دراسات تجديدية فِي
أصول الْحَدِيْث : التفرد
الدكتور ماهر الفحل
التَّفَرُّدُ في
اللغة :
مأخوذ من الفعل
الثلاثي المزيد بحرفين ( تَفَرَّدَ ) .
يقال : فَرَدَ
بالأمر والرأي : انْفَرَدَ ، وفَرَدَ الرجلُ : كَانَ وحده مُنْفرِداً لا ثاني
مَعَهُ . وفَرَّدَ برأيه : اسْتَبَدَّ .
وَقَدْ أشار ابن
فارس ([1]) إلى أن تراكيب
هَذَا الأصل واشتقاقاته كلها تدل عَلَى الوحدة . إِذْ قَالَ : (( الفاء والراء
والدال أصل صَحِيْح يدل عَلَى وحدة . من ذَلِكَ : الفرد وَهُوَ الوتر ، والفارد
والفرد : الثور المنفرد … )) ([2]) .
التفرد في الاصطلاح
:
عرّف أبو حفص الميانشي
([3]) الفرد بأنه : ما
انفرد بروايته بعض الثقات عن شيخه، دون سائر الرُّوَاة عن ذَلِكَ الشيخ ([4]) .
ويظهر من هَذَا
التعريف بعض القصور في دخول بعض أفراد المُعَرَّف في حقيقة التعريف ، إِذْ قَصَرَه
عَلَى انفراد الثقة فَقَطْ عن شيخه ([5]) .
وعرّف الدكتور حمزة
المليباري التفرد وبيّن كيفية حصوله ، فَقَالَ : (( يراد بالتفرد: أن يروي شخص من
الرُّوَاة حديثاً دون أن يشاركه الآخرون )) ([6])
.
وهذا التعريف
الأخير أعم من التعريف الأول ، فإنه شامل لتفرد الثقة وغيره ، وعليه تدل تصرفات
نقاد الْمُحَدِّثِيْنَ وجهابذة الناقلين ، ولقد كثر في تعبيراتهم : حَدِيْث غريب ،
أو تفرّد بِهِ فُلاَن ، أو هَذَا حَدِيْث لا يعرف إلا من هَذَا الوجه ، أَوْ لا
نعلمه يروى عن فُلاَن إلاّ من حَدِيْث فُلاَن ، ونحوها من التعبيرات ([7]) .
ولربما كَانَ
الحامل للميانشي عَلَى تخصيص التعريف بالثقات دون غيرهم ، أن رِوَايَة الضعيف لا
اعتداد بِهَا عِنْدَ عدم المتابع والعاضد . ولكن من الناحية التنظيرية نجد
الْمُحَدِّثِيْنَ عِنْدَ تشخيصهم لحالة التفرد لا يفرقون بَيْنَ كون المتفرد ثقة
أو ضعيفاً ، فيقولون مثلاً : تفرد بِهِ الزهري ، كَمَا يقولون : تفرد بِهِ ابن أبي
أويس ([8]).
وبهذا المعنى يظهر
الترابط الواضح بَيْنَ المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي ، إِذْ إنهما يدوران في
حلقة التفرد عما يماثله .
والتفرد ليس بعلة
في كُلّ أحواله ، ولكنه كاشف عن العلة مرشد إلى وجودها ، وفي هَذَا يقول الحافظ
ابن رجب الحنبلي : (( وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الْحَدِيْث إذا
تفرد بِهِ واحد – وإن لَمْ يروِ الثقات خلافه - : إنه لا يتابع عَلَيْهِ .ويجعلون
ذَلِكَ علة فِيْهِ ، اللهم إلاّ أن يَكُوْن ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه
كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أَيْضاً ولهم في كُلّ
حَدِيْث نقد خاص ، وليس عندهم لِذَلِكَ ضابط يضبطه )) ([9])
.
ومعنى قوله : ((
ويجعلون ذَلِكَ علة )) ، أن ذَلِكَ مخصوص بتفرد من لا يحتمل تفرده، بقرينة قوله : ((
إلا أن يَكُوْن ممن كثر حفظه … )) ، فتفرده هُوَ خطؤه ، إِذْ هُوَ مظنة عدم الضبط
ودخول الأوهام ، فانفراده دال عَلَى وجود خلل ما في حديثه ، كَمَا أن الحمّى دالة
عَلَى وجود مرض ما ، وَقَدْ وجدنا غَيْر واحد من النقاد صرح بأن تفرد فُلاَن لا
يضر ، فَقَدْ قَالَ الإمام مُسْلِم : (( هَذَا الحرف لا يرويه غَيْر الزهري ،
قَالَ : وللزهري نحو من تسعين حديثاً يرويها عن النَّبِيّ r لا يشاركه فِيْهَا أحد بأسانيد جياد )) ([10])
.
وَقَالَ الحافظ ابن
حجر : (( وكم من ثقة تفرد بما لَمْ يشاركه فِيْهِ
ثقة آخر ، وإذا كَانَ الثقة حافظاً لَمْ يضره الانفراد )) ([11]) .
وَقَالَ الزيلعي ([12]) : (( وانفراد
الثقة بالحديث لا يضره )) ([13]).
وتأسيساً عَلَى ما
أصّلناه من قَبْل من أن تفرد الرَّاوِي لا يضر في كُلّ حال ، ولكنه ينبه الناقد
عَلَى أمر ما ، قَالَ المعلمي اليماني : (( وكثرة الغرائب إنما تضر الرَّاوِي في
أحد حالين :
الأولى : أن تكون
مع غرابتها منكرة عن شيوخ ثقات بأسانيد جيدة .
الثانية : أن
يَكُوْن مع كثرة غرائبه غَيْر معروف بكثرة الطلب )) ([14])
.
وتمتع هَذَا الجانب
من النقد الحديثي باهتمام النقاد ، فنراهم يديمون تتبع هَذِهِ الحالة وتقريرها ،
وأفردوا من أجل ذَلِكَ المصنفات، مِنْهَا: كتاب " التفرد " ([15]) للإمام أبي داود
، و " الغرائب والأفراد " ([16])
للدارقطني ، و " المفاريد " ([17])
لأبي يعلى ، واهتم الإمام الطبراني في معجميه الأوسط والصغير بذكر الأفراد ، وكذا
فعل البزار في مسنده ، والعقيلي ([18]) في ضعفائه .
وَهُوَ ليس بالعلم الهيّن ، فهو (( يحتاج لاتساع الباع في الحفظ ، وكثيراً ما يدعي
الحافظ التفرد بحسب علمه ، ويطلّع غيره عَلَى المتابع )) ([19])
.
وفي كُلّ الأحوال
فإن التفرد بحد ذاته لا يصلح ضابطاً لرد الروايات ، حَتَّى في حالة تفرد الضعيف لا
يحكم عَلَى جميع ما تفرد بِهِ بالرد المطلق ، بَلْ إن النقاد يستخرجون من أفراده
ما يعلمون بالقرائن والمرجحات عدم خطئه فِيْهِ
، وَهُوَ ما نسميه بعملية الانتقاء ، قَالَ سفيان الثوري : (( اتقوا الكلبي
([20]) ، فقيل لَهُ :
إنك تروي عَنْهُ ، قَالَ : إني أعلم صدقه من كذبه )) ([21])
.
ومثلما أن تفرد
الضعيف لا يرد مطلقاً ، فكذلك تفرد الثقة – وكما سبق في كلام ابن رجب – لا يقبل
عَلَى الإطلاق ، وإنما القبول والرد موقوفان عَلَى القرائن والمرجحات. قَالَ
الإمام أحمد : (( إذا سَمِعْتَ أصحاب الْحَدِيْث يقولون : هَذَا حَدِيْث غريب أَوْ
فائدة . فاعلم أنه خطأ أو دخل حَدِيْث في حَدِيْث أَوْ خطأ من المُحدِّث أَوْ
حَدِيْث ليس لَهُ إسناد ، وإن كَانَ قَدْ رَوَى شعبة وسفيان ، فإذا سمعتهم يقولون
: هَذَا لا شيء ، فاعلم أنه حَدِيْث صَحِيْح )) ([22])
.
وَقَالَ أبو داود :
(( والأحاديث الَّتِيْ وضعتها في كتاب " السنن " أكثرها مشاهير ، وَهُوَ
عِنْدَ كُلّ من كتب شَيْئاً من الْحَدِيْث ، إلا أن تمييزها لا يقدر عَلَيْهِ كُلّ
الناس ، والفخر بِهَا : بأنها مشاهير ، فإنه لا يحتج بحديث غريب ، وَلَوْ كَانَ من
رِوَايَة مالك
ويحيى بن سعيد و الثقات من أئمة العلم )) ([23])
.
ونحن نجد أمثلة
تطبيقية متعددة في ممارسة النقاد ، مِنْهَا قَوْل الحافظ ابن حجر في حَدِيْث صلاة
التسبيح : (( وإن كَانَ سند ابن عَبَّاسٍ يقرب من شرط الحسن إلا أنه شاذ لشدة
الفردية وعدم المتابع والشاهد من وجه معتبر )) ([24])
.
ويمكننا أن نقسم
التفرد – حسب موقعه في السند – إلى قسمين :
الأول : تفرد في
الطبقات المتقدمة :
كطبقة الصَّحَابَة
، وطبقة كبار التَّابِعِيْنَ ، وهذا التفرد مقبول إذا كَانَ راويه ثقة
–وهذا الاحتراز فِيْمَا يخص طبقة التَّابِعِيْنَ – ، فهو أمر وارد جداً لأسباب
متعددة يمكن حصرها في عدم توفر فرص متعددة تمكّن الْمُحَدِّثِيْنَ من التلاقي
وتبادل المرويات ، وذلك لصعوبة التنقل في البلدان ، لا سيما في هذين العصرين .
فوقوعه فيهما لا
يولد عِنْدَ الناقد استفهاماً عن كيفيته ، ولاسيما أن تداخل الأحاديث فِيْمَا
بينها شيء لا يكاد يذكر ، نظراً لقلة الأسانيد زياد على قصرها . هَذَا فِيْمَا إذا
لَمْ يخالف الثابت المشهور ، أو من هُوَ أولى مِنْهُ حفظاً أَوْ عدداً .
وإن كَانَ المتفرد
ضعيفاً أَوْ مجهولاً -فِيْمَا يخص التَّابِعِيْنَ- فحكمه بيّن وَهُوَ الرد([25]).
الثاني : التفرد في
الطبقات المتأخرة
فبعد أن نشط الناس
لطلب العلم وأداموا الرحلة فِيْهِ والتبحر
في فنونه ، ظهرت مناهج متعددة في الطلب والموقف مِنْهُ ، فكانت الغرس الأول
للمدارس الحديثية الَّتِيْ نشأت فِيْمَا بَعْد ، فكان لها جهدها العظيم في لَمِّ
شتات المرويات وجمعها ، والحرص عَلَى تلقيها من مصادرها الأصيلة ، فوفرت لَهُم
الرحلات المتعددة فرصة لقاء المشايخ والرواة وتبادل المرويات ، فإذا انفرد من
هَذِهِ الطبقات أحد بشيء ما فإن ذَلِكَ أمر يوقع الريبة عِنْدَ الناقد ، لا سيما
إذا تفرد عمن يجمع حديثه أَوْ يكثر أصحابه ، كالزهري ومالك وشعبة وسفيان وغيرهم ([26]) .
ثم إنّ العلماء
قسموا الأفراد من حَيْثُ التقييد وعدمه إلى قسمين :
الأول: الفرد
المطلق : وَهُوَ ما ينفرد بِهِ الرَّاوِي عن أحد الرُّوَاة ([27]) .
الثاني: الفرد
النسبي : وَهُوَ ما كَانَ التفرد فِيْهِ
نسبياً إلى جهة ما([28]) ، فيقيد بوصف
يحدد هَذِهِ الجهة .
وما قِيْلَ من أن
لَهُ أقساماً أخر ، فإنها راجعة في حقيقتها إلى هذين القسمين .
أما الحكم عَلَى
الأفراد باعتبار حال الرَّاوِي المتفرد فَقَطْ من غَيْر اعتبار للقرائن والمرجحات
، فهو خلاف منهج الأئمة النقاد المتقدمين ، إذن فليس هناك حكم مطرد بقبول تفرد
الثقة ، أو رد تفرد الضعيف ، بَلْ تتفاوت أحكامهما ، ويتم تحديدها وفهمها عَلَى
ضوء المنهج النقدي النَّزيه ؛وذلك لأن الثقة يختلف ضبطه باختلاف الأحوال والأماكن
والشيوخ لخلل يحدث في كيفية التلقي للأحاديث أَوْ لعدم توفر الوسائل الَّتِيْ
تمكنه من ضبط ما سَمعه من بعض شيوخه ، أو لحدوث ضياع في بعض ما كتبه عن بعض شيوخه
حَتَّى وَلَوْ كَانَ من أثبت أصحابهم وألزمهم ، ولذا ينكر النقاد من أحاديث الثقات
– حَتَّى وَلَوْ كانوا أئمة – ما ليس بالقليل .
الدكتور ماهر ياسين
الفحل