعتي؛ فأمضاه على ذلك الجيش، فخرج بهم حتى قدم سجستان ينة ثمانين؛ فجمع أهلها حين قدمها. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الزبير الأرحبي - رجل من همدان كان معه - أنه صعد منبرها فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن الأمير الحجاج ولاني ثغركم، وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم وأباد خياركم، فإياكم أن يتخلف منكم رجل فيحل بنفسه العقوبة، اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا به مع الناس. فعسكر الناس كلهم في معسركهم ووضعت له الأسواق، وأخذ الناس بالجهاز والهيئة بآلة الحرب، فبلغ ذلك رتبيل، فكتب إلى عبد الرحمن بن محمد يعتذر إليه من مصاب المسلمين ويخبره أنه كان لذلك كارهًا، وأنهم ألجئوه إلى قتالهم، ويسأله الصلح ويعرض عليه أن يقبل منه الخراج، فلم يجبه، ولم يقبل منه. ولم ينشب عبد الرحمن أن سار في الجنود حتى دخل أول بلاده، وأخذ رتبيل يضم إليه جنده، ويدع له الأرض رستاقًا رستاقًا، وحصنًا حصنًا، وطفق ابن الأشعث كلما حوى بلدًا بعث إليه عاملا، وبعث معه أعوانًا، ووضع البرد فيما بين كل بلد وبلد، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى إذا جاز من أرضه أرضًا عظيمة، وملأ يديه من البقر والغنم والغنائم العظيمة، حبس الناس عن الوغول في أرض رتبيل وقال: نكتفي بما أصبناه العام من بلادهم حتى نجبيها ونعرفها، وتجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزل نتنقصهم في كل عام طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم، وفي أقصى بلادهم، وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله. ثم كتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه من بلاد العدو، وبما صنع الله للمسلمين، وبهذا الرأي الذي رآه لهم. وأما غير يونس بن أبي إسحاق وغير من ذكرت الرواية عنه في أمر ابن الأشعث فإنه قال في سبب ولايته سجستان ومسيره إلى بلاد رتبيل غير الذي رويت عن أبي مخنف، وزعم أن السبب في ذلك كان أن الحجاج وجه هميان بن عدى السدوسي إلى كرمان، مسلحة لها ليمد عامل سجستان والسند إن احتاجا إلى مدد، فعصى هميان ومن معه، فوجه الحجاج بن الأشعث في محاربته، فهزمه، وأقام بموضعه. ومات عبيد الله بن أبي بكرة، وكان عاملًا على سجستان، فكتب الحجاج عهد ابن الأشعث عليها، وجهز إليها جيشًا أنفق عليهم ألفى ألف سوى أعطياتهم، كان يدعى جيش الطواويس، وأمره بالإقدام على رتبيل. وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، كذلك حدثن أجمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قال محمد بن عمر الواقدي. وقال بعضهم: الذي حج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الملك وكان على المدينة في هذه السنة آبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان المهلب بن أبي صفرة من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس وأغزى عبد الملك في هذه السنة ابنه الوليد. ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ذكر ما كان فيها من الأحداث ففي هذه السنة كان فتح قاليقلا، حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي ابن محمد، قال: أغزى عبد الملك سنة إحدى وثمانين ابنه عبيد الله بن عبد الملك، ففتح قاليقلا. ذكر الخبر عن مقتل بحير بن ورقاء بخراسان وفي هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصريمي بخراسان. ذكر الخبر عن مقتله وكان سبب قتله أن بحيرًا كان هو الذي تولى قتل بكير بن وشاح بأمر أمية بن عبد الله إياه بذلك، فقال عثمان بن رجاء بن جابر بن شداد أحد بني عوف بن سعد من الأبناء يحض رجلا من الأبناء من آل بكير بالوتر: لعمري لقد أغضبت عينًا على القذى ** وبت بطينا من رحيق مروق وخليت ثأرًا طل واخترت نومة ** ومن شرب الصهباء بالوتر يسبق فلو كنت من عوف بن سعد ذؤابة ** تركت بحيرًا في دم متر قرق فقل لبحير نم ولا تخش ثائرًا ** بعوف فعوف أهل شاة حبلق دع الضأن يومًا قد سبقتم بوتركم ** وصرتم حديثًا بين غرب ومشرق وهبوا فلوا أمسى بكير كعهده ** صحيحًا لغاداهم بجأواء فيلق وقال أيضًا: فلو كان بكر بارزًا في أداته ** وذي العرش لم يقدم عليه بحير ففي الدهر إن أبقاني الدهر مطلب ** وفي الله طلاب بذاك جدير وبلغ بحيرًا أن الأنباء يتوعدونه، فقال: توعدني الأنباء جهلًا كأنما ** يرون فنائي مقفرًا من بني كعب رفعت له كفي بحد مهند ** حسام كلون الملح ذي رونق عضب فذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد، أن سبعة عشر رجلا من بني عوف بن كعب بن سعد تعاقدوا على الطلب بدم بكير، فخرج فتى منهم يقال له الشمردل من البادية حتى قدم خراسان، فنظر إلى بحير واقفًا، فشد عليه فطعنه فصرعه، فظن أنه قد قتله، وقال الناس: خارجي، فراكضهم، فعثر فرسه فندر عنه فقتل. ثم خرج صعصعة بن حرب العوفي، ثم أحد بني جندب، من البادية وقد باع غنيمات له، واشترى حمارًا، ومضى إلى سجستان فجاور قرابةً لبحير هنالك ولا طفهم، وقال: أنا رجل من بني حنيفة من أهل اليمامة، فلم يزل يأتيهم ويجالسهم حتى أنسوا به، فقال لهم: إن لي بخراسان ميراثًا قد غلبت عليه، وبلغني أن بحيرًا عظيم القدر بخراسان، فاكتبوا لي إليه كتابًا يعينني على طلب حقي، فكتبوا إليه، فخرج فقدم مرو والمهلب غاز. قال: فلقي قومًا من بني عوف، فأخبرهم أمره، فقام إليه مولى لبكير صيقل، فقبل رأسه، فقال له صعصعة: اتخذ لي خنجرًا، فعمل له خنجرًا وأحماه وغمسه في لبن أتان مرارًا، ثم شخص من مرو فقطع النهر حتى أتى عسكر المهلب وهو بأخرون يومئذ، فلقى بحيرًا بالكتاب، وقال: إني رجل من بني حنيفة، كنت من أصحاب ابن أبي بكرة، وقد ذهب مالي بسجستان، ولي ميراث بمرو، فقدمت لأبيعه، وأرجع إلى اليمامة قال: فأمر له بنفقة وأنزله معه، وقال له: استعن بي على ما أحببت، قال: أقيم عندك حتى يقفل الناس، فأقام شهرًا أو نحوًا من شهر يحضر معه باب المهلب ومجلسه حتى عرف به، قال: وكان بحير يخاف الفتك به، ولا يأمن أحدًا، فلما قدم صعصعة بكتاب أصحابه قال: هو رجل من بكر بن وائل، فأمنه، فجاء يومًا وبحير جالس في مجلس المهلب، عليه قميص ورداء ونعلان، فقعد خلفه، ثم دنا منه، فأكب عليه كأنه يكلمه، فوجأه بخنجره في خاصرته، فغيبه في جوفه، فقال الناس: خارجي!، فنادى: يا لثارات بكير، أنا ثائر ببكير! فأخذه أبو العجفاء بن أبي الخرقاء، وهو يومئذ على شرط المهلب، فأتى به المهلب فقال له: بؤسًا لك! ما أدركت بثأرك، وقتلت نفسك، وما على بحير بأس، فقال: لقد طعنته طعنةً لو قسمت بين الناس لماتوا، ولقد وجدت ريح بطنه في يدي، فحبسه فدخل عليه السجن قوم من الأبناء فقبلوا رأسه. قال: ومات بحير من غد عند ارتفاع النهار، فقيل لصعصعة: مات بحير، فقال: اصنعوا بي الآن ما شئتم، وما بدا لكم، أليس قد حلت نذور نساء بني عوف، وأدركت بثأري! لا أبالي ما لقيت، أما والله لقد أمكني ما صنعت خاليًا غير مرة، فكرهت أن أقتله سرًا؛ فقال المهلب: ما رأيت رجلا أسخى نفسًا بالموت صبرًا من هذا؛ وأمر بقتله أبا سويقة ابن عم لبجير، فقال له أنس بن طلق: ويحك! قتل بحير فلا تقتلوا هذا، فأبى وقتله، فشمه أنس وقال آخرون: بعث به المهلب إلى بحير قبل أن يموت، فقال له أنس ابن طلق العبشمي: يا بحير، إنك قتلت بكيرًا، فاستحي هذا، فقال بحير: أدنوه مني، لا والله لا أموت وأنت حي، فأدنوه منه، فوضع رأسه بين رجليه وقال: اصبر عفاق، إنه شر باق، فقال ابن طلحة لبحير: لعنك الله! أكلمك فيه وتقتله بين يدي! فطعنه بحير بسيفه حتى قتله ومات بحير، فقال المهلب: إنا لله وإنا إليه راجعون، غزوة أصيب فيها بحير؛ فغضب عوف بن كعب والأبناء وقالوا: علام قتل صاحبنا، وإنما طلب بثأره! فنازعتهم مقاعس والبطون حتى خاف الناس أن يعظم البأس، فقال أهل الحجي: احملوا دم صعصعة، واجعلوا دم بحير بواءً ببكير فودوا صعصعة، فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة: لله در فتى تجاوز همه ** دون العراق مفاوزًا وبحورًا ما زال يدأب نفسه ويكدها ** حتى تناول في خرون بحيرا قال: وخرج عبد ربه الكبير أبو وكيع، وهو من رهط صعصعة إلى البادية، فقال لرهط بكير: قتل صعصعة بطلبه بدم صاحبكم، فودوه، فأخذ لصعصعة ديتين. ذكر الخبر عن خلاف ابن الأشعث على الحجاج قال أبو جعفر: وفي هذه السنة خالف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الحجاج ومن معه من جند العراق، وأقبلوا إليه لحربه في قول أبي مخنف، وروايته لذلك عن أبي المخارق الراسبي، وأما الواقدي فإنه زعم أن ذلك كان في سنة اثنتين وثمانين. ذكر الخبر عن السبب الذي دعا عبد الرحمن بن محمد إلى ما فعل من ذلك وما كان من صنيعه بعد خلافه الحجاج في هذه السنة قد ذكرنا فيما مضى قبل ما كان من عبد الرحمن بن محمد في بلاد رتبيل، وكتابه إلى الحجاج بما كان منه هناك، وبما عرض عليه من الرأي فيما يستقبل من أيامه في سنة ثمانين، ونذكر الآن ما كان من أمره في سنة إحدى وثمانين في رواية أبي مخنف، عن أبي المخارق. ذكر هشام عن أبي مخنف قال: قال أبو المخارق الراسبي: كتب الحجاج إلى عبد الرحمن بن محمد جواب كتابه: أما بعد، فإن كتابك أتاني، وفهمت ما ذكرت فيه، وكتابك كتاب امرئ يحب الهدنة، ويستريح إلى الموادعة، قد صانع عدوًا قليلًا ذليلًا، قد أصابوا من المسلمين جندًا كان بلاؤهم حسنًا، وغناؤهم في الإسلام عظيمًا. لعمرك يا بن أم عبد الرحمن؛ إنك حيث تكف عن ذلك العدو بجندي وحدي لسخى النفس عمن أصيب من المسلمين. إني لم أعدد رأيك الذي زعمت أنك رأيته رأى مكيدة، ولكني رأيت أنه لم يحملك عليه إلا ضعفك، والتياث رأيك، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم، والهدم لحصونهم، وقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم. ثم أردفه كتابًا فيه: أما بعد، فمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا وليقيموا، فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم. ثم أردفه كتابًا آخر فيه: أما بعد، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم، وإلا فإن إسحاق ابن محمد أخاك أمير الناس، فخله وما وليته. فقال حين قرأ كتابه: أنا أحمل ثقل إسحاق؛ فعرض له، فقال: لا تفعل، فقال: ورب هذا - يعني المصحف - لئن ذكرته لأحد لأقتلنك. فظن أنه يريد السيف، فوضع يده على قائم السيف، ثم دعا الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني لكم ناصح، ولصلاحكم محب، ولكم في كل ما يحيط بكم نفعه ناظر، وقد كان من رأيي فيما بينكم وبين عدوكم رأى استشرت فيه ذوي أحلامكم، وأولى التجربة للحرب منكم، فرضوه لكم رأيًا، ورأوه لكم في العاجل والآجل صلاحًا، وقد كتبت إلى أميركم الحجاج، فجاءني منه كتاب يعجزني ويضعفني، ويأمرني بتعجيل الوغول بكم في أرض العدو، وهي البلاد التي هلك إخوانكم فيها بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم، وآبى إذا أبيتم. فثار إليه الناس فقالوا: لا، بل نأبى على عدو الله، ولا نسمع له ولا نطيع قال أبو مخنف: فحدثني مطرف بن عامر بن واثلة الكناني أن أباه كان أول متكلم يومئذ، وكان شاعرًا خطيبًا، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أما بعد، فإن الحجاج والله ما يرى بكم إلا ما رأى القائل الأول إذ قال لأخيه: احمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك، إن الحجاج والله ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلادًا كثيرة اللهوب واللصوب، فإن ظفرتم فغنمتم أكل البلاد وحاز المال، وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذي لا يبالي عنتهم، ولا يبقي عليهم، اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا عبد الرحمن، فإني أشهدكم أني أول خالع. فنادى الناس من كل جانب، فعلنا فعلنا، قد خلعنا عدو الله، وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي التميمي ثانيًا - وكان على شرطته حين أقبل - فقال: عباد الله، إنكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم، وجمركم تجمير فرعون الجنود، فإنه بلغني أنه أول من جمر البعوث، ولن تعاينوا الأحبة فيما أرى أو يموت أكثركم بايعوا أميركم، وانصرفوا إلى عدوكم فانفوه عن بلادكم، فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه، فقال: تبايعوني على خلع الحجاج عدو الله وعلى النصرة لي وجهاده معي حتى ينفيه الله من أرض العراق فبايعه الناس، ولم يذكر خلع عبد الملك إذ ذاك بشيء قال أبو مخنف: حدثني عمر بن ذر القاص أن أباه كان معه هنالك، وأن ابن محمد كان ضربه وحبسه لا نقطاعه كان إلى أخيه القاسم بن محمد، فلما كان من أمره الذي كان من الخلاف دعاه فحمله وكساه وأعطاه، فأقبل معه فيمن أقبل، وكان قاصًا خطيبًا قال أبو مخنف: حدثني سيف بن بشر العجلي، عن المنخل بن حابس العبدي أن ابن محمد لما أقبل من سجستان أمر على بست عياض ابن هميان البكري، من بني سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، وعلى زرنج عبد الله بن عامر التميمي ثم الدارمي، ثم بعث إلى رتبيل، فصالحه على أن ابن الأشعث إن ظهر فال خراج عليه أبدًا ما بقي، وإن هزم فأراده ألجأه عنده. قال أبو مخنف: حدثني خشينة بن الوليد العبسي أن عبد الرحمن لما خرج من سجستان مقبلا إلى العراق سار بين يديه الأعشى على فرس، وهو يقول: شطت نوى من داره بالإيوان ** إيوان كسرى ذي القرى والريحان من عاشق أمسى بزابلستان ** إن ثقيفًا منهم الكذابان كذابها الماضي وكذاب ثان ** أمكن ربي من ثقيف همدان يومًا إلى الليل يسلى ما كان ** إنا سمونا للكفور الفتان حين طغى في الكفر بعد الإيمان ** بالسيد الغطريف عبد الرحمن سار بجمع كالدبى من قحطان ** ومن معد قد أتى ابن عدنان بجحفل جم شديد الإرنان ** فقل لحجاج ولي الشيطان يثبت لجمع مذحج وهمدان ** فإنهم ساقوه كأس الذيقان وملحقوه بقرى ابن مروان قال: وبعث على مقدمته عطية بن عمرو العنبري، وبعث الحجاج إليه الخيل، فجعل لا يلقى خيلا إلا هزمها، فقال الحجاج: من هذا؟ فقيل له: عطية، فذلك قول الأعشى: فإذا جعلت دروب فا ** رس خلفهم دربًا فدربا فابعث عطية في الخيو ** ل يكبهن عليك كبًا ثم إن عبد الرحمن أقبل يسير بالناس، فسأل عن أبي إسحاق السبيعي، وكان قد كتبه في أصحابه، وكان يقول: أنت خالي، فقيل له: ألا تأتيه فقد سأل عنك! فكره أن يأتيه، ثم أقبل حتى مر بكرمان فبعث عليهم خرشة ابن عمرو التميمي، ونزل أبو إسحاق بها، فلم يدخل في فتنته حتى كانت الجماجم، ولما دخل الناس فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنا إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك، فاجتمعوا إلى عبد الرحمن، فكان أول الناس. قال أبو مخنف فيما حدثني أبو الصلت التيمي: خلع عبد الملك بن مروان تيحان بن أبجر من تيم الله بن ثعلبة، فقام فقال: أيها الناس، إني خلعت أبا ذبان كخلعي قميصي، فخلعه الناس إلا قليلًا منهم، ووثبوا إلى ابن محمد فبايعوه، وكانت بيعته: تبايعون على كتاب الله وسنة نبيه وخلع أئمة الضلالة وجهاد المحلين، فإذا قالوا: نعم بايع. فلما بلغ الحجاج خلعه كتب إلى عبد الملك يخبره عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، ويسأله أن يعجل بعثه الجنود إليه، وبعث كتابه إلى عبد الملك يتمثل في آخره بهذه الأبيات، وهي للحارث بن وعلة: سائل مجاور جرم جنيت لهم ** حربًا تفرق بين الجيرة الخلط وهل سموت بجرار له لجب ** جم الصواهل بين الجم والفرط وهل تركت نساء الحي ضاحية ** في ساحة الدار يستوقدون بالغبط وجاء حتى نزل البصرة. وقد كان بلغ المهلب شقاق عبد الرحمن وهو بسجستان، فكتب إليه: أما بعد، فإنك وضعت رجلك يا بن محمد في غرز طويل الغي على أمة محمد ﷺ. الله الله فانظر لنفسك لا تهلكها؛ ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها، فإن قلت: أخاف الناس على نفسي فالله أحق أن تخافه عليها من الناس، فلا تعرضها لله في سفك دم، ولا استحلال محرم والسلام عليك. وكتب المهلب إلى الحجاج: أما بعد فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل المنحدر من عل، وليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شرة في أول مخرجهم، وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شيء يردهم حتى يسقطوا إلى أهليهم، ويثموا أولادهم، ثم واقفهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم إنا شاء الله. فلما قرأ كتابه قال: فعل الله به وفعل، لا والله مالي نظر. ولكن لابن عمه نصح. لما رقع كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ثم نزل عن سريره وبعث إلى خالد بن يزيد ين معاوية، ودعاه فأقرأه الكتاب، ورأى ما به من الجزع، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كان هذا الحدث من قبل سجستان، فلا تخفه، وإن كان من قبل خراسان تخوفته. قال: فخرج إلى الناس فقام فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن أهل العراق طال عليهم عمري فاستعجلوا قدري. اللهم سلط عليهم سيوف أهل الشام حتى يبلغوا رضاك، فإذا بلغوا رضاك لم يجاوزوا إلى سخطك. ثم نزل. وأقام الحجاج بالبصرة وتجهز ليلقى ابن محمد. وترك رأي المهلب وفرسان الشام يسقطون إلى الحجاج، في كل يوم مائة وخمسون وعشرة وأقل على البرد من قبل عبد الملك، وهو في كل يوم تسقط إلى عبد الملك كتبه ورسله بخبر ابن محمد أي كورة نزل، ومن أي كورة يرتحل، وأي الناس إليه أسرع. قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج أن مكتبه كان بكرمان، وكان بها أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة وأهل البصرة، فلما مر بهم ابن محمد بن الأشعث، انجلفوا معه، وعزم الحجاج رأيه على استقبال ابن الأشعث، فسار بأهل الشام حتى نزل تستر، وقدم بين يديه مطهر بن حر العكي - أو الجذامى - وعبد الله بن رميشه الطائي، ومطهر على الفريقين، فجاءوا حتى انتهوا إلى دجيل، وقد قطع عبد الرحمن بن محمد خيلا له، عليها عبد الله بن أبان الحارثي في ثلثمائة فارس - وكانت مسلحةً له وللجند - فلما انتهى إليه مطهر بن حر أمر عبد الله بن رميثة الطائي فأقدم عليهم، فهزمت خيل عبد الله حتى انتهت إليه، وجرح أصحابه. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الزبير الهمداني، قال: كنت في أصحاب ابن محمد إذ دعا الناس وجمعهم إليه ثم قال: اعبروا إليه من هذا المكان، فأقحم الناس خيولهم دجيل من ذلك المكان الذي أمرهم به. فوالله ما كان بأسرع من أن عبر عظم خيولنا، فما تكاملت حتى حملنا على مطهر بن حر والطائي فهزمناهما يوم الأضحى في سنة إحدى وثمانين وقتلناهم قتلا ذريعًا، وأصبنا عسكرهم، وأتت الحجاج الهزيمة وهو يخطب، فصعد إليه أبو كعب بن عبيد بن سرجس فأخبره بهزيمة الناس، فقال: أيها الناس، ارتحلوا إلى البصرة إلى معسكر ومقاتل وطعام ومادة، فإن هذا المكان الذي نحن به لا يحمل الجند، ثم انصرف راجعًا وتبعته خيول أهل العراق، فكلما أدركوا منهم شاذًا قتلوه، وأصابوا ثقلا حووه، ومضى الحجاج لا يلوي على شيء حتى نزل الزاوية، وبعث إلى طعام التجار بالكلاء فأخذه فحمله إليه، وخلى البصرة لأهل العراق. وكان عامله عليها الحكم ابن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي. وجاء أهل العراق حتى دخلوا البصرة. وقد كان الحجاج حين صدم تلك الصدمة وأقبل راجعًا دعا بكتاب المهلب، فقرأه ثم قال: لله أبوه! أي صاحب حرب هو! أشار علينا بالرأي، ولكنا لم نقبل. وقال غير أبي مخنف: كان عامل البصرة يومئذ الحكم بن أيوب على الصلاة والصدقة، وعبد الله بن عامر بن مسمع على الشرط، فسار الحجاج في جيشه حتى نزل رستقباذ وهي من دستوري من كور الأهواز، فعسكر بها، وأقبل ابن الأشعث فنزل تستر، وبينهما نهر، فوجه الحجاج مطهر ابن حر العكي في ألفي رجل، فأوقعوا بمسلحة لابن الأشعث، وسار ابن الأشعث مبادرًا، فواقعهم، وهي عشية عرفة من سنة إحدى، وثمانين فيقال: إنهم قتلوا من أهل الشام ألفًا وخمسمائة، وجاءه الباقون منهزمين، ومعه يومئذ مائة وخمسون ألف ألف، ففرقها في قواده، وضمنهم إياها، وأقبل منهزمًا إلى البصر. وخطب ابن الأشعث أصحابه فقال: أما الحجاج فليس بشيء، ولكنا نريد غزو عبد الملك، وبلغ أهل البصرة هزيمة الحجاج، فأراد عبد الله بن عامر بن مسمع أن يقطع الجسر دونه، فرشاه الحكم ابن أيوب مائة ألف، فكف عنه. ودخل الحجاج البصرة، فأرسل إلى ابن عامر فانتزع المائة الألف منه. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف عن أبي الزبير الهمداني. فلما دخل عبد الرحمن بن محمد البصرة بايعه على حرب الحجاج، وخلع عبد الملك جميع أهلها من قراءها وكهولها، وكان رجل من الأزد من الجهاضن يقال له عقبة بن عبد الغافر له صحابة، فننزا فبايع عبد الرحمن مستبصرًا في قتال الحجاج، وخندق الحجاج عليه، وخندق عبد الرحمن على البصرة. وكان دخول عبد الرحمن البصرة فر آخر ذي الحجة من سنة إحدى وثمانين. وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الملك، كذا حدثني أحمد ابن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي، وقال: في هذه السنة ولد ابن أبي ذئب. وكان العامل في هذه السنة على المدينة أبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق الحجاج بن يوسف، وعلى حرب خراسان المهلب، وعلى خراجها المغيرة بن المهلب من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة. ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ذكر الخبر عن الكائن من الأحداث فيها خبر الحرب بين الحجاج وابن الأشعث بالزاوية فمن ذلك ما كان بين الحجاج وعبد الرحمن بن محمد من الحروب بالزاوية، ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني قال: كان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة، واقتتلوا في المحرم من سنة اثنتين وثمانين، فتزاحفوا ذات يوم، فاشتد قتالهم. ثم إن أهل العراق هزموهم حتى انتهوا إلى الحجاج، وحتى قاتلوهم على خنادقهم، وانهزمت عامة قريش وثقيف، حتى قال عبيد بن موهب مولى الحجاج وكاتبه: فر البراء وابن عمه مصعب ** وفرت قريش غير آل سعيد ثم إنهم تزاحفوا في المحرم في آخره في اليوم الذي هزم فيه أهل العراق أهل الشام، فنكصت ميمنتهم وميسرتهم، واضطربت رماحهم، وتقوض صفهم، حتى دنوا منا، فلما رأى الحجاج ذلك جثا على ركبتيه، وانتضى نحوًا من شبر من سيفه، وقال: لله در مصعب! ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل! فعلمت أنه والله لايريد أن يفر قال: فغمزت أبي بعيني ليأذن لي فيه فأضربه بسيفي، فغمزني غمزةً شديدة، فسكنت وحانت مني التفاتة، فإذا سفيان بن الأبرد الكلبي قد حمل عليهم فهزمهم من قبل الميمنة، فقلت: أبشر أيها الأمير، فإن الله قد هزم العدو. فقال لي: قم فانظر؛ قال: فقمت فنظرت؛ فقلت: قد هزمهم الله، قال: قم يا زياد فانظر؛ قال: فقام فنظر فقال: الحق أصلحك الله يقينًا قد هزموا، فخر ساجدًا، فلما رجعت شتمني أبي وقال: أردت أن تهلكني وأهل بيتي. وقتل في المعركة عبد الرحمن بن عوسجة أبو سفيان النهمي، وقتل عقبة ابن عبد الغافر الأزدي ثم الجهضي، في أولئك القراء في ربضة واحدة وقتل عبد الله بن رزام الحارثي، وقتل المنذر بن الجارود، وقتل عبد الله ابن عامر بن مسمع، وأتى الحجاج برأسه، فقال: ما كنت أرى هذا فارقني حتى جاءني الآن برأسه؛ وبارز سعيد بن يحيى ين سعيد بن العاص رجلًا يومئذ فقتله، وزعموا أنه كان مولى للفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب، كان شجاعًا يدعى نصيرًا، فلما رأى مشيته بين الصفين، وكان يلومه على مشيته قال: لا ألومه على هذه المشية أبدًا. وقتل الطفيل بن عامر بن واثلة، وقد كان وهو بفارس يقبل مع عبد الرحمن من كرمان إلى الحجاج: ألا طرقتنا بالغريين بعدما ** كللنا على شحط المزار جنوب أتوك يقودون المنايا وإنما ** هدتها بأولانا إليك ذنوب ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له ** من الله في دار القرار نصيب ألا أبلغ الحجاج أن قد أظله ** عذاب بأيدي المؤمنين مصيب متى نهبط المصرين يهرب محمد ** وليس بمنجي ابن اللعين هروب قال: منيتنا أمرًا كان في علم الله أنك أولى به، فعجل لك في الدنيا، وهو معذبك في الآخرة. وانهزم الناس، فأقبل عبد الرحمن نحو الكوفة وتبعه من كان معه من أهل الكوفة، وتبعه أهل القوة من أصحاب الخيل من أهل البصرة. ولما مضى عبد الرحمن نحو الكوفة وثب أهل البصرة إلى عبد الرحمن ابن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فبايعوه، فقاتل بهم خمس ليال الحجاج أشد قتال رآه الناس، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث وتبعه طائفة من أهل البصرة فلحقوا به، وخرج الحريش بن هلال السعدي وهو من بني أنف الناقة - وكان جريحًا - إلى سفوان فمات من جراحته، وقتل في المعركة زياد بن مقاتل بن مسمع من بني قيس بن ثعلبة، فقامت حميدة ابنته تندبه، وكان على خمس بكر بن وائل مع ابن الأشعث وعلى الرجال، فقالت: وحامي زياد على رايته ** وفر جدي بني العنبر فجاء البلتع السعدي فسمعها وهي تندب أباها، وتعيب التميمي، فجاء وكان يبيع سمنًا بالمربد، فترك سمنه عند أصحابه، وجاء حتى قام تحتها فقال: علام تلومين من لم يلم ** تطاول ليلك من معصر! فإن كان أردى أباك السنان ** فقد تلحق الخيل بالمدير وقد تنطح الخيل تحت العجا ** ج غير البرى ولا المعذر ونحن منعنا لواء الحريش ** وطاح لواء بني جحدر فقال عامر بن واثلة يرثي ابنه طفيلا: خلى طفيل على الهم فانشعبا ** وهد ذلك ركني هدة عجبا وابني سمية لا أنساهما أبدًا ** فيمن نسيت وكل كان لي نصبا وأخطأتني المنايا لا تطالعني ** حتى كبرت ولم يتركن لن نشبا وكنت بعد طفيل كالذي نضبت ** عنه المياه وفاض الماء فأنقضبا فلا بعير له في الأرض يركبه ** وإن سعى إثر من قد فاته لغبا وسار من أرض خاقان التي غلبت ** أبناء فارس في أربائها غلبا ومن سجستان أسباب تزينها ** لك المنية حينًا كان مجتلبا حتى وردت حياض الموت فانكشفت ** عنك الكتائب لا تخفى لها عقبا وغادروك صريعًا رهن معركة ** ترى النسور على القتلى بها عصبا تعاهدوا ثم لم يوفوا بما عهدوا ** وأسلموا للعدو السبي والسلبا يا سوءة القوم إذ تسبى نساؤهم ** وهم كثير يرون الخزي والحربا قال أبو مخنف: فحدثني هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي أن الحجاج أقم بقية المحرم وأول صفر، ثم استعمل على البصرة أيوب ابن الحكم بن أبي عقيل، ومضى ابن الأشعث إلى الكوفة، وقد كان الحجاج خلف عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمي، حليف حرب ابن أمية على الكوفة. قال أبو مخنف - كما حدثني يونس بن أبي إسحاق: إنه كان على أربعة آلاف من أهل الشام قالأبو مخنف: فحدثن سهم بن عبد الرحمن الجهني أنهم كانوا ألفين، وكان حنظلة بن الوراد من بني رياح ين يربوع التميمي وابن عتاب ابن ورقاء على المدائنن وكان مطر بن ناجية من بني يربوع على المعونة، فلما بلغه ما كان من أمر ابن الأشعث أقبل حتى دنا من الكوفة، فتحصن منه ابن الحضرمي في القصر، ووثب أهل الكوفة مع مطر بن ناجية بابن الحضرمي ومن معه من أهل الشام فحاصرهم، فصالحوه على أن يخرجوا ويخلوه والقصر، فصالحهم. قال أبو مخنف: فحدثني يونس بن أبي إسحاق أنه رآهم ينزلون من القصر على العجل، وفتح باب القصر باب القصر لمطر بن ناجية، فازدحم الناس على باب القصر، فزحم مطر على باب القصر، فاخترط سيفه، فضرب به جحفلة بغل من بغال أهل الشام وهم يخرجون من القصر، فألقى جحفلته ودخل القصر، واجتمع الناس عليه فأعطاهم مائتي درهم. قال يونس: وأنا رأيتها تقسم بينهم، وكان أبو السقر فيمن أعطيها. وأقبل ابن الأشعث منهزمًا إلى الكوفة، وتبعه الناس إليها. وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث في قول بعضهم. قال الواقدي: كانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة، وفي قول بعضهم: كانت في سنة ثلاث وثمانين. ذكر الخبر عن ذلك وعن سبب مصير ابن الأشعث إلى دير الجماجم وذكر ما جرى بينه وبين الحجاج بها ذكر هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني ثم الأرحبي، قال: كنت قد أصابتني جراحة، وخرج أهل الكوفة يستقبلون ابن الأشعث حين أقبل، فاستقبلوه بعدما جاز قنطرة زبارا، فلما دنا منها قال لي: إن رأيت أن تعدل عن الطريق - فلا يرى الناس جراحتك فإني لا أحب أن يستقبلهم الجرحى - فافعل. فعدلت ودخل الناس، فلما دخلى الكوفة مال إليه أهل الكوفة كلهم، وسبقت همدان إليه، فحفت به عند دار عمرو بن حريث إلا طائفة من تميم ليسوا بالكثير قد أتوا مطر بن ناجية، فأرادوا أن يقاتلوا دونه، فلم يطيقوا قتال الناس. فدعا عبد الرحمن بالسلاليم والعجل، فوضعت ليصعد الناس القصر، فصعد الناس القصر فأخذوه، فأتى به عبد الرحمن بن محمد، فقال له: استبقني فإني أفضل فرسانك وأعظمهم عنك غناء؛ فأمر به فحبس، ثم دعا به بعد ذلك فعفا عنه. وبايعه مطر، ودخل الناس إليه فبايعوه، وسقط إليه أهل البصرة وتقوضت إليه المسالح والثغور، وجاءه فيمن جاءه من أهل البصرة عبد الرحمن ابن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وعرف بذلك، وكان قد قاتل الحجاج بالبصرة بعد خروج ابن الأشعث ثلاثًا، فبلغ ذلك عبد الملك ابن مروان، فقال: قاتل الله عدى الرحمن، إنه قد فر! وقاتل غلمان من غلمان قريش بعده ثلاثًا. وأقبل الحجاج من البصرة فسار في البر حتى مر بين القادسية والعذيب، ومنعوه من نزول القادسية، وبعث إليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من خيل المصرين فمنعوه من نزول القادسية، ثم سايروه حتى ارتفعوا على وادي السباع، ثم تسايروا حتى نزل الحجاج دير قرة، ونزل عبد الرحمن بن العباس دير الجماجم، ثم جاء ابن الأشعث فنزل بدير الجماجم والحجاج بدير قرة، فكان الحجاج بعد ذلك يقول: أما كان عبد الرحمن يزجر الطير حيث رآني نزلت دير قرة، ونزل دير الجماجم! واجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم والقراء من أهل المصرين، فاجتمعوا جميعًا على حرب الحجاج، وجمعهم عليه بغضهم والكراهية له، وهم إذ ذاك مئة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء، ومعهم مثلهم من مواليهم. وجاءت الحجاج أيضًا أمداده من قبل عبد الملك من قبل أن ينزل دير قرة، وقد كان الحجاج أراد قبل أن ينزل دير قرة أن يرتفع إلى هيت وناحية الجزيرة إرادة أن يقترب من الشام والجزيرة فيأتيه المدد من الشام من قريب، ويقترب من رفاغة سعر الجزيرة، فلما مر بدير قرة قال: ما بهذا المنزل بعد من أمير المؤمنين، وإن الفلاليج وعين التمر إلى جنبنا. فنزل فكان في عسكره مخندقًا وابن محمد في عسكره مخندقًا، والناس يخرجون في كل يوم فيقتتلون، فلا يزال أحدهما يدنى خندقه نحو صاحبه، فإذا رآه الآخر خندق أيضًا، وأدنى خندقه من صاحبه. واشتد القتال بينهم. فلما بلغ ذلك رءوس قريش وأهل الشام قبل عبد الملك ومواليه قالوا: إن كان إنما يرضى أهل العراق أن ينزع عنهم الحجاج، فإن نزع الحجاج أيسر من حرب أهل العراق، فانزعه عنهم تخلص لك طاعتهم، وتحقن به دماءنا ودماهم. فبعث ابنه عبد الله بن عبد الملك، وبعث إلى أخيه محمد بن مروان بأرض الموصل يأمره بالقدوم عليه، فاجتمعنا جميعًا عنده؛ كلاهما في جند بهما، فأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجاج عنهم، وأن يجري عليهم أعطائهم كما تجري على أهل الشام، وأن ينزل ابن محمد أي بلد من عراق شاء، يكون عليه واليًا ما دام حيًا، وكان عبد الملك واليًا؛ فإن هم قبلوا ذلك عزل عنهم الحجاج، وكان محمد بن مروان أمير العراق، وإن أبوا أن يقبلوا فالحجاج أمير جماعة أهل الشام وولى القتال، محمد بن مروان وعبد الملك في طاعته. فلم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه منه مخافة أن يقبلوا فيعزل عنهم، فكتب إلى عبد الملك: يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي لا يلبثون إلا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفان، فلما سألهم ما يريدون قالوا: نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إليه فقتلوه! إن الحديد بالحديد يفلح. خار الله لك فيما ارتأيت. والسلام عليك. فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق إرادة العافية من الحرب. فلما اجتمعا مع الحجاج خرج عبد الله بن عبد الملك فقال: يا أهل العراق، أنا عبد الله بن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذاو كذا، فذكر هذه الخصال التي ذكرنا. وقال محمد بن مروان: أنا رسول أمير المؤمنين إليكم، وهو يعرض عليكم كذا وكذا، فذكر هذه الخصال. قالوا: نرجع العشية، فرجعوا عند ابن الأشعث، فلم يبق قائد ولا رأس قوم ولا فارس إلا أتاه، فحمد الله ابن الأشعث وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فقد أعطيتم أمرًا انتهازكم اليوم إياه فرصة، ولا آمن أن يكون على ذي الرأي غدًا حسرة، وإنكم اليوم على النصف وإن كانوا اعتدوا بالزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر، فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء، والقوم لكم هائبون وأنتم لهم منتقصون فلا والله لا زلتم عليهم جراء، ولا زلتم عندهم أعزاء، إن أنتم قبلتم أبدًا ما بقيتم. فوثب الناس من كل جانب، فقالوا: إن الله قد أهلكهم، فأصبحوا في الأزل والضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير، والسعر الرفيغ والمادة القريبة، لا والله لا نقبل. فأعادوا خلعه ثانية. وكان عبد الله بن ذواب السلمي وعمير بن تيجان أول من قام بخلعه في الجماجم، وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من خلعهم إياه بفارس، فرجع محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الحجاج فقالا: شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك، فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع فقال: قد قلت لكما: إنه لا يراد بهذا الأمر غيركما، ثم قال: إنما أقاتل لكما، وإنما سلطاني سلطانكما، فكانا إذا لقياه سلما عليه بالإمرة. وقد زعم أبو يزيد السكسكي أنه إنما كان أيضًا يسلم عليهما بالإمرة إذا لقيهما، وخلياه والحرب فتولاها قال أبو مخنف: فحدثني الكلبي محمد بن السائب أن الناس لما اجتمعوا بالجماجم سمعت عبد الرحمن بن محمد وهو يقول: ألا إن بني مروان يعيرون بالزرقاء، والله مالهم نسب أصح منه إلا أن بني أبي العاص أعلاج من أهل صفورية، فإن يكن هذا الأمر في قريش فعنى فقئت بيضة قريش، وإن يك في العرب فأنا ابن الأشعث بن قيس - ومد بها صوته يسمع الناس - وبرزوا للقتال، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن ابن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي، وعلى خيله سفيان ابن الأبرد الكلبي، وعلى رجاله عبد الرحمن بن حبيب الحكمي، وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن جارية الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث الهاشمي، وعلى رجاله محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعلى مجففته عبد الله بن رزام الحارثي، وجعل على القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي، وكان معه خمسة عشر رجلا من قريش، وكان فيهم عامر الشعبي، وسعيد ابن جبير، وأبو البختري الطائي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. ثم إنهم أخذوا يتزاحفون في كل يوم ويقتتلون؛ وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفة ومن سوادها فيما شاءوا من خصبهم، وإخوانهم من أهل البصرة وأهل الشام في ضيق شديد، وق غلت عليهم الأسعار، وقل عندهم، الطعام، وفقدوا اللحم، وكانوا كأنهم في حصار، وهم على ذلك يغادون أهل العراق ويراوحونهم، فيقتتلون أشد القتال، وكان الحجاج يدني خندقه مرة وهؤلاء أخرى، حتى كان اليوم الذي أصيب فيه جبلة بن زحر. ثم إنه بعث إلى كميل بن زياد النخعي وكان رجلًا ركينًا وقورًا عند الحرب، له بأس وصوت في الناس، وكانت كتيبته تدعى كتيبة القراء، يحمل عليهم فلا يكادون يبرحون، ويحملون فلا يكذبون، فكانوا قد عرفوا بذلك، فخرجوا ذات يوم كما كانوا يخرجون، وخرج الناس، فعبى الحجاج أصحابه، ثم زحف في صفوفه، وخرج ابن محمد في سبعة صفوف بعضها على أثر بعض، وعبى الحجاج لكتيبة القراء التي مع جبلة بن زحر ثلاث كتائب، وبعث عليها الجراح بن عبد الله الحكمي، فأقبلوا نحوهم. قال أبو مخنف: حدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أنا والله في الخيل التي عبيت لجبلة بن زحر، قال: حملنا عليه وعلى أصحابه ثلاث حملات؛ كل كتيبة تحمل حملة، فلا والله ما استنقصنا منهم شيئًا. ذكر الخبر عن وفاة المغيرة بن المهلب وفي هذه السنة توفي المغيرة بن المهلب بخراسان. ذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد، قال: كان المغيرة بن المهلب خليفة أبيه بمرو على عمله كله، فمات فر رجب سنة اثنتين وثمانين، فأتى الخبر يزيد، وعلمه أهل العسكر فلم يخبروا المهلب، وأحب يزيد أن يبلغه، فأمر النساء فصرخن، فقال المهلب: ماهذا؟ فقيل: مات المغيرة، فاسترجع، وجزع حتى ظهر جزعه عليه، فلامه بعض خاصته، فدعى يزيد فوجهه إلى مرو، فجعل يوصيه بما يعمل ودموعه تنحدر على لحيته. وكتب الحجاج إلى المهلب يعزيه عن المغيرة، وكان سيدًا، وكان المهلب يوم مات المغيرة مقيمًا بكس وراء النهر لحرب أهلها. قال: فسار يزيد في ستين فارسًا - ويقال: سبعين - فيهم مجاعة بن عبد الرحمن العتكي وعبد الله بن معمر بن سمير اليشكري، ودينار السجستاني، والهيثم بن منخل الجرموزي، وغزوان الإسكاف صاحب زم - وكان أسلم على يد المهلب - وأبو محمد الزمى، وعطية - مولى العتيك - فلقيهم خمسمائة من الترك في مفازة نسف، فقالوا: ما أنتم؟ قالوا: تجار؛ قالوا: فأين الأثقال؟ قالوا: قدمناها؛ قالوا: فأعطونا شيئًا، فأبى يزيد، فأعطاهم مجاعة ثوبًا وكرابيس وقوسًا، فانصرفوا ثم غدروا وعادوا إليهم، فقال يزيد: أنا كنت أعلم بهم فقاتلوهم، فاشتد القتال بينهم، ويزيد على فرس قريب من الأرض، ومعه رجل من الخوارج كان يزيد أخذه، فقال: استبصقني! فمن عليه، فقال له: ما عندك؟ فحمل عليهم حتى خالطهم وصار من وراءهم وقد قتل رجلًا، ثم كر فخالطهم حتى تقدمه وقتل رجلًا ثم رجع إلى يزيد. وقتل يزيد عظيمًا من عظمائهم. ورمى يزيد في ساقه، واشتدت شوكتهم، وهرب أبو محمد الزمى، وصبر لهم يزيد حتى حاجزوهم، وقالوا: قد غدرنا، ولكن لا ننصرف حتى نموت جميعًا أو تموتوا أو تعطونا شيئًا، فحلف يزيد لا يعطيهم شيئًا، فقال مجاعة: أذكرك الله، قد هلك المغيرة، وقد رأيت ما دخل على المهلب من مصابه، فأنشدك الله أن تصاب اليوم! قال: إن المغيرة لم يعد أجله، ولست أعدوا أجلي. فرمى إليهم مجاعة بعمامة صفراء فأخذوها وانصرفوا، وجاء أبو محمد الزمى بفوارس وطعام، فقال له يزيد: أسلمتنا يا أبا محمد؛ فقال: إنما ذهبت لأجيئكم بمدد وطعام، فقال الراجز: يزيد يا سيف أبا سعيد ** قد علم الأقوام والجنود والجمع يوم المجمع المشهود ** أنك يوم الترك صلب العود وقال الأشقري: والترك تعلم إذ لاقى جموعهم ** أن قد لقوه شهابًا يفرج الظلمى بفتية كأسود الغاب لم يجدوا ** غير التأسى وغير الصبر معتصما نرى شرائج تغشى القوم من علق ** وما أرى نبوة منهم ولا كزمى وتحتهم قرح يركبن ماركبوا ** من الكريهة حتى ينتلعن دما في حازة الموت حتى جن ليلهم ** كلا الفريقين ما ولى ولا انهزما وفي هذه السنة صالح المهلب أهل كس على فدية، ورحل عنها يريد مرو. ذكر الخبر عن سبب إنصراف المهلب عن كس ذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد، أن المهلب اتهم قومًا من مضر فحبسهم وقفل من كِسّ وخلفهم، وخلف حريث بن قطبة مولى خزاعة، وقال: إذا استوفيت الفدية فرد عليهم الرهن. وقطع النهر فلما صار ببلخ أقام بها وكتب إلى حريث: إني لست آمن إن رددت عليهم الرهن أن يغيروا عليك، فإذا قبضت الفدية فلا تخلى الرهن حتى تقدم أرض بلخ. فقال حريث لملك كس: إن المهلب كتب إلي أن أحبس الرهن حتى أقدم أرض بلخ، فإن عجلت لي ما عليك سلمت إليك رهائنك، وسرت فعجل لهم صلحهم، ورد عليهم من كان في أيديهم منهم. وأقبل فعرض لهم الترك، فقالوا: افد نفسك ومن معك، فقد لقينا يزيد بن المهلب ففدى نفسه. فقال حريث: ولدتني إذًا أم يزيد! وقاتلهم فقتلهم، وأسر منهم أسرى ففدوهم، فمن عليهم وخلاهم، ورد عليهم الفداء. وبلغ المهلب قوله: ولدتني أم يزيد إذًا، فقال: يا أنف العبد أن تلده رحمه! وغضب. فلما قدم عليه بلخ قال له: أين الرهن؟ قال: قبضت ماعليهم وخليتهم، قال: ألم أكتب إليك ألا تخليهم! قال: أتاني كتابك وقد خليتهم، وقد كفيت ما خفت؛ قال: كذبت، ولكنك تقربت إليهم وإلى ملكهم فأطلعته على كتابي إليك. وأمر بتجريده، فجزع من التجريد حتى ظن المهلب أن به برصا، فجرده وضربه ثلاثين صوتًا. فقال حريث: وددت أنه ضربني ثلثمائة صوت ولم يجردني، أنفًا واستحياء من التجريد، وحلف ليقتلن المهلب فركب المهلب يومًا وركب حريث، فأمر غلامين له وهو يسير خلف المهلب أن يضرباه، فأبى أحدهما وتركه وانصرف، ولم يجترئ الآخر لما صار وحده أن يقدم عليه، فلما رجع قال لغلامه: ما منعك منه؟ قال: الإشفاق والله عليك، ووالله ما جزعت على نفسي، وعلمت أنا إن قتلناه أنك ستقتل ونقتل، ولكن كان نظري لك، ولو كنت أعلم أنك تسلم من القتل لقتلته. قال: فترك حريث إتيان المهلب وأظهر أنه وجع، وبلغ المهلب، أنه تمارض وأنه يريد الفتك به، فقال المهلب لثابت بن قطبة: جئني بأخيك، فإنما هو كبعض ولدي عندي، وما كان ما كان من إليه إلا نظرًا له وأدبًا، ولربما ضربت بعض ولدي أؤدبه. فأتى ثابت أخاه فناشده، وسأله أن يركب. إلى المهلب، فأبى وخافه وقال: والله لا أجيئه بعد ما صنع بي ما صنع، ولا آمنه ولا يأمنني فلما رأى ذلك أخوه ثابت قال له: أما إن كان هذا رأيك فاخرج بنا إلى موسى بن عبد الله بن خازم، وخاف ثابت أن يفتك حريث بالمهلب فيقتلون جميعًا؛ فخرجا في ثلثمائة من شاكريتهما والمنقطعين إليها من العرب. خبر وفاة المهلب بن أبي صفرة قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي المهلب بن أبي صفرة. ذكر الخبر عن سبب موته ومكان وفاته قال علي بن محمد: حدثني المفضل، قال: مضى المهلب منصرفه من كس يريد مرو، فلما كان بزاغول من مرو الروذ أصابته الشوصة - وقوم يقولون: الشوكة - فدعا حبيبًا ومن حضره من ولده، ودعا بسهام فحزمت، وقال: أترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا، قال: أفتروكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم؛ قال: فهكذا الجماعة، فأوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، فإن صلة الرحم تنسئ في الأجل، وتشري المال، وتكثر العدد؛ وأنهاكم عن القطيعة فإن القطيعة تعقب النار، وتورث الذلة والقلة، فتحابوا وتواصلوا، وأجمعوا أمركم ولا تختلفوا، وتباروا تجتمع أموركم؛ إن بني الأم يختلفون، فكيف ببني العلات! وعليكم بالطاعة والجماعة، وليكن فعالكم أفضل من قولكم، فإن أحب للرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه، واتقوا الجواب وزلة اللسان، فإن الرجل تزل قدمه فينتعش من زلته، ويزل لسانه فيهلك. إعرفوا لمن يغشاكم حقه، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحبوا العرب واصطنعوا العرف، فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك، فكيف الصنيعة عنده! عليكم في الحرب بالأناة والمكيدة، فإنها أنفع في الحرب من الشجاعة، وإن كان اللقاء نزل القضاء، فإن أخذ رجل بالحزم فظهر على عدوه قيل: أتى الأمر من وجهه، ثم ظفر فحمد، وإن لم يظفر بعد الأناة قيل: ما فرط ولا ضيع، ولكن القضاء غالب. وعليكم بقراءة القرآن، وتعليم السنن، وأدب الصالحين، وإياكم والخفة وكثرة الكلام في مجالسكم، وقد استخلفت عليكم يزيد، وجعلت حبيبًا على الجند حتى يقدم بهم على يزيد، فلا تخالفوا يزيد، فقال له المفضل: لو لم تقدمه لقدمناه. ومات المهلب وأوصى إلى حبيب، فصلى عليه حبيب، ثم سار إلى مرو. وكتب يزيد إلى عبد الملك بوفاة المهلب واستخلافه إياه، فأقره الحجاج ويقال: إنه قال عند موته ووصيته: لو كان الأمر إلي لوليت سيد ولدي حبيبًا. قال: وتوفي في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين، فقال نهار بن توسعة التميمي: ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ** ومات الندى والجود بعد المهلب أقام بمرو الروذ رهني ضريحه ** وقد غيبا عن كل شرق ومغرب إذا قيل أي الناس أولى بنعمة ** على الناس؟ قلناه ولم نتهيب أبح لنا سهل البلاد وحزنها ** بخيل كأرسال القطا المتسرب يعرضها للطعن حتى كأنما ** يجللها بالأرجوان المخضب تطيف به قحطان قد عصبت به ** وأحلافها من حي بكر وتغلب وحيا معد عوذ بلوائه ** يفدونه بالنفس والأم والأب وفي هذه السنة ولى الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب خراسان بعد موت المهلب. وفيها عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة؛ قال الواقدي: عزله عنها لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الآخر. قال: وفيها ولى عبد الملك هشام بن إسماعيل المخزومي المدينة. وعزل هشام بن إسماعيل عن قضاء المدينة لما وليها نوفل بن مساحق العامري، وكان يحيى بن الحكم هو الذي استقضاه على المدينة، فلما عزل يحيى ووليها أبان ابن عثمان أقره على قضائها؛ وكانت ولاية أبان المدينة سبع سنين وثلاثة أشهر وثلاث عشرة ليلة، فلما عزل هشام بن إسماعيل نوفل بن مساحق عن القضاء ولى مكانه عمرو بن خالد الزرقي. وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، كذلك حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره، عم إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكان على الكوفة والبصرة والمشرق الحجاج، وعلى خراسان يزيد ابن المهلب من قبل الحجاج. ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ذكر الأحداث التي كانت فيها خبر هزيمة ابن الأشعث بدير الجماجم فمما كان فيها من ذلك هزيمة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بدير الجماجم. ذكر الخبر عن سبب انهزامه ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني، قال: كنت في خيل جبلة بن زحل، فلما حمل عليه أهل الشام مرة بعد مرة، نادانا عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه فقال: يا معشر القراء، إن الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم؛ إني سمعت عليًا - رفع الله درجته في الصالحين، وأثابه أحسن ثواب الشهداء والصديقين - يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون، إنه من رأى عدوانًا يعمل به، ومنكرًا يدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكر بلسانه فقد أجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، ونور في قلبه اليقين فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين قد جهلوا الحق فلا يعرفونه، وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه، وقال أبو البختري: أيها الناس، قاتلوهم على دينكم ودنياكم، فوالله لئن ظهروا عليكم ليفسدن عليكم دينكم، وليغلبن على دنياكم. وقال الشعبي: يا أهل الإسلام، قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، فوالله ما أعلم قومًا على بسيط الأرض أعمل بظلم، ولا أجور منهم في الحكم، فليكن بهم البدار. وقال سعيد بن جبير: قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين، وعلى آثامهم قاتلوهم على جورهم في الحكم، وتجبرهم في الدين، واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة. قال أبو مخنف، قال أبو الزبير: فتهيأنا للحملة عليهم، فقال لنا جبلة: إذا حملتم عليهم فاحملوا حملة صادقة، ولا تردوا وجوهكم عنهم حتى تواقعوا صفهم. قال: فحملنا عليهم حملة بجد منا في قتالهم، وقوة منا عليهم، فضربنا الكتائب الثلاث حتى اشفترت، ثم مضينا حتى واقعنا صفهم فضربناهم حتى أزلناهم عنه، ثم انصرفنا فمررنا بجبلة صريعًا لا ندري كيف قتل. قال: فهدنا ذلك وجبنا فوقفنا موقفنا الذي كنا به، وإن قراءنا لمتوافرون، ونحن نتناعى جبلة بن زحر بيننا، كأنما فقد به كل واحد منا أباه أو أخاه، بل هو في ذلك الموطن كان أشد علينا فقدًا، فقال لنا أبو البختري الطائي: لا يستبينن فيكم قتل جبلة بن زحر، فإنما كان كرجل منكم أتته منيته ليومها، فلم يكن ليتقدم يومه ولا ليتأخر عنه، وكلكم ذائق ما ذاق، ومدعو فمجيب. قال: فنظرت إلى وجوه القراء فإذا الكآبة على وجوههم بينة، وإذا ألسنتهم منقطعة، وإذا الفشل فيهم قد ظهر، وإذا أهل الشام قد سروا وجذلوا، فنادوا: يا أعداء الله، قد هلكتم، وقد قتل الله طاغوتكم. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي أن جبلة حين حمل هو وأصحابه علينا انكشفنا، وتبعونا، وافترقت منا فرقة فكانت ناحية، فنظرنا فإذا أصحابه يتبعون أصحابنا، وقد وقف لأصحابه ليرجعوا إليه على رأس رهوة، فقال بعضنا، هذا والله جبلة بن زجر، إحملوا عليه ما دام أصحابه مشاغيل بالقتال عنه لعلكم تصيبونه. قال: فحملنا عليه، فأشهد ما ولى، ولكن حنل علينا بالسيف. فلما هبط من الرهوة شجرناه بالرماح فأذريناه عن فرسه فوقع قتيلًا، ورجع أصحابه، قلما رأيناهم مقبلين تنحينا عنهم، فلما رأوه قتيلًا رأينا من استرجاعهم وجزعهم ما قرت به أعيننا؛ قال: فتبينا ذلك في قتالهم إيانا وخوجهم إلينا قال أبو مخنف: حدثني سهم بن عبد الرحمن الجهني، قال: لما أصيب جبلة هد الناس مقتله، حتى قدم علينا بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، فشجع الناس مقدمه، وقالوا: هذا يقوم مقام جبلة، فسمع هذا القول من بعضهم أبو البختري، فقال: قبحتم! إن قتل منكم رجل واحد ظننتم أن قد أحيط بكم، فإن قتل الآن ابن مصقلة ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة، وقلتم: لم يبق أحد يقاتل معه! ما أخلقكم أن يخلف رجاؤنا فيكم! وكان مقدم بسطام من الري، فالتقى هو وقتيبة في الطريق، فدعاه قتيبة إلى الحجاج وأهل الشام، ودعاه بسطام إلى عبد الرحمن وأهل العراق، فكلاهما أبى على صاحبه، وقال بسطام: لأن أموت مع أهل العراق أحد إلي من أن أعيش مع أهل الشام، وكان قد نزل ماسبذان؛ فلما قدم قال لابن محمد: أمرني على خيل ربيعة؛ ففعل، فقال لهم: يا معشر ربيعة، إن في شرسفة عند الحرب فاحتملوها لي - وكان شجاعًا - فخرج الناس ذات يوم ليقتتلوا، فحمل في خيل ربيعة حتى دخل عسكرهم، فأصابوا فيهم نحوًا من ثلاثين امرأة من بين أمة وسرية، فأقبل بهن حتى إذا دنا من عسكره ردهن، فجئن ودخلن عسكر الحجاج، فقال: أولى لهم! منع القوم نساءهم، أما لو لم يردوهن لسبيت نساؤهم غدًا إذا ظهرت. ثم اقتتلوا يومًا آخر بعد ذلك، فحمل عبد الله بن مليل الهمداني في خيل له حتى دخل عسكرهم فسبا ثماني عشر امرأة، وكان معه طارق بن عبد الله الأسدي - وكان راميًا - فخرج شيخ من أهل الشام من فسطاطة، فأخذ الأسدي يقول لبعض أصحابه: استر مني هذا الشيخ لعلني أرميه أو أحمل عليه فأطعنه، فإذا الشيخ يقول رافعًا صوته: اللهم لمنا وإياهم بعافية؛ فقال الأسدي: ما أحب أن أقتل مثل هذا، فتركه، وأقبل ابن مليل بالنساء غير بعيد؛ ثم خلى سبيلهن أيضًا، فقال الحجاج مثل مقالته الأولى. قال هشام: قال أبي: أقبل الوليد بن نحيت الكلبي من بني عامر في كتيبة إلى جبلة بن زحر، فانحط عليه الوليد بن رابية - وكان جسيمًا، وكان جبلة رجلا ربعة - فالتقيا، فضربه على رأسه فسقط، وانهزم أصحابه وجيء برأسه. قال هشام: فحدثني بهذا الحديث أبو مخنف وعوانة الكلبي، قال: لما جيء برأس جبلة بن زحر إلى الحجاج حمله على رمحين ثم قال: يا أهل الشام، أبشروا؛ هذا أول الفتح، لا والله ما كانت فتنة قط فخبت حتى يقتل فيها عظيم من عظماء أهل اليمن، وهذا من عظمائهم. ثم خرجوا ذات يوم فخرج رجل من أهل الشام يدعوا إلى المبارزة، فخرج إليه الحجاج ابن جارية، فحمل عليه، فطعنه فأذاره وحمل أصحابه فاستنقذوه، فإذا هو رجل من خثعمة يقال له أبو الدرداء فقال الحجاج بن جارية: أما إني لم أعرفه حتى وقع، ولو عرفته ما بارزته ما أحب أن يصاب من قومي مثله. وخرج عبد الرحمن بن عوف الرؤاسي أبو حميد فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه ابن عم له من أهل الشام، فاضطربا بسيفيهما، فقال كل واحد منهما: أنا الغلام الكلابي، فقال كل واحد منهما لصاحبه: من أنت؟ فلما تساءلا تحاجزا. وخرج عبد الله بن رزام الحارثي إلى كتيبة الحجاج، وقال: اخرجوا لي رجلا رجلا، فأخرج إليه رجل، فقتله ثم فعل ذلك ثلاثة أيام، يقتل كل يوم رجلًا، حتى إذا كان اليوم الرابع أقبل، فقالوا: قد جاء لا جاء الله به! فدعا إلى المبارزة، فقال الحجاج للجراح: اخرج إليه، فخرج إليه، فقال له عبد الله بن رزام - وكان له صديقًا: ويحك يا جراح! ما أخرجك إلي! قال: قد ابتليت بك، قال: فهل لك في خير؟ قال: ما هو؟ قال: أنهزم لك فترجع إلى الحجاج وقد أحسنت عنده وحمدك، وأما أنا فإني أحتمل مقالة الناس في إنهزامي عنك حبًا لسلامتك، فإني لا أحب أن أقتل من قومي مثلك؛ قال: فافعل، فحمل عليه فأخذ يستطرد له - وكان الحارثي قد قطعت لهاته، وكان يعطش كثيرًا، وكان معه غلامه له معه إدواة من ماء، فكلما عطش سقاه الغلام - فاطرد له الحارثي، وحمل عليه الجراح حملة بجد لا يريد إلا قتله، فصاح به غلامه: إن الرجل جاد في قتلك! فعطف عليه فضربه بالعمود على رأسه فصرعه، فقال لغلامه: إنضح على وجهه من ماء الإدواة، واسقه؛ ففعل ذلك به، فقال: يا جراح، بئسما ما جزيتني، أردت بك العافية وأردت أن تزريني المنية! فقال: لم أرد ذلك، فقال: انطلق فقد تركتك للقرابة والعشيرة. قال محمد بن عمر الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن صالح بن كيسان، قال: قال سعيد الحرشي: أنا في صف القتال يومئذ إذ خرج رجل من أهل العراق، يقال له: قدامة بن الحريش التميمين فوقف بين الصفين، فقال: يا معشر جرامقة أهل الشام، إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإن أبيتم فليخرج إلي رجل، فخرج إليه رجل من أهل الشام فقتله، حتى قتل أربعة، فلما رأى ذلك الحجاج أمر مناديًا فنادى: لا يخرج إلى هذا الكلب أحد، قال: فكف الناس. قال سعيد الحبشي: فدنوت من الحجاج فقلت: أصلح الله الأمير! إنك رأيت ألا يخرج إلى هذا الكلب أحد، وإنما هلك من هلك من هؤلاء النفر بآجالهم، ولهذا الرجل آجل، وأرجو أن يكون قد حضر، فأذن لأصحابي الذين قدموا معي فليخرج إليه رجل منهم، فقال الحجاج: إن هذا الكلب لم يزل هذا له عادة وقد أرعب الناس، وقد أذنت لأصحابك، فمن أحب أن يقوم فليقم. فرجع سعيد الحرشي إلى أصحابه فأعلمهم، فلما نادى ذلك الرجل بالبراز برز إليه رجل من أصحاب الحرشي، فقتله قدامة، فشق ذلك على سعيد، وثقل عليه لكلامه الحجاج، ثم نادى قدامة: من يبارز؟ فدنا سعيد من الحجاج، فقال: أصلح الله الأمير! إئذن لي في الخروج إلى هذا الكلب. فقال: وعندك ذلك؟ قال سعيد: نعم، أنا كما تحب؛ فقال الحجاج: أرني سيفك، فأعطاه إياه، فقال الحجاج: معي سيف أثقل من هذا، فأمر له بالسيف، فأعطاه إياه، فقال الحجاج - ونظر إلى سعيد فقال: ما أجود درعك وأقوى فرسك! ولا أدري كيف تكون مع هذا الكلب! قال سعيد: أرجو أن يظفرني الله به؛ قال الحجاج: اخرج على بركة الله. قال سعيد: فخرجت إليه، فلما دنوت منه، قال: قف يا عدو الله، فوقفت، فسرني ذلك منه، فقال: إختر إما أن تمكني فأضربك ثلاثًا، وإما أن أمكنك فتضربني ثلاثًا، ثم تمكنني. قلت: أمكني، فوضع صدره على قربوسه ثم قال: إضرب، فجمعت يدي على سيفي، ثم ضربت على المغفر متمكنًا، فلم يصنع شيئًا، فساءني ذلك من سيفي ومن ضربتي، ثم أجمع رأيي أن أضربه على أصل العاتق، فإما أن أقطع وإما أن أوهن يده عن ضربته، فضربته فلم أصنع شيئًا؛ فساءني ذلك ومن غاب عني ممن هو في ناحية العسكر حين بلغه ما فعلت، والثالثة كذلك. ثم اخترط سيفًا ثم قال: أمكني، فأمكنته، فضربني ضربةً صرعني منها، ثم نزل عن فرسه وجلس على صدري، وانتزع من خفيه خنجرًا أو سكينًا فوضعها على حلقي يريد ذبحي، فقلت له: أنشدك الله! فإنك لست مصيبًا من قتلي الشرف والذكر مثل ما أنت مصيب من تركي، قال: ومن أنت؟ قلت: سعيد الحرشي، قال: أولى يا عدو الله! فانطلق فأعلم صاحبك ما لقيت. قال سعيد: فانطلقت أسعى حتى أنتهيت إلى الحجاج، فقال: كيف رأيت! فقلت: الأمير كان أعلم بالأمر. رجع الحديث إلى الحديث أبي مخنف، عن أبي يزيد، قال: وكان أبو البختري الطائي وسعيد بن جبير يقولان: " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلًا " إلى آخر الآية، ثم يحملان حتى يواقعا الصف. قال أبو المخارق: قاتلناهم مائة يوم سواء أعدها عدًا. قال: نزلنا دير الجماجم مع ابن محمد غداة الثلاثاء ليلة مضت من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين، وهزمنا يوم الأربعاء بأربع عشرة مضت من جمادى الآخرة عند إمتداد الضحى ومتوع النهار، وما كنا قط أجرأ عليهم ولا هم أهون علينا منهم في ذلك اليوم. قال: خرجنا إليهم وخرجوا إلينا يوم الأربعاء، لأربع عشرة مضت من جمادى الآخرة، فقاتلناهم عامة النهار أحسن قتال قاتلناهموه قط، ونحن أمنون من الهزيمة، عالون بالقوم، إذ خرج سفيان بن الأبرد الكلبي في الخيل من قبل ميمنة أصحابه، حتى دنا من الأبرد بن قرة التميمي، وهو على ميسرة عبد الرحمن بن محمد، فوالله ما قاتله كبير كبير قتال حتى انهزم، فأنكرها الناس منه، وكان شجاعًا ولم يكن الفرار له بعادة، فظن الناس أنه قد كان أومن، وصولح على أن ينهزم بالناس، فلما فعلها تقوضت الصفوف من نحوه، وركب الناس وجوههم وأخذوا في كل وجه، وصعد عبد الرحمن بن محمد المنبر، فأخذ ينادي الناس: عباد الله، إلي أنا ابن محمد؛ فأتاه عبد الله بن رزام الحارثي، فوقف تحت منبره، وجاء عبد الله بن ذؤاب السلمي في خيل له، فوقف منه قريبًا، وثبت حتى دنا منه أهل الشام، فأخذت نبلهم تحوزه، فقال: يا بن رزام، احمل على هذه الرجال والخيل، فحمل عليهم حتى أمعنوا. ثم جاءت خيل لهم أخرى ورجال، فقال: احمل عليهم يا بن ذؤاب، فحمل عليهم حتى أمعنوا، وثتب لا يبرح منبره، ودخل أهل الشام العسكر، فكبروا، فصعد إليه عبد الله بن يزيد بن المغفل الأزدي - وكانت مليكة ابنة أخيه امرأة عبد الرحمن - فقال: إنزل، فإني أخاف عليك إن لم تنزل أن تؤسر، ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعًا يهلكهم الله به بعد اليوم. فنزل وخلى أهل العراق العسكر، وانهزموا لا يلوون على شيء، ومضا عبد الرحمن بن محمد مع ابن جعدة بن هبيرة ومعه أناس من أهل بيته؛ حتى إذا حاذوا قرية بني جعدة بالفلوجة دعوا بمعبر، فعبروا فيه، فانتهى إليهم بسطام بن مصقلة، فقال: هل في السفينة عبد الرحمن بن محمد؟ فلم يكلموه، وظن أنه فيهم، فقال: " لا وألت نفس عليها تحاذر " ضرم قيس على البلا ** د حتى إذا اضطرمت أجذما ثم جاء حتى انتهى إلى بيته وعليه السلاح وهو على فرسه لم ينزل عنه، فخرجت إليه ابنته فالتزمها، وخرج إليه أهله يبكون، فأوصاهم بوصية وقال: لا تبكوا، أرأيتم إن لم أترككم، كم عسيت أن أبقى معكم حتى أموت! وإن أنا مت فإن الذي رزقكم الآن حي لا يموت، وسيرزقكم بعد وفاتي كما رزقكم في حياتي؛ ثم ودع أهله وخرج من الكوفة. قال أبو مخنف: فحدثني الكلبي محمد بن السائد، أنهم لما هزموا ارتفاع النهار حين امتد ومتع، قال: جئت أشتد ومعي الرمح والسيف والترس حتى بلغت أهلي من يومي، ما ألقيت شيئًا من سلاحي، فقال الحجاج: اتركوهم فليتبدلوا ولا تتبعوهم، ونادى المنادي من رجع فهو آمن. ورجع محمد بن مروان إلى الموصل، وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام بعد الوقعة، وخليا الحجاج والعراق، وجاء الحجاج حتى دخل الكوفة، وأجلس مصقلة ابن كرب بن رقبة العبدي إلى جنبه، وكان خطيبًا فقال: إشتم كل امرئ بما فيه ممن كنا أحسنا إليه، فاشتمه بقلة شكره، ولؤم عهده؛ ومن علمت منه عيبًا فعبه بما فيه، وصغر إليه نفسه. وكان لا يبايعه أحد إلا قال له: أتشهد أنك قد كفرت؟ فإذا قال: نعم، بايعه وإلا قتله، فجاء إليه رجل من خثعم ق كان معتزلًا للناس جميعًا من وراء الفرات، فسأله عن حاله فقال: ما زلت معتزلًا وراء هذه النطفة، منتظرًا أمر الناس حتى ظهرت، فأتيتك لأبايعك مع الناس؛ قال: أمتربص! أتشهد أنك كافر؟ قال: بئس الرجل أنا إن كنت عبدت الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر؛ قال: إذًا أقتلك؛ قال: وإن قتلتني فوالله ما بقي من عمري إلا ظمء حمار، وإني لأنتظر الموت صباح مساء، قال: اضربوا عنقه، فضربت عنقه، فزعموا أنه لم يبقى حوله قرشي ولا شامي ولا أحد من الحزبين إلا رحمه ورثى له من القتل. ودعا بكميل بن زياد النخعي فقال له: أنت المقتص من عثمان أمير المؤمنين؟ قد كنت أحب أن أجد عليك سبيلًا، فقال: والله ماأدري على أينا أشد غضبًا؟ عليه حين أقاد من نفسه، أم على حين عفوت عنه؟ ثم قال: أيها الرجل من ثقيف، لا تصرف عن أنيابك، ولا تهدم على تهدم الكثيب، ولا تكثر كثران الذئب، والله ما بقي من عمري إلا ظمء الحمار، فإنه يشرب غدوة ويموت عشية، ويشرب عشية ويموت غدوة، اقض ما أنت قاض، فإن الموعد الله، وبعد القتل الحساب، قال الحجاج إن الحجة عليك، قال: ذلك إن كان القضاء إليك، قال: بلى كنت فيمن قتل عثمان، وخلعت أمير المؤمنين، اقتلوه. فقدم فقتل، قتله أبو الجهم بم كنانة الكلبي من بني عامر بن عوف، ابن عم منثور بن جمهور. وأتى بآخر من بعده، فقال الحجاج: إني أرى رجلًا ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر، فقال: أخادعي عن نفسي! أنا أكفر أهل الأرض، واكفر من فرعون ذي الأوتاد، فضحك الحجاج وخلى سبيله. وأقام بالكوفة شهرًا، وعزل أهل الشام عن بيوت أهل الكوفة هزيمة ابن الأشعث وأصحابه في وقعة مسكن وفي هذه السنة كانت الوقعة بمسكن بين الحجاج وابن الأشعث بعدما انهزم من دير الجماجم. ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة وعن صفتها قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي يزيد السكسكي، قال: خرج محمد بن سعيد بن أبي وقاص بعد وقعة الجماجم حتى نزل المدائن، واجتمع إليه ناس كثير، وخرج عبيد الله بن عبد الرحمن بن شمرة بن حبيب بن عبد شمس القرشي حتى أتى البصرة وبها أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، ابن عم الحجاج، فأخذها، وخرج عبد الرحمن بن محمد حتى قدم البصرة وهو بها، فاجتمع الناس إلى عبد الرحمن ونزل، فأقبل عبيد الله حينئذ إلى ابن محمد بن الأشعث، وقال له: إني لم أرد فراقك، وإنما أخذتها لك. وخرج الحجاج فبدأ بالمدائن، فأقام عليها خمسًا حتى هيأ الرجال في المعابر، فلما بلغ محمد بن سعد عبورهم إليهم خرجوا حتى لحقوا بابن الأشعث جميعًا. وأقبل نحو الحجاج، فخرج الناس معه إلى مسكن على دجيل، وأتاه أهل الكوفة والفلول من الأطراف، وتلاوم الناس على الفرار، وبايع أكثرهم بسطام بن مصقلة على الموت، وخندق عبد الرحمن على أصحابه، وبشق الماء من جانب، فجعل القتال من وجه واحد، وقدم عليه خالد بن جرير بن عبد الله القسري من خراسان في ناس من بعث الكوفة، فاقتتلوا خمس عشرة ليلة من شعبان أشد القتال حتى قتل زياد بن غنيم القيني، وكان على مسالح الحجاج، فهده ذلك واصحابه هدًا شديدًا. قال أبو مخنف: حدثني أبو جهضم الأزدي، قال: بات الحجاج ليله كله يسير فينا يقول لنا: إنكم أهل الطاعة، وهم أهل المعصية، وأنتم تسعون في رضوان الله، وهم يسعون في سخط الله، وعادة الله عندكم فيهم حسنة؛ ما صدقتموهم في موطن قط ولا صبرتم إلا أعقبكم الله النصر عليهم والظفر بهم؛ قأصبحوا إليهم عادين جادين، فإني لست أشك في النصر إن شاء الله. قال: فأصبحنا، وقد عبأنا في السحر، فباكرناهم فقاتلناهم أشد قتال قاتلناهموه قط، وقد جاءنا عبد الملك بن المهلب مجففًا، وقد كشفت خيل سفيان بن الأبرد، فقال له الحجاج: ضم إليك يا عبد الملك هذا النشر لعلي أحمل عليهم، ففعل، محمل الناس من كل جانب، فانهزم أهل العراق أيضًا، وقتل أبو البختري الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وقالا قبل أن يقتلا: إن الفرار كل ساعة بنا لقبيح. فأصيبا. قال: ومشى بسطام بن مصقلة الشيباني في أربعة آلاف من أهل الحفاظ من أهل المصرين، فكسروا جفون السيوف، وقال لهم ابن مصقلة: لو كنا إذا فررنا بأنفسنا من الموت نجونا منه فررنا، ولكنا قد علمنا أنه نازل بنا عما قليل، فأين المحيد عما لابد منه! يا قوم إنكم محقون، فقاتلوا على الحق، والله لو لم تكونوا على الحق لكان موت في عز خيرًا من حياة في ذل. فقاتل هو وأصحابه قتالًا شديدًا كشفوا فيه أهل الشام مرارًا، حتى قال الحجاج: علي بالرماة لايقاتلهم غيرهم، فلنا جاءتهم الرماة وأحاط بهم الناس من كل جانب قتلوا إلا قليلًا، وأخذ بكير بن ربيعة بن ثروان الضبي أسيرًا، فأتى به الحجاج فقتله. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الجهضم، قال: جئت بأسير كان الحجاج يعرفه بالبأس، فقال الحجاج: يا أهل الشام، إنه من صنع الله لكم أن هذا غلام من الغلمان جاء بفارس أهل العراق أسيرًا، اضرب عنقه، فقتله. قال: ومضى ابن الأشعث والفل من المنهزمين معه نحو سجستان فأتبعهم الحجاج عمارة بن تميم اللخمي ومعه ابنه محمد بن الحجاج وعمارة أمير على القوم؛ فسار عمارة بن تميم إلى عبد الرحمن فأدركه بالسوس، فقاتله ساعة من نهار، ثم إنه انهزم هو وأصحابه فمضوا حتى أتوا سابور، واجتمعت إلى عبد الرحمن بن محمد الأكراد مع من كان من الفلول، فقاتلهم عمارة بن تميم قتالًا شديدًا على العقبة حتى جرح عمارة وكثير من أصحابه، ثم انهزم عمارة وأصحابه وخلوا لهم عن العقبة، ومضى عبد الرحمن مر بكرمان. قال الواقدي: كانت وقعة الزاوية بالبصرة في المحرم سنة ثلاث وثمانين. قال أبو مخنف: حدثني سيف الله بن بشر العجلي، من المنخل بن حابس العبدي، قال: لما دخل عبد الرحمن بن محمد كرمان تلقاه عمرو بن لقيط العبدي - وكان عامله فيها - فهيأ له نزلًا فنزل، فقال له شيخ من عبد القيس يقال له معقل: والله لقد بلغنا عنك يا بن الأشعث أن قد كنت جبانًا، فقال عبد الرحمن: والله ما جبنت، والله لقد دلفت الرجال بالرجال، ولففت الخيل بالخيل، ولقد قاتلت فارسًا، وقاتلت راجلًا، وما انهزمت، ولا تركت العرصة للقوم في موطن حتى لا أجد مقاتلًا ولا أرى معي مقاتلًا، ولكني زاولت ملكًا مؤجلًا. ثم إنه مضى بمن معه حتى فوز في مفازة كرمان. قال أبو مخنف: فحدثني هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي، قال: لما مضى ابن محمد في مفازة كرمان وأتبعه أهل الشام دخل بعض أهل الشام قصرًا في المفازة، فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض أهل الكوفة من شعر أبي جدة اليشكري، وهي قصيدة طويلة: أيا لهفًا ويا حزنًا جميعًا ** ويا حر الفؤاد لما لقينا! تركنا الدين والدنيا جميعًا ** وأسلمنا الحلال والبنينا فما كنا أناسًا أهل دين ** فنصبر في البلاء إذا ابتلينا وما كنا أناسًا أهل دينًا ** فنمنعها ولو لم نرج دينا تركنا دورنا لطغام عك ** وأنباط القرى والأشعرينا ثم إن ابن محمد مضى حتى خرج من زرنج مدينة سجستان، وفيها رجل من بني تميم قد كان عبد الرحمن استعمله عليها، يقال له عبد الله بن عامر البعار من بني مجاشع بن دارم، فلما قدم عليه عبد الرحمن بن محمد منهزمًا أغلق باب المدينة دونه، ومنه دخولها، فأقام عليها عبد الرحمن أيامًا رجاء افتتاحها ودخولها. فلما رأى أنه لا يصل إليها خرج حتى أتى بست، وقد كان استعمل عليها رجلًا من بكر بن وائل يقال له عياض بن هميان أبو هشام بن عياض السدوسي، فاستقبله، وقال له: انزل، فجاء حتى نزل به، وانتظر حتى غفل أصحاب عبد الرحمن وتفرقوا عنه وثب عليه فأوثقه، وأراد أن يأمن به عند الحجاج. ويتخذ بها عنده مكانًا. وقد كان رتيبل سمع يمقدم عبد الرحمن عليه، فاستقبله في جنوده، فجاء رتيبل حتى أحاط ببست، ثم نزل وبعث إلى البكري: والله لئن آذيته بما يقذى عينه، أو ضررته ببعض المضرة، أو رزأته حبلًا من شعر لاأبرح العرصة حتى أستنزلك فأقتلك وجميع من معك، ثم أسبي ذراريكم، وأقسم بين الجند أموالكم. فأرسل إليه البكري أن أعطانا أمانًا على أنفسنا وأموالنا، ونحن ندفعه إليك سالمًا، وما كان له من مال موفرًا. فصالحهم على ذلك وآمنهم، ففتحوا لابن الأشعث الباب وخلوا سبيله، فأتى رتيبل فقال له: إن هذا كان عاملي على هذه المدينة، وكنت حيث وليته واثقًا به، مطمئنًا إليه. فغدر بي وركب مني ما قد رأيت، فأذن لي في قتله، قال: قد آمنته وأكره أن أغدر به، قال: فأذن لي دفعه ولهزه، والتصغير به، قال: أما هذا فنعم. ففعل به عبد الرحمن بن محمد، ثم مضى حتى دخل مع رتيبل بلاده، فأنزله رتيبل عنده وأكرمه وعظمه، وكان معه ناس من الفل كثير. ثم إن عظم الفلول وجماعة أصحاب عبد الرحمن ومن كان لا يرجو الأمان من الرؤوس والقادة الذين نصبوا للحجاج في كل موطن مع ابن الأشعث، ولم يقبلوا أمان الحجاج في أول مرة، وجهدوا عليه الجهد كله، اقبلوا في أثر ابن الأشعث وفي طلبه حتى سقطوا بسجستان، فكان بها منهم وممن تبعهن من أهل سجستان وأهل البلد نحو من ستين ألفًا، ونزلوا على عبد الله بن عامر البعار فحصروه، وكتبوا إلى عبد الرحمن يخبرونه بقدومهم وعددهم وجماعتهم، وهو عند رتبيل. وكان يصلي بهم عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فكتبوا إليه: أن أقبل إلينا لعلنا نسير إلى خراسان، فإن بها منا جندًا عظيمًا، فلعلهم يبايعوننا على قتال أهل الشام، وهي بلاد واسعة عريضة، وبها الرجال والحصون. فخرج إليهم عبد الرحمن بن محمد بمن معه، فحصروا عبد الله بن عامر البعار حتى استنزلوه، فأمر به عبد الرحمن فضرب وعذب وحبس. وأقبل نحو عمارة بن تميم في أهل الشام، فقال أصحاب عبد الرحمن بن محمد لعبد الرحمن: اخرج بنا عن سجستان فلندعها له ونأتي خراسان، فقال عبد الرحمن بن محمد: على خراسان يزيد بن المهلب، وهو شاب شجاع صارم، وليس بتارك لكم سلطانه، ولوا دخلتموها وجدتموه إليكم سريعًا، ولن يدع أهل الشام أتباعكم، فأكره أن يجتمع عليكم أهل خراسان وأهل الشام، وأخاف ألا تنالوا ما تطلبون، فقالوا: إنما أهل خراسان منا، ونحن نرجو أن لو قد دخلناها ان يكون من يتبعنا منهم أكثر ممن يقاتلنا، وهو أرض طويلة عريضة ننتحي فيها حيث شئنا، ونمكث حتى يهلك الله الحجاج أو عبد الملك، أونرى من رأينا. فقال لهم عبد الرحمن: سيروا على اسم الله. فساروا حتى بلغوا هراة، فلم يشعروا بشيء حتى خرج من عسكره عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة القرشي في ألفين، ففارقه، فأخذ طريقًا سوى طريقهم، فلما أصبح ابن محمد قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني قد شهدتكم في هذه المواطن، وليس فيها مشهد إلا أصبر لكم فيه نفسي حتى لا يبقى منكم أحد، فلما رأيت أنكم لا تقاتلون، ولا تصبرون، أتيت ملجأ ومأمنًا فكنت فيه، فجاءتني كتبكم بأن أقبل إلينا، فإنا قد اجتمعنا وأمرنا واحد، لعلنا نقاتل عدونا، فأتيتكم فرأيت أن أمضي إلى خراسان وزعمتم أنكم مجتمعون لي، وأنكم لن تفرقوا عني. ثم هذا عبيد الله بن عبد الرحمن قد صنع ما قد رأيتم، فحسبي منكم يومي هذا فاصنعوا ما بدا لكم، أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيتكم من قبله، فمن أحب منكم أن يتبعني فليتبعني. ومن كره ذلك فليذهب حيث أحب في عياذ من الله. فتفرقت منهم طائفة، ونزلت معه طائفة، وبقى عظم العسكر، فوثبوا إلى عبد الرحمن بن العباس لما انصرف عبد الرحمن، فبايعوه، ثم مضى ابن محمد إلى رتبيل ومضوا هم إلى خراسان حتى انتهوا إلى هراة فلقوا بها الرقاد الأزدي من العتيك، فقتلوه، وسار إليهم يزيد بن المهلب. وأما علي بن محمد المدائني فإنه ذكر عن المفضل بن محمد أن ابن الأشعث لما انهزم من مسكن مضى إلى كابل، وأن عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة أتى هراة، فذم ابن الأشعث وعابه بفراره، وأتى عبد الرحمن بن عباس سجستان فانضم إليه فل ابن الأشعث، فسار إلى خراسان في جمع يقال في عشرين ألفًا، فنزل هراة ولقوا الرقاد بن عبيد العتكي فقتلوه، وكان مع عبد الرحمن من عبد القيس عبد الرحمن بن المنذر بن الجارود، فأرسل إليه يزيد بن المهلب: قد كان لك في البلاد متسع، ومن هو أكل مني حدًا وأهون شوكة، فارتحل إلى بلد ليس فيه سلطان، فإني أكره قتالك، وإن أحببت أن أمدك بمال لسفرك أعنتك به؛ فأرسل إليه: ما نزلنا هذه البلاد لمحاربة ولا لمقام، ولكنا أردنا أن نريح، ثم نشخص إن شاء الله، وليست بنا حاجة إلى ما عرضت، فانصرف رسول يزيد إليه، وأقبل الهاشمي على الجباية، وبلغ يزيد، فقال: من أراد أن يريح ثم يجتاز لم يجب الخراج؛ فقدم المفضل في أربعة آلاف - ويقال في ستة آلاف - ثم أتبعه في أربعة آلاف، ووزن يزيد نفسه بسلاحه، فكان أربعمائة رطل، فقال: ما أراني إلا قد ثقلت عن الحرب، أي فرس يحملني! ثم دعا بفرسه الكامل فركبه، واستخلف على مرو خاله جديع بن يزيد، وصير طريقه على مرو الروذ، فأتى قبر أبيه فأقام عنده ثلاثة أيام، وأعطى من معه مائة درهم مائة درهم، ثم أتى هراة فأرسل إلى الهاشمي: قد أرحت وأسمنت وجبيت، فلك ما جبيت، وإن أردت زيادة زدناك، فاخرج فوالله ما أحب أن أقاتلك. قال: فأبى إلا القتال ومعه عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، ودس الهاشمي إلى جند يزيد يمنيهم ويدعوهم إلى نفسه، فأخبر تعضهم يزيد، فقال: جل الأمر عن العتاب، أتغدى بهذا قبل أن يتعشى بي؛ فسار إليه حتى تدانى العسكران، وتأهبوا للقتال، وألقى ليزيد كريس فقعد عليه، وولى الحرب أخاه المفضل، فأقبل رجل من أصحاب الهاشمي - يقال له خليد عينين من عبد القيس - على ظهر فرسه، فرفع صوته فقال: دعت يا يزيد بن المهلب دعوةً ** لها جزع ثم استهلت عيونها ولو يسمع الداعي النداء أجابها ** بصم القنا والبيض تلقى جفونها وقد فر أشراف العراق وغادروا ** بها بقرا للحين جما قرونها وأراد أن يحض يزيد، فسكت يزيد طويلا حتى ظن الناس أن الشعر قد حركه، ثم قال لرجل: ناد وأسمعهم، جشموهم ذلك، فقال خليد: لبئس المنادي والمنوه باسمه ** تناديه أبكار العراق وعونها يزيد إذا يدعى ليوم حفيظة ** ولا يمنع السو آت إلا حصونها فأني أراه عن قليل بنفسه ** يدان كما قد كان قبل يدينها فلا حرة تبكيه لكن نوائح ** تبكي عليه البقع منها وجونها فقال يزيد للمفضل: قدم خيلك، فتقدم بها، وتهايجوا فلم يكن بينهم كبير قتال حتى تفرق الناس عن عبد الرحمن، وصبر وصبرت معه طائفة من أهل الحفاظ، وصبر معه العبديون، وحمل سعد بن نجد القردوسي على حليس الشيباني وهو أمام عبد الرحمن، فطعنه حليس فأذراه عن فرسه، وحماه أصحابه، وكثرهم الناس فانكشفوا، فأمر يزيد بالكف عن اتباعهم، وأخذوا ما كان في عسكرهم، وأسروا منهم أسرى، فولى يزيد عطاء بن أبي السائب العسكر، وأمره بضم ما كان فيه، فأصابوا ثلاث عشرة امرأة، فأتوا بهن يزيد، فدفعهن إلى مرة بن عطاء بن أبي السائب، فحملهن إلى الطبسين، ثم حملهن إلى العراق. وقال يزيد لسعد بن نجد: من طعنك؟ قال: حليس الشيباني، وأنا والله راجلا أشد منه وهو فارس. قال: فبلغ حليسًا، فقال: كذب والله، لأنا أشد منه فارسًا وراجلًا. وهرب عبد الرحمن بن منذر بن بشر بن حارثة فصار إلى موسى بن عبد الله بن خازم، قال: فكان في الأسرى محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعمرو بن موسى بن عبيد الله بن معمر، وعياش بن الأسود بن عوف الزهري والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وفيروز حصين، وأبو العلج مولى عبيد الله بن معمر، ورجل من آل أبي عقيل، وسوار بن مروان، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن خلف، وعبد الله بن فضالة الزهراني. ولحق الهاشمي بالسند، وأتى ابن سمرة مرو، ثم انصرف يزيد إلى مرو وبعث بالأسرى إلى الحجاج مع سبرة بن نخف بن أبي صفرة، وخلى عن ابن طلحة وعبد الله بن فضالة، وسعى قوم بعبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، فأخذه يزيد فحبسه. وأما هشام فإنه ذكر أنه حدثه القاسم بن محمد الحضرمي، عن حفص ابن عمرو بن قبيصة، عن رجل من بني حنيفة يقال له جابر بن عمارة، أن يزيد بن المهلب حبس عنده عبد الرحمن بن طلحة وآمنه، وكان الطلحي قد آلى على يمين ألا يرى يزيد بن المهلب في موقف إلا أتاه حتى يقبل يده شكرًا لما أبلاه. قال: وقال محمد بن سعد بن أبي وقاص ليزيد: أسألك بدعوة أبي لأبيك! فخلى سبيله. ولقول محمد بن سعد ليزيد: " أسألك بدعوة أبي لأبيك " حديث فيه بعض الطول. قال هشام: حدثني أبو مخنف، قال: حدثني هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي، قال: بعث يزيد بن المهلب ببقية الأسرى إلى الحجاج بن يوسف؛ بعمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، فقال: أنت صاحب شرطة عبد الرحمن؟ فقال: أصلح الله الأمير! كانت فتنه شملت البر والفاجر، فدخلنا فيها، فقد أمكنك الله منا، فإن عفوت فبحلمك وفضلك وإن عاقبت عاقبت ظلمة مذنبين، فقال الحجاج: أما قولك: " إنها شملت البر والفاجر " فكذبت، ولكنها شملت الفجار، وعوفي منها الأبرار، وأما اعترافك بذنبك فعسى أن ينفعك، فعزل، ورجا الناس له العافية حتى قدم بالهلقام بن نعيم، فقال له الحجاج: أخبرني عنك، مارجوت من إتباع عبد الرحمن بن محمد؟ أرجوت أن يكون خليفة؟ قال: نعم، رجوت ذلك، وطمعت أن ينزلني منزلتك من عبد الملك، قال: فغضب الحجاج وقال: اضربوا عنقه، فقتل: قال: ونظر إلى موسى بن عمر بن عبيد الله بن معمر وقد نحى عنه فقال: اضربوا عنقه، وقتل بقيتهم. وقد كان آمن عمرو بن أبي قرة الكندي ثم الحجري وهو شريف وله بيت قديم، فقال: يا عمرو، كنت تفضي إلي وتحدثني أنك ترغب عن ابن الأشعث وعن الأشعث قبله، ثم تبعت عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث؛ والله م بك عن اتباعهم رغبة، ولا نعمة عين لك ولا كرامة. قال: وقد كان الحجاج حين هزم الناس بالجماجم نادي مناديه: من لحق بقتيبة بن مسلم بالري فهو أمانه، فلحق ناس كثير بقتيبة، وكان فيمن لحق به عامر الشعبي، فذكر الحجاج الشعبي يومًا فقال: أين هو؟ وما فعل؟ فقال له يزيد بن أبي مسلم: بلغني أيها الأمير أنه لحق بقتيبة بن مسلم بالري، قال: فابعث إليه فلنؤت به، فكتب الحجاج إلى قتيبة: أما بعد، فابعث إلى بالشعبي حين تنظر في كتابي هذا؛ والسلام عليك؛ فسرح إليه. قال أبو مخنف: فحدثني السري بن إسماعيل عن الشعبي، قال: كنت لابن أبي مسلم صديقًا، فلما قدم بي على الحجاج لقيت ابن أبي مسلم فقلت: أشر علي؛ قال: ما أدري ما أشير به عليك غير أن أعتذرما استطعت من عذر! وأشار بمثل ذلك نصحائي وإخواني، فلما دخلت عليه رأيت والله غير ما رأوا لي، فسلمت عليه بالإمرة ثم قلت: أيها الأمير، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقًا، قد والله سودناه عليك، وحرضنا وجهدنا عليك كل الجهد، فما آلونا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا الأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد الحجة لك علينا، فقال له الحجاج: أنت والله أحب إلي قولا ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما فعلت ولا شهدت؛ قد أمنت عندنا يا شعبي، فانصرف قال: فانصرفت، فلما مشيت قليلًا قال: هلم يا شعبي؛ قال: فوجل لذلك قلبي، ثم ذكرت قوله: قد أمنيت ياشعبي، فاطمأنت نفسي، قال: كيف وجدت الناس يا شعبي بعدنا؟ قال - وكان لي مكرمًا: فقلت: أصلح الله الأمير! اكتحلت والله بعدك السهر، واستوعرت الجناب، واستحلست الخوف، وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفًا قال: انصرف يا شعبي، فانصرفت. قال أبو مخنف: قال خالد بن قطن الحارثي: أتى الحجاج بالأعشى، أعشى همدان، فقال: إيه يا عدو الله! أنشدني قولك: " بين الأشج وبين قيس "، أنفذ بيتك، قال: بل أنشدك ما قلت لك؛ قال: بل أنشدني هذه؛ فأنشده: أبى الله إلا أن يتمم نوره ** ويطفئ نور الفاسقين فيخمدا ويظهر أهل الحق في كل موطن ** ويعد وقع السيف من كان أصيدا وينزل ذلا بالعراق وأهله ** لما نقضوا العهد الوثيق الموكدا وما أحدثوا من بدعة وعظيمة ** من القول لم تصعد إلى الله مصعدا وما نكثوا من بيعة بعد بيعة ** إذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا وجبنًا حشاه ربهم في قلوبهم ** فما يقربون الناس إلا تهددا فلا صدق في قول ولا صبر عندهم ** ولكن فخرًا فيهم وتزيدا فكيف رأيت الله فرق جمعهم ** ومزقهم عرض البلاد وشردا! فقتلاهم قتلى ضلال وفتنة ** وحيهم أمسى ذليلا مطردا ولما زحفنا لابن يوسف غدوة ** قطعنا وأفضينا إلى الموت مرصدا فكا فحنا الحجاج دون صفوفنا ** كفاحًا ولم يضرب لذلك موعدا بصف كأن البرق في حجراته ** إذا ما تجلى بيضه وتوقدا دلفنا إليه في صفوف كأنها ** جبال شروري لو تعان فتنهدا فما لبث الحجاج أن سل سيفه ** علينا فولى جمعنا وتبددا وما زاحف الحجاج إلا رأيته ** معانًا ملقى للفتوح معودا وإن ابن عباس لفى مرجحنة ** نشبهها قطعًا من الليل أسودا فما شرعوا رمحًا ولا جردوا له ** ألا ربما لا في الجبان فجردا وكرت علينا خيل سفيان كرةً ** بفرسانها والسمهرى مقصدا وسفيان يهديها كأن لواءه ** من الطعن سندبات بالصبغ مجسدا كهول ومرد من قضاعة حوله ** مساعير أبطال إذا النكس عردا إذ قال شدوا شدة حملوا معًا ** فأنهل خرصان الرماح وأوردا جنود أمير المؤمنين وخيله ** وسلطانه أمسى عزيزًا مؤيدا فيهنى أمير المؤمنين ظهوره ** على أمة كانوا بغاة وحسدا نزوا يشتكون البغا من أمرائهم ** وكانوا هم أبغى البغاة وأعندا وجدنا بني مروان خير أئمة ** وأفضل هذي الناس حلمًا وسوددا وخير قريش في قريش أرومةً ** وأكرمهم إلا النبي محمدا إذا ما تدبرنا عواقب أمره ** وجدنا أمير المؤمنين مسددا سيغلب قوم غالبوا الله جهرة ** وإن كايدوه كان أقوى وأكيدا كذاك يضل الله من كان قلبه ** مريضًا ومن وإلى النفاق وألحدا فقد تركوا الأهلين والمال خلفهم ** وبيضًا عليهن الجلابيب خردا يناديهم متعبرات إليهم ** ويذرين دمعًا في الخدود وإثمدا فإلا تناولهن منك برحمة ** يكن سبايا والبعولة أعبدا أنكثًا وعصيانًا وغدرًا وذلةً ** أهان الإله من أهان وأبعدا لقد شام المصرين فرخ محمد ** بحق وما لاقى من الطير أسعدا كما شام الله النجير وأهله ** بجد له قد كان أشقى وأنكدا فقال أهل الشام: أحسنوا، أصلح الله الأمير! فقال الحجاج: لا، لم يحسن، إنكم لا تدرون ما أراد بها، ثم قال: يا عدو الله إنا لسنا نحمدك على هذا القول إنما قلت: تأسف ألا يكون ظهر وظفر، وتحريضًا لأصحابك علينا، وليس عن هذا سألناك، أنفذ لنا قولك: بين الأشج وبين قيس باذخ فأنفذها، فلما قال: بخ بخ لوالده وللمولود قال: الحجاج: لا والله لا تبخبخ بعدها لأحد أبدًا، فقدمه فضرب عنقه. وقد ذكر من أمر هؤلاء الأسرى الذين أسرهم يزيد بن المهلب ووجههم إلى الحجاج ومن فلول ابن الأشعث الذين انهزموا يوم مسك أمر غير ما ذكره أبو مخنف عن أصحابه. والذي ذكر عنهم من ذلك أنه لما انهزم ابن الأشعث مضى هؤلاء مع سائر الفل إلى الري، وقد غلب عليهم عمر بن أبي الصلت بن كنارة مولى بني نصر بن معاوية، وكان من أفرس الناس، فانضموا إليه، فأقبل قتيبة بن مسلم إلى الري من قبل الحجاج وقد ولاه عليها. فقال النفر الذين ذكرت أن يزيد بن المهلب وجههم إلى الحجاج مقيدين وسائر فل ابن الأشعث الذين صاروا إلى الري لعمر بن أبي الصلت: نوليك أمرنا وتحارب بنا قتيبتة؛ فشاور عمر أباه أبا الصلت، فقال له أبوه: والله يا بني ما كنت أبالي إذا سار هؤلاء تحت لوائك أن تقتل من غد. فعقد لواءه، وسار فهزم وهزم أصحابه، وانكشفوا إلى سجستان، واجتمعت بها الفلول، وكتبوا إلى عبد الرحمن بن محمد وهو عند رتبيل، ثم كان من أمرهم وأمر يزيد ين المهلب ما قد ذكرت. وذكر أبو عبيدة أن يزيد لما أراد أن يوجه الأسرى إلى الحجاج قال له أخوه حبيب: بأي وجه تنظر إلى اليمانية وقد بعثت ابن طلحة! فقال يزيد: هو الحجاج، ولا يتعرض له! وقال: وطن نفسك على العزل، ولا ترسل به، فإن له عندنا بلاء، قال: وما بلاءه؟ قال لزم المهلب في مسجد الجماعة بمائة ألف، فأداها طلحة عنه. فأطلقه، وأرسل بالباقين، فقال الفرزدق: وجد ابن طلحة يوم لاقى قومه ** فحطان يوم هراة خير المعشر وقال: إن الحجاج لما أتى بهؤلاء الأسرى من عند يزيد بن المهلب قال الجاجبة: إذا دعوتك بسيدهم فآتني بفيروز، فأبرز سريره - وهوحينئذ بواسط الصب قبل أن تبنى مدينة واسط - ثم قال لحاجبه: جئني بسيدهم؛ فقال لفيروز: قم؛ فقال له الحجاج: أبا عثمان، ما أخرجك مع هؤلاء، فوالله ما لحمك من لحومهم، ولا دمك من دمائهم! قال: فتنة عمت الناس، فكنا فيها، قال: أكتب لي أموالك، قال: ثم ماذا، قال: أكتبها أول؛ قال: ثم أنا آمن على دمي، قال: اكتبها، ثم أنظر؛ قال: اكتب يا غلام ألف ألف ألفي ألف، فذكر مالًا كثيرًا، فقال: الحجاج: أين هذه الأموال؟ قال: عندي، قال: فأدها؛ قال: وأنا آمن على دمي، قال: والله لتؤدينها ثم لأقتلنك؛ قال: والله لاتجمع مالي ودمي، فقال الحجاج للحاجب: نحه، فنحاه. ثم قال: أتني بمحمد بن سعد بن أبي وقاص، فدعاه، فقال له الحجاج: إيهن يا ظل الشيطان أعظم الناس تيهًا وكبرًا، تأبى بيعة يزيد بن معاوية، وتشبه بحسين وابن عمر، ثم صرت مؤذنًا لابن كنارة عبد بني نصر - يعني عمر بن أبي الصلت - مجعل يضرب بعود في يده رأسه حتى أدماه؛ فقال له محمد: أيها الرجل، ملكت فأسجح! فكف يده، فقال: إن رأيت أن تكتب إلى أمير المؤمنين فإن جاءك عفو كنت شريكًا في ذلك محمودًا، وإن جاءك غير ذلك كنت قد أعذرت فأطرق مليًا ثم قال: اضرب عنقه، فضربت عنقه. ثم دعا بعمر بن موسى فقال: يا عبد المرأة، أتقوم بالعمود على رأس ابن الحائك، وتشرب معه الشراب في حمام فارس، وتقول المقالة التي قلت! أين الفرزدق؟ قم فأنشده ما قلت فيه، فأنشده: وخضبت أيرك للزناء ولم تكن ** يوم الهياج لتخضب الأبطالا فقال: أما والله لقد رفعته عن عقائل نسائك، ثم أمر بضرب عنقه. ثم دعا ابن عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، فإذا غلام حدث، فقال: أصلح الله الأمير! ما لي ذنب إنما كنت غلامًا صغيرًا مع أبي وأمي لا أمر لي ولا نهي، وكنت معهما حيث كانا، فقال: وكانت أمك مع أبيك في هذه الفتن كلها؟ قال: نعم، قال: على أبيك لعنة الله. ثم دعا بالهلقام بن نعيم فقال: جعل ابن الأشعث طلب ما طلب، ما الذي أملت أنت معه؟ قال: أمنت أن يملك فيوليني العراق كما ولاك عبد الملك. قال: قم يا حوشب فاضرب عنقه، فقام إليه، فقال له الهلقام: يا بني لقيطة، أتنكأ القرح! فضرب عنقه. ثم أوتي بعبد الله بن عامر، فلما قام بين يديه قال: لا رأت عيناك يا حجاج الجنة إن أقلت ابن المهلب بما صنع. قال: وما صنع؟ قال: لآنه كاس في إطلاق أسرته ** وقاد نحوك في أغلالها مضرا وقى بقومك ورد الموت أسرته ** وكان قومك أدنى عنده خطرا فأطرق الحجاج مليًا ووقرت في قلبه، وقال: وما أنت وذاك! اضرب عنقه. فضربت عنقه. ولم تزل في نفس الحجاج حتى عزل يزيد عن خراسان وحبسه. ثم أمر بفيروز فعذب، فكان فيما عذب به أن كان يشد عليه القصب الفارسي المشقوق، قم يجر عليه حتى يخرق جسده، ثم ينضح عليه الخل والملح، فلما أحس بالموت قال لصاحب العذاب: إن الناس لايشكون أني قد قتلت، ولي ودائع وأموال عند الناس، لا تؤدى إليكم أبدًا، فأطهروني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال. فأعلم الحجاج، فقال: أظهروه، فأخرج إلى باب المدينة، فصاح في الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرني فأنا فيروز حصين؛ إن لي عند أقوام مالًا، فمن كان لي عنده شيء فهو له، وهو منه في حل، فلا يؤدين منه أحد درهمًا، ليبلغ الشاهد الغائب. فأمر به الحجاج فقتل. وكان ذلك مما روى الوليد بن هشام بن قحذم، عن أبي بكر الهذلى. وذكر ضمرة بن ربيعة، عن أبي شوذب، أن عمال الحجاج كتبوا إليه: إن الخراج قد انكسر، وإن أهل الذمة قد ألموا ولحقوا بالأمصار، فكتب إلى البصرة وغيرها أن من كان له أصل في قرية فليخرج إليها. وجعلوا لا يدرون أين يذهبون! فجعل قراء أهل البصرة يخرجون إليهم مقنعين فيبكون لما يسمعون منهم ويرون. قال: فقدم ابن الأشعث على تفيئة ذلك، واستبصر قراء أهل البصرة في قتال الحجاج مع عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث. وذكر عن ضمرة بن ربيعة عن الشيباني، فقال: قتل الحجاج يوم الزاوية أحد عشر ألفًا، ما استحيا منهم إلا واحدًا، كان ابنه في كتاب الحجاج، فقال له: أتحب أن نعفو لك عن أبيك؟ قال: نعم، فتركه لابنه؛ وإنما خدعهم بالأمان، أمر مناديًا فنادى عند الهزيمة: ألا لا أمان لفلان ولا فلان، فسمى رجالًا من أولئك الأشراف، ولم يقل: الناس آمنون، فقالت العامة: قد آمن الناس كلهم إلا هؤلاء النفر، فأقبلوا إلى حجرته فلما اجتمعوا أمرهم بوضع أسلحتهم، ثم قال: لآمرن بكم اليوم رجلًا ليس بينكم وبينه قرابة، فأمر بهم عمارة بن تميم اللخمي فقربهم فقتلهم. وروي عن النضر بن شمير، عن هشام بن حسان، أنه قال: بلغ ما قتل الحجاج صبرًا مائة وعشرين، أو مائة وثلاثين ألفًا. وقد ذكر في هزيمة ابن الأشعث بمسكن قول غير الذي ذكره أبو مخنف والذي ذكر من ذلك أن ابن الأشعث والحجاج اجتمعا بمسكن من أرض أبزقباذ، فكان عسكر ابن الأشعث على نهر يدعى خداج مؤخر النهر، نهر تيري، ونزل الحجاج على نهر أفريذ والعسكران جميعًا بين دجلة والسيب والكرخ، فاقتتلوا شهرًا - وقيل: دون ذلك - ولم يكن الحجاج يعرف إليهم طريقًا إلا الطريق الذي يلتقون فيه، فأتى بشيخ كان راعيًا يدعى زورقًا فدله على طريق من وراء الكرخ طوله ستة فراسخ، في أجمة وضحضاح من الماء، فانتخب أربعة آلاف من جلة أهل الشام، وقال لقائدهم: ليمن هذا العلج أمامك، وهذه أربعة آلاف درهم معك، فإن أقامك على عسكرهم فادفع المال إليه، وإن كان كذبًا فاضرب عنقه، فإن رأيتهم فاحمل عليهم فيمن معك، وليكن شعاركم: يا حجاج يا حجاج. فانطلق القائد صلاة العصر، وذلك مع صلاة العصر، فاقتتلوا إلى الليل، فانكشف الحجاج حتى عبر السيب - وكان قد عقده - ودخل ابن الأشعث عسكره فانتهب ما فيه. فقيل له: لو اتبعته؟ فقال: قد تعبنا ونصبنا، فرجع إلى عسكره فألقى أصحابه السلاح، وباتوا آمنين في أنفسهم لهم الظفر. وهم القوم عليهم نصف الليل يصيحون بشعارهم، فجعل الرجل من أصحاب ابن الأشعث لا يدري أين يتوجه! دجيل عن يساره ودجلة أمامه، ولها جرف منكر، فكان من غرق أكثر ممن قتل. وسمع الحجاج الصوت فعبر السيب إلى عسكره، ثم وجه خيله إلى القوم فالتقى العسكران على عسكر ابن الأشعث، وانحز في ثلثمائة، فمضى على شاطئ دجلة حتى أتى دجيلًا فعبره في السفن، وعقروا دوابهم، وانحدروا في السغن إلى البصرة، ودخل الحجاج عسكرهم فانتهب ما فيه، وجعل يقتل من وجد حتى قتل أربعة آلاف؛ فيقال: إن فيمن قتل عبد الله ابن شداد بن الهاد؛ وقتل بسطام بن مصقلة بن هبيرة، وعمر ابن ضبيعة الرقاشي، وبشر بن المنذر بن الجارود والحكم بن مخرمة العبديين، وبكير بن ربيعة بن ثروان الضبي؛ فأتى الحجاج برؤوسهم على ترس، فجعل ينظر إلى رأس بسطام ويتمثل: إذا مررت بوادي حية ذكر ** فاذهب ودعني أقاسي حية الوادي ثم نظر إلى رأس بكير، فقال: ما ألقى هذا الشقي مع هؤلاء. خذ بإذنه يل غلام فألقه عنهم. ثم قال: ضع هذا الترس بين يدي مسمع بن مالك ابن مسمع، فوضع بين يديه، فبكى، فقال له الحجاج: ما أبكاك؟ أحزنًا عليهم؟ قال: بل جزعًا لهم من النار. ذكر خبر بناء مدينة واسط وفي هذه السنة بنى الحجاج واسطًا، وكان سبب بنائه ذلك - فيما ذكر - أن الحجاج ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان، فعسكروا بحمام عمر. وكان فتى من أهل الكوفة من بني أسد حديث عهد بعرس بابنه عم له، انصرف من العسكر إلى ابنة عمه ليلًا، فطرق الباب طارق ودق دقًا شديدًا، فإذا سكران من أهل الشام، فقالت للرجل ابنة عمه: لقد لقينا من هذا الشامي شرًا، يفعل بنا كل ليلة ما ترى، يريد المكروه، وقد شكوته إلى مشيخة أصحابه وعرفوا ذلك فقال: إذنوا له، ففعلوا فأغلق الباب وقد كانت المرأة نجدت منزلها وطيبته، فقال الشامي: قد آن لكم، فاستقنأه الأسدي فأندر رأسه، فلما أذن بالفجر خرج الرجل إلى العسكر وقال لامرأته إذا صليت الفجر فابعثي إلى الشاميين أن أخرجوا صاحبكم، فسيأتون بك الحجاج، فاصدقيه الخبر على وجهه؛ ففعلت، ورفع القتيل إلى الحجاج، وأدخلت المرأة عليه وعنده عنبسة ابن سعيد على سريره، فقال لها: ما خطبك؟ فأخبرته، فقال: صدقتني. ثم قال لولاية الشامي إدفنوا صاحبكم فإنه قتيل الله إلى النار، لا قود له ولا عقل، ثم نادى مناديه: لا ينزلن أحد على أحد، واخرجوا فعسكروا. وبعث روادًا يرتادون له منزلًا، وأمعن حتى نزل أطراف كسكر، فبينا هو في موضع واسط إذا راهب قد أقبل على حمار له وعبر دجلة، فلما كان في موضع واسط تفاجت الآتان فبالت، فنزل الراهب، فاحتفر ذلك البول، ثم احتمله فرمى به في دجلة، وذلك بعين الحجاج، فقال: علي به، فأتى به، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: نجد في كتبنا أنه يبنى في هذا الوضع مسجد يعبد الله فيه ما دام في الأرض أحد يوحده. فاختط الحجاج مدينة واسط، وبنى المسجد في ذلك الموضع. وفي هذه السنة عزل عبد الملك - فيما قال الواقدي - عن المدينة أبان بن عثمان، واستعمل عليها هشام بن إسماعيل المخزومي. وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل، حدثني بذلك أحمد ابن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر وكان العمال في هذه السنة على الأمصار سوى المدينة هم العمال الذين كانوا عليها في السنة التي قبلها؛ وأما المدينة فقد ذكرنا من كان عليها فيها ثم دخلت سنة أربع وثمانين ذكر ما كان فيها من الأحداث ففيها كانت غزوة عبد الله بن عبد الملك بن مروان الروم، ففتح فيها المصيصة، كذلك ذكر الواقدي. خبر قتل الحجاج أيوب بن القرية وفيها قتل الحجاج أيوب بن القرية، وكان ممن كان مع ابن الأشعث. وكتان سبب قتله إياه - فيما ذكر - أنه كان يدخل على حوشب بن يزيد بعد انصرافه من دير الجماجم - وحوشب على الكوفة عامل للحجاج - فيقول حوشب: انظروا إلى هذا الواقف معي، وغدًا أو بعد غد يأتي كتاب من الأمير لا أستطيع إلا نفاذه، فبينا هو ذات يوم واقف إذ آتاه كتاب من الحجاج: اما بعد، فإنك قد صرت كهفًا لمنافقي أهل العراق ومأوى، فإذا نظرت في كتابي هذا فابعث إلي بابن القرية مشدودة يده إلى عنقه، مع ثقة من قبلك. فلما قرأ حوشب الكتاب رمى به إليه، فقرأه فقال: سمعًا وطاعة؛ فبعث به إلى الحجاج موثقًا، فلما دخل الحجاج قال له: يا بن القرية، ما أعددت لهذا الموقف؟ قال: أصلح الله الأمير! ثلاثة حروف كأنهن ركب وقوف، دنيا، وآخرة، ومعروف. قال: إخرج مما قلت، قال: أفعل، أما الدنيا فمال الحاضر، يأكل منه البر والفاجر، وأما الآخرة فميزان عادل ومشهد ليس فيه باطل، وأما المعروف فإن كان علي اعترفت، وإن كان لي إغترفت. قال: إما لا فاعترف بالسيف إذا وقع بك. قال: أصلح الله الأمير! أقلني عشرتي، وأسغني رقيقي؛ فإنه ليس جواد إلا له كبوة، ولا شجاع إلا هبوة. قال الحجاج: كلا والله لأرينك جهنم، قال: فأرحني فإني أجد جرها، قال: قدمه يا حرسي فاضرب عنقه، فلما نظر إليه الحجاج يتشحط في دمه قال: لو كنا تركنا ابن القرية حتى نسمع من كلامه! ثم أمر به فاخرج فرمى به. قال هشام: قال عوانة: حين منع الحجاج من الكلام ابن قرية، قال له ابن القرية: أما والله لو كنت أنا وأنت على السواء لسكنا جميعًا، أو لألفيت منيعًا. فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك بباذغيس وفي هذه السنة فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك بباذغيس. ذكر سبب فتحه إياها: ذكر علي بن محمد، عن المضل بن محمد، قال: كان نيزك ينزل بقلعة باذغيس، فتحين يزيد عزوه، ووضع عليه العيون، فبلغه خروجه، فخالفه يزيد إليها، وبلغ نيزك فرجع، فصالحه على أن يدفع إليه ما في القلعة من الخزائن، ويرتحل عنها بعياله، فقال كعب بن معدان الأشقري: وباذغيس التي من حل ذروتها ** عز الملوك فإن شا جار أو ظلما منعة لم يكدها قبله ملك ** إلا إذا واجهت جيشًا له وجما تخال نيرانها من بعد منظرها ** بعض النجوم إذا ما ليلها عتما لما أطاف بها ضاقت صدورهم ** حتى أقروا له بالحكم فاحتكما فذل ساكنها من بعد عزته ** يعطي الجزية عارفًا بالذل مهتضما وبعد ذلك أيامًا نعددها ** وقبلها ما كشفت الكرب والظلما أعطاك ذاك ولى الرزق يقسمه ** بين الخلائق والمحروم من حرما يداك إحداهما تسقي العدو بها ** سمًا وأخرى نداها لم يزل ديما فهل كسيب يزيد أو كنائله ** إلا الفرات وإلا النيل حين طما ليسا بأجود منه حين مدهما ** إذ يعلوان حداب الأرض والأكما وقال: ثنائي على حي العتيك بأنها ** كرام مقارها، كرام نصابها إذا عقدوا للجار حل بنجوة ** عزيز مراقيها، منيع هضابها نفى نيزكًا عن باذغيس ونيزك ** بمنزلة أعيا الملوك أغتصابها محلقة دون السماء كأنها ** غمامة صيف زل عنها سحابها ولا يبلغ الأروى شماريخها العلا ** ولا الطير إلا نسرها وعقابها وما خوفت بالذئب ولدان أهلها ** ولا نبحت إلا النجوم كلابها تمنيت أن ألقي العتيك ذوي النهى ** مصلة تحمى بملك ركابها كما يتمنى صاحب الحرث أعطشت ** مزارعه غيثًا غزيرًا ربابها فأسقى بعد اليأس حتى تحيرت ** جداولها ريًا وعب عبابها لقد جمع الله النوى وتشعبت ** شعوب من الآفاق شتى مآبها قال: وكان نيزك يعظم القلعة إذا رآها سجد لها. وكتب يزيد بن المهلب إلى الحجاج بالفتح، وكانت كتب يزيد إلى الحجاج يكتبها يحيى بن يعمر العدواني، وكان حليفًا لهذيل، فكتب: إن لقينا العدو فمنحنا الله أكتافهم، فقتلنا طائفة، وأسرنا طائفة، ولحقت طائفة برؤوس الجبال وعراعر الأودية، وأهضام الغيطان وأثناء الأنهار؛ فقال الحجاج: من يكتب ليزيد؟ فقيل: يحيى بن يعمر، فكتب إلى يزيد فحمله على البريد، فقدم عليه أفصح الناس، حفظت كلام أبي وكان فصيحًا. قال: من هناك فأخبرني هل يلحن عنبس ين سعيد؟ قال: نعم كثيرًا، قال: ففلان؟ قال: نعم، قال: فأخبرني عنى أألحن؟ قال: نعم تلحن لحنا خفيًا؛ تزيد حرفًا وتنقص حرفًا، وتجعل أن في موضع إن، وإن في موضع أن. قال: قد أجلتك ثلاثًا، فإن أجدك بعد ثلاث بأرض العراق قتلتك. فرجع إلى خراسان. وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي، كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكان عمال الأمصار في هذه السنة عمالها الذين سميت قبل في سنة ثلاث وثمانين. ثم دخلت سنة خمس وثمانين ذكر ما فيها من الأحداث خبر هلاك عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ففيها كان هلاك عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. ذكر السبب الذي به هلك، وكيف كان: ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: لما انصرف ابن الأشعث من هراة راجعًا إلى رتبيل كان معه رجل من أود يقال له علقمة بن عمرو، فقال له: ما أريد أن أدخل معك؛ فقال له عبد الرحمن: لم؟ قال: لأني أتخوف عليك وعلى من معك، والله لكأني بكتاب الحجاج قد جاء، فوقع إلى رتبيل يرغبه ويرهبه، فإذا هو قد بعث بك سلمًا أو قتلكم. ولكن هنا خمسمائة قد تبايعنا على أن ندخل مدينة فنتحصن فيها، ونقاتل حتى نعطى أمانًا أو نموت كرامًا. فقال له عبد الرحمن: أما لو دخلت معي لآسيتك وأكرمتك، فأبى عليه علقمة، ودخل عبد الرحمن بن محمد إلى رتبيل. وخرج هؤلاء الخمسمائة فبعثوا عليهم مودودًا النضري، وأقاموا حتى قدم عليهم عمارة بن تميم اللخمي فحاصرهم، فقاتلوه وامتنعوا منه حتى آمنهم، فخرجوا إليه فوفى لهم. قال: وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن بن محمد أن ابعث به إلي، وإلا فوالذي لا إله إلا هو لأوطئن أرضك ألف ألف مقاتل. وكان عند رتبيل رجل من بني تميم ثم من بني يربوع يقال له عبيد بن أبي سبيع، فقال لرتبيل: أنا آخذ لك من الحجاج عهدًا ليكفن الخراج عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه عبد الرحمن بن محمد، قال رتبيل لعبيد: فإن فعلت فإن لك عندي ما سألت. فكتب إلى الحجاج يخبره أن رتبيل لا يعصيه، وأنه لن يدع رتبيل حتى بعث إليه بعبد الرحمن بن محمد، فأعطاه الحجاج على ذلك مالًا وأخذ من رتبيل عليه مالًا، وبعث رتبيل برأس عبد الرحمن بن محمد إلى الحجاج، وترك له الصلح الذي كان يأخذه منه سبع سنين. وكان الحجاج يقول: بعث إلى رتبيل بعدو الله. فألقى نفسه من فوق إجار فمات. قال أبو مخنف: وحدثني سليمان بن أبي راشد. أنه سمع مليكة ابنة يزيد تقول: والله لما مات عبد الرحمن وإن رأسه لعلى فخذي، كان السل قد أصابه. فلما مات وأرادوا دفنه بعث إليه رتبيل فحز رأسه، فبعث به إلى الحجاج، وأخذ ثمانية رجلًا من آل الأشعث فحبسهم عنده، وترك جميع من كان معه من أصحابه. وكتب إليه الحجاج بأخذه الثمانية عشر رجلًا من أهل بيت عبد الرحمن، فكتب إليه: أن اضرب رقابهم، وابعث إلي برؤوسهم، وكره أن يؤتى بهم إليه أحياء فيطلب فيهم إلى عبد الملك، فيترك منهم أحدًا. وقد قيل في أمر بن أبي سبيع وابن الأشعث غير ما ذكرت عن أبي مخنف، وذلك ما ذكر عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنه كان يقول: زعم أن عمارة بن تميم خرج من كرمان فأتى سجستان وعليها رجل من بني العنبر يدعى مودودًا، فحصره ثم آمنه، ثم استولى على سجستان، وأرسل إلى رتبيل. وكتب إليه الحجاج: أما بعد، فإني قد بعثت إليك عمارة بن تميم في ثلاثين ألفًا من أهل الشام لم يخلفوا طاعة، ولم يخلعوا خليفة، ولم يتبعوا إمام ضلالة، يجري على كل رجل منهم في كل شهر مائة درهم، يستطعمون الحرب استطعامًا، يطلبون ابن الأشعث. فأبى رتبيل أن يسلمه. وكان مع ابن الأشعث عبيد بن أبي سبيع التميمي قد خص به، وكان رسوله إلى رتبيل، فخص بريتبيل أيضاُ، وخف عليه. فقال القاسم ابن محمد بن الأشعث لأخيه عبد الرحمن: إني لا آمن غدر التميمي، فأقتله، فهم به، وبلغ ابن أبي سبيع، فخافه فوشى به إلى رتبيل، وخوفه الحجاج، ودعاه إلى الغدر بابن الأشعث فأجابه، فخرج سرًا إلى عمارة بن تميم، فاستعجل في ابن الأشعث، فجعل له ألف ألف، فأقام عنده، وكتب بذلك عمارة إلى الحجاج، فكتب إليه أن أعط عبيدًا ورتبيل ما سألاك واشترط، فاشترط رتبيل ألا تغزي بلاده عشر سنين، وأن يؤدي بعد العشر سنين قي كل سنة تسعمائة ألف، فأعطى رتبيل وعبيدًا ما سألا، وأرسل رتبيل إلى ابن الأشعث فأحضره وثلاثين من أهل بيته، وقد أعد لهم الجوامع والقيود، فألقى في عنقه جامعة، وفي عنق القاسم جامعة، وأرسل بهم إلى أدنى مسالح عمارة منه، وقل لجماعة من كان مع ابن الأشعث من الناس: تفرقوا إلى حيث شئتم، ولما قرب ابن الأشعث من عمارة ألقى نفسه من فوق قصر فمات، فاحتز رأسه، فأتى به وبالأسرى عمارة، فضرب أعناقهم، وأرسل برأس ابن الأشعث وبرؤوس أهله وبامرأته إلى الحجاج، فقال في ذلك بعض الشعراء: هيهات موضع جثة من رأسها ** رأس بمصر وجثة بالرخج وكان الحجاج أرسل به إلى عبد الملك، فأرسل به إلى عبد الملك إلى عبد العزيز وهو يومئذ على مصر. وذكر عمر بن شبة أن ابن عائشة حدثه قال: أخبرني سعد بن عبيد الله قال: لما أتاني عبد الملك برأس ابن الأشعث أرسل به مع خصي إلى امرأة منهم كانت تحت رجل من قريش، فلما وضع بين يديها قالت: مرحبًا بزائر لايتكلم؛ ملك من الملوك طلب ما هو أهله فأيت المقادير. فذهب الخصي يأخذ الرأس فاجتذبته من يده، قالت: لا والله حتى أبلغ حاجتي، ثم دعت بخطمي فغلته وغلفته ثم قالت: شأنك به الآن. فأخذه، ثم أخبر عبد الملك، فلما دخل عليه زوجها، قال: إن استطعت أن تصيب منها سخلة. وذكر أن ابن الأشعث نظر إلى رجل من أصحابه وهو هارب إلى بلاد رتبيل فتمثل: يطرده الخوف فهم تائه ** كذاك من يكره حر الجلاد منخرق الخفين يشكو الوجا ** تنكبه أطراف مرو حداد قد كان في الموت له راحة ** والموت حتم في رقاب العباد فالتفت إليه فقال: يالحية، هلا ثبت في موطن من المواطن فنموت بين يديك، فكان خيرًا مما صرت إليه! قال هشام: قال أبو مخنف: خرج الحجاج في أيامه تلك يسير ومعه حميد الأرقط وهو يقول: مازال يبني خندقًا ويهدمه ** عن عسكر يقوده فيسلمه حتى يصير في يديك مقسمه ** هيهات من مصفه منهزمه إن أخ الكظاظ من لا يسأمه فقال الحجاج: هذا أصدق من قول الفاسق أعشى همدان: نبئت أن بني يو ** سف خر من زلق فتبًا قد تبين له من زلق وتب ودحض فانكب، وخاف وخاب، وشك وارتاب؛ ورفع صوته فما أبقى أحد إلا فزع لغضبه، وسكت الأرقط، فقال له الحجاج: عد فيما كنت فيه، مالك يا أرقط! قال: إني جعلت فداك أيها الأمير وسلطان الله عزيز، ما هو إلا أن رأيتك غضب فأرعدت خصائلي، واجزألت مفاصلي، واظلم بصري، ودالات بي الأرض. قال له الحجاج: أجل، إن سلطان الله عزيز، عد فيما كنت فيه، ففعل. وقال الحجاج وهو ذات يموم يسير معه زياد بن جرير بن عبد الله البجلي وهو أعور، فقال الحجاج للأريقط: كيف قلت لابن سمرة؟ قال: قلت: يا أعور العين فديت العورا ** كنت حبست الخندق المحفورا يرد عنك القدر المقدورا ** ودائرات السوء أن تدورا وقد قيل: أن مهلك عبد الرحمن بن محمد كان في سنة أربع وثمانين. عزل يزيد بن المهلب عن خراسان وفي هذه السنة عزل الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب عن خراسان وولاها المفضل بن المهلب أخا يزيد. ذكر السبب الذي من أجله عزله الحجاج عن خراسان واستعمل المفضل: ذكر علبي بن محمد، عن المفضل بن محمد، أن الحجاج وفد إلى عبد الملك، فمر في منصرفه بدير فنزله، فقيل له: إن في هذا الدير شيخًا من أهل الكتب عالمًا، فدعا به فقال: يا شيخ، هل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه ونحن؟ قال: نعم، نجد ما مضى من أمركم وما أنتم فيه وما هو كائن؛ قال: أفمسمي كان أم موصوفًا؟ قال: كل ذلك؛ موصوف بغير اسم، واسم بغير صفة، قال: فما تجدون صفة أمير المؤمنين؟ قال: نجده في زماننا الذي نحن فيه؛ مللك أقرع، من يقم لسبيله يصرع، قال: ثم من؟ قال: اسم رجل يقال له الوليد، قال: ثم ماذا؟ قال: رجل اسمه اسم نبي يفتح على الناس، قال: أتعرفني؟ قال: قد أخبرت بك. قال: أفتعلم ما ألي؟ قال: نعم، قال: فمنيليه بعدي؟ قال: رجل يقال له يزيد، قال: في حياتي أم بعد موتي؟ قال: لا أدري، قال: أفتعرف صفته؟ قال: يغدر غدرة؛ لا أعرف غير هذا. قال: فوقع في نفسه يزيد بن المهلب، وارتحل فسار سبعًا وهو وجل من قول الشيخ؛ وقدم فكتب إلى عبد الملك يستعفيه من العراق، فكتب إليه: يا بن أم الحجاج، قد علمت الذي تغزو، وأنك تريد أن تعلم رأيي فيك، ولعمري إني لأرى مكان نافع بن علقمة، فاله عن هذا حتى يأتي الله بما هو آت؛ فقال الفرزدق تذكر مسيره: لو أن طيرًا كلفت مثل سيره ** إلى واسط من إيلياء لملت سرى بالمهاري من فلسطين بعدما ** دنا الليل من شمس النهار فولت فما عاد ذاك اليوم حتى أناخها ** بميسان قد ملت سراها وكلت كأن قطاميًا على الرحل طاويًا ** إذا غمرة الظلماء عنه تجلت قال فبينا الحجاج يومًا خال إذ دعا عبيد بن موهب، فدخل وهو ينكت في الأرض، فرفع رأسه فقال: ويحك يا عبيد! إن أهل الكتب يذكرون أن ما تحت يدي يليه رجل يقال له يزيد، وقد تذكرت يزيد بن أبي كبشة، ويزيد بن حصين بن نمير، ويزيد بن دينار، فليسوا هناك، وما هو إن كان إلا يزيد بن المهلب؛ فقال عبيد: لقد شرفتهم وأعظمت ولا يتهم، وإن لهم لعددًا وجلدًا، وطاعة وحظًا، فأخلق به، فأجمع على عزل يزيد فلم يجد له شيئًا حتى قدم الخيار بن أبي سبرة بن ذؤيب بن عرفجة بن محمد بن سفيان بن مجاشع - وكان من فرسان المهلب - وكان مع يزيد - فقال له الحجاج: أخبرني عن يزيد، قال: حسن الطاعة، لين السيرة، قال: كذبت، أصدقني عنه، قال: الله أجل وأعظم، قد أسرج ولم يلجم، قال: صدقت، واستعمل الخيار على عمان بعد ذلك قال: ثم كتب إلى عبد الملك يذم يزيد وآل المهلب بالزبيرية، فكتب إليه عبد الملك: إني لا أرى نقصًا بآل المهلب طاعتهم لآل الزبير، بل أراه وفاء منهم لهم، وإن وفاءهم يدعوهم إلى الوفاء لي، فكتب إليه الحجاج يخوفه غدرهم لما أخبره به الشيخ. فكتب إليه عبد الملك: قد أكثرت في يزيد وآل المهلب، فسم لي رجلًا يصلح لخراسان؛ فسمى له مجاعة بن سعر السعدي، فكتب إليه عبد الملك: إن رأيك الذي دعاك إلى استفساد آل المهلب هو الذي دعاك إلى مجاعة بن سعر، فانظر لي رجلًا صارمًا، ماضيًا لأمرك، فسمى قتيبة بن مسلم، فكتب إليه: وله وبلغ يزيد أن الحجاج عزله، فقال لأهل بيته: من ترون الحجاج يولى خراسان؟ قالوا: رجلا من ثقيف، قال: كلا، ولكنه يكتب إلى رجل منكم بعهده، فإذا قدمت عليه عزله وولى رجلًا من قيس، وأخلق بقتيبة! قال: فلما أذن عبد الملك للحجاج في عزل يزيد كره أن يكتب إليه بعزله، فكتب إليه أن استخلف المفضل وأقبل، فاستشار يزيد حضين بن المنذر، فقال له: أقمم واعتل، فإن أمير المؤمنين حسن الرأي فيك، وإنما أتيت من الحجاج، فإن أقمت ولم تعجل رجوت أن يكتب إليه أن يقر يزيد، قال: إنا أهل بيت بورك لنا في الطاعة، وأنا أكره المعصية والخلاف؛ فأخذ في الجهاز، وأبطأ ذلك على الحجاج، فكتب إلى المفضل: إني قد وليتك خراسان، فعجل المفضل يستحث يزيد، فقال له يزيد: إن الحجاج لا يقرك بعدي، وإنما دعاه إلى ما صنع مخافة أن أمتنع عليه، قال: بل حسدتني، قال يزيد: يا بن بهلة، أنا أحسدك! ستعلم. وخرج يزيد في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين. فعزل الحجاج المفضل، فقال الشاعر للمفضل وعبد الملك وهو أخوه لأمه: يا بني بهلة إنما أخزاكما ** ربي غداة غدا الهمام الأزهر أحفرتم لأخيكم فوقعتم ** في قعر مظلمة أخوها المعور جودوا بتوبة مخلصين فإنما ** يأبى ويأنف أن يتوب الأخسر وقال حضين ليزيد: أمرتك أمرًا حازمًا فعصيتني ** فأصبحت مسلوب الإمارة نادما فما أنا بالباكي عليك صبابة ** وما أنا بالداعي لترجع سالما فلما قدم قتيبة خراسان قال لحضين: كيف قلت ليزيد؟ قال: قلت: أمرتك أمرًا حازمًا فعصيتني ** فنفسك أول اللوم إن كنت لائما فإن يبلغ الحجاج أن قد عصيته ** فإنك تلقى أمره متفاقما قال: فماذا أمرته به فعصاك؟ قال: أمرته ألا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير، فقال رجل لعياض بن حضين: أما أبوك فوجده قتيبة حين فره قارحًا بقوله: " أمرته ألا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير " قال علي: حدثنا كليب بن خلف، قال: كتب الحجاج إلى يزيد أن اغز خوارزم، فكتب إليه: أيها الأمير، إنها قليلة السلب، شديدة الكلب. فكتب إليه الحجاج: استخلف واقدم، فكتب إليه: إني أريد أن أغزو خوارزم فكتب إليه: لا تغزها فإنها كما وصفت؛ فغزا ولم يطعه، فصالحه أهل خوارزم، وأصاب سبيًا مما صالحوه، وقفل في الشتاء، فاشتد عليهم البرد، فأخذ الناس ثياب الأسرى فلبسوها، فمات ذلك السبي من البرد. قال: ونزل يزيد بلستانة، وأصاب أهل مرو الروذ طاعون ذلك العام، فكتب إليه الحجاج: أن اقدم، فقدم، فلم يمر ببلد إلا فرشوا له الرياحين. وكان يزيد ولي سنة اثنتين وثمانين، وعزل سنة خمس وثمانين، وخرج من خراسان في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين، وولى قتيبة وأما هشام بن محمد، فإنه ذكر عن أبي مخنف في عزل الحجاج يزيد عن خراسان سببًا غير الذي ذكره علي بن محمد، والذي ذكر من ذلك عن أبي مخنف أن أبا المخارق الراسبي وغيره حدثوه أن الحجاج لم يكن له حين فرغ من عبد الرحمن بن محمد هم إلا يزيد ين المهلب وأهل بيته - وقد كان الحجاج أذل أهل العراق كلهم إلا يزيد وأهل بيته ومن معهم من أهل المصرين بخراسان، ولم يكن يتخوف بعد عبد الرحمن بن محمد بالعراق غير يزيد بن المهلب - فأخذ الحجاج في مواربة يزيد ليسبخرجه من خراسان، فكان يبعث إليه يلأتيه، فيعتل عليه بالعدو وحرب خراسان، فمكث بذلك حتى كان آخر سلطان عبد الملك، ثم إن الحجاج كتب إلى عبد الملك يشير عليه بعزل يزيد بن المهلب، ويخبره بطاعة آل المهلب لا بن الزبير، وأنه لا وفاء لهم؛ فكتب إليه عبد الملك: إني لا أرى تقصيرًا بولد المهلب طاعتهم لآل الزبير ووفاءهم لهم، فإن طاعتهم ووفاءهم لهم، هو دعاهم إلى طاعتي والوفاء لي. ثم ذكر بقية الخبر نحو الذي ذكره علي بن محمد، غزو المفضل باذغيس وأخرون وفي هذه السنة غزا المفضل باذغيس ففتحها. ذكر الخبر عن ذلك ذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد، قال: عزل الحجاج يزيد، وكتب إلى المفضل بولايته على خراسان سنة خمس وثمانين، فوليها تسعة أشهر، فغزا باذغيس ففتحها وأصاب مغنمًا، فقسمه بين الناس، فأصاب كل رجل منهم ثمانمائة درهم، ثم غزا خرون وشومان، فظفر وغنم، وقسم ما أصاب بين الناس. ولم يكن للمفضل بيت مال، كان يعطي الناس كلما جاءه شيء. وإن غنم شيئًا قسمه بينهم، فقال كعب الأشقري يمدح المفضل: ترى ذا الغنى والفقر من كل معشر ** عصائب شتى ينتوون المفضلا فمن زائر يرجو فواضل سيبه ** وآخر يقضى حاجة قد ترحلا إذا ما انتوينا غير أرضك لم نجد ** بها منتوى خيرًا ولا متعللا إذا ما عددنا الأكرمين ذوي النهى ** وقد قدموا من صالح كنت أولا لعمري لقد صال المفضل صولة ** أباحت بشومان المناهل والكلا ويوم ابن عباس تناولت مثلها ** فكانت لنا بين الفريقين فيضلا صفت لك أخلاق المهلب كلها ** وسربلت من مسعاته ما تسربلا أبوك الذي لم يسع ساع كسعيه ** فأورث مجدًا لم يكن متنحلا خبر مقتل موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ وفي هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم السلمي بالترمذ ذكر سبب قتله ومصيره إلى الترمذ حتى قتل بها: ذكر أن سبب مصيره إلى الترمذ كان أن أباه عبد الله بن خازم لما قتل من قتل من بني تميم بفرتنا - وقد مضى ذكري خبر قتله إياهم - تفرق عنه عظم من كان بقي معه منهم، فخرج إلى نيسابور وخاف بني تميم على ثقله بمرو، فقال لابنه موسى: حول ثقلي عن مرو، واقطع نهر بلخ حتى تلجأ إلى بعض الملوك أو إلى حصن تقيم فيه. فشخص موسى من مرو في عشرين ومائتي فارس، فأتى آمل وقد ضوى إليه قوم من الصعاليك، فصار في أربعمائة، وانضم إليه رجال من بني سليم، منهم زرعة بن علقمة فأتى زم فقاتلوه، فظفر بهم وأصاب مالا، وقطع النهر، فأتى بخارى فسأل صاحبها أن يلجأ إليه، فأبى وخافه، وقال: رجل فاتك، وأصحابه مثله أصحاب حرب وشر، فلا آمنه. وبعث إليه بصلة عين ودواب وكسوة، ونزل على عظيم من عظماء أهل بخارى في نوقان، فقال له: إنه لا خير في المقام في هذه البلاد، وقد هابك القوم وهم لا يأمنونك. فأقام عند دهقان نوقان أشهرًا، ثم خرج يلتمس ملكا يلجأ إليه أو حصنًا، فلم يأت بلدًا إلا كرهوا مقامه فيهم، وسألوه أن يخرج عنهم. قال علي بن محمد: فأتى سمرقند فأقام بها، وأكرمه طرخون ملكها، وأذن له في المقام، فأقام ما شاء الله، ولأهل الصغد مائدة يوضع عليها لحم ودك وخبز وإبريق شراب، وذلك في كل عام يومًا، يجعل ذلك لفارس الصغد فلا يقر به أحد غيره، هو طعامه في ذلك اليوم، فإن أكل منه أحد غيره بارزه فأيهما قتل صاحبه فالمائدة له، فقال رجل من أصحاب موسى: ما هذه المائدة؟ فأخبر عنها، فسكت، فقال صاحب موسى: لأكلن ما على هذه المائدة، ولأبارزن فارس الصغد، فإن قتلته كنت فارسهم فجلس فأكل ما عليها، وقيل لصاحب المائدة، فجاء معضبًا، فقال: يا عربي، بارزني، قال: نعم، وهل أريد إلا المبارزة! فبارزه فقتله صاحب موسى، فقال ملك الصغد: أنزلتكم وأكرمتكم فقتلتم فارس الصغد! لو لا أني أعطيتك وأصحابك الآمان لقتلتكم، اخرجوا عن بلدي، ووصله. فخرج موسى فأتى كس فكتب صاحب كس إلى طرخون يستنصره، فأتاه، فخرج إليه موسى في سبعمائة فقاتلهم حتى أمسوا، وتحاجزوا وبأصحاب موسى جراح كثيرة، فلما أصبحوا أمرهم موسى فحلقوا رءوسهم كما يصنع الخوارج، وقطعوا صفينات أخبيتهم كما يصنع العجم إذا استماتوا وقال موسى لزرعة بن علقمة: انطلق إلى طرخون فاحتل له. فأتاه، فقال له طرخون: لم صنع أصحابك ما صنعوا؟ قال: استقتلوا فما حاجتك إلى أن تقتل أيها الملك موسى وتقتل! فإنك لا تصل إليه حتى بقتل مثل عدتهم منكم، ولو قتلته وإياهم جميعًا ما نلت حظًا، لأن له قدرًا في العرب، فلا يلي أحد خراسان إلا طالبك بدمه، فإن سلمت من واحد لم تسلم من آخر؛ قال: ليس إلى ترك كس في يده سبيل؛ قال: فكف عنه حتى يرتحل، فكف وأتى موسى الترمذ وبها حصن يشرف على النهر إلى جانب منه، فنزل موسى على بعض دهاقين الترمذ خارجًا من الحصن والدهقان مجانب لتر مذشاه، فقال لموسى: إن صاحب الترمذ متكرم شديد الحياء، فإن ألطفته وأهديت إليه أدخلك حصنه، فإنه ضعيف، قال: كلا، ولكني أسأله أن يدخلني حصنه، فسأله فأبى، فما كره موسى وأهدى له وألطفه، حتى لطف الذي بينهما، وخرج فتصيد معه، وكثر إلطاف موسى له، فصنع صاحب الترمذ طعامًا وأرسل إليه: إني أحب أن أكرمك، فتغد عندي، وائتني في مائة من أصحابك، فانتخب موسى من أصحابه مائةً، فدخلوا على خيولهم، فلما صارت في المدينة تصاهلت، فتطير أهل الترمذ وقالوا لهم: انزلوا، فنزلوا، فأدخلوا بينًا، خمسين في خمسين، وغدوهم، فلما فرغوا من الغداء اضطجع موسى، فقالوا له: اخرج، قال: لا أصيب منزلا مثل هذا، فلست بخارج منه حتى يكون بيتي أو قبري، وقاتلوهم في المدينة، فقتل من أهل الترمذ عدة، وهرب الأخرون فدخلوا منازلهم، وغلب موسى على المدينة، وقال لترمذ شاه: اخرج فإني لست أعرض لك ولا لأحد من أصحابك. فخرج الملك وأهل المدينة فأتوا الترك يستنصرونهم، فقالوا: دخل إليكم مائة رجل أخرجوكم عن بلادكم، وقد قاتلناهم بكس، فنحن لا نقاتل هؤلاء. فأقام ابن خازم بالترمذ، ودخل إليه أصحابه، وكانوا سبعمائة، فأقام، فلما قتل أبوه انضم إليه من أصحاب أبيه أربعمائة فارس، فقوى، فكان يخرج فيغير على من حوله. قال: فأرسل الترك قومًا إلى أصحاب موسى ليعلموا علمه، فلما قدموا قال موسى لأصحابه: لا بد من مكيدة لهؤلاء - قال: وذلك في أشد الحر - فأمر بنار فأججت، وأمر أصحابه فلبسوا ثياب الشتاء، ولبسوا فوقها لبودًا، ومدوا أيديهم إلى النار كأنهم يصطلون. وأذن موسى للترك فدخلوا، ففزعوا مما رأوا، وقالوا: لم صنعتم هذا؟ قالوا: نجد البرد في هذا الوقت، ونجد الحر في الشتاء، فرجعوا وقالوا: جن لا نقاتلهم، قال: وأراد صاحب الترك أن يغزو موسى، فوجه إليه رسلا، وبعث بسم ونشاب في مسك، وإنما أراد بالسم أن حربهم شديدة، والنشاب الحرب، والمسك السلم، فاختر الحرب أو السلم، فأحرق السم، وكسر النشاب، ونثر المسك، فقال القوم: لم يريدوا الصلح، وأخبر أن حربهم مثل النار، وإنه يكسرنا، فلم يغزهم، قال: فولى بكير بن وشاح خراسان فلم يعرض له، ولم يوجه إليه أحدًا، ثم قدم أمية فسار بنفسه يريده، فخالفه بكير، وخلع، فرجع إلى مرو، فلما صالح أمية بكيرًا أقام عامة ذلك، فلما كان في قابل وجه إلى موسى رجلًا من خزاعة في جمع كثير، فعاد أهل الترمذ إلى الترك فاستنصروهم فأبوا، فقالوا لهم: قد غزاهم قوم منهم وحصروهم، فإن أعناهم عليهم ظفرنا بهم، فسارت الترك مع أهل الترمذ في جمع كثير، فأطاف بموسى الترك والخزاعي، فكان يقاتل الخزاعي أول النهار والترك آخر النهار، فقاتلهم شهرين أو ثلاثة، فقال موسى لعمرو بن خالد بن حصين الكلابي - وكان فارسًا: قد طال أمرنا وأمر هؤلاء، وقد أجمعت أن أبيت عسكر الخزاعي، فإنهم للبيات آمنون، فما ترى؟ قال: البيات نعما هو، وليكن ذلك بالعجم، فإن العرب أشد حذرًا، وأسرع فزعًا، وأجرًا على الليل من العجم، فبيتهم فإني أرجو أن ينصرنا الله عليهم، ثم ننفرد لقتال الخزاعي فنحن في حصن وهم بالعراء، وليسوا بأولى بالصبر، ولا أعلم بالحرب منا، قال: فاجمع موسى على بيات الترك، فلما ذهب من الليل ثلثه خرج في أربعامائة، وقال لعمرو بن خالد: أخرجوا بعدنا وكونوا منا قريبًا؛ فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا، أخذ على شاطئ النهر حتى ارتفع فوق العسكر، ثم أخذ من ناحية كفتان، فلما قرب من عسكرهم جعل أصحابه أرباعًا، ثم قال: أطيفوا بعسكرهم؛ فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا، وأقبل وقدم عمرًا بين يديه مشوا خلفه، فلما رأته أصحاب الأرصاد قالوا: من أنتم؟ قالوا: عابري سبيل. قال: فلما جازوا الرصد تفرقوا وأطافوا بالعسكر وكبروا، فلم يشعر الترك إلا بوقع السيوف، فثاروا يقتل بعضهم بعضًا وولوا، وأصيب من المسلمين ستة عشر رجلًا، وحووا عسكرهم وأصابوا سلاحًا ومالًا، وأصبح الخزاعي وأصحابه قد كسرهم ذلك، وخافوا مثلها من البيات، فتحذروا فقال لموسى عمرو بن خالد: إنك لا تظفر إلا بمكيدة ولهم أمداد وهم يكثرون، فدعني آتهم لعلي أصيب من صاحبهم فرصة؛ إني إن خلوت به قتلته، فتناولني بضرب، قال: تتعجل الضرب وتتعرض للقتل! قال: أما التعرض للقتل فأنا كل يوم متعرض له، وأما الضرب فما أيسره في جنب ما أريد، فقناوله بضرب؛ ضربه خمسين سوطًا، فخرج من عسكر موسى فأتى عسكر الخزاعي مستأمنًا وقال: أنا رجل من أهل اليمن كنت مع عبد الله بن خازم، فلما قتل أتيت ابنه فلم أزل معه، وكنت أول من أتاه، فلما قدمت اتهمني، وتعصب على، وتنكر لي وقال لي: قد تعصبت لعدونا، فأنت عين له، فضربني، ولم آمن القتل، وقلت: ليس بعد الضرب إلا القتل، فهربت منه، فآمنه الخزاعي وأقام معه. قال: فدخل يومًا وهو خال ولم ير عنده سلاحًا، فقال كأنه ينصح له: أصلحك الله! إن مثلك في مثل حالك لا ينبغي أن يكون في حال من أحوال بغير سلاح، فقال: إن معي سلاحًا، فرفع صدر فراشه فإذا سيف منتضى، فتناوله عمرو فضربه فقتله، وخرج فركب فرسه، ونذروا به بعد ما أمعن، فطلبوه ففاتهم، فأتى موسى وتفرق ذلك الجيش، فقطع بعضهم النهر، وأتى بعضهم موسى مستأمنًا، فأمنه، فلم يوجه إليه أمية أحدًا قال: وعزل أمية، وقدم المهلب أميرًا، فلم يعرض لابن خازم، وقال لبنيه: إياكم وموسى، فإنكم لا تزالون ولاة ه هذا الثغر ما أقام هذا الثط بمكانه، فإن قتل كان أول طالع عليكم أميرًا على خراسان رجل من قيس، فمات المهلب ولم يوجه إليه أحدًا، ثم تولى يزيد بن المهلب فلم يعرض له، وكان المهلب ضرب حريث بن قطبة الخزاعي، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى، فلما ولى يزيد بن المهلب أخذ أموالهما وحرمهما وقتل أخاهما لأمهما؛ الحارث بن منقذ، وقتل صهرًا لهما كانت عنده أم حفص ابنه ثابت، فبلغهما ما صنع يزيد. قال: فخرج ثابت إلى طرخون فشكل إليه ماصنع به - وكان ثابت محببًا في العجم، بعيد الصوت، يعظمونه ويثقون به، فكان الرجل منهم إذا أعطى عهدًا يريد الوفاء به حلف بحياة ثابت فلا يغدر - فعضب له طرخون وجمع له نيزك والسبل وأهل بخارى والصغانيان، فقدموا مع ثابت إلى موسى بن عبد الله، وقد سقط إلى موسى فل عبد الرحمن بن العباس من هراة، وفل ابن الأشعث من العراق ومن ناحية كابل، وقوم من بني تميم ممن كان يقاتل ابن خازم في الفتنة من أهل خراسان، فاجتمع إلى موسى ثمانية آلاف من تميم وقيس وربيعة واليمن، فقال له ثابت وحريث: سر تعطع النهر فتخرج يزيد ين المهلب عن خراسان؛ ونوليك، فإن طرخون ونيزك والسبل وأهل بخارى معك، فهم أن يفعل، فقال له أصحابه: إن ثابتًا وأخاه خائفان ليزيد، وإن أخرجت يزيد عن خراسان وأمنا توليا الأمر وغلباك على خراسان، فأقم مكانك. فقبل رأيهم، وأقام بالترمذ. وقال لثابت: إن أخرجنا يزيد قدم عامل لعبد الملك، ولكنا نخرج عمال يزيد من وراء النهر مما يلينا، وتكون هذه الناحية لنا نأكلها. فرضي ثابت بذلك، وأخرج من كان من عمال يزيد من وراء النهر، وحملت إليهم الأموال، وقوى أمرهم وأمر موسى، وانصرف طرخون ونيزك وأهل بخارى والسبل إلى بلادهم، وتدبير الأمر لحريث وثابت، والأمير موسى ليس له غير الاسم، فقال لموسى أصحابه: لسنا نرى من الأمر في يديك شيئًا أكثر من اسم الإمارة، فأما التدبير فلحريث وثابت، فاقتلهما وتول الأمر، فأبى وقال: ما كنت لأغدر بهما وقد قويا أمري، فحسدوهما وألحوا على موسى في أمرهما حتى أفسدوا قلبه، وخوفوه غدرهما، وهم بمتابعتهم على الوثوب بثابت وحريث. واضطرب أمرهم؛ فإنهم لفي ذلك إذ خرجت عليهم الهياطلة والتبت والترك، فأقبلوا في سبعين ألفًا لا يعدون الحاسر ولا صاحب بيضة جماء، ولا يعدون إلا صاحب بيضة ذات قونس، قال: فخرج ابن خازم إلى ربض المدينة في ثلثمائة راجل وثلاثين مجففًا، وألقي له كرسي فقعد عليه. قال: فأمر طرخون أن يثلم حائط الربض، فقال موسى: دعوهم، فهدموا ودخل أوائلهم، فقال: دعوهم يكثرون، وجعل يقلب طبرزينًا بيده، فلما كثروا قال: الآن امنعوهم، فركب وحمل عليهم فقاتلهم حتى أخرجهم عن الثلمة ثم رجع فجلس على الكرسي وذمر الملك أصحابه ليعودوا، فأبوا، فقال لفرسانه: هذا الشيطان، من سره أن ينظر إلى رسم فلينظر إلى صاحب الكرسي، فمن أبي فليقدم عليه. ثم تحولت الأعاجم إلى رستاق كفتان. قال: فأغاروا على سرح موسى، فاغنم ولم يطعم، وجعل يعبث بلحيته، فسار ليلا على نهر في حافتيه نبات لم يكن فيه ماء، وهو يفضي إلى خندقهم، في سبعمائة، فأصبحوا عند عسكرهم، وخرج السرح فأغار عليه فاستاقه، وأتبعه قوم منهم، فعطف عليه سوار، مولى لموسى، فطعن رجلًا منهم فصرعه، فرجعوا عنهم وسليم موسى بالسرح. قال: وغاداهم العجم القتال، فوقف ملكهم على تل في عشرة آلاف في أكمل عدة، فقال موسى: إن أزلتم هؤلاء فليس الباقون بشيء. فقصد لهم حريث بن قطبة فقاتلهم صدر النهار، وألح عليهم حتى أزالوهم عن التل، ورمى يومئذ حريث بنشابه في جبهته، فتحاجزوا، فبيتهم موسى، وحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى شمعة ملكهم، فوجأ رجلًا منهم بقبيعة سيفه، فطعن فرسه، فاحتمله فألقاه في نهر بلخ فغرق، وعليه درعان، فقتل العجم قتلًا ذريعًا، ونجا منهم من نجا بشر، ومات حريث بن قطبة بعد يومين، فدفن في قبته. قال: وارتحل موسى، وحملوا الرءوس إلى الترمذ، فبنوا من تلك الرءوس جوسفين، وجعلوا الرءوس يقابل بعضها بعضًا. وبلغ الحجاج خبر الواقعة، فقال: الحمد لله الذي نصر المنافقين على الكافرين، فقال أصحاب موسى: قد كفينا أمر حريث، فأرحنا من ثابت، فأبى وقال: لا. وبلغ ثابتًا بعض ما يخوضون فيه، فدس محمد بن عبد الله بن مرثد الخزاعي، عم نصر بن عبد الحميد عامل أبي مسلم على الري - وكان في خدمة موسى بن عبد الله - وقال له: إياك أن تتكلم بالعربية، وإن سألوك من أين أنت! فقل: من سبى الباميان، فكان يخدم موسى وينقل إلى ثابت خبرهم، فقال له: تحفظ ما يقولون. وحذر ثابت فكان لا ينام حتى يرجع الغلام، وأمر قومًا من شاكريته يحرسونه ويبيتون عنده في داره، ومعهم قوم من العرب، وألح القوم على موسى فأضجروه، فقال لهم ليلة: قد أكثرتم علي، وفيم تريدون هلاككم، وقد أبرمتموني! فعلى أي وجه تفتكون به، وأنا لا أغدر به! فقال نوح بن عبد الله أخو موسى: خلناه وإياه، فإذا غدا إليك غدوة عدلنا به إلى بعض الدور، فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك، قال: أما والله إنه لهلاككم، وأنتم أعلم - والغلام يسمع - فأتى ثابتًا فأخره، فخرج من ليلته في عشرين فارسًا، فمضى، وأصبحوا وقد ذهب يدروا من أين أوتوا وفقدوا الغلام، فعلموا انه كان عينًا له عليهم، ولحق ثابت بحشورا فنزل المدينة، وخرج إليه قوم كثير من العرب والعجم، فقال موسى لأصحابه: قد فتحتم على أنفسكم بابًا فسدوه. وسار إليه موسى، فخرج إليه ثابت في جمع كثير فقاتلهم، فأمر موسى بإحراق السور، وقاتلهم حتى ألجثوا ثابتًا وأصحابه إلى المدينة، وقاتلوهم عن المدينة. فأقبل رقبة بن الحر العنبري حتى اقتحم النار؛ فانتهى إلى باب المدينة ورجل من أصحاب ثابت واقف يحمي أصحابه، فقتله، ثم رجع فخاض النار وهي تلتهب، وقد أخذت بجوانب نمط عليه، فرمى به عنه ووقف، وتحصن ثابت في المدينة، وأقام موسى في الربض، وكان ثابت حين شخص إلى حشورا أرسل إلى طرخون، فأقبل طرخون معينًا له، وبلغ موسى مجيء طرخون، فرجع إلى الترمذ، وأعانه أهل كس ونسف وبخاري، فصار ثابت في ثمانين ألفًا، فحصروا موسى وقطعوا عنه المادة حتى جهدوا. قال: وكان أصحاب ثابت يعبرون نهرًا إلى موسى بالنهار - ثم يرجعون بالليل إلى عسكرهم، فخرج يومًا رقبة - وكان صديقًا لثابت، وقد كان ينهى أصحاب موسى عما صنعوا - فنادى ثابتًا، فبرز له - وعلى رقبة قباء خز - فقال له: كيف حالك يارقبة؟ فقال: ما تسأل عن رجل عليه جبة خز في حمارة القيظ! وشكى إليه حالهم، فقال: أنتم صنعتم هذا بأنفسكم، فقال: أما والله دخلت في أمرهم، ولقد كرهت ما أرادوا، فقال ثابت: أين تكون حتى يأتيك ما قدر لك؟ قال: أنا عند المحل الطفاوي - رجل من قيس من يعصر - وكان المحل شيخًا صاحب شراب - فنزل رقبة عنده. قال: فبعث ثابت إلى رقبة في خمسائة درهم مع علي بن المهاجر الخزاعي، وقال: إن لنا تجار قد خرجوا من بلخ، فإذا بلغ أنهم قد قدموا فأرسل إلي تأتك حاجتك. فأتى على باب المحل، فدخل فإذا رقبة والمحل جالسان بينهما جفنة فيها شراب، وخوان عليه دجاج وأرغفة، ورقبة شعث الرأس، متوشح بملحفة حمراء، فدفع إليه الكيس، وابلغه الرسالة وما كلمه، وتناول الكيس وقال له بيده، اخرج، ولم يكلمه. قال: وكان رقبة جسيمًا كبيرًا غائر العينين، ناتئ الوجنتين، مفلج، بين كل سنين له موضع سن، كان وجهه ترس. قال: فلما أضاق أصحاب موسى واشتد عليهم الحصار قال يزيد بن هزيل: إن مقام هؤلاء مع ثابت والقتل أحسن من الموت جوعًا، والله لأفتكن بثابت أو لأموتن. فخرج إلى ثابت فاستأمنه، فقال له ظهير: أنا أعرف بهذا منك، إن هذا لم يأتك رغبة فيك ولا جزعًا لك، ولقد جاءك بغدرة، فاحذره وخلني إياه، فقال: ما كنت لأقدم على رجل أتاني لا أدري أكذلك هو أم لا. قال: فدعني أرتهن منه رهنًا، فأرسل ثابت إلى يزيد فقال: أما أنا فلم أكن أظن رجلا يغدر بعد ما يسأل الأمان، وابن عمك أعلم بك مني، فانظر ما يعاملك عليه، فقال يزيد لظهير: أبيت يا أبا سعيد إلا حسدًا! قال: أما يكفيك ما ترى من الذل! تشردت عن العراق وعن أهلي، وصرت بخراسان فيما ترى، فما تعطفك الرحم! فقال له ظهير: أما والله لو تركت ورأيي فيك لما كان هذا، ولكن أرهنا ابنيك قدامة والضحاك. فدفعهما إليهم، فكانا في يدي ظهير. قال: وأقام يزيد يلتمس غرة ثابت، لا يقدر منه على مايريد، حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعي، أتى أباه نعيه من مرو، فخرج متفضلا إلى زياد ليعزيه، ومعه ظهير ورهط من أصحابه وفيهم يزيد بن هزيل، وقد غابت الشمس، فلما صار على نهر الصغانيان تأخر يزيد بن هزيل ورجلان معه، وقد تقدم ظهير وأصحابه، فدنا يزيد بن ثابت فضربه فعض السيف برأسه، فوصل إلى الدماغ. قال: ورمى يزيد وصاحباه بأنفسهم في نهر الصغانيان، فرموهم، فنجا يزيد سباحة وقتل صاحباه، وحمل ثابت إلى منزله فلما أصبح طرخون أرسل إلى ظهير: أتني بابني يزيد، فأتاه بهما، فقدم ظهير الضحاك بن يزيد فقتلهم، ورمى به وبرأسه في النهر، وقدم قدامة ليقتله، فالتفت فوقع السيف في صدره ولم يبن. فألقاه في النهر حي فغرق، فقال طرخون: أبوهما قتلهما وغدره. فقال يزيد بن هزيل: لأقتلن يا بني كل خزاعي بالمدينة، فقال له عبد الله بن بديل بن عبد الله بن بديل بن ورقاء - وكان ممن أتى موسى من فل ابن الأشعث: لو رمت ذاك من خزاعة لا تصعب عليك. وعاش ثابت سبعة أيام ثم مات. وكان يزيد بن هزيل سخيًا شجاعًا شاعرًا، ولى أيام ابن زياد جزيرة ابن كاوان، فقال: قد كنت أدعو الله في السر مخلصًا ** ليمكنني من جزية ورجال فاترك فيها ذكرطلحة خاملًا ** ويحمد فيها نائلي وفعالي قال: فقام بأمر العجل بعد موت ثابت طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت، فقاما قيامًا ضعيفًا، وانتشر أمرهم، فأجمع موسى على بياتهم، فجاء رجل فأخبر طرخون، فضحك وقال: موسى يعجز أن يدخل متوضأه، فكيف يبيتنا! لقد طار قلبك، لا يحرسن الليلة أحد العسكر. فلما ذهب من الليل ثلثه خرج موسى في ثمانمائة قد عباهم من النهار، وصيرهم أرباعًا. قال: فصير على ربع رقبة بن الحرب وعلى ربع أخاه نوح بن عبد الله بن خازم، وعلى ربع يزيد بن هزيل، وصار هو في ربع، وقال لهم: إذا دخلتم عسكرهم فتفرقوا، ولا يمرن أحد منكم بشيء إلا ضربه، فدخلوا عسكره من أربع نواح لا يمرون بدابة ولا رجل ولا خباء ولا جوالق إلا ضربوه وسمع الوجبة نيزك فلبس سلاحه، ووقف في ليلة مظلمة، وقال لعلي بن المهاجر الخزاعي: انطلق إلى طرخون فأعلمه موقفي، وقال له: ما ترى أعمل به، فأتى طرخون، فإذا هو في فازة قاعد على كرسيه وشاكريته قد أوقدوا النيران بين يديه، فأبلغه رسالة نيزك، فقال: اجلس، وهو طامح ببصره نحو العسكر والصوت. إذا أقبل محمية السلمى وهو يقول: " حم لا ينصرون "، فتفرق في الشاكرية، ودخل محمية الفازة. وقام إليه طرخون فبدره فضربه، فلم يغني شيئًا، قال: وطعنه طرخون بذباب السيف في صدره وصرعه، ورجع إلى الكرسي فجلس عليه، وخرج محمية يعدو. قال: ورجعت الشاكرية، فقال لهم طرخون: فررتم من رجل! أرأيتم لو كان نارًا هل كانت تحرق منكم أكثر من واحد! فما فرغ من كلامه حتى دخل جواريه الفازة، وخرج الشاكرية هرابًا، فقال للجواري: اجلسن، وقال لعلي بن المهاجر: قم، قال: فخرجا فإذا نوح بن عبد الله ابن خازم في السرادق، فتجاولا ساعة، واختلفا ضربتين، فلم يصنعا شيئًا، وولى نوح وأتباعه طرخون، فطعن فرس نوح في خاصرته فشب فسقط نوح والفرس في نهر الصغانيان ورجع طرخون وسيفه يقطر دمًا، حتى دخل السرادق وعلي بن المهاجر معه، ثم دخلا الفازة. وقال طرخون للجواري: ارجعن، فرجعن إلى السرادق؛ وأرسل طرخون إلى موسى: كف أصحابك؟ فإذا نرتحل إذا أصبحنا، فرجع موسى إلى عسكره، فلما أصبحوا ارتحل طرخون والعجم جميعًا، فأتى كل قوم بلادهم، قال: وكان أهل خراسان يقولون: ما رأينا مثل موسى ابن عبد الله بن خازم، ولا سمعنا به، قاتل مع أبيه سنتين، ثم خرج يسير في بلاد خراسان حتى أتى ملكًا فغلبه على مدينته وأخرجه منها، ثم سارت إليه الجنود من العرب والترك فكان يقاتل العرب أول النهار والعجم آخر النهار، وأقام في حصنه خمس عشرة سنة، وصار ما وراء النهر لموسى، لا يعازه فيه أحد قال: وكان بقومس رجل يقال له عبد الله، يجتمع إليه فتيان يتنادمون عنده في مؤونته ونفقته، فلزمه دين، فأتى موسى بن عبد الله، فأعطاه أربعة آلاف، فأتى بها أصحابه، فقال الشاعر يعاتب رجلا يقال له موسى: فما أنت موسى إذ يناجى إلهه ** ولا واهب القينات موسى بن خازم قال: فلما عزل يزيد وولى المفضل خراسان أراد أن يحظى عند الحجاج بقتال موسى بن عبد الله، فأخرج عثمان بن مسعود - وكان يزيد حبسه - فقال: إني أريد أن أوجهك إلى موسى بن عبد الله، فقال: والله لقد وترني، وإني لثائر بابن عمتي ثابت وبالخزاعي، وما يد أبيك وأخيك عندي وعند أهل بيتي بالحسنة، لقد حبستموني وشردتم بني عمتي، واصطفيتم أموالهم، فقال له المفضل: دع هذا عنك، وسر فأدرك بثأرك فوجهه في ثلاثة آلاف، وقال له: مر مناديًا فليناد: من لحق بنا فله ديوان، فنادى بذلك في السوق، فسارع إليه الناس، وكتب المفضل إلى مدرك وهو ببلخ أن يسير معه، فخرج، فلما كان ببلخ خرج ليلة يطوف في العسكر، فسمع رجلا يقول: قتلته والله، فرجع إلى أصحابه، فقال: قتلت موسى ورب الكعبة! قال: فأصبح فسار من بلخ وخرج مدرك معه متثاقلًا، فقطع النهر فنزل جزيرة بالترمذ يقال لها اليوم جزيرة عثمان - لنزول عثمان بها في خمسة عشر ألفًا - وكتب إلى السبل وإلى طرخون فقدموا عليه، فحصروا موسى، فضيقوا عليه وعلى أصحابه، فخرج موسى ليلًا فأتى كفتان، فامتار منها، ثم رجع فمكث شهرين في ضيق، وقد خندق عثمان وحذر البيات، فلم يقدر موسى منه على غرة، فقال لأصحابه: حتى متى! اخرجوا بنا فاجعلوا يومكم؛ إما ظفرتم وإما قتلتم. وقال لهم: اقصدوا للصغد والترك، فخرج وخلف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم في المدينة، وقال له: إن قتلت فلا تدفعن المدينة إلى عثمان، وادفعها إلى مدرك بن المهلب وخرج فصير ثلث أصحابه بإزاء عثمان وقال: لا تهايجوه إلا أن يقاتلكم، وقصد لطرخون وأصحابه، فصدقوهم، فانهزم طرخون والترك، وأخذوا عسكرهم فجعلوا ينقلونه، ونظر معاوية بن خالد بن أبي برزة إلى عثمان وهو على برذون لخالد بن أبي برزة الأسلمي، فقال: انزل أيها الأمير، فقال خالد: لا تنزل فإن معاوية مشئوم. وكرت الصغد والترك راجعة، فحالوا بين موسى وبين الحصن، فقاتلهم، فعقر به فسقط، فقال لمولى له: احملني، فقال: الموت كريه، ولكن ارتدف، فإن نجونا نجونا جميعًا، وإن هلكنا هلكنا جميعًا. قال: فارتدف، فنظر إليه عثمان حين وثب فقال: وثبة موسى ورب الكعبة! وعليه مغفر له موشى بخز أحمر في أعلاه ياقوتة اسما نجونية، فخرج من الخندق فكشفوا أصحاب موسى فقصد لموسى، وعثرت دابة موسى فسقط هو ومولاه، فابتدروه فانطووا عليه فقتلوه، ونادى منادي عثمان: لا تقتلوا أحدًا، من لقيتموه فخذوه أسيرًا. قال: فتفرق أصحاب موسى، وأسر منهم قوم، فعرضوا على عثمان، فكان إذا أتى بأسير من العرب قال: دماؤنا لكم حلال، ودماؤكم علينا حرام! يأمر بقتله، وإذا أتى بأسير من الموالي شتمه، وقال: هذه العرب تقاتلني، فهلا غضبت لي! فيأمر به فيشدخ، وكان فظًا غليظًا، فلم يسلم عليه يومئذ أسير إلا عبد الله بن بديل بن عبد الله بن بديل بن ورقاء؛ فإنه كان مولاه، فلما نظر إليه أعرض عنه وأشار بيده أن خلوا عنه، ورقبة بن الحر لما أتى به نظر إليه وقال: ما كان من هذا إلينا كبير ذنب وكان صديقًا لثابت، وكان مع قوم فرفى لهم، والعجب كيف أسرتموه! قالوا: طعن فرسه فسقط عنه في وهدة فأسر؛ فأطلقه وحمله، وقال لخالد بن أبي برزة: ليكن عندك. قال: وكان الذي أجهز على موسى ابن عبد الله واصل بن قيصلة العنبري. ونظر يومئذ عثمان إلى زرعة بن علقمة السلمة والحجاج بن مروان وسنان الأعرابي ناحية فقال: لكم الأمان، فظن الناس أنه لم يؤمنهم حتى كاتبوه. قال: وبقيت المدينة في يدي النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم، فقال: لا أدفعها إلى عثمان، ولكني أدفعها إلى مدرك، فدفعها إليه وآمنه، فدفعها مدرك إلى عثمان. وكتب المفضل بالفتح إلى الحجاج، فقال الحجاج: العجب من ابن بهلة! أمره بقتل ابن سمرة فيكتب إلي أنه لمأبه ويكتب إلي إنه قتل موسى بن عبد الله بن خازم؛ قال: وقتل موسى سنة خمس وثمانين، فذكر البحتري أن مغراء بن المغيرة بن أبي صفرة قتل موسى فقال: وقد عركت بالترمذ الخيل خازمًا ** ونوحًا وموسى عركةً بالكلاكل قال: فضرب رجل من الجند ساق موسى، فلما ولى قتيبة أخبر عنه فقال: ما دعاك إلى ماصنعت بفتى العرب بعد موته! قال: كان قتل أخي، فأمر به قتيبة فقتل بين يديه. عزم عبد الملك بن مروان على خلع أخيه عبد العزيز وفي هذه السنة أراد عبد الملك بن مروان خلع أخيه عبد العزيز بن مروان. ذكر الخبر عن ذلك وما كان من أمرهما فيه ذكر الواقدي أن عبد الملك هم بذلك، فنهاه عنه قبيصة بن ذؤيب، وقال: لا تفعل هذا، فإنك باعث على نفسك صوت نعار، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه! فكف عبد الملك عن ذلك ونفسه تنازعه إلى أن يخلعه. ودخل عليه روح بن زنباع الجذامي - وكان أجل الناس عند عبد الملك - فقال: يا أمير المؤمنين لو خلعته ما انتطح فيه عنزان، فقال: ترى ذلك يا أبا زرعة؟ قال: أي والله، وأنا من أول من يجيبك إلى ذلك؛ فقال: نصيح إن شاء الله. قال: فبينى هو على ذلك وقد نام عبد الملك وروح ابن زنباع إذ دخل عليهما قبيصة بن ذؤيب طروقًا، وكان عبد الملك قد تقدم إلى حجابة فقال: لا يحجب عني قبيصة أي ساعة جاء من ليل أو نهار، إذا كنت خاليًا أو عندي رجل واحد، وإن كنت عندي النساء أدخل المجلس وأعلمت بمكانه فدخل، وكان الخاتم إليه، وكان السكة إليه، تأتيه الأخبار قبل عبد الملك، ويقرأ الكتب قبله، ويأتي بالكتاب إلى عبد الملك منشورًا فيقرؤه، إعظامًا لقبيصة - فدخل عليه فسلم عليه وقال: أجرك الله يا أمير المؤمنين في أخيك عبد العزيز! قال: وهل توفي؟ قال: نعم، فاسترجع عبد الملك، ثم أقبل على روح فقال: كفانا الله أبازرعة ما كنا نريد وما أجمعنا عليه وكان ذلك مخالفًا لك يا أبا إسحاق، فقال: قبيصة: ماهو؟ فأخبره بما كان؛ فقال قبيصة: يا أمير المؤمنين، إن الرأي كله في الأناة والعجلة فيها ما فيها، فقال عبد الملك: ربما كان في العجلة خير كثير، رأيت أمر عمر بن سعيد، ألم تكن العجلة فيه خيرًا من التأني! خبر موت عبد العزيز بن مروان وفي هذه السنة توفي عبد العزيز بن مروان بمصر في جمادى الأولى، فضم عبد الملك عمله إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك، وولاه مصر. وأما المدائني فإنه قال في ذلك ما حدثنا به أبو زيد عنه، أن الحجاج كتب إلى عبد الملك يزين له بيعة الوليد، وأفد وفدًا في ذلك عليهم عمران ابن عصام العنزي، فقام عمران خطيبًا، فتكلم وتكلم الوفد وحثوا عبد الملك وسألوه ذلك فقال عمران بن عصام: أمير المؤمنين إليك نهدي ** على نأي التحية والسلاما أجبني في بنيك يكن جوابي ** لهم عادية ولنا قواما فلو أن الوليد أطاع فيه ** جعلت له الخلافة والذماما شبيهك حول قبته قريش ** به يستمطر الناس الغماما ومثلك في التقى لم يصب يومًا ** لدن خلع القلائد والتماما فإن تأثر أخاك بها فإن ** وجدك لا نطيق لها إتهاما ولكنا نحاذر من بنيه ** بني العلات مأثرة سماما ونخشى إن جعلت الملك فيهم ** سحابًا أن تعود لهم جهاما فلا يك ما حلبت غدًا لقوم ** وبعد غد بنوك هم العياما فأقسم لو تخطاني عصام ** بذلك ما عذرت به عصاما ولو أني حبوت أخًا بفضل ** أريد به المقالة والمقاما لعقب في بني على بنيه ** كذلك أو لرمت مراما فمن يك في أقاربه صدوع ** فصدع الملك أبطؤه التئاما فقال عبد الملك: يا عمران، إنه عبد العزيز، قال: احتل له يا أمير المؤمنين. قال علي: أراد عبد الملك بيعة الوليد قبل أمر الأشعث، لأن الحجاج بعث في ذلك عمران بن عصام، فلما أبى عبد العزيز أعرض عبد الملك عما أراد حتى مات عبد العزيز، ولما أراد أن يخلع أخاه عبد العزيز ويبايع لابنه الوليد كتب إلى أخيه: إن رأيت أن تصير هذا الأمر لابن أخيك! فأبى، فكتب إليه: فاجعلها له من بعدك، فإنه أعز الخلق على أمير المؤمنين. فكتب إليه عبد العزيز: إني أرى في أبي بكر بن عبد العزيز ما ترى في الوليد، فقال عبد الملك: اللهم إن عبد العزيز قطعني فاقطعه. فكتب إليه عبد الملك: احمل خراج مصر. فكتب إليه عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، إني وإياك قد بلغنا سنًا لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلًا، وإني لا أدري ولا تدري أينا يأتيه الموت أولًا! فإن رأيت ألا تفنث على بقية عمري فافعل. فرق له عبد الملك وقال: لعمري لا أغثث عليه بقية عمره، وقال لابنيه: إن يرد الله أن يعطيكموها لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك. وقال لابنيه: الوليد وسليمان: هل قارفتما حرامًا قط؟ قالا: لا والله قال: الله أكبر، نلتماها ورب الكعبة! قال: فلما أبى عبد العزيز أن يجيب عبد الملك إلى ما أراد، قال عبد الملك: اللهم قد قطعني فاقطعه، فلما مات عبد العزيز قال أهل الشام: رد على أمير المؤمنين أمره، فدعا عليه، فاستجيب له. قال: وكتب الحجاج إلى عبد الملك يشير عليه أن يستكتب محمد بن يزيد الأنصاري، وكتب إليه: إن أردت رجلًا مأمونًا فاضلًا عاقلًا وديعًا مسلمًا كتومًا تتخذه لنفسك، وتضع عنده سرك، وما لا تحب أن يظهر، فاتخذ محمد بن يزيد. فكتب إليه عبد الملك: احمله إلي. فحمله، فاتخذه عبد الملك كاتبًا. قال محمد: فلم يكن يأتيه كتاب إلا دفعه إلي، ولا يستر شيئًا إلا أخبرني به وكتمه الناس، ولا يكتب إلى عامل من عماله إلا أعلمنيه، فإني لجالس يومًا نصف النهار إذا ببرد قد قدم من مصر، فقال: الأذن على أمير المؤمنين. قلت: ليست هذه ساعة إذن، فأعلمني ما قد قدمت له، قال: لا. قلت: فإن كان معك كتاب فادفعه إلي. قال: لا، قال: فأبلغ بعض من حضرني أمير المؤمنين، فخرج فقال: ما هذا؟ قلت: رسول قدم من مصر، قال: فخذ الكتاب، قلت: زعم أنه ليس معه كتاب، قال: فسله عما قدم له، قلت: قد سألته فلم يخبرني، قال أدخله، فأدخلته، فقال: آجرك الله يا أمير المؤمنين في عبد العزيز! فاسترجع وبكى ووجم ساعة ثم قال: يرحم الله عبد العزيز! مضى والله عبد العزيز لشأنه، وتركنا وما نحن فيه، ثم بكى النساء وأهل الدار، ثم دعاني من غد، فقال: إن عبد العزيز رحمه الله قد مضى لسبيله، ولا بد للناس من علم وقائم يقوم بالأمر من بعدي، فمن ترى؟ قلت: يا أمير المؤمنين، سيد الناس وأرضاهم وأفضلهم الوليد بن عبد الملك، قال: صدقت وفقك الله! فمن ترى أن يكون بعده؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أين تعدلها عن سليمان فتى العرب! قال: وفقت، أما إنا لو تركنا الوليد وإياها لجعلها لبنيه، اكتب عهدًا للوليد وسليمان من بعده، فكتب بيعة الوليد ثم سليمان من بعده. فغضب علي الوليد فلم يولني شيئًا حين أشرت بسليمان من بعده. قال علي، عن أبي جعدية: كتب عبد الملك إلى هشام بن إسماعيل المخزومي أن يدعو الناس لبيعة الوليد وسليمان، فبايعوا غير سعيد بن المسيب، فإنه أبى، وقال: لا أبايع وعبد الملك حي؛ فضربه هشام ضربًا مبرحًا وألبسه المسوح، وسرحه إلى ذباب - ثنية بالمدينة كانوا يقتلون عندها ويصلبون فظن أنهم يريدون قتله، فلما انتهوا به إلى ذلك الموضع ردوه، فقال: لو ظننت أنهم لا يصلبوني ما لبست سراويل مسوح، ولكن قلت: يصلبوني فيسترني، وبلغ عبد الملك الخبر، فقال: قبح الله هشامًا! إنما كان ينبغي أن يدعوه إلى البيعة، فإن أبى يضرب عنقه، أو يكف عنه. بيعة عبد الملك لابنيه الوليد وسليمان وفي هذه السنة بايع عبد الملك لابنيه: الوليد، ثم من بعده سليمان، وجعلهما وليي عهد المسلمين، وكتب بيعته لهما البلدان، فبايع الناس، وامتنع من ذلك سعيد بن المسيب، فضربه هشام بن إسماعيل - وهو عامل عبد الملك على المدينة - وطاف به وحبسه، فكتب عبد الملك إلى هشام يلومه على ما فعل من ذلك، وكان ضربه ستين سوطًا، وطاف به فيد تبان سعر حتى بلغ به رأس الثنية. وأما الحارث فقد قال: حدثني ابن سعيد، عن محمد بن عمر الواقدي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر وغيره من أصحابنا قالوا: استعمل عبد الله ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف الزهري على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير، فقال سعيد بن المسيب: لا، حتى يجتمع الناس؛ فضربه ستين سوطًا، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إلى جابر يلومه، وقال: مالنا ولسعيد، دعه! وحدثني الحارث، عن ابن سعد، أن محمد بن عمر أخبره قال: حدثنا عبد الله بن جعفر وغيره من أصحابنا أن عبد العزيز بن مروان توفي بمصر في جمادى سنة أربع وثمانين، فعقد عبد الماك لابنيه الوليد وسليمان العهد، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان، وعامله يومئذ هشام بن إسماعيل المخزومي، فدعا الناس إلى البيعة، فبايع الناس، ودعا سعيد بن المسيب أب يبايع لهما، فأبى وقال: لا حتى أنظر، فضربه هشام بن إسماعيل ستين سوطًا وطاف به في تبان شعر حتى بلغ به رأس الثنية، فلما كروا به قال: أين تكرون بي؟ قالوا: إلى السجن؛ قال: والله لولا أني، ظننت أنه الصلب لما لبست هذا التبان أبدًا. فرده إلى السجن، وحبسه وكتب إلى عبد الملك يخبره بخلافه، وما كان من أمره، فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع ويقول: سعيد والله كان أحوج أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عنده من شقاق وخلاف. وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي، كذلك حدثنا أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي. وكان العامل على المشرق في هذه السنة كم العراق الحجاج بن يوسف. ثم دخلت سنة ست وثمانين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث خبر وفاة عبد الملك بن مروان فمما كان فيها من ذلك هلاك عبد الملك بن مروان، وكان مهلكه في النصف من شوال منها. حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: توفي عبد الملك بن مروان يوم الخميس للنصف من شوال سنة ست وثمانين، فكانت خلافته ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر. وأما الحارث فإنه حدثني عن أبي سعد، عن محمد بن عمر، قال: حدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: أجمع الناس على عبد الملك بن مروان سنة ثلاث وسبعين. قال ابن عمر: وحدثني أبو معشر نجيح، قال: مات عبد الملك بن مروان بدمشق يوم الخميس اانصف من شوال سنة ست وثمانين، فكانت ولايته منذ يوم بويع إلى يوم توفي إحدى وعشرين سنة وشهرًا ونصفًا، كان تسع سنين منها يقاتل عبد الله بن الزبير، ويسلم عليه بالخلافة بالشام، ثم بالعراق بعد مقتل مصعب، وبقي بعد مقتل عبد الله بن الزبير واجتماع الناس عليه ثلاث عشر سنة وأربعة أشهر إلا سبع ليال. وأما علي بن محمد المدائني، فإنه - فيما حدثنا أبو زيد عنه - قال: مات عبد الملك سنة ست وثمانين بدمشق، وكانت ولايته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر وخمسة عشر يومًا. ذكر الخبر عن مبلغ سنه يوم توفي اختلف أهل السير في ذلك، فقال أبو معشر فيه - ما حدثني الحارث عن أبي سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو معشر نجيح، قال: مات عبد الملك بن مروان وله ستون سنة. قال الواقدي: وقد روى لنا أنه مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة. قال: والأول أثبت. وهو على مولده، قال: وولد سنة ست وعشرين في خلافة عثمان ابن عفان رضي الله عنه، وشهد يوم الدار مع أبيه وهو ابن عشر سنين. وقال المدائني علي بن محمد - فيما ذكر، أبو زيد عنه: مات عبد الملك وهو ابن ثلاث وستين سنة. ذكر نسبه وكنيته أما نسبه، فإنه عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف. وأما كنيته فأبو الوليد. وأمه عائشة بنت معاوية بنت المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وله يقول ابن قيس الرقيات: أنت ابن عائشة التي ** فضلت أروم نسائها لم تلتفت للداتها ** ومضت على غلوائها ذكر أولاده وأزواجه منهم الوليد، وسليمان، ومروان الأكبر - درج - وعائشة؛ أمهم ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس بن بغيض. ويزيد، ومروان، ومعاوية - درج - وأم كلثوم، وأمهم عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. وهشام، وأمه أم هشام بنت هشام إسماعيل بن هشامبن الوليد بن المغيرة المخزومي. وقال المدائني: اسمها عائشة بنت هشام. وأبو بكر، واسمه بكار، أمه عائشة بنت موسى بن طلحة بن عبيد الله، والحكم - درج - أمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان. وفاطمة بنت عبد الملك، أمها أم المغيرة بنت المغير بن خالد بن العاص ابن هشام بم المغيرة. وعبد الله ومسلمة والمنذر وعنبسة ومحمد وسعيد الخير والحجاج؛ لأمهات أولاد. قال المدائني: وكان له من النساء - سوى من ذكرنا - شقراء بنت سلمة ابن حلبس الطائي، وابنة لعلي بن أبي طالب عليه السلام، وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر. وذكر المدائني، عن عوانة وغيره أن أم سلمة بن يزيد بن وهب بن نباتة الفهمي دخل على عبد الملك فقال له: أي الزمان أدركت أفضل؟ وأي الملوك أكمل؟ قال: أما الملوك فلم أر إلا ذامًا وحامدًا؛ وأما الزمان فيرفع أقوامًا ويضع أقوامًا، وكلهم يذم زمانه لأنه يبلي جديدهم، ويهرم صغيرهم، وكل ما فيه منقطع غير الأمل؛ قال: فأخبرني عن فهم، قال: هم كما قال من قال: درج الليل والنهار على فه ** م بن عمرو فأصبحوا كالرميم وخلت دارهم فأضحت يبابًا ** بعد عز وثروة ونعيم كذاك الزمان يذهب بالنا ** س وتبقى ديارهم كالرسوم قال: فمن يقول منكم: رأيت الناس مذ خلقوا وكانوا ** يحبون الغنى من الرجال وإن كان الغنى قليل خير ** بخيلًا بالقليل من النوال فما أدرى علام وفيم هذا ** وماذا يرتجون من البخال أللدينا؟ فبيس هناك دنيا ** ولا يرجى لحادثة الليالي قال: أنا. قال علي: قال أبو قطيفة عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معبط لعبد الملك بن مروان: نبئت أن ابن القلمس عابني ** ومن ذا من الناس الصحيح المسلم! فأبصر سبل الرشد سيد قومه ** وقد يبصر الرشد الرئيس المعمم فمن أنتم؟ ها خبرونا من أنتم ** وقد جعلت أشياء تبدو وتكتم فقال عبد الملك: ما كنت أرى أن مثلنا يقال له: من أنتم! أما والله لولا ما تعلم لقلت قولًا ألحقكم بأصلكم الخبيث حتى تموت. وقال عبد الله بن الحجاج الثعلبي لعبد الملك: يا بن العاص ويا خير فتى ** أنت سداد الدين إن دين وهى أنت الذي لا يجعل الأمر سدى ** جيبت قريش عنكم جوب الرحى إن أبا العاصي وفي ذاك اعتصى ** أوصى بنيه فوعوا منه الوصى إن يسعروا الحرب ويأبوا ما أبى ** الطاعنين في النحور والكلى شزرًا ووصلًا للسيوف بالخطا ** إلى القتال فحووا ما قد حوى وقال أعشى بن شيبان: عرفت قريش كلها ** لبني أبي العاص الإمارة لأبرها وأحقها ** عند المشورة بالإشارة المانعين لما ولوا ** والنافعين ذوي الضرارة وهم أحقهم بها ** عند الحلاوة والمرارة وقال عبد الملك: ما أعلم مكان أحد أقوى على هذا الأمر مني. وإن ابن الزبير لطويل الصلاة، كثير الصيام، ولكن لبخله لا يصلح أن يكون سائسًا. خلافة الوليد بن عبد الملك وفي هذه السنة بويع للوليد بن عبد الملك بالخلافة، فذكر أنه لما دفن أباه وانصرف عن قبره. دخل المسجد فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس، فخطب فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! والله المستعان بمصيبتا بوت أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم به علينا من الخلافة، قوموا فبايعوا. فكان أول من قام لبيعته عبد الله بن هشام السولي، فإنه قام وهو يقول: الله أعطاك التي لا فوقها ** وقد أراد الملحدون عوقها عنك ويأبى الله إلا سوقها ** إليك حتى قلدوك طوقها فبايعه، ثم تتابع الناس على البيعة. وأما الواقدي فإنه ذكر أن الوليد لما رجع من دفن أبيه، ودفن خارج باب الجابية، لم يدخل منزله حتى صعد على منبر دمشق، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إنه لا مقدم لما أخر الله، ولا مؤخر لما قدم الله، وقد كان من قضاء الله وسابق علمه وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت. وقد صار إلى منازل الأبرار ولي هذه الأمة الذي يحق عليه لله من الشدة على المريب، واللين لأهل الحق والفضل، وإقامة ما أقام الله من منار الإسلام وأعلامه؛ من حج هذا البيت، وغزو هذه الثغور، وشن هذه الغارة على أعداء الله، فلم يكن عاجزًا ولم يكن مفرطًا. أيها الناس، عليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع الفرد. أيها الناس، من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه. ثم نزل، فنظر إلى ما كان من دواب الخلافة فحازه، وكان جبارًا عنيدًا. ولاية قتيبة بن مسلم على خراسان من قبل الحجاج وفي هذه السنة قدم قتيبة بن مسلم خراسان واليًا عليها من قبل الحجاج، فذكر علي بن محمد أن كليب بن خلف، أخبره عن طفيل ابن مرداس العمي والحسن بن رشيد، عن سليمان بن كثير العمي، قال: أخبرني عمي قال: رأيت قتيبة بن مسلم حين قدم خراسان في سنة ست وثمانين، فقدم والمفضل يعرض الجند، وهو يريد أن يغزو أخرون وشومان، فخطب الناس قتيبة، وحثهم على الجهاد، وقال: إن الله أحلكم هذا المحل ليعز دينه، ويذب بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضة، والعدو وقمًا، ووعد نبيه ﷺ النصر بحديث صادق، وكتاب ناطق، فقال: " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ". ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب، وأعظم الذخر عنده فقال: " ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله "، إلى قوله " أحسن ما كانوا يعملون ". ثم أخبر عمن قتل في سبيله أنه حي مرزوق، فقال " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون ". فتنجزوا موعود ربكم ووطنوا أنفسكم على أقصى أثر وأمضى ألم، وإياي والهوينى. ذكر ما كان من أمر قتيبة بخراسان في هذه السنة ثم عرض قتيبة الجند في السلاح والكراع، وسار واستخلف بمرو على حربها إياس بن عبد الله بن عمرو، وعلى الخراج عثمان بن السعدي، فلما كان بالطالقان تلقاه دهاقين بلخ وبعض عظمائهم فساروا معه، فلما قطع النهر تلقاه تيش الأعور ملك الطغانيان بهدايا ومفتاح من ذهب، فدعاه إلى بلاده، فأتاه وأتى ملك كفتان بهدايا وأموال، ودعا إلى بلاده، فمضى مع بيش إلى الصغانيان، فسلم إليه بلاده، وكان ملك آخرون وشومان قد أساء جوار تيش وغزاه وضيق عليه، فسار قتيبة إلى أخرون وشومان - وهما من طخارستان، فجاءه غشتاسبان فصالحه على فدية أداها إليه، فقبلها قتيبة ورضي، انصرف إلى مرو، واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم، وتقدم جنده فسبقهم إلى مرو، وفتح صالح بعد رجوع قتيبة باسارا، وكان معه نصر بن سيار فأبلى يومئذ؛ فوهب له قرية تدعى تنجانة، ثم قدم صالح على قتيبة فاستعمله على الترمذ. قال: واما الباهليون فيقولون: قدم قتيبة خراسان سنة خمس وثمانين فعرض الجند، فكان جميع ما أحصوا من الدروع في جند خراسان ثلثمائة وخمسين درعًا، فغزا أخرون وشومان، ثم قفل فركب السفن فانحدر إلى آمل، وخلف الجند، فأخذوا طرق بلخ إلى مرو، وبلغ الحجاج، فكتب إليه يلومه ويعجز رأيه في تخليفه الجند، وكتب إليه: إذا غزوت فكن في مقدم الناس، وإذا قفلت فكن في أخرياتهم وساقتهم. وقد قيل: إن قتيبة أقام قبل أن يقطع النهر في هذه السنة على بلخ، لأن بعضها كان منتقدًا عليه، وقد ناصب المسلمين، فحارب أهلها، فكان ممن سبى امرأة برمك، أبا خالد بن برمك - وكان برمك على النوبهار - فسارت لعبد الله بن مسلم الذي يقال له الفقير، أخى قتيبة بن مسلم، فوقع عليها، وكان به شيء من الجذام. ثم إن أهل بلخ صالحوا من غد اليوم الذي حاربهم قتيبة، فأمر قتيبة برد السبى، فقالت امرأة برمك لعبد الله بن مسلم: يا تازي، إني قد علقت منك. وحضرت عبد الله بن مسلم الوفاة، فأوصى أن يلحق به ما في بطنها، وردت إلى برمك، فذكر أن ولد عبد الله بن مسلم جاؤوا أيام المهدي حين قدم الري إلى خالد، فادعوه، فقال لهم مسلم بن قتيبة: إنه لا بد لكم إن استلحقتموه ففعل من أن تزوجوه، فتركوه وأعرضوا عن دعواهم. وكان برمك طبيبًا، فداوى بعد ذلك مسلمة من علة كانت به. وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم. وفيها حبس الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب، وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان، وعبد الملك بن المهلب عن شرطته. وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي، كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي. وكان الأمير على العراق كله والمشرق كله الحجاج بن يوسف وعلى الصلة بالكوفة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل. وعلى الحرب بها من قبل الحجاج زياد بن جرير بن عبد الله. وعلى البصرة أيوب بن الحكم. وعلى خراسان قتيبة بن مسلم. ثم دخلت سنة سبع وثمانين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث في هذه السنة عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن المدينة، وورد عزله عنها - فيما ذكر - ليلة الأحد لسبع ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة سبع وثمانين. وكانت إمرته عليها أربع سنين غير شهر أو نحوه. خبر إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة وفي هذه السنة ولي الوليد عمر بن عبد العزيز المدينة. قال الواقدي: قدمها واليًا في شهر ربيع الأول؛ وهو ابن خمس وعشرين سنة، وولد سنة اثنتين وستين. قال: وقدم على ثلاثين بعيرًا، فنزل دار مروان. قال: فحدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: لما قدم عمر بن عبد العزيز المدينة ونزل دار مروان دخل عليه الناس فسلموا، فلما صلى الظهر دعا عشرة م فقهاء المدينة: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عبد الله ابن عمرو، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد؛ فدخلوا عليه فجلسوا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانًا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدًا يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرج الله على من بلغه ذلك إلا بلغني. فخرجوا يجزونه خيرًا، وافترقوا. قال: وكتب الوليد إلى عمر يأمره أن يقف هشام بن إسماعيل للناس، وكان فيه سيء الرأي. قال الواقدي: فحدثني داود بن جبير، قال: أخبرتني أمولد سعيد بن المسيب أن سعيدًا دعا أبنه ومواليه فقال: إن هذا الرجل يوقف للناس أوقد وقف - فلا يتعرض له أحد ولا يؤذه بكلمة، فإنا سنترك ذلك لله وللرحيم، فإن كان ما علمت لسيء النظر لنفسه، فأما كلامه فلا أكلمه أبدًا. قال: وحدثني محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر، عن أبيه، قال: كان هشام بن إسماعيل يسيء جوارنا ويؤذينا، ولقى منه علي بن الحسين أذى شديدًا، فلما عزل أمر به الوليد أن يوقف للناس، فقال ما أخاف إلا من علي بن الحسين. فمر به علي وقد وقف عند دار مروان، وكان علي قد تقدم إلى خاصته ألا يعرض له أحد منهم بكلمة؛ فلما مر ناداه هشام بن إسماعيل: الله أعلم حيث يجعل رسالاته. خبر صلح قتيبة ونيزك وفي هذه السنة قدم نيزك على قتيبة، وصالح قتيبة أهل باذغيس على ألا يدخلها قتيبة. ذكر الخبر عن ذلك ذكر علي بن محمد أن أبا الحسن الجشمي أخبره عن أشياخ من أهل خراسان، وجبلة بن فروخ عن محمد بن المثنى، أن نيزك طرخان كان في يديه أسراء من المسلمين، وكتب إليه قتيبة حين صالح ملك شومان فيمن في يديه من أسرى المسلمين أن يطلقهم، ويهدده في كتابه، فخافه نيزك، فأطلق الأسرى، وبعث بهم إلى قتيبة، فوجه إليه قتيبة سليًا الناصح مولى عبيد الله بن أبي بكرة يدعوه إلى الصلح وإلى أن يؤمنه، وكتب إليه كتابًا يحلف فيه بالله: لئن لم يقدم عليه ليغزونه، ثم ليطلبنه حيث كان، لا يقلع منه حتى يظفر به أو يموت قبل ذلك. فقدم سليم على نيزك بكتاب قتيبة - وكان يستنصحه - فقال له: يا سليم، ما أظن عند صاحبك خيرًا، كتب إلي كتابًا لايكتب إلى مثلي! قال له سليم: يا أبا الهياج، إن هذا رجل شديد في سلطانه، سهل إذا سوهل، صعب إذا عوسر، فلا يمنعك منه غلظة كتابه إليك، فما أحسن حلك عنده وعند جميع مضر! فقدم نيزك مع سليم على قتيبة، فصالحه أهل باذغيس في سنة سبع وثمانين على ألا يدخل باذغيس. خبر غزو مسلمة بن عبد الملك أرض الروم وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، ومعه يزيد بن جبير، فلقى الروم في عدد كثير بسوسنة من ناحية المصيصة. قال الواقدي: فيها لاقى مسلم ميمونًا الجرماني ومع مسلمة نحو من ألف مقاتل من أهل انطاكية عند طوانة، فقتل منهم بشرًا كثيرًا، وفتح الله على يديه حصونًا. وقيل: إن الذي غزا الروم في هذه السنة هشام بن عبد الملك، ففتح الله على يديه حصن بولق وحصن الأخرم وحصن بولس وقمقم، وقتل ممن المستعربة نحوًا من ألف مقاتل، وسبى ذراريهم ونسائهم. خبر غزو قتيبة بيكند وفي هذه السنة غزا قتيبة بيكند. ذكر الخبر عن غزوته هده ذكر علي بن محمد أن أبا الذيال أخبره عن المهلب بن إياس. عن أبيه، عن حسين بن مجاهد الرازي وهارون بن عيسى، عن يونس ابن أبي إسحاق وغيرهم، أن قتيبة لما صالح نيزك أقام إلى وقت الغزو، ثم غزا في تلك السنة - سنة سبع وثمانين - بيكند، فسار من مرو وأتى مرو الروذ، ثم أتى آمل! ثم مضى إلى زم فقطع النهر، وسار إلى بيكند - وهي أدنى مدائن بخاري إلى النهر، يقال لها مدينة التجار على رأس المفازة من بخاري - فلما نزل بعقوتهم استنصروا الصغد، واستمدوا من حولهم، فآتوهم في جمع كثير، وأخذوا بالطريق فلم ينفذ لقتيبة رسول، ولم يصل إليه رسول، ولم يجر له خبر شهرين، وأبطأ خبره على الحجاج، فأشفق الحجاج على الجند، فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد، وكتب بذلك إلى الأمصار وهم يقتتلون في كل يوم. قال: وكان لقتيبة عين يقال له تنذر من العجم، فأعطاه أهل بخاري الأعلى مالًا على أن يفشأ عنهم قتيبة؛ فآتاه، فقال: أخلني، فنهض الناس واحتبس قتيبة ضرار بن حصين الضبي، فقال تنذر: هذا عامل يقدم عليك، وقد عزل الحجاج، فلو انصرفت بالناس إلى مرو! فدعا قتيبة سياه مولاه، فقال: اضرب عنق تنذر، فقتله، ثم قال لضرار: لم يبق أحد يعلم هذا الخبر غيري وغيرك، وإني أعطي الله عهدًا إن ظهر هذا الحديث من أحد حتى تنقضي حربنا هذه لألحقنك به؛ فاملك لسانك، فإن انتشار هذا الحديث يفت في أعضاد الناس. ثم أذن للناس. قال: فدخلوا، فراعهم قتل تنذر، فوجموا وأطرقوا، فقال قتيبة: ما يروعكم من قتل عبد أحانه الله! قالوا: إنا كنا نظنه ناصحًا للمسلمين، قال: بل كان غاشًا فأحانه الله بذنبه، فقد مضى لسبيله، فاغدوا على قتال عدوكم، والقوهم بغير ما كنتم تلقونهم به. فغدا الناس متأهبين، وأخذوا مصافهم، ومشى قتيبة قحض أهل الريات، فكانت بين الناس مشاولة، ثم تزاحفوا والتقوا، وأخذت السيوف مأخذها، وأنزل الله على المسلمين الصبر، فقاتلوهم حتى زالت الشمس، ثم منح الله المسلمين أكتافهم، فانهزموا يريدون المدينة، واتبعهم المسلمون فشغلوهم عن الدخول فتفرقوا، وركبهم المسلمون قتلا وأسرًا كيف شاءوا، واعتصم من دخل المدينة بالمدينة، وهم قيل، فوضع قتيبة الفعلة في أصلها ليهدمها، فسألوه الصلح فصالحهم، واستعمل عليهم رجلا من بني قتيبة. وارتحل عنهم يريد الرجوع، فلما سار مرحلة أو ثنتين، وكان منهم عل خمسة فراسخ نقضوا وكفروا، فقتلوا العامل وأصحابه، وجدعوا آنفهم وآذانهم، وبلغ قتيبة فرجع إليهم، وقد تحصنوا، فقاتلهم شهرًا، ثم وضع الفعلة في أصل المدينة فعلقوها بالخشب، وهو يريد إذا فرغ من تعليقها أن يحرق الخشب فتنهدم، فسقط الحائط وهم يعلقونه، فقتل أربعين من الفعلة، فطلبوا الصلح، فأبى وقاتلهم، فظفر بهم عنوة، فقتل من كان فيها من المقاتلة، وكان فيمن أخذوا في المدينة رجل أعور كان هو الذي استجاش الترك على المسلمين، فقال لقتيبة: أنا افدي نفسي، فقال له سليم الناصح: ما تبذل؟ قال: خمسة آلاف حريرة صينية قيمتها ألف ألف، فقال قتيبة: ما ترون؟ قالوا: نرى أن فداءه زيادة في غنائم المسلمين، وما عسى أن يبلغ من كيد هذا! قال: لا والله لا تروع بك مسلمة أبدًا، وأمر به فقتل قال علي: قال أبو الذيال، عن المهلب بن إياس، عن أبيه والحسن ابن رشيد، عن طفيل بن مرداس، أن قتيبة لما فتح بيكند أصابوا فيها من آنية الذهب والفضة ما لا يحصى، فولى الغنائم والقسم عبد الله بن وألان العدوي أحد بني ملكان - وكان قتيبة يسميه الأمين ابن الأمين - وإياس بن بيهس الباهلي، فأذابا الآنية والأصنام فرفعاه إلى قتيبة، ورفعا إليه خبث ما أذابا، فوهبه لهما، فأعطيا به أربعين ألفًا، فأعلماه فرجع فيه وأمرهما أن يذيباه فأذاباه، فخرج منه خمسون ومائة ألف مثقال - أو خمسون ألف مثقال - وأصابوا في بيكند شيئًا كثيرًا، وصار في أيدي المسلمين من بيكند شيء لم يصيبوا مثله بخراسان، ورجع قتيبة إلى مرو وقوى المسلمون، فاشتروا السلاح والخيل، وجلبت إليهم الدواب. وتنافسوا في حسن الهيئة والعدة، وغالوا بالسلاح حتى بلغ الرمح سبعين؛ وقال الكميت: ويوم بيكند لا تحصى عجائبه ** وما بخاراء مما أخطأ العدد وكان في الخزائن سلاح وآلة من آلة الحرب كثير، فكتب قتيبة إلى الحجاج يستأذنه في دفع ذلك السلاح إلى الجند، فأذن له، فأخرجوا ما كان في الخزائن من عدة الحرب وآلة السفر، فقسمه في الناس فاستعدوا، فلما كان الربيع ندب الناس وقال: إني أغزيكم قبل أن تحتاجوا إلى حمل الزاد، وأنتقلكم قبل أن تحتاجوا إلى الإدفاء؛ فسار في عدة حسنة من الدواب والسلاح، فأتى آمل؛ ثم عبر من زم إلى بخارى، فأتى نومشكث - وهي من بخارى - فصالحوه. قال علي: حدثنا أبو الذيال، عن أشياخ من بني عدي، أن مسلمًا الباهلي قال لو ألان: إن عندي مالًا أحب أن أستودعكه، قال: أتريد أن يكون مكتومًا أو لا تكره أن يعلمه الناس؟ قال: أحب أن تكتمه؛ قال: ابعث به مع رجل تثق به إلى موضع كذا وكذا ومره إذا رأى رجلا في ذلك الموضع أن يضع ما معه وينصرف؛ قال: نعم، فجعل مسلم المال في خرج، ثم حمله على بغل وقال لمولى له: انطلق بهذا البغل إلى موضع كذا وكذا، فإذا رأيت رجلًا جالسًا فخل عن البغل وانصرف. فانطلق الرجل بالبغل، وقد كان وألان أتى الموضع لميعاده. فأبطأ عليه رسول مسلم، ومضى الوقت الذي وعده، فظن أنه قد بدا له، فانصرف وجاء رجل من بني تغلب فجلس في ذلك الموضع، وجاء مول مسلم فرأى الرجل جالسًا، فخلى عن البغل ورجع، فقام التغلبي إلى البغل، فلما رأى المال ولم ير مع البغل أحدًا قاد البغل إلى منزله، فأخذ البغل وأخذ المال، فظن مسلم أن المال قد صار إلى وألان، فلم يسأل عنه حتى احتاج إليه، فلقيه فقال: مالي! فقال: ماقبضت شيئًا، ولا لك عندي مال. قال: فكان مسلم يشكوه ويتنقصه. قال: فأتى يومًا مجلس بني ضبيعة فشكاه والتغلبي جالس، فقام إليه فخلا به وسأله عن المال، فأخبره فانطلق به إلى منزله، وأخرج الخرج فقال: أتعرفه؟ قال: نعم، قال: والخاتم؟ قال: نعم؛ قال: اقبض مالك، وأخبره الخبر، فكان مسلم يأتي الناس والقبائل التي كان يشكو إليهم وألان فيعذره ويخبرهم الخبر، وفي وألان يقول الشاعر: ولست كو ألان الذي ساد بالتقى ** ولست كعمران ولا كالمهلب وعمران: ابن الفصيل البرجمي. وحج بالناس في هذه السنة - فيما حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر - عمر بن عبد العزيز، وهو أمير على المدينة. وكان على قضاء المدينة في هذه السنة أبو بكر بن عمرو بن حزم من قبل عمر بن عبد العزيز. وكان على العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف، وخليفته على البصرة في هذه السنة - فيما قيل - الجراح بن عبد الله الحكمي، وعلى قضائها عبد الله ابن أذينة، وعامله على الحرب بالكوفة زياد بن جرير بن عبد الله، وعلى قضائها أبو بكر بن أبي موسى الأشعري، وعلى خراسان قتيبة بن مسلم. ثم دخلت سنة ثمان ثمانين ذكر ما كان فيها من الأحداث خبر فتح حصن طوانة من بلاد الروم فمن ذلك ما كان من فتح الله على المسلمين حصنًا من حصون الروم يدعى طوانة في جمادى الآخرة وشتوا بها، وكان على الجيش مسلمة بن عبد الملك، والعباس بن الوليد بن عبد الملك. فذكر محمد بن عمر الواقدي أن ثور بن يزيد حدثه عن أصحابه قال: كان فتح طوانة على يدي مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد، وهزم المسلمون العدو يومئذ هزيمة صاروا إلى كنيستهم، ثم رجعوا فانهزم الناس حتى ظنوا ألا يجتبروها أبدًا، وبقي العباس معه نفير؛ منهم ابن محيريز الجمحي، فقال العباس لابن محيريز: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة؟ فقال ابن محيريز: نادهم يأتوك؛ فنادى العباس: يا أهل القرآن! فأقبلوا جميعًا، فهزم الله العدو حتى دخلوا طوانة. وكان الوليد بن عبد الملك ضرب البعث على أهل المدينة في هذه السنة. فذكر محمد بن عمر، عن أبيه، أن مخرمة بن سليم الوالبي قال: ضرب عليهم بعث ألفين. وأنهم تجاعلوا فخرج ألف وخمسمائة، وتخلف خمسمائة، فغزوا الصائفة مع مسلمة والعباس، وهما على الجيش. وإنهم شتوا بطوانة وافتتحوها. وفيها ولد الوليد بن يزيد بن عبد الملك. ذكر عمارة مسجد النبي ﷺ وفيها أمر الوليد بن عبد الملك بهدم مسجد رسول الله ﷺ وهدم بيوت أزواج رسول الله ﷺ وإدخالها في المسجد، فذكر محمد بن عمر، أن محمد بن جعفر بن وردان البناء قال: رأيت الرسول الذي بعثه الوليد بن عبد الملك قدم في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثمانين، قدم معتجرًا، فقال الناس: ما قدم به الرسول! فدخل على عمر بن عبد العزيز بكتاب الوليد يأمره بإدخال حجر أزواج رسول الله ﷺ في مسجد رسول الله، وأن يشتري ما في مؤخره ونواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع ويقول له: قدم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك، فإنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فمر أهل المصر فليقوموا له قيمة عدل، ثم اهدم عليهم وادفع إليهم الأثمان، فإن لك في ذلك سلف صدق؛ عمر وعثمان فأقرأهم كتاب الوليد وهم عنده، فأجاب القوم إلى الثمن، فأعطاهم إياه، وأخذ في هدم بيوت أزواج النبي ﷺ وبناء المسجد، فلم يمكث إلا يسيرًا حتى قدم الفعلة، بعث بهم الوليد. قال محمد بن عمر: وحدثني موسى بن يعقوب، عن عمه، قال: رأيت عمر بن عبد العزيز يهدم المسجد ومعه وجوه الناس: القاسم، وسالم، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وخارجة بن زيد، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، يرونه أعلامًا في المسجد ويقرونه، فأسسوا أساسه. قال محمد بن عمر: وحدثني يحيى ين النعمان الغفاري، عن صالح بن كيسان، قال: لما جاء كتاب الوليد من دمشق وسار خمس عشرة بهدم المسجد، تجرد عمر بن عبد العزيز، قال صالح: فاستعملني على هدمه وبنائه، فهدمناه بعمال المدينة، فبدأنا بهدم بيوت أزواج النبي ﷺ حتى قدم علينا الفعلة الذين بعث بهم الوليد. قال محمد: وحدثني موسى بن أبي بكر، عن صالح بن كيسان، قال: ابتدأنا بهدم مسجد رسول الله ﷺ في صفر من سنة ثمان وثمانين، وبعث الوليد إلى صاحب الروم يعلمه أنه أمر بهدم مسجد رسول الله ﷺ، وأن يعينه فيه، فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهب، وبعث إليه بمائة عالم، وبعث من الفسيفساء بأربعين حملا، وأمر أن يتتبع الفسيفساء في المدائن التي خربت، فبعث بها إلى الوليد فبعث بذلك الوليد إلى عمر بن عبد العزيز، وفي هذه السنة ابتدأ عمر بن عبد العزيز في بناء المسجد. وفيها غزا أيضًا مسلمة الروم، ففتح على يديه حصون ثلاثة: حصن قسطنطينة، وغزالة، وحصن الأخرم، وقتل من المستعربة نحو من ألف مع سبي الذرية وأخذ الأموال. ذكر غزو قتيبة نومشكث وراميثنه وفي هذه السنة غزا قتيبة نومشكث وراميثنه. ذكر الخبر عما كان من خبر غزوته هذه ذكر علي بن محمد، أن المفضل بن محمد أخبره عن أبيه ومصعب بن حيان، عن مولى لهم أدرك ذلك، أن غزا نومشكث في سنة ثمان وثمانين، واستخلف على مرو بشار بن مسلم، فتلقاه أهلها، فصالحهم، ثم صار إلى راميثنه فصالحه أهلها، فانصرف عنهم وزحف إليه الترك، معهم السغد وأهل فرغانة، فاعترضوا المسلمين في طريقهم، فلحقوا عبد الرحمن ابن مسلم الباهلي وهو على الساقة، بينه وبين قتيبة وأوائل العسكر ميل، فلما قربوا منه أرسل رسولًا إلى قتيبة بخبره، وغشيه الترك فقاتلوه، وأتى الرسول قتيبة فرجع بالناس، فانتهى إلى عبد الرحمن وهو يقاتلهم، وقد كاد الترك يستعملونهم، فلما رأى الناس قتيبة طابت أنفسهم فصبروا، وقاتلوهم إلى الظهر، وأبلى يومئذ نيزك وهو مع قتيبة، فهزم الله الترك، وفض جمعهم، ورجع قتيبة يريد مرو، وقطع النهر من الترمذ يريد بلخ، ثم أتى مرو. وقال الباهليون: لفي الترك المسلمين عليهم كور مغانون التركي ابن أخت ملك الصين في مائتي ألف، فأظهر الله المسلمين عليهم، ذكر ما عمل الوليد من المعروف وفي هذه السنة كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز في تسهيل الثنايا وحفر الآبار في البلدان. قال محمد بن عمر: حدثني ابن أبي سبرة، قال: حدثني صالح بن كيسان، قال: كتب الوليد إلى عمر في تسهيل الثنايا وحفر الآبار بالمدينة، وخرجت كتبه إلى البلدان بذلك، وكتب الوليد إلى خالد بن عبد الله بذلك، قال: وحبس المجذمين عن أن يخرجوا على الناس، وأجرى عليهم أرزاقًا، وكانت تجري عليهم. وقال. ابن أبي سبرة، عن صالح بن كيسان؛ قال: كتب الوليد إلى عمر ابن عبد العزيز أن يعمل الفوارة التي عند دار يزيد بن عبد الملك اليوم، فعملها عمر وأجرى ماءها فلما حج الوليد وقف عليها، فنظر إلى بيت الماء والفوارة، فأعجبته، وأمر لها بقوام يقومون عليها، وأن سقى أهل المسجد منها، ففعل ذلك وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز في رواية محمد بن عمر ذكر أن محمد بن عبد الله بن جبير - مولى لبني العباس - حدثهعن صالح بن كيسان، قال: خرج عمر بن عبد العزيز تلك السنة - يعني سنة ثمان وثمانين - بعدة من قريش، أرسل إليهم بصلات وظهر للحمولة، وأحرموا معه من ذي الحليفة، وساق معه بدنا، فلما كان بالتنعيم لقيهم نفر من قريش، منهم ابن أبي مليكة وغيره. فأخبروه أن مكة قليلة الماء، وأنهم يخافون على الحاج العطش. وذلك أن المطر قل، فقال عمر: فالمطلب هاهنا بين، تعالوا ندع الله. قال: فرأيتهم دعوا ودعا معهم، فألحوا في الدعاء. قال صالح: فلا والله إن وصلنا إلى البيت ذلك اليوم إلا مع المطر حتى كان مع الليل، وسكبت السماء، وجاء سيل الوادي، فجاء أمر خافه أهل مكة، ومطرت عرفه ومنى وجمع؛ فما كانت إلا عبرًا، قال: ونبتت مكة تلك السنة للخصب. وأما أبو معشر فإنه قال: حج بالناس سنة ثمان وثمانين عمر بن الوليد ابن عبد الملك، حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى عنه. وكانت العمال على الأمصار في هذه السنة العمال الذين ذكرنا أنهم كانوا عمالها في سنة سبع ثمانين. ثم دخلت سنة تسع وثمانين ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها خبر غزو مسلمة أرض الروم فمن ذلك افتتاح المسلمين في هذه السنة حصن سورية، وعلى الجيش مسلمة بن عبد الملك، زعم الواقدي أن مسلمة غزا في هذه السنة أرض الروم، ومعه العباس بن الوليد ودخلاها جميعًا ثم تفرقا، فافتتح مسلمة حصن سورية، وافتتح العباس أذرولية، ووافق من الروم جميعًا فهزمهم. وأما غير الواقدي فإنه قال: قصد مسلمة عمورية فوافق بها للروم جمعًا كثيرًا، فهزمهم الله، وافتتح هرقلة وقمودية. وغزا العباس الصائفة من ناحية البُدَنْدُون. خبر غزو قتيبة بخارى وفي هذه السنة غزا قتيبة بخارى، ففتح راميثنه. ذكر علي بن محمد عن الباهليين أنهم قالوا ذلك، وأن قتيبة رجع بعد ما فتحها في طريق بلخ، فلما كان بالفارياب أتاه كتاب الحجاج: أن رد وردان خذاه. فرجع قتيبة سنة تسع وثمانين، فأتى زم، فقطع النهر، فلقيه السغد وأهل كس ونسف في طريق المفازة، فقاتلوه، فظفر بهم ومضى إلى بخارى، فنزل خرقانة السفلي عن يمين وردان، فلقوه بجمع كثير، ففاتلهم يومين وليلتين، ثم أعطاه الله الظفر عليهم؛ فقال نهار بن توسعة: وباتت لهم منا بخرقان ليلة ** وليلتنا كانت بخرقان أطولا قال علي: أخبرنا أبو الذيال عن المهلب بن إياس، وأبو العلاء عن إدريس بن حنظلة، أن قتيبة غزا وردان خذاه ملك بخارى سنة تسع وثمانين فلم يطقه، ولم يظفر من البلد بشيء، فرجع إلى مرو، وكتب إلى الحجاج بذلك، فكتب إليه الحجاج: أن صورها لي، فبعث إليه بصورتها، فكتب إليه الحجاج: أن ارجع إلى مراغتك فتب إلى الله مما كان منك، وأتها من مكان كذا وكذا وقيل: كتب إليه الحجاج أن كس بكس وانسف نسف ورد وردان، وإياك والتحويط، ودعني من بنيات الطريق. خبر ولاية خالد القسري على مكة وفي هذه السنة ولى خالد بن عبد الله القسري مكة فيما زعم الواقدي، وذكر أن عمر بن صالح حدثه عن نافع مولى بني مخزوم، قال: سمعت خالد بن عبد الله يقول على منبر مكة وهو يخطب: أيها الناس، أيهما أعظم؟ أخليفة الرجل على أهله، أم رسوله إليهم؟ والله لو لم تعلموا فضل الخليفة، إلا أن إبراهيم خليل الرحمن استسقى فسقاه ملحًا أجاجًا، واستسقاه الخليفة فسقاه عذبًا فراتًا، بئرًا حفرها الوليد بن عبد الملك بالثنيتين - ثنية طوى وثنية الحجون - فكان ينقل ماؤها فيوضع في حوض من أدم إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم. قال: ثم غارت البئر فذهبت فلا يدري أين هي اليوم. وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك الترك حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح حصونًا ومدائن هنالك وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز، حدثني بذلك أحمد ابن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكان العمال في هذه السنة على الأمصار العمال في السنة التي قبلها وقد ذكرناهم قبل. ثم دخلت سنة تسعين ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها ففي هذه السنة غزا مسلمة أرض الروم - فيما ذكر محمد بن عمر - من ناحية سورية، ففتح الحصون الخمسة التي بسورية، وغزا فيها العباس بن الوليد؛ قال بعضهم: حتى بلغ الأرزن؛ وقال بعضهم: حتى بلغ سورية. وقال محمد بن عمر: قول من قال: حتى بلغ سورية أصح. وفيها قتل محمد بن القاسم الثقفي داهر بن صصة ملك السند، وهو على جيش من قبل الحجاج بن يوسف. وفيها استعمل الوليد قرة بن شريك على مصر موضع عبد الله بن عبد الملك. وفيها أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، فذهبوا به إلى ملكهم، فأهداه ملك الروم إلى الوليد بن عبد الملك. خبر فتح بخارى وفيها فتح قتيبة بخارى، وهزم جموع العدو بها. ذكر الخبر عن ذلك ذكر علي بن محمد أن أبا الذيال أخبره عن المهلب بن إياس؛ وأبا العلاء عن إدريس بن حنظلة؛ أن كتاب الحجاج لما ورد على قتيبة يأمره بالتوبة مما كان، من انصرافه عن وردان خذاه ملك بخارى قبل الظفر به والمصير إليه، ويعرفه الموضع الذي ينبغي له أن يأتي بلده منه، خرج قتيبة إلى بخارى في سنة تسعين غازيًا، فأرسل وردان خذاه إلى السغد والترك ومن حولهم يستنصرونهم، فأتوهم وقد سبق إليها قتيبة فحصرهم، فلما جاءتهم أمدادهم خرجوا إليهم ليقاتلوهم، فقالت الأزد: اجعلونا على حدة وخلوا بيننا وبين قتالهم. فقال قتيبة: تقدموا؛ فتقدموا يقاتلونهم وقتيبة جالس، عليه رداء أصفر فوق سلاحه، فصبروا جميعًا مليًا، ثم جال المسلمون، وركبهم المشركون فحطموهم حتى دخلوا في عسكر قتيبة وجازوه حتى ضرب النساء وجوه الخيل وبكين، فكروا راجعين، وانطوت مجنبتًا المسلمين على الترك، فقاتلوهم حتى ردوهم إلى مواقفهم، فوقف الترك على نشز، فقال قتيبة: من يزيلهم لنا عن هذا الموضع؟ فلم يقدم عليهم أحد، والأحياء كلها وقوف. فمشى قتيبة إلى بني تميم، فقال: يا بني تميم، إنكم أنتم بمنزلة الحطمية، فيوم كأيامكم، أبى لكم الفداء! قال: فأخذ وكيع اللواء بيده، وقال: يا بني تميم، أتسلمونني اليوم؟ قالوا: لا يا أبا مطرف - وهريم بن أبي طلحة المجاشعي على خيل بني تميم ووكيع رأسهم، والناس وقوف - فأحجموا جميعًا، فقال وكيع: يا هريم، قدم، ودفع إليه الراية، وقال: قدم خيلك فتقدم هريم، ودب وكيع في الرجال، فانتهى هريم إلى نهر بينه وبين العدو فوقف، فقال له وكيع: اقحم يا هريم؛ قال: فنظر هريم إلى وكيع نظر الجمل الصئول وقال: أنا أقحم خيلي هذا النهر، فإن انكشفت كان هلاكها! والله إنك لأحمق؛ قال: يا بن اللخناء، ألا أراك ترد أمري! وحذفه بعمود كان معه، فضرب هريم فرسه فأقحمه، وقال: ما بعد هذا أشد من هذا، وعبر هريم في الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر، فدعا بخشب؛ فقنطر النهر وقال لأصحابه: من وطن منكم نفسه على الموت فليعبر، ومن لا فليثبت مكانه؛ فما عبر معه إلا ثمانمائة راجل، فدب فيهم حتى إذا أعيوا أقعدهم فأراحوا حتى دنا من العدو، فجعل الخيل مجنبتين، وقال لهريم: إني مطاعن القوم، فاشغلهم عنا بالخيل، وقال للناس: شدوا، فحملوا فما انثنوا حتى خالطوهم، وحمل هريم خيله عليهم فطاعنوهم بالرماح، فما كفوا عنهم حتى حدروهم عن موقفهم، ونادى قتيبة: أما ترون العدو منهزمين! فما عبر أحد ذلك النهر حتى ولى العدو منهزمين، فأتبعهم الناس، ونادى قتيبتة: من جاء برأس فله مائة. قال: فزعم موسى بن المتوكل القريعي، قال: جاء يومئذ أحد عشر رجلا من بني قريع، كل رجل يجيء برأس، فيقال له: من أنت؟ فيقول: قريعي. قال: فجاء رجل من الأزد برأس فألقاه، فقالوا له: من أنت؟ قال: قريعي؛ قال: وجههم بن زحر قاعد، فقال: كذب والله أصلحك الله! إنه لابن عمي؛ فقال له قتيبة: ويحك! ما دعاك إلى هذا؟ قال: رأيت كل من جاء قريعي: فظننت أنه ينبغي لكل من جاء برأس أن يقول: قريعي. قال: فضحك قتيبة. قال: وجرح يومئذ خاقان وابنه، ورجع قتيبة إلى مرو، وكتب إلى الحجاج: إني بعثت عبد الرحمن بن مسلم، ففتح الله على يديه. قال: وقد كان شهد الفتح مولى للحجاج، فقدم فأخبره الخبر، فغضب الحجاج على قتيبة، فاغتم لذلك، فقال له الناس. ابعث وفدًا من بني تميم وأعطهم وأرضهم يخبروا الأمير أن الأمر على ما كتبت، فبعث رجالًا فيهم عرام بن شتير الضبي، فلما قدموا على الحجاج صاح بهم وعاتبهم ودعا بالحجام بيده مقراض فقال: لأقطعن ألسنتكم أو لتصدقني، قالوا: الأمير قتيبة، وبعث عليهم عبد الرحمن، فالفتح للأمير والرأس الذي يكون على الناس، وكلمه بهذا عرام بن شتير، فسكن الحجاج. خبر صلح قتيبة مع السغد وفي هذه السنة جدد قتيبة الصلح بينه وبين طرخون ملك السغد. ذكر الخبر عن ذلك قال علي: ذكر أبو السري عن الجهم الباهلي، قال: لما أوقع قتيبة بأهل بخارى ففض جمعهم هابه أهل السغد، فرجع طرخون ملك السغد ومعه فارسان حتى وقف قريبًا من عسكر قتيبة، وبينهما نهر بخارى، فسأل أن يبعث إليه رجلًا يكلمه، فأمر قتيبة رجلًا فدنا منه وأما الباهليون فيقولون: نادى طرخون حيان النبطي فأتاه، فسألهم الصلح على فدية يؤديها إليهم، فأجابه قتيبة إلى ما طلب، وصالحه، وأخذ منه رهنًا حتى يبعث إليه بما صالحه عليه، وانصرف طرخون إلى بلاده، ورجع قتيبة ومعه نيزك. غدر نيزك وفي هذه السنة غدر نيزك فنقض الصلح الذي كان بينه وبين المسلمين وامتنع بقلعته، وعاد حربًا، فغزاه قتيبة. ذكر الخبر عن سبب غدره وسبب الظفر به قال علي: ذكر أبو الذيال، عن المهلب بن إياس والمفضل الضبي عن أبيه، وعلى بن مجاهد وكليب بن خلف العمي؛ كل قد ذكر شيئًا فألفته؛ وذكر الباهليون شيئًا فألحقته في خبر هؤلاء وألفته؛ أن قتيبة فصل من بخارى ومعه نيزك وقد ذعوه ما قد رأى من الفتوح، وخاف قتيبة، فقال: لأصحابه وخاصته: متهم أنا مع هذا، ولست آمنه؛ وذلك أن العربي بمنزلة الكلب؛ إذا ضربته نبح، وإذا أطعمته بصبص واتبعك، وإذا غزوته ثم أعطيته شيئًا رضي، ونسي ما صنعت به، وقد قاتله طرخون مرارًا، فلما أعطاه فدية قبلهما ورضي، وهو شديد السطوة فاجر فلو استأذنت ورجعت كان الرأي، قالوا: استأذنه. فلما كان قتيبة بآمل استأذنهفي الرجوع إلى تخارستان، فأذن له، فلما فارق عسكره متوجهًا إلى بلخ قال لأصحابه: أغذوا السير؛ فساروا سيرًا شديدًا حتى أتوا النوبهار، فنزل يصلي فيه وتبرك به. وقال لأصحابه: إني لا أشك أن قتيبة قد ندم حين فارقنا عسكره على إذنه لي، وسيقدم الساعة رسوله على المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسي، فأقيموا ربيئة تنظر، فإذا رأيتم الرسول قد جاوز المدينة وخرج من الباب فإنه لا يبلغ البروقان حتى بلغ تخارستان، فيبعث المغيرة رجلًا فلا يدركنا حتى ندخل شعب خلم؛ ففعلوا. قال: وأقبل الرسول من قبل قتيبة إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك. فلما مر الرسول إلى المغيرة وهو بالبروقان - ومدينة بلخ يومئذ خراب - ركب نيزك وأصحابه فمضوا، وقدم الرسول على المغيرة فركب بنفسه في طلبه، فوجده قد دخل شعب خلم، فانصرف المغيرة، وأظهر نيزك الخلع، وكتب إلى أصبهبذ بلخ وإلى باذام ملك مروروذ، وإلى سهرب ملك الطالقان، وإلى ترسل ملك الفارياب، وإلى الجوز جاني ملك الجوزجان يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه، وواعدهم الربيع أن يجتمعوا ويغزوا قتيبة. وكتب إلى كابل شاه يستظهر به، وبعث إليه بثقله وماله، وسأله أن يأذن له إن اضطر إله أن يأتيه ويؤمنه في بلاده، فأجابه إلى ذلك وضم ثقله. قال: وكان جبغويه ملك تخارستان ضعيفًا، واسمه الشذ، فأخذه نيزك فقيده بقيد من ذهب مخافة أن يشغب عليه - وجبغويه ملك تخارستان ونيزك من عبيده - فلما استوثق منه وضع عليه الرقباء، وأخرج عامل قتيبة من بلاد جبغويه، وكان العامل محمد بن سليم الناصح، وبلغ قتيبة خلعه قبل الشتاء، وقد تفرق الجند فلم يبق مع قتيبة إلا أهل مرو، فبعث عبد الرحمن أخاه إلى بلخ في اثني عشر ألفًا إلى البروقان، وقال: أقم بها، ولا تحدث شيئًا، فإذا حسر الشتاء فعسكر وسر نحو تخارستان، واعلم أني قريب منك، فسار عبد الرحمن فنزل البروقان، وأمهل قتيبة حتى إذا كان آخر الشتاء كتب إلى أبرشهر وبيورد وسرخس وأهل هراة ليقدموا قبل أوانهم الذي كانوا يقدمون عليه فيه. خبر فتح الطالقان وفي هذه السنة، أوقع قتيبة بأهل الطالقان بخراسان - فيما قال بعض أهل الأخبار - فقتل من أهلها مقتلةً عظيمة، وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد. ذكر الخبر عن سبب ذلك وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن نيزك طرخان لما غدر وخلع قتيبة وعزم على حربه، طابقه على حربه مللك الطالقان وواعده المصير إليه من استجاب للنهوض معه من الملوك لحرب قتيبة، فلما هرب نيزك من قتيبة ودخل شعب خلم الذي يأخذ إلى طخارستان علم أنه لا طاقة له بقتيبة، فهرب، وسار قتيبة إلى الطالقان فأوقع بأهلها، ففعل ما ذكرت فيما قبل وقد خولف قائل هذا القول فيما قال من ذلك، وأنا ذاكره في أحداث سنة إحدى وتسعين. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز، كذلك حدثني أحمد ابن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. كذلك قال محمد بن عمر. وكان عمر بن عبد العزيز في هذه السنة عامل الوليد بن عبد الملك على مكة والمدينة والطائف. وعلى العراق والمشرق الحجاج بن يوسف، وعامل الحجاج على البصرة الجراح بن عبد الله. وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى الكوفة زياد بن جرير بن عبد الله. وعلى قضائها أبو بكر بن أبي موسى وعلى خراسان قتيبة بن مسلم. وعلى مصر قرة بن قرة بن شريك. هرب يزيد بن المهلب وإخوته من سجن الحجاج وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب وإخوته الذين كانوا معه من السجن مع آخرين غيرهم، فلحقوا بسليمان بن عبد الملك مستجيرين به من الحجاج ابن يوسف، والوليد بن عبد الملك. ذكر الخبر عن سبب تخلصهم من سجن الحجاج ومسيرهم إلى سليمان قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي المخارق الراسبي، قال: خرج الحجاج إلى رستقباذ للبعث، لأن الأكراد كانوا قد غلبوا على عامة أرض فارس، فخرج بيزيد وبإخوته المفضل وعبد الملك حتى قدم بهم رستقباد؛ فجعلهم في عسكره، وجعل عليهم كهيئة الخندق، وجعلهم في فسطاط قريبًا من حجرته، وجعل عليهم حرسًا من أهل الشام، وأغرمهم ستة آلاف ألف، وأخذ يعذبهم، وكان يزيد يصبر صبرًا حسنًا، وكان الحجاج يغيظه ذلك، فقيل له: إنه رمى بنشابة فثبت نصلها في ساقه، فهو لا يمسها شيء إلا صاح، فإن حركت أدنى شيء سمعت صوته، فأمر أن يعذب ويدهق ساقه، فلما فعل ذلك به صاح، وأخته هند بنت المهلب عند الحجاج، فلما سمعت صياح يزيد صاحت وناحت، فطلقها. ثم إنه كف عنهم، وأقبل يستأديهم، فأخذوا يؤدون وهو يعملون في التخلص من مكانهم، فبعثوا إلى مروان بن المهلب وهو بالبصرة يأمرونه أن يضمر لهم الخيل، ويرى الناس أنه إنما يريد بيعها ويعرضها على البيع، ويغلي بها لئلا تشترى فتكون لنا عدة أن نحن قدرنا على أن ننجو مما هاهنا. ففعل ذلك مروان، وحبيب بالبصرة يعذب أيضًا. وأمر يزيد بالحرس فصنع لهم طعامًا كثير فأكلوا؛ وأمر بشراب فسقوا، فكانوا متشاغلين به، ولبس يزيد ثياب طباخه، ووضع على لحيته لحية بيضاء، وخرج فرآه بعض الحرس فقال: كان هذه مشية يزيد! فجاء حتى استعرض وجهه ليلًا، فرأى بياض اللحية، فانصرف عنه، فقال: هذا شيخ. وخرج المفضل على أثره. ولم يفطن له، فجاؤوا إلى سفنهم وقد هيثوها في البطائح، وبينهم وبين البصرة ثمانية عشر فرسخًا، فلما انتهوا إلى السفن أبطأ عليهم عبد الملك وشغل عنهم، فقال يزيد للمفضل: اركب بنا فإنه لاحق، فقال المفضل - وعبد الملك أخوه لأمه - وهي بهلة، هندية: لا والله، لا أبرح حتى يجيء ولو رجعت إلى السجن. فأقام يزيد حتى جاءهم عبد الملك، وركبوا عند ذلك السفن، فساروا ليلتهم حتى أصبحوا، ولما أصبح الحرس علموا بذهابهم، فرفع ذلك إلى الحجاج، وقال الفرزدق في خروجهم: فلم أر كالرهط الذين تتابعوا ** على الجذع والحراس غير نيام مضوا وهم مستقنون أنهم ** على الجذع والحراس غير نيام وإن منهم إلا يكن جأشه ** بعضب صقيل صارم وحسام فلما التقوا لم يلتقوا بمنفه ** كبير ولا رخص العظام غلام بمثل أبيهم حين تمت لداتهم ** لخمسين قل في جرأة وتمام ففزع له الحجاج، وذهب معه وهمه أن ذهبوا قبل خراسان، وبعث البريد إلى قتيبة بن مسلم يحذره قدومهم، ويأمره أن يستعد لهم، وبعث إلى أمراء الثغور والكور أن يرصدوهم، ويستعدوا لهم، وكتب إلى الوليد بن عبد الملك يخبره بهربهم، وأنه لا يراهم أرادوا إلا خراسان، ولم يزل الحجاج يظن ببريد ماصنع، كان يقول: إني لأظنه يحدث نفسه بمثل الذي صنع ابن الأشعث. ولما دنا يزيد من البطائح، من موقوع استقبله الخيل، قد هيئت له ولإخوته، فخرجوا عليها ومعهم دليل لهم من كلب يقال له: عبد الجبار بن يزيد بن الربعة، فاخذ بهم السماوة، وأتى الحجاج بعد يومين، فقيل له: إنما أخذ الرجل طريق الشام، وهذه الخيل حسرى في الطريق، وقد أتى من رآهم موجهين في البر، فبعث إلى الوليد يعلمه ذلك، ومضى يزيد حتى قدم فلسطين، فنزل على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي - وكان كريمًا على سليمان - وأنزل بعض ثقله وأهله على سفيان بن سليمان الأزدي، وجاء وهيب بن عبد الرحمن حتى دخل على سليمان، فقال: هذا يزيد بن المهلب، وإخوته في منزلي، وقد أتوك هرابًا من الحجاج متعوذين بك؛ قال: فأتني بهم فهم آمنون لا يوصل إليهم أبدًا وأنا حي. فجاء بهم حتى أدخلهم عليه، فكانوا في مكان آمن. وقال الكلبي دليلهم في مسيرهم: ألا جعل الله الأخلاء كلهم ** فداء على ما كان لابن المهلب لنعم الفتى يا معشر الأزد أسعفت ** ركابكم بالوهب شرقي منقب عدلن يمينًا عنهم رمل عالج ** وذات يمين القوم أعلام غرب فإلا تصبح بعد خمس ركابنا ** سليمان من أهل اللوى تنأوب تقر قرار الشمس مما وراءنا ** وتذهب في داج من الليل غيهب بقوم هم كانوا الملوك هديتهم ** بظلماء لم يبصر بها ضوء كوكب ولا قمر إلا ضئيلًا كأنه ** سوار حناه صائغ السور مذهب قال هشام: فأخبرني الحسن ين أبان العليمي، قال: بينا عبد الجبار ابن يزيد بن الربعة يسرى بهم فسقطت عمامة يزيد، ففقدها فقال: يا عبد الجبار، ارجع فاطلبها لنا، قال: إن مثلي لا يؤمر بهذا، فأعاد؛ فأبى، فتناوله بالسوط، فانتسب له، فاستحيا منه، فذلك قوله: ألا جعل الله الأخلاء كلهم ** فداء على ما كان لابن المهلب وكتب الحجاج: إن آل المهلب خانوا مال الله وهربوا مني ولحقوا بسليمان، وكان آل المهلب قدموا على سليمان، وقد أمر الناس أن يحصلوا ليسرحوا إلى خراسان، لا يرون إلا أن يزيد توجه إلى خراسان ليفتن من بها. فلما بلغ الوليد مكانه عند سليمان هون عليه بعض ما كان في نفسه، وطار غضبًا للمال الذي ذهب به. وكتب سلمان إلى الوليد: إن يزيد بن المهلب عندي وقد آمنته، وإنما عليه ثلاثة آلاف ألف، كان الحجاج أغرمهم ستة آلاف ألف فأدوا ثلاثة آلاف ألف، وبقي ثلاثة آلاف ألف، فهي على فكتب إليه: لا والله لا أؤمنه حتى تبعث به إلى، فكتب إليه: لئن أنا بعثت به إليك لأجيئن معه، فأنشدك الله أن تفضحني ولا أن تخفرني. فكتب إليه: والله لئن جئتني لا أؤمنه. فقال يزيد: إبعثني إليه، فوالله ما أحب أن أوقع بينك وبينهم عداوة وحربًا، ولا أن يتشاءم بي لكما الناس، أبعث إليه بي، وأرسل معي إبنك، واكتب إليه بألطف ما قدرت عليه. فأرسل ابنه أيوب معه. وكان الوليد أمره أن يبعث به إليه في وثاق، فبعث به إليه، وقال لابنه: إذا أردت أن تدخل عليه فادخل أنت ويزيد في سلسلة ثم ادخلا جميعًا على الوليد، ففعل ذلك به حين انتهيا إلى الوليد، فدخلا عليه، فلما رأى الوليد ابن أخيه في سلسلة، قال: والله لقد بلغنا من سليمان! ثم إن الغلام دفع كتاب أبيه إلى عمه وقال: يا أمير المؤمنين، نفسي فداؤك! لا تخفر ذمة أبي، وأنت أحق من منعها، ولا تقطع منا رجاء من رجا السلامة في جوارنا لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعزنا بك. واقرأ الكتاب: لعبد الله الوليد أمير المؤمنين من سليمان بن عبد الملك. أما بعد يا أمير المؤمنين، فوالله إن كنت لا أظن لو استجار بي عدو قد نابذك وجاهدك فأنزلته أجرته أنك لا تذل جاري، ولا تخفر جواري، بله لم أجر إلا سامعًا مطيعًا حسن البلاء والأثر في الإسلام هو وأبوه وأهل بيته، وقد بعثت به إليك، فإن كنت إنما تغزو قطيعتي والإخفار لذمتي، والإبلاغ في مساءتي، فقد قدرت إن أنت فعلت. وأنا أعيذك بالله من احتراد قطيعتي، وانتهاك حرمتي وترك بري وصلتي، فوالله يا أمير المؤمنين ما تدري ما بقائي وبقاؤك، ولا متى يفرق الموت بيني وبينك! فإن استطاع أمير المؤمنين أدام الله سروره ألا يأتي علينا أجل الوفاة إلا وهو لي واصل، ولحقي مؤد، وعن مساءتي نازع، فليفعل. والله يا أمير المؤمنين ما أصبحت بشيء من أمر الدنيا بعد تقوى الله فيها بأسر مني برضاك وسرورك. وإن رضاك مما ألتمس به رضوان الله، فإن كنت يا أمير المؤمنين تريد يومًا من الدهر مسرتي وصلتي وكرامتي وإعظام حقي فتجاوز لي عن يزيد، وكل ما طلبته به فهو علي. فلما قرأ كتابه، قال: لقد شققنا على سليمان! ثم دعا ابن أخيه فأدناه منه. وتكلم يزيد فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: يا أمير المؤمنين إن بلاءكم عندنا أحسن البلاء، فمن ينسى ذلك فلسنا ناسيه، ومن يكفر فلسنا كافريه، وقد كان من بلائنا أهل البيت في طاعتكم والطعن في أعين أعدائكم في المواطن العظام في المشارق والمغارب ما إن المنة علينا فيها عظيمة. فقال: اجلس، فجلس فآمنه وكف عنه، ورجع إلى سليمان وسعى إخوته في المال الذي عليه، وكتب إلى الحجاج: إني لم أصل إلى يزيد، وأهل بيته مع سليمان، فاكفف عنهم، واله عن الكتاب فيهم. فلما رأى ذلك الحجاج كف عنهم. وكان أبو عيينة بن المهلب عند الحجاج عليه ألف ألف درهم، فتركها له، وكف عن حبيب بن المهلب. ورجع يزيد إلى سليمان بن عبد الملك فأقام عنده يعلمه الهيئة، ويصنع له طيب الأطعمة، ويهدي له الهدايا العظام. وكان من أحسن الناس عنده منزلةً، وكان لا تأتي يزيد بن المهلب هدية إلا بعث بها إلى سليمان، ولا تأتي سليمان هدية ولا فائدة إلا بعث بنصفها إلى يزيد بن المهلب، وكان لا تعجبه جارية إلا بعث بها إلى يزيد إلا خطيئة الجارية. فبلغ ذلك الوليد بن عبد الملك، فدعا الحارث بن مالك بن ربيعة الأشعري، فقال: انطلق إلى سليمان فقل له: يا خالفة أهل بيته، إن أمير المؤمنين قد بلغه أنه لا تأتيك هدية ولا فائدة إلا بعثت إلى يزيد بنصفها، وإنك تأتي الجارية من جواريك فلا ينقضي طهرها حتى تبعث بها إلى يزيد، وقبح ذلك عليه، وعيره به، أتراك مبلغًا ما أمرتك به؟ قال: طاعتك طاعة، وإنما أنا رسول؛ قال: فآته فقل له ذلك، وأقم عنده، فإني باعث إليه بهدية فادفعها إليه، وخذ منه البراءة بما تدفع إليه. ثم أقبل فمضى حتى قدم عليه وبين يديه المصحف، وهو يقرأ، فدخل عليه فسلم، فلم يرد عليه السلام حتى فرغ من قراءته ثم رفع رأسه إليه فكلمه بكل شيء أمره به الوليد فتمعر وجهه، ثم قال: أما والله لئن قدرت عليك يومًا من الدهر لأقطعن منك طابقًا! فقال له: إنما كانت على الطاعة. ثم خرج من عنده. فلما أتى بذلك الذي بعث به الوليد إلى سليمان، دخل عليه الحارث بن ربيعة الأشعري وقال له: أعطني البراءة بهذا الذي دفعت إليك، فقال: كيف قلت لي؟ قال: لا أعيده عالمًا أبدًا، إنما كان على فيه الطاعة. فسكن، وعلم أن قد صدقه الرجل، ثم خرج وخرجوا معه، فقال: خذوا نصف هذه الأعدال وهذه الأسفاط وابعثوا بها إلى يزيد قال: فعلم الرجل أنه لا يطيع في يزيد أحدًا، ومكث يزيد بن المهلب عند سليمان تسعة أشهر. وتوفي الحجاج سنة خمس وتسعين في رمضان لتسع بقين منه في يوم الجمعة. ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ذكر ما كان فيها من الأحداث ففيها غزا - فيما ذكر محمد بن عمر وغيره - الصائفة عبد العزيز بن الوليد، وكان على الجيش مسلمة بن عبد الملك. وفيها غزا أيضًا مسلمة الترك؛ حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح على يديه مدائن وحصون. وفيها غزا موسى بن نصير الأندلس، ففتح على يديه أيضًا مدائن وحصون. وفي هذه السنة قتل قتيبة بن مسلم نيزك طرخان. تتمة خبر قتيبة مع نيزك رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد رقصة نيزك وظفر قتيبة به حتى قتله. ولما قدم من كان قتيبة كتب إليه يأمره بالقدوم عليه من أهل أبرشهر وبيورد وسرخس وهراة على قتيبة، سار بالناس إلى مروروذ واستخلف على الحرب حماد بن مسلم، وعلى الخراج عبد الله بن الأهتم. وبلغ مرزبان مروروذ إقباله إلى بلاده، فهرب إلى بلاد الفرس. وقدم قتيبة مروروذ فأخذ ابنين له فتلهما وصلبهما، ثم سار إلى الطالقان فقام صاحبها ولم يحاربه، فكف عنه، وفيها لصوص، فقتلهم قتيبة وصلبهم، واستعمل على الطالقان عمرو بن مسلم، ومضى إلى الفارياب، فخرج إليه ملك الفارياب مذعنًا مقرًا بطتاعته، فرضى عنه، ولم يقتل بها أحدًا، واستعمل عليها رجلا من باهلة. وبلغ صاحب الجوزجان خبرهم، فترك أرضه وخرج إلى الجبال هاربًا، وسار قتيبة إلى الجوزجان فلقيه أهلها سامعين مطيعين، فقبل منهم، فلم يقتل فيها أحدًا، واستعمل عليها عامر بن مالك الحماني، ثم أتى بلخ فلقيه الأصبهبذ في أهل بلخ، فدخلها فلم يقيم بها إلا يومًا واحدًا. ثم مضى يبتع عبد الرحمن حتى أتى شعب خلم، وقد مضى نيزك فعسكر ببغلان، وخلف مقاتلةً على فم الشعب ومضايقة يمنعونه، ووضع مقاتلةً في قلعة حصينة من وراءالشعب، فأقام قتيبة أيامًايقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدر منهم على شيء، ولا يقدر على دخوله، وهو مضيق الوادي يجري وسطه، ولا يعرف طريقًا يفضي به إلى نيزك إلا الشعب أو مفازة لا تحتمل العساكر، فبقي متلددًا يلتمس الحيل. قال: فهو في ذلك إذ قدم عليه الروب خان ملك الروب وسمنجان، فاستأمنه على أن يدله على مدخل القلعة التي وراء هذا الشعب، فآمنه قتيبة، وأعطاه ما سأله، وبعث معه رجالا ليلًا، فانتهى بهم إلى القلعة التي من وراء شعب خلم، فطرقوهم وهم آمنون فقتلوهم، وهرب من بقي منهم ومن كان في الشعب، فدخل قتيبة والناس الشعب، فأتى القلعة ثم مضى إلى سمنجان ونيزك ببغلان بعين تدعى فنج جاه، وبين سمنجان وبغلان مفازة ليست بالشديدة قال: فأقام قتيبة بسمنجان أيامًا، ثم سار نيزك، وقدم أخاه عبد الرحمن، وبلغ نيزك فارتحل من منزله حتى قطع وادي فرغانة، ووجه ثقله وأمواله إلى كابل شاه، ومضى حتى نزل الكرز وعبد الرحمن بن مسلم يتبعه، فنزل عبد الرحمن وأخذ بمضايق الكرز، ونزل قتيبة أسكيمشت بينه وبين عبد الرحمن فرسخان. فتحرز نيزك في الكرز وليس إليه مسلك إلا من وجه واحد، وذلك الوجه صعب لا تطيقه الدواب، فحصره قتيبة شهرين حتى قل ما في يد نيزك من الطعام، وأصابهم الجدري وجدر جبغويه، وخاف قتيبة الشتاء، فدعا سليمًا الناصح، فقال: انطلق إلى نيزك واحتل لأن تأتيني به بغير أمان، فإن أعياك وأبى فآمنه، واعلم أني إن عاينتك وليس هو معك صلبتك؛ فاعمل لنفسك. قال: فاكتب لي إلى عبد الرحمن لا يخالفني؛ قال: نعم. فكتب له إلى عبد الرحمن فقدم عليه، فقال له: ابعث رجالًا فليكونوا على فم الشعب، فإذا خرجت أنا ونيزك فليعطفوا من ورائنا فيحولوا بيننا وبين الشعب. قال: فبعث عبد الرحمن خيلا فكانوا حيث أمرهم سليم، ومضى سليم وقد حمل معه من الأطعمة التي تبقى أيامًا والأخبصة أو قارًا، حتى أتى نيزك، فقال له نيزك: خذلتني يا سليم، قال: ما خذلتك، ولكنك عصيتني وأسأت بنفسك، خلعت وغدرت، قال: فما الرأي؟ قال: الرأي أن تأتيه فقد أمحكته، وليس ببارح موضعه هذا، قد اعتزم على أن يشتو بمكانه؛ هلك أو سلم؛ قال: آتيه على غير أمان! قال: ما أظنه يؤمنك لما في قلبه عليك، فإنك قد ملأته غيظًا، ولكني أرى ألا يعلم بك حتى تضع يدك في يده، فإني أرجو إن فعلت ذاك أن يستحي ويعفو عنك، قال: أترى ذلك؟ قال: نعم؛ إن نفسي لتأبى هذا، وهو إن رآني قتلني، فقال له سليم: ما أتيتك إلا لأشير عليك بهذا، ولو فعلت لرجوت أن تسلم وأن تعود حالك عنده إلى ما كانت؛ فأما إذ أبيت فإني منصرف. قال: فنغديك إذًا، قال: إني لأظنكم في شغل عن تهيئة الطعام، ومعنا طعام كثير قال: ودعا سليم بالغداء فجاءوا بطعام كثير لا عهد لهم بمثله منذ حصروا، فانتهبه الأتراك، فغم ذلك نيزك، وقال سليم: يا أبا الهياج، أنا لك من الناصحين، أرى أصحابك قد جهدوا، وإن طال بهم الحصار وأقمت على حالك لم أمنهم أن يستأمنوا بك، فانطلق وأت قتيبة، قال: ما كنت لآمنه على نفسي، ولا آتيه على غير أمان؛ فإن ظني به أنه قاتلي وإن آمني، ولكن الأمان أعذر لي وأرجي، قال: فقد آمنك أفتتهمني! قال: لا، قال: فانطلق معي، قال له أصحابه: اقبل قول سليم، فلم يكن ليقول إلا حقًا، فدعا بدوابه وخرج مع سليم، فلما انتهى إلى الدرجة التي يهبط منها إلى قرار الأرض قال: ياسليم، من كان لا يعلم متى يموت فإني أعلم متى أموت، أموت إذا عاينت قتيبة؛ قال: كلا أيقتلك مع الأمان! فركب ومضى معه جبغويه - وقد برأ من الجدري - وصول وعثمان ابنا أخي نيزك - وصول طرخان خليفة جبغوية، وخنس طرخان صاحب شرطه - قال: فلما خرج من الشعب عطفت الخيل التي خلفها سليم على فوهة الشعب؛ فحالوا بين الأتراك وبين الخروج، فقال نيزك لسليم: هذا أول الشر؛ قال: لا تفعل، تخلف هؤلاء عنك خير لك. وأقبل سليم ونيزك ومن خرج معه حتى دخلوا على عبد الرحمن بن مسلم، فأرسل رسولًا إلى قتيبة يعلمه، فأرسل قتيبة عمرو بن أبي مهزم إلى عبد الرحمن: أن اقدم بهم على، فقدم بهم عبد الرحمن عليه، فحبس أصحاب نيزك، ودفع إلى ابن بسام الليثي، وكتب إلى الحجاج يستأذنه في قتل نيزك، فجعل ابن بسام نيزك في قبته، وحفر حول القبة خندقًا، ووضع عليه حرسًا. ووجه قتيبة معاوية بن عامر بن علقمة العليمي، فاستخرج ما كان في الكرز من متاع ومن كان فيه، وقدم به على قتيبة، فحبسهم ينتظر كتاب الحجاج فيما كتب إليه، فأتاه كتاب الحجاج بعد أربعين يومًا يأمره بقتل نيزك. قال: فدعا به فقال: هل لك عندي عقد أو عند عبد الرحمن أو عند سليم؟ قال: لي عند سليم؛ قال: كذبت، وقام فدخل ورد نيزك إلى حبسه، فمكث ثلاثة أيام لا يظهر للناس، قال: فقام المهلب ابن إياس العدوي، وتكلم في أمر نيزك، فقال بعضهم: ما يحل له أن يقتله، وقال بعضهم: ما يحل له تركه، وكثرت الأقاويل فيه. وخرج قتيبة اليوم الرابع فجلس وأذن للناس، فقال: ما ترون في قتل نيزك؟ فاختلفوا، فقال قائل: اقتله، وقال قائل: أعطيته عهدًا فلا تقتله؛ وقال قائل: ما نأمنه على المسلمين. ودخل ضرار بن حصين الضبي فقال: ما تقول يا ضرار؟ قال: أقول: إني سمعتك تقول: أعطيت الله عهدًا إن أمكنك منه أن تقتله، فإن لم تفعل لا ينصرنك الله عليه أبدًا. فأطرق قتيبة طويلا، ثم قال: والله لو لم يبق من أجلي إلا ثلاث كلمات لقلت: اقتلوه، اقتلوه، وأرسل إلى نيزك فأمر بقتله وأصحابه فقتل مع سبعمائة. وأما الباهليون فيقولون: لم يؤمنه ولم يؤمنه سليم، فلما أراد قتله دعا به ودعا بسيف حنفي فانتضاه وطول كمية ثم ضرب عنقه بيده، وأمر عبد الرحمن فضرب عنق صول، وأمر صالحًا فقتل عثمان - ويقال: شقران ابن أخي نيزك - وقال لبكر بن حبيب السهمي من باهلة: هل بك قوة؟ قال: نعم، وأريد - وكانت في بكر أعرابية - فقال: دونك هؤلاء الدهاقين. قال: وكان إذا أتى برجل ضرب عنقه وقال: أوردوا ولا تصدروا، فكان من قتل يومئذ اثنا عشر ألفًا في قول الباهليين، وصلب نيزك وابني أخيه في أصل عين تدعى وخش خاشانفي أسكيمشت، فقال المغيرة بن حبناء يذكر ذلك في كلمة له طويلة: لعمر لنعمت غزوة الجند غزوةً ** قضت نحبها من نيزك وتعلت قال علي: أخبرنا مصعب بن حيان، عن أبيه، قال: بعث قتيبة برأس نيزك مع محفن بن جزء الكلابي، وسوار بن زهدم الجرمي، فقال الحجاج: إن كان قتيبة لحقيقًا أن يبعث برأس نيزك مع ولد مسلم، فقال سوار: أقول لمحفن وجرى سنيح ** وآخر بارح من عن يميني وقد جعلت بواثق من أمور ** ترفع حوله وتكف دوني نشدتك هل يسرك أن سرجي ** وسرجك فوق أبغل باذيين قال: فقال محفن: نعم وبالصين. قال علي: أخبرنا حمزة بن إبراهيم وعلى بن مجاهد، عن حنبل بن أبي حريدة؛ عن مرزبان قهستان وغيرهما، أن قتيبة دعا يومًا بنيزك وهو محبوس، فقال: ما رأيك في السبل والشذ؟ أتراهما يأتيان إن أرسلت إليهما؟ قال: لا؛ قال: فأرسل إليهما قتيبة فقد ما عليه، ودعا نيزك وجبغويه فدخلا، فإذا السبل والشذ بين يديه على كرسيين، فجلسا بإزائهما، فقال الشذ لقتيبة: إن جبغويه - وإن كان لي عدوًا - فهو أسن مني، وهو الملك وأنا كعبده، فأذن لي أدن منه، فأذن له، فدنا منه، فقبل يده وسجد له، قال: ثم استأذنه في السبل، فأذن له فدنا منه فقبل يده، فقال نيزك لقتيبة: ائذن لي أدن من الشذ، فإني عبده، فأذن له، فدنا منه فقبل يده، ثم أذن قتيبة للسبل والشذ فانصرفا إلى بلادهما، وضم إلى الشذ الحجاج القيني، وكان من وجوه أهل خراسان وقتل قتيبة نيزك، فأخذ الزبير مولى عابس الباهلي خفًا لنيزك فيه جوهر، وكان أكثر من في بلاده مالًا وعقارًا؛ من ذلك الجوهر الذي أصابه في خفه. فسوغه إياه قتيبة، فلم يزل موسرًا حتى هلك بكابل في ولاية أبي داود. قال: وأطلق قتيبة جبغوية ومن عليه، وبعث به إلى الوليد، فلم يزل بالشام حتى مات الوليد. ورجع قتيبة إلى مرو، واستعمل أخاه عبد الرحمن على بلخ، فكان الناس يقولون: غدر قتيبة بنيزك، فقال ثابت قطنة: لا تحسبن الغدر حزمًا فربما ** ترقت به الأقدام يومًا فزلت وقال: وكان الحجاج يقول: بعثت قتيبة فتى غرًا فما زدته ذراعًا إلا زادني باعًا. قال علي: أخبرنا حمزة بن إبراهيم، عن أشياخ من أهل خراسان، وعلى بن مجاهد، عن حنبل بن أبي حريدة، عن مرزبان قهستان وغيرهما، أن قتيبة بن مسلم لما رجع إلى مرو وقتل نيزك طلب ملك الجوزجان - وكان قد هرب عن بلاده - فأرسل يطلب الأمان، فآمنه على أن يأتيه فيصالحه، فطلب رهنًا يكونون في يديه ويعطى رهائن، فأعطى قتيبة حبيب بن عبد الله بن عمرو بن حصين الباهلي، وأعطى ملك الجوزجان وهائن من أهل بيته، فخلف ملك الجوزجان حبيبًا بالجوزجان في بعض حصونه، وقدم على قتيبة فصالحه، ثم رجع فمات بالطالقان. فقال أهل الجوزجان: سموه، فقتلوا حبيبًا، وقتل قتيبة الرهن الذين كانوا عنده، فقال نهار بن توسعة لقتيبة: أراك الله في الأتراك حكمًا ** كحكم في قريظة والنضير قضاء من قتيبة غير جور ** به يشفى الغليل من الصدور فإن بر نيزك خزيًا وذلًا ** فكم في الحرب حمق من أمير! وقال المغيرة بن حبناء يمدح قتيبة ويذكر قتل نيزك ووصول ابن أخي نيزك وعثمان - أو شقران: لمن الديار عفت بسفح سنام ** إلا بقية أيصر وثمام عصف الرياح ذيولها فمحونها ** وجرين فوق عراصها بتمام دار لجارية كأن رضابها ** مسك يشاب مزاجه بمدام أبلغ أبا حفص قتيبة مدحتي ** واقرأ عليه تحيتي وسلامي يا سيف أبلغها فإن ثنائها ** حسن وإنك شاهد لمقامي يسمو فتتضع الرجال إذا سما ** لقتيبة الحامي حمى الإسلام لأغر منتجب لكل عظيمة ** نحر يباح به العدو لهام يمضي إذا هاب الجبان وأحمشت ** حرب تسعر نارها بضرام تروي القناة مع اللواء أمامه ** تحت اللوامع والنحور دوام والهام تفريه السيوف كأنه ** بالقاع حين تراه قيض نعام وترى الجياد مع الجياد ضوامرًا ** بفنائه لحوادث الأيام وبهن أنزل نيزكا من شاهق ** والكرز حيث يروم كل مرام وأخاه شقرانًا سقيت بكأسه ** وسقيت كأسهما أخا باذام وتركت صولا حين صال مجدلا ** يركبنه بدوابر وحوام خبر غزو قتيبة شومان وكس ونسف وفي هذه السنة - أعني سنة إحدى وتسعين - غزا قتيبة شومان وكس ونسف غزوته الثانية وصالح طوخان. ذكر الخبر عن ذلك قال علي: أخبرنا بشر بن عيسى عن أبي صفوان، وأبو السري وجبلة بن فروخ عن سليمان بن مجالد، والحسن بن رشيد عن طفيل بن مرداس العمي، وأبو السري المروزي عن عمه، وبشر بن عيسى وعلي ابن مجاهد، عن حنبل بن أبي حريدة عن مرزبان قهستان، وعياش ابن عبد الله الغنوي، عن أشياخ من أهل خراسان، قال: وحدثني ظئري - كل قد ذكر شيئًا، فألفته، وأدخلت من حديث بعضهم في حديث بعض - أن فيلسنشب باذق - وقال بعضهم: فيسبشتان ملك شومان - طرد عامل قتيبة ومنع الفدية التي صالح عليها قتيبة، فبعث إليه قتيبة عياشًا الغنوي ومعه رجل من نساك أهل خراسان يدعوان ملك شومان إلى أن يؤدي الفدية على ما صالح عليه قتيبة، فقدما البلد، فخرجوا إليهما فرموهما، فانصرف الرجل وأقام عياش الغنوي فقال: أما هاهنا مسلم! فخرج إليه رجل من المدينة فقال: أنا مسلم، فما تريد؟ قال: تعينني على جهادهم، قال: نعم، فقال له عياش: كن خلفي لتمنع لي ظهري، فقام خلفه - وكان اسم الرجل المهلب - فقاتلهم عياش، فحمل عليهم، فتفرقوا عنه، وحمل المهلب على عياش من خلفه فقتله، فوجدوا به ستين جراحةً، فغمهم قتله، وقالوا: قتلنا رجلًا شجاعًا وبلغ قتيبة، فسار إليهم بنفسه، وأخذ طريق بلخ، فلما أتاها قدم أخاه عبد الرحمن، واستعمل على بلخ عمرو بن مسلم، وكان ملك شومان صديقًا لصالح بن مسلم، فأرسل إليه رجلًا يأمره بالطاعة، ويضمن له رضا قتيبة إن رجع إلى الصلح، فأبى وقال لرسول صالح: ما تخوفني به من قتيبة، وأنا أمنع الملوك حصنًا أرمي أعلاه، وأنا أشد الناس قوسًا وأشد الناس رميًا، فلا تبلغ نشابي نصف حصني، فما أخاف من قتيبة! فمضى قتيبة من بلخ فعبر النهر، ثم أتى شومان وقد تحصن ملكها فوضع عليه المجانيق، ورمى حصنه فهشمه، فلما خاف أن يظهر عليه، ورأى ما نزل به جمع ما كان له من مال وجوهر فرمى به في عين في وسط القلعة لا يدرك قعرها. قال: ثم فتح القلعة وخرج إليهم فقاتلهم فقتل، وأخذ قتيبة القلعة عنوة، فقتل المقاتلة وسبي الذرية، ثم رجع إلى باب الحديد فأجاز منه إلى كس ونسف، وكتب إليه الحجاج، أن كس بكس وانسف نسف، وإياك والتحويط. ففتح كس ونسف، وامتنع عليه فرياب فحرقها فسميت المحترقة. وسرح قتيبة من كس ونسف أخاه عبد الرحمن بن مسلم إلى السغد، إلى طرخون، فسار حتى نزل بمرج قريبًا منهم، وذلك في وقت العصر، فانتبذ الناس وشربوا حتى عبثوا وعاثوا وأفسدوا، فأمر عبد الرحمن أبا مرضية - مولى لهم - أن يمنع الناس من شرب العصير، فكان يضربهم ويكسر آنيتهم ويصب نبيذهم، فسال في الوادي، فسمى مرج النبيذ، فقال بعض شعرائهم: أما النبيذ فلست أشربه ** أخشى أبا مرضية الكلب متعسفًا يسعى بشكته ** يتوثب الحيطان للشرب فقبض عبد الرحمن من طرخون شيئًا كان قد صالحه عليه قتيبة، ودفع إليه رهنًا كانوا معه، وانصرف عبد الرحمن إلى قتيبة وهو ببخارى، فرجعوا إلى مرو، فقالت السغد لطرخون: إنك قد رضيت بالذل واستطبت الجزية، وأنت شيخ كبير فلا حاجة لنا بك، قال: فولوا من أحببتم. قال: فولوا غوزك، وحبسوا طرخون؛ فقال طرخون: ليس بعد سلب الملك إلا القتل، فيكون ذلك بيدي أحب إلي من أن يليه مني غيري، فاتكأ على سيفه حتى خرج من ظهره. قال: وإنما صنعوا بطرخون هذا حين خرج قتيبة إلى سجستان وولوا غوزك. وأما الباهليون فيقولون: حصر قتيبة ملك شومان، ووضع على قلعته المجانيق، ووضع منجنيقًا كان يسميها. الفحجاء، فرمى بأول حجر فأصاب الحائط ورمى بأخر فوقع في المدينة، ثم تتابعت الحجارة في المدينة فوقع حجر منها في مجلس الملك، فأصاب رجلًا فقتله، ففتح القلعة عنوةً، ثم رجع إلى كس ونسف، ثم مضى إلى بخارى فنزل قرية فيها بيت نار وبيت آلهه، وكان فيها طواويس، فسموه منزل الطواويس، ثم سار إلى طرخون بالسغد ليقبض منه ما كان صالحه عليه، فلما أشرف على وادي السغد فرأى حسنه تمثل: واد خصيب عشيب ظل يمنعه ** من الأنيس حذار اليوم ذا الرهج وردته بعنانيج مسومة ** يردين بالشعث سفاكين للمهج قال: فقبض من طرخون صلحه، ثم رجع إلى بخاري فملك بخاري خذاه غلامًا حدثًا، وقتل من خاف أن بضاده، ثم أخذ على آمل ثم أتى مرو. قال: وذكر الباهليون عن بشار بن عمرو، عن رجل من باهلة، قال: لم يفرغ الناس من ضرب أبنيتهم حتى افتتحت القلعة. ولاية خالد بن عبد الله القسري على مكة وفي هذه السنة ولى الوليد بن عبد الملك مكة خالد بن عبد الله القسري فلم يزل واليًا عليها إلى أن مات الوليد. فذكر محمد بن عمر الواقدي أن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة حدثه عن نافع مولى بني مخزوم، قال: سمعت خالد بن عبد الله يقول: يا أيها الناس إنكم بأعظم بلاد الله حرمه، وهي التي اختار الله من البلدان، فوضع بها بيته، ثم كتب على عباده حجه من استطاع إليه سبيلًا. أيها الناس، فعليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، وإياكم والشبهات، فإني والله ما أوتي بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم. إن الله جعل الخلافة منه بالموضع الذي جعلها، فسلموا وأطيعوا، ولا تقولوا كيت وكيت. إنه لا أرى فيما كتب به الخليفة أو رأه إلا إمضاؤه، واعلموا أنه بلغني أن قومًا من أهل الخلاف يقدمون عليكم، ويقيمون في بلادكم، فإياكم أن تنزلوا أحدًا ممن تعلمون أنه زائغ عن الجماعة، فإني لا أجد أحدًا منهم في منزل أحد منكم إلا هدمت منزله، فانظروا من تنزلون في منازلكم، وعليكم بالجماعة الطاعة فإن الفرقة هي البلاء العظيم. قال محمد بن عمرو: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن موسى بن عقبة عن أبي حبيبة، قال: اعتمرت فنزلت دور بني أسد في منازل الزبير، فلم أشعر به يدعوني، فدخلت عليه، فقالت: من أنت؟ قلت: من أهل المدينة؛ قال: ما أنزلك في منازل مخالف للطاعة! قلت: إنما مقامي إن أقمت يومًا أو بعضه، ثم ارجع منزلي وليس عندي خلاف، أنا ممن يعظم أمر الخلافة، وأزعم أن من جحدها فقد هلك. قال: فلا عليك ما أقمت، إنما يكره أن يقيم من كان زاريًا على الخليفة. قلت: ما عاذ الله! وسمعته يومًا يقول: والله لو أعلم هذه الوحش التي تأمن في الحرم لو نطقت لم تقر بالطاعة لأخرجتها من الحرم. إنه لا يسكن حرم الله وآمنه مخالف للجماعة، زار عليهم. قلت: وفق الله الأمير. وحج بالناس في هذه السنة الوليد بن عبد الملك، حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: حج الوليد بن عبد الملك سنة إحدى وتسعين. وكذلك قال محمد بن عمر: حدثني موسى بن أبي بكر، قال: حدثنا صالح بن كيسان، قال: لما حضر قدوم الوليد أمر عمر بن عبد العزيز عشرين رجلًا من قريش يخرجون معه، فيتلقون الوليد بن عبد الملك. منهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن عبد الحارث بن هشام، وأخوه محمد بن عبد الرحمن وعبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان، فخرجوا حتى بلغوا السويداء، وهم مع عمر بن عبد العزيز - وفي الناس يومئذ دواب وخيل - فلقوا الوليد وهو على ظهر، فقال لهم الحاجب: انزلوا لأمير المؤمنين، فنزلوا، ثم أمرهم فركبوا، فدعا بعمر بن عبد العزيز فسايره حتى نزل بذى خشب، ثم أحضروا، فدعاهم رجلًا رجلا فسلموا عليه، ودعا بالغداء فتغدوا عنده، وراح من ذى خشب، فلما دخل المدينة غدا إلى المسجد ينظر إلى بناءه فأخرج الناس منه، فما ترك فيه أحد، وبقي سعيد بن المسيب ما يجترئ أحد من الحرس أن يخرجه، وما عليه إلا ريطتان ما تساويان إلا خمسة دراهم في مصلاه، فقيل له: لو قمت! قال: والله لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه. قيل: فلو سلمت على أمير المؤمنين! قال: والله لا أقوم إليه. قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت أعدل بالوليد في ناحية المسجد رجاء ألا يرى سعيدًا حتى يقوم، فحانت من الوليد نظرة إلى القبلة، فقال: من ذالك الجالس؟ أهو الشيخ سعيد بن المسيب؟ فجعل عمر يقول: نعم يا أمير المؤمنين ومن حاله ومن حاله ولو علم بمكانك فسلم عليك، وهو ضعيف البصر. قال الوليد: قد علمت حاله، ونحن نأتيه فنسلم عليه، فدار في المسجد حتى وقف على القبر، ثم أقبل حتى وقف على سعيد فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ فوالله ما تحرك سعيد ولا قام، فقال: بخير والحمد لله، فكيف أمير المؤمنين وكيف حاله؟ قال الوليد: خير والحمد لله. فانصرف وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس، فقلت أجل يا أمير المؤمنين. قال: وقسم الوليد بالمدينة رفيقًا كثيرًا عجمًا بين الناس، وآنية من ذهب وفضة، وأموالًا وخطب بالمدينة في الجمعة وصلى بهم قال محمد بن عمر: وحدثني إسحاق بن يحيى قال: رأيت الوليد يخطب على منبر رسول الله ﷺ يوم الجمعة عام حج، قد صف له جنده صفين من المنبر إلى جدار مؤخر المسجد، في أيديهم، الجرزة وعمد الحديد على العواتق، فرأيته طلع في دراعة وقلنسوة، ما عليه رداء، فصعد المنبر فلما صعد سلم ثم جلس فأذن المؤذن، ثم سكتوا، فخطب الخطبة الأولى وهو جالس، ثم قام فخطب الثانية قائمًا، قال إسحاق: فلقيت رجاء بن حيوة وهو معه، فقلت: هكذا يصنعون! قال: نعم، وهكذا صنع معاوية فلهم جرا، قلت: أفلا تكلمه؟ قال: أخبرني قبيضة بن ذؤيب أنه كلم عبد الملك بن مروان فأبى أن يفعل؛ وقال: هكذا خطب عثمان، فقلت: والله ما خطب هكذا، ما خطب عثمان إلا قائمًا. قال رجاء: روي لهم هذا فأخذوا به. قال إسحاق: لم نر منهم أحدًا أشد تجبرًا منه. قال محمد بن عمر: وقدم بطيب مسجد رسول الله ﷺ ومجمرة وبكسوة الكعبة فنشرت وعلقت على حبال في المسجد من ديباج حسن لم ير مثله قط، فنشرها يومًا وطوى ورفع. قال: وأقام الحج الوليد بن عبد الملك. وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال الذين كانوا عمالها في سنة تسعين، غير مكة فإن عاملها كان في هذه السنة خالد بن عبد الله القسري في قول الواقدي. وقال غيره: كانت ولاية مكة في هذه السنة أيضًا إلى عمر بن عبد العزيز. ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ذكر الأحداث التي كانت فيها فمن ذلك غزوة مسلمة بن عبد الملك وعمر بن الوليد أرض الروم، ففتح على يد مسلمة حصون ثلاثة، وجلا أهل سوسنة إلى جوف أرض الروم. فتح الأندلس وفيها غزا طارق بن زياد مولى موسى بن نصير الأندلس في اثني عشر ألفًا، فلقى ملك الأندلس - زعم الواقدي أنه يقال له أدرينوق، وكان رجلا من أهل أصبهان، قال: وهم ملوك عجم الأندلس – فزحف له طارق بجميع من معه، فزحف الأدرينوق في سرير الملك وعلى الأدرينوق تاجه وقفازه وجميع الحلية التي كان يلبسها الملوك، فاقتتلوا قتالًا شديدًا حتى قتل الله الأدرينوق، وفتح الأندلس سنة اثنتين وتسعين. وفيها غزا - فيما زعم بعض أهل السير - قتيبة سجستان يريد رتبيل الأعظم والزابل، فلما نزل السجستان تلقته رسل رتبيل بالصلح، فقبل ذلك وانصرف واستعمل عليهم عبد ربه عبد الله بن عمير الليثي. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة، كذلك حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي وغيره. وكان عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها. ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ذكر الأحداث التي كانت فيها فمما كان فيها من ذلك غزوة العباس بن الوليد أرض الروم، ففتح الله على يديه سمسطية. وفيها كانت أيضًا غزوة مروان بن الوليد الروم. فبلغ خنجرة وفيها كانت غزوة مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، فافتتح ماسا وحصن الحديد وغزالة وبرجمة من ناحية ملطية. صلح قتيبة ملك خوارزم شاه وفتح خام جود وفيها قتل قتيبة ملك خام جرد، وصالح ملك خوارزم صلحًا مجددًا ذكر الخبر عن سبب ذلك وكيف كان الأمر فيه ذكر علي بن محمد أن أبا الذيال أخبره عن المهلب بن إياس والحسن بن رشيد، عن طفيل بن مرداس العمي وعلى بن مجاهد، عن حنبل ابن أبي حريدة، عن مرزبان قهستان وكليب بن خلف والباهليين وغيرهم - وقد ذكر بعضهم مالم يذكر بعض فألفته - أن ملك خوارزم كان ضعيفًا، فغلبه أخوه خرزاذ على أمره - وخرزاذ أصغر منه - فكان إذا بلغه أن عند أحد ممن هو منقطع إلى الملك جارية أو دابة أو متاعًا فاخرًا أرسل فأخذه، أو بلغه أن لأحد منهم بنتًا أو أختًا أو امرأةً جميلة أرسل إليه فغصبه، وأخذ ما شاء، وحبس ما شاء، لا يمتنع عليه أحد، ولا يمنعه الملك، فإذا قيل له، قال: لا أقوى عليه، وقد ملأه مع هذا غيظًا، فلما طال ذلك منه عليه كتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه يريد أن يسلمها إليه، وبعث إليه بمافتيح مدائن خوارزم، ثلاثة مفاتيح من ذهب، واشترط عليه أن يدفع إليه أخاه وكل من كان يضاده، يحكم فيه بما يرى، وبعث في ذلك رسلا، ولم يطلع أحدًا من مرازبته ولا دهاقنه على ما كتب به إلى قتيبة، فقدمت رسله على قتيبة في آخر الشتاء ووقت الغزو، وقد تهيأ للغزو، فأظهر قتيبة أنه يريد السغد، ورجع رسل خوارزم شاه إليه بما يحب من قبل قتيبة، وسار واستخلف على مرو ثابتًا الأعور مولى مسلم قال: فجمع ملوكه أحباره ودهاقينه فقال: إن قتيبة يريد السغد، وليس بغازيكم، فهلم نتنعم في ربيعنا هذا فأقبلوا على الشرب والتنعم، وأمنوا عند أنفسهم الغزو، قال: فلم يشعروا حتى نزل قتيبة في هزارسب دون النهر، فقال خوارزم شاه لأصحابه: ما ترون؟ قالوا: نرى أن نقاتله، قال: لكني لا أرى ذلك، قد عجز عنه من هو أقوى منا وأشد شوكة؛ ولكني أرى أن نصرفه بشيء نؤديه إليه، فنصرفه عامنا هذا، ونرى رأينا قالوا: ورأينا رأيك. فأقبل خوارزم شاه فنزل في مدينة الفيل من وراء النهر قال: ومدائن خوارزم شاه ثلاث مدائن يطيف بها فارقين واحد، فمدينة الفيل أحصنهن، فنزلها خوارزم شاه - وقتيبة في هرازسب دون النهر لم يعبره بينه وبين خوارزم شاه نهر بلخ - فصالحه على عشرة آلاف رأس، وعين ومتاع، وعلى أن يعينه على ملك خام جرد، وأن يفي له بما كتب إليه، فقبل ذلك منه قتيبة، ووفى له. وبعث قتيبة أخاه إلى ملك خام جرد، وكان يعادي خوارزم شاه، فقاتله، فقتله عبد الرحمن، وغلب على أرضه وقد منهم على قتيبة بأربعة آلاف أسير، فقتلهم، وأمر قتيبة لما جاءه بهم عبد الرحمن بسريره فأخرج وبرز للناس. قال: وأمر بقتل الأسرى فقتل بين يديه ألف وعن يمينه ألف وعن يساره ألف وخلف ظهره ألف. قال: قال المهلب بن إياس: أخذت يومئذ سيوف الأشراف فضرب بها الأعناق، فكان فيها ما لا يقطع ولا يجرح، فأخذوا سيفي فلم يضرب به شيء إلا أبانه، فحسدني بعض آل قتيبة، فغمز الذي يضرب أن أصفح به، فصفح به قليلا، فوقع في ضرس المقتول فثلمه قال أبو الذيال: والسيف عندي. قال: ودفع قتيبة إلى خوارزم شاه أخاه ومن كان يخالفه فقتلهم، واصطفى أموالهم فبعث بها إلى قتيبة، ودخل قتيبة مدينة فيل، فقبل من خورازم شاه ما صالحه عليه، ثم رجع إلى هزارسب، وقال كعب الأشقري: رمتك فيل بما فيها وما ظلمت ** ورامها قبلك الفجفاجة الصلف لا يجزئ الثغر خوار القناة ولا ** هش المكاسر والقلب الذي يجف هل تذكرون ليالي الترك تقتلهم ** ما دون كازه الفجفاج ملتحف لم يركبوا الخيل إلا بعدما كبروا ** فهم ثقال على أكتافها عنف أنتم شباس ومرداذان محتقر ** وبسخراء قبور حشوها القلف إني رأيت أبا حفص تفضله ** أيامه ومساعي الناس تختلف قيس صريح وبعض الناس يجمعهم ** قرى وريف فمنسوب ومقترف لو كنت طاوعت أهل العجز ما اقتسموا ** سبعين ألفًا وعز السغد مؤتنف وفي سمرقند أخرى أتت قاسها ** لئن تأخر عن حوبائك التلف ما قدم الناس من خير سبقت به ** ولا يفوتك مما خلفوا شرف قال: أنشدني علي بن مجاهد: رمتك فيل بما دون كاز.. قال: وكذلك قال الحسن بن رشيد الجوزجاني؛ وأما غيرهما فقال: رمتك فيل بما فيها.. وقالوا: فيل مدينة سمرقند؛ قال: وأثبتها عندي قول علي بن مجاهد. قال: وقال الباهليون: أصاب قتيبة من خوارزم مائة ألف رأس. قال: وكان خاصة قتيبة كلموه سنة ثلاث وتسعين وقالوا: الناس كانوا قدموا من سجستان فأجمه عامهم هذا، فأبى. قال: فلما صالح أهل خوارزم سار إلى السغد، فقال الأشقزي: لو كنت طاوعت أهل العجز ما اقتسموا ** سبعين ألفًا أعز السغد مؤتنف فتح سمرقند قال أبو جعفر: وفي هذه السنة غزا قتيبة بن مسلم منصرفه من خوارزم سمرقند، فافتتحها. ذكر الخبر عن ذلك قد تقدم ذكرى الإسناد عن القوم الذين ذكر علي بن محمد أنه أخذ عنهم حين صالح قتيبة صاحب خوارزم، ثم ذكر مدرجًا في ذلك أن قتيبة لما قبض صلح خوارزم قام إليه المجشر بن مزاحم السلمي فقال: إن لي حاجة، فأخلني، فأخلاه، فقال: إن أردت السغد يومًا من الدهر فالآن، فإنهم آمنون من أن تأتيهم من عامك هذا، وإنما بينك وبينهم عشرة أيام. قال: أشار بهذا عليك أحد؟ قال: لا، قال: فأعلمته أحدًا؟ قال: لا، قال: والله لئن تكلم به أحد لأضربن عنقك. فأقام يومه ذلك، فلما أصبح من الغد دعا عبد الرحمن فقال: سر في الفرسان والمرامية، وقدم الأثقال إلى مرو، فوجهت الأثقال إلى مرو، ومضى عبد الرحمن يتبع الأثقال يريد مرو يومه كله، فلما أمسى كتب إليه: إذا أصبحت فوجه الأثقال إلى مرو وسر في الفرسان والمرامية نحو السغد، واكتم الأخبار، فإني بالأثر. قال: فلما أتى عبد الرحمن الخبر أمر أصحاب الأثقال أن يمضوا إلى مرو، وسار حيث أمرهم، وخطب قتيبة الناس فقال: إن الله قد فتح لكم هذه البلدة في وقت الغزو فيه ممكن، وهذه السغد شاغرة برجلها، قد نقضوا العهد الذي كان بيننا، منعونًا ما كنا صالحنا عليه طرخون، وصنعوا به ما بلغكم، وقال الله: " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه "، فسيروا على بركة الله، فإني أرجو أن يكون خوارزم والسغد كالنضير وقريظة، وقال الله: " وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها ". قال: فأتى السغد وقد سبقه إليها عبد الرحمن بن مسلم في عشرين ألفًا، وقدم عليه قتيبة في أهل خوارزم وبخارى بعد ثلاثة أو أربعة من نزول عبد الرحمن بهم، فقال: إنا إذا نزلنا بساحة قوم " فساء صباح المنذرين ". فحصرهم شهرًا، فقاتلوا في حصارهم مرارًا من وجه واحد. وكتب أهل السغد وخافوا طول الحصار إلى ملك الشاش وإخشاذ فرغانة: إن العرب إن ظفروا بنا عادوا عليكم بمثل ما أتونا به، فانظروا لأنفسكم. فأجمعوا على أن يأتوهم، وأرسلوا إليهم: أرسلوا من يشغلهم حتى نبيت عسكرهم. قال: وانتخبوا فرسانًا من أبناء المرازبة والأساورة والأشداء الأبطال فوجهوهم وأمروهم أن يبيتوا عسكرهم، وجاءت عيون المسلمين فأخبروهم. فانتخب قتيبة ثلثمائة أو ستمائة من أهل النجدة، واستعمل عليهم صالح ابن مسلم، فصيره في الطريق الذي يخاف أن يؤتى منه. وبعث صالح عيونًا يأتونه بخبر القوم، ونزل على فرسخين من عسكر القوم، فرجعت إليه عيونه فأخبروه أنهم يصلون إليه من ليلتهم، ففرق صالح خيله ثلاث فرق؛ فجعل كمينًا في موضعين، وأقام على قارعة الطريق، وطرقهم المشركون ليلًا، ولا يعلمون بمكان صالح، وهم آمنون في أنفسهم من أن يلقاهم أحد دون العسكر، فلم يعلموا بصالح حتى غشوه. قال: فشدوا عليه حتى إذا اختلفت الرماح بينهم خرج الكمينان فاقتتلوا. قال: وقال رجل من البراجم: حصرتهم فما رأيت قط قومًا كانوا أشد قتالًا من أبناء أولئك الملوك ولا أصبر، فقتلناهم فلم يفلت منهم إلا نفر يسير، وحوينا سلاحهم، واحترزنا رءوسهم، وأسرنا منهم أسرى، فسألناهم عمن قتلنا، فقالوا: ما قتلتم إلا ابن ملك، أو عظيمًا من العظماء، أو بطلًا من الأبطال؛ ولقد قتلتم رجالًا إن كان الرجل ليعدل بمائة رجل، فكتبنا على آذانهم، ثم دخلنا العسكر حين أصبحنا وما منا رجل إلا معلق رأسًا معروفًا بإسمه، وسلبنا من جيد السلاح وكريم المتاع ومناطق الذهب ودواب فرهة، فنفلنا قتيبة ذلك كله وكسر ذلك أهل السغد، ووضع قتيبة عليهم المجانيق، فرماهم بها، وهو في ذلك يقاتلهم لا يقلع عنهم، وناصحه من معه من أهل بخارى وأهل خوارزم، فقاتلوا قتالًا شديدًا، وبذلوا أنفسهم. فأرسل إليه غوزك: إنما تقاتلني بإخوتي وأهل بيتي من العجم، فأخرج إلي العرب، فغضب قتيبة ودعا الجدلي فقال: أعرض الناس، وميز، أهل البأس فجمعهم، ثم جلس قتيبة يعرضهم بنفسه، ودعا العرفاء وجعل يدعو برجل رجل. فيقول: ما عندك؟ فيقول العريف: شجاع، ويقول: ما هذا؟ فيقول: مختصر، ويقول: ماهذا؟ فيقول: جبان، فسمى قتيبة الجبناء الأنتان، وأخذ خيلهم وجيد سلاحهم فأعطاه الشجعان والمختصرين، وترك لهم رفث السلاح، ثم زحف بهم فقاتلهم بهم فرسانًا ورجالًا، ورمى المدينة بالمجانيق، فثلم فيها ثلمة فسدوها بغرائر الدخن، وجاء رجل حتى قام على الثلمة فشتم قتيبة، وكان مع قتيبة قوم رماة، فقال لهم قتيبة: اختاروا منكم رجلين، فاختاروا، فقال: أيكمايرمي هذا الرجل، فإن أصابه فله عشرة آلاف، وإن أخطأه قطعت يده، فتلكأ أحدهما وتقدم الآخر، فرماه فلم يخطئ عينه، فأمر له بعشرة آلاف. قال: وأخبرنا الباهليون، عن يحيى بن خالد عن أبيه خالد بن باب مولى مسلم بن عمرو، قال: كنت في رماة قتيبة، فلما افتتحنا المدينة صعدت السور فأتيت مقام ذلك الرجل الذي كان فيه فوجدته ميتًا على الحائط، وما أخطأت النشابة عينه حتى خرجت من قفاه، ثم أصبحوا من غد فرموا المدينة، فثلموا فيها، وقال قتيبة: ألحوا حتى تعبروا الثلمة، فقاتلوهم حتى صاروا على ثلمة المدينة، ورماهم السغد بالنشاب، فوضعوا ترستهم فكان الرجل يضع ترسه على عينه، ثم يحمل حتى صاروا على الثلمة، فقالوا له: انصرف عنا اليوم حتى نصالحك غدًا. فأما باهل فيقولون: قال قتيبة: لا نصالحهم إلا ورجالنا على الثلمة، ومجانيقنا تخطر على رؤوسهم ومدينتهم. قال: وأما غيرهم فيقولون: قال قتيبة: جزع العبيد، فانصرفوا على ظفركم، فانصرفوا، فصالحهم من الغد على ألفي ألف ومائتي ألف في كل عام على أن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس، ليس فيهم صبي ولا شيخ ولا عيب، على أن يخلوا المدينة لقتيبة فلا يكون فهم فيها مقاتل، فيبني له فيه مسجد فيدخل ويصلي، ويوضع له فيها منبر فيخطب، ويتغدى ويخرج، قال: فلما تم الصلح بعث قتيبة عشرة، من كل خمس برجلين، فقبضوا ما صالحوهم عليه، فقال قتيبة: الآن ذلوا حين صار إخوانهم وأولادهم في أيديكم، ثم أخلوا المدينة وبنوا مسجدًا ووضعوا منبرًا، ودخلها في أربعة آلاف انتخبهم، فلما دخلها أتى المسجد فصلى وخطب ثم تغدى، وأرسل إلى أهل السغد: من أراد منكم أن يأخذ متاعه فليأخذه؛ فإني لست خارجًا منها، وإنما صنعت هذا لكم، ولست أخذ منكم أكثر مما صالحتكم عليه، غير أن الجند يقيمون فيها، قال: أما الباهليون فيقولون: صالحهم قتيبة على مائة ألف رأس، وبيوت النيران وحلية الأصنام، فقبض ما صالحهم عليه، وأتى بالأصنام فسلبت؛ ثم وضعت بين يديه، فكانت كالقصر العظيم حين جمعت، فأمر بتحريقها، فقالت الأعاجم: إن فيها أصنامًا من حرقها هلك. فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي، فجاء غوزك، فجثا بين يديه وقال: أيها الأمير. إن شكرك علي واجب، لا تعرض لهذه الأصنام؛ فدعا قتيبة بالنار وأخذ شعلة بيده، وخرج فكبر، ثم أشعلها، وأشعل الناس فاضطرمت، فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال، قال: وأخبرنا مخلد بن حمزة بن بيض، عن أبيه، قال: حدثني من شهد قتيبة وفتح سمرقند أو بعض كور خراسان فاستخرجوا منها قدورًا عظامًا من نحاس، فقال قتيبة لحضين: يا أبا ساسان، أترى رقاش كان لها مثل هذه القدور؟ قال: لا، لكن كان لعيلان قدر مثل هذه القدور، فضحك قتيبة وقال: أدركت بثأرك. قال: وقال محمد بن أبي عيينة لسلم بن قتيبة بين يدي سليمان بن علي: إن العجم ليعيرون قتيبة الغدر إنه غدر بخوارزم وسمرقند، قال: فأخبرنا شيخ من بني سدوس عن حمزة بن بيض قال: أصاب قتيبة بخراسان بالسغد جارية من ولد يزد جرد، فقال: أترون ابن هذه يكون هجينًا؟ فقالوا: نعم، يكون هجينًا من قبل أبيه، فبعث بها إلى الحجاج، فبعث بها الحجاج إلى الوليد، فولدت له يزيد ابن الوليد. قال: وأخبرنا بعض الباهلين، عن نهشل بن يزيد، عن عمه - وكان قد أدرك ذلك كله - قال: لما رأى غوزك إلحاح قتيبة عليهم كتب إلى ملك الشاش وإخشاذ فرغانة وخاقان: إنا نحن دونكم فيما بينكم وبين العرب، فإن وصل إلينا كنتم أضعف وأذل، فمهما كان عندكم من قوة فابذلوها؛ فنظروا في أمرهم فقالوا: إنما نؤتي من سفلتنا، وإنهم لا يجدون كوجدنا، ونحن معشر الملوك المعنيون بهذا الأمر، فانتخبوا أبناء الملوك وأهل النجدة من فتيان ملوكهم، فليخرجوا حتى يأتوا عسكر قتيبة فليبيت، فإنه مشغول بحصار السغد، ففعلوا، ولوا عليهم ابنًا لخاقان، وساروا وقد أجمعوا أن يبيتوا العسكر، وبلغ قتيبة فانتخب أهل النجدة والبأس ووجوه الناس، فكان شعبة بن ظهير وزهير بن حيان فيمن انتخب، فكانوا أربعمائة، فقال لهم: إن عدوكم قد رأوا بلاء الله عندكم، وتأييده إياكم في مزاحفتكم ومكاثرتكم، كل ذلك يفلجكم الله عليهم، فأجمعوا على أن يحتالوا غرتكم وبياتكم، واختاروا دهاقينهم وملوكهم، وأنتم دهاقين العرب وفرسانهم، وقد فضلكم الله بدينه، فأبلوا الله بلاء حسنًا تستوجبون به الثواب، مع الذب عن أحسابكم. قال: ووضع قتيبة عيونًا على العدو حتى إذا قربوا منه ما يصلون إلى عسكره من الليل أدخل الذين انتخبهم، فكلمهم وحضهم، واستعمل عليهم صالح بن مسلم، فخرجوا من العسكر عند المغرب، فساروا فتزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم الذين وصفوا لهم، ففرق صالح خيله، وأكمن كمينًا عن يمينه، وكمينًا عن يساره، حتى إذا مضى نصف الليل أو ثلثاه، جاء العدو باجتماع وإسراع وصمت، وصالح واقف في خيله، فلما رأوه شدوا عليه، حتى إذا اختلفت الرماح شد الكمينان عن يمين وعن شمال، فلم نسمع إلا الاعتزاء، فلم نر قومًا كانوا أشد منهم. قال: وقال رجل من البراجم: حدثني زهير أو شعبة قال: إنا لنختلف عليهم بالطعن والضرب إذ تبينت تحت الليل قتيبة، وقد ضربت ضربة أعجبتني وأنا أنظر إلى قتيبة، فقلت: كيف ترى بأبي أنت وأمي! قال: اسكت دق الله فاك! قال: فقتلناهم فلم يفلت منهم إلا الشريد، وأقمنا نحوي الأسلاب ونحتز الرءوس حتى أصبحنا، ثم أقبلنا إلى المعسكر، فلم أر جماعة قط جاءوا بمثل ما جئنا به، ما منا رجل إلا معلق رأسًا معروفًا باسمه، وأسير في وثاقه. قال: وجئنا قتيبة بالرءوس، فقال: جزاكم الله عن الدين والأعراض خيرًا وأكرمني قتيبة من غير أن يكون باح لي بشيء، وقرن بي في الصلة والإكرام حيان العدوي وحليسًا الشيباني، فظنت أنه رأى منهما مثل الذي رأى مني، وكسر ذلك أهل السغد، فطلبوا الصلح، وعرضوا الفدية فأبى، وقال: أنا ثائر بدم طرخون، كان مولاي وكان من أهل ذمتي. قالوا: حدث عمرو بن مسلم، عن أبيه. قال: أطال قتيبة المقام، وثلمت الثلمة في سمرقند. قال: فنادى مناد فصيح بالعربية يشتم قتيبة؛ قال: فقال عمرو بن أبي زهدم: ونحن حول قتيبة، فحين سمعنا الشتم خرجنا مسرعين، فمكثنا طويلا وهو ملح بالشتم، فجئت إلى رواق قتيبة فاطلعت، فإذا قتيبة محتب بشملة يقول كالمناجي لنفسه: حتى متى يا سمرقند يعشش فيك الشيطان! أما والله لئن أصبحت لأحاولن من أهلك أقصى غاية، فانصرفت إلى أصحابي، فقلت: كم من نفس أبيه ستموت غدًا منا ومنهم! وأخبرتهم الخبر. قال: وأما باهلة فيقول: سار قتيبة فجعل النهر يمينه حتى ورد بخاري، فاستنهضهم معه، حتى إذا كان بمدينة أربنجن، وهي التي تجلب منها اللبود الأربنجنية، لقيهم غوزك صاحب السغد في جمع عظيم من الترك وأهل الشاش وفرغانة، فكانت بينهم وقائع من غير مزاحفة، كل ذلك يظهر المسلمون، ويتحاجزون حتى قربوا من مدينة سمرقند، فتزاحفوا يومئذ، فحمل السغد على المسلمين حملة حطموهم حتى جازوا عسكرهم، ثم كر المسلون عليهم حتى ردوهم إلى عسكرهم، وقتل الله من المشركين عددًا كثيرًا، ودخلوا مدينة سمرقند فصالحوهم. قال: وأخبرنا الباهليون عن حاتم بن أبي صغيرة؛ قال: رأيت خيلًا يومئذ تطاعن خيل المسلمين وقد أمر يومئذ قتيبة بسريره فأبرز، وقعد عليه، وطاعنوهم حتى جازوا قتيبة، وإنه لمحتب بسيفه ما حل حبوته، وانطوت مجتنبا المسلمين على الذين هزموا القلب، فهزموهم حتى ردوهم إلى سكرهم، وقتل من المشركين عدد كثير ودخلوا مدينة سمرقند فصالحوهم وصنع غوزك طعامًا ودعا قتيبة، فأتاه في عدد من أصحابه فلما تغدى استوهب منه سمرقند فقال للملك: انتقل عنها، فانتقل عنها، وتلى قتيبة: " وإنه أهلك عاد الأولى وثمود فما أبقى " قال: وأخبرنا أبو الذيال، عن عمر بن عبد الله التميمي، قال: حدثني الذي سرحه قتيبة إلى الحجاج بفتح سمرقند، قال: قدمت إلى الحجاج فوجهني إلى الشام فقدمتها فدخلت مسجدها، فجلست قبل طلوع الشمس وإلى جنبي رجل ضرير فسألته عن شيء من أمر الشام، فقال: إنك لغريب، قلت: أجل؛ قال: من أي بلد أنت؟ قلت: من خراسان قال: ما أقدمك؟ فأخبرته؛ فقال: والذي بعث محمدًا بالحق ما افتتحتموها إلا غدرًا، وإنكم يا أهل خراسان للذين تسلبون بني أمية ملكهم، وتنقضون دمشق حجرًا حجرًا. قال: وأخبرنا العلاء بن جرير، قال: بلغني أن قتيبة لما فتح سمرقند وقف على جبلها فنظر إلى الناس متفرقين في مروج السغد، فتمثل قول طرفة: وأرتع أقوام ولولا محلنا ** بمخشية ردوا الجمال فقوضوا قال: وأخبرنا خالد بن الأفصح، قال: قال الكميت: كانت سمرقند أحقابًا يمانيةً ** فاليوم تنسبها قيسية مضر قال: وقال أبو الحسن الجشمي: فدعا قتيبة نهار بن توسعة حين صالح أهل السغد، فقال: يا نهار، أين قولك: ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ** ومات الندى والجود بعد المهلب أقام بمرور الروذ رهن ضريحه ** وقد غيبا عن كل شرق ومغرب أفغزو هذا يا نهار؟ قال: لا، هذا أحسن، وأنا الذي أقول: وما كان مذكنا ولا كان قبلنا ** ولا هو فيما بعدنا كابن مسلم أعم لأهل الترك قتلًا بسيفه ** وأكثر فينا مقسمًا بعد مقسم قال: ثم ارتحل قتيبة راجعًا إلى مرو، واستخلف على سمرقند عبد الله ابن مسلم، وخلف عنده جندًا كثيفًا، وآلة من آلة الحرب كثيرة، وقال: لا تدعن مشركًا يدخل باب من أبواب سمرقند إلا مختوم اليد. وإن جفت الطينة قبل أن يخرج فقتله، وإن وجدت معه حديدة؛ سكينًا فما سواه فاقتله، وإن أغلقت الباب ليلًا فوجدت فيها أحدًا منهم فاقتله، فقال كعب الأشقري - ويقال رجل من جعفى: كل يوم يحوي قتيبة نهبًا ** ويزيد الأموال مالًا جديدا باهلي قد ألبس التاج حتى ** شاب منه مفارق كن سودا دوخ السغد بالكتائب حتى ** ترك السغد بالعراء قعودا فوليد يبكي لفقد أبيه ** وأب موجع يبكي الوليدا كلما حل بلدة أو آتاهها ** تركت خيله بها إخدودا قال: وقال قتيبة: هذا العداء لا عداء عيرين، لأنه فتح خوارزم وسمرقند في عام واحد؛ وذلك أن الفارس إذا صرع في طلق واحد عيرين قيل: عادي بين عيرين. ثم انصرف عن سمرقند فأقام بمرو. وكان عامله على خوارزم إياس بن عبد الله بن عمرو على حربها، وكان ضعيفًا. وكان على خراجها عبيد الله بن أبي عبيد الله مولى بني مسلم. قال: فاستضعف أهل خوارزم إياسًا، وجمعوا له، فكتب عبيد الله إلى قتيبة، فبعث قتيبة عبد الله بن مسلم في الشتاء عاملا، وقال: اضرب إياس بن عبد الله وحيان النبطي مائة مائة، واحلقهما، وضم إليك عبيد الله بن أبي عبيد الله، مولى بني مسلم واسمع منه فإنا له وفاء. فمضى حتى إذا كان من خورازم على سكة، فدس إلى إياس فأنذره فتنحى، وقدم فأخذ حيان فضربه مائة وحلقه. قال: ثم وجه قتيبة بعد عبد الله المغيرة بن عبد الله في الجنود إلى خوارزم، فبلغهم ذلك، فلما قدم المغيرة اعتزل أبناء الذين قتلهم خوارزم شاه. لا نعينك، فهرب إلى بلاد الترك. وقدم المغيرة فسبا وقتل. وصالحه الباقون، فأخذ الجزية. وقدم على قتيبة. فاستعمله على نيسابور. فتح طليطلة وفي هذه السنة عزل موسى بن نصير طارق بن زياد عن الأندلس وجهه إلى مدينة طليطلة ذكر الخبر عن ذلك ذكر محمد بن عمر أن موسى بن نصير غضب على طارق في سنة ثلاث وتسعين، فشخص إليه في رجب منها، ومعه حبيب بن عقبة بن نافع الفهري، واستخلف حين شخص على إفريقيا ابنه عبد الله بن موسى بن نصير، وعبر موسى إلى طارق في عشرة آلاف، فتلقاه، فترضاه فرضي عنه. وقبل منه عذره، ووجهه منها إلى مدينة طليطلة - وهي من عظام مدائن الأندلس، وهي من قرطبة على عشرين يومًا - فأصاب فيها مائدة سليمان بن داود، فيها من الذهب والجوهر ما الله أعلم به. قال: أجدب أهل إفريقيا جدبًا شديدًا، فخرج موسى بن نصير فاستصقى، ودعا يومئذ حتى انتصف النهار. وخطب الناس، فلما أراد أن ينزل قيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين! قال: ليس هذا يوم ذاك. فسقوا سقيًا كفاهم حينًا. خبر عزل عمر بن عبد العزيز عن الحجاز وفيها عزل عمر بن عبد العزيز عن المدينة. ذكر سبب عزل الوليد إياه عنها وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الوليد يخبره بعسف الحجاج أهل عمله بالعراق، واعتدائه عليهم، وظلمه لهم بغير حق ولا جناية، وأن ذلك بلغ الحجاج، فاضطغنه على عمر، وكتب إلى الوليد: إن من قبلي من مراق أهل العراق وأهل الشقاق قد جلوا عن العراق، ولجؤوا إلى المدينة ومكة وإن ذلك وهن فكتب الوليد إلى الحجاج: أن أشر علي برجلين، فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حيان وخالد بن عبد الله. فولى خالدًا مكة وعثمان المدينة، وعزل عمر بن عبد العزيز قال: محمد بن عمر: خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة فأقام بالسويداء وهو يقول لمزاحم: أتخاف أن تكون ممن نفته طيبة! وفيها ضرب عمر بن عبد العزيز خبيب بن عبد الله بن الزبير بأمر الوليد إياه، وصب على رأسه قربة من ماء بارد. ذكر محمد بن عمر، أن أبا المليح الزبير خمسين سوطًا، وصب على رأسه قربة من ماء في يوم شات. ووقفه على باب المسجد، فمكث يومه ثم مات. وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى. عن أبي معشر. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها، إلا ما كان من المدينة، فإن العامل عليها كان عثمان بن حيان المري، وليها - فيما قيل - في شعبان سنة ثلاث وتسعين. وأما الواقدي فإنه قال: قدم عثمان المدينة لليلتين بقيتا من شوال سنة أربع وتسعين. وقال بعضهم: شخص عمر بن عبد العزيز عن المدينة معزولا في شعبان من سنة ثلاث وتسعين وغزا فيها، واستخلف عليها حين شخص عنها أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري. وقدم عثمان بن حيان المدينة لليلتين بقيتا من شوال. ثم دخلت سنة أربع وتسعين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من غزوة العباس بن الوليد أرض الروم، فقيل: إنه فتح فيها أنطاكية. وفيها غزا - فيما قيل - عبد العزيز بن الوليد أرض الروم حتى بلغ غزالة. وبلغ الوليد بن هشام المعيطي أرض برج الحمام، ويزيد بن أبي كبشة أرض سورية. وفيها كانت الرجفة بالشأم. وفيها افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند. غزو الشاش وفرغانة وفيها غزا قُتيبة شاش وفَرْغانة حتى بلغ خَجَنْدة وكاشان، مدينتَيْ فرغانة. ذكر الخبر عن غزوة قتبية هذه ذكر علي بن محمد؛ أن أبا الفوارس التميمي، أخبره عن ماهان ويونس ابن أبي إسحاق، أن قتيبة غزا سنة أربع وتسعين. فلما قطع النهر فرض على أهل بخارى وكس ونسف وخوارزم عشرين ألف مقاتل. قال: فساروا معه إلى السند، فوجهوا إلى الشاش، وتوجه هو إلى فرغانة، وسار حتى أتى خجنده، فجمع له أهلها. فلقوه فاقتتلوه مرارًا، كل ذلك يكون الظفر للمسلمين. ففرغ الناس يومًا فركبوا خيولهم، فأوفى رجل على نشز فقال: تالله ما رأيت كاليوم غزة، لو كان هيج اليوم ونحن على ما أرى من الانتشار لكانت الفضيحة، فقال له رجل إلى جنبه: كلا، نحن كما قال: عوف بن الخرع: نؤم البلاد لحب اللقا ** ولا نتقي طائرًا حيث طارا سنيحًا ولا جاريًا بارحًا ** على كل حال نلاقي اليسارا وقال سحبان وائل يذكر قتالهم بخجندة: فسل الفوارس في خجن ** دة تحت مرهفة العوالي هل كنت أجمعهم إذا ** هزموا وأقدم في قتالي أم كنت أضرب هامة ال عاتي واصبر للعوالي هذا وأنت قريع قي س كلها ضخم النوال وفضلت قيسًا في الندى ** وأبوك في الحجج الخوالي ولقد تبين عدل حك مك فيهم في كل مال تمت مروءتكم ونا غى عزكم غلب الجبال قال: ثم أتى قتيبة كاشان مدينة فرغانة، وآتاه الجنود الذين وجههم إلى الشاش وقد فتحوها وحرقوا أكثرها، وانصرف قتيبة إلى مرو. وكتب الحجاج إلى محمد بن القاسم الثقفي أن وجه من قبلك من أهل العراق إلى قتيبة، ووجه إليهم جهم بن زحر بن قيس، فإنه في أهل العراق خير منه في أهل الشام. وكان محمد وادن لجهم بن زحر، فبعث سليمان بن صعصعة وجهم بن زحر، فلما ودعه جهم بكى وقال: يا جهم، إنه للفراق؛ قال: لا بد منه. قال: وقدم على قتيبة سنة خمس وتسعين. ولاية عثمان بن حيان المري على المدينة وفي هذه السنة قدم عثمان بن حيان المرّي المدينة واليًا عليها من قبل الوليد بن عبد الملك. ذكر الخبر عن ولايته قد ذكرنا قبل سبب عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن المدينة ومكة وتأميره على المدينة عثمان بن حيان، فزعم محمد بن عمر أن عثمان قدم المدينة أميرًا عليها لليلتين بقيتا من شوال سنة أربع وتسعين، فنزل بها دار مروان وهو يقول: محلة والله مظعان، المغرور من غر بك. فاستقضي أبا بكر بن حزم. قال محمد بن عمر: حدثني محمد بن عبد الله بن أبي حرة، عن عمه قال: رأيت عثمان بن حيان أخذ رياح بن عبيد الله ومنقذًا العراقي فحبسهم وعاقبهم، ثم بعث بهم في جوامع إلى الحجاج بن يوسف، ولم يترك بالمدينة أحدًا من أهل العراق تاجرًا ولا غير تاجر، وأمر بهم أن يخرجوا من كل بلد، فرأيتهم في الجوامع، واتبع أهل الأهواء، وأخذ هيصما فقطعه، ومنحورًا - وكان من الخوارج - قال: وسمعته يخطب على المنبر يقول بعد حمد الله: أيها الناس، إن وجدناكم أهل غش لأمير المؤمنين في قديم الدهر وحديثه، وقد ضوى إليكم من يزيدكم خبالا. أهل العراق هم أهل الشقاق والنفاق. هم والله عش النفاق وبيضته التي تفلقت عنه. والله ما جربت عراقيًا قط إلا وجدت أفضلهم عند نفسه الذي يقول في آل أبي طالب ما يقول، وما هم لهم بشيعة، وإنهم لأعداء لهم ولغيرهم، ولكن لما يريد الله من سفك دمائهم فإني والله لا أوتي بأحد أوى أحدًا منهم، أو إكراه منزلا، ولا أنزله، إلا هدمت منزله، وأنزلت به ما هو أهله. ثم إن البلدان لما مصرها عمر بن الخطاب وهو مجتهد على ما يصلح رعيته جعل يمر عليه من يريد الجهاد فيستشيره: الشام أحب إليك أم العراق؟ فيقول: الشام أحب إلي. إني رأيت العراق داء عضالا، وبها فرخ الشيطان. والله لقد أعضلوا بي، وإني لأراني سأفرقهم في البلدان، ثم أقول: لو فرقتهم لأفسدوا من دخلوا عليه بجدل وحجاج، وكيف؟ ولما؟ وسرعة وجيف في الفتنة، فإن خبروا عند السيوف لم يخبر منهم طائل. لم يصلحوا على عثمان فلقى منهم الأمرين، وكان أول الناس فتق هذا الفتق العظيم، ونقدوا عرى الإسلام عروة عروة، وأنغلوا البلدان. والله إني لأتقرب إلى الله بكل ما أفعل بهم لما أعرف من رأيهم ومذاهبهم. ثم وليهم أمير المؤمنين معاوية فدامجهم فلم يصلحوا عليه، ووليهم رجل الناس جلدًا فبسط عليهم السيف، وأخافهم، فاستقاموا له أحبوا أو كرهوا، وذلك أنه خبرهم وعرفهم. أيها الناس، إنا والله ما رأينا شعارًا قط مثل الأمن، ولا رأينا حلسًا قط شرًا من الخوف، فالزموا الطاعة، فإن عندي يا أهل المدينة خبرة من الخلاف. والله ما أنتم بأصحاب قتال، فكونوا من أحلاس بيوتكم، وعضوا على النواجذ، فإني قد بعثت في مجالسكم من يسمع فيبلغني عنكم. إنكم في فضول كلام غيره ألزم لكم، فدعوا عيب الولاة. فإن الأمر إنما ينقض شيئًا شيئًا حتى تكون الفتنة وإن الفتنة من البلاء. والفتن تذهب بالدين وبالمال والولد. قال: يقول القاسم بن محمد: صدق في كلامه هذا الأخير، إن الفتنة لهكذا. قال محمد بن عمرو: وحدثني خالد بن القاسم، عن سعيد بن عمرو الأنصاري قال: رأيت منادي عثمان بن حيان ينادي عندنا: يا بني أمية بن زيد، برئت ذمة ممن آوى عراقيًا - وكان عندنا رجل من أهل البصرة له فضل يقال له أبو سوادة، من العباد - فقال: والله ما أحب أن أدخل عليكم مكروه، بلغوني مأمني؛ قلت: لا خير لك في الخروج، إن الله يدفع عنا وعنك. قال: فأدخلته بيتي، وبلغ عثمان بن حيان فبعث أحراسًا فأخرجته إلى بيت أخي، فما قدروا على شيء، وكان الذي سعى بي عدوًا، فقلت للأمير: أصلح الله الأمير! يؤتى بالباطل فلا تعاقب عليه. قال: فضرب الذي سعى بي عشرين سوطًا. وأخرجنا العراقي، فكان يصلي معنا ما يغيب يومًا واحدًا وحدب عليه أهل دارنا، فقالوا: نموت دونك! فما برح حتى عزل الخبيث. قال محمد بن عمر: وحدثنا عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة، قال: غنما بعث الوليد عثمان بن حيان إلى المدينة لإخراج من بها من العراقيين وتفريق أهل الأهواء ومن ظهر عليهم أو علا بأمرهم، فلم يبعثه واليًا، فكان لا يصعد المنبر ولا يخطب عليه فلما فعل في أهل العراق ما فعل. وفي منحور وغيره أثبته على المدينة، فكان يصعد على المنبر. ذكر الخبر عن مقتل سعيد بن جبير وفي هذه السنة قتل الحجاج سعيد بن جبير. ذكر الخبر عن مقتله وكان سبب قتل الحجاج إياه خروجه عليه معمن خرج عليه. مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكان الحجاج جعله على عطاء الجند حين وجه عبد الرحمن إلى رتبيل لقتاله، فلما خلع عبد الرحمن الحجاج كان سعيد فيمن خلعه معه، فلما هزم عبد الرحمن وهرب إلى بلاد رتبيل هرب سعيد. فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: كتب الحجاج إلى فلان وكان على أصبهان - وكان سعيد، قال الطبري: أظنه أنه لما هرب من الحجاج ذهب إلى أصبهان فكتب إليه -: إن سعيدًا عندك فخذه. فجاء الأمر إلى رجل تحرج، فأرسل إلى سعيد: تحول عني، فتنحى عنه، فأتى أذربيجان، فلم يزل بأذربيجان فطال عليه السنون. واعتمر فخرج إلى مكة فأقام بها، فكان ناس من ضربه يستخفون فلا يخبرون بأسمائهم. قال: أبو حصين وهو يحدثنا هذا: الرجل لا يؤمن، وهو رجل سوء، وأنا أتقيه عليك، فاطعن واشخص، فقال: يا أبا حصين، قد والله فررت حتى استجيب من الله: سيجيئني ما كتب الله لي. قلت: أظنك والله سعيدًا كما سمتك أمك قال: فقدم ذلك الرجل إلى مكة، فأرسل فأخذ فلان له وكلمه، فجعل يديره. وذكر أبو عاصم عن عمر بن قيس، قال: كتب الحجاج إلى الوليد: إن أهل النفاق والشقاق قد لجثوا إلى مكة. فإن رأى أمير المؤمنين يأذن في فيهم! فكتب الوليد إلى خالد بن عبد الله القسري؛ فأخذ عطاء وسعيد بن جبير ومجاهد وطلق بن حبيب وعمرو بن دينار؛ فأما عمرو بن دينار وعطاء فأرسلا لأنهما مكيان، وأما الآخرون فبعث بهم إلى الحجاج، فمات طلق في الطريق، وحبس مجاهد حتى مات الحجاج، وقتل سعيد بن جبير، حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا الأشجعي، قال: لما أقبل الحرسيان بسعيد بن جبير نزل منزلا قريبًا من الربذة، فانطلق أحد الحرسيين في حاجته وبقي الآخر، فاستيقظ الذي عنده، وقد رأى رؤيا، فقال: يا سعيد، إني أبرأ إلى الله من دمك! إني رأيت في منامي؛ فقيل لي: ويلك! تبرأ من دم سعيد بن جبير. اذهب حيث شئت لا أطلبك أبدًا؛ فقال سعيد: أرجو العافية وأرجو، وأبى حتى جاء ذاك؛ فنزلا من الغد، فأرى مثلها، فقيل: ابرأ من دم سعيد فقال: يا سعيد، اذهب حيث شئت، إني أبرأ إلى الله من دمك، حتى جاء به. فلما جاء به إلى داره التي كان فيها سعيد وهي دارهم هذه، حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا يزيد بن أبي زياد مولى بني هاشم قال: دخلت عليه في دار سعيد هذه. جيء به مقيدًا فدخل عليه قراء أهل الكوفة. قلت: يا أبا عبد الله، فحدثكم؟ قال: إي والله ويضحك، وهو يحدثنا، وبنية له في حجرة، فنظرت نظرة فأبصرت القيد فبكت، فسمعته يقول: أي بنية لا تطيري إياك - وشق والله عليه - فاتبعناه نشيعه، فانتهينا به إلى الجسر، فقال الحرسيان: لا نعبر به أبدًا حتى يعطينا كفيلًا، نخاف أن يغرق نفسه. قال: قلنا: سعيد يغرق نفسه! فما عبروا حتى كفلنا به. قال وهب بن جرير: حدثنا أبي، قال: سمعت الفضل بن سويد قال: بعثني الحجاج في حاجة، فجيء بسعيد بن جبير، فرجعت فقلت: لأنظرن ما يصنع فقمت على رأس الحجاج، فقال له الحجاج: يا سعيد، ألم أشركك في أمانتي! ألم أستعملك! ألم أفعل! حتى ظننت أنه يخلى سبيله؛ قال: بلى، قال: فما حملك على خروجك على؟ قال: عزم على، قال: فطار غضبًا وقال: هيه! رأيت لعزمة عدو الرحمن عليك حقًا، ولم تر لله ولا لأمير المؤمنين ولا لي عليك حقًا! اضربا عنقه، فضربت عنقه، فندر رأسه عليه كمة بيضاء لا طية صغيرة. وحدثت عن أبي غسان مالك بن إسماعيل، قال: سمعت خلف بن خليفة يذكر عن رجل قال: لما قتل سعيد بن جبير فندر رأسه لله، هلل ثلاثًا: مرة يفصح بها، وفي الثنتين يقول. مثل ذلك فلا يفصح بها. وذكر أبو بكر الباهلي، قال: سمعت أنس بن أبي شيخ، يقول: لما أتى الحجاج بسعيد بن جبير، قال: لعن الله ابن النصرانية - قال: يعني خالدًا القسري، وهو الذي أرسل به من مكة - أما كنت أعرف مكانه! بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكة. ثم أقبل عليه فقال: يا سعيد، ما أخرجك على؟ فقال: أصلح الله الأمير! إنما أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب مرة، قال: فطابت نفس الحجاج، وتطلق وجهه، ورجا أن يتخلص من أمره، قال: فعاوده في شيء، فقال له: إنما كانت له بيعة في عنقي؛ قال: فغضب وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه، فقال: يا سعيد. ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير، ثم أخذت بيعة أهلها، وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك! قال: بلى، قال: ثم قدمت الكوفة واليًا على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة، فأخذت بيعتك له ثانية! قال: بلى؛ قال: فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين، وتفي بواحدة للحائك ابن الحائك! اضربا عنقه؛ قال: فإياه عني جرير بقوله: يا رب ناكث بيعتين تركته ** وخضاب لحيته دم الأوداج وذكر عتاب بن بشر، عن سالم الأفطس، قال: أتى الحجاج بسعيد بن جبير وهو يريد الركوب، وقد وضع إحدى رجليه في الغرز - أو الركاب - فقال: والله لا أركب حتى تبوء مقعدك من النار، اضربوا عنقه، فضربت عنقه، فالتبس مكانه، فجعل يقول: قيودنا قيودنا، فظنوا أنه قال: القيود التي على سعيد بن جبير: فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود. قال محمد بن حاتم: حدثنا عبد الملك بن عبد الله عن هلال بن خباب قال: جيء بسعيد بن جبير إلى الحجاج فقال: أكتبت إلى مصعب ابن الزبير؟ قال: بل كتب إلى مصعب؛ قال: والله لأقتلنك؛ قال: إتي إذًا لسعيد كما سمتني أمي! قال: فقتله؛ فلم يلبث بعده إ لا نحوًا من أربعين يومًا، فكان إذا نام يراه في منامه يأخذ بمجامع ثوبه فيقول: يا عدو الله، لم قتلتني؟ فيقول: مالي ولسعيد بن جبير! مالي ولسعيد ابن جبير! قال أبو جعفر: وكان يقال لهذه السنة سنة الفقهاء، مات فيها عامة فقهاء أهل المدينة، مات في أولها علي بن الحسين عليه السلام ثم عروة بن الزبير، ثم سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. واستقضى الوليد في هذه السنة بالشام سليمان بن حبيب واختلف فيمن أقام الحج للناس في هذه السنة، فقال أبو معشر - فيما حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى عنه - قال: حج بالناس مسلمة بن عبد الملك سنة أربع وتسعين وقال الواقدي: حج بالناس سنة أربع وتسعين عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك - قال: ويقال: مسلمة بن عبد الملك. وكان العامل فيها على مكة خالد بن عبد الله القسري، وعلى المدينة عثمان بن حيان المري، وعلى الكوفة زياد بن جرير، وعلى قضائها أبو بكر ابن أبي موسى، وعلى البصرة الجراح بن عبد الله. وعلى قضائها عبد الرحمن ابن أذينة وعلى خراسان قتيبة بن مسلم، وعلى مصر قرة بن شريك، وكان العراق والمشرق كله إلى الحجاج. ثم دخلت سنة خمس وتسعين ذكر الأحداث التي كانت فيها ففيها كانت غزوة العباس بن الوليد بن عبد الملك أرض الروم، ففتح الله على يديه ثلاثة حصون فيما قبل، وهي: طولس، والمرزبانين، وهرقلة. وفيها فتح آخر الهند إلا الكيرج والمندل. وفيها بنيت واسط القصب في شهر رمضان وفيها انصرف موسى بن نصير إلى إفريقية من الأندلس، وضحى بقصر الماء - فيما قيل - على ميل من القيروان. بقية الخبر عن غزو الشاش وفيها غزا قتيبة بن مسلم الشاش ذكر الخبر عن غزوته هذه رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد، قال: وبعث الحجاج جيشًا من العراق فقدموا على قتيبة سنة خمس وتسعين، فغزا فلما كان بالشاش - أو بكشماهن - أتاه موت الحجاج في شوال، فغمه ذلك، وقفل راجعًا إلى مرو، وتمثل: لعمري لنعم المرء من آل جعفر ** بحوران أمسى أعلقته الحبائل فإن تحي لا أملل حياتي وإن تمت ** فما في حياة بعد موتك طائل قال: فرجع بالناس ففرقهم، فخلف في بخارى قومًا، ووجه قومًا إلى كس ونسف، ثم أتى مرو فأقام بها، وأتاه كتاب الوليد: قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجدك في جهاد أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك كالذي يجب لك، فالمم مغازيك، وانتظر ثواب ربك، ولا تغب عن أمير المؤمنين كتبك؛ حتى كأني أنظر إلى بلادك والثغر الذي أنت به وفيها مات الحجاج بن يوسف في شوال - وهو يومئذ ابن أربع وخمسين سنة وقيل: ابن ثلاث وخمسين سنة - وقيل: كانت وفاته في هذه السنة لخمس ليال بقين من شهر رمضان وفيها استخلف الحجاج لما حضرته الوفاة على الصلاة ابنه عبد الله بن الحجاج وكانت إمرة الحجاج على العراق فيما قال الواقدي عشرين سنة وفي هذه السنة افتتح العباس بن الوليد قنسرين. وفيها قتل الوضاحي بأرض الروم ونحو من ألف رجل معه. وفيها - فيما ذكر - ولد المنصور عبد الله بن محمد بن علي. وفيها ولي الوليد بن عبد الملك يزيد بن أبي كبشة على الحرب والصلاة بالمصرين: الكوفة والبصرة، وولى خراجهما يزيد بن أبي مسلم. وقيل: إن الحجاج كان استخلف حين حضرته الوفاة على حرب البلدين والصلاة بأهلهما يزيد بن أبي كبشة، وعلى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، فأقرهما الوليد بعد موت الحجاج على ما كان الحجاج استخلفهما عليه، وكذلك فعل بعمال الحجاج كلهم، أقرهم بعده على أعمالهم التي كانوا عليها في حياته. وحج بالناس في هذه السنة بثر بن الوليد بن عبد الملك، حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها، إلا ما كان من الكوفة والبصرة، فإنهما ضمتا إلى من ذكرت بعد موت الحجاج. ثم دخلت سنة ست وتسعين ذكر الأحداث التي كانت فيها ففيها كانت - فيما قال الواقدي - غزوة بشر بن الوليد الشاتية، فقفل ومات الوليد. ذكر الخبر عن موت الوليد بن عبد الملك وفيها كانت وفاة الوليد بن عبد الملك، يوم السبت في النصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين في قول جميع أهل السير. واختلف في قدر مدة خلافته، فقال الزهري في ذلك - ما حدثت عن ابن وهب عن يونس عنه: ملك الوليد عشر سنين إلا شهرًا. وقال أبو معشر فيه، ما حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه: كانت خلافة الوليد تسع سنين وسبعة أشهر، وقال هشام بن محمد: كانت ولاية الوليد ثمان سنين وتسعة أشهر. وقال الواقدي: كانت خلافته تسع سنين وثمانية أشهر وليلتين. واختلف أيضًا في مبلغ عمره، فقال محمد بن عمر: توفي بدمشق وهو ابن ست وأربعين سنة وأشهر. وقال هشام بن محمد: توفي وهو ابن خمس وأربعين سنة. وقال عليبن محمد: توفي وهو ابن اثنتين وأربعين سنة وأشهر. وقال علي: كانت وفاة الوليد بدير مران، ودفن خارج باب الصغير. ويقال: في مقابر الفراديس. ويقال: إنه توفي وهو ابن سبع وأربعين سنة. وقيل: صلى عليه عمر بن عبد العزيز. وكان له - فيما قال علي - تسعة عشر ابنًا: عبد العزيز، ومحمد، والعباس، وإبراهيم، وتمام، وخالد، وعبد الرحمن، ومبشر، ومسرور، وأبو عبيدة، وصدقة، ومنصور، ومروان، وعنبسة، وعمر، وروح، وبشر، ويزيد، ويحيى؛ أم عبد العزيز ومحمد وأم البنين بنت عبد العزيز ابن مروان، وأم أبي عبيدة فزارية، وسائرهم لأمهات شتى. ذكر الخبر عن بعض سيره حدثني عمر، قال: حدثني علي، قال: كان الوليد بن عبد الملك عند أهل الشام أفضل خلائفهم، بنى المساجد مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع المنار، وأعطى الناس، وأعطى المجذمين، وقال: لا تسألوا الناس. وأعطى كل مقعد خادمًا، وكل ضرير قائدًا، وفتح في ولايته فتوح عظام؛ فتح موسى بن نصير الأندلس، وفتح قتيبة كاشغر. وفتح محمد بن القاسم الهند. قال: وكان الوليد يمر بالبقال فيقف عنده فيأخذ حزمة البقل فيقول: بكم هذه؟ فيقول بفلس فيقول زد فيها. قال: أتاه رجل من بني مخزوم يسأله عن دينه، فقال: نعم، إن كنت مستحقًا لذلك، قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أكون مستحقًا لذلك مع قرابي! لذلك، قال: أقرأت القرآن؟ قال: لا، قال: ادن مني، فدنا منه، فنزع عمامته بقضيب كان في يده، وقرعه قرعات بالقضيب، وقال لرجل ضم هذا إليك، فلا يفارقك حتى يقرأ القرآن، فقام إليه عثمان ابن يزيد بن خالد بن عبد الله بن أسيد، فقال: يا أمير المؤمنين، إن على دينًا، فقال: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، فاستقرأه عشر آيات من الأنفال، وعشر آيات من براءة، فقرأ، فقال: نعم، نقضي عنكم، قال: مرض الوليد فرهقته غشية، فمكث عامه يومه عندهم ميتًا، فبكى عليه، وخرجت البرد بموته، فقدم رسول على الحجاج، فاسترجع، ثم أمر بحبل فشد في يديه، ثم أوثق إلى اسطوانة، وقال: اللهم لا تسلط علي من لا رحمة له، فقد طالما سألتك أن تجعل منيتي قبل منيته! وجعل يدعو، فإنه لكذلك إذ قدم عليه بريد بإفاقته. قال علي: ولما أفاق الوليد قال: ما أحد أسر بعافية أمير المؤمنين من الحجاج؛ فقال عمر بن عبد العزيز: ما أعظم نعمة الله علينا بعافيتك، وكأني بكتاب الحجاج قد أتاك يذكر فيه أنه لما بلغه برؤك خر الله ساجدًا، وأعتق كل مملوك له، وبعث بقوارير من أنبج الهند. فما لبث إلا أيامًا حتى جاء الكتاب بما قال. قال: ثم لم يمت الحجاج حتى ثقل على الوليد، فقال خادم للوليد: إني لأوضئ الوليد يومًا للغداء، فمد يده، فجعلت أصب عليه الماء وهو ساه والماء يسيل ولا أستطيع أن أتكلم، ثم نضح الماء في وجهي، وقال: أناعس أنت! ورفع رأسه إلي وقال: ما تدري ما جاء الليلة؟ قلت: لا؛ قال: ويحك! مات الحجاج! فاسترجعت. فقال: أسكت ما يسر مولاك أن في يده تفاحة يشمها. قال علي: وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ للمصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه، فإنما يسأل بعضهم بعضًا عن البناء والمصانع. فولى سليمان، فكان صاحب نكاح وطعام، فكان يسأل الناس بعضهم بعضًا عن التزويج والجواري. فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ ومتى ختمت؟ وما تصوم من الشهر؟ ورثى جرير الوليد فقال: يا عين جودي بدمع هاجه الذكر ** فما لدمعك بعد اليوم مدخر إن الخليفة قد وارت شمائله ** غبراء ملحدة في جولها زور أضحى بنوه وقد جلت مصيبتهم ** مثل النجوم هوى من بينها القمر كانوا جميعًا فلم يدفع منيته ** عبد العزيز ولا روح ولا عمر حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حج الوليد بن عبد الملك، وحج محمد بن يوسف من اليمن، وحمل هدايا للوليد، فقالت أم البنين للوليد: يا أمير المؤمنين، اجعل لي هدية محمد بن يوسف، فأمر بصرفها إليها، فجاءت رسل من أم البنين إلى محمد فيها، فأبى وقال: ينظر إليها أمير المؤمنين فيرى رأيه - وكانت هدايا كثيرة - فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أمرت بهدايا محمد أن تصرف إلي، ولا حاجة لي بها، قال: ولم؟ قالت: بلغني أنه غصبها الناس، وكلفهم عملها، وظلمهم. وحمل محمد المتاع إلى الوليد، فقال: بلغني أنك أصبتها غصبًا، قال: معاذ الله! فامر فاستخلف بين الركن والمقام خمسين يمينًا بالله ما غصب شيئًا منها، ولا ظلم أحدًا، ولا أصابها إلا من طيب؛ فحلف، فقبلها الوليد ودفعها إلى أم البنين، فمات محمد بن يوسف باليمين، أصابه داء تقطع منه. وفي هذه السنة كان الوليد أراد الشخوص إلى أخيه سليمان لخلعه، وأراد البيعة لابنه من بعده، وذلك قبل مرضته التي مات فيها. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: كان الوليد وسليمان وليي عهد عبد الملك، فلما أفضى الأمر إلى الوليد، أراد أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع سليمان، فأبى سليمان، فأراده أن يجعله له من بعده، فأبى، فعرض عليه أموالًا كثيرة، فأبى، فكتب إلى عماله أن يبايعوا لعبد العزيز، ودعا الناس إلى ذلك؛ فلم يجبه أحد إلا الحجاج وقتيبة وخواص من الناس. فقال عباد بن زياد: إن الناس لا يجيبونك إلى هذا، ولو أجابوك لم آمنهم على الغدر بابنك، فاكتب إلى سليمان فليقدم عليك، فإن لك عليه طاعة، فأرده على البيعة لعبد العزيز من بعده، فإنه لا يقدر على الامتناع وهو عندك، فإن أبى كان الناس عليه. فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالقدوم، فأبطأ، فاعتزم الوليد على المسير إليه وعلى أن يخلعه، فأمر الناس بالتأهب، وأمر بحجره فأخرجت، فمرض، ومات قبل أن يسير وهو يريد ذلك. قال عمر: قال علي: وأخبرنا أبو عاصم الزيادي عن الهلواث الكلبي، قال: كنا بالهند مع محمد بن القاسم، فقتل الله داهرًا، وجاءنا كتاب من الحجاج أن اخلعوا سليمان، فلما ولى سليمان جاءنا كتاب سليمان، أن ازرعوا واحرثوا، فلا شام لكم، فلم نزل يتلك البلاد حتى قام عمر بن عبد العزيز فأقفلنا. قال عمر: قال علي: أراد الوليد أن يبني مسجد دمشق، وكانت فيه كنيسة، فقال الوليد لأصحابه: أقسمت عليكم لما أتاني كل رجل منكم بلبنة، فجعل كل رجل يأتيه بلبنة، ورجل من أهل العراق يأتيه بلبنتين، فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق؛ قال: يا أهل العراق، تفرطون في كل شيء حتى في الطاعة! وهدموا الكنيسة وبناها مسجدًا، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكوا ذلك إليه، فقيل: أن كل ما كان خارجًا من المدينة افتتح عنوة، فقال لهم عمر: نرد عليكم كنيستكم ونهدم كنيسة توما، فإنها فتحت عنوة، نبنيها مسجدًا، فلما قال لهم ذلك قالوا: بل ندع لكم هذا الذي هدم الوليد، ودعوا لنا كنيسة توما. ففعل ذلك عمر. فتح قتيبة كاشغر وغزو الصين وفي هذه السنة افتتح بن مسلم كاشغر، وغزا الصين. ذكر الخبر عن ذلك رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد بالإسناد الذي ذكرت قبل. قال: ثم غزا قتيبة في سنة ست وتسعين، وحمل مع الناس عيالهم وهو يريد أن يحرز عياله في سمرقند خوفًا من سليمان. فلما عبر النهر استعمل رجلًا من مواليه يقال الخوارزمي على مقطع النهر، وقال: لا يجوزن أحد إلا بجواز؛ ومضى إلى فرغانة، وأرسل إلى شعب عصام من يسهل له الطريق إلى كاشغر، وهي أدنى مدائن الصين، فأتاه موت الوليد وهو بفرغانة. قال: فأخبرني أبو الذيال عن المهلب بن إياس، قال: قال إياس بن زهير: لما عبر قتيبة النهر أتيته فقلت له: إنك خرجت ولم أعلم رأيك في العيال فنأخذ أهبة ذلك، وبني الأكابر معي، ولي عيال قد خلفتهم وأم عجوز، وليس عندهم من يقوم بأمرهم، فإن رأيت أن تكتب لي كتابًا مع بعض بني أوجهه فيقدم علي بأهلي! فكتب، فأعطاني الكتاب فانتهيت إلى النهر وصاحب النهر من الجانب الآخر، فألويت بيدي، فجاء قوم في سفينة فقالوا: من أنت؟ أين جوازك؟ فأخبرتهم، فقعد معي قوم ورد قوم السفينة إلى العامل، فأخبروه. قال: ثم رجعوا إلي فحملوني، فانتهيت إليهم وهم يأكلون وأنا جائع، فرميت بنفسي، فسألني عن الأمر، وأنا آكل لا أجيبه، فقال: هذا أعرابي قد مات من الجوع، ثم ركبت فمضيت فأتيت مرو، فحملت أمي، ورجعت أريد العسكر، وجاءنا موت الوليد، فانصرفت إلى مرو. وقال: وأخبرنا أبو مخنف، عن أبيه، قال: بعث قتيبة كثير بن فلان إلى كاسغر، فسبى منها سبيًا، فختم أعناقهم مما أفاء الله على قتيبة، ثم رحع قتيبة وجاءهم موت الوليد. قال: وأخبرنا يحيى بن زكريا الهمداني عن أشياخ من أهل خراسان والحكم بن عثمان، قال: حدثني شيخ من أهل خراسان. قال: وغل قتيبة حتى قرب من الصين. قال: فكتب إليه ملك الصين أن ابعث لنا رجلًا من أشراف من معكم يخبرنا عنكم، ونسائله عن دينكم. فانتخب قتيبة من عسكره اثنا عشر رجلًا - وقال بعضهم: عشرة - من أفناء القبائل، لهم جمال وأجسام وشعور وبأس، بعدما سأل عنهم فوجدهم من صالح من هم منه. فكلمهم قتيبة، وفاطنهم فرأى عقولًا جمالًا، فأمر لهم بعدة حسنة من السلاح والمتاع الجيد من الحز والوشى واللين من البياض والرقيق والنعال والعطر، وحملهم على خيول مطهمة تقاد معهم، ودواب يركبونها. قال: وكان هبيرة بن المشمرج الكلابي مفوهًا بسيط اللسان، فقال: يا هبيرة كيف أنت صانع؟ قال: أصلح الله الأمير! قد كفيت الأدب وقل ماشئت اقله. وآخذ به، قال: سيروا على بركة الله، وبالله التوفيق. لا تضعوا العمائم عنكم حتى تقدموا البلاد، فإذا دخلتم عليه فأعلموه أني قد حلفت ألا انصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبي خراجهم. قال: فساروا، عليهم هبيرة بن المشمرج، فلما قدموا أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم، فدخلوا الحمام، ثم خرجوا فلبسوا ثيابًا بيضًا تحتها الغلائل، ثم مسوا الغالية، وتدخنوا ولبسوا النعال والأردية، ودخلوا عليه وعنده عظماء أهل مملكته، فجلسوا، فلم يكلمهم الملك ولا أحد من جلسائه فنهضوا، فقال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قومًا ما هم إلا نساء، ما بقي منا أحد حين رآهم ووجد رائحتهم إلا انتشر ما عنده. قال: فلما كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الحز والمطارف، وغدوا عليه، فلما دخلوا عليه قيل لهم: ارجعوا، فقال لأصحابه: كيف رأيتم هذه الهيئة؟ قالوا: هذه الهيئة أشبه بهيئة الرجال من تلك الأولى، وهم أولئك. فلما كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدوا عليهم سلاحهم، ولبسوا البيض والمغافر. وتقلدوا السيوف، وأخذوا الرماح، وتنكبوا القسي، وركبوا خيولهم، وغدوا فنظر إليهم صاحب الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة، فلما دنوا ركزوا رماحهم، ثم أقبلوا نحو مشمرين، فقيل لهم قبل أن يدخلوا: ارجعوا، لما دخل قلوبهم من خوفهم. قال: فانصرفوا فركبوا خيولهم، واختلجوا رماحهم، ثم دفعوا خيولهم كأنهم يتطاردون بها، فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء قط، فلما أمسى أرسل إليهم الملك، أن ابعثوا إلى زعيمكم وأفضلكم رجلًا، فبعثوا إلى هبيرة، فقال له حين دخل عليه: قد رأيتم عظيم ملكي، وليس أحد يمنعكم مني، وأنتم في بلادي، وإنما أنتم بمنزلة البيضة في كفي. وأنا سائلك عن أمر فإن لم تصدقني قتلتكم. قال: سل؛ قال: لم صنعتم ما صنعتم من الزي في اليوم الأول والثاني والثالث؟ قال: أما زينا الأول فلبسناه في أهالينا وريحنا عندهم، وأما اليوم الثاني فإذا أتينا أمراءنا، وأما اليوم الثالث فزينا لعدونا، فإذا هاجنا هيج وفزع كنا هكذا. قال: ما أحسن ما دبرتم دهركم! فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه، قال له: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خليه في بلادك وآخرها في منابت الزيتون! وكيف يكون حريصًا من خلف الدنيا قادرًا عليها وغزاك! وأما تخويفك إلينا بالقتل فإن لنا آجالًا إذا حضرت فأكرمها بالقتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه؛ قال: فما الذي يرضي صاحبك؟ قال: إنه قد حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويعطى الجزية، قال: فإنا نخرجه من يمينه، نبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطؤه، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها، قال: فدعا بصحاف من ذهب فيها تراب، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجاز فأحسن جوائزهم، فساروا فقدموا بما بعث به، فقبل الجزية وختم الغلمة وردهم، ووطئ التراب، فقال سوادة بن عبد الله السلولي: لا عيب في الوفد الذين بعثتهم ** للصين إن سلكوا طريق المنهج كسروا الجفون على القذى خوف الردى ** حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج لم يرض غير الختم في أعناقهم ** ورهائن دفعت بحمل سمرج أدى رسالتك التي استرعيته ** وأتاك من حنث اليمين بمخرج قال: فأوفد قتيبة هبيرة إلى الوليد، فمات بقرية من فارس، فرثاه سوادة، فقال: لله قبر هبيرة بن مشمرج ** ماذا تضمن من ندى وجمال! وبديهة يعيا بها أبناؤه ** عند احتفال مشاهد الأقوال كان الربيع إذا السنون تتابعت ** والليث عند تكعكع الأبطال فسقت بقرية حيث أمسى قبره ** غر يرحن بمسبل هطال بكت الجياد الصافنات لفقده ** وبكاه كل مثقف عسال وبكته شعث لم يجدن مواسيًا ** في العام ذي السنوات والإمحال قال: وقال: الباهليون: كان قتيبة إذا رجع من غزاته كل سنة اشترى اثنى عشر فرسًا من جياد الخيل؛ واثنى عشر هجينًا، لا يجاوز بالفرس أربعة آلاف، فيقام عليها وقت الغزو، فإذا تأهب للغزو وعسكر قيدت وأضمرت، فلا يقطع نهرًا بخيل حتى تخف لحومها، فيحمل عليها من يحمله في الطلائع. وكان يبعث في الطلائع الفرسان من الأشراف، ويبعث معهم رجالًا من العجم ممن يستنصح على تلك الهجن، وكان إذا بعث بطليعة أمر بلوح فنقش، ثم يشقه شقين فأعطاه شقة، واحتبس شقة، لئلا يمثل مثلها، ويأمره أن يدفنها في موضع يصفه له من مخاضة معروفة، أو تحت شجرة معلومة، أو خربة، ثم يبعث بعده من يستبريها ليعلم أصادق في طليعته أم لا. وقال ثابت قطنة العتكي يذكر من قتل من ملوك الترك: أقر العين مقتل كارزنك ** وكشبيز وما لاقى بيار وقال كميت يذكر غزوة السغد وخوارزم: وبعد في غزوة كانت مباركة ** تردى زراعة أقوام وتحتصد نالت غمامتها فيلًا بوابلها ** والسغد حين دنا شؤبوبها البرد إذ لا يزال له نهب ينفله ** من المقاسم لا وخش ولا نكد تلك الفتوح التي تدلي بحجتها ** على الخليفة إنا معشر حشد لم تثن وجهك عب قوم غزوتهم ** حتى يقال لهم: بعدًا وقد بعدوا لم ترض من حصنهم إن كان ممتنعًا ** حتى يكبر فيه الواحد الصمد خلافة سليمان بن عبد الملك قال أبو جعفر: وفي هذه السنة بويع سليمان بن عبد الملك بالخلافة، وذلك في اليوم الذي توفي فيه الوليد بن عبد الملك، وهو بالرملة. وفيها عزل سليمان بن عبد الملك عثمان بن حيان عن المدينة، ذكر محمد بن عمر، أنه نزعه عن المدينة لسبع بقين من شهر رمضان سنة ست وتسعين. قال: وكان عمله على المدينة ثلاث سنين. وقيل: كانت امرأته عليها سنتين غير سبع ليال. قال الواقدي: وكان أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قد استأذن عثمان أن ينام في غد، ولا يجلس للناس ليقوم ليلة إحدى وعشرين، فأذن له. وكان أيوب بن سلمة المخزومي عنده، وكان الذي بين أيوب بن سلمة وبين أبي بكر بن عمرو بن حزم سيئًا، فقال أيوب لعثمان: ألم تر إلى ما يقول هذا؟ إنما هذا منه رثاء؛ فقال عثمان: قد رأيت ذلك، ولست لأبى إن أرسلت إليه غدوة ولم أجده جالسًا لأجلدنه مائة، ولأحلقن رأسه ولحيته. قال أيوب: فجاءني أمر أحبه، فعجلت من السحر، فإذا شمعة في الدار، فقلت: عجل المري، فإذا رسول سليمان قد قدم على أبي بكر بتأميره وعزل عثمان وحده. قال أيوب: فدخلت دار الإمارة، فإذا لبن حيان جالس، وإذا بأبي بكر على كرسي يقول للحداد: اضرب في رجل هذا الحديد، ونظر إلى عثمان فقال: آبوا على أدبارهم كشفًا ** والأمر يحدث بهده الأمر وفي هذه السنة عزل سليمان يزيد بن أبي مسلم عن العراق، وأمر عليه يزيد بن المهلب، وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج، وأمره أن يقتل آل أبي عقيل وبسط عليهم العذاب. فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن محمد، قال: قدم صالح العراق على الخراج ويزيد على الحرب، فبعث يزيد زياد بن المهلب على عثمان، وقال له: كاتب صالحًا، وكان يلي عذابهم عبد الملك بن المهلب. خبر مقتل قتيبة بن مسلم وفي هذه السنة قتل قتيبة بن مسلم بخراسان. ذكر الخبر عن سبب مقتله وكان سبب ذلك أن الوليد بن عبد الملك أراد أن يجعل ابنه عبد العزيز ابن الوليد ولي عهده، ودس في ذلك إلى القواد والشعراء، فقال جرير في ذلك: إذا قيل أي الناس خير خليفة ** أشارت إلى عبد العزيز الأصابع رأوه أحق الناس كلهم بها ** وما ظلموا، فبايعوه وسارعوا وقال أيضًا جرير يحضن الوليد على بيعة عبد العزيز: إلى عبد العزيز سمت عيون الر ** عية إذ تحيرت الرعاء إليه دعت دواعيه إذا ما ** عماد الملك خرت والسماء وقال أولو الحكومة من قريش ** علينا البيع إن بلغ الغلاء رأوا عبد العزيز ولي عهد ** وما ظلموا بذاك ولا أساؤوا فماذا تنظرون بها وفيكم ** جسور بالعظائم واعتلاء! فزحلفها بأزملها إليه ** أمير المؤمنين إذا تشاء فإن الناس قد مدوا إليه ** أكفهم وفي برح الخفاء ولو قد بايعوك ولي عهد ** لقام الوزن واعتدل البناء فبايعه على خلع سليمان الحجاج بن يوسف وقتيبة، ثم هلك الوليد وقام سليمان بن عبد الملك، فخافه قتيبة. قال علي بن محمد: أخبرنا بشر بن عيسى والحسن بن رشيد وكليب ابن خلف. عن طفيل بن مرداس، وجبلة بن فروخ، عن محمد بن عزيز الكندي، وجبلة بن أبي رواد ومسلمة بن محارب، عن السكن بن قتادة؛ أن قتيبة لما أتاه موت الوليد بن عبد الملك وقيام سليمان. أشفق من سليمان لأنه كان يسعى في بيعة عبد العزيز بن الوليد مع الحجاج. وخاف أن بولي سليمان يزيد بن المهلب خراسان. قال: فكتب إليه كتابًا يهنئه بالخلافة، ويعزيه على الوليد، ويعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد، وأنه له على مثل ما كان لهما عليه من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان. وكتب إليه كتابًا آخر يعلمه فيه فتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم، وهيبته في صدورهم، وعظم صوته فيهم، ويذم المهلب وآل المهلب، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنه. وكتب كتابًا ثالثًا في خلعه، وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة، وقال له: ادفع إليه هذا الكتاب. فإن كان يزيد بن المهلب حاضرًا، فقرأه ثم ألقاه إليه، فادفع إليه هذا الكتاب، فإن قرأه وألقاه إلى يزيد فادفع إليه هذا الكتاب، فإن قرأ الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الآخرين. فقد قام رسول قتيبة فدخل على سليمان وعنده يزيد ين المهلب دفع إليه الكتاب، فقرأه، ثم ألقاه إلى يزيد، فدفع إليه كتابًا آخر فقرأه، ثم رمى به إلى يزيد، فأعطاه الكتاب الثالث، فقرأه فتمعر لونه، ثم دعا بطين فختمه ثم أمسكه بيده. وأما أبو عبيدة معمر بن المثنى، فإنه قال - فيما حدثت عنه: كان في الكتاب الأول وقيعة في يزيد بن المهلب، وذكر غدره وكفره وقلة شكره، وكان في الثاني ثناء على يزيد، وفي الثالث: لئن لم تقرني على ما كنت عليه وتؤمني لأخلعنك خلع النعل، ولأملأنها عليك خيلا ورجالا. وقال أيضًا: لما قرأ سليمان الكتاب الثالث وضعه بين مثالين من المشل التي تحته ولم يحر في ذلك مرجوعًا. رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد. قال: ثم أمر - يعني سليمان برسول قتيبة أن ينزل، فحول إلى دار الضيافة، فلما أمسى دعا به سليمان فأعطاه صرة فيها دنانير، فقال: هذه جائزتك. وهذا عهد صاحبك على خراسان فسر، وهذا رسولي معك بعهده. قال: فخرج الباهلي، وبعث معه سليمان رجلًا من عبد القيس، ثم أحد بني ليث يقال له صعصعة - أو مصعب - فلما كان بحلوان تلقاهم الناس بخلع قتيبة، فرجع العبدي، ودفع العهد إلى رسول قتيبة، وقد خلع؛ واضطرب الأمر، فدفع إليه عهده، فاستشار إخوته، فقالوا: لا يثق بك سليمان بعد هذا. قال علي: وحدثني بعض العنبريين، عن أشياخ منهم، أن توبة ابن أبي أسيد العنبري، قال: قدم صالح العراق، فوجهني إلى قتيبة ليطلعني طلع ما في يده، فصحبني رجل من بني أسد، فسألني عما خرجت فيه، فكاتمته أمري، فإنا لنسير إذ سنح لنا سانح؛ فنظر إلى رفيقي فقال: أراك في أمر جسيم وأنت تكتمني! فمضيت، فلما كنت بحلوان تلقاني الناس بقتل قتيبة. قال علي: وذكر أبو الذيال وكليب بن خلف وأبو علي الجوزجاني عن طفيل بن مرداس، وأبو الحسن الجثمي ومصعب بن حيان عن أخيه مقاتل بن حيان، وأبو مخنف وغيرهم، أن قتيبة لما هم بالخلع استشار إخوته، فقال له عبد الرحمن: اقطع بعثًا فوجه فيه كل من تخافه، ووجه قومًا إلى مرو، وسر حتى تنزل سمرقند، ثم قل لمن معك: من أحب المقام فله المواساة، ومن أراد الانصراف فغير مستكره ولا متبوع بسوء، فلا يقم معك إلا مناصح. وقال له عبد الله: اخلعه مكانك، وادع الناس إلى خلعه. فليس يختلف عليك رجلان. فأخذ برأي عبد الله، فخلع سليمان، ودعا الناس إلى خلعه، فقال للناس: إني قد جمعتكم من عين التمر وفيض البحر فضممت الأخ إلى أخيه، والولد إلى أبيه، وقسمت بينكم فيئكم، وأجريت عليكم أعطياتكم غير مكدرة ولا مؤخرة، وقد جربتم الولاة قبلي؛ أتاكم أمية فكتب إلى أمير المؤمنين إن خراج خراسان لا يقوم بمطبخي، ثم جاءكم أبو سعيد فدوم بكم ثلاث سنين لا تدرون أفي طاعة أنتم أم في معصية! لم يجب فيئًا، ولم ينكأ عدوًا، ثم جاءكم بنوه بعده؛ يزيد، فحل تباري إلى النساء، وإنما خليفتكم يزيد بن ثروان هبنقة القيسي قال: فلم يجبه أحد، فغضب فقال: لا أعز الله من نصرتم، والله لو اجتمعتم على عنز ما كسرتم قرنها، يا أهل السافلة - ولا أقول أهل العالية - يا أوباش الصدقة، جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كل أوب يا معشر بكر بن وائل، يا أهل النفخ والكذب والبخل، بأي يوميكم تفخرون؟ بيوم حربكم، أن بيوم سلمكم! فوالله لأنا أعز منكم. يا أصحاب مسيلمة، يا بني ذميم - ولا أقول تميم - يا أهل الخور والقصف والغدر، كنتم تسمون الغدر في الجاهلية كيسان يا أصحاب سجاح، يا معشر عبد القيس القساة، تبدلتم بأبر النحل أعنة الخيل، يا معشر الأزد، تبدلتم بقلوس السفن أعنه الخيل الحصن؛ إن هذا لبدعة في الإسلام! والأعراب، وما الأعراب! لعنة الله على الأعراب! يا كناسة المصرين، جمعتكم من منابت الشيخ والفيصوم ومنابت القلقل، تركبون البقر والحمر في جزيرة ابن كاوان، حتى إذا جمعتكم كما تجمع قزع الخريف قلتم كيت وكيت! أما والله إني لابن أبيه! وأخو أخيه، أما والله لأعصبنكم عصب السلمة. إن حول الصليان الزمزمة يا أهل خراسان، هل تدرون من وليكم؟ وليكم يزيد بن ثروان. كأني بأمير مزجاء، وحكم قد جاءكم فغلبكم على فيئكم وأظلالكم. إن ها هنا نارًا ارموها أرم معكم، ارموا غرضكم الأقصى. قد استخلف عليكم أبو نافع ذو الودعات. إن الشام أب مبرور، وإن العراق أب مكفور. حتى متى يتبطح أهل الشام بأفنيتكم وظلال دياركم! يا أهل خراسان، انسبوني تجدوني عراقي الأم، عراقي الأب، عراقي المولد، عراقي الهوى والرأي والدين، وقد أصبحتم اليوم فيما ترون من الأمن والعافية قد فتح الله لكم البلاد، وآمن سبلكم، فالظعينة تخرج من مرو إلى بلخ بغير جواز، فاحمدوا الله على النعمة وسلوه الشكر والمزيد قال: ثم نزل فدخل منزله، فأتاه أهل بيته فقالوا: ما رأينا كاليوم قط، والله ما اقتصرت على أهل العالية وهم شعارك ودثارك، حتى تناولت بكرًا وهم أنصارك، ثم لم ترض بذلك حتى تناولت تميمًا وهم إخوتك، ثم لم ترض بذلك حتى تناولت الأزد وهم يدك! فقال: لما تكلمت فلم يجيبني أحد غضبت، فلم أدر ما قلت؛ إن أهل العالية كإبل الصدقة قد جمعت من كل أوب، وأما بكر فإنها أمة لا تمنع يد لامس وأما تميم فجمل أجرب، وأما عبد القيس فما يضرب العير بذنبه، وأما الأزد فأعلاج، شرار من خلق الله، لو ملكت أمرهم لو سمتهم قال: فغضب الناس وكرهوا خلع سليمان، وغضبت القبائل من شتم قتيبة، فأجمعوا على خلافه وخلعه، وكان أول من تكلم في ذلك الأزد، فأتوا حضين بن المنذر فقالوا: إن هذا قد دعا إلى ما دعا إليه من خلع الخليفة، وفيه فساد الدين والدنيا، ثم لم يرض بذلك حتى قصر بنا وشتمنا، فما ترى يا أبا حفص؟ وكان يكتني في الحرب بأبي ساسان، ويقال: كنيته أبو محمد - فقال لهم: حضين: مضر بخراسان تعدل هذه الثلاثة الأخماس؛ وتميم أكثر الخمسين، وهم فرسان خراسان، ولا يرضون أن يصير الأمر في غير مضر، فإن أخرجتموهم من الأمر أعانوا قتيبة؛ قالوا: إنه قد وتر بني تميم بقتل ابن الأهتم، قال: لا تنظروا إلي هذا فإنهم يتعصبون للمضربة، فانصرفوا رادين لرأي حضين، فأرادوا أن يولوا عبد الله بن حوذان الجهضمي، فأبى وتدافعوها، فرجعوا إلى حضين، فقالوا: قد تدافعنا الرياسة، فنحن نوليك أمرنا، وربيعة لا تخالفك، قال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل؛ قالوا: ما ترى؟ قال: إن جعلتم هذه الرياسة في تميم تم أمركم؛ قالوا: فمن ترى من تميم؟ قال: ما أرى أحدًا غير وكيع، فقال حيان مولى بني شيبان: إن أحدًا لا يتقلد هذا الأمر فيصلي بحره، ويبذل دمه، ويتعرض للقتل، فإن قدم أمير أخذه بما جنى وكان المهنأ لغيره إلا هذا الأعرابي وكيع؛ فإنه مقدام لا يبالي ما ركب، ولا ينظر في عاقبة، وله عشيرة كثيرة تطيعه، وهو موتور يطلب قتيبة برياسته التي صرفها عنه وصيرها لضرار بن حصين بن زيد الفوارس بن حصين بن ضرار الضبي. فمشى الناس بعضهم إلى بعض سرًا، وقيل لقتيبة: ليس يفسد أمر الناس إلا حيان، فأراد أن يغتاله - وكان حيان يلاطف حشم الولاة فلا يخفون عنه شيئًا - قال: فدعا قتيبة رجلا فأمره بقتل حيان، وسمعه بعض الخدم، فأتى حيان فأخبره، فأرسل إليه يدعوه، فحذر وتمارض، وأتى الناس وكيعًا فسألوه أن يقوم بأمرهم؛ فقال: نعم، وتمثل قول الأشهب بن رميلة: سأجني ما جنيت وإن ركني ** لمعتمد إلى نضد ركين قال: وبخراسان يومئذ من المقاتلة من أهل البصرة من أهل العالية تسعة آلاف، وبكر سبعة آلاف، رئيسهم الحضين بن المنذر، وتميم عشرة آلاف عليهم ضرار بن حصين الضبي، وعبد القيس أربعة آلاف عليهم عبد الله بن علوان عوذي، والأزد عشرة آلاف رأسهم عبد الله أبو حوذان، ومن أهل الكوفة سبعة آلاف عليهم جهم بن زحر - أو عبيد الله بن علي - والموالي سبعة آلاف عليهم حيان - وحيان يقال إنه من الديلم، ويقال: إنه من خراسان، وإنما قيل له نبطي للكنته - فأرسل حيان إلى وكيع: أرأيت إن كففت عنك وأعنتك تجعل في جانب نهر بلخ وخراجه ما دمت حيا، وما دمت واليًا؟ قال: نعم، فقال للعجم: هؤلاء يقاتلون على غير دين، فدعوهم يقتل بعضهم بعضًا؛ قالوا: نعم، فبايعوا وكيعًا سرًا، فأتى ضرار بن حصين قتيبة، فقال: إن الناس يختلفون إلى وكيع، وهم يبايعونه - وكان وكيع يأتي منزل عبد الله بن مسلم الفقير فيشرب عنده - فقال عبد الله: هذا يحسد وكيعًا، وهذا الأمر باطل، هذا وكيع في بيتي يشرب ويسكر ويسلح في ثيابه؛ وهذا يزعم أنهم يبايعونه. قال: وجاء وكيع إلى قتيبة فقال: احذر ضرارًا فإني لا آمنه عليك، فأنزل قتيبة ذلك منهما على التحاسد. وتمارض وكيع ثم إن قتيبة دس ضرار بن سنان الضبي إلى وكيع فبايعه سرًا، فتبين لقتيبة أن الناس يبايعونه، فقال لضرار: قد كنت صدقتني، قال: إن لم أخبرك إلا يعلم، فأنزلت ذلك مني على الحسد، وقد قضيت الذي كان علي، قال: صدقت. وأرسل قتيبة إلى وكيع يدعوه فوجده رسول قتيبة قد طلى على رجله مغرةً، وعلى ساقه خرزًا وودعًا، وعنده رجلان من زهران يرقيان رجله، فقال له: أجب الأمير، قال: قد ترى ما برجلي. فرجع الرسول إلى قتيبة فأعاده إليه، قال: يقول لك: ائتني محمولًا على سرير، قال: لا أستطيع. قال قتيبة لشريك بن الصامت الباهلي أحد بني وائل - وكان على شرطته - ورجل من غني انطلقا إلى وكيع فأتياني به. فإن أبى فاضربا عنقه؛ ووجه معهما خيلا، ويقال: كان على شرطه بخراسان ورقاء بن نصر الباهلي. قال علي: قال أبو الذيال: قال ثمامة بن ناجذ العدوي: أرسل قتيبة إلى وكيع من يأتيه به، فقلت: أنا آتيك به أصلحك الله! فقال: ائتني به، فأتيت وكيعًا - وقد سبق إليه الخبر أن الخيل تأتيه - فلما رآني قال: يا ثمامة، ناد في الناس؛ فناديت: فكان أول من أتاه هريم بن أبي طحمة في ثمانية. قال: وقال الحسن بن رشيد الجوزجاني: أرسل قتيبة إلى وكيع. فقال هريم: أنا آتيك به، قال: فانطلق. قال هريم: فركبت برذوني مخافة أن يردني، فأتيت وكيعًا وقد خرج قال: وقال كليب بن خلف: أرسل قتيبة إلى وكيع شعبة بن ظهير أحد بني صخر بن نهشل، فأتاه، فقال: يا بن ظهير: لبث قليلًا تلحق الكتائب ثم دعا بسكين فقطع خرزًا كان على رجليه. ثم لبس سلاحه، وتمثل: شدوا على سرتي لا تنقلف ** يوم لهمدان ويوم للصدف وخرج وحده ونظر إليه نسوة فقلن: أبو مطرف وحده؛ فجاء هريم بن أبي طحمة في ثمانية، فيهم عميرة البريد بن ربيعة العجيفي. قال حمزة بن إبراهيم وغيره: إن وكيعًا خرج فتلقاه رجل، فقال: ممن أنت؟ قال: من بني أسد؛ قال: ما اسمك؟ قال: ضرغامة؛ قال: ابن من؟ قال: ابن ليث، قال: دونك هذه الراية. قال المفضل بن محمد الضبي: ودفع وكيع رايته إلى عقبة بن شهاب المازني؛ قال: ثم رجع إلى حديثهم، قالوا: فخرج وكيع وأمر غلمانه، فقال: اذهبوا بثقلي إلى بني العم، فقالوا: لا نعرف موضعهم، قال: انظروا رمحين مجموعين أحدهما فوق الآخر، فوقهما مخلاة، فهم بنو العم، قال: وكان في العسكر منهم خمسمائة؛ قال: فنادى وكيع في الناس، فأقبلوا أرسالا من كل وجه، فأقبل في الناس يقول: قرم إذا حمل مكروهة ** شد الشراسيف لها الحزيم وقال قوم: تمثل وكيع حين خرج: أنخن بلقمان بن عاد فجسنه ** أريني سلاحي لن يطيروا بأعزل واجتمع إلى قتيبة أهل بيته، وخواص من أصحابه وثقاته، فيهم إياس ابن بيهس بن عمرو، ابن عم قتيبة دنيا، وعبد الله بن وألان العدوي، وناس من رهطه، بني وائل. وأتاه حيان بن إياس العدوي في عشرة، فيهم عبد العزيز بن الحارث، قال: وأتاه ميسرة الجدلي - وكان شجاعًا - فقال: إن شئت أتيتك برأس وكيع، فقال: قف مكانك. وأمر قتيبة رجلا، فقال: ناد في الناس، أين بنو عامر؟ فنادى: أين بنو عامر؟ فقال محفن بن جزء الكلابي - وقد كان جفاهم: حيث وضعتهم؛ قال: ناد أذكركم الله والرحم! فنادى محفن: أنت قطعتها، قال: ناد لكم العتبي، فناداه محفن أو غيره: لا أقالنا الله إذا، فقال قتيبة: يا نفس صبرًا على ما كان من ألم ** إذ لم أجد لفضول القوم أقرانا ودعا بعمامة كانتأمه بعثت بها إليه، فاعتم بها، كان يعتم بها في الشدائد، ودعا بيرذون له مدرب، كان يتطير إليه في الزحوف، فقرب إليه ليركبه، فجعل يقمص حتى أعياه، فلما رأى ذلك عاد إلى سريره فقعد عليه وقال: دعوه؛ فإن هذا أمر يراد. وجاء حيان النبطي في العجم، فوقف وقتيبة واجد عليه، فوقف معه عبد الله بن مسلم، فقال عبد الله لحيان: احمل على هذين الطرفين، قال: لم يأن لذلك، فغضب عبد الله، وقال: ناولني قوسي، قال حيان: ليس هذا يوم قوس، فأرسل وكيع إلى حيان: أين ما وعدتني؟ فقال حيان لابنه: إذا رأيتني قد حولت قلنسوتي، ومضيت نحو عسكر وكيع. فمل بمن معك في العجم إلى. فوقف ابن حيان مع العجم، فلما حول حيان قلنسوته مالت الأعجام إلى عسكر وكيع، فكبر أصحابه، وبعث قتيبة أخاه صالحًا إلى الناس فرماه رجل من بني ضبة يقال له سليمان الزنجيرج - وهو الخرنوب، ويقال: بل رماه رجل من بلعم فأصاب هامته - فحمل إلى قتيبة ورأسه مائل، فوضع في مصلاه، فتحول قتيبة فجلس عنده ساعة، ثم تحول إلى سريره. قال: وقال أبو السري الأزدي: رمى صالحًا رجل من بني ضبة فأثقله، وطعنه زياد بن عبد الرحمن الأزدي، من بني شريك بن مالك قال: وقال أبو مخنف: حمل رجل من غنى علي الناس فرأى رجلا مجففًا فشبهه بجهم بن زحر بن قيس فطعنه، وقال: إن غنيا أهل عز ومصدق ** إذا حاربوا والناس مفتتنونا فإذا الذي طعن علج، وتهايج الناس، وأقبل عبد الرحمن بن مسلم نحوهم، فرماه أهل السوق والغوغاء، فقتلوه، وأحرق الناس موضعًا كانت فيه إبل لقتيبة ودوابه، ودنوا منه فقاتل عنه رجل من باهلة من بني وائل، فقال له قتيبة: انج بنفسك، فقال له: بئس ما جزيتك إذًا، وقد أطعمتني الجردق وألبستني النرمق قال: فدعا قتيبة بدابة، فأتى ببرذون فم يقر ليركبه، فقال: إن له لشأنًا؛ فلم يركبه. وجلس وجاء الناس حتى بلغوا الفسطاط، فخرج إياس بن بيهس وعبد الله بن وألان حين بلغ الناس الفسطاط وتركا قتيبة. وخرج عبد العزيز بن الحارث يطلب ابنه عمرًا - أو عمر - فلقيه الطائي فحذره، ووجد ابنه فأردفه. قال: وفطن قتيبة للهيثم بن المنخل وكان ممن يعين عليه، فقال: أعلمه الرماية كل يوم ** فلما اشتد ساعده رماني قال: وقتل معه إخوته عبد الرحمن وعبد الله وصالح وحصين وعبد الكريم، بنو مسلم، وقتل ابنه كثير بن قتيبة وناس من أهل بيتهن ونجا أخوه ضرار، استنقذه أخواله، وأمه غراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وقال قوم: قتل عبد الكريم بن مسلم بقزوين. وقال أبو عبيدة: قال أبو مالك: قتلوا قتيبة سنة ست وتسعين، وقتل من بني مسلم أحد عشر رجلًا فصلبهم وكيع، سبعة منهم لصلب مسلم وأربعة من بني أبنائهم: قتيبة، وعبد الرحمن، وعبد الله الفقير، وعبيد الله، وصالح، وبشار، ومحمد بنو مسلم. وكثير بن قتيبة، ومغلس بن عبد الرحمن، لم ينج من صلب مسلم غير عمرو - وكان عامل الجوزجان - وضرار، وكانت أمه الغراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة، فجاء أخواله فدفعوه حتى نحوه، ففي ذلك يقول الفرزدق: عشية ما ود ابن غرة أنه ** له من سوانا إذ دعا أبوان وضرب إياس بن عمرو - ابن أخي مسلم بن عمرو - على ترقوتة فعاش. قال: ولما غشى القوم الفسطاط قطعوا أطنابه. قال زهير: فقال جمهم ابن زحر لسعد: انزل، فحز رأسه، وقد أثخن جراحًا، فقال: أخاف أن تجول الخيل، قال: تخاف وأنا إلى جنبك! فنزل سعد فشق صوقعة الفسطاط؛ فاحتز رأسه، فقال حضين بن المنذر: وإن ابن سعد وابن زحر تعاورا ** بسيفهما رأس الهمام المتوج عشية جئنا بابن زحر وجئتم ** بأدغم مرقوم الذراعين ديزج أصم غداني كأن جبينه ** لطاخة نقس في أديم ممجمج قال: فلما قتل مسلمة يزيد بن المهلب استعمل على خراسان سعيد بن خذينبة بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص، فحبس عمال يزيد، وحبس فيهم جهم بن زحر الجعنفي، وعلى عذابه رجل من باهلة، فقيل له: هذا قاتل قتيبة، فقتله في العذاب، فلامه سعيد، فقال: أمرتني أن أستخرج منه المال فعذبته فأتى على أجله. قال: وسقطت على قتيبة يوم قتل جارية له خوارزمية، فلما قتل خرجت، فأخذها بعد ذلك يزيد بن المهلب، فهي أم خليده. قال علي: قال حمزة بن إبراهيم وأبو اليقظان: لما قتل قتيبة صعد عمارة بن جنية الرياحي المنبر فتكلم فأكثر، فقال له وكيع: دعنا من قذرك هذرك، ثم تكلم وكيع فقال: مثلي ومثل قتيبة كما قال الأول: من ينك العير ينك نياكا أراد قتيبة أن يقتلني وأنا قتال. قد جربوني ثم جربوني ** من غلوتين ومن المئين حتى إذا شبت وشيبوني ** خلوا عناني وتنكبوني أنا أبو مطرف قال: وأخبرنا أبو معاوية، عن طلحة بن إياس، قال: قال وكيع يوم قتل قتيبة: أنا ابن خندف تنميني قبائلها ** للصالحات وعمي قيس عيلانا ثم أخذ بلحيته ثم قال: شيخ إذا حمل مكروهة ** شد الشراسف لها والحزيم والله لأقتلن، ثم لأقتلن، ولأصلبن، ثم لأصلبن؛ إني والغ دمًا، إن مر زبانكم هذا ابن الزانية قد أغلى عليكم أسعاركم، والله ليصيرن القفيز في السوق غدًا بأربعة أو لأصلبنه، صلوا على نبيكم. ثم نزل. قال علي: وأخبرنا المفضل بن محمد وشيخ من بني تميم، ومسلمة بن محارب، قالوا: طلب وكيع رأس قتيبة وخاتمه، فقيل له: إن الأزد أخذته فخرج وكيع وهو يقول: ده درين، سعد القين: في أي يومي من الموت أفر ** أيوم لم يقدر أم يوم قدر لا خير في أحزم جياد القرع ** في أي يوم لم أرع ولم أرع والله الذي لا إله غيره لا أبرح حتى أوتي بالرأس، أو يذهب برأسي مع رأس قتيبة. وجاء بخشب فقال: إن هذه الخيل لا بد لها من فرسان - يتهدد بالصلب - فقال له حضين: يا أبا مطرف، تؤتي به فاسكن وأتى حضين الأزد فقال: أحمقى أنتم! بايعناه وأعطيناه المقادة، وعرض نفسه، ثم تأخذون الرأس! أخرجوه لعنه الله من رأس! فجاءوا بالرأس فقالوا: يا أبا مطرف، إن هذا هو احتزه، فاشكمه؛ قال: نعم، فأعطاه ثلاثة آلاف، وبعث بالرأس مع سليط بن عبد الكريم الحنفي ورجال من القبائل وعليهم سلط، ولم يبعث من بني تميم أحدًا. قال: قال: أبو الذيال: كان فيمن ذهب بالرأس أنيف بن حسان أحد بني عدي. قال أبو مخنف: وفي وكيع لحيان النبطي بما كان أعطاه. قال: قال خريم بن أبي يحيى، عن أشياخ من قيس، قالوا: قال سليمان للهذيل ابن زفر حين وضع رأس قتيبة ورءوس أهل بيته بين يديه: هل ساءت هذا يا هذيل؟ قال: لو ساءني ساء قومًا كثيرًا؛ فكلمه خريم بن عمرو والقعتاع ابن خليد، فقال: ائذن في دفن رءوسهم، قال: نعم، وما أردت هذا كله. قال علي: قال أبو عبد الله السلمي، عن يزيد ني سويد، قال: قال رجل من عجم أهل خراسان: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة والله لو كان قتيبة من فمات فينا جعلناه في تابوت فكنا نستفتح به إذا غزونا، وما صنع أحد قط بخراسان ما صنع قتيبة، إلا أنه قد غدر، وذلك أن الحجاج كتب إليه أن اختلهم واقتلهم في الله. قال: وقال الحسن بن رشيد: قال الإصبهبذ لرجل: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة ويزيد وهما سيدا العرب! قال: فأيهما كان أعظم عندكم وأهيب؟ قال: لو كان قتيبة بالمغرب بأقصى جحر به في الأرض مكبلا بالحديد، ويزيد معنا في بلادنا وال علينا لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم من يزيد. قال علي: قال المفضل بن محمد الضبي جاء رجل إلى قتيبة يوم قتل وهو جالس، فقال: اليوم يقتل ملك العرب - وكان قتيبة عندهم ملك العرب - فقال له: اجلس. قال: وقال كليب بن خلف: حدثني رجل ممن كان مع وكيع حين قتل قتيبة، قال: أمر وكيع رجلا فنادى: لا يسلبن قتيل، فمر ابن عبيد الهجري على أبي الحجر الباهلي فسلبه، فبلغ وكيعًا فضرب عنقه. قال أبو عبيدة: قال عبد الله بن عمر، من تيم اللات: ركب وكيع ذات يوم، فأتوه بسكران، فأمر به فقتل، فقيل له: ليس عليه القتل، إنما عليه الحد، قال: لا أعاقب بالسياط، ولكني أعاقب بالسيف، فقال نهار بن توسعة: وكنا نبكي من الباهلي ** فهذا الغداني شر وشر وقال أيضًا: ولما رأينا الباهلي ابن مسلم ** تجبر عمناه عضبًا مهندا وقال الفرزدق يذكر وقعة وكيع: ومنا الذي سل السيوف وشامها ** عشية باب القصر من فرغان عشية لم تمنع بنيها قبيلة ** بعز عراقي ولا بيمان عشية ما ود ابن غراء أنه ** له من سوانا إذ دعا أبوان عشية لم تستر هوازن عامر ** ولا غطفان عورة ابن دخان عشية ود الناس أنهم لنا ** عبيد إذ الجمعان يضطربان رأوا جبلا يعلو الجبال إذا التقت ** رءوس كبيريهن ينتطحان رجال على الإسلام إذ ما تجالدوا ** على الدين حتى شاع كل مكان وحتى دعا في سور كل مدينة ** مناد ينادي فوقها بأذان سيجزى وكيعًا بالجماعة إذ دعا ** إليها بسيف صارم وبنان جزاء بأعمال الرجال كما جرى ** ببدر وباليرموك فئ جنان وقال الفرزدق في ذلك أيضًا: أتاني ورحلي بالمدينة وقعة ** لآل تميم أقعدت كل قائم وقال علي: أخبرنا خريم بن أبي يحيى، عن بعض عمومته قال: أخبرني شيوخ من غسان قالوا: إنا لبثنية العقاب إذ نحن برجل يشبه الفيوج معه عصًا وجراب، قلنا: من أين أقبلت؟ قال: من خراسان؛ قلنا: فهل كان بها من خبر؟ قال: نعم، قتل قتيبة بن مسلم أمس، فتعجبنا لقوله، فلما رأى إنكارنا ذلك قال: أين ترونني الليلة من إفريقية؟ ومضى واتبعناه على خيولنا، فإذا شيء يسبق الطرف. وقال الطرماح: لولا فوارس مذحج ابنه مذحج ** والأزد زعزع واستبيح العسكر وتقطعت بهم البلاد ولم يوب ** منهم إلى أهل العراق مخبر واستضلعت عقد الجماعة وازدري ** أمر الخليفة واستحل المنكر قوم هم قتلوا قتيبة عنوة ** والخيل جانحة عليها العثير بالمرج مرج الصين حيث تبينت ** مضر العراق من الأعز الأكبر! إذ حالفت جزعًا ربيعة كلها ** وتفرقت مضر ومن يتمضر وتقدمت أزد العراق ومذحج ** للموت يجمعها أبوها الأكبر قحطان تضرب رأس كل مدحج ** تحمي بصائرهن إذ لا تبصر والأزد تعلم أن تحت لوائها ** ملكًا قراسية وموت أحمر فبعزنا نصر النبي محمد ** وبنا تثبت في دمشق المنبر وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلي: كأن أبا حفص قتيبة لم يسر ** بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا ولم تخفق الرايات والقوم حوله ** وقوف ولم يشهد له الناس عسكرا دعته المنايا فاستجاب لربه ** وراح إلى الجنات عفا مطهرا فما رزئ الإسلام بعد محمد ** بمثل أبي حفص فبكيه عبهرا وقال الأصم بن الحجاج يرثي قتيبة: ألم يأن للأحياء أن يعرفوا لنا ** بلى نحن أولى الناس بالمجد والفخر نقود تميمًا والموالي ومذحجا ** وأزد وعبد القيس والحي من بكر نقتل من شئنا بعزة ملكنا ** ونجبر من شئنا على الخسف والقسر سليمان كم من عسكر قد حوت لكم ** أسنتنا والمقربات بن تجري وكم من حصون قد أبحنا منيعة ** ومن بلد سهل ومن جبل وعر ومن بلدة لم يغزها الناس قبلنا ** غزونا نقود الخيل شهرًا إلى شهر مرن على الغزو الجرور ووقرت ** على النفر حتى ما تهال من النفر وحتى لو أن النار شبت وأكرهت ** على النار خاضت في الوغى لهب الجمر تلاعب أطراف الأسنة والقنا ** بلباتها والموت في لجج خضر بهن أبحنا كل مدينة ** من الشرك حتى جاوزت مطلع الفجر ولو لم تعجلنا المنايا لجاوزت ** بنار دم ذي القرنين ذا الصخر والقطر ولكن آجالًا قضين ومدة ** تناهى إليها الطيبون بنو عمرو وفي هذه السنة عزل سليمان بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري عن مكة، وولاها طلحة بن داود الحضرمي. وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم الصائفة، ففتح حصنًا يقال له حصن عوف. وفي هذه السنة توفي قرة بن شريك العبسي وهو أمير مصر في صفر في قول بعض أهل السير. وقال بعضهم: كان هلاك قرة في حياة الوليد في سنة خمس وتسعين في الشهر الذي هلك فيه الحجاج. وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، كذلك حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي وغيره. وكان الأمير على المدينة في هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب، وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن وعلى البصرة سفيان بن عبد الله الكندي من قبل يزيد بن المهلب، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبي موسى، وعلى حرب خراسان وكيع بن أبي سود. ثم دخلت سنة سبع وتسعين ذكر الخبر عما كان في هذه السنة من الأحداث فمن ذلك ما كان من تجهيز سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية واستعماله ابنه داود بن سليمان على الصائفة، فافتتح حصن المرأة. وفيها غزا - فيما ذكر الواقدي - مسلمة بن عبد الملك أرض الروم. ففتح الحصن الذي كان فتحه الوضاح صاحب الوضاحية. وفيها غزا عمر بن هبيرة الفزاري في البحر أرض الروم، فشتا بها وفيها قتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بالأندلس، وقدم برأسه على سليمان حبيب بن أبي عبيد الفهري. ولاية يزيد بن المهلب على خراسان وفيها ولى سليمان بن عبد الملك يزيد بن المهلب خراسان. ذكر الخبر عن سبب ولايته خراسان وكان السبب في ذلك أن سليمان بن عبد الملك لما أفضت الخلافة إليه ولى يزيد بن المهلب حرب العراق والصلاة وخراجها. فذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن يزيد نظر لما ولاه سليمان ما ولاه من أمر العراق في أمر نفسه، فقال: إن العراق قد أخر بها الحجاج، وأنا اليوم رجاء أهل العراق، ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذبتهم عليه صرت مثل الحجاج أدخل على الناس الحرب، وأعيد عليهم تلك السجون التي قد عافاهم الله منها، ومتى لم آت سليمان بمثل ما جاء به الحجاج لم يقبل مني فأتى يزيد سليمان فقال: أدلك على رجل بصير بالخراج توليه إياه، فتكون أنت تأخذه به؟ صالح بن عبد الرحمن، مولى بني تميم فقال له: قد قبلنا رأيك، فأقبل يزيد إلى العراق. وحدثني عمر بن شيبة، قال: قال علي: كان صالح قدم العراق قبل قدوم يزيد، فنزل واسطًا. قال علي: فقال عباد بن أيوب: لما قدم يزيد خرج الناي يتلقونه، فقيل لصالح: هذا يزيد، وقد خرج الناس يتلقونه، فلم يخرج حتى قرب يزيد من المدينة، فخرج صالح، عليه دراعه ودبوسية صفراء صغيرة، بين يديه أربعمائة من أهل الشام، فلقى يزيد فسايره فلما دخل المدينة قال له صالح: قد فرغت لك هذه الديار - فأشار له إلى دار - فنزل يزيد، ومضى صالح إلى منزله، قال: وضيق صالح على يزيد فلم يملكه شيئًا، واتخذ يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها، فأخذها صالح، فقال له يزيد: اكتب ثمنها على، واشتري متاعًا كثيرًا، وصك صكاكًا إلى صالح لباعتها منه، فلم ينفذه، فرجعوا إلى يزيد، فغضب وقال هذا عملي بنفسي، فلم يلبث أن جاء صالح، فأوسع له يزيد، فجلس وقال ليزيد: ما هذه الصكاك؟ الخراج لا يقوم لها، قد أنفذت لك منذ أيام صكًا بمائة ألف، وعجلت لك أرزاقك، وسألت مالًا للجند، فأعطيتك، فهذا لا يقوم له شيء، ولا يرضى أمير المؤمنين به، وتؤخذ به! فقال له يزيد: يا أبا الوليد، أجز هذه الصكاك هذه المرة، وضاحكه. قال: فإني أجيزها، فلا تكثرن على، قال: لا قال علي بن محمد: حدثنا مسلمة بن محارب وأبو العلاء التيمي والطفيل بن مرداس العمى وأبو حفص الأزدي عمن حدثه عن جهم ابن زحر بن قيس، والحسن بن رشيد عن سليمان بن كثير، وأبو الحسن الخراساني عن الكرماني، وعامر بن حفص وأبو مخنف عن عثمان ابن عمرو بن محصن الأزددي وزهير بن هنيد وغيرهم - وفي خبر بعضهم ما ليس في خبر بعض، فألفت ذلك - أن سليمان بن عبد الملك ولى يزيد ابن المهلب العراق ولم يوله خراسان، فقال سليمان بن عبد الملك لعبد الملك ابن المهلب وهو بالشام ويزيد بالعراق: كيف أنت يا عبد الملك إن وليتك خراسان؟ قال: يجدني أمير المؤمنين حيث يحب، ثم أعرض سليمان عن ذلك قال: وكتب عبد الملك بن المهلب إلى جرير بن يزيد الجهضمي وإلى رجال من خاصته: إن أمير المؤمنين عرض على ولاية خراسان فبلغ الخبر يزيد ين المهلب، وقد ضجر بالعراق، وقد ضيق عليه صالح ابن عبد الرحمن، فليس يصل معه إلى شيء، فدعا عبد الله بن الأهتم، فقال: إني أريدك لأمر قد أهمني، فأحب أن تكفينيه، قال: مرني بما أحببت، قال: أنا فيما ترى من الضيق، وقد أضجرني ذلك. وخراسان شاغرة برجلها، وقد بلغني أن أمير المؤمنين ذكرها لعبد الملك بن المهلب، فهل من حيلة؟ قال: نعم، سرحني إلى أمير المؤمنين، فإني أرجو أن آتيك بعهدك عليها، قال: فاكتم ما أخبرتك به. وكتب إلى سليمان كتابين: أحدهما يذكر له فيه أمر العراق. وأثنى فيه علي ابن الأهتم وذكر له علمه بها، ووجه ابن الأهتم وحمله على البريد، وأعطاه ثلاثين ألفًا. فسار سبعًا، فقدم بكتاب يزيد على سليمان، فدخل عليه وهو يتغذى، فجلس ناحية، فأتى بدجاجتين فأكلهما قال: فدخل ابن الأهتم فقال له سليمان: لك مجلس غير هذا تعودا إليه. ثم دعا به بعد ثالثة، فقال له سليمان: إن يزيد بن المهلب كتب إلي يذكر علمك بالعراق وبخراسان، ويثني عليك، فكيف علمك بها؟ قال: أنا أعلم الناس بها؛ بها ولدت، وبها نشأت، فلي بها وبأصلها خبر وعلم. قال: ما أحوج أمير المؤمنين إلى مثلك يشاوره في أمرها! فأشر على برجل أوليه خراسان؛ قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يريد يولي، فإن ذكر منهم أحدًا أخبرته برأيي فيه، هل يصلح لها أو لا؛ قال: فسمى سليمان رجلًا من قريش؛ قال: يا أمير المؤمنين، ليس من رجال خراسان، قال: فعبد الملك بن المهلب، قال: لا، حتى عدد رجالًا، فكان في آخر من ذكر وكيع بن أبي سود، فقال: يا أمير المؤمنين، وكيع رجل شجاع صارم بئيس مقدام، وليس بصاحبها مع هذا، إنه لم يقد ثلثمائة قط فرأى لأحد عليه طاعة. قال: صدقت ويحك، فمن لها! قال: رجل أعلمه لم تسمه، قال: فمن هو؟ قال لا أبوح باسمه إلا أن يضمن لي أمير المؤمنين ستر ذلك، وأن يجيرني منه إن علم؛ قال: نعم، سمه من هو؟ قال: يزيد بن المهلب؛ قال: ذاك بالعراق، والمقام بها أحب إليه من المقام بخراسان، قال: قد علمت يا أمير المؤمنين، ولكن تكرهه على ذلك، فيستخلف على العراق رجلا ويسير؛ قال: أصبت الرأي فكتب عهد يزيد على خراسان، وكتب إليه كتابًا: إن ابن الأهتم كما ذكرت في عقله ودينه وفضله ورأيه. ودفع الكتاب وعهد يزيد إلى ابن الأهتم، فسار سبعًا، فقدم على يزيد فقال له: ما وراءك؟ قال: فأعطاه الكتاب، فقال: ويحك! أعندك خير؟ فأعطاه العهد، فأمر يزيد بالجهاز للمسير من ساعته، ودعا ابنه مخلدًا فقدمه إلى خراسان، قال: فسار من يومه، ثم سار يزيد واستخلف على واسط الجراح بن عبد الله الحكمي، واستعمل على البصرة عبد الله بن هلال الكلابي، وصير مروان ابن المهلب على أمواله وأموره بالبصرة، وكان أوثق إخوته عنده، ولمروان يقول أبو البهاء الإبادي: رأيت أبا قبيصة كل يوم ** على العلات أكرمهم طباعا إذا ما هم أبوا أن يستطيعوا ** جسيم الأمر يحمل ما استطاعا وإن ضاقت صدورهم بأمر ** فضلتهم بذاك ندى وباعا وأما أبو عبيدة معمر بن المثنى فإنه قال في ذلك: حدثني أبو مالك أن وكيع بن أبي سود بعث بطاعته وبرأس قتيبة إلى سليمان، فوقع ذلك من سليمان كل موقع، فجعل يزيد بن المهلب لعبد الله بن الأهتم مائة ألف على أن ينقر وكيعًا عنده، فقال: أصلح الله أمير المؤمنين! والله ما أحد أوجب شكرًا، ولا أعظم عندي يدًا من وكيع، لقد أدرك بثأري، وشفاني من عدوى، ولكن أمير المؤمنين أعظم وأوجب على حقًا، وإن النصيحة تلزمني لأمير المؤمنين؛ إن وكيعًا لم يجتمع له مائة عنان قط إلا حدث نفسه بغدرة؛ خامل في الجماعة، نابه في الفتنة، فقال: ما هو إذًا ممن نستعين به - وكانت قيس تزعم أن قتيبة لم يخلع - فاستعمل سليمان يزيد ابن المهلب على حرب العراق، وأمره إن أقامت قيس البينة أن قتيبة لم يخلع فينزع يدًا من طاعة، أن يقيد وكيعًا به. فغدر يزيد، فلم يعط عبد الله ابن الأهتم ما كان ضمن له، ووجه ابنه مخلد بن يزيد إلى وكيع، رجع الحديث إلى حديث علي. قال علي: أخبرنا أبو مخنف عن عثمان بن عمرو بن محصن، وأبو الحسن الخراساني عن الكرماني، قال: وجه يزيد ابنه مخلدًا إلى خراسان فقدم مخلد عمرو بن عبد الله بن سنان العتكي، ثم الصنابحي حين دنا من مرو، فلما قدمها أرسل إلى وكيع أن القني، فأبى، فأرسل إليه عمرو، يا أعرابي أحمق جلفًا جافيًا، وتثاقل وكيع عن الخروج، فأخرجه عمرو الأزدي، فلما بلغوا مخلدًا نزل الناس كلهم غير وكيع ومحمد بن حمران السعدي وعباد بن لقيط أحد بني قيس بن ثعلبة، فأنزلوهم، فلما قدم مرو حبس وكيعًا فعذبه، وأخذ أصحابه فعذبهم قبل قدوم أبيه. قال علي عن كليب بن خلف، قال: أخبرنا إدريس بن حنظلة، قال: لما قدم مخلد خراسان حبسني، فجاءني ابن الأهتم فقال لي: أتريد أن تنجو؟ قلت: نعم، قال: أخرج الكتب التي كتبها القعقاع بن خليد العبسي وخريم بن عمرو المري إلى قتيبة في خلع سليمان، فقلت له: يا بن الأهتم، إياي تخدع عن ديني! قال: فدعا بطومار وقال: إنك أحمق، فكتب كتبًا عن لسان القعقاع ورجال من قيس إلى قتيبة، أن الوليد بن عبد الملك قد مات، وسليمان باعث هذا المزوني على خراسان فاخلعه. فقلت: يا بن الأهتم تهلك والله نفسك! والله لئن دخلت عليه لأعلمنه أنك كتبتها. وفي هذه السنة شخص يزيد بن المهلب إلى خراسان أميرًا عليها، فذكر علي بن محمد، عن أبي السري المروزي الأزدي، عن عمه، قال: ولى وكيع سنة سبع وتسعين. قال علي: فذكر المفضل بن محمد عن أبيه، قال: أدنى يزيد أهل الشام وقومًا من أهل خراسان، فقال نهار بن توسعة: وما كنا نؤمل من أمير ** كما كنا نؤمل من يزيد فأخطأ ظننا فيه وقدما ** زهدنا في معاشرة الزهيد إذا لم يعطنا نصفًا أمير ** مشينا نحوه مثل الأسود فمهلًا يا يزيد أنب إلينا ** ودعنا من معاشرة العبيد نجيئ فلا نرى إلا صدودا ** على أنا نسلم من بعيد ونرجع خائبين بلا نوال ** فما بال التجهم والصدود! قال علي: أخبرنا زياد بن الربيع، عن غالب القطان، قال: رأيت عمر بن عبد العزيز واقفًا بعرفات من خلافة سليمان، وقد حج سليمان عامئذ وهو يقول لعبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد: العجب لأمير المؤمنين، استعمل رجلا على أفضل ثغر للمسلمين! فقد بلغني عمن يقدم من التجار من ذلك الوجه أنه يعطي الجارية من جواريه مثل سهم ألف رجل. أما والله ما الله أراد بولايته - فعرفت أنه يعني يزيد والجهنية - فقلت: يشكر بلاءهم أيام الأزارقة. قال: ووصل يزيد عبد الملك بن سلام السلولي فقال: ما زال سيبك يا يزيد بحوبتي ** حتى ارتويت وجودكم لا ينكر أنت الربيع إذا تكون خصاصة ** عاش السقيم به وعاش المقتر عمت سحابته جميع بلادكم ** فرووا وأغدقهم سحاب ممطر فسقاك ربك حيث كنت مخيلةً ** ريا سحائبها تروح وتبكر وفي هذه السنة حج بالناس سليمان بن عبد الملك، حدثني بذلك أحمد ابن ثابت عمن ذكرهم، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وفيها عزل سليمان طلحة بن داود الحضرمي عن مكة، قال الواقدي: حدثني إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي مليكة. قال: لما صدر سليمان ابن عبد الملك من الحج عزل طلحة بن داود الحضرمي عن مكة، وكان عمله عليها ستتة أشهر، وولى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد ابن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها إلا خراسان فإن عاملها الحرب والخراج والصلاة يزيد بن المهلب. وكان خليفته على الكوفة - فيما قيل - حرملة بن عمير اللخمي أشهرًا، ثم عزله وولاها بشير بن حسان النهدي. ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث خبر محاصرة مسلمة بن عبد الملك القسطنطينية فمن ذلك ما كان من توجيه سليمان بن عبد الملك أخاه مسلمة بن عبد الملك إلى القسطنطينية، وأمره أن يقيم عليها حتى يفتحها أو يأتيه، فشتا بها وصاف. فذكر محمد بن عمر أن ثور بن يزيد حدثه عن سليمان بن موسى، قال: لما دنا مسلمة من قسطنطينية أمر كل فارس أن يحمل على عجز فرسه مديين من طعام حتى يأتي به القسطنطينية، فأمر بالطعام فألقى فيه ناحية مثل الجبال، ثم قال للمسلمين لا تأكلوا منه شيئًا، أغيروا في أرضهم، وازدرعوا وعمل بيوتًا من خشب، فشتا فيها، وزرع الناس، ومكث ذلك الطعام في الصحراء لا يكنه شيء، والناس يأكلون مما أصابوا من الغارات ثم أكلوا من الزرع، فأقلم مسلمة بالقسطنطينية قاهرًا لأهلها، معه وجوه أهل الشام: خالد بن معدان وعبد الله بن أبي زكرياء الخزاعي، ومجاهد بن جبسر؛ حتى آتاه موت سليمان فقال القائل: تحمل مدييها ومديي مسلمة حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: فلما ولى سليمان غزا الروم فنزل دابق، وقدم مسلمة فهابه الروم، فشخص إليون من أرمينية، فقال لمسلمة: ابعث لي رجلا يكلمني، فبعث ابن هبيرة، فقال له ابن هبيرة: ما تعدون الأحمق فيكم؟ قال: الذي يملأ بطنه من كل شيء يجده، فقال له ابن هبيرة: إنا أصحاب دين، ومن ديننا طاعة أمرائنا تعجب؛ قال: صدقت كنا وأنتم نقاتل على الدين ونغضب له، فأما اليوم فإنا نقاتل على الغلبة والملك، نعطيك عن كل رأس دينارًا. فرجع ابن هبيرة إلى الروم من غده، وقال: أبا أن يرضى، أتيته وقد تغدى وملأ بطنه ونام، فانتبه وقد غلب عليه البلغم، فلم يدر ما قلت. وقالت البطارقة لإليون: إن صرفت عنا مسلمة ملكناك. فوثقوا له فأتى مسلمة فقال: قد علم القوم أنك لا تصدقهم القتال، وأنك تطاولهم ما دام الطعام عندك، ولو أحرقت الطعام أعطوا بأيديهم فأحرقه، فقوى العدو وضاق المسلمون حتى كادوا يهلكون، فكانوا على ذلك حتى مات سليمان. قال: وكان سليمان بن عبد الملك لما نزل دابق أعطى الله عهدًا ألا ينصرف حتى يدخل الجيش الذي وجهه إلى الروم القسطنطينية. قال: وهلك ملك الروم، فأتاه إليون فأخبره، وضمن له أن يدفع إليه أرض الروم، فوجه معه مسلمة حتى نزل بها، وجمع كل طعام حولها وحصر أهلها وأتاهم إليون فملكوه فكتب إلى مسلمة يخبره بالذي كان، ويسأله أن يدخل من الطعام ما يعيش به القوم، ويصدقونه بأن أمره وأمر مسلمة واحد، وأنهم في أمان من السباء والخروج من بلادهم وأن يأذن ليلة في حمل الطعام، وقد هيأ إليون السفن والرجال، فأذن له، فما بقى في تلك الحظائر إلا مالا يذكر؛ حمل في ليلة، وأصبح إليون محاربًا، وقد خدعه خديعة لو كان امرأة لعيب بها، فلقى الجند ما لم يلق جيش؛ حتى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق، وكل شيء غير التراب، وسليمان مقيم بدابق، ونزل الشتاء فلم يقدر يمدهم حتى هلك سليمان. مبايعة سليمان لابنه أيوب وليا للعهد وفي هذه السنة بايع سليمان بن عبد الملك لابنه أيوب بن سليمان وجعله ولي عهده، فحدثني عمر بن شبة، عن علي بن محمد، قال: كان عبد الملك أخذ على الوليد وسليمان أن يبايعا لابن عاتكة ولمروان بن عبد الملك من بعده، قال: فحدثني طارق بن المبارك قال: مات مروان بن عبد الملك في خلافة سليمان منصرفة من مكة، فبايع سليمان حين مات مروان لأيوب، وأمسك عن يزيد وتربص به، ورجا أن يهلك، فهلك أيوب وهو ولي عهده. وفي هذه السنة فتحت مدينة الصقالبة، قال محمد بن عمر: أغارت برجان في سنة ثمان وتسعين على مسلمة بن عبد الملك وهو في قلة من الناس، فأمده سليمان بن عبد الملك بمسعدة - أو عمرو بن قيس - في جمع فمكرت بهم الصقالبة، ثم هزمهم الله بعد أن قتلوا شراحيل بن عبد ابن عبدة. وفي هذه السنة - فيما زعم الواقدي - غزا الوليد بن هشام وعمرو بن قيس، فأصيب ناس من أهل إنطاكية، وأصاب الوليد ناسًا من ضواحي الروم وأسر منهم بشرًا كثيرًا. غزو جرجان وطبرستان وفي هذه السنة غزا يزيد بن المهلب جرجان وطبرستان، فذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن يزيد بن المهلب لما قدم خراسان أقام ثلاثة أشهر أو أربعة، ثم أقبل إلى دهستان وجرجان، وبعث ابنه مخلدا على خراسان، وجاء حتى نزل بدهستان، وكان أهلها طائفة من الترك، فأقام عليها، وحاصر أهلها معه أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الشام ووجوه من أهل خراسان والري، وهو في مائة ألف مقاتل سوى الموالي والمماليك والمتطوعين، فكانوا يخرجون فيقاتلون الناس، فلا يلبثهم الناس أن يهزموهم فيدخلون حصنهم، ثم يخرجون أحياناُ فيقاتلون فيشتد قتالهم وكان جهم وجمال ابنا زحر من يزيد بمكان، وكان يكرمهما، وكان محمد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفى له لسان وبأس، غير أنه كان يفسد نفسه بالشراب، وكان لا يكثر غثيان يزيد وأهل بيته، وكأنه أيضًا حجزه عن ذلك ما رأى من حسن أثرهم على ابني زحر جهم وجمال. وكان إذا نادى المنادي: يا خيل الله اركبي وأبشري كان أول فارس من أهل العسكر يبدر إلى موقف البأس عند الروع محمد بن عبد الرحمن ب أبي سبرة، فنودي ذات يوم في الناس، فبدر الناس ابن أبي سبرة، فإنه لواقف على تل إذ مر به عثمان بن المفضل، فقال له: يا بن أبي سبرة، ما قدرت على أن أسبقك إلى الموقف قط، فقال: وما يغني ذلك عني، وأنتم ترشحون غلمان مذحج، وتجهلون حق ذوي الأسنان والتجارب والبلاء! فقال: أما إنك لو تريد ما قبلنا لم نعدل عنك ما أنت له أهل. قال: وخرج الناس فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فحمل محمد بن أبي سبرة على تركي قد صد الناس عنه، فاختلفا ضربتين، فثبت سيف التركي في بيضة ابن أبي سبرة، وضربه ابن أبي سبرة فقتله، ثم أقبل وسيفه في يده يقطر دمًا، وسيف التركي في بيضته، فنظر الناس إلى أحسن منظر رأوه من فارس، ونظر يزيد إلى ائتلاق السيفين والبيضة والسلاح فقال: من هذا؟ فقالوا: ابن أبي سبرة، فقال: لله أبوه! أي رجل هو لولا إسرافه على نفسه! وخرج يزيد بعد ذلك يومًا وهو يرتاد مكانًا يدخل منه على القوم، فلم يشعر بشيء حتى هجم عليه جماعة من الترك - وكان معه وجوه الناس وفرسانهم، وكان في نحو من أربعمائة، والعدو في نحو من أربعة آلاف فقاتلهم ساعة، ثم قالوا ليزيد: أيها الأمير، انصرف ونحن نقاتل عنك، فأبى أن يفعل، وعشي القتال يومئذ بنفسه، وكان كأحدهم، وقاتل ابن أبي سبرة وابنا زحر والحجاج بن جارية الخثعمي وجل أصحابه فأحسنوا القتال، حتى إذا أرادوا الانصراف جعل الحجاج بن جارية عن الساقة، فكان يقاتل من وراءه حتى انتهى إلى الماء، وقد كانوا عطشوا فشربوا، وانصرف عنهم العدو، ولم يظفروا منهم بشيء، فقال سفيان ابن صفوان الخثعمي: لولا ابن جارية الأغر جبينة ** لسقيت كأسًا مرة المتجرع وحماك في فرسانه وخيوله ** حتى وردت الماء غير متعتع ثم إنه ألح عليها وأنزل الجنود من كل جانب حولها، وقطع عنهم المواد، فلما جهدوا، وعجزوا عن قتال المسلمين، واشتد عليهم الحصار والبلاء. وبعث صول دهقان إلى يزيد: أني أصالحك على أن تؤمنني على نفسي وأهل بيتي ومالي، وأدفع إليك المدينة وما فيها وأهلها. فصالحه، وقبل منه، ووفى له، ودخل المدينة فأخذ ما كان فيها من الموال والكنوز ومن السبي شيئًا لا يحصى، وقتل أربعة عشر ألف تركي صبرًا، وكتب بذلك إلى سليمان بن عبد الملك. ثم خرج حتى أتى جرجان، وقد كانوا يصالحون أهل الكوفة على مائة ألف، ومائتي ألف أحيانًا، وثلثمائة ألف، وصالحوا عليها، فلما أتاهم يزيد استقبلوه بالصلح، وهابوه وزادوه. واستخلف عليهم رجالًا من الأزد يقال له: أسد بن عبد الله، ودخل يزيد إلى الإصبهبذ في طبرستان فكان معه الفعلة يقطعون الشجر، ويصلحون الطرق، حتى انتهوا إليه، فنزل به فحصره وغلب على أرضه، وأخذ الإصهبذ يعرض على يزيد الصلح ويريده على ما كان يؤخذ منه، فيأبى رجالًا افتتاحها. فبعث ذات يوم أخاه أبا عيينة في أهل المصرين، فأصعد في الجبل إليهم، وقذ بعث الإصبهبذ إلى الديلم، فاستجاش بهم، فاقتتلوا. فحازهم المسلمون ساعة وكشفوهم، وخرج رأس الديلم يسأل المبارزة، فخرج إليه ابن أبي سبرة فقتله، فكانت هزيمتهم حتى انتهى المسلمون إلى فم الشعب؛ فذهبوا ليصعدوا فيه، وأشرف عليهم العدو يرشقونه بالنشاب، يرمونه بالحجارة، فانهزم الناس من فم الشعب من غير كبير قتال ولا قوة من عدوهم على إتباعهم وطلبهم، وأقبلوا يركب بعضهم بعضًا، حتى أخذوا يتساقطون في اللهوب، ويتدهدى الرجل من رأس الجبل حتى نزلوا إلى عسكر يزيد لا يعبئون بالشر شيئًا. وأقام يزيد بمكانه على حاله، وأقبل الإصبهبذ يكاتب أهل جرجان ويسألهم أن يثبوا بأصحاب يزيد، وأن يقطعوا عليه مادته والطرق فيما بينه وبين العرب، ويعدهم أن يكافئهم على ذلك، فوثبوا بمن كان يزيد خلف من المسلمين، فقتلوا منهم من قدروا عليه، واجتمع بقيتهم فتحصنوا من جانب، فلم يزالوا فيه حتى خرج إليهم يزيد، وأقام يزيد على الإصبهبذ في أرضه حتى صالحه سبعمائة ألف درهم وأربعمائة ألف نقدًا ومائتي ألف وأربعمائة حمار موقرة زعفرانًا، وأربعمائة رجل، على رأس كل رجل برنس، على البرنس طيلسان ولجام من فضة وسرقة من حرير، وقد كانوا صالحوا قبل ذلك على مائتي ألف درهم، ثم خرج منها يزيد وأصحابه كأنهم فل، ولولا ما صنع أهل جرجان لم يخرج من طبرستان حتى يفتحها. وزاما غير أبي مخنف، قال في أمر يزيد وأمر أهل جرجان ما حدثني أحمد بن زهير، علي بن محمد، عن كليب بن خلف وغيره؛ أن سعيد بن العاص صالح أهل جرجران، ثم امتنعوا وكفروا، فلم يأت جرجان بعد سعيد أحد، ومنعوا ذلك الطريق، فلم يكن يسلك طريق خراسان من ناحيته أحد إلا وعلى وجل وخوف من أهل جرجان؛ كان الطريق إلى خراسان من فارس إلى كرمان، فأول من صير الطريق من قومس قتيبة بن مسلم حين ولي خراسان. ثم غزا مصقلة خراسان أيام معاوية في عشرة آلاف، فأصيب وجنده بالرويان، وهي متاخمة طبرستان فهلكوا في واد من أوديتها، أخذ العدو عليهم بضايقه، فقتلوا جميعًا، فهو يسمي وادي مصقلة. قال: وكان يضرب به المثل؛ حتى يرجع مصقلة من طبرستان، قال علي، عن كليب بن خلف العمي، عن طفيل بن مرداس العمي وإدريس بن حنظلة: إن سعيد بن العاص صالح أهل جرجان، فكانوا يجيئون أحيانًا مائة ألف، ويقولون: هذا صلحنا، وأحيانًا مائتي ألف، وأحيانًا ثلثمائة ألف؛ وكانوا ربما أعطوا ذلك، وربما منعوه، ثم امتنعوا وكفروا فلم يعطوا خراجًا، حتى أتاهم يزيد بن المهلب فلم يعازه أحد حين قدمها، فلما صالح صول وفتح البحيرة ودهستان صالح أهل جرجان على صلح سعيد بن العاص. حدثني أحمد، عن علي، عن كليب بن خلف العمي، عن طفيل بن مرداس، وبشر بن عيسى عن أبي صفوان، قال علي: وحدثني أبة حفص الأردي عن سليمان بن كثير، وغيرهم؛ أن صولًا التركي كان ينزل دهستان والبحيرة - جزيرة في البحر بينها وبين دهستان خمسة فراسخ، وهما من جرجان مما يلي خوارزم - فكان صول يغير على فيروز بن قول، مرزبان جرجان، وبينهم خمسة وعشرون فرسخًا، فيصيب من أطرافهم ثم يرجع إلى البحيرة ودهستان، فوقع بين فيروز وبين ابن عم له يقال له المرزبان منازعة، فاعتزله المرزبان، فنزل البياسان فخاف فيروز أن يغير عليه الترك، فخرج إلى يزيد بن المهلب بخراسان، وأخذ صول جرجان، فلما قدم على يزيد بن المهلب قال له: ما أقدمك؟ قال: خفت صولًا، فهربت منه، قال له يزيد: هل من حيلة لقتاله؟ قال: نعم، شيئ واحد، إن ظفرت به قتلته، او أعطي بيده، قال: ماهو؟ قال: إن خرج من جرجان حتى ينزل البحيرة، ثم أتيته ثم فحاصرته بها ظفرت به، فاكتب إلى الإصبهبذ كتابًا تسأله فيه أن يحتال لصول حتى يقيم بجرجان، واجعل له على ذلك جعلًا، ومنه، فإنه يبعث بكتابك إلى صول يتقرب به إليه لأنه يعظمه، فيتحول عن جرجان، فينزل البحيرة. فكتب يزيد بن المهلب إلى صاحب طبرستان: إني أريد أن أغزو صولا وهو بجرجان، فخفت أن بلغه أني أريد ذلك أن يتحول إلى البحيرة فينزلها، فإن تحول إليها لم أقدر عليه؛ وهو يسمع منك ويستنصحك، فإن حبسته العام بجرجان فلم يأت البحيرة حملت إليك خمسين ألف مثقال؛ فاحتل له حيلة؛ تحبسه بجرجان، فإنه إن أقام بها ظفرت به. فلما رأى الإصبهبذ الكتاب أراد أن يتقرب إلى صول، فبعث بالكتاب إليه، فلنا أتاه الكتاب أمر الناس بالرحيل إلى البحيرة وحمل الأطعمة ليتحصن فيها. وبلغ يزيد أنه قد سار من جرجان إلى البحيرة، فاعتزم على السير إلى الجرجان، فخرج في ثلاثين ألفًا، ومعه فيروز ابن قول، واستخلف على خراسان مخلد بن يزيد، واستخلف على سمرقند وكس ونسف وبخارى ابنه معاوية بن يزيد، وعلى طخارستان حاتم بن قبيصة بن المهلب، وأقبل حتى أتى جرجان - ولم تكن يومئذ مدينة غنما هي جبال محيطة بها، وأبواب ومخارم، يقوم الرجل على باب منها فلا يقدم عليه أحد - فدخلها يزيد لم يعازه أحد، وأصاب أموالًا، وهرب المرزبان، وخرج يزيد بالناس إلى البحيرة، فأناخ على الوصول، وتمثل حين نزل بهم: فخر السيف وارتعشت يداه ** وكان بنفسه وقيت نفوس قال: فحاصرهم، فكان يخرج إليه صول في الأيام فيقاله ثم يرجع إلى حصنه، ومع يزيد أهل الكوفة وأهل البصرة. ثم ذكر من فصة جهم ابن زحر وأخيه محمد نحوًا مما ذكره هشام، غير أنه قال في ضربة التركي ابن أبي سبرة: فنشب سيف التركي في درقة ابن أبي سبرة. قال علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، عن عنبسة، قال: قاتل محمد بن أبي سبرة الترك بجرجان فأحاطوا به واعتوروه بأسيافهم، فانقطع في يده ثلاث أسياف. ثم رجع إلى حديثهم؛ قال: فمكثوا بذلك - يعني الترك - محصورين يخرجون فيقاتلون، ثم يرجعون إلى حصنهم ستة شهر، حتى شربوا ماء الأحساء، فأصابهم داء يسمى السؤاد، فوقع فيهم الموت، وأرسل صول في ذلك يطلب الصلح، فقال يزيد بن المهلب: لا، إلا أن ينزل على حكمي، فأبى فأرسل إليه: إني أصالحك على نفسي ومالي وثلثمائة من أهل بيتي وخاصتي، على أن تؤمنني فننزل البحيرة، فأجابه إلى ذاك يزيد، فخرج بماله وثلثمائة ممن أحب، وصار مع يزيد، فقتل يزيد من الأتراك أربعة عشر ألفًا صبرًا، ومن على الآخرين فلم يقتل منهم أحدًا. وقال الجند ليزيد: أعطنا أرزاقنا، فدعا إدريس بن حنظلة العمي، فقال: يل بن حنظلة، أحص لنا ما في البحيرة حتى نعطي الجند، فدخلها إدريس، فلم يقدر على إحصاء ما فيها، فقال ليزيد: فيها مالا أستطيع إحصاءه، وهو في ظروف، فنحصي الجواليق ونعلم ما فيها، ونقول للجند: ادخلوا فخذوا، فمن أخذ شيئًا عرفنا ما أخذ من الحنطة والشعير والأرز والسمسم والعسل. قال: نعم ما رأيت، فأحصوا الجواليق عددًا، وعلموا كل الجواليق ما فيه، وقالوا للجند: خذوا، فكان الرجل يخرج وقد أخذ ثيابًا أو طعامًا أو ما حمل من شيء فيكتب على كل رجل ما أخذ، فأخذوا شيئًا كثيرًا. قال علي: قال أبو بكر الهذلي: كان شهر بن حوشب على خزائن يزيد بن المهلب، فرفعوا عليه أنه أخذ خريطة، فسأله يزيد عنها، فأتاه بها، فدعا يزيد الذي رفع عليه فشتمه؛ وقال لشهر: هي لك، قال: لا حاجة لي فيها، فقال الطامي الكلبي - ويقال: سنان بن مكمل النميري: لقد باع شهر دينه بخريطة ** فمن يأمن القراء بعدك يا شهرًا؟! أخذت به شيئًا طفيفًا وبعته ** من ابن جونبوذ إن هذا هو الغدر وقال مرة النخعي لشهر: يا بن المهلب ما أردت إلى امرئ ** لولاك كان كصالح القراء قال علي: قال أبو محمد الثقفي: أصاب يزيد بن المهلب تاجًا بجرجان فيه جوهر، فقال: أترون أحدًا يزهد في هذا التاج؟ قالوا: لا، فدعا محمد بن واسع الأزدي، فقال: خذ هذا التاج فهو لك؛ فقال: لا حاجة لي فيه، قال: عزمت عليك، فأخذه، وخرج فأمر يزيد رجلًا ينظر ما يصنع به، فلقي سائلًا فدفعه إليه، فأخذ الرجل السائل، فاتى به يزيد وأخبره الخبر، فأخذ يزيد التاج، وعوض السائل مالًا كثيرًا. قال علي: وكان سليمان بن عبد الملك كلما افتتح قتيبة فتحًا قال ليزيد بن المهلب: أما ترى ما يصنع الله على يدي قتيبة؟ فيقول ابن المهلب: ما فعلت جرجان التي حالت بين الناس وبين الطريق الأعظم، وأفسدت قومس وأبرشهر! ويقول: هذه الفتوح ليست بشيء، الشأن في جرجان. فلما ولي يزيد بن المهلب لم يكن له همة غير جرجان. قال: ويقال: كان يزيد بن المهلب في عشرين ومائة ألف، معه أهل الشام ستون ألفًا. قال علي في حديثه، عمن ذكر خبر جرجان عمنهم: وزاد فيه على ابن مجاهد، عن خالد بن صبيح أن يزيد بن المهلب لما صالح صولا طمع في طبرستان أن يفتحها، فاعتزم على أن يسير إليها، استعمل عبد الله بن المعمر اليشكري على البياسان ودهستان، واستعمل على أندرستان أسد ابن عمرو - او ابن عبد الله بن الربعة - وهي مما يلي طبرستان، وخلفه في أربعة آلاف، ودخل يزيد بلاد الإصبهبذ، فأرسل إليه يسأله الصالح، وأن يخرج من طبرستان، فأبى يزيد ورجا أن يفتحها، فوجهأخاه أبا عيينة من وجه، وخالد بن يزيد من وجه، وأبا الجهم الكلبي من وجه، وقال: إذا اجتمعتم فأبو عيينة على الناس. فسار أبو عيينة في أهل المصرين ومعه هريم بن أبي طحمة. وقال يزيد لأبي عيينة: شاور هريمًا فإنه ناصح. وأقام يزيد معسكرًا. قال: واستجاش الإصبهبذ بأهل جيلان وأهل الديل، فأتوه فالتقوا في سند جب، فانهزم المشركون، وأتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى فم الشعب فدخله المسلمون، فصعد المشركون في الجبل، وأتبعهم المسلمون، فرماهم العدو بالنشاب والحجارة، فانهزم أبو عيينة والمسلمون، فركب بعضهم بعضًا يتساقطون من الجبل، فلم يثبتوا حتى انتهوا إلى عسكر يزيد، وكف العدو عن اتباعهم، وخافهم الإصبهبذ، فكتب إلى المرزبان ابن عم فيروز بن قول وهو بأقصى جرجان مما يلي البياسان: إنا قد قتلنا يزيد وأصجابه فاقتل ممن في البياسان من العرب. فخرج على أهل البياسان والمسلمون غارون في منازلهم، قد أجمعوا على قتلهم، فقتلوا جميعًا في ليلة، فأصبح عبد الله بن المعمر مقتولًا وأربعة آلاف من المسلمين لم ينج منهم أحد، وقتل من بني العم خمسين رجلًا؛ قتل الحسين بن عبد الرحمن وإسماعيل ابن إبراهيم بن شماس. وكتب إلى الأصبهبذ يأخذ بالمضايق والطرق. وبلغ يزيد قتل عبد الله بن المعمر وأصحابه، فأعظموا ذلك، وهالهم، ففزع يزيد إلى حيان النبطي. وقال: ر يمنعك ما كان مني إليك من نصيحة المسلمين، قد جاءنا عن جرجان ما جاءنا، وقد أخذ هذا بالطريق، فأعمل في الصلح؛ قال: نعم، فأتى حيان الإصبهبذ فقال: أنا رجل منكم، وإن كان الدين قد فرق بيني وبينكم، فإني لكم ناصح، وأنت أحب إلي من يزيد، وقد بعث يستمد، وأمداده منه قريبة، وإنما أصابوا منه طرفًا، وليس آمن أن يأتيك ما لا تقوم له، فأرح نفسك منه، وصالحه فإنك إن صالحته صيره حده على أهل جرجان، بغدرهم وقتلهم من قتلوا، فصالحه على سبعمائة ألف - وقال علي بن مجاهد: على خمسمائة ألف - وأربعمائة وقر زعفران أو قيمته من العين، وأربعمائة رجل، على كل رجل برنس وطيلسان، ومع كل رجل جام فضة وسرقة خز وكسوة. ثم رجع إلى يزيد بن المهلب فقال: ابعث من يحمل صلحهم الذي صالحتهم عليه، قال: من عندهم أو من عندنا؟ قال: من عندهم. وكان يزيد قد طابت نفسه على أن يعطيهم ما سألوا، ويرجع إلى جرجان فأرسل يزيد من يحمل ما صالحهم عليه حيان، وانصرف إلى جرجان، وكان يزيد قد غرم حياناُ مائتي ألف، فخاف ألا يناصحه. والسبب الذي له أغرم حيان فيه ما حدثني علي بن مجاهد، عن خالد بن صبيح، قال: كنت مؤدبًا لولد حيان، فدعاني فقال لي: اكتب كتابًا إلى مخلد بن يزيد - ومخلد يومئذ ببلخ، ويزيد بمرو - فتناولت القرطاس، فقال: اكتب: من حيان مولى مصقلة إلى مخلد بن يزيد، فغمرني مقاتل ابن حيان ألا تكتب، وأقبل على أبيه فقال: يا أبت تكتب إلى مخلد وتبدأ بنفسك! قال: نعم يا بني، فإن لم يرض لقي ما لقي قتيبة. ثم قال لي: اكتب، فكتبت، فبعث مخلد بكتابه إلى أبيه، فأغرم يزيد حيان مائتي ألف درهم. فتح جرجان وفي هذه السنة فتح يزيد جرجان الفتح الآخر بعد غدرهم بجنده ونقضهم العهد، قال علي، عن الرهط الذين ذكر أنهم حدثوه بخبر جرجان وطبرستان: ثم إن يزيد لما صالح أهل طبرستان قصد لجرجان، فأعطى الله عهدًا؛ لئن ظفر بهم ألا يقلع عنهم، ولا يرفع عنهم السيف حتى يطحن بدمائهم، ويختبز من ذلك الطحين، ويأكل منه، فلما بلغ المزربان أنه قد صالح الإصبهبذ وتوجه إلى جرجان، جمع أصحابه وأتى وجاه، فتحصن فيها، وصاحبها لا يحتاج إلى عدة من طعام ولا شراب. وأقبل يزيد حتى نزل عليها وهم متحصنون فيها. وحولها غياض فليس يعرف لها إلا طريق واحد، فأقام بذلك سبعة أشهر لا يقدر منهم على شيء، ولا يعرف لهم مأتى إلا من وجه واحد، فكانوا يخرجون في الأيام فيقاتلونه ويرجعون إلى حصنهم، فبيناهم على ذلك إذ خرج رجل من عجم خراسان كان مع يزيد يتصيد ومعه شاكرية له. وقال هشام بن محمد، عن أبي مخنف: فخرج رجل من عسكره من طيئ يتصيد، فأبصر وعلًا يرقى في الجبل، فأتبعه، وقال لمن معه: قفوا مكانكم، ووقل في الجبل يقتص الأثر، فما شعر بشيء حتى هجم على عسكرهم، فرجع يريد أصحابه، فخاف ألا يهتدي، فجعل يخرق قباءه ويعقد على الشجر علامات، حتى وصل إلى أصحابه، ثم رجع إلى العسكر. ويقال: إن الذي كان يتصيد الهياج بن عبد الرحمن الأزدي من أهل طوس، وكان منهومًا بالصيد، فلما رجع إلى العسكر أتى عامر بن أيم الواشجي صاحب شرطة يزيد، فمنعوه من الدخول، فصاح: إن عندي نصيحة. وقال هشام عن أبي مخنف: جاء حتى رفع ذلك إلى ابني زحر بن قيس، فانطلق به ابنا زحر حتى أدخلاه على يزيد، فأعلمه، فضمن له بضمان الجهنية - أم ولد كانت ليزيد - على شيء قد سماه. وقال علي بن محمد في حديثه عن أصحابه: فدعا به يزيد فقال: ما عندك؟ قال: أتريد أن تدخل وجاه بغير قتال؟ قال: نعم، قال: جعالتي؟ قال: احتكم، قال: أربعة آلاف؛ قال: لد دية، قال: عجلوا لي أربعة آلاف، ثم أنتم بعد من وراء الإحسان. فأمر له بأربعة آلاف، وندب الناس، فانتدب أف وأربعمائة، فقال: الطريق لا يحمل هذه الجماعة لالتفاف الغياض، فاختار منهم ثلثمائة، فوجههم، واستعمل عليهم جهم بن زحر. وقال بعضهم: استمل عليهم ابنه خالد بن يزيد، وقال له: أن غلبت على الحياة فلا تغلبن على الموت، وإياك أن أراك عندي منهزمًا، وضم إليه جهم بن زحر، وقال يزيد للرجل الذي ندب الناس معه: متى تصل إليهم؟ قال: غدًا عند العصر فيما بين الصلاتين، قال: امضوا على بركة الله؛ فإني سأجهد على مناهضتهم غدًا عند صلاة الظهر. فساروا، فلما قارب انتصاف النهار من غد أمر يزيد الناس أن يشعلوا النار في حطب كان جمعه في حصارهم إياهم، فصيره آكامًا، فأضرموه نارًا؛ فلم تزل الشمس حتى صار عسكره أمثال الجبال من النيران، ونظر العدو إلى النار، فهالهم ما رأوا من كثرتها، فخرجوا إليهم. وأمر يزيد الناس حين زالت الشمس فصلوا، فجمعوا بين الصلاتين، ثم زحفوا إليهم فاقتتلوا، وسار الآخرون بقية يومهم والغد، فهجموا على عسكر الترك قبيل العص ر، وهم آمنون من ذلك الوجه، ويزيد يقاتل في هذا الوجه، فما شعروا إلا بالتكبير من ورائهم، فانقعوا جميعًا إلى حصنهم، وركبهم المسلمون، فأعطوا بأيديهم، ونزلوا على حكم يزيد، فسبى ذراريهم، وقتل مقاتليهم، وصلبهم فرسخين عن يمين الطريق ويساره، وقاد منهم اثني عشر ألفًا إلى الأندرهز - وادي جرجان - وقال: من طلبهم بثأر فليقتل، فكان الرجل من المسلمين يقتل الأربعة والخمسة في الوادي، وأجرى الماء في الوادي على الدم، وعليه أرحاء ليطحن بدمائهم، ولتبر يمينه، فطحن واختبز وأكل وبنى مدينة جرجان. وقال بعضهم: قتل يزيد من أهل جرجان أربعين ألفًا، ولم تكن من قبل ذلك مدينة ورجع إلى خراسان واستعمل على جرجان جهم بن زحر الجعفي. واما هشام بن محمد فإنه ذكر عن أبي مخنف أنه قال: دعا يزيد جهم ابن زحر فبعث معه أربعمائة رجل حتى أخذوا في المكان الذي دلوا عليه وقد أمرهم يزيد فقال: إذا وصلتم إلى المدينة فانتظروا، حتى إذا كان في السحر فكبروا، ثم انطلقوا نحو باب المدينة، فإنكم تجدوني وقد نهضت بجميع الناس إلى بابها؛ فلما دخل ابن زحر المدينة أمهل حتى إذا كانت الساعة التي أمره ينهض فيها مشى بأصحابه، فأخذ لا يستقبل من أحراسهم أحدًا إلا قتله. وكبر، ففزع أهل المدينة فزعًا لم يدخلهم مثله قط فيما مضى، فلم يرعهم إلا والمسلمون معهم في مدينتهم يكبرون فدهشوا، فألقى الله في قلوبهم الرعب، وأقبلوا لا يدرون أين يتوجهون! غير أن عصابة منهم ليسوا بالكثير قد أقبلوا نحو جهم بن زحر، فقاتلوا ساعة، فدقت يد جهم، وصبر لهم هو وأصحابه، فلم يلبثوا أن قتلوهم إلا قليلًا. سمع يزيد بن المهلب التكبير، فوثب في الناس إلى الباب، فوجدوهم قد شغلهم جهم بن زحر عن الباب، فلم يجد عليه من يمنعه ولا من يدفع عنه كبير دفع، ففتح الباب، فلم يجد عليه من يمنعه ولا من يدفع كبير دفع، ففتح الباب ودخلها من ساعته، فأخرج من كان فيها من المقاتلة، فنصب لهم الجذوع فرسخين عن يمين الطريق ويساره، فصلبهم أربعة فراسخ، وسبى أهلها، وأصاب ما كان فيها. قال علي في حديثه، عن شيخوخة، الذين قد ذكرت أسمائهم قبل. وكتب يزيد إلى سليمان بن عبد الملك: أما بعد، فإن الله قد فتح لأمير المؤمنين فتحًا عظيمًا، وصنع للمسلمين أحسن الصنع، فلربنا الحمد على نعمه وإحسانه، أظهر في خلافة أمير المؤمنين على جرجان وطبرستان، وقد أعيا ذلك سابور ذا الأكتاف وكسى بن قباذ وكسرى بن هرمز، وأعيا الفاروق عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان ومن بعدهما من خلفاء الله، حتى فتح الله ذلك لأمير المؤمنين؛ كرامة من الله له، وزيادة في نعمه عليه. وقد صار عندي من خمس ما أفاء الله على المسلمين بعد أن صار إلى كل ذي حق حقه من الفئ والغنيمة ستة آلاف ألف، وأنا حامل ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله. فقال له كاتبة بن المغيرة بن أبي قرة مولى بني سدوس: لا تكتب بسمية مال، فأنك من ذلك بين أمرين: إما استكثره فأمرك بحمله، وأما سخت نفسه لك به فسوغكه فتكلفت الهدية فلا يأتيه من قبلك شيء إلا استقبله، فكان بك قد استغرقت ماسميت لم يقع منه موقعًا، ويبق المال الذي سميت مخلدًا عندهم عليك في دواوينهم، فإن ولى وال بعده أخذك به، وإن ولى من يتحامل عليك لم يرض منك بأضعافه، فلا تمض كتابك، ولكن اكتب بالفتح، سله القدوم فتشافهه بما أحببت مشافهة، ولا تقصر، فإنك أن تقصر عما أحببت أحرى من أن تكثر. فأبى يزيد وأمضى. وقال: بعضهم كان في الكتاب أربعة آلاف ألف. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي أيوب بن سليمان بن عبد الملك، فحدثت عن علي بن محمد، قال: حدثنا علي بن مجاهد، عن شيخ من أهل الري أدرك يزيد، قال: أتى يزيد بن المهلب الري حين فرغ من جرجان، فبلغه وفاة أيوب بن سليمان وهو يسير في باغ أبي صالح على باب الري، فارتجز راجز بين يديه فقال: إن يك أيوب مضى لشأنه ** فإن داوود لفي مكانه يقيم ما قد زال من سلطانه وفي هذه السنة فتحت مدينة الصقالبة. وفيها غزا داوود بن سليمان بن عبد الملك أرض الروم، ففتح حصن المرأة مما يلي ملطية. وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد وهو يومئذ أمير على مكة، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال الذين كانوا عليها سنة سبع، وقد ذكرناهم قبل، غير أن عامل يزيد بن المهلب على البصرة في هذه السنة كان - فيما قيل - سفيان بن عبد الله الكندي. ثم دخلت سنة تسع وتسعين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث وفاة سليمان بن عبد الملك فمن ذلك وفاة سليمان بن عبد الملك، توفي - فيما حدثت عن هشام. عن أبي مخنف - بدابق من أرض قنسرين يوم الجمعة لعشر ليال بقين من صفر، فكانت ولايته سنتين لعشر أشهر إلا خمسة أيام. وقد قيل: توفي لعشر ليال مضين من صفر. وقيل: كانت خلافته سنتين وسبعة أشهر وقيل: سنتين وثمانية أشهر وخمسة أيام. وقد حدث الحسن بن حماد، عن طلحة أبي محمد، عن أشياخه، أنهم قالوا: استخلف سليمان بن عبد الملك بعد الوليد ثلاث سنين. وصلى عليه عمر بن عبد العزيز. وحدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: توفي سليمان بن عبد الملك يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين، فكانت خلافته ثلاث سنين إلا أربعة أشهر. ذكر الخبر عن بعض سيره حدثت عن علي بن محمد، قال: كان الناس يقولون: سليمان مفتاح الخير، ذهب عنهم الحجاج، فولى سليمان، فأطلق الأسارى، وخلى أهل السجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز، فقال ابن بيض: حاز الخلافة والداك كلاهما ** من بين سخطة ساخط او طائع أبواك ثم أخوك أصبح ثالثًا ** وعلى جبينك نور ملك الرابع وقال علي: قا المضل بن المهلب: دخلت على سليمان بدابق يوم جمعة، فدعا بثياب فلبسها، فلم تعجبه، فدعا، بغيرها بثياب خضر سوسية بعث بها يزيد بن المهلب، فلبسها واعتم وقال: يا بن المهلب أعجبتك؟ قلت: نعم، فحسر عن ذراعيه ثم قال: أنا الملك الفتى، فصلى الجمعة، ثم لم يجمع بعدها، وكتب وصيته، ودعا ابن أبي نعيم صاحب الخاتم فختمه. قال علي: قال بعض أهل العلم: إن سليمان لبس يومًا حلة خضراء وعمامة خضراء ونظر في المرأة فقال: أنا الملك الفتي، فما عاش بعد ذلك إلا أسبوعًا قال علي: وحدثنا سحيم بن حفص، قال: نظرت إلى سليمان جارية له يوم، فقال: ما تنظرين؟ فقالت: أنت خير المتاع لو كنت تبقى ** غير أن لا بقاء للإنسان ليس فيما علمته فيك عيب ** كان في الناس غير أنك فان فنفض عمامته. قال علي: كان قاضي سليمان سليمان بن حبيب المحاربي، وكان ابن أبي عيينة يقص عنده. وحدثت عن أبي عبيدة، رؤبة بن العجاج، قال: حج سليمان بن عبد الملك، وحج الشعراء معه، وحجت معهم، فلما كان بالمدينة راجعًا تلقوه بنحو من أربعمائة أسير من الروم، فقعد سليمان، وأقربهم منه مجلسًا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم، فقدم بطريقهم فقال: يا عبد الله، اضرب عنقه، فقام فما أعطاه أحد سيفًا حتى دفع إليه حرسي سيفه فضربه فأبان الرأس، وأطن الساعد وبعض الغل فقال سليمان: أما والله ما من جودة السيف جادت الضربة، ولكن لحسبه، وجعل يدفع البقية إلى الوجوه وإلى الناس يقتلونهم حتى دفع إلى جرير رجلا منهم، فدست إليه بنو عبس سيفًا في قراب أبيض، فضربه فأبان رأسه، ودفع إلى الفرزدق أسي فلم يجد سيفًا، فدسوا له سيفًا ددانا مثنيًا لا يقطع، فضرب به الأسير ضربات، فلم يصنع شيئًا فضحك سليمان والقوم، وشمت بالفرزدق بنو عبس أخوال سليمان، فألقى السيف وأنشأ يقول، ويعتذر إلى سليمان، ويأتسى بنبو سيف ورقاء عن رأس خالد: إن يك سيف خان أو قدر أتى ** بتأخير نفس حتفها غير شاهد فسيف بني عبس وقد ضربوا به ** نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ** وتقطع أحيانًا مناط القلائد وورقاء هو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي، ضرب خالد بن جعفر بن كلاب، وخالد مكب على أبيه زهير، قد ضربه بالسيف وصرعه، فأقبل ورقاء بن زهير فضرب خالدًا، فلم يسمع شيئًا، فقال ورقاء ابن زهير: رأيت زهيرًا تحت كلكل خالد ** فأقبلت أسعى كالعجول أبادر فشلت يميني يوم أضرب خالدًا ** ويحصنه مني الحديد المظاهر وقال الفرزدق في مقامه ذلك: أيعجب الناي أن أضحكت خيرهم ** خليفة الله يستسقى به المطر فما نبا السيف عن جبن ولا دهش ** عند الإمام ولكن آخر القدر ولو ضربت على عمرو مقلده ** لخر جثمانه ما فوقه شعر وما يعجل نفسًا قبل ميتتها ** جمع اليدين ولا الصمصامة الذكر وقال جرير في ذلك: بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ** ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم ضربت به عند الإمام فأرعشت ** يداك، وقالوا محدث غير صارم حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي خالد: حدثني سليمان قال: حدثني عبد الله بن محمد بن عيينة، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد العزيز بن الضحاك بن قيس، قال: شهد سليمان بن عبد الملك جنازة بدابق، فدفنت فيه حقل، فجعل سليمان يأخذ من تلك التربة فيقول: ما أحسن هذه التربة! ما أطيبها! فما أتى عليه جمعة - أو كما قال - حتى دفن إلى جنب ذلك القبر. خلافة عمر بن عبد العزيز وفي هذه السنة استخلف عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم. ذكر الخبر عن سبب استخلاف سليمان إياه حدثني الحارث قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد ابن عمر، قال: حدثني الهيثم بن واقد، قال: استخلف عمر بن عبد العزيز بدابق يوم الجمعة لعشر مضين من صفر سنة تسع وتسعين. قال محمد بن عمر: حدثني داود بن خالد بن دينار، عن سهيل بن أبي سهيل قال: سمعت رجاء بن حيوة، يقول: لما كان يوم الجمعة لبس سليمان بن عبد الملك ثيابًا خضرًا من خز، ونظر في المرأة فقال: أنا والله الملك الشاب. فخرج إلى الصلاة فصلى بالناس الجمعة. فلم يرجع حتى وعك. فلما ثقل عهد في كتاب كتبه لبعض بنيه وهو غلام ولم يبلغ فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين! إنه مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على المسلمين الرجل الصالح. فقال سليمان: أنا أستخير الله وأنظر فيه. ولم أعزم عليه؛ قال: فمكث يومًا أو يومين ثم خرقه، فدعاني، فقال: ما ترى في داود بن سليمان؟ فقلت: هو غائب عنك بقسطنطينية وأنت لا تدري أحي هو أو ميت! فقال لي: فمن ترى؟ قلت: رأيك يا أمير المؤمنين، وأنا أريد أنظر من يذكر، قال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت: أعلمه والله خيرًا فاضل مسلمًا؛ فقال: هو والله على ذلك ثم قال: والله لئن وليته ولم أول أحدًا سواه لتكونن فتنة، ولا يتركونه أبدًا يلي عليهم إلا أن يجعل أحدهم بعده، ويزيد بن عبد الملك غائب عن الموسم، قال: فيزيد ابن عبد الملك أجعله بعده. فإن ذلك مما يسكنهم ويرضون به؛ قلت: رأيك. قال: فكتب. بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني قد وليتك الخلافة من بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك؛ فاسمعوا له وأطيعوه، واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم. وختم الكتاب، وأرسل إلى كعب بن حامد العبسي صاحب شرطه فقال: مر أهل بيتي فليجتمعوا؛ فأرسل كعب إليهم أن يجتمعوا فاجتمعوا، ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتمعاعهم: اذهب بكتابي هذا إليهم فأخبرهم أن هذا كتابي، وأمرهم فليبايعوا من وليت فيه؛ ففعل رجاء، فلما قال رجاء ذلك لهم قالوا: ندخل فنسلم على أمير المؤمنين؟ قال: نعم؛ فدخلوا فقال لهم سليمان في هذا الكتاب - وهو يشير لهم إليه وهم ينظرون إليه في يد رجاء ابن حيوة - عهدي، فاسمعوا وأطيعوا وبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب، فبايعوه رجلا رجلا، ثم خرج بالكتاب محتومًا في يد رجاء بن حيوة. قال رجاء: فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: أخشى أن يكون هذا أسند إلي شيئًا من هذا الأمر، فأنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الأن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة! قال رجاء لا والله ما أنا بمخبرك حرفًا؛ قال: فذهب عمر غضبان. قال رجاء: لقيني هشام بن عبد الملك، فقال: يا رجاء، إن لي بك حرمة ومودة قديمة، وعندي شكر فأعلمني هذا الأمر، فإن كان إلي علمت، وإن كان إلى غيري تكلمت، فليس مثلي قصر به، فأعلمني فلك الله على ألا أذكر من ذلك شيئًا أبدا قال رجاء: فأبيت فقلت: والله لا أخبرك حرفًا واحدًا مما أسر إلي. قال: فانصرف هشام وهو قد يئس، ويضرب بإحدى يديه على الأخرة وهو يقول: فإلى من إذًا نحيت عني؟ أتخرج من بني عبد الملك؟ قال: رجاء: ودخلت على سليمان فإذا هو يموت، فجعلت إذا أخذته السكرة من سكرات الموت حرفته إلى القبلة، فجعل يقول حين يفيق: لم يأن لي ذلك بعد يا رجاء ففعلت ذلك مرتين، فلما كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئًا، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. قال: فحرفته ومات؛ فلما غمضته سجيته بقطيفة خضراء، وأغلقت الباب. وأرسلت إلى زوجته تقول: كيف أصبح؟ فقلت: نائم، وقد تغطى، فنظر الرسول إليه مغطى بالقطيفة فرجع فأخبرها فقبلت ذلك، وظنت أنه نائم، قال رجاء: وأجلست على الباب من أثق به، وأوصيته ألا يبرح حتى آتيه، ولا يدخل على الخليفة أحد. قال: فخرجت فأرسلت إلى كعب بن حامد العبسي فجمع أهل بيت أمير المؤمنين فاجتمعوا في مسجد دابق، فقلت: بايعوا، فقالوا: قد بايعنا مرة ونبايع أخرى! قلت: هذا عهد أمير المؤمنين، فبايعوا على ما أمر به ومن سمى في هذا الكتاب المختوم، فبايعوا الثانية؛ رجلا رجلا. قال رجاء: فلما بايعوا بعد موت سليمان رأيت أني قد أحكمت الأمر، قلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات، قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون قرأت الكتاب عليهم، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام بن عبد الملك: لا نبايعه أبدًا، قلت: أضرب والله عنقك، قم فبايع، فقام يجر رجليه. قال رجاء: وأخذت بضبع عمر بن عبد العزيز فأجلسته لما وقع فيه وهشام يسترجع على المنبر وهو يسترجع لما أخطأه، فلما انتهى هشام إلى عمر قال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون! حين صارت إلى لكراهته إياها والآخر يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، حيث نحيت عني. قال: وغسل سليمان وكفن وصلى عليه عمر بن عبد العزيز؛ قال رجاء: فلما فرغ من دفنه أتى بمراكب خلافة: البراذين والخيل والبغال ولكل دابة سائس. فقال: ما هذا! قالوا: مركب الخلافة، قال: دابتي أوفق لي، وركب دابته. قال: فصرفت تلك الدواب، ثم أقبل سائرًا، فقيل: منزل الخلافة، فقال: فيه عيال أبي أيوب وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا، فأقام في منزله حتى فرغوه بعد؛ قال: رجاء فلما كان المساء من ذلك اليوم قال: يا رجاء، ادعو لي كاتبًا، فدعوته وقد رأيت منه كل ما سرني، صنع في المراكب ما صنع، وفي منزل سليمان؛ فقلت: كيف يصنع الآن في الكتاب؟ أيصنع نسخًا أم ماذا؟ فلما جلس الكاتب أملى عليه كتابًا واحدًا من فيه إلى يد الكاتب بغير نسخة، فأملى أحسن إملاء وأبلغه وأوجزه، ثم أمر بذلك الكتاب أن ينسخ إلى كل بلد. وبلغ عبد العزيز بن الوليد - وكان غائبًا - موت سليمان بن عبد الملك، ولم يعلم ببيعة الناس عمر بن عبد العزيز، وعهد سليمان إلى عمر، فقعد لواء، ودعا إلى نفسه فبلغته بيعة الناس عمر بعهد سليمان، فأقبل حتى دخل على عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: قد بلغني أنك كنت بايعت من قبلك، وأردت دخول دمشق، فقال: قد كان ذاك، وذلك أنه بلغني أن الخليفة سليمان لم يكن عقد لأحد، فخفت على الأموال أن تنهك، فقال عمر: لو بويعت وقمت بالأمر ما نازعتك ذلك، ولقعدت في بيتي، فقال عبد العزيز: ما أحب أنه ولى هذا الأمر غيرك. وبايع عمر بن عبد العزيز. قال: فكان برجى لسليمان بتوليته عمر بن عبد العزيز وترك ولده. وفي هذه السنة وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم وأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، ووجه إليه خيلا عتاقًا وطعامًا كثيرًا، وحث الناس على معونتهم، وكان الذي وجه إليه الخيل العتاق - فيما قيل - خمسمائة فرس. وفي هذه السنة أغارت الترك على أذربيجان، فقتلوا من المسلمين جماعة، ونالوا منهم، فوجه إليهم عمر بن عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي، فقتل أولئك الترك، فلم يفلت منهم إلا اليسير، فقدم منهم على عمر بخناصرة بخمسين أسيرًا. وفيها عزل عمر يزيد بن المهلب عن العراق، ووجه على البصرة وأرضها عدي بن أرطاة الفزازي، وبعث على الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن يزيد بن الخطاب الأعرج القرشي، من بني عدي بن كعب، وضم إليه أبا الزناد، فكان أبو الزناد كاتب عبد الحميد بن عبد الرحمن، وبعث عدي في أثر يزيد بن المهلب موسى بن الوجيه الحميري. وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر محمد بن عمرو بن خزم، وكان عامل عمر على المدينة. وكان عامل عمر على مكة في هذه السنة عبد العزيز بن عبد الله ابن خالد بن أسيد، وعلى الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعلى البصرة وأرضها عدي بن أرطاة وعلى خراسان الجراح بن عبد الله. وعلى قضاء البصرة إياس بن معاوية بن قرة المزني، وقد ولى فيما ذكر قبله الحسن بن أبي الحسن، فشكا، فاستقصى إياس بن معاوية. وكان على قضاء الكوفة - في هذه السنة فيما قيل - عامر الشعبي. وكان الواقدي يقول: كان الشعبي على قضاء الكوفة أيام عمر بن عبد العزيز من قبل عبد الحميد بن عبد الرحمن، والحسن بن أبي الحسن البصري على قضاء البصرة من قبل عدي بن أرطاة، ثم إن الحسن استعفى من القضاء عديًا، فأعفاه وولى إياسًا. ثم دخلت سنة مائة ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها فمن ذلك خروج الخارجة التي خرجت على عمر بن عبد العزيز بالعراق. ذكر محمد بن عمر أن ابن أبي الزناد حدثه، قال: خرجت حرورية بالعراق، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد ابن الخطاب عامل العراق يأمره أن يدعوهم إلى العمل بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ. فلما أعذر في دعائهم بعث إليهم عبد الحميد جيشًا فهزمتهم الحرورية، فبلغ عمر فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك في جيش من أهل الشام جهزهم من الرقة، وكتب إلى عبد الحميد: قد بلغني ما فعل جيشك جيش السوء، وقد بعثت مسلمة بن عبد الملك، فخل بينه وبينهم. فلقيهم مسلمة في أهل الشام، فلم ينشب أن أظهره الله عليهم. خبر خروج شوذب الخارجي وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى أن الذي خرج على عبد الحميد بن عبد الرحمن بالعراق في خلافة عمر بن عبد العزيز شوذب - واسمه بسطام من بني يشكر - فكان مخرجه بجوخي في ثمانين فارسًا أكثرهم من ربيعة، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد؛ ألا تحركهم إلا أن يسفكوا دمًا، أو يفسدوا في الأرض فإن فعلوا فحل بينهم وبين ذلك، وانظر رجلًا صليبًا حازمًا فوجهه إليهم، ووجه معه جندًا، وأوصه بما أمرتك به. فعقد عبد الحميد لمحمد بن جرير بن عبد الله البجلي في ألفين من أهل الكوفة، وأمره بما أمره به عمر، وكتب عمر إلى بسطام يدعوه ويسأله عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه، وقد قدم عليه محمد بن جرير. فقام بإزائه لا يحركه ولا يهيجه، فكان في كتاب عمر إليه: إنه بلغني أنك خرجت غضبا لله ولنبيه، ولست بأولى بذلك مني، فهلم أناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرنا. فلم يحرك بسطام شيئًا، وكتب إلى عمر: قد أنصفت، وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك - قال أبو عبيدة: أحد الرجلين اللذين بعثهما شوثب إلى عمر ممزوج مولى بني شيبان، والآخر من صليبة بني يشكر - قال: فيقال: أرسل نفرًا فيهم هذان، فأرسل إليهم عمر: أن اختاروا رجلين؛ فاختاروهما، فدخلا عليه فناظراه، فقالا له: أخبرنا عن يزيد لم تقره خليفة بعدك؟ قال: صيره غيري؛ قالا: أفرأيت لو وليت مالا لغيرك ثم وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت أديت الأمانة إلى من اتمنك! قال: فقال: أنظراني ثلاثًا، فخرجا من عنده، وخاف بنو مروان أن يخرج ما عندهم وفي أيديهم من الأموال، وأن يخلع يزيد، فدسوا إليه من سقاه سمًا، فلم يلبث بعد خروجهما من عنده إلا ثلاثًا حتى مات. وفي هذه السنة أغزا عمر بن عبد العزيز الوليد بن هاشم المعيطي وعمرو بن قيس الكندي من أهل حمص الصائفة. وفيها شخص عمر بن هبيرة الفزاري إلى الجزيرة عاملا لعمر عليها. خبر القبض على يزيد بن المهلب وفي هذه السنة حمل يزيد بن المهلب من العراق إلى عمر بن عبد العزيز. ذكر الخبر عن سبب ذلك وكيف وصل إليه حتى استوثق منه اختلف أهل السير في ذلك فأما هشام بن محمد فإنه ذكر عن أبي مخنف أن عمر بن عبد العزيز لما جاء يزيد بن المهلب فنزل واسطًا، ثم ركب السفن يريد البصرة، بعث عدي بن أرطاة إلى البصرة أميرًا، فبعث عدي موسى بن الوجيه الحميري، فلحقه في نهر معقل عند الجسر، جسر البصرة فأوثقه، ثم بعث به إلى عمر بن عبد العزيز، فقدم به عليه موسى ابن الوجيه، فدعا به عمر بن عبد العزيز - وقد كان عمر يبغض يزيد وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة، ولا أحب مثلهم، وكان يزيد بن المهلب يبغض عمر ويقول: إني لأظنه مرائيًا، فلما ولى عمر عرف يزيد أن عمر كان من الرياء بعيدًا. ولما دعا عمر يزيد سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان بن عبد الملك، فقال: كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به، وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني بشيء سمعت، ولا بأمر أكرهه، فقال له: ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأد ما قبلك، فإنها حقوق المسلمين، ولا يسعني تركها، فرده إلى محبسه، وبعث إلى الجراح بن عبد الله الحكمي فسرحه إلى خراسان، وأقبل مخلد بن يزيد من خراسان يعطي الناس، ولا يمر بكورة إلا أعطاهم فيها أموالا عظامًا. ثم خرج حتى قدم على عمر بن عبد العزيز، فدخل عليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله يا أمير المؤمنين صنع لهذه الأمة بولايتك عليها، وقد ابتلينا بك، فلا نكن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا الشيخ! أنا أتحمل ما عليه، فصالحني على ما إياه تسأل، فقال عمر: لا. إلا أن تحمل جميع ما نسأله إياه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كانت لك بينه فخذ بها، وإن لم تكن بينة فصدق مقالة يزيد، وإلا فاستحلفه، فإن لم يفعل فصالحه. فقال له عمر: ما أجد إلا أخذه بجميع المال. فلما خرج مخلد قال: هذا خير عندي من أبيه، فلم يلبث مخلد إلا قليلا حتى مات، فلما أبى يزيد أن يؤدي إلى عمر شيئًا ألبسه جبة من صوف، وحمله على جمل، ثم قال: سيروا به إلى دهلك، فلما أخرج فمر به على الناس أخذ يقول: مالي عشيرة، مالي يذهب بي إلى دهلك! إنما يذهب إلى دهلك بالفاسق المريب الخارب سبحان الله! أما لي عشيرة! فدخل على عمر سلامة بن نعيم الخولاني، فقال: يا أمير المؤمنين، أردد يزيد إلى محبسه؛ فإني أخاف إن أمضيته أن ينتزعه قومه؛ فإني قد رأيت قومه غضبوا له. فرده إلى محبسه فلم يزل في محبسه ذلك حتى بلغه مرض عمر. وأما غير أبي مخنف فإنه قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي ابن أرطاة يأمره بتوجيه يزيد بن المهلب، ودفعه إلى من بعين التمر من الجند، فوجهه عدي بن أرطاة مع وكيع بن حسان بن أبي سود التميمي مغلولا مقيدًا في سفينة، فلما انتهى به إلى نهر أبان، عرض لوكيع ناس من الأزد لينتزعوه منه، فوثب وكيع فانتضى سيفه، وقطع قلس السفينة، وأخذ سيف يزيد ابن المهلب، وحلف بطلاق امرأته ليضرين عنقه إن لم يتفرقوا فناداهم يزيد بن المهلب، فأعلمهم يمين وكيع، فتفرقوا، ومضى به حتى سلمه إلى الجند الذين بعين التمر، ورجع وكيع إلى عدي بن أرطاة، ومضى الجند الذين بعين التمر بيزيد بن المهلب إلى عمر بن عبد العزيز فحبسه في السجن. عزل جراح بن عبد الله عن خراسان قال أبو جعفر: وفي هذه السنة عزل عمر بن عبد العزيز الجراح بن عبد الله عن خراسان، وولاها عبد الرحمن بن نعيم القشيري، فكانت ولاية الجراح بخراسان سنة وخمسة أشهر، قدمها سنة تسع وتسعين وخرج منها لأيام لقيت من شهر رمضان من سنة مائة. ذكر سبب عزل عمر إياه وكان سبب ذلك - فيما ذكر علي بن محمد عن كليب بن خلف، عن إدريس بن حنظلة، والمفضل عن جده، وعلي بن مجاهد عن خالد ابن عبد العزيز؛ أن يزيد بن المهلب ولى جهم بن زحر جرجان حين شخص عنها، فلما كان من أمر يزيد ما كان وجه عامل العراق من العراق واليًا على جرجان، فقدم الوالي عليها من العراق، فأخذه جهم فقيده وقيد رهطًا قدموا معه، ثم خرج في خمسين من اليمن يريد الجراح بخراسان، فأطلق أهل جرجان عاملهم، فقال الجراح لجهم: لولا أنك ابن عمي لم أسوغك هذا، فقال له جهم: ولو لا أنك ابن عمي لم آتك - وكان جهم سلف الجراح من قبل ابنة حصين بن الحارث وابن عمه، لئن الحكم وجعفي ابن سعد - فقال له الجراح خالفة إمامك، وخرجت عاصيًا، فاغزو لعلك أن تظفر، فيصلح أمرك عند خليفتك. فوجهه إلى الختل، فخرج، فلما قرب منهم سار متنكرًا في ثلاثة، وخلف في عسكره ابن عمه القاسم بن حبيب - وهو ختنه على ابنته أم الأسود - حتى دخل على صاحب الختل فقال له: أخلني، فأخلاه، فاعتزا، فنزل صاحب الختل عن سريره وأعطاه حاجته - ويقولون: الختن موالي النعمان وأصاب مغنمًا؛ فكتب الجراح إلى عمر: وأوفد وفدًا؛ رجلين من العرب، ورجلا من الموالي من بني ضبة، ويكني أبا الصيداء واسمه صالح بن طريف، كان فاضلا في دينه. وقال بعضهم: المولى سعيد أخو خالد أو يزيد النحو. فتكلم العربيان والآخر جالس فقال له عمر: أما أنت من الوفد؟ قال: بلى، فما يمنعك من الكلام! قال: يا أمير المؤمنينعشرون ألفًا من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق ومثلهم قد أسلموا من أهل الذمة يؤخذون بالخراج منه، وأميرنا عصبي جاف يقوم على منبرنا، فيقول آتيتك حفيًا، وأنا اليوم عصبي! والله لرجل من قومي أحب إلي من مائة من غيرهم. وبلغ من جفائه أن كم درعه يبلغ نصف درعه، وهو بعد سيف من سيوف الحجاج، قد علم بالظلم والعدوان. فقال عمر: إذًا مثلك فيلوفد. وكتب عمر إلى الجراح: إنظر من صلى قبلك إلى القبلة، فضع عنه الجزية. فسارع الناس إلى الإسلام، فقيل للجراح إ ن الناس قد سارعوا إلى الإسلام، وإنما ذلك نفورًا من الجزية؛ فامتحنهم بالختان. فكتب الجراح بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه داعيًا ولم يبعثه خاتنًا. وقال عمر: ابغوني رجلًا صدوقًا، أسأله عن خراسان، فقيل له: قد وجدته، عليك بأبي مجلس. فكتب إلى الجراح: أن أقبل واحمل أبا مجلس وخلف على حرب خراسان عبد الرحمن بن نعيم الغامدي وعلى جزيتها عبيد الله - أو عبد الله - بن حبيب. فخطب الجراح فقال: يا أهل خراسان، جئتكم في ثيابي هذه التي على وعلى فرسي لم أصب من مالكم إلا حلية سيفي - ولم يكن عنده إلا فرس قد شاب وجهه، وبغلة قد شاب وجهها؛ فخرج في شهر رمضان واستخلف عبد الرحمن بن نعيم، فلما قدم قال له عمر: متى خرجت؟ قال: في شهر رمضان، قال: قد صدق من وصفك بالجفاء هلا أقمت حتى تفطر ثم تخرج! وكان الجراح يقول: أنا والله عصبي عقبي - يريد من العصبية. وكان الجراح لما قد خراسان كتب إلى عمر: إني قدمت خراسان فوجدت قومًا قد أبطرتهم الفتنة فهم ينزون فيها نزوًا، أحب الأمور إليهم أن تعود ليمنعوا حق الله عليهم، فليس يكفهم إلا السيف والسوط، وكرهت الإقدام على ذلك إلا بإذنك. فكتب إليه عمر: يا بن أم الجراح، أنت أحرص على الفتنة منهم؛ لا تضربن مؤمنًا ولا معاهدًا سوطًا إلا في حق، واحذر القصاص فإنك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور، وتقرأ كتابًا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. ولما أراد الجراح الشخوص من خراسان إلى عمر بن عبد العزيز أخذ عشرين ألفًا. وقال بعضهم: عشرة آلاف من بيت المال. وقال: هي على سلفًا حتى أؤديها إلى الخليفة، فقدم على عمر، فقال له عمر: متى خرجت؟ قال: لأيام بقين من شهر رمضان وعلي دين فاقده؛ قال: لو أقمت حتى تفطر ثم خرجت قضيت عنك. فأدى عنه قومه في أعطياتهم. ذكر الخبر عن سبب تولية عمر بن عبد العزيز عبد الرحمن بن نعيم وعبد الرحمن بن عبد الله القشيري خراسان وكان سبب ذلك - فيما ذكر لي - أن الجراح بن عبد الله لما شكى، واستقدمه عمر بن عبد العزيز، فقدم عليه عزله من خراسان لما قد ذكرت قبل. ثم إن عمر لما أراد استعمال عامل على خراسان، قال - فيما ذكر على ابن محمد عن خارجة بن مصعب الضبعي وعبد الله بن المبارك وغيرهما: ابغوني رجلا صدوقًا أسأله عن خراسان، فقيل له: أبو مجلس لاحق بن حميد. فكتب فيه، فقدم عليه - وكان رجلا لا تأخذه العين - فدخل أبو مجلس على عمر في جفة الناس، فلم يثبته عمر، وخرج مع الناس فسأل عنه فقيل: دخل مع الناس ثم خرج فدعا به عمر ثم قال: يا أبا مجلس، لم أعرفك، قال: فهلا أنكرتني إذ لم تعرفني! قال: أخبرني عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال: يكافئ الأكفاء، ويعادي الأعداء وهو أمير يفعل ما يشاء ويقدم إن وجد من يساعده. قال: عبد الرحمن بن نعيم، قال: ضعيف لين يحب العافية، وتأتي له، قال: الذي يحب العافية وتأتي له أحب إ لي، فولاه الصلاة والحرب وولى عبد الرحمن القشيري، ثم أخذ بني الأعور بن قشير الخراج، وكتب إلى أهل خراسان: إني استعملت عبد الرحمن على حربكم وعبد الرحمن بن عبد الله على خراجكم عن غير معرفة مني بهما ولا اختيار، إلا ما أخبرت عنهما؛ فإن كانا على ما تحبون فاحمدوا الله، وإن كانا على غير ذلك فاستعينوا بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال علي: وحدثنا أبو السرة الأزدي، عن إبراهيم الصائغ، أن عمر ابن عبد العزيز كتب إلى عبد الرحمن بن نعيم: أما بعد، فكن عبدًا ناصحًا لله في عباده، ولا يأخذك في الله لومة لائم؛ فإن الله أولى بك من الناس، وحقه عليك أعظم، فلا تولين شيئًا من أمر المسلمين إلا بالمعروف بالنصيحة لهم والتوفير عليهم، وأداء الأمانة فيما استرعى. وإياك أن يكون ميلك ميلًا إلى غير الحق، فإن والله لا تخفى عليه خافية، ولا تذهبن عن الله مذهبًا؛ فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه. قال علي، عن محمد الباهلي وأبي نهيك بن زياد وغيرهما: إن عمرو بن عبد العزيز بعث بعهد عبد الرحمن بن نعيم على حرب خراسان وسجستان مع عبد الله بن صخر القرشي، فلم يزل عبد الرحمن بن نعيم على خراسان وحتى مات عمر بن عبد العزيز، وبعد ذلك حتى قتل يزيد بن المهلب، ووجه مسلمة سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم، فكانت ولايته أكثر من سنة ونصف، وليها في شهر رمضان من سنة مائة، وعزل سنة اثنتين ومائة، بعد ما قتل يزيد بن المهلب. قال علي: كانت ولاية عبد الرحمن بن نعيم خراسان ستة عشر شهرًا. أول الدعوة قال أبو جعفر: وفي هذه السنة - أعني سنة مائة - وجه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس من أرض الشراة ميسرة إلى العراق، ووجه محمد بن خنيس وأبا عكرمة السراج - وهو أبو محمد الصادق - وحيان العطار خال إبراهيم ابن سلمة إلى خراسان، وعليها يومئذ الجراح بن عبد الله الحكمي من قبل عمر بن عبد العزيز، وأمرهم بالدعاء إليه وإلى أهل بيته، فلقوا من لقوا، ثم انصرفوا بكتب من استجاب لهم إلى محمد بن علي، فدفعوها إلى ميسرة، فبعث بها ميسرة إلى محمد بن علي، واختار أبو محمد الصادق لمحمد بن علي اثنى عشر رجلًا، نقباء، منهم سليمان ابن كثير الخزاعي، ولاهز بن قريظ التميمي، وقحطبة بن شبيب الطائي، وموسى بن كعب التميمي، وخالد بن إبراهيم أبو داود، من بني عمرو بن شيبان بن ذهل، والقاسم بن مجاشع التميمي وعمران بن إسماعيل أبو النجم، مولى لآل أبي معيط ومالك بن الهيثم الخزاعي وطلحة ابن زريق الخزاعي وعمرو بن أعين أبو حمزة مولى الخزاعة. وشبل بن طهمان أبو علي الهروي؛ مولى لبني حنيفة، وعيسى بن أعين مولى خزاعة؛ واختار. سبعين رجلًا، فكتب إليهم محمد بن علي كتابًا ليكون لهم مثالًا وسيرة يسيرون بها. وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر محمد بن مروان بن حزم، حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي. وكان عمال الأمصار في هذه السنة العمال في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل ما خلا عامل خراسان؛ فإن عاملها كان في آخرها عبد الرحمن بن نعيم على الصلاة والحرب، وعبد الرحمن بن عبد الله على الخراج. ثم دخلت سنة إحدى ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث خبر هرب يزيد بن المهلب من سجنه في ذلك ما كان من هرب يزيد بن المهلب من حبس عمر بن عبد العزيز. ذكر الخبر عن سبب هربه منه وكيف كان هربه منه ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن عمر بن عبد العزيز لما كلم في يزيد بن المهلب حين أراد نفيه إلى دهلك، وقيل له: إنا نخشى أن ينتزعه قومه، رده إلى محبسه، فلم يزل في محبسه ذلك حتى بلغه مرض عمر، فأخذ يعمل في الهرب من محبسه مخافة يزيد بن عبد الملك؛ لأنه كان قد عذب أصهاره آل أبي عقيل - كانت أم الحجاج بنت محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف عند يزيد بن عبد الملك، فولدت له الوليد بن يزيد المقتول - فكان يزيد بن عبد الملك قد عاهد الله لئن أمكنه الله من يزيد بن المهلب ليقطعن منه طابقًا فكان يخشى ذلك، فبعث يزيد بن المهلب إلى مواليه، فأعدوا له إبلًا؛ وكان مرض عمر في دير سمعان، فلما اشتد مرض عمر أمر بإبله فأتى بها، فلما تبين له أنه قد ثقل نزل من محبسه، فخرج حتى مضى إلى المكان الذي واعدهم فيه؛ فلم يجدهم جاؤوا، فجزع أصحابه وضجروا، فقال لأصحابه: أترونني أرجع إلى السجن! لا والله لا أرجع إليه أبدًا. ثم إن الإبل جاءت، فاحتمل، فخرج ومعه عاتكة امرأته ابنة الفرات بن معاوية العامرية من بني البكاء في دمشق المحمل، فمضى. فلما جاز كتب إلى عمر بن عبد العزيز: إني والله لو علمت أنك تبقى ما خرجت من محبسي؛ ولكني لم آمن يزيد بن عبد الملك. فقال عمر: اللهم إن كان يزيد يريد بهذه الأمة شرًا فاكفهم شره، واردد كيده في نحره. ومضى يزيد بن المهلب حتى مر بحدث الزقاق، وفيه الهذيل بن زفر معه قيس، فاتبعوا يزيد بن المهلب حيث مر بهم، فأصابوه طرفًا من ثقله وغلمة من وصفائه، فأرسل الهذيل بن زفر في آثارهم، فردهم فقال: ما تطلبون؟ أخبروني، أتطلبون يزيد بن المهلب أو أحدًا من قومه بتبل؟ فقالوا: لا، قال: فما تريدون؟ إنما هو رجل كان في إسار، فخاف على نفسه فهرب. وزعم الواقدي أن يزيد بن المهلب إنما هرب من سجن عمر بعد موت عمر. خبر وفاة عمر بن عبد العزيز وفي هذه السنة توفي عمر بن عبد العزيز، فحدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عبيى، عن أبي معشر، قال: توفي عمر بن عبد العزيز لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة. وكذلك قال محمد بن عمر، حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: اخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عمرو بن عثمان، قال: مات عمر بن عبد العزيز لعشر ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة. وقال هشام عن أبي مخنف: مات عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة لخمس بقين من رجب بدير سمعان في سنة إحدى ومائة، وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر. ومات بدير سمعان. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عمي الهيثم بن واقد، قال: ولدت سنة سبع وتسعين، واستخلف عمر بن عبد العزيز بدابق يوم الجمعة لعشر بقين من صفر سنة تسع وتسعين، فأصابني من قسمه ثلاثة دنانير، وتوفي بخناصرة يوم الأربعاء لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة، وكان شكوه عشرين يومًا، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، ومات وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، ودفن بدير سمعان. وقد قال بعضهم: كان له يوم توفي تسع وثلاثون سنة، وخمسة أشهر. وقال بعضهم: كان له أربعون سنة. وقال هشام: توفي عمر وهو ابن أربعين سنة وأشهر، وكان يكنى أبا حفص وله يقول عويف القوافي. وقد حضره في جنازة شهدها معه: أحبني أبا حفص لقيت محمدا ** على حوضه مستبشرًا ورآكا فأنت امرؤ كلتا يديك مفيدة ** شمالك خير من يمين سواكا وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وكان يقال له: أشج بني أمية، وذلك أن دابة من دواب أبيه كانت شجته فقيل له: أشج بني أمية. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا المبارك بن فضالة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، قال: كنت أسمع ابن عمر كثيرًا يقول: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر، في وجهه علامة، يملأ الأرض عدلا! وحدثت عن منصور بن أبي مزاحم، قال: حدثنا مروان بن شجاع، عن سالم الأفطس، أن عمر بن عبد العزيز رمحته دابة وهو غلام بدمشق، فأتيت به أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، فضمته إليها، وجعلت تمسح الدم عن وجهه. ودخل أبوه عليها على تلك الحال، فأقبلت عليه تعذله وتلومه، وتقول: ضيعت ابني، ولم تضم إليه خادمًا ولا حاضنًا يحفظه من مثل هذا! فقال لها: اسكتي يا أم عاصم، فطوباك إذ كان أشج بني أمية! ذكر بعض سيره ذكر علي بن محمد أن كليب بن خلف حدثهم عن إدريس بن حنظلة، والمفضل، عن جده، وعلي بن مجاهد عن خالد: أن عمر بن عبد العزيز كتب حين ولى الخلافة إلى يزيد بن المهلب: أما بعد، فإن سليمان كان عبدًا من عبيد الله أنعم الله عليه، ثم قبضه واستخلفني، ويزيد بن عبد الملك من بعدي إن كان، وإن الذي ولاني الله من ذلك وقدر لي ليس على بهيم، ولو كانت رغبتي في اتخاذ أزواج واعتقاد أموال، كان في الذي أعطاني من ذلك ما قد بلغ بي أفضل ما بلغ بأحد من خلقه، وأنا أخاف فيما ابتليت به حسابًا شديدًا، ومسألة غليظة، إلا ما عافى الله ورحم، وقد بايع من قبلنا فبايع من قبلك. فلما قدم الكتاب على يزيد بن المهلب، ألقاه إلى أبي عيينة، فلما قرأه قال: لست من عماله، قال: ولم؟ قال: ليس هذا كلام من مضى من أهل بيته، وليس يريد أن يسلك مسلكهم. فدعا الناس إلى البيعة فبايعوه. قال: ثم كتب إلى عمر إلى يزيد استخلف على خراسان، وأقبل، فاستخلف ابنه مخلدًا. قال علي: وحدثنا علي بن مجاهد، عن عبد الأعلى بن منصور، عن ميمون بن مهران، قال: كتب عمر إلى عبد الرحمن بن نعيم أن العمل والعلم قريبان، فكن عالمًا بالله عاملا له، فإن أقوامًا علموا ولم يعملوا، فكان علمهم عليهم وبالًا. قال وأخبرنا مصعب بن حيان، عن مقاتل بن حيان، قال: كتب عمر إلى عبد الرحمن: أما بعد، فاعمل عمل رجل يعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين. قال علي: أخبرنا كليب بن خلف، عن طفيل بن مرداس، قال: كتب عمر إلى سليمان بن أبي السرة، أن اعمل خانات في بلادك فمن مر بك من المسلمين فقروهم يومًا وليلة، وتعهدوا دوابهم، فمن كانت به علة فقروه يومين وليلتين، فإن كان منقطعًا به فقووه بما يصل به إلى بلده. فلما أتاه كتاب عمر قال أهل سمرقند لسليمان: إن قتيبة غدر بنا وظلمنا وأخذ بلادنا وقد أظهر الله العدل والإنصاف، فأذن لنا فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين يشكون ظلامتنا، فإن كان لنا حق أعطيناه، فإن بنا إلى ذلك حاجة. فأذن لهم، فوجهوا منهم قومًا، فقدموا على عمر، فكتب لهم عمر إلى سليمان ابن أبي السرة: إن أهل سمرقند قد شكوا إلى ظلمًا أصابهم. وتحاملا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة. قال: فأجلس لهم سليمان جميع بن حاضر القاضي الناجي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحًا جديدًا أو ظفرًا عنوة، فقال أهل السغد: بل نرضى بما كان، ولا نجدد حربًا. فتراضوا بذلك، فقال أهل الرأي: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم وآمنونا وأمناهم، فإن حكم لنا عدنا إلى الحرب ولا ندري لمن يكون الظفر. وإن لم يكن لنا كنا قد اجتلبنا عداوة في المنازع. فتركوا الأمر على ما كان، ورضوا ولم ينازعوا. قال: وكتب عمر إلى عبد الرحمن بن نعيم يأمره بإقفال من وراء النهر من المسلمين بذراريهم. قال: فأبوا وقالوا: لا يسعنا مرو. فكتب إلي عمر بذلك، فكتب إليه عمر: اللهم إني قد قضيت الذي علي، فلا تغز بالمسلمين. فحسبهم الذي قد فتح الله عليهم. قال: وكتب إلى عقبة بن زرعة الطائي - وكان قد ولاه الخراج بعد القشيري: إن للسلطان أركانًا لايثبت إلا بها، فا لوالي ركن، والقاضي ركن وصاحب بيت المال ركن والركن الرابع أنا، وليس من ثغور المسلمين ثغر أهم إلي، ولا أعظم عندي من ثغر خراسان، فاستوعب الخراج وأحرز في غير ظلم، فإن يك كفافًا لأعطياتهم فسبيل ذلك، وإلا فاكتب إلي حتى أحمل إليك الأموال فتوفر لهم أعطياتهم. قال: فقدم عقبة فوجد خراجهم يفضل عن أعطياتهم، فكتب إلى عمر فأعلمه، فكتب إليه عمر: أن اقسم الفضل في أهل الحاجة. وحدثني عبد الله بن أحمد بن شبوية، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: سمعت عبد الله يقول عن محمد بن طلحة، عن داود ابن سليمان الجعفي، قال: كتب عمر بن عبد العزيز: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عبد الحميد، سلام عليك؛ أما بعد؛ فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله وسنة خبيثة استنهى عليهم عمال السوء، وإن قوام الدين العدل والإحسان، فلا يكونن شيء أهم إليك من نفسك؛ فإنه لا قليل من الإثم. ولا تحمل خرابًا على عامر. ولا عامرًا على خراب، انظر الخراب فخذ منه ما أطاق. وأصلحه حتى يعمر. ولا يؤخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض. ولا تأخذن في الخراج إلا وزن سبعة ليس لها آيين ولا أجور الضرابين، ولا هدية النيروز والمهرجان. ولا ثمن الصحف. ولا أجور الفيوج، ولا أجور البيوت ولا دراهم النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض؛ فاتبع في ذلك أمري؛ فإني قد وليتك من ذلك ما ولاني الله، ولا تعجل دوني بقطع ولا صلب؛ حتى تراجعني فيه. وانظر من أراد من الذرية أن يحج، فعجل له مائتى يحج بها، والسلام. حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبوية، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن شهاب بن شريغة المجاشعي، قال: الحق عمر بن عبد العزيز ذراري الرجال الذين في العطايا أقرع بينهم، فمن أصابته القرعة جعله في المائة، ومن لم تصبه القرعة جعله في الأربعين، وقسم في فقراء أهل البصرة كل إنسان ثلاثة دراهم؛ فأعطى الزمني خمسين خمسين. قال: وأراه رزق الفطم. حدثني عبد الله، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الفضيل، عن عبد الله قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أهل الشام: سلام عليكم ورحمة الله، أما بعد؛ فإنه من أكثر ذكر الموت قل كلامه، ومن علم أن الموت حق رضي باليسير، والسلام. قال علي بن محمد: وقال أبو مجلس لعمر: إنك وضعتنا بمنقطع التراب، فاحمل إلينا الأموال. قال: يا أبا مجلس: قلبت الأمر، قال: يا أمير المؤمنين أهو لنا أم لك؟ قال: بل هو لكم إذا قصر خراجكم عن أعطياتكم، قال: فلا أنت تحمله إلينا، ولا نحمله إليك، وقد وضعت بعضه على بعض قال: أحمله إليكم إن شاء الله. ومرض من ليلته فمات من مرضه. وكانت ولاية عبد الرحمن بن نعيم خراسان ستة عشر شهرًا. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي عمارة بن أكيمة الليثي، ويكني أبا الوليد، وهو ابن تسع وسبعين. زيادة في سيرة عمر بن عبد العزيز ليست من كتاب أبي جعفر إلى أول خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان روى عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي، قال: حدثنا رجل في مسجد الجنابذ أن عمر بن عبد العزبز خطب الناس بخناصرة، فقال: أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثًا، ولن تتركوا سدًا؛ وإن لكم عادًا ينزل الله فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم، وقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض ألا واعلموا أنما الأمان غدًا لمن حذر الله وخافه، وباع نافدًا بباق، وقليلة بكثير وخوفًا بأمان. ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين! وفي كل يوم تشيعون غاديًا ورائحًا إلى الله قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحبة، وخلع الأسباب، فسكن التراب وواجه الحساب، فهو مرتهن بعمله، فقير إلى ما قدم، غنى عما ترك. فاتقوا الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقعه. ويم الله إني لا أقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما عندي؛ فاستغفر الله وأتوب إليه. وما منكم من أحد تبلغن عنه حاجة إلى أحببت أن أسد من حاجته ما قدرت عليه، وما منكم أحد يسعه ما عندنا إلا وددت أنه سداي ولاحمى، حتى يكون عيشنا وعيشه سواء. وايم الله أن لو أردت غير هذا من الغضارة والعيش؛ لكان اللسان مني به ذلولا عالمًا بأسبابه، ولكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة يدل فيها على طاعته، وينهى عن معصيته. ثم رفع طرف ردائه فبكى حتى شهق وأبكى الناس حوله، ثم نزل فكانت إياها لم يخطب بعدها حتى مات رحمه الله. روى خلف بن تميم، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن سعد، قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز مات ابن له، فكتب عامل له يعزيه عن ابنه فقال لكاتبه: أجبه عني، قال: فأخذ الكاتب يبري القلم، قال: فقال للكاتب: أدق القلم، فإنه أبقى للقرطاس، وأوجز للحروف، واكتب: " بسم الله الرحمن الرحيم ". أما بعد، فإن هذا الأمر أمر قد كنا وطنا أنفسنا عليه، فلما نزل لم ننكره، والسلام. روى منصور بن مزاحم، قال: حدثنا شعيب - يعني ابن صفوان عن ابن عبد الحميد، قال: قال عمر بن عبد العزيز: من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب حقه؛ فاتقوا الله، فإنها نصيحة لكم في دينكم، فاقبلوها، وموعظة منجية في العواقب فالزموها. الرزق مقسوم فلن يغدر المؤمن ما قسم له، فأجعل في الطلب، فإن في القنوع سعى وبلغى وكفافًا، إن أجل الدنيا في أعناقكم، وجهم أمامكم، وما ترون ذاهب، وما مضى فكأن لم يكن، وكل أموات عن قريب، وقد رأيتم حالات الميت وهو يسوق؛ وبعد فراغه وقد ذاق الموت، والقوم حوله يقولون: قد فرغ رحمه الله! وعاينتم تعجيل إخراجه، وقسمة تراثه ووجهه مفقود، وذكره منسى، وبابه مهجور، وكأن لم يخالط إخوان الحفاظ، ولم يعمر الديار، فاتقوا هول يوم لا تحقر فيه مثقال ذرة في الموازين. روى سهل بن محمود؛ قال: حدثنا حرملة بن عبد العزيز، قال: حدثني أبي، عن ابن العمر بن عبد العزيز، قال: أمرنا عمر أن نشتري موضع قبره، فاشتريناه من الراهب، قال: فقال بعض الشعراء: أقول لما نعى الناعون لي عمرا ** لا يبعدن قوام العدل والدين قد غادر القوم بالحد الذي لحدوه ** بدير سمعان قسطاس الموازين روى عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، قال: قال عمر بن عبد العزيز: من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح، ومن لم يعد كلامه من عمله كثرت ذنوبه، والرضا قليل، ومعول المؤمن الصبر، وما أنعم الله عليه عبد نعمت ثم انتزها منه فأعاضه ممن انتزع منه الصبر إلا كان ما أعاضه خيرًا ممن انتزع منه، ثم قرأ هذه الآية: " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " وقدم كتابه على عبد الرحمن بن نعيم: لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار صولحتم عليه، ولا تحدثن كنيسة ولا بيت نار، ولا تجر الشاة إلا مذبحها، ولا تحدوا الشفرة على رأس الذبيحة، ولا تجمعوا بين الصلاتين إلا من عذر. روى عفان بن مسلم، عن عثمان بن عبد الحميد، قال: حدثنا أبي، قال: بلغنا أن فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز قالت: اشتد علزه ليلة، فسهر وسهرنا معه، فلما أصبحنا أمرت وصيفًا له يقال له مرثد، فقلت له: يا مرثد، كن عند أمير المؤمنين، فإن كانت له حاجة كنت قريبًا منه. ثم انطلقنا فضربنا برءوسنا لطول سهرنا، فلما انفتح النهار استيقظت فتوجهت إليه، فوجدت مرثدًا خالجًا من البيت نائمًا، فأيقظته فقلت: يا مرثد، ما أخرجك؟ قال: هو أخرجني، قال: يا مرثد؛ اخرج عني! فوالله إني لا أرى شيئًا ماهو بالإنس ولا جان، فخرجت وسمعته يتلو هذه الآية: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوة في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين "، قال: فدخلت عليه فوجدته قد وجه نفسه، وأغمض عينيه وإنه لميت رحمه الله. خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان وفيها ولى يزيد بن عبد الملك بن مروان، وكنيته أبو خالد وهو ابن تسع وعشرين سنة في قول هشام بن محمد؛ ولما ولى الخلافة نزع عن المدينة أبا بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، وولاها عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، فقدمها - فيما زعم الواقدي - يوم الأربعاء لليال بقين من شهر رمضان فاستقضى عبد الرحمن سلمى بن عبد الله بن عبد الأسد المخزومي. وذكر محمد بن عمر أن عبد الجبار بن عمارة حدثه عن أبي بكر بن حزم، أنه قال: لما قدم عبد الرحمن بن الضحاك المدينة وعزلني، دخلت عليه، فسلمت فلم يقبل على، فقلت: هذا شيء لا تملكه قريش للأمصار، فرجعت إلى منزلي وخفته - وكان شابًا مقدامًا فإذا هو يبلغني عنه أنه يقول: ما يمنع ابن حزم أن يأتيني إلا الكبر، وإني لعالم بخيانته؛ فجاءني ماكنت أحذر وما استيقن من كلامه، فقلت للذي جاءني بهذا: قل له: ما الخيانة لي بعادة، وما أحب أهلها، والأمير يحدث نفسه بالخلود في سلطانه، كم نزل هذه الدار من أمير وخليفة قبل الأمير فخرجوا منها وبقيت أثارهم أحاديث إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا! فاتق الله ولا تسمع قول ظالم أو حاسد على نعمة. فلم يزل الأمر يترقى بينهما، حتى خاصم إليه رجل من بني فهرو أخر من بني النجار - وكان أبو بكر قضى للنجار على الفهر في أرض كانت بينهما نصفين، فدفع أبو بكر الأرض إلى النجار - فأرسل الفهري إلى النجار وإلى أبي بكر بن حزم، فأحضرهما ابن الضحاك، فتظلم الفهري من أبي بكر بن حزم، وقال: أخرج مالي من يدي، فدفعه إلى هذا النجاري، فقال أبو بكر: اللهم غفرًا! أما رأيتني سألت أيامًا في أمرك وأمر صاحبك، فاجتمع لي علي اخراجها من يدك، وأرسلتك إلى من أفتاني بذلك: سعيد بن المسيب وأبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فسألتهما؟ فقال الفهري: بلى، وليس يلزمني قولهما. فانكسر ابن الضحاك فقال: قوموا، فقاموا، فقال للفهري: تقر له أنك سألت من أفتاه بهذا، ثم تقول ردها علي! أنت أرعن، إذهب فلاحق لك؛ فكان أبو بكر يتقيه ويخافه، حتى كلم ابن حيان يزيد أن نقيده من أبي بكر؛ فإنه ضربه حدين، فقال يزيد: لا أفعل، رجل اصتنعه أهل بيتي؛ ولكني أوليك المدينة. قال: لا أريد ذلك، لو ضربته بسلطاني لم يكن لي قودًا. فكتب يزيد إلى عبد الرحمن بن الضحاك كتابًا: أما بعد فانظر فيما ضرب ابن حزم بن حيان، فإن كان ضربه في أمر بين فلا تلتفت إليه، وإن كان ضربه في أمر يختلف فيه فلا تلتفت إليه، فإن كان ضربه في أمر غير ذلك فأقده منه. فقدم بالكتاب على عبد الرحمن بن الضحاك، فقال عبد الرحمن: ما جئت بشيء، أترى ابن حزم ضربك في أمر لا يختلف فيه! فقال عثمان لعبد الرحمن: إن أردت أن تحسن أحسنت، قال: الآن أصبت المطلب، فأرسل عبد الرحمن إلى ابن حزم فضربه حدين في مقام واحد، ولم يسأله عن شيء. فرجع أبو المغراء بن حيان وهو يقول: أنا أبو المغراء بن الحيان، والله ما قربت النساء من يوم صنع بي ابن أبي حزم ما صنع حتى يومي هذا، واليوم أقرب النساء! مقتل شوذب الخارجي قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل شوذب الخارجي. ذكر الخبر عن مقتله قد ذكرنا قبل الخبر عما كان من مراسلة شوذب عمر بن عبد العزيز لمناظرته في خلافه عليه، فلما مات عمر أحب - فيما ذكر معمر بن المثنى - عبد الحميد بن عبد الرحمن أن يحظى عند يزيد بن عبد الملك، فكتب إلي محمد بن جيرير يأمره بمحاربة شوذب وأصحابه، ولم يرجع رسول شوذب، ولم يعلم بموت عمر، فلما رأوا أن محمد بن جرير يستعد للحرب، أرسل إليه شوذب: ما أعجلك قبل انقضاء المدة فيما بيننا وبينكم! أليس قد تواعدنا إلى أن يرجع رسول شوذب! فأرسل إليهم محمد: إنه لا يسعنا ترككم على هذه الحالة - قال غير أبي عبيدة: فقالت الخوارج: ما فعل هؤلاء هذا إلا وقد مات الرجل الصالح. قال معمر بن المثنى: فبرز لهم شوذب، فاقتتلوا، فأصيب من الخوارج نفر، وأكثروا في أهل القبلة القتل، وتولوا منهزمين، والخوارج في أعقابهم تقتل حتى بلغوا أخصاص الكوفة، ولجئوا إلى عبد الحميد، وجرح محمد بن جرير في أستة، ورجع شوذب إلى موضع فأقام ينتظر صاحبيه، فجاءاه فأخبراه بما صار عليه عمر، وأن قد مات. فأقر يزيد عبد الحميد على الكوفة، ووجه كم قبله تميم بن الحباب في ألفين، فراسلهم وأخبرهم أن يزيد لا يفارقهم على ما فارقهم عليه عمر، فلعنوه ولعنوا يزيد، فحاربهم فقتلوه وهزموا أصحابه، فلجأ إلى الكوفة ورجع الآخرون إلى يزيد، فوجه إليهم نجدة بن الحكم الأزدي في جمع فقتلوه، وهزموا أصحابه، فوجه إليهم الشحاج بن وداع في ألفين، فراسلهم وراسلوه، فقتلوه، وقتل منهم نفرًا فيهم هدبة اليشكري؛ ابن عم بسطام - وكان عابدًا - وفيهم أبو شبيل مقاتل ابن شيبان - وكان فاضلًا عندهم - فقال أبو ثعلبة أيوب بن خولى يرثيهم: تركنا تميمًا في الغبار ملحبًا ** تبكى عليه عرسه وقراشبه وقد أسلمت قيس تميمًا ومالكًا ** كما أسلم الشحاج أمس أقاربه وأقبل من حران يحمل راية ** يغالب أمر الله والله غالبه فيا هدب للهيجا، ويا هدب للندى ** ويا هدب للخصم الألد يحاربه! ويا هدب كم من ملحم قد أجبته ** وقد أسلمت للرياح جوالبه وكان أبو شيبان خير مقاتل ** يرجى ويخشى بأسه من يحاربه ففاز ولاقى الله بالخير كله ** وخذمه بالسيف في الله اربه تزود من دنياه درعًا ومغفرًا ** وعصبًا حسامًا لم تخنه مضاربه واجرد محبوك السراة كأنه ** إذا انقضوا في الريش حجن مخالبه فلما دخل مسلمة الكوفة شكا إليه مكان شوذب، وخوفهم منه وما قد قتل منهم، فدعا مسلمة سعيد بن عمرو الحرشي - وكان فارسًا - فعقد لع على عشرة آلاف، ووجهه إليه وهو مقيم بموضعه، فأتاه ما لا طاقة له به. فقال شوذب لأصحابه: من كان يريد الله فقد جاءته الشهادة، ومن كان إنما خرج للدنيا فقد ذهبت الدنيا، وإنما البقاء في الدار الآخرة؛ فكسروا أغماد السيوف وحملوا. فكشفوا سعيدًا وأصحابه مرارًا؛ حتى خاف الفضيحة فذمر أصحابه، وقال لهم: أمن هذه الشرذمة لا أبالكم تفرون! يا أهل الشام يومًا كأيامكم! قال: فحملوا عليهم فطحنوهم طحنًا لم يبقوا منهم أحدًا، وقتلوا بسطامًا وهو شوذب وفرسانه، منهم الريان بن عبد الله اليشكري، وكان من المخبتين، فقال أخو شمر بن عبد الله يرثيه: ولقد فجعت بسادة وفوارس ** للحرب سعر من بني شيبان أعتاقهم ريب الزمان فغالهم ** وتركت فردًا غير ذي إخوان كمدا تجلجل في فؤادي حسره ** كالنار من وجد على الريان وفوارس باعوا الإله نفوسهم ** من يشكر عند الوغى فرسان وقال حسان بن جعدة يرثيهم: يا عين أذري دموعًا منك تسجاما ** وأبكي صحابة بسطام وبسطاما فلن ترى أبدًا ماعشت مثلهم ** أتقي وأكمل في الأحلام أحلاما بسيهم قد تأسوا عند شدتهم ** ولم يريدوا من الأعداء إحجاما حتى مضوا للذي كانوا له خرجوا ** فأورثونا منارات وأعلاما إني لأعلم أن قد أنزلوا غرفًا ** من الحنان ونالوا ثم خداما أسقى الإله بلادًا كان مصرعهم ** فيها سحابًا من الوسمى سجاما خبر خلع يزيد بن المهلب يزيد بن عبد الملك قال أبو جعفر: وفي هذه السنة لحق يزيد بن المهلب بالبصرة، فغلب عليها، وأخذ عامل يزيد بن عبد الملك عليها عدي بن أرطاة الفزاري، فحبسه وخلع يزيد بن عبد الملك. ذكر الخبر عن سبب خلعه يزيد بن عبد الملك وما كان من أمره وأمر يزيد في هذه السنة قد مضى ذكرى خبر يزيد بن المهلب من محبسه الذي كان عمر بن عبد العزيز حبسه فيه، ونذكر الآن ما كان من صنيعه بعد هربه في هذه السنة - أعني سنة إحدى ومائة. ولما مات عمر بن عبد العزيز بويع يزيد بن عبد الملك في اليوم الذي مات فيه عمر، وبلغه هرب يزيد بن المهلب، فكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن يأمره أن يطلب ويستقبله، وكتب إلى عدي بن أرطاة يعلمه هربه، ويأمره أن يتهيأ لاستقباله، وأن يأخذ من كان بالبصرة من أهل بيته. فذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن عدي بن أرطاة أخذهم وحبسهم، وفيهم المفضل وحبيب ومروان بنو المهلب، وأقبل يزيد بن المهلب حتى مر بسعيد بن عبد الملك بن مروان، فقال يزيد لأصحابه: ألا نعرض لهذا فنأخذه فنذهب به معنا! فقال لأصحابه: لا بل امض بنا ودعه. وأقبل يسير حتى ارتفعفوق القطقطانة، وبعث عبد الحميد بن عبد الرحمن هشام ابن مساحق بن عبد الله بن محرمة بن عبد العزيز بن أبي قيس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي القرشي، في ناس من أهل الكوفة من الشرط ووجوه الناس وأهل القوة، فقال له: انطلق حتى تستقبله فإنه اليوم يمر بجانب العذيب. فمشى هشام قليلًا، ثم رجع إلى عبد الحميد، فقال: أجيئك به أسيرًا أم آتيك برأسه؟ فقال: أي ذلك ما شئت، فكان يعجب لقوله ذلك من سمعه، وجاء هشام حتى نزل العذيب، ومر يزيد منهم غير بعيد، فاتقوا الإقدام عليه، ومضى يزيد نحو البصرة، ففيه يقول الشاعر: وسار ابن المهلب لم يعرج ** وعرس ذو القطيفة من كنانه وياسر والتياسر كان حزمًا ** ولم يقرب قصور القطقطانة ذو القطيفة هو محمد بن عمرو، وهو أبو قطيفة بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أبو قطيفة؛ وإنما سما ذا القطيفة، لنه كان كثير شعر اللحي والوجه والصدر. ومحمد يقال له ذو الشامة. فلما جاء يزيد بن المهلب انصرف هشام بن مساحق إلى عبد الحميد، ومضى يزيد إلى البصرة، وقد جمع عدي بن أرطاة إليه أهل البصرة وخندق عليها، وبعث على خيل البصرة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل الثقفي. وكان عدي بن أرطاة رجلًا من بني فزارة. وقال عبد الملك بن المهلب لعدي بن أرطاة: خذ ابني حميدًا فاحبسه مكاني، وأنا أضمن لك أن أرد يزيد عن البصرة حتى يأتي فارس، ويطلب لنفسه الأمان ولا يقربك فأبى عليه، وجاء يزيد ومعه أصحابه الذين أقبل فيهم، والبصرة محفوفة بالرجال، وقد جمع محمد بن المهلب - ولم يكن ممن حبس - رجالًا وفتية من أهل بيته وناسًا من مواليه، فخرج حتى استقبله، فأقبل في كتيبة تهول من رآها، وقد دعا عدي أهل البصرة، فبعث على كل خمس من أخماسها رجلًا، فبعث على خمس الأزد المغيرة بن زياد بن عمرو التكي، وبعث على خمس بني تميم محرز بن حمران السعدي من بني منقر، وعلى خمس بكر بن وائل عمران بن عامر ابن مسمع من بني قيس بن ثعلبة. فقال أبو منقر - رجل من قيس بن ثعلبة -: إن الراية لا تصلح إلا في بني مالك بن مسمع، فدعا عدي نوح بن شيبان ابن مالك بن مسمع، فعقد له على بكر بن وائل، فدعا مالك بن المنذر بن الجارود، فعقد له على عبد القيس، ودعا عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي، فعقد له على أهل العالية - والعالية قريش وكنانة والأزد وبجيلة وخثعم وقيس عيلان كلها ومزينة - وأهل العالية بالكوفة يقال لهم ربع أهل المدينة وبالبصرة خمس أهل العالية، وكانوا بالكوفة أخماسًا، فجعلهم زياد بن عبيد أرباعًا. قال هشام عب أبي مخنف: وأقبل يزيد بن المهلب لا يمر بخيل من خيلهم ولا قبيلة من قبائلهم إلا تنحوا له عن السبيل حتى يمضي، واستقبله المغيرة ابن عبد الله الثقفي في الخيل، فحمل عليه محمد بن المهلب في الخيل، فأفرج له عن الطريق هو وأصحابه، وأقبل يزيد حتى نزل داره، واختلف الناس إليه، واخذ يبعث إلى عدي بن أرطاة أن أدفع إلى إخوتي وأنا أصالحك على البصرة، وأخليك إياها حتى آخذ لنفسي ما أحب من يزيد بن عبد الملك، فلم يقبل منه، وخرج إلى يزيد بن عبد الملك حميد بن عبد الملك بن المهلب، فبعث معه يزيد بن عبد الملك خالد بم عبيد الله القسري وعمر بن يزيد الحكمي بأمان يزيد بن المهلب وأهل بيته، وأخذ يزيد بن المهلب يعطي من أتاه من الناس، فكان يقطع لهم الذهب وقطع الفضة، فمال الناس إليه، ولحق به عمران بن عامر بن مسمع ساخطًا على عدي بن أرطاة حين نزع منه رايته، راية بكر بن وائل، وأعطاها ابن عمه، ومالت إلى يزيد ربيعة وبقية تميم وقيس وناس بعد ناس؛ فيهم عبد الملك ومالك ابنا مسمع ومعه ناس من أهل الشام، وكان عدي لا يعطي إلا درهمين درهمين، ويقول: لا يحل لي أن أعطيكم من بيت المال درهمًا إلا بأمر يزيد بن عبد الملك، ولكن تبلغوا بهذا حتى يأتي الأمر في ذلك، فقال الفرزدق في ذلك: أظن رجال الدرهمين يسوقهم ** إلى الموت آجال لهم ومصارع فأحزمهم من كان في قعر بيته ** وأيقن أن الأمر لا شك واقع وخرجت بنو عمرو بن تميم من أصحاب عدي، فنزلوا المربد، فبعث إليهم يزيد بن المهلب مولى له يقال له دارس؛ فحمل عليهم فهزمهم، فقال الفرزدق في ذلك: تفرقت الحمراء إذ صاح دارس ** ولم يصبروا تحت السيوف الصوارم جزى الله قيسًا عن عدى ملامة ** ألا صبروا حتى تكون ملاحم وخرج بزبد بن المهلب حين أجمع الناس له الناس حتى نزل جبانة بني يشكر - وهو المنصف فيما بينه وبين القصر - وجاءته بنو تميم وقيس وأهل الشام، فاقتتلوا هنيهة، فحمل عليهم محمد بن المهلب، فضرب مسور بن عباد الحبطي بالسيف فقطع أنف البيضة، ثم أسرع السيف إلى أنفه، وحمل على هريم بن أبي طلحة من بني نهشل بن دارم، فأخذ بمنطقته، فحذفه عن فرسه فوقع؛ فيما بينه وبين الفرس، وقال: هيهات هيهات! عمك أثقل من ذلك. وانهزموا، وأقبل يزيد بن المهلب إثر القوم يتلوهم حتى دنا من القصر، فقاتلوهم وخرج إليه عدي بنفسه فقتل من أصحابه الحارث نب مصرف الأودي - وكان من أشراف أهل الشام وفرسان الحجاج - وقتل موسى بن الوجيه الحميري ثم الكلاعي، وقتل راشد المؤذن، وانهزم أصحاب عدي، وسمع إخوة يزيد وهم في محبس عدي الأصوات تدنو، والنشاب تقع في القصر، فقال لهم عبد الملك: إني أرى النشاب يقع في القصر، وأرى الأصوات تدنو، ولا أرى يزيد إلا قد ظهر، وإني لا آمن من مع عدي من مضر ومن أهل الشام أن يأتونا فيقتلونا قبل أن يصل إلينا يزيد إلى الدار، فأغلقوا الباب ثم أغلقوا عليه ثيابًا. ففعلوا فلم يلبثوا إلا ساعة حتى جاءهم عبد الله بن دينار مولى ابن عمر، وكان على حرس عدي - فجاء يشتد إلى الباب هو واصحابه، وقد وضع بنو المهلب متاعًا على الباب، ثم اتكوا عليه، فأخذ الآخرون يعالجون الباب، فلم يستطيعوا الدخول، وأعجلهم الناس فخلوا عنهم. وجاء يزيد بن المهلب حتى نزل دار سلم بن زياد بن أبي سفيان إلى جانب القصر، وأتى بالسلاليم، فلم يلبث عثمان أن فتح القصر، وأتى بعدي ابن أرطاة، فهنئ وهو يبتسم، فقال له يزيد: لم تضحك؟ فوالله إنه لينبغي أن يمنعك من الضحك خصلتان: إحداهما الفرار من القتلة الكريمة حتى أعطيت بيدك إعطاء المرأة بيدها، فهذه واحدة، الأخرى أني أتيت بك تتل كما يتل العبد الآبق إلى أربابه، وليس معك مني عهد ولا عقد، فما يؤمنك أن أضرب عنقك! فقال عدي: أما أنت فقد قدرت علي، ولكني أعلم أن بقائي بقائك، وأن هلاكي مطلوب به من جرته يده؛ إنك قد رأيت جنود الله بالمغرب، وعلمت بلاء الله عندهم في كل موطن من مواطن الغدر والنكث، فتدارك فلتتك وزلتك بالتوبة واستقالة العثرة، قبل أن يرمي إليك البحر بأمواجه، فإن طلبت الاستقالة حينئذ لم تقل، وإن أردت الصلح وقد أشخصت القوم إليك وجدتهم لك مباعدين، وما لم يشخص القوم إليك فلم يمنعوك شيئًا طلبت الأمان على نفسك وأهلك ومالك. فقال له يزيد: أما قولك: إن بقاءك بقائي؛ فلا أبقاني الله حسوة طائر مذعور أن كنت لا يبقيني إلا بقاؤك؛ وأما قولك: إن هلاكي مطلوب به من جرته يده؛ فوالله لو كان في يدي من أهل الشام عشرة آلاف إنسان ليس فيهم رجل أعظم منزلة منك فيهم، ثم ضربت أعناقهم في صعيد واحد، لكان فراقي إياهم وخلافي عليهم أهول عندهم في صدورهم من قتل أولئك، ثم لو شئت أن تهدر لي دمائهم، وأن أحكم في بيوت أموالهم، ولن يجوزن لي عظيمًا من سلطانهم، على أن أضع الحرب بيني وبينهم لفعلوا؛ فلا يخفين عليك أن القوم ناسوك لو قد وقعت أخبارنا إليهم. وأن أعمالهم وكيدهم لا يكون إلا لأنفسهم، لا يذكرونك ولا يحلفون بك. وأم قولك: تدارك أمرك واستقله وافعل وافعل؛ فوالله ما استشرتك، ولا أنت عندي بواد ولا نصيح؛ فما كان ذلك منك إلا عجزًا وفضلًا؛ فانطلقوا به، فلما ذهبوا به ساعة قال: ردوه، فلما رد قال: أما حبسي ليس إياك لحبسك بني المهلب ويضييقك عليهم فيما منا نسألك التسهيل فيع عليهم، فلم تكن تألوا ما عسرت وضيقت وخالفت؛ فكأنه لهذا القول حين سمعه امن على نفسه، واخذ عدي يحدث به كل من دخل عليه. وكان رجل يقال له السميدع الكندي من بني مالك بن ربيعة من ساكني عمان يرى رأي الخوارج، وكان خرج وأصحاب يزيد عدى مصطفون فاعتزل ومعه الناس من القراء، فقال طائفة من أصحاب يزيد وطائفة من أصحاب عدي: قد رضينا بحكم السميدع. ثم إن يزيد بعث إلى السميدع فدعاه إلى نفسه، فأجابه، فاستعملوا يزيد على الأبلة، فأقبل على الطيب والتخلق والنعيم، فلما ظهر يزيد بن المهلب هرب رؤوس أهل البصرة من قيس وتميم ومالك بن المنذر، فلحقوا بعبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة، ولحق بعضهم بالشام، فقال الفرزدق: فداء لقوم من تميم تتابعوا ** إلى الشام لم يرضوا بحكم السميدع أحكم حرورى من الدين مارق ** أضل وأغوى من حمار مجدع فأجابه خليفة الأقطع. وما وجوهها نحوه عن وفادة ** ولا نهزة يرجى بها خير مطمع ولكنهم راحوا إليها وأدلجوا ** بأقرع أستاه ترى يوم مقرع وهم من حذار اقوم أن يلحقوا بهم ** لهم نزلة في كل خميس وأربع وخرج الحواري بن زياد بن عمرو العتكي يريد يزيد بن عبد الملك هاربًا من يزيد بن المهلب، فلقي خالد عبد الله القسري وعمرو بن يزيد الحكمي ومعهما حميد بن عبد الملك بن المهلب قد أقبلوا من عند يزيد بن عبد الملك بأمان يزيد بن المهلب، وكل شيء أراده، فاستقبلهما، فسألاه عن الخبر فخلا بهما حين رأى معها حميد بن عبد الملك، فقال: أين تريدان؟ فقالا: يزيد بن المهلب، قد جئناه بكل شيء أراده، فقال: ما تصنعان بيزيد شيئًا، ولا يصنعه بكما؛ قد ظهر على عدوه عدي بن أرطاة، وقتل القتلى وحبس عديًا، فارجعا أيها الرجلان. ويمر رجل من باهلة يقال له مسلم بن عبد الملك، فلم يقف عليهما، فصايحاه وساءلاه، فلم يقف عليهما، فقال القسري: ألا ترده فتجلده مائة جلدة! فقال له صاحبه: غربه عنك، واملا لينصرف. ومضى الحواري إلى بزبد بن عبد الملك، وأقبلا بحميد بن عبد الملك معهما، فقال لهما حميد: أنشدكما الله أن تخالفا أمر يزيد ما بعثما به! فإن يزيد قابل منكما؛ وإن هذا واهل بيته لم يزالوا لنا أعداء، فأنشدكما الله أن تقبلا مقالته؛ فلم يقبلا قوله، وأقبلا به حتى دفعاه إلى عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وقد كان يزيد بن عبد الملك بعثه إلى خراسان عاملًا عليها. فلما بلغه خلع يزيد بن عبد الملك كتب إليه: إن جهاد من خالفك أحب إلي من عملي على خراسان، فلا حاجة لي فيها، فاجعلني ممن يوجهني إلى يزيد بن المهلب، وبعث بحميد بن عبد الملك إلى يزيد، ووثب عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب على خالد بن يزيد بن المهلب وهو بالكوفة وعلى حمال بن زحر الجعفي، وليسا ممن كان ينطق بشيء إلا أنهم عرفوا ما كان بينه وبين بني المهلب، فأوثقهما وسرحهما إلى يزيد بن عبد الملك، فحبسهما جميعًا، فلم يفارقوا السجن حتى هلكوا فيه. وبعث يزيد بن عبد الملك رجالًا من أهل الشام إلى الكوفة يسكنونهم، ويثنون عليهم بطاعتهم، ويمنونهم الزيادات منهم القطامي بن الحصين، وهو أبو الشرقي، واسم الشرقي الوليد، وقد قال القطامي حين بلغه ما كان من يزيد بن المهلب: لعل عيني أن ترى يزيدا ** يقود جيشًا حجفلا شديدا تسمع للأرض به وئيدا ** لا برمًا هدا ولا حسودا ولا جبانًا في الوغى رعديدا ** ترى ذوي التاج له سجودا مكفرين خاشعين قودا ** وآخرين رحبوا وفودا لا ينقض العهد ولا المعهودا ** من نفر كانوا هجانًا صيدا ترى لهم في كل يوم عيدا ** من الأعادي جزرا مقصودا ثم إن القطاني سار بعد ذلك إلى العقر حتى شهد قتال يزيد بن المهلب مع مسلمة بن عبد الملك، فقال يزيد بن المهلب: ما أبعد شعر القطامي من فعله! ثم إن يزيد بن عبد الملك بعث العباس بن الوليد في أربعة آلاف فارس؛ جريدة خيل، حتى وافوا الحيرة يبادر إليها يزيد بن المهلب، ثم أقبل بعد ذلك مسلمة بن عبد الملك وجنود أهل الشام، وأخذ على الجزيرة وعلى شاطئ الفرات فاستوثق أهل البصرة ليزيد بن المهلب، وبعث عماله على الأهواز وفارس وكرمان، عليها الجراح بن عد الله الحكمي حتى انصرف إلى عمر بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن نعيم الأزدي فكان على الصلاة. واستخلف يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن القشيري على الخراج، وجاء مدرك بن المهلب حتى انتهى إلى رأس المفازة فدس عبد الرحمن بن نعيم إلى بني تميم أن هذا مدرك بن المهلب يريد أن يلقي بينكم الحرب، وأنتم في بلاد عافية وطاعة وعلى جماعة، فخرجوا ليلًا يستقبلونه، وبلغ ذلك الأزد، فخرج منهم نحو من ألفي فارس حتى لحقوهم قبل أن ينتهوا إلى رأس المفازة، فقالوا لهم: ما جاء بكم؟ وما أخرجكم إلى هذا المكان؟ فاعتلوا عليهم بأشياء، ولم يقروا لهم أنهم خرجوا ليتلفوا مدرك بن المهلب، فقال لهم الآخرون، بل قد علمنا أن تخرجوا لتلقى صاحبنا، وهاهو ذا قريب؛ فما شئتم. ثم انطلقت الأزد حتى تلقوا مدرك بن المهلب على رأس المفازة، فقالوا له: إنك أحب الناس إلينا، وأعزهم علينا، وقد خرج أخوك ونابذه، فإن يظهره الله فإنما ذلك لنا، ونحن أسرع الناس إليكم أهل البيت وأحقه بذلك؛ وإن تكن الأخرى فوالله مالك في أن يغشانا ما يعيرنا من البلاء راحة. فعزم له رأيه على الانصراف، فقال ثابت قطنة، وهو ثابت بن كعب، من الأزد من العتيك: أم تر دوسرًا منعت أخاها ** وقد حشدت لتقتله تميم رأوا من دونه الزرق العوالي ** وحيًا ما يباح لهم حريم شنوعتها وعمران بن حزم ** هناك المجد والحسب الصميم فما حملوا ولكن نهنهتهم ** رماح الأزد والعز القديم رددنا مدركًا بمرد صدق ** وليس بوجهه منكم كلوم وخيل كالقداح مسومات ** لدى أرض مغانيها الجميم عليها كل أصيد دوسري ** عزيز لا يفر ولا يريم بهم تستعتب السفهاء حتى ** ترى السفهاء تردعها الحلوم قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني معاذ بن سعد أن يزيد لما استجمع له البصرة، قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم أخبرهم أنه يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد ﷺ، ويحث على الحهاد، ويزعم أن جهاد أهل الشام أعظم ثوابًا من جهاد الترك والديلم. قال: فدخلت أنا والحسن البصري وهو واضع يده على عاتقي، وهو يقول: انظر هل ترى وجه رجل تعرفه؟ قلت: لا والله ما أرى وجه رجل أعرفه، قال: فهؤلاء والله الغثاء، قال: فمضينا حتى دنونا من المنبر. قال: فسمعته يذكر كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، ثم رفع صوته، فقال: والله لقد رأيناك واليًا ومولى عليك، فما ينبغي لك ذلك. قال: فوثبنا عليه، فأخذنا بيده وفمه وأجلسناه؛ فوالله ما نشك أنه سمعه؛ ولكنه لم يلتفت أليه ومضى في خطبته. قال: ثم إنا خرجنا إلى باب المسجد، فإذا على باب المسجد النضر بن أنس ابن مالك يقول: يا عباد الله، ما تنقمون من أن تجيبوا إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ! فوالله ما رأينا ذلك ولا رأيتموه منذ ولدتم إلا هذه الأيام من إمارة عمر بن عبد العزيز، فقال الحسن: سبحان الله! وهذا النضر بن أنس قد شهد أيضًا. قال هشام: قال أبو مخنف: وحدثني المثنى بن عبد الله أن الحسن البصري مر على الناس وقد اصطفوا صفين، وقد نصبوا الرايات والرماح، وهم ينتظرون خرو يزيد، وهم يقولون: يدعون يزيد إلى سنة العمرين، فقال الحسن: إنما كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون، ثم يسرح بها إلى بني مروان، يريد بهلاك هؤلاء رضاهم. فلما غضب غضبة نصب قصبًا، ثم وضع عليها خرقًا، ثم قال: أني قد خالفتهم فخالفوهم. قال هؤلاء: نعم. وقال: إني أدعوكم إلى سنة العمرين، وإن من سنة العمرين أن يوضع قيد في رجله، ثم يرد إلى محبس عمر الذي فيه حبسه، فقال له ناس من أصحابه ممن سمع قوله: والله لكأنك يا أبا سعيد راض عن أهل الشام، فقال: أنا راض عن أهل الشام قبحم الله وبرحهم! أليس هم الذين أحلوا حرم رسول الله ﷺ، يقتلون أهله ثلاثة أيام وثلاث ليال! قد أباحوهم لأنباطهم وأقباطهم، يحملون الحرائر ذوات الدين، لا يتناهون عن انتهاك حرمة ثم خرجوا إلى بيت الله الحرام، فهدموا الكعبة، وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها، عليهم لعنة الله وسوء الدار! قال: ثم إن يزيد خرج من البصرة، واستعمل عليها مروان بن المهلب، وخرج معه بالسلاح وبيت المال، وأقبل حتى نزل واسطًا، وقد استشار أصحابه حين توجه نحو واسط، فقال: هاتوا الرأي، فإن أهل الشام قد نهضوا إليكم، فقال له حبيب، وقد أشار عليه غير حبيب أيضًا فقالوا: نرى أن تخرج وتنزل بفارس، فتأخذ بالشعاب وبالعقاب، وتدنوا من خراسان، وتطاول القوم، فإن أهل الجبال ينفضون إليك وفي يديك القلاع والحصون. فقال: ليس هذا برأيي، ليس يوافقني هذا؛ إنما تريدون أن تجعلوني طائرًا على رأس جبل. فقال له حبيب: فإن الرأي الذي كان ينبغي أن يكون في أول الأمر قد فات، قد أمرتك حيث ظهرت على البصرة أن توجه خيلًا عليها أهل بيتك حتى ترد الكوفة، فإنما هو عبد الحميد بن عبد الرحمن، مررت به في سبعين رجلًا فعجز عنك؛ فهو عن خيلك أعجز في العدة، فنسبق إليها أهل الشام وعظماء أهلها يرون رأيك، وأن تلى عليهم أحب إلى جلهم من أن يلي عليهم أهل الشام، فلم تطعني، وأنا أشير الآن برأي؛ سرح مع أهل بيتك خيلًا من خيلك عظيمة فتأتي الجزيرة، وتبادر إليها حتى ينزلوا حصنًا من حصونها، وتسير في أثرهم، فإذا أقبل أهل الشام يريدونك لم يدعوا جندًا من جنودك بالجزيزة؛ ويقبلون إليك فيقيمون عليهم، فكأنهم حابستهم عليك حتى تأتيهم فيأتيك من بالموصل من قومك، وينفض إليك أهل العراق وأهل الثغور، وتقاتلهم في أرض رفيغة السعر، وقد جعلت العراق كله وراء ظهرك، فقال: إني أكره أن أقطع جيشي وجندي، فلما نزل واسطًا أقام بها أيامًا يسيرة. قال أبو جعفر: وحج بالناس في هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك ابن قيس الفهري، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال محمد بن عمر. وكان عبد الرحمن عامل يزيد بن عبد الملك على المدينة، وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكان على الكوفة عبد الحميد ابن عبد الرحمن، وعلى قضائها الشعبي، وكانت البصرة قد غلب عليها يزيد ابن المهلب، وكان على خراسان عبد الرحمن بن نعيم. ثم دخلت سنة اثنتين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان فيها من مسير العباس بن الوليد بن عبد الملك ومسلمة ابن عبد الملك إلى يزيد بن المهلب بتوجيه يزيد بن عبد الملك إياهما لحربه. وفيها قتل يزيد بن المهلب، في صفر. ذكر الخبر عن مقتل يزيد بن المهلب ذكر هشام، عن أبي مخنف: أن معاذ بن سعيد حدثه أن يزيد بن المهلب استخلف على واسط حين أراد الشخوص عنها للقاء مسلمة بن عبد الملك والعباس ابنه معاوية، وجعل عنده بيت المال والخزائن والأسراء، وقدم بين يديه أخاه عبد الملك، ثم سار حتى مر بفم النيل، ثم سار حتى نزل العقر. وأقبل مسلمة يسير على شاطئ الفرات حتى نزل الأنبار، ثم عقد عليها الجسر. فعبر من قبل قرية يقال لها فارط، ثم أقبل حتى نزل على يزيد بن المهلب، وقد قدم يزيد أخاه نحو الكوفة، فاستقبله العباس بن الوليد بسورا، فاصطفوا، ثم اقتتل القوم، فشد عليهم أهل البصرة شدة كشوفهم فيها، وقد كان معهم ناس من بني تميم وقيس ممن انهزم من يزيد بالبصرة، فكانت لهم جماعة حسنة مع العباس، فيهم هريم بن أبي طحمة المجاشعي. فلما انكشف أهل الشام تلك الإنكشافة، ناداهم هريم بن أبي طحمة: يا أهل الشام، الله الله أن تسلمونا! وقد اضطرهم أصحاب عبد الملك إلى نهر فأخذوا ينادونه: لا بأس عليك؛ إن لأهل الشام جولة في أول القتال، أتاك الغوث. قال: ثم إن أهل الشام كروا عليهم، فكشف أصحاب عبد الملك وهزموا، وقتل المنتوف بن بكر بن وائل، مولى لهم، فقال الفرزدق يحرض بكر بن وائل: تبكي على المنتوف بكر بن وائل ** وتنهى عن ابن مسمع من بكاهما غلامين شبا في الحروب وأدركا ** كرام المساعي قبل وصل لحاهما ولو كان حيًا مالك وابن مالك ** إذًا أوقدوا نارين يعلو سناهما وابنا مسمع: مالك وعبد الملك ابنا مسمع، قتلهم معاوية بن يزيد بن المهلب فأجابه الجعد بن درهم مولى من همدان: نبكي على المنتوف في نصر قومه ** ولسنا نبكي الشائدين أباهما أراد فناء الحي بكر بن وائل ** فعز تميم لو أصيب فناهما فلا لقيا روحًا من الله ساعة ** ولا رقأت عينا شجي بكاهما أفي الغش نبكي إن بكينا عليهما ** وقد لقيا بالغش فينا رداهما وجاء عبد الملك بن المهلب حتى انتهى إلى أخيه بالعقر، وأمر عبد الله ابن حيان العبدي، فعبر إلى جانب الصراة الأقصى - وكان الجسر بينه وبينه - ونزل هو وعسكره وجمع من جموع يزيد، وخندق عليه، وقطع مسلمة إليهم الماء وسعيد بن عمرو الحرشي، ويقال: عبر إ ليهم الوضاح، فكانوا بإزائهم. وسقط إلى يزيد ناس من الكوفة كثير، ومن الجبال، وأقبل إليه ناس من الثغور، فبعث على أرباع أهل الكوفة الذين خرجوا إليه وربع أهل المدينة عبد الله بن سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي وبعث على ربع مذ حج وأسد النعمان بن إبراهيم بن الأشتر النخعي، وبعث على ربع كندة وربيعة محمد ابن إسحاق بن محمد بن الأشعث، وبعث على ربع تميم وهمدان حنظلة بن عتاب بن ورقاء التميمي، وجمعهم جميعًا مع المفضل بن المهلب. قال هشام بن محمد، عن أبي مخنف: حدثني العلاء بن زهير، قال: والله إنا لجلوس عند يزيد ذات يوم إذ قال: ترون أن في هذا العسكر ألف سيف يضرب به؟ قال حنظلة بن عتاب: إي والله وأربعة آلاف سيف، قال: إنهم والله ما ضربوا ألف سيف قط، والله لقد أحصى ديواني مائة وعشرين ألفًا. والله لوددت أن مكانهم الساعة معي من بخراسان من قومي قال هشام: قال أبو مخنف: ثم إنه قام ذات يوم فحرضنا ورغبنا في القتال ثم قال لنا فيما يقوله: إن هؤلاء القوم لن يردهم عن غيهم إلا الطعن في عيونهم، والضرب بالمشرفية على هامهم، ثم قال: إنه قد ذكر لي أن هذه الجراده الصفراء - يعني مسلمة بن عبد الملك - وعاقر ناقة ثمود؛ يعني العباس ابن الوليد، وكان العباس أزرق أحمر، كانت أمه رومية - والله لقد كان سليمان أراد أن ينفيه حتى كلمته فيه فأقره على نسبه؛ فبلغني أن ليس همهما إلا التماس في الأرض، والله لو جاء أهل الأرض جميعًا وليس إلا أنا، ما برحت العرصة حتى تكون لي أو لهم. قالوا: نخاف أن تعنينا كما عنانا عبد الرحمن ابن محمد، قال: إن عبد الرحمن فضح الذمار، وفضح حسبه، وهل كان يعدو أجله! ثم نزل. قال: ودخل علينا عامر بن العميشل - رجل من الأزد - قد جمع جموعًا فأتاه فبايعه؛ فكانت بيعة يزيد: تبايعون على كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وعلى ألا تطأ الجنود بلادنا ولا بيضتنا، ولا يعاد علينا سيرة الفاسق الحجاج، فمن بايعنا على ذلك قبلنا منه، ومن أبي جاهدناه، وجعلنا الله بيننا وبينه، ثم يقول: تبايعونا؟ فإذا قالوا: نعم، بايعهم وكان عبد الحميد بن عبد الرحمن قد عسكر بالنخيلة، وبعث إلى المياه فبثقها فيما بين الكوفة وبين يزيد بن المهلب، لئلا يصل إلى الكوفة، ووضع على الكوفة مناظر وأرصادًا لتجس أهل الكوفة عن الخروج إلى يزيد، وبعث عبد الحميد بعثًا من الكوفة عليهم سيف بن هانئ الهمداني حتى قدموا على مسلمة، فألطفهم مسلمة، وأثنى عليهم بطاعتهم، ثم قال: والله لقل ما جاءنا من أهل الكوفة. فبلغ ذلك عبد الحميد، فبعث بعثًا هم أكثر من ذلك، وبعث عليهم سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف الأرذي، فلما قدم أثنى عليه، وقال: هذا رجل لأهل بيته طاعة وبلاء، ضموا إليه من كان ها هنا من أهل الكوفة. وبعث مسلمة إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن فعزله، وبعث محمد بن عمرو بن الوليد بن عقبة - وهو ذو الشامة - مكانه. فدعا يزيد بن المهلب رءوس أصحابه فقال لهم: قد رأيت أن أجمع اثني عشر ألف رجل، فأبعثهم مع محمد بن المهلب حتى يبيتوا مسلمة ويحملوا معهم البراذع والأكف والزبل لدفن خندقهم، فيقاتلهم على خندقهم وعسكرهم بقية ليلتهم، وأمده بالرجال حتى أصبح، فإذا أصبحت نهضت إليهم أنا بالناس. فنناجزهم. فإني أرجوعند ذلك أن ينصرنا الله عليهم. قال السميدع: إنا قد دعوناهم إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد ﷺ. وقد زعموا أنهم قايلوا هذا منا، فليس لنا أن نمكر ولا نغدر، ولا نريدهم بسوء حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قابلوه منا. قال أبو رؤبة - وكان رأس طائفة من المرجئة. ومعه أصحاب له: صدق. هكذا ينبغي. قال يزيد: ويحكم! أتصدقون بني أمية! أنهم يعملون بالكتاب والسنة، وقد ضيعوا ذلك منذ كانوا! إنهم يقولون لكم: إنا نقبل منكم، وهم يريدون ألا يعملوا بسلطانهم إلا ما تأمرونهم به، وتدعونهم إليه؛ لكنهم أرادوا أن يكفوكم عنهم؛ حتى يعملوا في المكر، فلا يسبقوكم إلى تلك، إبدءوهم بها، إني قد لقيت بني مروان فوالله ما لقيت رجلا هو أمكر ولا أبعد غورًا من هذه الجرادة الصفراء - يعني مسلمة - قالوا: لا نرى أن نفعل ذلك. حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قابلوه منا. وكان مروان بن المهلب وهو بالبصرة يحث الناس على حرب أهل الشام، ويسرح الناس إلى يزيد، وكان الحسن البصري يثبط الناس عن يزيد ابن المهلب. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الحميد البصري، أن الحسن البصري كان يقول في تلك الأيام: أيها الناس، الزموا رحالكم، وكفوا أيديكم، واتقوا الله مولاكم، ولا يقتل بعضكم بعضًا على دنيا زائلة، وطمع فيها يسير ليس لأهلها بباق، وليس الله عنهم فيما اكتسبوا براض؛ إنه لم تكن فتنة إلا كان أكثر أهلها الخطباء والشعراء والسفهاء وأهل التيه والخيلاء، وليس يسلم منها إلا المجهول الخفي والمعروف التقى، فمن كان منكم خفيًا فليلزم الحق، وليحبس نفسه عما يتنازع الناس فيه من الدنيا، فكفاه والله بمعرفة الله إياه بالخير شرفًا؛ وكفى له بها من الدنيا خلفًا؛ ومن كان منكم معروفًا شريفًا، فترك ما يتنافس فيه نظراؤه من الدنيا إرادة الله بذلك، فواهًا لهذا! ما أسعده وأرشده وأعظم أجره وأهدى سبيله! فهذا غدًا - يعني يوم القيامة - القرير عينًا، الكريم عند الله مآبًا. فلما بلغ ذلك مروان بن المهلب قام خطيبًا كما يقوم، فأمر الناس بالجد والاحتشاد، ثم قال لهم: لقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي - ولم يسمه - يثبط الناس، والله لو أن جاره نزع من خص داره قصبة لظل يرعف أنفه؛ أينكر علينا وعلى أهل مصرنا أن نطلب حقنا، وأن ننكر مظلمتنا! أما والله ليكفن عن ذكرنا وعن جمعه إلينا سقاط الأبلى وعلوج فرات البصرة - قومًا ليسوا من أنفسنا، ولا ممن جرت عليه النعمة من أحد منا - أو لأنحين عليه مبردًا خشنًا. فلما بلغ ذلك الحسن قال: والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه. فقال ناس من أصحابه: لو أرادك ثم شئت لمنعناك، فقال لهم: فقد خالفتكم إذًا إلى ما نهيتكم عنه! آمركم ألا يقتل بعضكم بعضًا مع غير، وأدعوكم إلى أن يقتل بعضكم بعضًا دوني! فبلغ ذلك مروان بن الهلب، فاشتد عليهم وأخافهم وطلبهم حتى تفرقوا. ولم يدع الحسن كلامه ذلك، وكف عنه مروان بن المهلب. وكانت إقامة يزيد بن المهلب منذ أجمع هو ومسلمة ثمانية أيام، حتى إذا كان يوم الجمعة لأربع عشرة خلت من صفر، بعث مسلمة إلى الوضاح أن يخرج بالوضاحية والسفن حتى يحرق الجسر، ففعل. وخرج مسلمة فعبى جنود أهل الشام، ثم ازدلف بهم نحو يزيد بن المهلب، وجعل على ميمنته جبلة بن مخرمة الكندي، وجعل على ميسرته الهذيل بن زفر بن الحارث العامري، وجعل عباس على ميمنته سيف بن هاني الهمداني. وعلى ميسرته سويد بن القعقاع التميمي ومسلمة على الناس، وخرج يزيد بن المهلب، وقد جعل على ميمنته حبيب بن المهلب، وعلى ميسرته المفضل بن المهلب، وكان مع المفضل أهل الكوفة وهو عليهم، ومعه خيل لربيعة معها عدد حسن، وكان مما يلي العباس بن الوليد. قال أبو مخنف: فحدثني الغنوى - قال هشام: وأظن الغنوى العلاء ابن المنهال - أن رجلًا من الشام خرج فدعاه إلى المبارزة، فلم يخرج إليه أحد، فبرز له محمد بن المهلب، فحمل عليه، فاتقاه الرجل بيده، وعلى كفه كف من حديد، فضربه محمد فقطع كف الحديد وأسرع السيف في كفه، واعتنق فرسه، وأقبل محمد يضربه، ويقول: المنجل أعود عليك. قال: فذكر لأنه حيان النبطي. قال: فلما دنى الوضاح من الجسر ألهب فيه النار، فسطع دخانه؛ وقد اقتتل الناس ونشبت الحرب، ولم يشتد القتال، فلما رأى الناس الدخان، وقيل هم: أحرق الجسر انهزموا، فقالوا ليزيد: قد انهزم الناس قال: ومم انهزموا؟ هل كان قتال ينهزم من مثله! فقيل له: قالوا: أحرق الجسر فلم يثبت أحد، قال: قبحهم الله! بق دخن عليه فطار فخرج وخرج معه أصحابه ومواليه وناس من قومه، فقال: اضربوا وجوه من ينهزم، ففعلوا ذلك بهم، حتى كثروا عليه فاستقبلهم منهم مثل الجبال، فقال: دعوهم، فوالله إني لأرجو ألا يجمعني الله وإياهم في مكان واحد أبدًا؛ دعوهم يرحمهم الله، غنم عبدا في نواحيها الذئب، وكان يزيد لايحدث نفسه بالفرار، وقد كان يزيد بن الحكم بنأبي العاص - وأمه ابنت الزبرقان السعدي - آتاه وهو بواسط قبل أن يصل إلى العقر، فقال: إن بني مروان قد باد مهلكهم ** فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر قال يزيد: ما شعرت. قال: فقال يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي: فعش ملكًا أو مت كريمًا وإن تمت ** وسيفك مشهور بكفك تعذر قال: أما هذا فعسى. ولما خرج يزيد إلى أصحابه واستقبلته الهزيمة، فقال: يا سميدع، أرأيي أم رأيك؟ ألم أعلمك ما يريد القوم! قال: بلى والله، والرأي كان رأيك، وأناذا معك لا أزايلك، فمرني بأمرك؛ قال: إما لا فانزل، فنزل في أصحابه، وجاء يزيد بن المهلب جاء فقال: إن حبيبًا قد قتل قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني ثابت مولى زهير بن سلمى الأزدي، قال: أشهد أني أسمعه حين قال له ذلك: قال: لا خبر في العيش بعد حبيب! قد كنت والله أبغض الحياة بعد الهزيمة؛ فوالله ما ازددت له إلا بغضًا، امضوا قدمًا. فعلمنا والله أن قد استقتل؛ فأخذ من يكره القتال ينقص، وأخذوا يتسللون، وبقيت معه جماعة حسنة، وهو يزدلف، فكلما مر بخيل كشفها، أو جماعة من أهل الشام عدلوا عنه وعن سنن أصحابه، فجاء أبو رؤبة المرجئ، فقال: ذهب الناس - وهو يشير بذلك إليه وأنا أسمعه - فقال: هل لك أن تنصرف إلى واسط؛ فإنها حصن فتنزلها ويأتيك مدد أهل البصرة، ويأتيك أهل عمان والبحرين في السفن، وتضرب خندقًا؟ فقال له: قبح الله رأيك! ألي تقول هذا! الموت أيسر علي من ذلك، فقال له: فإني أتخوف عليك لما ترى، أما ترى ما حولك من جبال الحديد! وهو يشير إليه، فقال له: أما أنا فما أباليها؛ جبال حديد كانت أم جبال نار، اذهب عنا إن كنت لا تريد قتالًا معنا. قال: وتمثل قول حارثة بن بدر الغداني - قال أبو جعفر أخطأ هذا؛ هو للأعشى -: أبالموت خشتني عباد وإنما ** رأيت منايا الناس يشقى ذليلها فما ميتة إن متها غير عاجز ** بعار إذا ما غالت النفس غولها وكان يزيد بن المهلب على برذون له أشهب، فأقبل نحو مسلمة لا يريد غيره؛ حتى إذا دنا منه أدنى مسلمة فرسه ليركب، فعطف عليه خيول أهل الشام، وعلى أصحابه، فقتل يزيد بن المهلب، وقتل معه السميدع، وقتل معه محمد بن المهلب. وكان رجل من كلب من بني جابر بن زهير بن جناب الكلبي يقال له القحل بن عياش لما نظر إلى يزيد قال: يا أهل الشام، هذا والله يزيد، والله لأقتلنه أو ليقتلني، وإن دونه ناسًا، فمن يحمل معي يكفيني أصحابه حتى أصل إليه؟ فقال له ناس من أصحابه: نحمل نحن معك، ففعلوا، فحملوا بأجمعهم، واضطربوا ساعة، وسطع الغبار، وانفرج الفريقان عن يزيد قتيلا، وعن القحل بن عياش بآخر رمق. فأومى إلى أصحابه يريهم مكان يزيد؛ يقول لهم: أنا قتلته، ويومي إلى نفسه إنه هو قتلني. ومر مسلمة على القحل بن عياش صريعًا إلى جنب يزيد، فقال: أما إني أظن هذا هو الذي قتلني. وجاء برأس يزيد مولى لبني مرة، فقيل له: أنت قتلته؟ فقال: لا، فلما أتى به مسلمة لم يعرف ولم ينكر، فقال له الحواري بن زياد ابن عمرو العتكي: مر برأسه فليغسل ثم ليعمم، ففعل ذلك به، فعرفه، فبعث برأسه إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط. قال أبو مخنف: فحدثني ثابت مولى زهير، قال: لقد قتل يزيد وهزم الناس، وإن المفضل بن المهلب ليقاتل أهل الشام ما يدري بقتل يزيد ولا بهزيمة الناس؛ وإنه لعلى برذون شديد قريب من الأرض، وإن معه لمجففة أمامه، فكلما حمل عليها نكصت وانكشفت وانكشف، فيحمل في ناس من أصحابه يخالط القوم ثم يرجع حتى يكون من وراء أصحابه، وكان لا يرى منا ملتفتًا إلا أشار إليه بيده ألا يلتفت ليقبل القوم بوجوههم على عدوهم، ولا يكون لهم هم غيرهم. قال: ثم اقتتلنا ساعة؛ فكأني أنظر إلى عامر بن العميشل الأرذي وهو يضرب بسيفه، ويقول: قد علمت أم الصبي المولود ** أني بنصل السيف غير رعديد قال: واضطربنا والله ساعة، فانكشفت خيل ربيعة؛ والله ما رأيت عند أهل الكوفة من كبير صبر ولا قتال، فاستقبل ربيعة بالسيف يناديهم: أي معشر ربيعة، الكرة الكرة! والله ما كنتم بكشف ولا لئام، ولا هذه لكم بعادة، فلا يأتين أهل العراق اليوم من قبلكم. أي ربيعة، فدتكم نفسي، اصبروا ساعة من النهار. قال: فاجتمعوا حوله، وثابوا إليه، وجاءت كويفتك. قال: فاجتمعنا ونحن نريد الكرة عليهم، حتى أتى، فقيل له: ما تصنع ها هنا وقد قتل يزيد وحبيب ومحمد، وانهزم الناس منذ طويل؟ وأخبر الناس بعضهم بعضًا، فتفرقوا ومضى المفضل، فأخذ الطريق إلى واسط، فما رأيت رجلًا من العرب مثل منزلته كان أغشى للناس بنفسه، ولا أضرب بسيفه، ولا أحسن تعبئة لأصحابه منه. قال أبو مخنف: فقال لي ثابت مولى زهير: مررت بالخندق، فإذا عليه حائط، عليه رجال معهم النبل، وأنل مجفف، وهم يقولون: يا صاحب التجفاف، أين تذهب؟ قال: فما كان شئ أثقل علي من تجفافي، قال: فما هو إلا أن جزتهم، فنزلت فألقيته لأخفف عن دابتي. وجاء أهل الشام إلى عسكر يزيد بن المهلب، فقاتلهم أبو رؤبة صاحب المرجئة ساعة من النهار حتى ذهب عظمهم، وأسر أهل الشام نحوًا من ثلثمائة رجل، فسرحهم مسلمة إلى محمد بن عمرو بن الوليد فحبسهم. وكان على شرطه العريان بن الهيثم. وجاء كتاب من يزيد بن عبد الملك إلى محمد بن عمرو: أن اضرب رقاب الأسراء، فقال للعريان بن الهيثم: أخرجهم عشرين عشرين، وثلاثين ثلاثين. قال: فقام نحو من ثلاثين رجلًا من بني تميم، فقالوا: نحن انهزمنا بالناس، فاتقوا الله وابدءوا بنا، أخرجونا قبل الناس، فقال لهم العريان: اخرجوا على اسم الله، فأخرجهم إلى المصطبة، وأرسل إلى محمد بن عمرو يخبره بإخراجهم ومقالتهم، فبعث إليه أن اضرب أعناقهم. قال أبو مخنف: فحدثني نجيج أبو عبد الله مولى زهير، قال: والله إني لأنظر إليهم يقولون: إنا لله! انهزمنا بالناس، وهذا جزاؤنا، فما هو إلا أن فرغ منهم، حتى جاء رسول من عند مسلمة فيه عافية الأسراء والنهي عن قتلهم. فقال حاجب بن ذبيان من بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم: لعمري لقد خاضت معيط دماءنا ** بأسيافها حتى انتهى بهم الوحل وما حمل الأقوام أعظم من دم ** حرام ولا ذحل إذا التمس الذحل حقنتم دماء المصلتين عليكم ** وجر على فرسان شيعتك القتل وقى بهم العريان فرسان قومه ** فيا عجبًا أين الأمان والعدل! وكان العريان يقول: والله ما اعتمدتهم ولا أردتهم حتى قالوا: أبعد بنا، أخرجنا، فما تركت حين أخرجتهم أن أعلمت المأمور بقتلهم، فما يقبل حجتهم، وأمر بقتلهم، والله على ذلك ما أحب أن قتل من قومي مكانهم رجل. ولئن لاموني ما أنا بالذي أحفل لا ئمتهم، ولا تكبر عليه. وأقبل مسلمة حتى نزل الحيرة، فأتى بنحو من خمسين أسيرًا، ولم يكونوا فيمن بعث به إلى الكوفة، كان أقبل بهم معه، فلما رأى الناس أنه يريد أن يضرب رقابهم، قام إليه الحصين بن حماد الكلبي فاستوهبه ثلاثة: زياد بن عبد الرحمن القشيري، وعتبة بن مسلم، وإسماعيل مولى آل بني عقيل بن مسعود، فوهبهم له، ثم استوهب بقيتهم أصحابه، فوهبهم لهم، فلما جاءت هزيمة يزيد إلى واسط، أخرج معاوية بن يزيد بن المهلب اثنين وثلاثين أسيرًا كانوا في يده، فضرب أعناقهم: منهم عدي بن أرطاة، ومحمد بن عدي بن أرطاة ومالك وعبد الملك ابنا مسمع وعبد الله بن عذرة البصري، وعبد الله بن وائل وابن أبي حاضر التميمي من بني أسيد بن عمرو بن تميم، وقد قال له القوم: ويحك! إنا لا نراك إلا تقتلنا؛ إلا أن أباك قد قتل، وإن قتلنا ليس بنافع لك في الدنيا، وهو ضارك في الآخرة؛ فقتل الأسارى كلهم غير ربيع بن زياد بن الربيع ابن أنس بن الريان، تركه، فقال له ناس: نسيته؟ فقال: مانسيته؛ ولكن لم أكن لأقتله؛ وهو شيخ من قومي له شرف ومعروف وبيت عظيم، ولست أتهمه في ود، ولا أخاف بغيه. فقال ثابت قطنة في قتل عدي بن أرطاة: ماسرني قتل الفزاري وابنه ** عديً ولا أحببت قتل ابن مسمع ولكنها معاوي زلة ** وضعت بها أمري على غير موضع ثم أقبل حتى أتى البصرة ومعه المال والخزائن، وجاء المفضل بن المهلب، واجتمع جميع آل المهلب بالبصرة، وقد كانوا يتخوفون الذي كان من يزيد، وقد أعدوا السفن البحرية، وتجهزوا بكل الجهاز، وقد كان يزيد بن المهلب بعث وداع بن حميد الأسدي على قندابيل أميرًا، وقال له: إني سائر إلى هذا العدو، ولوقد لقيتهم لم أبرح العرصة حتى تكون إلي أولهم، فإن ظفرت أكرمتك، وإن كانت الأخرى كنت بقندابيلحتى يقدم عليك أهل بيتي، فيتحصنوا بها حتى يأخذوا لأنفسهم أمانًا، أما إني قد اخترتك لأهل بيتي من بين قومي؛ فكن عند حسن ظني، وأخذ عليه أيمانًا غلاظًا ليناصحن أهل بيته، إن هم احتاجوا ولجئوا إليه، فلما اجتمع آل المهلب بالبصرة بعد الهزيمة حملوا عيالاتهم وأموالهم في السفن البحرية، ثم لججوا في البحر حتى مروا بهرم ابن القرار العبدي - وكان يزيد استعمله على البحرين - فقال لهم: أشير عليكم ألا تفارقوا سفنكم، فإن ذلك هو بقاؤكم، وإني أتخوف عليكم إن خرجتم من هذه السفن أن يتخطفكم الناس، وأن يتقربوا بكم إلى بني مروان. فمضوا حتى إذا كانوا بحيال كرمان خرجوا من سفنهم، وحملوا عيالاتهم وأموالهم على الدواب. وكان معاوية بن يزيد بن المهلب حين قدم البصرة قدمها ومعه الخزائن وبيت المال؛ فكأنه أراد أن يتأمر عليهم، فاجتمع أهل المهلب وقالوا للمفضل: أنت أكبرنا وسيدنا، وأنما أنت غلام حديث السن كبعض فتيلن أهلك، فلم يزل المفضل عليهم حتى خرجوا إلى كرمان، وبكرمان فلول كثيرة، فاجتمعوا إلى المفضل، وبعث مسلمو بن عبد الملك مدرك بن ضب الكلبي في طلب آل المهلب وفي أثر الفل. فأدرك مدرك المفضل بن المهلب، وقد اجتمعت إليه الفلول بفارس فتبعهم، فأدركهم في عقبة، فعطفوا عليه، فقاتلوه واشتد قتالهم إياه، فقتل مع المفضل بن المهلب النعمان بن إبراهيم بن الأشتر النخعي ومحمد بن إسحاق ابن محمد بن الأشعث، وأخذ ابن صول ملك قهستان أسيرًا، وأخذت سرية المفضل العلية، وجرح عثمان بن إسحاق بن محمد بن الاشعث جراحة شديدة وهرب حتى انتهى إلى حلوان، فدل عليه، فقتل وحمل رأسه إلى مسلمة بالحيرة، ورجع ناس من أصحاب يزيد بن المهلب، فطلبوا الأمان، فأومنوا؛ منهم مالك بن إبراهيم بن الاشتر، والورد بن عبد الله بن حبيب السعدي من تميم، وكان قد شهد مع عبد الرحمن بن محمد مواطنه وأيامه كلها، فطلب له الامان محمد بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان إلى مسلمة بن عبد الملك عمه وابنة مسلمة تحته - فأمنه، فلما آتاه الورد وقفه مسلمة فشتمه قائمًا، فقال: صاحب خلاف شقاق ونفاق ونفار في كل فتنة، مرة مع حائك كندة، ومرة مع ملاح الأزد؛ ما كنت بأهل أن تؤمن؛ قال: ثم انطلق. وطلب الأمان لمالك بن إبراهيم بن الأشتر الحسن بن عبد الرحمن بن شراحيل - وشراحيل يلقب رستم الحضرمي - فلما جاء ونظر إليه، قال له الحسن بن عبد الرحمن الحضرمي هذا مالك بن إبراهيم بن الأشتر، قال له: انطلق، قال له الحسن: أصلحك الله! لم لم تشتمه كما شتمت صاحبه! قال: أجللتكم عن ذلك، وكنتم أكرم علي من أصحاب الآخر وأحسن طوعا. قال: فإنه أحب إلينا أن تشتمه، فهو والله أشف أبًا وجدًا، وأسوأ أثرًا من أهل الشام من الورد بن عبد الله؛ فكان الحسن يقول بعد أشهر: ما تركه إلا حسدًا من أن يعرف صاحبنا، فأراد أن يرينا أنه قد حقره. ومضى آل المهلب ومن سقط منهم من الفلول حتى انتهوا إلى قندابيل، وبعث مسلمة إلى مدرك بن ضب الكلبي فرده، وسرح في أثرهم هلال بن أحوز التميمي، من بني مازن بن عمرو بن تميم فلحقهم بقندابيل، فأراد آل المهلب دخول قندابيل، فمنعهم وداع بن حميد وكاتبه هلال بن أحوز، ولم يباين آل المهلب فيفارقهم، فتبين لهم فراقه لما التقوا وصفوا، كان وداع بن حميد على الميمنة، وعبد الملك بن هلال على الميسرة وكلاهما أزدى، فرفع لهم راية الأمان، فمال إليهم وداع بن حميد وعبد الملك ابن هلال، وارفض عنهم الناس فخلوهم. فلما رأى ذلك مروان بن المهلب ذهب يريد أن ينصرف إلى النساء فقال له المفضل: أين تريد؟ قال: أدخل إلى نسائنا فأقتلهن، لئلا يصل إليهم هؤلاء الفساق، فقال: ويحك! أتقتل أخواتك ونساء أهل بيتك! إنا والله ما نخاف عليهم منهم. قال: فرده عن ذلك ثم مشوا بأسيافهم، فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم، إلا أبا عيين ابن المهلب، وعثمان بن المفضل فإنهما نجوا، فلحقا بخاقان ورتبيل وبعث بنسائهم وأولادهم إلى مسلمة بالحيرة، وبعث برءوسهم إلى مسلمة، فبعث بهم مسلمة إلى يزيد بن عبد الملك، وهو على حلب، فلما نصبوا خرج لينظر إليهم، فقال لأصحابه: هذا رأس عبد الملك، هذا رأس المفضل، والله لكأنه جالس معي يحدثني. وقال مسلمة: لأبيعن ذريتهم وهو في دار الرزق، فقال الجراح بن عبد الله: فأنا أشتريهم منك لأبر يمينك، فاشتراهم منه بمائة ألف، قال: هاتها، قال: إذا شئت فخذها، فلم يأخذ منه شيئًا وخلا سبيلهم، إلا تسعة فتية منهم أحداث بعث بهم إلى يزيد بن عبد الملك، فقدم بهم عليه، فضرب رقابهم، فقال ثابت قطنة حين بلغه قتل يزيد بن المهلب يرثيه: ألا يا هند طال على ليلي ** وعاد قصيره ليلى تماما كأني حين حلقت الثريا ** سقيت لعاب أسود أو سماما أمر على حلو العيش يوم ** من الأيام شيبني غلامًا مصاب بني أبيك وغبت عنهم ** فلم أشهدهم ومضوا كراما فلا والله لا أنسى يزيدًا ** ولا القتلى التي قتلت حراما فعلي أبو بأخيك يومًا ** يزيدًا أو أبوء به هشاما وعلي أن أقود الخيل شعثًا ** جوازب ضمرًا تقص الإكاما قأصبحهن حمير من قريب ** وعكا أو أرع بهما جذاما ونسقي مذحجًا والحي كلبًا ** من الذيفان أنفاسًا قواما عشائرنا التي تبغي علينا ** تجربنا زكا عامًا فعاما ولولاهم وما جلبوا علينا ** لأصبح وسطنا ملكا هماما وقال أيضًا يرثي يزيد بن المهلب: أبى طول هذا الليل أن يتصرما ** وهاج لك الهم الفؤاد المتيما أرقت ولم تأرق معي أم خالد ** وقد أرقت عيناي حولًا مجرما على هالك هد العشيرة فقده ** دعته المنايا فاستجاب وسلما على ملك يا صاح بالعقر جبنت ** كتائبه واستورد الموت معلما أصيب ولم أشهد ولو كنت شاهدًا ** تسليت إن لم يجمع الحي مأتما وفي غير الأيام يا هند فاعلمي ** لطالب وتر نظرة إن تلوما فعلي إن مالت بي الريح ميلة ** على ابن أبي ذبان أن يتندما أمسلم إن يقدر عليك رماحنا ** نذقك بها قئ الأساود مسلما وإن نلق للعباس في الدهر عثرة ** نكافئه باليوم الذي كان قدما قصاصًا ولا نعدو الذي كان قد أتى ** إلينا وإن كان ابن مروان أظلما ستعلم إن زلت بك النعل زلة ** وأظهر أقوام حياء مجمجا من الظالم الجاني على أهل بيته ** إذا أحصرت أسباب أمر وأبهما وإن لعطافون بالحلم بعد ما ** نرى الجهل من فرط اللئيم تكرما وإنا لحلالون بالثغر لا نرى ** به ساكنًا إلا الخميس العرمرما نرى أن للجيران حاجًا وحرمة ** إذا الناس لم يرعوا لذى الجار محرما وإنا لنقري الضيف من قمع الذرى ** إذا كان رفد الرافدين تجثما وراحت بصراد ملث جليده ** على الطلح أرماكًا من الشهب صيما أبونا أبو الأنصار عمرو بن عامر ** وهم ولدوا عوفًا وكعبًا وأسلما وقد كان في غسان مجد يعده ** وعادية كانت من المجد معظما ولاية مسلمة بن عبد الملك على العراق وخراسان فلما فرغ مسلمة بن عبد الملك من حرب يزيد بن المهلب، جمع له يزيد بن عبد الملك ولاية الكوفة والبصرة وخراسان في هذه السنة، فلما ولاه يزيد ذلك، ولى مسلمة الكوفة ذا الشامة محمد بم عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وقام بأمر البصرة بعد أن خرج منها آل المهلب - فيما قيل - شبيب بن الحارث التميمي، فضبطها، فلما ضمت إلى مسلمة بعث عاملاه عليها عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وعلى شرطتها وأحداثها عمر بن يزيد التميمي، فأراد عبد الرحمن بن سليم أن يستعرض أهل البصرة، وأفشى ذلك إلى عمر بن يزيد، فقال له عمر: أتريد أن تستعرض أهل البصرة ولم تمن حصنًا بكويفة، وتدخل من تحتاج إليه! فوالله لو رماك أهل البصرة وأصحابك بالحجارة لتخوفت أن يقتلونا؛ ولكن أنظرنا عشرة أيام حتى نأخذ أهبة ذلك. ووجه رسولا إلى مسلمة يخبره بما هم به عبد الرجمن، فوجه مسلمة عبد الملك ابن بشر بن مروان على البصرة، وأقر عمر بن يزيد على الشرطة والأحداث. ذكر استعمال مسلمة سعيد خذينة على خراسان قال أبو حعفر: وفي هذه السنة وجه مسلمة بن عبد الملك سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص وهو الذي يقال له خُذَينة - وإنما لقب بذلك - فيما ذكر - أنه كان رجلًا لينًا يهلًا متنعمًا، قدم خراسان على بختيه معلقًا سكينًا في منطقته، فدخل عليه ملك أبغل، وسعيد متفضل في ثياب مصبغة، حوله مرافق مصبغة فلما خر من عنده قالوا له: كيف رأيت الأمير؟ قال: خذينية، لمته سكينية؛ فلقب خذينة وخذينة هي الدهقانة ربة البيت، وإنما استعمل مسلمة سعيد خذينة على خراسان لأنه كان ختنه على ابنته، كان سعيد متزوجًا بابنة مسلمة. ولما ولى مسلمة سعيد خذينة خراسان، قدم إليها قبل شخوصه سورة ابن الحر من بني دار، فقدمها قبل سعيد - فيما ذكر - بشهر، فاستعمل شعبة بن ظهير النهشلي على سمرقند، فخرج إليها في وخمسة وعشرين رجلًا من أهل بيته، فأخذ على آمل، فأتى بخارى، فصحبه منها مائتا رجل، فقدم السغد، وقد كان أهلها كفروا في ولاية عبد الرحمن بن نعيم الغامدي، ووليها ثمانية عشر شهرًا، ثم عادوا إلى الصلح، فخطب شعبة أهل السغد، ووبخ سكانها من العرب وعيرهم بالجبن، فقال: ما أرى فيكم جريحًا، ولا أسمع فيكم أنة. فاعتذروا إليه بأن جبنوا عاملهم علباء بن حبيب العبدي، وكانت على الحرب. ثم قدم سعيد، فأخذ عمال عبد الرحمن بن عبد الله القشيري الذين ولوا أيام عمر بن عبد العزيز فحبسهم، فكلمه فيهم عبد الرحمن بن عبد الله القشيري، فقال له سعيد: قد رفع علهم أن عندهم أموالًا من الخوارج. قال: فأنا أضمنه، فضمن عنهم سبعمائة ألف، ثم لم يأخذه بها. ثم إن سعيدًا رفع إليه - فيما ذكر علي بن محمد - أن جهم بن زحر الجعفي وعبد العزيز بن عمرو بن الحجاج الزبيدي والمنتجع بن عبد الرحمن الأزدي والقعقاع الأزدي ولوا ليزيد بن المهلب وهم ثمانية، وعندهم أموال قد أختانوها من فئ المسلمين. فأرسل إليهم، فحبسهم في قهندز مرو، فقيل له: إن هؤلاء لا يؤدون إلا أن تبسط عليهم. فأرسل إلى جهم بن زحر، فحمل على حمار من قهندز مرو، فمرو به على الفيض بن عمران، فقام إليه فوجأ أنفه، فقال له جهم: يا فاسق، هلا فعلت هذا حين أتوني بك سكران قد شربت الخمر، فضربتك حدًا! فغضب سعيد على جهم فضربه مائتى سوط، فكبر أهل السوق حين ضرب جهم بن زحر، وأمر سعيد بجهم والثمانية الذين كانواط في السجن فدفعوا إلى ورقاء بن نصر الباهلي، فاستعفاه فأعفاه. وقال عبد الحميد بن دثار - أو عبد الملك بن دثار - والزبير بن نشيط مولى باهلة، وهو زوج أم سعيد خذينة: ولنا محاسبتهم، فولاهم فقتلوا من العذاب جهمًا، وعبد العزيز بن عمر والمنتجع، وعذبوا القعقاع وقومًا حتى أشرفوا على الموت قال: فلم يزالوا في السجن حتى غزتهم الترك وأهل السغد، فأمر سعيد بإخراج من بقي منهم، فكان سعيد يقول: قبح الله الزبير، فإنه قتل جهما! وفي هذه السنة غزا المسلمون السغد والترك، فكان فيها الوقعة بينهم بقصر الباهلي. وفيها عزل سعيد خذينة شعبة بن ظهير عن سمرقند. ذكر الخبر عن سبب عزل سعيد شعبة وسبب هذه الوقعة وكيف كانت ذكر علي بن محمد عن الذي تقدم ذكرى خبره عنهم، أن سعيد خذينة لما قدم خراسان، دعا قومًا من الدهاقين، فاستشارهم فيمن يوجه إلى الكور، فأشاروا إليه بقوم من العرب، فولاهم، فشكوا إليه، فقال للناس يومًا وقد دخلوا عليه: إني قدمت البلد، وليس لي علم بأهله، فاستشرت فأشاروا علي بقوم، فسألت عنهم فحمدوا، فوليتهم، فأحرج عليكم لما أخبرتموني عن عمالي. فأثنى عليهم القوم خيرًا، فقال عبد الرحمن بن عبد الله القشيري: لو لم تحرج علينا لكففت، فأما إذ حرجت علينا فإنك شاورت المشركين فأشاروا عليك بمن لا يخالفهم وبأشباههم، فهذا علمنا فيهم. قال: فاتكأ سعيد ثم جلس، فقال: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين "، قوموا. قال: وعزل سعيد شعبة بن ظهير عن السغد، وولى حربها عثمان بن عبد الله بن مطرف بن الشخير، وولى الخراج سليمان بن أبي السري مولى بني عوافة، واستعمل على هراة معقل بن عروة القشيري، فسار إليها. وضعف الناس سعيدًا وسموه خذينة، فطمع فيه الترك، فجمع له خاقان الترك، ووجههم إلى السغد، فكان على الترك كورصول، وأقبلوا حتى نزلوا قصر الباهلي. وقال بعضهم: أراد عظيم من عظماء الدهاقين أن يتزوج امرأة من باهلة، وكانت في ذلك القصر، فأرسل إليها يخطبها. فأبت، فاستجاش ورجا أن يسبوا من في القصر، فيأخذ المرأة، فأقبل كورصول حتى حصر أهل القصر، وفيه مائة أهل بيت بذراريهم، وعلى سمرقند عثمان بن عبد الله وخافوا أن يبطئ عنهم المدد، فصالحوا الترك على أربعين ألفًا، وأعطوهم سبعة عشر رجلًا رهينة، وندب عثمان بن عبد الله الناس، فانتدب المسيب بن بشر الرياحي وانتدب أربعة آلاف من جميع القبائل، فقال شعبة بن ظهير: لو كان ها هنا خيول خراسان ما وصلوا إلى غايتهم. قال: وكان فيمن انتدب من بني تميم شعبة بن ظهير النهشلي وبلعاء بن مجاهد العنزي، وعميرة بن ربيعة أحد بني العجيف - وهو عميرة الثريد - وغالب بن المهاجر الطائي - وهو أبي العباس الطوسي - وأبو سعيد معاوية بن الحجاج الطائي، وثابت قطنة وأبو المهاجر بن دارة من غطفان، وحليس الشيباني، والحجاج بن عمرو الطائي، وحسان بن معدان الطائي، والأشعث أبو حطامة وعمرو بن حسان الطائيان. فقال المسيب بن بشر لما عسكروا: إنكم تقدمون على حلبة الترك، حلبة خاقان وغيرهم، والعوض إن صبرتم الجنة، والعقاب النار إن فررتم، فمن أراد الغزو والصبر فليقدم. فانصرف عنه ألف وثلثمائة، وسار في الباقين، فلما سار فرسخًا قال للناس مثل مقالته الأولى، فاعتزل ألف، ثم سار فرسخًا آخر فقال لهم مثل ذلك، فاعتزل ألف. ثم سار - وكان دليلهم الأشهب بن عبيد الحنظلي - حتى إذا كان على فرسخين من القوم نزل فآتاهم ترك خاقان ملك قي فقال: إنه لم يبق هاهنا دهقان إلا وقد بايع الترك غيري، وأنا في ثلثمائة مقاتل فهم معك، وعندي الخبر، قد كانوا صالحوهم على أربعين ألفًا؛ فأعطوهم سبعة عشر رجلًا؛ ليكونوا رهنًا في أيديهم حتى يأخذوا صلحهم؛ فلما بلغهم مسيركم إليهم قتل الترك من كان في أيديهم من الرهائن. قال: وكان فيهم نهشًا بن يزيد الباهلي فنجا لم يقتل، والأشهب بن عبيد الله الحنظلي وميعادهم أن يقاتلوهم غدًا أو يفتحوا القصر، فبعث المسيب رجلين: رجلًا من العرب ورجلًا من العجم من ليلته على خيولهم، وقال لهم: إذا قربتم فشدوا دوابكم بالشجر، واعلموا علم القوم. فأقبلا في ليلة مظلمة؛ وقد أجرت الترك الماء في نواحي القصر؛ فليس يصل إليه أحد. ودنوا من القصر؛ فصاح بهما الربيئة، فقلا: لا تصح وادعوا لنا عبد الملك ابن دثار، فدعاه فقالا له: أرسلنا المسيب، وقد آتاكم الغياث، قال: أين هو؟ قال: على فرسخين؛ فهل عندكم امتناع ليلتك وغدًا؟ فقال: قد أجمعنا على تسليم نسائنا وتقديمهم للموت أمامنا؛ حتى نموت جميعًا غدًا فرجعا إلى المسيب، فأخبراه، فقال المسيب للذين معه: إني سائر إلى هذا العدو، فمن أحب أن يذهب فليذهب فلم يفارقه أحد؛ وبايعوه على الموت. فسار وقد زاد الماء الذي أجروه حول المدينة تحصينًا، فلما كان بينهم وبينهم نصف فرسخ نزل، فأجمع على بياتهم؛ فلما أمسى أمر الناس فشدوا على خيولهم، وركب فحثهم على الصبر، ورغبهم فيما يصير إليه أهل الأحتساب والصبر، وما لهم في الدنيا من الشرف والغنيمة إن ظفروا، وقال لهم: أكعموا دوابكم وقودوها، فإذا دنوتم من القوم فاركبوها وشدوا شدة صادقة وكبروا، وليكن شعاركم: يا محمد؛ ولا تتبعوا موليًا، وعيكم بالدواب فاعقروها، فإن الدواب إذا عقرت كانت أشد عليهم منكم، القليل الصابر خير من الكثير الفشل؛ وليست بكم قلة، فإن سبعمائة سيف لا يضرب بها في عسكر إلا أوهنوه وأن كثر أهله. قال: وعبأهم وجعل على الميمنة كثير بن الدبوسي، وعلى الميسرة رجلًا من ربيعة يقال له ثابت قطنة وساروا حتى إذا كانوا منهم على غلوتين كبروا وذلك في السحر، وثار الترك، وخالط المسلمون العسكر فعقروا الدواب، وصابرهم الترك، فجال المسلمون وانهزموا حتى صاروا إلى المسيب، وتبعهم الترك وضربوا عجز دابة المسيب فترجل رجال من المسلمين، فيهم البختري أبو عبد الله المرائي، ومحمد بن قيس الغنوة - ويقال: محمد بن قيس العنبري - وزياد الأصبهاني، ومهاوية بن الحجاج، وثابت قطنة. فقات البختري فقطعت يمينه، فأخذ السيف بشماله فقطعت، فجعل يذب بيده حتى استشهد. واتشهد أيضًا محمد بن قيس العنبري أو الغنوة وشبيب بن الحجاج الطائي. قال: ثم انهزم المشركون، وضرب ثابت قطنة عظيمًا من عظمائهم، فقتله، ونادى منادي المسيب: لا تتبعوهم؛ فأنهم لا يدرون من الرعب، اتبعتموهم أم لا! واقصدوا القصر، ولا تحملوا شيئًا من المتاع إلا المال، ولا تحملوا من يقدر على المشي. وقال المسيب: من حمل امرأة او صبية أو ضعيفأ حسبة فأجره على الله، ومن أبي فلة أربعون درهمًا، وإن كان في القصر أحد من أهل عهدكم فاحملوه قال: فاقصدوا جميعًا القصر فحملوا من كان فيه، وانتهى رجل من بني فقيم إلى امرأة. فقالت: أغثني أغاثك الله! فوقف وقال: دونك وعجز الفرس، فوثبت فإذا هي على عجز الفرس؛ فإذا هي أفرس من رجل، فتناول فقيمي بيد أبنها، غلامًا صغيرًا، فوضعه بين يديه، وآتوا ترك خاقان، فأنزلهم قصره وآتاهم بطعام، وقال: الحقوا بسمرقند، لا يرجعوا في آثاركم. فخرجوا نحو سمرقند، فقال لهم: هل بقي أحد؟ قالوا: هلال الحريري، قال: لا أسلمه فآتاه وبه بضع وثلاثون جراحة، فاحتمله، فبرأ، ثم أصيب يوم الشغب مع الجنيد. قال: فرجع الترك من الغد، فلم يروا في القصر أحدًا، رأوا قتلاهم، فقالوا: لم يكن الذين جاؤوا من الإنس، فقال ثابت قطنة: فددت نفسي فوارس من تميم ** غداة الروع في ضنك المقام فددت نفسي فوارس أكنفوني ** على الأعداء في رهج القتام بقصر الباهلي وقد رأوني ** أحامي حيث ضمن به المحام بسيفي بعد حطم الرمح قدمًا ** أذودهم بذي شطب جسام أكر عليهم اليحموم كرا ** ككر الشرب آنية المدام أكر به لدى الغمرات حتى ** تجلت لا يضيق بها مقامي فلولا الله ليس له شريك ** وضربى قونس الملك الهمام إذًا لسعت النساء بني دثار ** أما الترك بادية الخدام! فمن مثل المسيب في تميم ** أبى بشر كقدامة الحمام وقال جرير يذكر المسيب: لولا حماية يربوع نساءكم ** كانت لغيركم منهن أطهار حامى المسيب والخيلان في رهج ** إذ مازن ثم لا يحمى لها جار إذ لا عقال يحامى عن ذماركم ** ولا زرارة يحميها ووزار قال: وعور تلك الليلة أبو سعيد معاوية بن الحجاج الطائي، وشلت يده، وقد كان ولي ولاية قبل سعيد، فخرج عليه شيء مما كان بقي عليه فأخذ به، فدفعه سعيد إلى شداد بن خليد الباهلي ليحاسبه ويستأديه فضيق عليه شداد، فقال: يا معشر قيس، سرت إلى قصر الباهلي وأنا شديد البطش، حديد البصر؛ فعورت وشلت يدي، وقاتلت مع من قاتل حتى استنقذناهم بعد أن أشرفوا على القتل والأسر والسبي، وهذا صاحبكم يصنع بي ما يصنع، فكفوه عني، فخلاه. قال: وقال عبد الله بن محمد عن الرجل شهد ليلة قصر الباهلي قال: كنا في القصر، فلما التقوا ظننا أن القيامة قد قامت لما سمعنا من هماهم القوم ووقع الحديد وصهيل الخيل. ذكر الخبر عن غزو سعيد خذينة السغد وفي هذه السنة قطع سعيد خذينة نهر بلخ وعزا السغد، وكانوا نقضوا العهد وأعانوا الترك على المسلمين. ذكر الخبر عما كان من أمر سعيد والمسلمين في هذه الغزوة وكان سبب غزو سعيد هذه الغزوة - فيما ذكر - إن الترك عادوا إلى السغد، فكلم الناس سعيدًا وقالوا: تركت الغزو فقد أغار الترك، وكفر أهل السغد فقطع النهر، وقصد للسغد، فلقي الترك وطائفة من أهل السغد فهزمهم المسلمون، فقال سعيد: لا تتبعوهم؛ فإن السغد بستان أمير المؤمنين وقد هزمتموهم؛ أفتريدون بوارهم! وقد قاتلتم يا أهل العراق الخلفاء غير مرة فهل أباروكم! وسار المسلمون، فانتهوا إلى واد بينهم وبين المرج، فقال عبد الرحمن ابن صبح: لا يقطعن هذا الوادي مجفف ولا راجل، وليعبر من سواهم. فعبروا، ورأيهم الترك فأكمنوا كمينًا، وظهرت لهم خيل المسلمين فقاتلوهم، فانحاز الترك فاتبعوهم حتى جازوا الكمين، فخرجوا عليهم، فانهزم المسلمون حتى انتهوا إلى الوادي فقال لهم عبد الرحمن بن صبح: سابقوهم، ولا تقطعوا فإن أن قطعتم أبادوكم. فاصبروا لهم حتى انكشفوا عنهم فلم يتبعوهم، فقال قوم: قتل يومئذ شعبة بن زهير وأصحابه، وقال قوم: بل انكشف الترك منهم يومئذ منهزمين، ومعهم من أهل السغد. فلما كان الغد، خرجت مسلحة للمسلمين - والمسلحة يومئذ من بني تميم فما شعروا إلا بالترك معهم خرجوا عليهم من غيضة وعلى خيل بني تميم شعبة بن زهير، فقاتلهم شعبة فقتل؛ أعجلوه عن الركوب. وقتل رجل من العرب، فأخرجت جاريته حناء، وهو تقول: حتى متى أعد لك مثل هذا الخطاب، وأنت مختضب بالدم! مع كلام كثير فأبكت أهل العسكر. وقتل نحو من خمسين رجلًا وانهزم أهل المسلحة، وأتى الناس الصريخ، فقال عبد الرحمن بن المهلب العدوي: كنت أنا أول من آتاهم لما آتانا الخبر، وتحتي فرس جواد، فإذا عبد الله بن زهير إلى جنب شجرة كأنه قنفذ من النشاب؛ وقد قتل وركب الخليل بن أوس العبشري أحد بني ظالم وهو شاب - ونادى: يا بني تميم أنا الخليل؛ إلي! فانضمت إليه جماعة - فحمل بهم على العدو، فكفوهم ووزعوهم عن الناس حتى جاء الأمير والجماعة فانهزم العدو، فصار الخليل على خيل بني تميم يومئذ حتى ولى نصر بن سيار؛ ثم صارت رياسة بني تميم لأخيه الحكم بن أوس. وذكر علي بن محمد، عن شيوخه؛ أنسورة بن الحر قال لحيان: انصرف يا حيان، قال: عقيرة الله أدعها وانصرف قال: يا نبطي قال: أمبط الله وجهك! قال: وكان حيان النبطي يكنف الحرب أبا الهياج، وله يقول الشاعر: أن أبا الهياج أريحي ** للريح في أثوابه دوي قال: وعبر سعيد النهر مرتين، فلم يجاوز سمرقند، نزل في الأولى بإيزاء العدو، فقال له حيان مولى مصقلة بن هبيرة الشيباني: أيها الأمير ناجذ أهل السغد فقال: لا، هذه بلاد أمير المؤمنين، فرأى دخانًا ساطعًا، فسأل عنه فقيل له: السغد قد كفروا ومعهم بعض الترك. قال: فناوشهم، فانهزموا فألحوا في طلبهم، فنادى منادي سعيد: لا تطلبوهم؛ إنما السغد بستان أمير المؤمنين، وقد هزمتموهم، أفتريدون بوارهم! وأنتم يا أهل العراق قد قاتلتم أمير المؤمنين غير مرة فعفا عنكم ولم يستأصلكم ورجع، فلما كان العام المقبل بعث رجالًا من بني تميم إلى ورغسر، فقال: ليتنا نلقى العدو فنطاردهم - وكان سعيد إذا بعث سرية فأصابوا وغنموا وسبوا ردذراري السبي وعاقب السرية، فقال الهجري وكان شاعرًا: سريت إلى الأعداء تلهو بلعبة ** وأيرك مسلول وسيفك مغمد وأنت لمن عاديت عرس خفية ** وأنت علينا كالحسام المهند فلله در السغد لما تحزبوا ** ويا عجبًا من كيدك المتردد! قال: فقال سورة بن الحر لعيد - وقد كان حفظ عليه، وحقد عليه قوله: أنبط الله وجهك -: إن هذا العبد أعد الناس للعرب والعمال، وهو أفسد خراسان على قتيبة بن مسلم وهو واثب بك، مفسد عليك خراسان؛ ثم يتحصن في بعض هذه القلاع. فقال: يا سورة لا تسمعن هذا أحدًا. قم مكث أيامًا ثم دعا في مجلسه بلبن، وقد أمر بذهب فسحق، والقى في إناء حيان فشربه، وقد خلط بالذهب، ثم ركب، فركب الناس أربعة فراسخ إلى باركث؛ كأنه يطلب عدوًا، ثم رجع فعاش حيان أربعة أيام ومات في اليوم الرابع، فثقل سعيد على الناس وضعفوه، وكان رجل من بني أسد يقال له إسماعيل منقطعًا إلى مروان بن محمد، فذكر إسماعيل عند خذينة ومودته لمروان، فقال سعيد: وما ذاك الملط! فهجاه إسماعيل، فقال: زعمت خزيمة أنني ملط ** لخذينة المرآة والمشط ومجامر ومكاحل جعلت ** ومعازف وبخدها نقط أفذاك أم زغف مضاعفة ** ومهند من شانه القط لمقرس ذكر أخي ثقة ** لم يغذه التأنيث واللقط أغبضت أن بات ابن أمكم ** بهم وأن أباكم سقط إني رأيت نبالهم كسيت ** ريش اللؤام ونبلكم مرط ورأيتهم جعلوا مكاسرهم ** عند الندى وأنتم خلط عزل مسلمة عن العراق وخراسان وفي هذه السنة عزل مسلم بن عبد الملك عن العراق وخراسان وانصرف إلى الشام. ذكر الخبر عن سبب عزله وكيف كان ذلك وكان شبب ذلك - فيما ذكر على بني محمد - أن مسلمة لما ولي ما ولي من أرض العراق وخراسان لم يرفع من الخراج شيئًا، وأن يزيد بن عاتكة أرداد عزله فاستحيا منه، وكتب إليه أن استخلف على عملك وأقبل. وقد قيل إن مسلمة شاور عبد العزيز بن حاتم بن النعمان في الشخوص إلى ابن عاتكة ليزوره، فقال له: أمن شوق بك إليه! أنك لطروب، وإن عهدك به لقريب، قال: لا بد من ذلك، قال: إذًا لا تخرج من عملك حتى تلقى الوالي عليه، فشخص؛ فلما بلغ دورين لقيه عمر بن هبيرة على خمس من دواب البريد، فدخل عليه ابن هبيرة، فقال: إلى أين يا ابن هبيرة؟ فقال: وجهني أمير المؤمنين غي حيازة أموال بني المهلب. فلما خرج من عنده أرسل إلى عبد العزيز فجاءه، فقال: هذا ابن هبيرة قد لقيناه كما ترى، قال: قد أنبأتك، قال: فإنه إنما وجهه لحيازة أموال بني المهلب، قال: هذا أعجب من الأول؛ يصرف عن الجزيرة ويوجه في حيازة أموال بني المهلب، قال: فلم يلبث أن جاءه عزل ابن هبيرة عماله والغلظة عليهم فقال الفرزدق: راحت بمسلمة الركاب مودعا ** فارعى فزارة لا هناك المرتع عزل ابن بشر وابن عمرو قبله ** وأخو هراة لمثلها يتوقع ولق دعلمت لئن فزارة أمرت ** أن سوف تطمع في الإمارة أشجع من خلق ربك ما هم ولمثلهم ** في مثل ما نالت فزارة يطمع يعني بابن بشر عبد الملك بن بشر بن مراون، وبابن عمرو محمدًا ذا الشامة بن عمرو بن الوليد، وبأخي هارة سعيد خذينة بن عبد العزيز، كان عامل لمسلمة على خراسان. وفي هذه السنة غزا عمر بن هبيرة الرزم بأرمينية، فهزمهم وأسر منهم بشرًا كثيرًا قيل سبعمائة أسير. بدء ظهور الدعوة وفيها وجه - فيما ذكر ميسرة - رسله من العراق إلى خراسان وظهر أمر الدعوة بها، فجاء رجل من بني تميم يقال له عمرو بن بحير بن ورقاء السعدي إلى سعيد خذينة، فقال له: إن هاهنا قومًا قد ظهر منهم كلام قبيح، فبعث إليهم سعيد فأتى بهم، فقال: من أنتم؟ قالوا: أناس من التجار؟ قال: فما هذا الذي يحكى عنكم؟ قالوا: لا ندري، قال: جئتم دعاة؟ فقالوا: إن لنا في أنفسنا وتجارتنا شغلا عن هذا، فقال: من يعرف هؤلاء؟ فجاء أناس من أهل خراسان جلهم ربيعة واليمن، قالوا: نحن نعرفهم، وهم علينا إن أتاك منهم شيء تكرهه، فاخلي سبيلهم. ذكر خبر قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية وفيها - أعني سنة اثنتين ومائة - قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية وهو وال عليها. ذكر الخبر عن سبب قتله وكان سبب ذلك أنه كان - فيما ذكر - عزم أن يسير بهم بسيرة الحجاج بن يوسف في أهل الإسلام الذين سكنوا الأمصار ممن كان أصله من السواد من أهل الذمة فأسلم بالعراق ممن ردهم إلى قراهم ورساتيقهم، ووضع الجزية على رقابهم على نحو ماكانت تؤخذ منهم مهم على كفرهم، فلما عزم على ذلك تآمروا في أمره، فأجمع رأيهم - فيما ذكر - على قتله فقتلوه، وولوا على أنفسهم الذي كان عليهم قبل يزيد بن أبي مسلم؛ وهو محمد بن يزيد مولى الأنصار وكان في جيش يزيد بن أبي مسلم، وكتبوا إلى يزيد بن عبد الملك: إنا لم نخلع أيدينا من الطاعة؛ ولكن يزيد بن أبي مسلم سامنا ما لا يرضى الله والمسلمون فقتلناه وأعدنا عاملك. فكتب ألهم يزيد بن عبد الملك إني لم أرض ما صنع يزيد بن أبي مسلم، وأقر محمد بن زيد على إفريقية. وفي هذه السنة استعمل عمر بن هبيرة بن معية بن سكين بن خديج بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة على العراق وخراسان. وحج بالناس في هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك؛ كذلك قال أبو معشر والواقدي. وكان العامل على المدينة عبد الرحمن بن الضحاك وعلى مكة عبد العزيز ابن عبد الله بن خالد بن أسيد. وعلى الكوفة محمد بن عمرو ذو الشامة، وعلى قضائها القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وعلى البصرة عبد الملك بن بشر بن مروان، وعلى خراسان سعيد خذينة، وعلى مصر أسامة بن زيد. ثم دخلت سنة ثلاث ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث عزل سعيد خذينة عن خراسان فمما كان فيها من ذلك عزل عمر بن هبيرة سعيد خذينة عن خراسان، وكان سبب عزله عنها - فيما ذكر علي بن محمد عن أشياخه أن المجشر بن مزاحم السلمى وعبد الله بن عمير الليثي قدما على عمر بن هبيرة، فشكواه فعزله، واستعمل سعيد بن عمرو بن الأسود بن مالك بن كعب بن وقدان بن الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وخذينة غاز بباب سمرقند، فبلغ الناس عزله، فقفل خذينة، وخلف بسمرقند ألف فارس، فقال نهار بن توسعة: فمن ذاك مبلغ فتيان قومي ** بأن النبل ريشت كل ريش بأن الله أبدل من سعيد ** سعيداص لا المخنث من قريش قال: ولم يعرض سعيد الحرشي لأحد من عمال خذينة، فقرأ رجل عهده فلحن فيه، فقال سعيد: صه مهما سمعتم فهو من الكاتب، والأمير منه بريء، فقال الشاعر يضعف الحرشي في هذا الكلام: تبدلنا سعيدًا من سعيد ** لجد السوء والقدر المتاح قال الطبري: وفي هذه السنة غزا العباس بن الوليد الروم ففتح مدينة يقال لها رسلة. وفيها أغارت الترك عن اللان. وفيها ضمت مكة إلى عبد الرحمن بن الضحاك الفهري، فجمعت له مع المدينة. وفيها ولى عبد الواحد بن عبد الله النضري، الطائف وعزل عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد عن مكة وفيها أمر عبد الرحمن بن الضحاك أن يجمع بين أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعثمان بن حيان النوري، وكان من أمره وأمرهما ما قد مضى ذكره. وحج بالناس في هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري كذلك قال أبو معشر والواقدي. وكان عمل يزيد بن عاتكة في هده السنة على مكة والمدينة عبد الرحمن بن الضحاك، وعلى الطائف عبد الواحد بن عبد الله النضري. وعلى العراق وخراسان عمر بن هبيرة، وعلى خراسان سعيد بن عمرو الحرشي من قبل عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى. استعمال ابن هبيرة سعيدا الحرشي على خراسان وفيها استعمل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي على خراسان. ذكر الخبر عن سبب استعماله الحرشي على خراسان ذكر علي بن محمد عن أصحابه عن ابن هبيرة لما ولي العراق، كتب إلى يزيد بن عبد الملك بأسماء من أبلى يوم العقر، ولم يذكر الحرشي، فقال يزيد بن عبد الملك: لما لم يذكر الحرشي؟ فكتب إلى ابن هبيرة: ول الحرشي خراسان. فولاه، فقدم الحرشي على مقدمته المجشر بن مزاحم السلمى سنة ثلاث ومائة، ثم قدم الحرشي خراسان، والناس بإيزاء العدو، وقد كانوا نكبوا، فخطبهم وحثهم على الجهاد، فقال: أنكم لا تقاتلون عدو الإسلام بكثرة ولا بعدة، ولكن بنصر الله وعز الإسلام فقولوا لاحول ولا قوة إلا بالله. وقال: فلست لعامر إن لم تروني ** أما الخيل أطعن بالعوالي فأضرب هامة الجبار منهم ** بغضب الحد حودث بالصقال فما أنا في الحروب بمستكين ** وأخشى مصاولة الرجال أبى لي والدي من كل ذنب ** وخالي في الحوادث خير خال إذا خطرت أماي حي كعب ** وزافت الجبال بنو هلال ارتحال أهل السغد عن بلادهم إلى فرغانة وفي هذه السنة ارتحل أهل السغد عن بلادهم عند مقدم سعيد بن عمرو الحرشي فلحقوا بفرغانة فسألوا ملكها معونتهم على المسلمين. ذكر الخبر عما كان منهم ومن صاحب فرغانة ذكر علي بن محمد عن أصحابه أن السُّغد كانوا قد أعانوا الترك أيام خذينة، فلما وليهم الحرشي خافوا على أنفسهم، فأجمع عظمائهم على الخروج من بلادهم، فقال لهم ملكهم لا تفعلوا أقيموا واحملوا إليه خراج مامضى، واضمنوا له خراج ما تستقبلون، واضمنوا له عمارة أرضيكم والغزو معه إن أراد ذلك. واعتذروا مما كان منكم، وأعطوه رهائن يكونون في يديه. قالوا: نخاف ألا يرضى ولا يقبل منا، ولكنا نأتي خجنده، فنستجير ملكها، ونرسل إلى الأمير فنسأله الصفح كما كان منا ونوثق له ألا يرى أمرًا يكرهه، فقال: أنا رجل منكم، وما أشرت به عليكم كان خيرًا لكم، فأبوا فخرجوا إلى خجندة، وخرج كارزنج وكشين وبياركث وثابت بأهل إشتيخًا، فأرسلوا إلى ملك فرغانة الطار يسألونه أن يمنعهم وينزلهم مدينته. فهم أن يفعل، فقالت له أمه: لا تدخل هؤلاء الشياطين مدينتك، ولكن فرغ لهم رستاقًا يكونون فبه، فأرسل إليهم: سموا لي رستاقًا أفرغه لكم، وأجلوني أربعين يومًا - ويقال: عشرين يومًا - وإن شئتم فرغت لكم شعب عصام بن عبد الله الباهلي - وكان قتيبة خلفه فيهم - فقبلوا شعب عصام. فأرسلوا إليه: فرغه لنا، قال: نعم، وليس لكم علي عقد ولا جوار حتى تدخلوه؛ وإن أتتكم العرب قبل أن تدخلوه لم أمنعكم، فرضوا؛ ففرغ لهم الشعب. وقد قيل: إن ابن هبيرة بعث إليهم قبل أن يخرجوا من بلادهم يسألهم أن يقيموا، ويستعمل عليهم من أحبوا، فأبوا وخرجوا إلى خجندة وشعب عصام بن رستاق أسفرة - وأسفرة يومئذ ولي عهد ملك فرغانا بلاذا، وبيلاذا أنوجور ملكها. وقيل: قال لهم كارزنج: أخيركم ثلاث خصال، إن تركتموها هلكتم: إن سعيدًا فارس العرب، وقد توجه على مقدمته عبد الرحمن بن عبد الله القشيري في حماة أصحابه، فبيتوه فاقتلوه؛ فإن الحرشي إذا أتاه خبره لم يغزكم، فأبوا عليه، قال: فاقطعوا نهر الشاش، فسلوهم ماذا تريدون؟ فإن أجابوكم وإلا مضيتم إلى سوياب، قالوا: لا قال: فأعطوهم. قال: فارتحل كارزنج وجلنج بأهل قي، وأباربن ماخنون وثابت بأهل إشتيخن، وارتحل أهل بياكرث وأهل سسكث بألف رجل عليهم مناطق الذهب مع دهاقين بزماجن، فارتحل الديواشني بأهل بنجيكث إلى حصن أبغر، ولحق كارزنج وأهل السغد بخجندة.