الجزء العاشر |
فهرس ◄ |
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائتين
وأولها يوم الاثنين للتاسع والعشرين من حزيران، ولخمس وتسعين ومائة وألف من عهد ذي القرنين.
ذكر الخبر عما كان فيه الأحداث الجليلة
فمن ذلك ما كان فيها من ورود الخبر في غرة صفر بدخول محمد وعلي ابني الحسين بن جعفر بن موسى بن محمد بن علي بن حسين المدينة وقتلهما جماعة من أهلها ومطالبتهما أهلها بمال، وأخذهما من قوم منهم مالًا.
وأن أهل المدينة لم يصلوا في مسجد رسول الله ﷺ أربع جمع؛ لا جمعة ولا جماعة، فقال أبو العباس بن الفضل العلوي:
أخربت دار هجرة المصطفى الب ** ر فأبكى إخرابها المسلمينا
عين أبكى مقام جبريل والقب ** ر فبكى والمنبر الميمونا
وعلى المسجد الذي أسه التق ** وى خلاء أضحى من العابدينا
وعلى طيبة التي بارك الله عليها بخاتم المرسلينا
قبح الله معشرًا أخربوها ** وأطاعوا متبرًا ملعونا
وفيها أدخل على المعتمد من كان حضر بغداد من حاج خراسان، فأعلمهم أنه قد عزل عمرو بن الليث عما كان قلده، ولعنه بحضرتهم، وأخبرهم أنه قد قلد خراسان محمد بن طاهر؛ وكان ذلك لأربع بقين من شوال. وأمر أيضًا بلعن عمر بن اليث على المنابر، ولثمان بقين من شعبان من هذه السنة شخص صاعد بن مخلد من معسكر أبي أحمد بواسط إلى فارس لحرب عمرو بن الليث. ولعشر خلون من شهر رمضان منها عقد لأحمد بن محمد الطائي على المدينة وطريق مكة. وفيها كانت بين أبي العباس بن الموفق وبين خمارويه بن أحمد بن طولون وقعة بالطواحين، فهزم أبو العباس خمارويه، فركب خماروية حمارًا هاربًا منه إلى مصر، ووقع أصحاب أبي العباس في النهب.
ونزل أبو العباس مضرب خمارويه، ولا يرى أنه بقي له طالب، فخرج عليه كمين لخمارويه كان كمنه لهم خمارويه، وفيهم سعد الأعسر وجماعة من قواده وأصحابه، وأصحاب أبي العباس قد وضعوا السلاح ونزلوا.
فشد كمين خمارويه عليهم فانهزموا، وتفرق القوم، ومضى أبو العباس إلى طرسوس في نفر من أصحابه قليل، وذهب كل ما كان في العسكرين؛ عسكر أبي العباس وعسكر خمارويه من السلاح والكراع والأثاث والأموال، وانتهب ذلك كله؛ وكانت هذه الوقعة يوم السادس عشر من شوال من هذه السنة - فيما قيل.
وفيها وثب يوسف بن أبي الساج - وكان والي مكة - على غلام للطائي يقال له بدر، وخرج واليًا على الحاج فقيده، فحارب ابن أبي الساج جماعة من الجند، وأغاثهم الحاج، حتى استنقذوا غلام الطائي، وأسروا ابن أبي الساج، فقيد وحمل إلى مدينة السلام، وكانت الحرب بينهم على أبواب المسجد الحرام.
وفيها خربت العامة الدير العتيق الذي وراء نهر عيسى، وانتهبوا كل ما كان فيه من متاع، وقلعوا الأبواب والخشب وغير ذلك، وهدموا بعض حيطانه وسقوفه؛ فصار إليهم الحسين بن إسماعيل صاحب شرطة بغداد من قبل محمد بن طاهر، فمنعهم من هدم ما بقي منه؛ وكان يتردد إليه أيامًا هو والعامة؛ حتى يكاد يكون بين أصحاب السلطان وبينهم قتال، ثم بنى ما كانت العامة هدمته بعد أيام، وكانت إعادة بنائه - فيما ذكر - بقوة عبدون بن مخلد، أخي صاعد بن مخلد.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى العباسي.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائتين
أولها يوم الجمعة للثامن عشر من حزيران، سنة ست وتسعين ومائة وألف لذي القرنين.
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك إخراج أهل طرسوس أبا العباس بن الموفق من طرسوس؛ لخلاف كان وقع بينه وبين يازمان؛ فخرج عنها يريد بغداد للنصف من المحرم من هذه السنة.
وفيها توفي سليمان بن وهب في حبس الموفق يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة بقيت من صفر.
وفيها تجمعت العامة، فهدموا ما كان بني من البيعة يوم الخميس لثمان خلون من شهر ربيع الآخر.
وفيها حكم شار في طريق خراسان، وصار إلى دسكرة الملك، فقتل وانتهب.
وفيها ورد الخبر مدينة السلام بدخول حمدان بن حمدون وهارون الشاري مدينة الموصل، وصلى الشاري بهم في مسجد الجامع.
وفيها قدم أبو العباس بن الموفق منصرفًا من وقعته مع ابن طولون بالطواحين لتسع بقين من جمادى الآخرة.
وفيها نقب المطبق من داخله، وأخرج الذوائبي العلوي ونفسان معه، وكانوا قد أعدت لهم دواب توقف في كل ليلة ليخرجوا فيركبوها هاربين.
فنذر بهم، وغلقت أبواب مدينة أبي جعفر المنصور، فأخذ الذوائبي ومن خرج معه، وركب محمد بن طاهر، وكتب بالخبر إلى الموفق وهو مقيم بواسط، فأمر أن تقطع يد الذوائبي ورجله من خلاف، فقطع في مجلس الجسر بالجانب الغربي، ومحمد بن طاهر واقف على دابته، وكوى يوم الاثنين لثلاث خلون من جمادى الآخرة.
وفيها قدم صاعد بن مخلد من فارس، ودخل واسط في رجب، فأمر الموفق جميع القواد أن يستقبلوه، فاستقبلوه، وترجلوا له، وقبلوا كفه.
وفيها قبض الموفق على صاعد بن مخلد بواسط وعلى أسبابه، وانتهب منازلهم يوم الاثنين لتسع خلون من رجب، وقبض على ابنيه أبي عيسى وأبي صالح ببغداد، وعلى أخيه عبدون وأسبابه بسامرا، وذلك كله في يوم واحد، وهو اليوم الذي قبض فيه على صاعد، واستكتب الموفق إسماعيل بن بلبل، واقتصر به على الكتابة دون غيرها.
ووردت الأخبار فيها أن مصر زلزلت في جمادى الآخرة زلازل أخربت الدور والمسجد الجامع، وأنه أحصى في يوم واحد بها ألف جنازة.
وفيها غلا السعر ببغداد؛ وذلك أن أهل سامرا منعوا - فيما ذكر - سفن الدقيق من الانحدار إليها، ومنع الطائي أرباب الضياع من دياس الطعام وقسمه، يتربص بذلك غلاء الأسعار، فمنع أهل بغداد الزيت والصابون والتمر وغير ذلك من حمله إلى سامرا، وذلك في النصف من شهر رمضان.
وفيها ضجت العامة بسبب غلاء السعر، واجتمعت للوثوب بالطائي، فانصرفوا من مسجد الجامع للنصف من شوال إلى داره بين باب البصره وباب الكوفة، وجاءوه من ناحية الكرخ، فأصعد الطائي أصحابه على السطوح، فرموهم بالنشاب، وأقام رجاله على بابه وفي فناء داره بالسيوف والرماح، فقتل بعض العامة، وجرحت منهم جماعة، ولم يزالوا يقاتلونهم إلى الليل، فلما كان الليل انصرفوا، وباكروه من غد، فركب محمد بن طاهر، فسكن الناس وصرفهم عنه.
وفيها توفي إسماعيل بن بريه الهاشمي، يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال منها.
ولثمان بقين منها توفي عبيد بن عبد الله الهاشمي.
وفيها كانت للزنج بواسط حركة، فصاحوا: أنكلاى، يا منصور! وكان أنكلاى والمهلبى وسليمان بن جامع والشعراني والهمداني وآخر معهم من قواد الزنج محتبسين في دار محمد بن عبد الله بن ظاهر بمدينة السلام في دار البطيخ، في يد غلام من غلمان الموفق، يقال له: فتح السعيدي، فكتب الموفق إلى فتح أن يوجه برءوس هؤلاء الستة، فدخل إليهم، فجعل يخرج الأول فالأول منهم، فذبحهم غلام له، وقلع رأس بالوعة في الدار، وطرحت أجسادهم فيها، وسد رأسها، ووجه رءوسهم إلى الموفق.
وفيها ورد كتاب الموفق على محمد بن طاهر في جثث هؤلاء الستة المقتولين، فأمره بصلبها بحضرة الجسر، فأخرجوا من البالوعة، وقد انتفخوا، وتغيرت روائحهم، وتقشر بعض جلودهم، فحملوا في المحامل: المحمل بين الرجلين؛ وصلب ثلاثة منهم في الجانب الشرقي، وثلاثة في الجانب الغربي، وذلك لسبع بقين من شوال من هذه السنة، وركب محمد بن طاهر حتى صلبوا بحضرته. وفيها صلح أمر رسول الله صلى الله علية وسلم، وعمرت، وتراجع الناس إليها.
وفيها غزا الصائفة يازمان.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق بين عيسى بن موسى الهاشمي.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ففيها كانت وقعة أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وعمرو بن الليث الصفار يوم السادس عشر من شهر ربيع الأول.
وفيها كانت أيضًا وقعة بين إسحاق بن كنداج ومحمد بن أبي الساج بالرقة، فانهزم إسحاق؛ وكان ذلك يوم الثلاثاء لتسع خلون من جمادى الأولى.
وفيها قدمت رسل يازمان من طرسوس، فذكروا أن ثلاثة بنين لطاغية الروم وثبوا عليه، فقتلوه وملكوا أحدهم عليهم.
وفيها قيد أبو أحمد لؤلؤًا القادم عليه بالأمان من عند ابن طولون، واستصفى ماله، لثمان بقين من ذي القعدة من هذه السنة.
وذكر أن الذي أخذ من ماله كان أربعمائة ألف دينار.
وذكروا عن لؤلؤ أنه قال: ما عرفت لنفسي ذنبًا استوجبت به ما فعل بي إلا كثرة مالي.
وفيها كانت بين محمد بن أبي الساج وإسحاق بن كنداج وقعة أخرى لأربع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة؛ وكانت الدبرة فيها على ابن كنداج.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن عباس.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك شخوص أبي أحمد إلى كرمان لحرب عمرو بن الليث لاثني عشرة بقيت من شهر ربيع الأول.
وفيها غزا يازمان، فبلغ المسكنين، فأسر وغنم، وسلم المسلمون، وذلك في شهر رمضان منها.
وفيها دخل صديق الفرعاني دور سامرا، فأغار على أموال التجار، وأكثر العيث في الناس، وكان صديق هذا يخفر أولًا الطريق، ثم تحول لصًا خاربًا يقطع الطريق.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد الهاشمي.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من توجيه الطائي جيشًا إلى سامرا بسبب ما أحدث صديق بها وإطلاقه أخاه من السجن؛ وكان أسيرًا عنده، وذلك في المحرم من هذه السنة: ثم خرج الطائي إلى سامرا، وأرسل صديقًا ووعده ومناه وأمنه، فعزم على الدخول إليه في الأمان، فحذره ذلك غلام له يقال له هاشم، وكان - فيما ذكر - شجاعًا، فلم يقبل منه، ودخل سامرا مع أصحابه، وصار إلى الطائي، فأخذه الطائي، ومن دخل معه منهم، فقطع يد صديق ورجله ويد هاشم ورجله وأيدي جماعة من أصحابه وأرجلهم وحبسهم، ثم حملهم في محامل إلى مدينة السلام، وقد أبرزت أيديهم وأرجلهم المقطعة ليراها الناس، ثم حبسوا.
وفيها غزا يازمان في البحر، فأخذ للروم أربعة مراكب.
وفيها تصعلك فارس العبدي، فعاث بناحية سامرا، وصار إلى كوخها، فانتهب دور آل حسنج، فشخص الطائي إليه، فلحقه بالحديثة، فاقتتلا، فهزمه الطائي وأخذ سواده، وصار الطائي إلى دجلة، فدخل طيارة ليعبرها، فأدركه أصحاب العبدي فتعلقوا بكوثل الطيار، فرمى الطائي بنفسه في دجلة، فعبرها سباحة، فلما خرج منها نفض لحيته من الماء، وقال: أيش ظن العبدي؟ أليس أنا أسبح من سمكة! ثم نزل الطائي الجانب الشرقي والعبدي بإزائه في الجانب الغربي.
وفي انصراف الطائي قال علي بن محمد بن منصور بن نصر بن بسام:
قد أقبل الطائي، لا أقبلا ** قبح في الأفعال ما أجملا
كأنه من لين ألفاظه ** صبية تمضغ جهد البلا
وفيها أمر أبو أحمد بتقييد الطائي وحبسه، ففعل ذلك لأربع عشرة خلت من شهر رمضان، وختم على كل شيء له، وكان يلي الكوفة وسوادها وطريق خراسان وسامرا والشرطة ببغداد، وخراج بادوريا وقطربل ومسكن وشيئًا من ضياع الخاصة.
وفيها حبس أبو أحمد ابنه أبا العباس، فشغب أصحابه، وحملوا السلاح، وركب غلمانه، واضطربت بغداد لذلك، فركب أبو أحمد لذلك حتى بلغ باب الرصافة، وقال لأصحاب أبي العباس وغلمانه فيما ذكر: ما شأنكم؟ أترونكم أشفق على ابني مني! هو ولدي، واحتجت إلى تقويمه.
فانصرف الناس ووضعوا السلاح، وذلك يوم الثلاثاء لست خلون من شوال من هذه السنة.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد الهاشمي.
ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ضم الشرطة بمدينة السلام إلى عمرو بن الليث، وكتب فيها على الأعلام والمطارد والترسة - التي تكون في مجلس الجسر - اسمه، وذلك في المحرم.
ولأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول من هذه السنة شخص أبو أحمد من مدينة السلام إلى الجبل، وكان سبب شخوصه إليها - فيما ذكر - أن الماذرائي كاتب اذكوتكين، أخبره أن له هنالك مالًا عظيمًا، وأنه إن شخص صار ذلك إليه، فشخص إليه فلم يجد من المال الذي أخبره به شيئًا، فلما لم يجد ذلك شخص إلى الكرج، ثم إلى أصبهان يريد أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، فتنحى له أحمد بن عبد العزيز عن البلد بجيشه وعياله، وترك داره بفرشها لينزلها أبو أحمد إذا قدم.
وقدم محمد بن أبي الساج على أبي أحمد قبل شخوصه من مضربه بباب خراسان هاربًا من ابن طولون، بعد وقعات كانت بينهما، ضعف في آخر ذلك ابن أبي الساج عن مقاومته، لقلة من معه وكثرة من مع ابن طولون من الرجال، فلحق بأبي أحمد فانضم إليه، فخلع أبو أحمد عليه، وأخرجه معه إلى الجبل.
وفيها ولى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر شرطة بغداد، من قبل عمرو بن الليث في شهر ربيع الآخر.
وفيها ورد الخبر بانفراج تل بنهر الصلة - ويعرف بتل بني شقيق - عن سبعة أقبر فيها أبدان صحيحة، عليها أكفان جدد لينة، لها أهداب، تفوح منها رائحة المسك، أحدهم شاب له جمة، وجبهته وأذناه وخداه وأنفه وشفتاه وذقنه وأشفار عينيه صحيحة، وعلى شفتيه بلل، كأنه قد شرب ماء؛ وكأنه قد كحل، وبه ضربة في خاصرته، فردت عليه أكفانه.
وحدثني بعض أصحابنا أنه جذب من شعر بعضهم، فوجده قوى الأصل نحو قوة شعر الحي، وذكر أن التل انفرج عن هذه القبور عن شبه الحوض من حجر في لون المسن، عليه كتاب لا يدري ما هو! وفيها أمر بطرح المطارد والأعلام والترسة التي كانت في مجالس الشرطة التي عليها اسم عمرو بن الليث، وإسقاط ذكره، وذلك لإحدى عشرة خلت من شوال.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، وكان واليًا على مكة والمدينة والطائف.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائتين
ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها
فمن ذلك دعاء يازمان بطرسوس لخمارويه بن أحمد بن طولون؛ وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن خمارويه وجه إليه بثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسين ومائة دابة وخمسين ومائة ممطر وسلاح، فلما وصل إليه دعا له، ثم وجه إليه بخمسين ألف دينار. وفي أول شهر ربيع الآخر كان بين وصيف خادم ابن أبي الساج والبرابرة أصحاب أبي الصقر شر؛ فاقتتلوا، فقتل من غلمان الخادم أربعة غلمان ومن البرابرة سبعة؛ فكانت الحرب بينهم بباب الشأم إلى شارع باب الكوفة، فركب إليهم أبو الصقر، فكلمهم فتفرقوا، ثم عادوا للشر بعد يومين، فركب إليهم أبو الصقر فسكنهم.
وفيها ولي يوسف بن يعقوب المظالم، فأمر أن ينادي: من كانت له مظلمة قبل الأمير الناصر لدين الله أو أحد من الناس فليحضر.
وتقدم إلى صاحب الشرطة ألا يطلق أحدًا من المحبسين إلا من رأى إطلاقه يوسف، بعد أن يعرض عليهم قصصهم.
وفي أول يوم من شعبان قدم قائد من قواد ابن طولون في جيش عظيم من الفرسان والرجاله بغداد.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن هارون الهاشمي.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك الحرب التي كانت بين أصحاب وصيف الخادم والبربر وأصحاب موسى، ابن أخت مفلح أربعة أيام تباعًا، ثم اصطلحوا؛ وقد قتل بينهم بضعة عشر رجلًا، وذلك في أول المحرم، ثم وقع في الجانب الشرقي حرب بين النصريين وأصحاب يونس، قتل فيها رجل، ثم افترقوا.
وفيها انحدر وصيف خادم ابن أبي الساج إلى واسط بأمر أبي الصقر لتكون عدة له - فيما ذكر - ذلك أنه اصطنعه وأصحابه، وأجازه بجوائز كبيرة، وأدر على أصحابه أرزاقهم، وكان قد بلغه قدوم أبي أحمد، فخافه على نفسه لما كان من إتلافه ما كان في بيوت أموال أبي أحمد؛ حتى لم يبق شيء بالهبة التي يهب؛ والجوائز التي كان يجيز، والخلع التي كان يخلع على القواد، وإنفاقه على القواد، فلما نفذ ما في بيت المال، طالب أرباب الضياع بخراج سنة مبهمة عن أرضيهم، وحبس منهم بذلك جماعة؛ وكان الذي يتولى له القيام بذلك الزغل، فعسف على الناس في ذلك.
وقدم أبو أحمد قبل أن يستوظف أداء ذلك منهم، فشغل عن مطالبة الناس بما كان يطالبهم به.
وكان انحدار وصيف في يوم الجمعة لثلاث عشرة بقيت من المحرم.
ولليلتين بقيتا من المحرم منها طلع كوكب ذو جمة، ثم صارت الجمة ذؤابة.
ذكر الخبر عن مرض أبي أحمد الموفق ثم موته
وفيها انصرف أبو أحمد من الجبل إلى العراق، وقد اشتد به النقرس حتى لم يقدر على الركوب، فاتخذ له سرير عليه قبة، فكان يقعد عليه، ومعه خادم يبرد رجله بالأشياء الباردة، حتى بلغ من أمره أنه كان يضع عليها الثلج، ثم صارت علة رجله داء الفيل، وكان يحمل سريره أربعون حمالًا يتناوب عليها عشرون عشرون، وربما اشتد بهم أحيانًا، فيأمرهم أن يضعوه.
وذكر أنه قال يومًا للذين يحملونه: قد ضجرتم بحملي، بودي أن أكون كواحد منكم أحمل على رأسي وأكل وأني في عافية.
وأنه قال في مرضه هذا: أطبق دفتري على مائة ألف مرتزق، ما أصبح فيهم أسوأ حالًا مني.
وفي يوم الاثنين لثلاث بقين من المحرم منها وافى أبو أحمد النهروان، فتلقاه أكثر الناس فركب الماء فسار في النهروان، ثم في نهر ديالى، ثم في دجلة إلى الزعفرانية، وصار ليلة الجمعة إلى الفرك، ودخل داره يوم الجمعة لليلتين خلتا من صفر.
ولما كان في يوم الخميس لثمان خلون من صفر، شاع موته بعد انصراف أبي الصقر من داره، وقد كان تقدم في حفظ أبي العباس، فغلقت عليه أبواب دون أبواب، وأخذ أبو الصقر ابن الفياض معه إلى داره، وكان يبقى بناحيته.
وأقام أبو الصقر في داره يومه ذلك، وإزداد الإرجاف بموت أبي أحمد، وكانت اعترته غشية، فوجه أبو الصقر يوم الجمعة إلى المدائن، فحمل منها المعتمد وولده، فجيء بهم إلى داره، وأقام أبو الصقر في داره ولم يصر إلى دار أبي أحمد؛ فلما رأى غلمان أبي أحمد المائلون إلى أبي العباس والرؤساء من غلمان أبي العباس الذين كانوا حضورًا ما قد نزل بأبي أحمد، كسروا أقفال الأبواب المغلقة على أبي العباس.
فذكر عن الغلام الذي كان مع أبي العباس في الحجرة أنه قال لما سمع أبو العباس صوت أقفال تكسر قال: ليس يريد هؤلاء إلا نفسي.
وأخذ سيفًا كان عنده، فاستله، وقعد مستوفزًا والسيف في حجره، وقال لي: تنح أنت، والله لا وصلوا إلي وفي شيء من الروح.
قال: فلما فتح الباب كان أول من دخل عليه وصيف موشكير - وهو غلام أبي العباس - فلما رآه رمى السيف من يده، وعلم أنهم لم يقصدوا إلا الخير، فأخرجوه حتى أقعدوه عند أبيه، وهو بعقب غشيته.
فلما فتح أبو أحمد عينيه، وأفاق رآه، فأدناه وقربه.
ووافى المعتمد - ذلك اليوم الذي وجه إليه في حمله، وهو يوم الجمعة نصف النهار قبل صلاة الجمعة - مدينة السلام، لتسع خلون من صفر، ومعه ابنه جعفر المفوض إلى الله ولي العهد وعبد العزيز ومحمد وإسحاق بنوه، فنزل على أبي الصقر.
ثم بلغ أبا الصقر أن أبا أحمد لم يمت، فوجه إسماعيل بن إسحاق يتعرف له الخبر؛ وذلك يوم السبت.
وجمع أبو الصقر القوات والجند، وشحن داره وما حولها بالرجال والسلاح، ومن داره إلى الجسر كذلك، قطع الجسرين، ووقف قوم على الجسر في الجانب الشرقي يحاربون أصحاب أبي الصقر، فقتل بينهم قتلى، وكانت بينهم جراحات.
وكان أبو طلحة أخو شركب مع أصحابه مقيمين بباب البستان، فرجع إسماعيل، فأعلم أبا الصقر أن أبا أحمد حي، فكان أول من مضى إليه من القواد محمد بن أبي الساج، عبر من نهر عيسى، ثم جعل الناس يتسللون؛ منهم من يعبر إلى باب أبي أحمد، ومنهم من يرجع إلى منزله، ومنهم من يخرج من بغداد؛ فلما رأى أبو الصقر ذلك، وصحت عنده حياة أبي أحمد، انحدار هو وابناه إلى دار أبي أحمد؛ فما ذاكره أبو أحمد شيئًا مما جرى، ولا ساء له عنه.
وأقام في دار أبي أحمد.
فلما رأى المعتمد أنه بقي في الدار وحده، نزل هو وبنوه وبكتمر، فركبوا زورقًا، ثم لقيهم طيار أبي ليلى بن عبد العزيز بن أبي دلف، فحملهم في طياره، ومضى بهم إلى داره، وهي دار علي بن جهشيار برأس الجسر فقال له المعتمد: أريد أن أمضي إلى أخي فأحدره ومن معه من بيته إلى دار أبي أحمد.
وانتهبت دار أبي الصقر وكل ما حوته حتى خرج حرمه حفاة بغير إزار، وانتهبت دار محمد بن سليمان كاتبه، ودار ابن الواثقي انتهبت وأحرقت، وانتهبت دور أسبابه، وكسرت أبواب السجون، ونقبت الحيطان، وخرج كل من كان فيها، وخرج كل من كان في المطبق، وانتهبت مجلسا الجسر، وأخذ كل ما كان فيهما، وانتهبت المنازل التي تقرب من دار أبي الصقر.
وخلع أبو أحمد على ابنه أبي العباس وعلى أبي الصقر، فركبا جميعًا، والخلع عليهما من سوق الثلاثاء إلى باب الطاق، ومضى أبو الصقر مع أبي العباس إلى داره؛ دار صاعد.
ثم انحدر أبو الصقر في الماء إلى منزله وهو منتهب، فأتوه من دار الشاه بحصير فقعد عليه، فولي أبو العباس غلامه بدار الشرطة، واستخلف محمد بن غانم بن الشاه على الجانب الشرقي، وعيسى النوشري على الجانب الغربي؛ وذلك لأربع عشرة خلت من صفر منها.
وفيها في يوم الأربعاء لثمان بقين من صفر، كانت وفاة أبي أحمد الموفق ودفن ليلة الخميس في الرصافة عند قبر والدته، وجلس أبو العباس يوم الخميس للناس للتعزية.
ذكر الخبر البيعة للمعتضد بولاية العهد
وفيها بايع القواد والغلمان لأبي العباس بولاية العهد بعد المفوض، ولقب بالمعتضد بالله، في يوم الخميس، وأخرج للجند العطاء، وخطب يوم الجمعة للمعتمد، ثم للمفوض، ثم لأبي العباس المعتضد؛ وذلك لسبع ليال بقين من صفر.
وفيها في يوم الاثنين لأربع بقين من صفر قبض على أبي الصقر وأسبابه وانتهب منازلهم، وطلب بنو الفرات - وكان إليهم ديوان السواد - فاختفوا، وخلع على عبيد الله بن سليمان بن وهب يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر منها، وولي الوزارة.
وفيها بعث محمد بن أبي الساج إلى الواسط ليرد غلامه وصيفًا إلى مدينة السلام، ومضى وصيف إلى الأهواز.
وأبى الانصراف إلى بغداد، وأنهى طيب، وعاث بالسوس.
وفيها ظفر بأبي أحمد بن محمد بن الفرات.
فحبس وطولب بأموال، وظفر معه بالزغل، فحبس، وظفر معه بمال وفيها وردت الأخبار بقتل علي بن الليث، أخي الصفار، قتله رافع بن هرثمة، كان لحق به، وترك أخاه.
ووردت الأخبار فيها عن مصر أن النيل غار ماؤه وغلت الأسعار عندهم.
ذكر ابتداء أمر القرامطة
وفيها وردت الأخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفة، وكان ابتداء أمرهم قدوم رجل من ناحية خوزستان إلى سواد الكوفة ومقامه بموضع منه يقال له النهرين، يظهر الزهد والتقشف، ويسف الخوص، ويأكل من كسبه، ويكثر الصلاة، فأقام على ذلك مدة، فكان إذا قعد إليه إنسان ذاكره أمر الدين، وزهده في الدنيا، وأعلمه أن الصلاة المفترضة على الناس خمسون صلاة في كل يوم وليلة، حتى فشا ذلك عنه بموضعه، ثم أعلمهم أنه يدعو إلى إمام من أهل بيت الرسول، فلم يزل على ذلك يقعد إليه الجماعة فيخبرهم من ذلك بما تعلق قلوبهم، وكان يقعد إلى بقال في القرية، وكان بالقرب من البقال نخل إشتراه قوم من التجار، فاتخذوا حظيرة جمعوا فيها ما صرموا من حمل النخل، وجاءوا إلى البقال فسألوه أن يطلب لهم رجلًا يحفظ عليهم ما صرموا من النخل، فأومي لهم إلى هذا الرجل، وقال: إن أجابكم إلى حفظ سمرتكم، فإنه بحيث تحبون، فناظروه على ذلك، فأجابهم إلى حفظه بدراهم معلومة؛ فكان يحفظ لهم، ويصلي أكثر نهاره ويصوم، ويأخذ عند إفطاره من البقال رطل تمر، فيفطر عليه ويجمع نوى ذلك التمر.
فلما حمل التجار مالهم من التمر، صاروا إلى البقال، فحاسبوا أجيرهم هذا على أجرته، فدفعوها إليه، فحاسب الأجير البقال على ما أخذ منه من التمر، وحط من ذلك ثمن النوى الذي كان دفعه إلى البقال؛ فسمع التجار ما جرى بينه وبين البقال في حق النوى، فوثبوا عليه فضربوه، وقالوا: ألم ترض إن أكلت تمرًا حتى بعت النوى! فقال لهم البقال: لا تفعلوا، فأنه لم يمس تمركم؛ وقص عليهم قصته، فندموا على ضربهم إياه، وسألوه أن يجعلهم في حل، ففعل.
وإزداد بذلك نبلًا عند أهل القرية لما وقفوا عليه من زهده.
ثم مرض فمكث مطروح على الطريق، وكانت في القرية رجل يحمل على أثوار له، أحمر العينين شديدة حمرتهما، وكان أهل القرية يسمونه كرميتا لحمرة عينيه، وهو بالنبطية أحمر العينين، فكلم البقال كرميتا هذا، في أن يحمل هذا العلي إلى منزله، ويوصي أهله بالإشراف عليه والعناية به، ففعل وأقام عنده حتى برء، ثم كان يأوي إلى منزله ودعا أهل القرية إلى أمره، ووصف لهم مذهبه، فأجابهم أهل القرية تلك الناحية، وكان يأخذ من الرجل إذا دخل في دينه دينارًا ويزعم أنه يأخذ ذلك للإمام؛ فمكث بذلك يدعو أهل تلك القرية فيجيبونه.
واتخذ منهم اثنى عشر نقيبًا، أمرهم أن يدعو الناس إلى دينهم، وقال لهم: أنتم كحواري عيسى ابن مريم؛ فاشتغل أكرة تلك الناحية عن أعمالهم بما رسم لهم من الخمسين الصلاة التي ذكر أنها مفترظة عليهم.
وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع، فوقف على تقصير أكرته في العمارة، فسأل عن ذلك، فأخبر أن إنسانًا طرء عليهم، فأظهر لهم مذهبًا من الدين، وأعلمهم أن الذي أفترضه الله عليهم خمسون صلاة في اليوم والليلة، فقد شغلوا بها عن أعمالهم، فوجه في طلبه، فأخذ وجيء به إليه، فسأله عن أمره، فأخبره بقصته، فحلف أنه يقتله.
فأمر به فحبس في البيت، وأقفل عليه الباب ووضع المفتاح تحت وسادته، وتشاغل بالشرب، وسمع بعض من في داره من الجواري بقصته، فرقت له.
فلما نام الهيصم أخذت المفتاح من تحت وسادته وفتحت الباب وأخرجته، وأقفلت الباب، وردت المفتاح إلى موضعه فلما أصبح الهيصم دعا بالمفتاح ففتح الباب فلم يجده، وشاع بذلك الخبر، ففتن به أهل تلك الناحية، وقالوا: رفع ثم ظهر في موضع أخر.
ولقي جماعة من أصحابه وغيرهم فسألوه عن قصته، فقال: ليس يمكن أحدًا أن يبدأني بسوء، ولا يقدر على ذلك مني، فعظم في أعينهم، ثم خاف على نفسه، فخرج إلى ناحية الشأم، فلم يعرف له خبر، وسمي باسم الرجل الذي كان في منزله صاحب الأثوار كرميته، ثم خفف فقالوا: قرمط.
ذكر هذه القصة بعض أصحابنا عمن حدثه، أنه حضر محمد بن داود بن الجراح، وقد دعا بقوم من القرامطة من الحبس، فسألهم عن زكرويه، وذلك بعد ما قتله، وعن قرمط وقصته، وأنهم أوموا له إلى شيخ منهم، وقالوا له: هذا سلف زكرويه، وهو أخبر الناس بقصته، فسله عما تريد، فسأله فأخبره بهذه القصة.
وذكر عن محمد بن داود أنه قال: قرمط رجل من سواد الكوفة، كان يحمل غلات السواد على أثوار له، يسمى حمدان ويلقب بقرمط.
ثم فشا أمر القرامطة ومذهبهم، وكثروا بسواد الكوفة، ووقف الطائي أحمد بن محمد على أمرهم، فوظف على كل رجل منهم في كل سنة دينارًا، وكان يجبي من ذلك مالًا جليلًا، فقدم قوم الكوفة فرفعوا إلى السلطان أمر القرامطة، وأنهم قد أحدثوا دينًا غير الإسلام، وأنهم يرون السيف على أمة محمد إلا من بايعهم على دينهم، وأن الطائي يخفي أمرهم على السلطان.
فلم يلتفت إليهم ولم يسمع منهم، فانصرفوا، وأقام رجل منهم مدة طويلة بمدينة السلام، يرفع ويزعم أنه لا يمكنه الرجوع إلى بلده خوفًا من الطائي.
وكان فيما حكموا عن هؤلاء القرامطة من مذهبهم أن جاءوا بكتاب فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم " يقول الفرج بن عثمان؛ وهو من قرية يقال لها نصرانة، داعية إلى المسيح، وهو عيسى، وهو الكلمة، وهو المهدي، وهو أحمد بن محمد بن الحنفية، وهو جبريل.
وذكر أن المسيح تصور له في جسم إنسان، وقال له: إنك الداعية، وإنك الحجة، وإنك الناقة، وإنك الدابة، وإنك الروح القدس، وإنك يحيى بن زكرياء.
وعرفه أن الصلاة أربع ركعات: ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل غروبها، وأن الاذان في كل صلاة أن يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله؛ مرتين أشهد أن آدم رسول الله، أشهد أن نوحًا رسول الله، أشهد أن إبراهيم رسول الله، أشهد أن موسى رسول الله، وأشهد أن عيسى رسول الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأشهد أن أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله؛ وأن يقرأ في كل ركعة الاستفتاح؛ وهي من المنزل على أحمد بن محمد بن الحنفية.
والقبلة إلى بيت المقدس، والحج إلى بيت المقدس، ويوم الجمعة يوم الاثنين لا يعمل فيه شيء، والسورة الحمد لله بكلمته، وتعالى باسمه، المتخذ لأوليائه بأوليائه.
قل إن الأهلة مواقيت للناس؛ ظاهرها ليعلم عدد السنين والحساب الشهور والأيام، وباطنها أوليائي الذين عرفوا عبادي سبيلي.
اتقون يا أولي الألباب؛ وأنا الذي لا أسأل عما أفعل، وأنا الحكيم، وأنا الذي أبلو عبادي، وامتحن خلقي؛ فمن صبر على بلائي ومحنتي واختباري ألقيته في جنتي، وأخلدته في نعمتي، ومن زال عن أمري، وكذب رسلي، أخلدته مهانًا في عذابي، وأتممت أجلى، وأظهرت أمري؛ على ألسنة رسلي؛ وأنا الذي لم يعل علي جبار إلا وضعته، ولا عزيز إلا أذللته؛ وليس الذي أصر على أمره ودوام على جهالته، وقالوا: لن نبرح عليه عاكفين، وبه مؤمنين: أولئك هم الكافرون.
ثم يركع ويقول في ركوعه: سبحان ربي رب العزة وتعالى عما يصف الظالمون! يقولها مرتين، فإذا سجد قال: الله أعلى، الله أعلى، الله أعظم، الله أعظم.
ومن شرائعه أن الصوم يومان في السنة، وهما المهرجان والنوروز؛ وأن النبيذ حرام والخمر حلال؛ ولا غسل من جنابة إلا الوضوء كوضوء الصلاة، وأن من حاربه وجب قتله، ومن لم يحاربه ممن خالفه أخذت منه الجزية ولا يؤكل كل ذي ناب، ولا كل ذي مخلب.
وكان مصير قرمط إلى سواد الكوفة قبل قتل صاحب الزنج؛ وذلك أن بعض أصحابنا ذكر عن سلف زكرويه أنه قال: قال لي قرمط: صرت إلى صاحب الزنج، ووصلت إليه، وقلت له: إني على مذهب، وورائي مائة ألف سيف؛ فناظرني، فإن اتفقنا على المذهب ملت بمن معي إليك، وإن تكن الأخرى انصرفت عنك.
وقلت له: تعطيني الأمان؟ ففعل.
قال: فناظرته إلى الظهر، فتبين لي في آخر مناظرتي إياه أنه على خلاف أمري، وقام إلى الصلاة، فانسللت، فمضيت خارجًا من مدينته، وصرت إلى سواد الكوفة.
ذكر خبر غزو الروم ووفاة يازمان في هذه الغزوة
ولخمس بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة، دخل أحمد العجيفي مدينة طرسوس، وغزا مع يازمان غزاة الصائفة، فبلغ سلندو.
وفي هذه الغزاة مات يازمان، وكان سبب موته أن شظية من حجر منجنيق أصاب أضلاعه وهو مقيم على حصن سلندو؛ فارتحل المعسكر؛ وقد كانوا أشرفوا على فتحه، فتوفي في الطريق من غده يوم الجمعة، لأربع عشرة ليلة خلت من رجب، وحمل إلى طرسوس على أكتاف الرجال فدفن هناك.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمي.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من أمر السلطان بالنداء بمدينة السلام؛ ألا يقعد على الطريق ولا في مسجد الجامع قاص ولا صاحب نجوم ولا زاجر؛ وحلف والوراقون ألا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة.
وفيها خلع جعفر المفوض من العهد لثمان بقين من المحرم.
وفي ذلك اليوم بويع للمعتضد بأنه ولى العهد من بعد المعتمد، وأنشئت الكتب بخلع جعفر وتوليه المعتضد، ونفذت إلى البلدان، وخطب يوم الجمعة للمعتضد بولاية العهد، وأنشئت عن المعتضد كتب إلى العمال والولاة؛ بأن أمير المؤمنين قد ولاه العهد، وجعل إليه ما كان الموفق يليه من الأمر والنهي والولاية والعزل.
وفيها قبض على جرادة، كاتب أبي الصقر لخمس خلون من شهر ربيع الأول، وكان الموفق وجهه إلى رافع بن هرثمة، فقدم مدينة السلام قبل أن يقبض علية بأيام.
وفيها انصرف أبو طلحة منصور بن مسلم من شهرزور لست بقين من جمادى الأولى - وكانت ضمت إليه - فقبض عليه وعلى كاتبه عقامة، وأودعا السجن؛ وذلك لأربع بقين من جمادى الأولى.
ذكر خبر الفتنة بطرسوس
وفيها كانت الملحمة بطرسوس بين محمد بن موسى ومكنون غلام راغب مولى الموفق؛ في يوم السبت لتسع بقين من جمادى الأولى؛ وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن طغج بن جف، لقي راغبًا بحلب، فأعلمه أن خمارويه بن أحمد يحب لقاءه، ووعده عنه بما يحب؛ فخرج راغب من حلب ماضيًا إلى مصر في خمسة غلمان له، وأنفذ خادمه مكنونًا مع الجيش الذي كان معه وأمواله وسلاحه إلى طرسوس.
فكتب طغج إلى محمد بن موسى الأعرج يعلمه أنه قد أنفذ راغبًا، وأن كل ما معه من مال وسلاح وغلمان مع غلامه مكنون، قد صار إلى طرسوس، وأنه ينبغي له أن يقبض عليه ساعة يدخل وعلى ما معه.
فلما دخل مكنون طرسوس وثب به الأعرج، فقبض عليه ووكل بما معه، فوثب أهل طرسوس على الأعرج، فحالوا بينه وبين المكنون، وقبضوا على الأعرج فحبسوه في يد مكنون، وعلموا أن الحيلة قد وقعت براغب؛ فكتبوا إلى خمارويه بن أحمد يعلمونه بما فعل الاعرج، وأنهم قد وكلوا به، وقالوا: أطلق راغبًا لينفذ إلينا حتى نطلق الاعرج، فأطلق خمارويه راغبًا، وأنفذه إلى طرسوس، وأنفذ معه أحمد بن طغان واليًا على الثغور، وعزل عنهم الأعرج، فلما وصل راغب إلى طرسوس أطلق محمد بن موسى الأعرج، ودخل طرسوس أحمد بن طغان واليًا عليها وعلى الثغور ومعه راغب، يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من شعبان.
خبر وفاة المعتمد
وفيها توفي المعتمد ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب، وكان شرب على الشط في الحسنى يوم الأحد شرابًا كثيرًا، وتعشى فأكثر، فمات ليلًا، فكانت خلافته ثلاثًا وعشرين سنة وستة أيام - فيما ذكر.
خلافة المعتضد
وفي صبيحة هذه الليلة بويع لأبي العباس المعتضد بالله بالخلافة، فولى غلامه بدرًا الشرطة وعبيد الله بن سليمان بن وهب الوزارة ومحمد بن الشاد بن ميكال الحرس، وحجبة الخاصة والعامة صالحًا المعروف بالأمين، فاستخلف صالح خفيفًا السمرقندي.
ولليلتين خلتا من شعبان فيها قدم المعتضد رسول عمرو بن الليث الصفار بهدايا، وسأل ولاية خراسان، فوجه المعتضد عيسى النوشري مع الرسول، ومعه خلع ولواء عقدة له على خراسان، فوصلوا إليه في شهر رمضان من هذه السنة، وخلع عليه، ونصب اللواء في صحن داره ثلاثة أيام.
وفيها ورد الخبر بموت نصر بن أحمد، وقام بما كان إليه من العمل وراء نهر بلخ أخوه إسماعيل بن أحمد.
وفيها قدم الحسين بن عبد الله بن المعروف بابن الحصاص من مصر رسولًا لخمارويه بن أحمد بن طولون، ومعه هدايا من العين عشرون حملًا على بغال وعشرة من الخدم وصندوقان فيهما طراز وعشرون رجلًا على عشرين نجيبًا، بسروج محلاة بحلية فضة كثيرة، ومعهم حراب فضة، وعليهم أقبية الديباج والمناطق المحلاة وسبع عشرة دابة، بسروج ولجم، منها خمسة بذهب والباقي بفضة، وسبع وثلاثون دابة بجلال مشهرة، وخمسة أبغل بسروج ولجم وزرافة، يوم الاثنين لثلاث خلون من شوال، فوصل إلى المعتضد، فخلع عليه وعلى سبعة نفر معه.
وسفر ابن الحصاص في تزويج ابنة خمارويه من علي بن المعتضد، فقال المعتضد: أنا أتزوجها، فتزوجها.
وفيها ورد الخبر بأخذ أحمد بن عيسى بن الشيخ قلعة ماردين من محمد بن إسحاق بن كنداج.
وفيها مات إبراهيم بن محمد بن المدبر، وكان يلي ديوان الضياع، فولى مكانه محمد بن عبد الحميد، وكان موته يوم الأربعاء لثلاث أو أربع عشرة بقيت من شوال.
وفيها عقد لراشد مولى الموفق على الدينور، وخلع علية يوم السبت لسبع بقين من شوال، ثم خرج راشد إلى عمله يوم الخميس لعشر خلون من ذي القعدة.
وفي يوم النحر منها ركب المعتضد إلى المصلى الذي اتخذه بالقرب من الحسنى، وركب معه القواد والجيش، فصلى بالناس، فذكر عنه أنه كبر في الركعة الأولى ست تكبيرات، وفي الركعة الثانية تكبيرة واحدة، ثم صعد المنبر، فلم تسمع خطبته، وعطل المصلى العتيق فلم يصل فيه.
وفيها كتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف بمحاربة رافع بن هرثمة ورافع الرى، فزحف إليه أحمد، فالتقوا يوم الخميس لسبع بقين من ذي القعدة؛ فانهزم رافع بن هرثمة، وخرج عن الرى، ودخلها ابن عبد العزيز.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمي؛ وكانت آخر حجة حجها، وحج بالناس ست عشرة سنة، من سنة أربع وستين إلى هذه السنة.
ثم دخلت سنة ثمانين ومائتين
ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها
فمن ذلك ما كان من أخذ المعتضد عبد الله بن المهتدي ومحمد بن الحسن بن سهل المعروف بشيلمة - وكان شيلمة هذا مع صاحب الزنج إلى آخر أيامه.
ثم لحق بالموفق في الأمان فأمنه - وكان سبب أخذه إياهما أن بعض المستأمنة سعى به إلى المعتضد، وأعلمه أنه يدعو إلى رجل لم يوقف على اسمه، وأنه قد استفسد جماعة من الجند وغيرهم، وأخذ معه رجل صيدناني وابن أخ له في المدينة، فقرره المعتضد فلم يقر بشيء، وسأله عن الرجل الذي يدعو إليه، فلم يقر بشيء، وقال: لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه، ولو عملتني كردناك لما أخبرتك به؛ فأمر بنار فأوقدت، ثم شد على خشبة من خشب الخيم، وأدير على النار حتى تقطع جلده، ثم ضربت عنقه، وصلب عند الجسر الأسفل في الجانب الغربي.
وحبس ابن المهتدي إلى أن وقف على براءته، فأطلق، وكان صلبه لسبع خلون من المحرم.
فذكر أن المعتضد قال لشيلمة: قد بلغني أنك تدعو إلى ابن المهتدي، فقال: المأثور عني غير هذا، وإني أتولى آل ابن أبي طالب - وقد كان قرر ابن أخيه فأقر - فقال له: قد أقر ابن أخيك، فقال له: هذا غلام حدث تكلم بها خوفًا من القتل، ولا يقبل قوله.
ثم أطلق ابن أخيه والصيدناني بعد مدة طويلة.
ذكر خبر قصد المعتضد بني شيبان وصلحه معهم
ولليلة خلت من صفر يوم الأحد شخص المعتضد من بغداد يريد بني شيبان، فنزل بستان بن هارون، ثم سار يوم الأربعاء منه، واستخلف على داره وبغداد صالحًا الأمين حاجبه، فقصد الموضع الذي كانت شيبان تتخذه معقلًا من أرض الجزيرة؛ فلما بلغهم قصده إياهم؛ ضموا إليهم أموالهم وعيالاتهم.
ثم ورد كتاب المعتضد أنه أسرى إلى الأعراب من السن، فأوقع بهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم خلق كثير في الزابين، وأخذ النساء والذراري، وغنم أهل المعسكر من أموالهم ما أعجزهم حمله، وأخذ من غنمهم وإبلهم ما كثر في أيدي الناس حتى بيعت الشاة بدرهم والجمل بخمسة دراهم، وأمر بالنساء والذراري أن يحفظوا حتى يحدروا إلى بغداد.
ثم مضى المعتضد إلى الموصل، ثم رجع إلى بغداد، فلقيه بنو شيبان يسألونه الصفح عنهم، وبذلوا له الرهائن، فأخذ منهم خمسمائة رجل - فيما قيل.
ورجع المعتضد يريد مدينة السلام، فوافاه أحمد بن أبي الاصبغ بما فارق عليه أحمد ابن عيسى بن الشيخ من المال الذي أخذه من مال إسحاق بن كنداج وبهدايا ودواب وبغال في يوم الأربعاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول.
وفي شهر ربيع الأول ورد خبر بأن محمد بن أبي الساج افتتح المراغة بعد حصار شديد وحرب غليظة كانت بينهم، وأنه أخذ عبد الله بن الحسين بعد أن آمنه وأصحابه، فقيده وحبسه، وقرره بجميع أمواله، ثم قتله بعد.
وفي شهر ربيع الآخر ورد خبر بوفاة أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف.
وكانت وفاته في آخر شهر ربيع الأول، فطلب الجند أرزاقهم، وانتهبوا منزل إسماعيل بن محمد المنشيء، وتنازع الرئاسة عمر وبكر ابنا عبد العزيز، ثم قام بالأمر عمر، ولم يكتب إليه المعتضد بالولاية.
وفيها افتتح محمد بن ثور عمان، وبعث برءوس جماعة من أهلها.
وذكر أن جعفر بن المعتمد توفي في يوم الأحد لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الآخر منها؛ وأنه كان مقامه في دار المعتضد لا يخرج ولا يظهر، وقد كان المعتضد نادمه مرارًا.
وفيها انصرف المعتضد إلى بغداد من خرجته إلى الأعراب.
وفيها، في جمادى الآخرة ورد الخبر بدخول عمرو بن الليث نيسابور؛ في جمادى الأولى منها.
وفيها وجه يوسف بن أبي الساج وثلاثين نفسًا من الخوارج، من طريق الموصل، فضربت أعناق خمسة وعشرين رجلًا منهم، وصلبوا، وحبس سبعة منهم في الحبس الجديد.
وفيها دخل أحمد بن أبا طرسوس لغزاة الصائفة، لخمس خلون من رجب من قبل خمارويه، ودخل بعده بدر الحمامي، فغزوا جميعًا مع العجيفي أمير طرسوس حتى بلغوا البلقسور.
وفيها ورد الخبر بغزو إسماعيل بن أحمد بلاد الترك وافتتاحه - فيما ذكر - مدينة ملكهم، وأسره إياه وأمرأته خاتون ونحوًا من عشرة ألاف، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وغنم من الدواب دواب كثيرة لا يوقف على عددها، وأنه أصاب الفارس من المسلمين من الغنيمة في المقسم ألف درهم.
ولليلتين بقيتا من شهر رمضان منها، توفي راشد مولى الموفق بالدينور، وحمل في تابوت إلى بغداد.
ولثلاث عشرة خلت من شوال منها مات مسرور البلخي.
وفيها - فيما ذكر - في ذي الحجة ورد كتاب من دبيل بانكساف القمر في شوال لأربع عشرة خلت منها، ثم تجلى في آخر الليل، فأصبحوا صبيحة تلك الليلة والدنيا مظلمة عليهم؛ فلما كان عند العصر هبت ريح سوداء شديدة، فدامت إلى ثلث الليل؛ فلما كان ثلث الليل زلزلوا، فأصبحوا وقد ذهبت المدينة فلم ينج من منازلها إلا اليسير، قدر مائة دار، وأنهم دفنوا إلى حين كتب الكتاب ثلاثين ألف نفس يخرجون من تحت الهدم، ويدفنون، وأنهم زلزلوا بعد الهدم خمس مرات.
وذكر عن بعضهم أن جملة من أخرج من تحت الهدم خمسون ومائة ألف ميت.
وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر محمد بن هارون المعروف بابن ترنجة.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من موافاة ترك بن العباس عامل السلطان على ديار مضر مدينة السلام لتسع خلون من المحرم بنيف وأربعين نفسًا من أصحاب أبي الأغر صاحب سميساط، على جمال، عليهم برانس ودراريع حرير.
فمضى بهم إلى دار المعتضد، ثم ردوا إلى الحبس الجديد فحبسوا به، وخلع على ترك، وانصرف إلى منزله.
وفيها ورد الخبر بوقعة كانت لوصيف خادم ابن أبي الساج بعمر بن عبد العزيز بن أبي دلف وهزيمته إياه، ثم صار وصيف إلى مولاه محمد ابن أبي الساج، في شهر ربيع الآخر منها.
وفيها دخل طغج بن جف طرسوس لغزاة الصائفة من قبل خمارويه يوم الخميس للنصف من جمادى الآخرة - فيما قيل - وغزا، فبلغ طرايون، وفتح ملورية.
ولخمس ليال بقين من جمادى الآخرة مات أحمد بن محمد الطائي بالكوفة، ودفن بها في موضع يقال له مسجد السهلة.
وفيها غارت المياه بالري وطبرستان.
ولليلتين خلتا من رجب منها شخص المعتضد إلى الجبل، فقصد ناحية الدينور، وقلد أبا محمد علي بن المعتضد الري وقزوين وزنجان وأبهر وقم وهمذان والدينور، وقلد كتبته أحمد بن أبي الاصبغ، ونفقات عسكره والضياع بالري الحسين بن عمرو الضراني، وقلد عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف أصبهان ونهاوند والكرج، وتعجل للانصراف من أجل غلاء السعر وقلة الميرة، فوافى بغداد يوم الأربعاء لثلاث خلون من شهر رمضان.
وفيها أتستأمن الحسن بن علي كوره عامل رافع على الرى إلى علي بن المعتضد في زهاء ألف رجل، فوجهه إلى أبيه المعتضد.
وفيها دخل الأعراب سامرا فأسروا ابن سيما أنف في ذي القعدة منها وانتهبوا.
ذكر خبر الوقعة بين الأكراد والأعراب
ولست ليال بقين من ذي القعدة خرج المعتضد الخرجة الثانية إلى الموصل عامدًا لحمدان بن حمدون؛ وذلك أنه بلغه أنه مايل هارون الشاري الوازقي، ودعا له.
فورد كتاب المعتضد من كرخ جدان على نجاح الحرمي الخادم بالوقعة بينه وبين الأعراب والأكراد؛ وكانت يوم الجمعة سلخ ذي القعدة:
" بسم الله الرحمن الرحيم ". كتابي هذا وقت العتمة ليلة الجمعة، وقد نصر الله - وله الحمد - على الأكراد والأعراب، وأظفرنا بعالم منهم وبعيالاتهم؛ ولقد رأيتنا ونحن نسوق البقر والغنم كما كنا نسوقها عامًا أولًا، ولم تزل الأسنة والسيوف تأخذهم، وحال بيننا وبينهم الليل، وأوقدت النيران على رءوس الجبال، ومن غد يومنا، فيقع الاستقصاء، وعسكري يتبعني إلى الكرخ.
وكان وقاعنا بهم وقتلنا إياهم خمسين ميلًا، فلم يبق منهم مخبر والحمد لله كثيرًا، فقد وجب الشكر لله علينا والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد نبيه وآله وسلم كثيرًا.
وكانت الأعراب والأكراد لما بلغهم من خروج المعتضد، تحالفوا أنهم يقتلون على دم واحد، واجتمعوا، وعبوا عسكرهم ثلاثة كراديس؛ كردوسًا دون كردوس، وجعلوا عيالاتهم وأولادهم في أخر كردوس، وتقدم المعتضد عسكره في خيل جريدة، فأوقع بهم، وقتل منهم، وغرق في الزاب منهم خلق كثير، ثم خرج إلى الموصل عامدًا لقلعة ماردين، وكانت في يد حمدان ابن حمدون، فلما بلغه مجيء المعتضد هرب وخلف ابنه بها، فنزل عسكر المعتضد على القلعة، فحاربهم من كان فيها يومهم ذلك؛ فلما كان من الغد ركب المعتضد، فصعد القلعة حتى وصل إلى الباب، ثم صاح: يا بن حمدون، فأجابه: لبيك! فقال له: افتح الباب، ويلك! ففتحه، فقعد المعتضد في الباب، وأمر من دخل فنقل ما في القلعة من المال والاثاث، ثم أمر بهدمها فهدمت، ثم وجه خلف حمدان بن حمدون، فطلب أشد الطلب، وأخذت أموال كانت له مودعة.
وجيء بالمال إلى المعتضد، ثم ظفر به.
ثم مضى المعتضد إلى مدينة يقال لها الحسنية، وفيها رجل يقال له شداد، في جيش كثيف، ذكر أنهم عشرة آلاف رجل، وكان له قلعة في المدينة فظفر به المعتضد، فأخذه فهدم قلعته.
وفيها ورد الخبر من طريق مكة أنه أصاب الناس في المصعد برد شديد ومطر جود وبرد أصيب فيه أكثر من خمسمائة إنسان.
وفي شوال منها غزا المسلمون الروم، فكانت بينهم الحرب اثني عشر يومًا، فظفر المسلمون وغنموا غنيمة كثيرة وانصرفوا.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائتين
ذكر الاحداث التي كانت فيها
ذكر أمر النيروز المعتضدي
فمن ذلك ما كان من أمر المعتضد في المحرم منها بإنشاء الكتب إلى جميع العمال في النواحي والأمصار بترك افتتاح الخراج في النيروز الذي هو نيروز العجم، وتأخير ذلك إلى اليوم الحادي عشر من حزيران، وسمي ذلك النيروز المعتضدي، فأنشئت الكتب بذلك من الموصل والمعتضد بها، وورد كتابه بذلك على يوسف بن يعقوب يعلمه أنه أراد بذلك الترفيه على الناس، والرفق بهم، وأمر أن يقرأ كتابه على الناس، ففعل.
وفيها قدم ابن الجصاص من مصر بابنه أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون التي تزوجها المعتضد، ومعها أكثر عمومتها، فكان دخولهم بغداد يوم الأحد لليلتين خلتا من المحرم، وأدخلت للحرم ليلة الأحد، ونزلت في دار صاعد ابن مخلد؛ وكان المعتضد غائبًا بالموصل.
وفيها منع الناس من عمل ما كانوا يعملون في نيروز العجم من صب الماء ورفع النيران وغير ذلك.
ذكر أمر المعتضد مع حمدان بن حمدون
وفيها كتب المعتضد من الموصل إلى إسحاق بن أيوب وحمدان بن حمدون بالمصير إليه؛ فأما إسحاق بن أيوب فسارع إلى ذلك، وأما حمدان بن حمدون فتحصن في قلاعه، وغيب أمواله وحرمه.
فوجه إليه المعتضد الجيوش مع وصيف موشكير ونصر القشوري وغيرهما؛ فصادفوا الحسن بن علي كوره وأصحابه منيخين على قلعة لحمدان، بموضع يعرف بدير الزعفران من أرض الموصل، وفيها الحسين بن حمدان.
فلما رأى الحسين أوائل العسكر مقبلين طلب الأمان فأومن.
صار الحسين إلى المعتضد، وسلم القلعة فأمر بهدمها، وأغذ وصيف موشكير السير في طلب حمدان؛ وكان قد صار بموضع يعرف بباسورين بين دجلة ونهر عظيم، وكان الماء زائدًا، فعبر أصحاب وصيف إليه ونذر بهم، فركب وأصحابه ودافعوا عن أنفسهم، حتى قتل أكثرهم، فألقى حمدان نفسه في زورق كان معدًا له في دجلة، ومعه كاتب له نصراني يسمى زكرياء بن يحيى، وحمل معه مالًا، وعبر إلى الجانب الغربي من دجلة من أرض ديار ربيعة، وقدر اللحاق بالأعراب لما حيل بينه وبين أكراده الذين في الجانب الشرقي، وعبر في أثره نفر يسير من الجند فاقتصوا أثره، حتى أشرفوا على دير كان قد نزله؛ فلما بصر بهم خرج من الدير هاربًا ومعه كاتبه، فألقيا أنفسهما في زورق، وخلفا المال في الدير، فحمل إلى المعتضد، وانحدر أصحاب السلطان في طلبه على الظهر وفي الماء، فلحقوه، فخرج عن الزورق خاسرًا إلى ضيعة له بشرقي دجلة، فركب دابة لوكيله، وسار ليلة أجمع إلى أن وافى مضرب إسحاق بن أيوب في عسكر المعتضد، مستجيرًا به، فأحضره إسحاق مضرب المعتضد، وأمر بالاحتفاظ به، وبث الخيل في طلب أسبابه، فظفر بكاتبه وعدة من قراباته وغلمانه، وتتابع رؤساء الأكراد وغيرهم في الدخول في الأمان؛ وذلك في آخر المحرم من هذه السنة.
وفي شهر ربيع الأول منها قبض على بكتمر بن طاشتمر، وقيد وحبس، وقبض ماله وضياعه ودوره.
وفيها انتقلت ابنة خمارويه بن أحمد إلى المعتضد لأربع خلون من شهر ربيع الآخر، ونودي في جانبي بغداد ألا يعبر أحد في دجلة يوم الأحد، وغلقت أبواب الدروب التي تلي الشط، ومد على الشوارع النافذة إلى دجلة شراع، ووكل بحافتي دجلة من يمنع أن يظهروا في دورهم على الشط.
فلما صليت العتمة وافت الشذا من دار المعتضد، وفيها خدم معهم الشمع، فوقفوا بإزاء دار صاعد، وكانت أعدت أربع حراقات شدت مع دار صاعد، فلما جاءت الشذا أحدرت الحراقات، وصارت الشذا بين أيديهم؛ وأقامت الحرة يوم الاثنين في دار المعتضد، وجليت عليه يوم الثلاثاء لخمس خلون من شهر ربيع الأول.
وفيها شخص المعتضد إلى الجبل، فبلغ الكرج، وأخذ أموالًا لابن أبي دلف وكتب إلى عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف يطلب منه جوهرًا كان عنده، فوجه به إليه، وتنحى من بين يديه.
وفيها أطلق لؤلؤ غلام ابن طولون بعد خروج المعتضد، وحمل على دواب وبغال.
وفيها وجه يوسف بن أبي الساج إلى الصيمرة مددًا لفتح القلانسي، فهرب يوسف بن أبي الساج بمن أطاعه إلى أخيه محمد بالمراغة، ولقي مالًا للسلطان في طريقه فأخذه، فقال في ذلك عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
إمام الهدى أنصاركم آل طاهر ** بلا سبب يجفون والدهر يذهب
وقد خلطوا صبرا بشكر ورابطوا ** وغيرهم يعطي ويحيي ويهرب
وفيها وجه المعتضد الوزير عبيد الله بن سليمان إلى الرى إلى أبي محمد أبنه.
وفيها وجه محمد بن زيد العلوي من طبرستان إلى محمد بن ورد العطار باثنين وثلاثين ألف دينار، ليفرقها على أهله ببغداد والكوفة؛ ومكة والمدينة، فسعى به، فأحصر دار بدر، وسئل عن ذلك، فذكر أن يوجه إليه في كل سنة بمثل هذا المال، فيفرقه على من يأمره بالتفرقة عليه من أهله.
فأعلم بدر المعتضد ذلك، وأعلمه أن الرجل في يديه والمال، واستطلع رأيه وما يأمر به.
فذكر عن أبي عبد الله الحسني أن المعتضد قال لبدر: يا بدر، أما تذكر الرؤيا التي خبرتك بها؟ فقال: لا يا أمير المؤمنين، فقال: ألا تذكر أني حدثتك أن الناصر دعاني، فقال لي: أعلم أن هذا الأمر سيصير إليك، فانظر كيف تكون مع آل علي بن أبي طالب! ثم قال: رأيت في النوم كأني خارج من بغداد أريد ناحية النهروان في جيشي، وقد تشوف الناس إلي، إذ مررت برجل واقف على تل يصلي، لا يلتفت إلي، فعجبت منه ومن قلة اكتراثه بعسكري، مع تشوف الناس إلى العسكر، فأقبلت إليه حتى وقفت بين يديه، فلما فرغ من صلاته قال لي: اقبل، فأقبلت إليه، فقال: أتعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا علي بن أبي طالب؛ خذ هذه المسحاة، فاضرب بها الأرض - لمسحاة بين يديه - فأخذتها فضربت بها ضربات، فقال لي: أنه سبيلي من ولدك هذا الأمر بقدر ما ضربت بها، فأوصهم بولدي خيرًا.
قال بدر: فقلت: بلى يا أمير المؤمنين، قد ذكرت.
قال: فأطلق المال، وأطلق الرجل وتقدم إليه إلى صاحبه بطبرستان أن يوجه ما يوجه به إليه ظاهرًا، وأن يفرق محمد بن ورد ما يفرقه ظاهرًا، وتقدم بمعونة محمد على ما يريد من ذلك.
وفي شعبان لإحدى عشرة بقيت منها، توفي أبو طلحة المنصور بن مسلم في حبس المعتضد.
وفيها لثمان خلون من شهر رمضان منها، وافى عبيد الله بن سليمان الوزير بغداد قادمًا من الرى، فخلع عليه المعتضد.
ولثمان بقين من شهر رمضان منها، ولدت ناعم جارية أم قاسم بنت محمد ابن عبد الله للمعتضد ابنًا سماه جعفر، فسمى المعتضد هذه الجارية شغب.
وفيها قدم إبراهيم ابن أحمد الماذرائي لاثنتي عشرة بقيت من ذي الحجة من دمشق على طريق البر، فوافى بغداد في أحد عشر يومًا، فأخبر المعتضد أن خمارويه بن أحمد ذبح على فراشه، ذبحه بعض خدمه من الخاصة، وقيل: إن قتله كان لثلاث خلون من ذي الحجة.
وقيل أن إبراهيم وافى بغداد من دمشق سبعة أيام، وقتل من خدمه الذين اتهموا بقتله نيف وعشرون خادمًا.
وكان المعتضد كان قد بعث مع ابن الجصاص إلى خمارويه بهدايا، وأودعه إليه رسالة، فشخص ابن الجصاص لما وجه له، فلما بلغ سامرا بلغ المعتضد مهلك خمارويه، فكتب إليه يأمره بالرجوع إليه فرجع، ودخل بغداد لسبع بقين من ذي الحجة.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
خبر هارون الشاري والظفر به
فمن ذلك ما كان من شخوص المعتضد لثلاث عشرة بقيت من المحرم منها - بسبب الشاري هارون - إلى ناحية الموصل، فظفر به، وورد كتاب المعتضد بظفره به إلى مدينة السلام يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر ربيع الأول.
وكان سبب ظفره به أنه وجه الحسين بن حمدان بن حمدون في جماعة من الفرسان والرجالة من أهل بيته وغيرهم من أصحابه إليه؛ وذكر أن الحسين بن حمدان قال للمعتضد: إن أنا جئت به أمير المؤمنين فلي ثلاث حوائج إلى أمير المؤمنين، فقال: اذكرها، قال: أولها إطلاق أبي، وحاجتان أسأله إياهما بعد مجيء به إليه.
فقال له المعتضد: لك ذلك فامض، فقال الحسين: أحتاج إلى ثلاثمائة فارس أنتخبهم، فوجه المعتضد معه ثلاثمائة فارس مع موشكير، فقال: أريد أن يأمره أمير المؤمنين ألا يخالفني فيما أمره به، فأمر المعتضد موشكير بذلك.
فمضى الحسين حتى انتهى إلى مخاضة دجلة، فتقدم إلى وصيف ومن معه بالوقوف على المخاضة، وقال له: ليس لهارون طريق إن هرب غير هذا، فلا تبرحن من هذا الموضع حتى يمر بك هارون؛ فتمنعه العبور، وأجيئك أنا، أو يبلغك أني قد قتلت.
ومضى حسين في طلب هارون فلقيه وواقعه، وكانت بينهما قتلى، وانهزم الشاري هارون، وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيام، فقال له أصحابه: قد طال مقامنا بهذا المكان القفر، وقد أضر ذلك بنا، ولسنا نأمن أن يأخذ حسين الشاري فيكون الفتح له دوننا؛ والصواب أن نمضي في أثارهم.
فأطاعهم ومضى.
وجاء هارون الشاري منهزما إلى موضع المخاضة، فعبر، وجاء حسين في أثره، فلم ير وصيفًا وأصحابه بالموضع الذي تركهم فيه، ولا عرف هارون خبرًا، ولا رأى له أثرًا، وجعل يسأل عن هارون حتى وقف عبوره، فعبر في أثره، وجاء إلى حي من أحياء العرب، فسألهم عنه فكتموه أمره، فأراد أن يوقع بهم، وأعلمهم أن المعتضد في أثره؛ فأعلموه أنه اجتاز بهم، فأخذ بعض دوابهم، وترك دوابه عندهم - وكانت قد كلت وأعيت - واتبع أثره، فلحقه بعد أيام والشاري في نحو من مائة، فناشده الشاري، وتوعده، فأبى إلا محاربته، فحاربه؛ فذكر أن حسين ابن حمدان رمى بنفسه عليه، فابتدره أصحاب حسين فأخذوه، وجاء به إلى المعتضد سلمًا بغير عقد ولا عهد، فأمر المعتضد بحل قيود حمدان بن حمدون، والتوسعة عليه والإحسان إليه أن يقدم فيطلقه ويخلع عليه؛ فلما أسر الشاري وصار في يد المعتضد، انصرف راجعًا إلى مدينة السلام، فوافاها لثمان بقين من شهر ربيع الأول، فنزل باب الشماسية، وعبأ الجيش هنالك، وخلع المعتضد على الحسين بن حمدان، وطوقه بطوق من ذهب، وخلع على جماعة من رؤساء أهله، وزين الفيل بثياب الديباج، واتخذ للشاري على الفيل كالمحفة، وأقعد فيها، وألبس دراعه الديباج، وجعل على رأسه برنس حرير طويل.
ولعشر بقين من جمادى الأولى منها، أمر المعتضد بالكتاب إلى جميع النواحي برد الفاضل من سهام المواريث على ذوي الأرحام، وإبطال ديوان المواريث، وصرف عمالها؛ فنفذت الكتب بذلك، وقرئت على المنابر.
وفيها خرج عمرو بن الليث الصفار من نيسابور، فخالفه رافع بن هرثمة إليها، فدخلها وخطب بها لمحمد بن زيد الطالبي وأبيه، فقال: اللهم أصلح الداعي إلى الحق؛ فرجع عمرو إلى نيسابور، فعسكر خارج المدينة، وخندق على عسكره لعشر خلون من شهر ربيع الآخر، فأقام محاصرًا أهل نيسابور.
وفي يوم الاثنين لأربع خلون من جمادى الأخرى منها، وافى بغداد محمد ابن إسحاق ابن كنداجيق وخاقان المفلحي ومحمد بن كمشجور المعزوف ببندقة وبدر بن جف أخو طغج وابن حسنج في جماعة من القواد من مصر في الأمان.
وذكر أن سبب مجيئهم إلى المعتضد في الأمان كان أنهم أرادوا أن يفتكوا بجيش بن خمارويه بن أحمد بن طولون، فسعى بهم إليه، وكان راكبًا وكانوا في موكبه، وعلموا أنه قد وقف على أمرهم، فخرجوا من يومهم وسلكوا البرية، وتركوا أموالهم وأهاليهم، فتاهوا أيامًا، ومات منهم جماعة من العطش وخرجوا على طريق مكة فوق الكوفة بمرحلتين أو ثلاثة.
ووجه السلطان محمد بن سليمان صاحب الجيش إلى الكوفة حتى كتب أسماؤهم، وأقيمت لهم الوظائف من الكوفة فلما قربوا من بغداد، خرجت إليهم الوظائف والخيم والطعام، ووصلوا إلى المعتضد يوم دخلوا، فخلع عليهم وحمل كل قائد منهم على دابة بسرجه ولجامه، وخلع على الباقين، وكان عددهم ستين رجلًا.
وفي يوم السبت لأربع عشرة بقيت منها شخص الوزير عبيد الله بن سليمان إلى الجبل لحرب ابن أبي دلف بأصبهان.
خبر حصر الصقالبة القسطنطينية
وفيها - فيما ذكر - ورد كتاب من طرسوس أن الصقالبة غزت الروم في خلق كثير، فقتلوا منهم وخربوا لهم قرى كثيرة حتى وصلوا إلى قسطنطينية وألجئوا الروم إليها، وأغلقت أبواب مدينتهم، ثم وجه طاغية الروم إلى ملك الصقالبة أن ديننا ودينكم واحد؛ فعلام نقتل الرجال بيننا! فأجابه ملك الصقالبة أن هذا ملك آبائي، ولست منصرفًا عنك إلا بغلبة أحدنا صاحبه؛ فلما لم يجد ملك الروم خلاصًا من صاحب الصقالبة، جمع من عنده من المسلمين، فأعطاهم السلاح، وسألهم معونته على الصقالبة، ففعلوا، وكشفوا الصقالبة، فلما رأى ذلك ملك الروم خافهم على نفسه، فبعث إليهم فردهم، وأخذ منهم السلاح وفرقهم في البلدان، حذرًا من أن يجنوا عليه.
خلاف جند جيش بن خمارويه عليه
وللنصف من رجب من هذه السنة ورد الخبر من مصر أن الجند من المغاربة والبربر وثبوا على جيش بن خمارويه، وقالوا: لا نرض بك أميرًا علنيًا فتنح عنا حتى نولي عمك، فكلمهم كاتبه علي بن أحمد الماذرائي، وسألهم أن ينصرفوا عنه يومهم ذلك، فانصرفوا وعادوا من غد، فعدا جيش على عمه الذي ذكروا أنهم يؤمرونه، فضرب عنقه وعنق عم له آخر، ورمى بأرؤسهما إليهم، فهجم الجند على جيش بن خمارويه، فقتلوه وقتلوا أمه وانتهبوا داره، وانتهبوا مصر وأحرقوها، وأقعدوا هارون بن خمارويه مكان أخيه.
وفي رجب منها أمر المعتضد بكري دجيل والاستقصاء عليه، وقلع صخر في فوهته كان يمنع الماء، فجبني بذلك من أرباب الضياع والإقطاعات أربعة آلاف دينار، وكسر - فيما ذكر - وأنفق عليه، وولى ذلك كاتب زيرك وخادم من خدم المعتضد.
ذكر الفداء بين المسلمين والروم
وفي شعبان منها، كان الفداء بين المسلمين والروم على يدي أحمد بن طغان، وذكر أن الكتاب الوارد بذلك من طرسوس كان فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم ": أعلمك أن أحمد بن طغان نادي في الناس يحضرون الفداء يوم الخميس لأربع خلون من شعبان سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وأنه قد خرج إلى لامس - وهو معسكر المسلمين - يوم الجمعة لخمس خلون من شعبان، وأمر الناس بالخروج معه في هذا اليوم، فصلى الجمعة، وركب من مسجد الجامع ومعه راغب ومواليه، وخرج معه وجوه البلد والموالي والقواد والمطوعة بأحسن زي، فلم يزل الناس خارجين إلى لامس إلى يوم الاثنين لثمان خلون من شعبان، فجرى الفداء بين الفريقين اثني عشر يومًا؛ وكانت جملة من فودى به من المسلمين من الرجال والنساء والصبيان ألفين وخمسمائة وأربعة أنفس، وأطلق المسلمون يوم الثلاثاء لسبع بقين من شعبان سميون رسول ملك الروم، وأطلق الروم فيه يحيى بن عبد الباقي رسول المسلمين المتوجه في الفداء، وانصرف الأمير ومن معه.
وخرج - فيما ذكر أحمد بن طغان بعد انصرافه من هذا الفداء في هذا الشهر في البحر، أوخلف دميانه على علمه على طرسوس، ثم وجه بعده يوسف ابن الباغمردي على طرسوس ولم يرجع هو إليها.
ذكر أمر المعتضد مع عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف وأخيه بكر
وفي يوم الجمعة لعشر خلون من شهر رمضان من هذه السنة قرىء كتاب على المنبر بمدينة السلام في مسجد جامعها؛ بأن عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف صار إلى بدر وعبيد الله بن سليمان في الأمان يوم السبت لثلاث بقين من شعبان سامعًا مطيعًا منقادًا لأمير المؤمنين، مذعنًا بالطاعة والمصير معهما إلى بابه، وأن عبيد الله بن سلمان خرج إليه فتلقاه، وصار به إلى مضرب بدر، وأخذ عليه وعلى أهل بيته وأصحابه البيعة لأمير المؤمنين، وخلع عليه بدر وعلى الرؤساء من أهل بيته، فانصرفوا إلى مضرب قد أعد لهم، وكان قبل ذلك قد دخل بكر بن عبد العزيز في الأمان على بدر وعبيد الله بن سليمان، فولياه عمل أخيه عمر، على أن يخرج إليه ويحاربه، فلما دخل عمر في الأمان قالا لبكر: إن أخاك قد دخل في طاعة السلطان؛ وإنما كنا وليناك عمله على أنه عاص، والآن فأمير المؤمنين أعلى عينًا فيما يرى من أمركما، فامضيا إلى بابه.
وولى عيسى النوشري أصبهان، وأظهر أنه من قبل عمر بن عبد العزيز، فهرب بكر بن عبد العزيز في أصحابه، فكتب بذلك إلى المعتضد، فكتب إلى بدر يأمره بالمقام بموضعه إلى أن يعرف خبر بكر وما إليه يصير أمره؛ فأقام وخرج الوزير عبيد الله بن سليمان إلى محمد علي بن المعتضد بالرى، ولحق بكر بن عبد العزيز بن أبي دلف بالأهواز، فوجه المعتضد في طلبه وصيفًا موشكير، فخرج من بغداد في طلبه حتى بلغ حدود فارس، وقد كان لحقه - فيما ذكر - ولم يواقعه، وباتا؛ وكل واحد منهما قريب من صاحبه، فارتحل بكر بالليل فلم يتبعه وصيف، ومضى بكر إلى أصبهان، ورجع وصيف إلى بغداد، فكتب المعتضد إلى بدر يأمره بكر وعربه، فتقدم بدر إلى عيسى النوشري بذلك، فقال بكر بن عبد العزيز:
عني ملامك ليس حين ملام ** هيهات أحدث زائدًا للوام
طارت غيايات الصبا عن مفرقي ** ومضى أوان شراستي وعرامي
ألقى الأحبة بالعراق عصيهم ** وبقيت نصب حوادث الأيام
وتقاذفت بأخي النوى ورمت به ** مرمى البعيد الأرحام
وتشعب العرب الذين تصدعوا ** فذببت عن أحسابهم بحسامي
فيه تماسك ما وهي من أمرهم ** والسمر عند تصادم الأقوام
فلأقرعن صفاة دهر نابهم ** قرعًا يهد رواسي الأعلام
ولأضربن الهام دون حريمهم ** ضرب القدار نقيعة القدام
ولأتركن الواردين حياضهم ** بقرارة لمواطىء الأقدام
يا بدر إنك لو شهدت مواقفي ** والموت يلحظ والصفاح دوامي
لذممت رأيك في إضاعة حرمتي ** ولضاق ذرعك في اطراح ذمامي
حركتني بعد السكون وإنما ** حركت من حصني جبال تهام
وعجمتني فعجمت مني مرجمًا ** خشن المناكب كل يوم زحام
قل للأمير أبي محمد الذي ** يخلو بغرته دجى الإظلام
أسكنتني ظل العلا فسكنته ** في عيشة رغد وعز نامي
حتى إذا حلئت عنه نابني ** ما نابني وتنكرت أيامي
فلأشكرن جميل ما أوليتني ** ما غردت في الأيك ورق حمام
هذا أبو حفص يدي وذخيرتي ** للنائبات وعدتي وسنامي
ناديته فأجابني، وهززته ** فهززت حد الصارم الصمصام
من رام أن يغضي الجفون على القذى ** أو يستكين يروم غير مرام
ويخيم حين يرى الأسنة شرعًا ** والبيض مصلته لضرب الهام
وقال بكر بن عبد العزيز يذكر هرب النوشري منبين يديه ويعير وصيفا بالأحجام عنه ويتهدد بدرًا:
قالت البيض قد تغير بكر ** وبدا بعد وصله منه هجر
ليس كالسيف مونس حين يعرو ** حادث معضل ويفدح أمر
أوقدوا الحرب بيننا فاصطلوها ** ثم حاصوا، فأين منها المفر!
وبغوا شرنا فهذا أوان ** قد بدا شره ويتلوه شر
قد رأى النوشري لما التقينا ** من إذا أشرع الرماح يفر
جاء في قسطل لهام فصلنا ** صولة دونها الكماة تهر
ولواء الموشجير أفضى إلينا ** رويت عند ذاك بيض وسمر
غر بدرًا حلمي وفضل أناتي ** واحتمالي، وذاك مما يغر
سوف يأتينه شوذاب قب ** لاحقات البطون جون وشقر
يتبارين كالسعالي عليها ** من بني وائل أسود تكر
لست بكرًا إن لم أدعهم حديثًا ** ما سرى كوكب وما كر دهر
وفي يوم الجمعة لسبع خلون من شوال من هذه السنة مات علي بن محمد ابن أبي الشوارب، فحمل إلى سامرا من يومه في تابوت، وكانت ولايته للقضاء على مدينة أبي جعفر ستة أشهر.
وفي يوم الاثنين لأربع من شوال منها دخل بغداد عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف قادمًا من أصبهان، فأمر المعتضد - فيما ذكر - القواد باستقباله، فاستقبله القاسم بن عبيد الله والقواد، وقعد له المعتضد، فوصل إليه، وخلع عليه، وحمله على دابة بسرج ولجام محلى بذهب، وخلع معه على ابنين له وعلى ابن أخيه أحمد بن عبد العزيز وعلى نفسين من قواده، وأنزل في الدار التي كانت لعبيد الله بن عبد الله عند رأس الجسر؛ وكانت قد فرشت له.
وفي هذه السنة قرىء على القواد في دار المعتضد كتاب ورد من عمرو بن الصفار بن الليث الصفار؛ بأنه واقع رافع بن هرثمة وهزمه، وأنه مر هاربًا، وأنه على أن يتبعه.
وكانت الوقعة لخمس بقين من شهر رمضان، وقرىء الكتاب يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة.
وفي يوم الأحد لثلاث عشرة بقين من ذي القعدة، وردت خريطة - فيما ذكر - من عمرو بن الليث على المعتضد، وهو في الحلبة، فانصرف إلى دار العامة، وقرىء الكتاب على القواد من عمرو بن الليث يخبر فيه أنه وجه في أثره رافع بعد الهزيمة محمد بن عمرو البلخي مع قائد آخر من قواده، وقد كان رافع صار إلى طوس فواقعوه، فانهزم واتبعوا أثره، فلحق بخوارزم، فقتل بخوارزم، فأرسل بخاتمه مع الكتاب، وذكر أنه قد حمل الرسول في أمر الرأس ما يخبر به السلطان.
وفي يوم الجمعة لثمان بقين من ذي القعدة منها قرئت الكتب على المنابر بقتل رافع بن هرثمة.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من قدوم رسول عمرو بن الليث الصفار برأس رافع بن هرثمة يوم الخميس لأربع خلون من المحرم على المعتضد، فأمر بنصبه في المجلس بالجانب الشرقي إلى الظهر، ثم تحويله إلى الجانب الغربي، ونصبه هنالك إلى الليل، ثم رده إلى دار السلطان.
وخلع على الرسول وقت وصوله إلى المعتضد بالرأس.
وفي يوم الخميس لسبع خلون من صفر كانت ملحمة بين راغب ودميانة بطرسوس، وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن راغبًا مولي الموفق ترك الدعاء لخمارويه بن أحمد، ودعا لبدر مولى المعتضد، فوقع بينه وبين أحمد بن طغان الخلاف؛ فلما انصرف ابن طغان من الفداء الذي في سنة ثلاث وثمانين ومائتين ركب البحر ولم يدخل طرسوس، ومضى وخلف دميانة للقيام بأمر طرسوس؛ فلما كان في صفر من هذه السنة، وجه يوسف الباغمردي ليخلفه إلى طرسوس؛ فلما دخلها وقوى به دميانة، كرهوا ما يفعله راغب من الدعاء لبدر، فوقعت بينهم الفتنة، وظفر بهم راغب، فحمل دميانة وابن الباغمردي وابن اليتيم مقيدين إلى المعتضد.
ولعشر بقين من صفر في يوم الاثنين من هذه السنة وردت خريطة من الجبل، بأن عيسى النوشري أوقع ببكر بن عبد العزيز بن أبي دلف في حدود أصبهان، فقتل رجاله، واستباح عسكره، وأفلت في نفر يسير.
وفي يوم الخميس لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول منها، خلع على أبي عمر يوسف بن يعقوب، وقلد قضاء مدينة أبي جعفر المنصور مكان علي ابن محمد بن أبي الشوارب، وقضاء قطر بل ومسكن وبزرجسابور والرذانين.
وقعد للخصوم في هذا اليوم في المسجد الجامع، ومكثت مدينة أبي جعفر من لدن مات ابن أبي الشوارب إلى أن وليها أبو عمر بغير قاض، وذلك خمسة أشهر وأربعة أيام.
وفي يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت منه في هذه السنة، أخذ خادم نصراني لغالب النصراني متطبب السلطان يقال له وصيف، فرفع إلى الحبس، وشهد عليه أنه شم النبي ﷺ فحبس، ثم اجتمع من غد هذا اليوم ناس من العامة بسبب هذا الخادم، فصاحوا بالقاسم بن عبيد الله، وطالبوه بإقامة الحد عليه.
بسبب ما شهد عليه؛ فلما كان يوم الأحد لثلاث عشرة بقيت منه اجتمع أهل باب الطاق إلى قنطرة البردان وما يليها من الأسواق، وتداعوا، ومضوا إلى باب السلطان، فلقيهم أبو الحسين ابن الوزير، فصاحوا به، فأعلمهم أنه قد أنهى خبره إلى المعتضد، فكذبوه وأسمعوه ما كره، ووثبوا بأعوانه ورجاله حتى هربوا منهم، ومضوا إلى دار المعتضد بالثريا، فدخلوا من الباب الأول والثاني فمنعوا من الدخول، فوثبوا على من منعهم، فخرج إليهم من سألهم عن خبرهم، فأخبروه.
فكتب به إلى المعتضد، فأدخل إليه منهم جماعة، وسألهم عن الخبر فذكروه له، فأرسل معهم خفيفًا السمرقندي إلى يوسف القاضي، وتقدم إلى خفيف أن يأمر يوسف بالنظر في أمر الخادم، وأن ينهي إليه ما يقف عليه من أمره، فمضى معهم خفيف إلى يوسف، فكادوا يقتلونه ويقتلون يوسف لما دخلوا عليه مما ازدحموا، حتى أفلت يوسف منهم، ودخل بابًا وأغلقه دونهم، ولم يكن بعد ذلك للخادم ذكر، ولا كان للعامة في أمره اجتماع.
وفي هذا الشهر من هذه السنة قدم - فيما ذكر - قوم من أهل طرسوس على السلطان يسألونه أن يولى عليهم وال، ويذكرون أن بلدهم بغير وال؛ وكانت طرسوس قبل في يدي ابن طولون، فأساء إليهم، فأخرجوا عامله عن البلد، وأرسلهم في ذلك، ووعدهم الإحسان، فأبوا أن يتركوا له غلامًا يدخل بلدهم، وقالوا: من جاءنا من قبلك حاربناه، فكف عنهم.
وفي يوم الخميس لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر من هذه السنة - فيما ذكر - ظهرت ظلمة بمصر، وحمرة في السماء شديدة؛ حتى كان الرجل ينظر إلى وجه الآخر، فيراه أحمر، وكذلك الحيطان وغير ذلك، ومكثوا كذلك من العصر إلى العشاء الآخرة، وخرج الناس من منازلهم يدعون الله ويتضرعون إليه.
وفي يوم الأربعاء لثلاث خلون من جمادى الأولى، ولإحدى عشرة ليلة خلت من حزيران، نودي في الأرباع والأسواق ببغداد بالنهي عن وقود النيران ليلة النيروز، وعن صب الماء في يومه، ونودي بمثل ذلك في يوم الخميس، فلما كان عشية يوم الجمعة نودي على باب سعيد بن يكسين صاحب الشرطة بالجانب الشرقي من مدينة السلام، بأن أمير المؤمنين قد أطلق للناس في وقود النيران وصب الماء، ففعلت العامة من ذلك ما جاوز الحد، حتى صبوا الماء على أصحاب الشرطة في مجلس الجسر - فيما ذكر.
وفيها أغريت العامة بالصياح بمن رأوا من الخدم السود: يا عقيق فكانوا يغضبون من ذلك، فوجه المعتضد خادمًا أسود عشية الجمعة برقعة إلى ابن حمدون النديم؛ فلما بلغ الخادم رأس الجسر من الجانب الشرقي صاح به صائح من العامة: يا عقيق! فشم الخادم الصائح، وقنعه، فاجتمعت جماعة من العامة على الخادم فنكسوه وضربوه، وضاعت الرقعة التي كانت معه.
فرجع إلى السلطان فأخبره بما صنع به، فأمر المعتضد طريفًا المخلدي الخادم بالركوب والقبض على كل من تولع بالخدم وضربه بالسياط.
فركب طريف يوم السبت لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى في جماعة من الفرسان والرجالة، وقدم بين يديه خادمًا أسود؛ فصار إلى باب الطاق لما أمر به من القبض على من صاح بالخادم: يا عقيق، فقبض فيما ذكر بباب الطابق على سبعة أنفس؛ ذكر أن بعضهم كان بزيًا؛ فضربوا بالسياط في مجلس الشرطة بالجانب الشرقي.
وعبر طريف ومضى إلى الكرخ، ففعل مثل ذلك، وأخذ خمسة أنفس فضربهم في مجلس الشرطة بالشرقية، وحمل الجميع على جمال، ونودي عليهم: هذا جزاء من أولع بخدم السلطان، وصاح بهم: يا عقيق، وحبسوا يومهم، وأطلقوا بالليل.
وفي هذه السنة عزم المعتضد بالله على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب بذلك يقرأ على الناس، فخوفه عبيد الله بن سليمان بن وهب اضطراب العامة، وأنه لا يأمن أن تكون فتنة، فلم يلتفت إلى ذلك من قوله.
وذكر أن أول شيء بدأ به المعتضد حين أراد ذلك الأمر بالتقدم إلى العامة بلزوم أعمالهم، وترك الاجتماع والقضية والشهادات عند السلطان، إلا أن يسألوا عن شهادة إن كانت عندهم، وبمنع القصاص من القعود على الطرقات، وعملت بذلك نسخ قرئت بالجانبين بمدينة السلام في الأرباع والمحال والأسواق، فقرئت يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى من هذه السنة، ثم منع يوم الجمعة لأربع بقين منها القصاص من القعود في الجامعين، ومنع أهل الحلق في الفتيا أو غيرهم من القعود في المسجدين، ومنع الباعة من القعود في رحابهما.
وفي جمادى الآخرة نودي في المسجد الجامع بنهي الناس عن الاجتماع على قاص أو غيره، ومنع القصاص وأهل الحلق من القعود.
وفي يوم الحادي عشر - وذلك يوم الجمعة - نودي في الجامعين بأن الذمة برية ممن اجتمع من الناس على مناظره أو جدل، وأن من فعل ذلك أحل بنفسه الضرب، وتقدم إلى الشراب والذين يسقون الماء في الجامعين ألا يترحموا على معاوية، ولا يذكروه بخير.
ذكر كتاب المعتضد في شأن بني أمية
وتحدث الناس أن الكتاب الذي أمر المعتضد بإنشائه بلعن معاوية يقرأ بعد صلاة الجمعة على المنبر، فلما صلى الناس بادروا إلى المقصورة ليسمعوا قراءة الكتاب فلم يقرأ.
فذكر أن المعتضد أمر بإخراج الكتاب الذي كان المأمون أمر بإنشائه بلعن معاوية، فأخرج له من الديوان، فأخذ من جوامعه نسخة هذا الكتاب، وذكر أنها نسخة الكتاب الذي أنشىء للمعتضد بالله:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله العلي العظيم، الحليم الحكيم، العزيز الرحيم، المنفرد بالوحدانية، الباهر بقدرته، الخالق بمشيئته وحكمته؛ الذي يعلم سوابق الصدور، وضمائر القلوب، لا يخفى عليه خافية، ولا يغرب عنه مثقال ذرة في السموات العلا، ولا في الارضين السفلى؛ قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وضرب لكل شيء أمدًا، وهو العليم الخبير، والحمد لله الذي برأ خلقه لعبادته، وخلق عباده لمعرفته، على سابق علمه في طاعة مطيعهم، وماضى أمره في عصيان عاصيهم؛ فبين لهم ما يأتون وما يتقون، ونهج لهم سبل النجاة، وحذرهم مسالك الهلكة، وظاهر عليهم الحجة، وقدم إليهم المعذرة، واختار لهم دينه الذي ارتضى لهم، وأكرمهم به، وجعل المعتصمين بحبله والمتمسكين بعروته أولياءه وأهل طاعته، والعاندين عنه والمخالفين له أعداءه وأهل معصيته؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم. والحمد لله الذي اصطفى محمدًا رسوله من جميع بريته، وأختاره لرسالته، وابتعثه بالهدى والدين المرتضى إلى عباده أجمعين، وأنزل عليه الكتاب المبين المستبين، وتأذن له بالنصر والتمكين، وأيده بالعز والبرهان المتين، فاهتدى به من اهتدى واستنقذ به من استجاب له من العمى، وأضل من أدبر وتولى، حتى أظهر الله أمره، وأعز نصره، وقهر من خالفه، وأنجز له وعده، وختم به رسله، وقبضه مؤديًا لأمره، مبلغًا لرسالته، ناصحًا لأمته، مرضيًا مهتديًا إلى أكرم مآب المنقلبين، وأعلى منازل أنبيائه المرسلين، وعباده الفائزين؛ فصلى الله عليه أفضل صلاة وأتمها، وأجلها وأعظمها، وأزكاها وأطهرها، وعلى آله الطيبين.
والحمد لله الذي جعل أمير المؤمنين وسلفه الراشدين المهتدين ورثة خاتم النبيين وسيد المرسلين والقائمين بالدين، والمقومين لعبادة المؤمنين، والمستحفظين ودائع الحكمة، ومواريث النبوة، والمستخلفين في الأمة، والمنصورين بالعز والمنعة، والتأييد والغلبة؛ حتى يظهر الله دينه على الدين كله ولو كره المشركون.
وقد انتهى إلى أمير المؤمنين ما عليه جماعة من العامة من شبهة قد دخلتهم في أديانهم، وفساد قد لحقهم في معتقدهم، وعصبية قد غلبت عليها أهواؤهم، ونطقت بها ألسنتهم، على غير معرفة ولا روية، وقلدوا فيها قادة الضلالة بلا بينة ولا بصيرة، وخالفوا السنن المتبعة، إلى الأهواء المبتدعة، قال قال الله عز وجل: " ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين " خروجًا عن الجماعة، ومسارعة إلى الفتنة وإيثارًا للفرقة، وتشتيتًا للكلمة وإظهارًا لموالاة من قطع الله عنه الموالاة، وبتر منه العصمة، وأخرجه من الملة، وأوجب عليه اللعنة، وتعظيمًا لمن صغر الله حقه، وأوهن أمره، وأضعف ركنه، من بني أمية الشجرة الملعونة، ومخالفة لمن استنقذهم الله به من الهلكة، وأسبغ عليهم به النعمة؛ من أهل بيت البركة والرحمة، قال الله عز وجل: " يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ". فأعظم أمير المؤمنين ما انتهى إليه من ذلك، ورأى في ترك إنكاره حرجًا عليه في الدين، وفسادًا لمن قلده الله أمره من المسلمين، وإهمالًا لما أوجبه الله عليه من تقويم المخالفين وتبصير الجاهلين، وإقامة الحجة على الشاكين، وبسط اليد على العاندين.
وأمير المؤمنين يرجع إليكم معشر الناس بأن الله عز وجل لما ابتعث محمدًا بدينه، وأمره أن يصدع بأمره، بدأ بأهله وعشيرته، فدعاهم إلى ربه، وأنذرهم وبشرهم، ونصح لهم وأرشدهم، فكان من استجاب له وصدق قوله واتبع أمره نفر من يسير من بني أبيه، من بين مؤمن بما أتى به من ربه، وبين ناصر له وإن لم يتبع دينه، وإعزازًا له، وإشفاقًا عليه، لماضى علم الله فيمن اختار منهم، ونفذت مشئته يستودعه إياه من خلافته وإرث نبيه؛ فمؤمنهم مجاهد بنصرته وحميته، يدفعون من نابذه، وينهرون من عاره وعانده، ويتوثقون له ممن كانفه وعاضده، ويبايعون له من سمح بنصرته، ويتجسسون له أخبار أعدائه، ويكيدون له بظهر الغيب كما يكيدون له برأي العين؛ حتى بلغ المدى، وحان وقت الاهتداء، فدخلوا في دين الله وطاعته وتصديق رسوله، والإيمان به، بأثبت بصيرة، وأحسن هدى ورغبة، فجعلهم الله أهل بيت الرحمة، وأهل بيت الدين - أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا - ومعدن الحكمة، وورثة النبوة وموضع الخلافة، وأوجب لهم الفضيلة، وألزم العباد لهم الطاعة.
وكان ممن عانده ونابذه، وكذبه وحاربه من عشيرته، العدد الأكثر، والسواد الأعظم؛ يتلقونه بالتكذيب والتثريب، ويقصدونه بالأذية والتخويف، ويبادونه بالعداوة، وينصبون له المحاربة، ويصدونه عن من قصده، وينالون بالتعذيب من اتبعه. وأشدهم في ذلك عداوة وأعظمهم له مخالفة، وأولهم في كل حرب ومناصبة، لا يرفع على الإسلام راية إلا كان صاحبها وقائدها ورئيسها، في كل مواطن الحرب، من بدر وأحد والخندق والفتح أبو سفيان بن حرب وأشياعه من بني أمية، الملعونين في كتاب الله، ثم الملعونين على لسان رسول الله في عدة مواطن، وعدة مواضع، لماضي علم الله فيهم وفي أمرهم، ونفاقهم وكفر أحلامهم؛ فحارب مجاهدًا، ودفع مكابدًا، وأقام منابذًا حتى قهره السيف، وعلا أمر الله وهم كارهون؛ فتقول الإسلام غير منطو عليه، وأسر الكفر غير مقلع عنه، فعرفه بذلك رسول الله ﷺ والمسلمون، وميز لهم المؤلفة قلوبهم، فقبله وولده على علم منه؛ فمما لعنهم الله به على لسان نبيه ﷺ، وأنزل به كتابًا قوله: " والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانًا كبيرًا ". ولا اختلاف بين أحد أنه أراد بها بني أمية.
ومنه قول الرسول عليه السلام وقد رآه مقبلًا على حمار ومعاوية يقود به ويزيد ابنه يسوق به: لعن الله القائد والراكب والسائق. ومنه ما يرويه الرواة من قوله: يا بني عبد مناف تلقفوها تلقف الكرة، فما هناك جنة ولا نار. وهذا كفر صراح يلحقه به اللعنة من الله كما لحقت " الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ". ومنه ما يروون من وقوفه على ثنية أحد بعد ذهاب بصره، وقوله لقائده: ها هنا ذببنا محمدًا وأصحابه. ومنه الرؤيا التي رآها النبي ﷺ فوجم لها، فما رئى ضاحكًا بعدها، فأنزل الله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس "؛ فذكروا أنه رأى نفرًا من بني أمية ينزون على منبره. ومنه طرد رسول الله ﷺ الحكم بن أبي العاص لحكايته إياه، وألحقه الله بدعوة رسوله آية باقية حين رآه يتخلج، فقال له: كن كما أنت، فبقي على ذلك سائر عمره، إلى ما كان من مروان في افتتاحه أول فتنة كانت في الإسلام، واحتقابه لكل دم حرام سفك فيها أو أريق بعدها.
ومنه ما أنزل الله على نبيه في سورة القدر: " ليلة القدر خير من ألف شهر "، من ملك بني أمية. ومنه أن رسول الله ﷺ دعا بمعاوية ليكتب بأمره بين يديه، فدافع بأمره، واعتل بطعامه، فقال النبي: " لا أشبع الله بطنه "، فبقي لا يشبع، ويقول: والله ما أترك الطعام شبعًا؛ ولكن إعياء. ومنه أن رسول الله ﷺ قال: " يطلع من هذا الفج رجل من أمتي يحشر على غير ملتي "، فطلع معاوية. ومنه أن رسول الله ﷺ، قال: " إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه ". ومنه الحديث المرفوع المشهور أنه قال: " إن معاوية في تابوت من نار في أسفل درك منها ينادي: يا حنان يا منان، الآن وقد عصيت قبل وكنت كن المفسدين.
ومنه انبراؤه بالمحاربة لأفضل المسلمين في الإسلام مكانًا، وأقدمهم إليه سبقا، وأحسنهم فيه أثرًا وذكرًا؛ علي بن أبي طالب، ينازعه حقه بباطله، ويجاهد أنصاره بضلاله وغواته، ويحاول ما لم يزل هو أبوه يحاولانه، من إطفاء نور الله وجحود دينه، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون. يستهوي أهل الغباوة، ويمون على أهل الجهالة بمكره وبغيه، الذين قدم رسول الله ﷺ الخبر عنهما، فقال لعمار: " تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار "، مؤثرًا للعاجلة، كافرًا بالآجلة، خارجًا من ربقة الإسلام، مستحلًا للدم الحرام، حتى سفك في فتنته، وعلى سبيل ضلالته ما لا يحصى عدده من خيار المسلمين الذابين عن دين الله والناصرين لحقه، مجاهدًا لله، مجتهدًا في أن يعصي الله فلا يطاع، وتبطل أحكامه فلا تقام، ويخالف دينه فلا يدان. وأن تغلو كلمة الضلالة، وترتفع دعوة الباطل؛ وكلمة الله هي العليا، ودينه المنصور، وحكمه المتبع النافذ، وأمره الغالب، وكيد من حادة المغلوب الداحض؛ حتى احتمل أوزار تلك الحروب وما اتبعها، وتطوق تلك الدماء وما سفك بعدها، وسن سنن الفساد التي عليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة، وأباح المحارم لمن ارتكبها، ومنع الحقوق أهلها؛ واغتره الإملاء، واستدرجه الإمهال، والله له بالمرصاد.
ثم أوجب الله له به اللعنة، قتل من قتل صبرًا من خيار الصحابة والتابعين وأهل الفضل والديانة؛ مثل عمرو بن الحمق وحجر بن عدي، فيمن قتل من أمثالهم، في أن تكون له العزة والملك والغلبة، ولله العزة والملك والقدرة، والله عز وجل يقول: " ومن يقتل مؤمنا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا ".
ومما استحق به اللعنة من الله ورسوله ادعاؤه زياد بن سمية، جرأه على الله؛ والله يقول: " ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ". ورسول الله ﷺ، يقول: " ملعون من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه "، ويقول: " الولد للفراش وللعاهر الحجر ". فخالف حكم الله عز وجل وسنة نبيه ﷺ جهارًا، وجعل الولد لغير الفراش، والعاهر لا يضره عهره، فأدخل بهذه الدعوة من محارم الله ومحارم رسوله في أم حبيبة زوجة النبي ﷺ وفي غيرها منسفور وجوه ما قد حرمه الله، وأثبت بها قربي قد باعدها الله، وأباح بها ما قد حظره الله، مما لم يدخل على الإسلام خلل مثله، ولم ينل الدين تبديل شبهه.
ومنه إيثاره بدين الله، ودعاؤه عباد الله إلى ابنه يزيد المتكبر الخمير، صاحب الديوك والفهود والقرود، وأخذه البيعة له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعيد والإخافة والتهدد والرهبة، وهو يعلم سفهه ويطلع على خبثه ورهقه، ويعاين سكرانه وفجوره وكفره. فلما تمكن منه ما مكنه منه، ووطأة له، وعصى الله ورسوله فيه، بثأرات المشركين وطوائلهم عند المسلمين، فأوقع بأهل الحرة الوقيعة التي لم يكن في الإسلام أشنع منها ولا أفحش؛ مما ارتكب من الصالحين فيها، وشفى بذلك عبد نفسه وغليله، وظن أن قد انتقم من أولياء الله، وبلغ النوى لأعداء الله، فقال مجاهرًا بكفره ومظهرًا بشركه:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ** جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القوم من ساداتكم ** وعدلنا ميل بدر فاعتدل
فأهلوا واستهلوا فرحًا ** ثم قالوا: يا يزيد لا تسل
لست من خندف إن لم أنتقم ** من بني أحمد ما كان فعل
ولعت هاشم بالملك فلا ** خبر جاء ولا وحي نزل
هذا هو المروق من الدين، وقول من لا يرجع إلى الله ولا إلى دينه ولا إلى كتابه ولا إلى رسوله، ولا يؤمن بالله ولا بما جاء من عند الله.
ثم من أغلظ ما انتهك وأعظم ما اخترم سفكه دم الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله ﷺ مع وقعه من رسول الله ﷺ ومكانه منه ومنزلته من الدين والفضل، وشهادة رسول الله ﷺ له ولأخيه بسيادة شباب أهل الجنة، اجتراء على الله، وكفرًا بدينه، وعداوة لرسوله، ومجاهدة لعترته، واستهانة بحرمته، فكأنما يقتل به وبأهل بيته قومًا من كفار أهل الترك والديلم، لا يخاف من الله نقمة، ولا يرقب منه سطوة، فبتر الله عمره، واجتث أصله وفرعه، وسلمه ما تحت يده، وأعد له من عذابه وعقوبته ما استحقه من الله بمعصيته.
هذا إلى ما كان من بني مروان من تبديل كتاب الله وتعطيل أحكامه، واتخاذ مال الله دولًا بينهم، وهدم بيته، واستحلال حرامه، ونصبهم المجانيق عليه، ورميهم إياه بالنيران، لا يألون له إحراقًا وإخرابًا، ولما حرم الله منه استباحة وانتهاكًا، ولمن لجأ إليه قتلًا وتنكيلًا، ولمن أمنه الله به إخافة وتشريدًا؛ حتى إذا حقت عليهم كلمة العذاب، واستحقوا من الله الإنتقام، وملئوا الأرض بالجور والعدوان، وعموا عباد الله بالظلم والاقتسار، وحلت عليهم السخطة، ونزلت بهم من الله السطوة، أتاح الله لهم من عترة نبيه، وأهل وراثته من استخلصهم منهم بخلافته؛ مثل ما أتاح الله من أسلافهم المؤمنين وآبائهم المجاهدين لأوائلهم الكافرين، فسفك الله بهم دماءهم مرتدين، كما سفك بآبائهم دماء آباء الكفرة المشركين؛ وقطع الله دابر القوم الظالمين، والحمد لله رب العالمين. ومكن الله المستضعفين، ورد الله الحق إلى أهله المستحقين، كما قال جل شأنه: " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ".
واعلموا أيها الناس أن الله عز وجل إنما أمر ليطاع، ومثل ليتمثل، وحكم ليقبل، وألزم الأخذ بسنة نبيه ﷺ ليتبع؛ وإن كثيرًا ممن ضل فالتوى، وانتقل من أهل الجهالة والسفاه ممن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله؛ وقد قال الله عز وجل: " فقتلوا أثمة الكفر ".
فانتهوا معاشر الناس عما يسخط الله عليكم، ورجعوا ما يرضيه عنكم، وارضوا من الله بما اختار لكم، والزموا ما أمركم به، وجانبوا ما نهاكم عنه، واتبعوا الصراط المستقيم، والحجة البينة، والسبل الواضحة، وأهل بيت الرحمة؛ الذين هداكم الله بهم بديئًا، واستنقذكم بهم من الجور والعدوان أخيرًا، وأصاركم إلى الخفض والأمن والعز بدولتهم، وشملكم الصلاح في أديانكم ومعايشكم في أيامهم، والعنوا من لعنه الله ورسوله، وفارقوا من لا تنالون القربة من الله إلا بمفارقته.
اللهم العن أبا سفيان بن حرب، ومعاوية ابنه، ويزيد بن معاوية، ومروان بن الحكم وولده؛ اللهم العن أثمة الكفر، وقادة الضلالة، وأعداء الدين، ومجاهدي الرسول، ومغيري الأحكام، ومبدلي الكتاب وسفاكي الدم الحرام.
اللهم إنا نتبرأ إليك من موالاة أعدائك، ومن الإغماض لأهل معصيتك، كما قلت: " لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ".
يأيها الناس اعرفوا الحق تعرفوا أهله، وتأملوا سبل الضلالة تعرفوا سابلها، فإنه إنما يبين عن الناس أعمالهم، ويلحقهم بالضلال والصلاح آباؤهم؛ فلا يأخذكم في الله لومة لائم، ولا يميلن بكم عن دين الله استهواء من يستهويكم وكيد من يكيدكم، وطاعة من تخرجكم طاعته إلى معصية ربكم.
أيها الناس، بنا هداكم الله، ونحن المستحفظون فيكم، أمر الله ونحن ورثة رسول الله القائمون بدين الله، فقفوا عند ما نقفكم عليه، وانفذوا لما نأمركم به؛ فإنكم ما أطعتم خلفاء الله وأثمة الهدى على سبيل الإيمان والتقوى، وأمير المؤمنين يستعصم الله أكبر، ويسأله توفيقكم، ويرغب إلى الله في هدايتكم لرشدكم، وفي دينه عليكم؛ حتى تلقون به مستحقين طاعته، مستحقبين لرحمته، والله حسب أمير المؤمنين فيكم، وعليه توكله، وبالله على ما قلده من أموركم استعانته، ولا حول لأمير المؤمنين ولا حول ولا قوة إلا بالله والسلام عليكم.
وكتب أبو القاسم عبدي الله بن سليمان في سنة أربع وثمانين ومائتين.
وذكر أن عبيد الله بن سليمان أحضر يوسف بن يعقوب القاضي، وأمره أن يعمل الحيلة في إبطال ما عزم عليه المعتضد؛ فمضى يوسف بن يعقوب، فكلم المعتضد في ذلك، وقال له: يا أمير المؤمنين؛ إني أخاف أن تضطرب العامة، ويكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركة.
فقال: إن تحركت العامة أو نطقت وضعت سيفي فيها، فقال: يا أمير المؤمنين، فما تصنع بالطالبين الذين هم في كل ناحية يخرجون، ويميل إليهم كثير من الناس لقرابتهم من الرسول ومآثرهم؛ وفي الكتاب إطراؤهم، أو كما قال، وإذا سمع الناس هذا كانوا إليهم أميل، وكانوا هم أبسط ألسنة، وأثبت حجة منهم اليوم.
فأمسك المعتضد فلم يرد عليه جوابًا، ولم يأمر في الكتاب بعده بشيء.
وفي يوم الجمعة لأربع عشرة بقيت من رجب منها شخص جعفر بن بغلاغز إلى عمرو بن الليث الصفار وهو بنيسابور بخلع ولواء لولايته على الرى وهدايا من قبل المعتضد.
وفي هذه السنة لحق عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف بمحمد بن زيد العلوي بطبرستان، فأقام بدر وعبيد الله بن سليمان ينتظران أمر بكر إلام يؤول وعلى إصلاح الجبل.
وفيها - فيما ذكر - فتحت من بلاد الروم قرة، على يد راغب مولى الموفق وابن كلوب، وذلك في يوم الجمعة من رجب.
وفي ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة خلت من شعبان - أو ليلة الخميس فيما ذكر - ظهر شخص إنسان في يده سيف في دار المعتضد بالثريا، فمضى إليه بعض الخدم لينظر ما هو، فضربه الشخص بالسيف ضربة قطع بها منطقته، ووصل السيف إلى بدن الخادم، ورجع الخادم منصرفًا عنه هاربًا، ودخل الشخص في زرع البستان، فتوارى فيه، فطلب باقي ليلته ومن غد، فلم يوقف على أثر، فاستوحش المعتضد لذلك، وكثر الناس في أمره رجمًا بالظنون، حتى قالوا: إنه من الجن، ثم عاد هذا الشخص للظهور بعد ذلك مرارًا كثيرة، حتى وكل المعتضد بسور داره، وأحكم السور ورأسه، وجعل عليه كالبرابخ؛ لئلا يقع عليه الكلاب إن رمي به، وجيء باللصوص من الحبس ونوظروا في ذلك، وهل يمكن أحد للدخول إليه بنقب أو تسلق.
وفي يوم السبت لثمان بقين من شعبان من هذه السنة، وجه كرامة بن مر من الكوفة بقوم مقيدين، ذكر أنهم من القرامطة، فأقروا على أبي هاشم بن صدقة الكاتب أنه كان يكاتبهم، وأنه أحد رؤسائهم، فقبض على أبي هاشم، وقيد وحبس في المطامير.
وفي يوم السبت لسبع خلون من شهر رمضان من هذه السنة جمع المجانين والمعزمون، ومضى بهم إلى دار المعتضد في الثريا بسبب الشخص الذي كان يظهر له، فأدخلوا الدار، وصعد المعتضد علية له، فأشرف عليهم؛ فلما رآهم صرعت امرأة كانت معهم من المجانين واضطربت، وتكشفت، فجر وانصرف عنهم، ووهب لكل واحد منهم خمسة دراهم - فيما ذكر - وصرفوا.
وقد كان قد وجه إلى المعزمين قبل أن يشرف عليهم من يسألهم عن خبر الشخص الذي ظهر له: هل يمكنهم أن يعلموا علمه؟ فذكر قوم منهم أنهم يعزمون على بعض المجانين، فإذا سقط سأل الجني عن خبر ذلك الشخص وما هو، فلما رأى المرأة التي صرعت أمر بصرفهم.
وفي ذي القعدة منها ورد الخبر من أصبهان، بوثوب الحارث بن عبد العزيز ابن أبي دلف المعروف بأبي ليلى بشفيع الخادم الموكل كان به فقتله، وكان أخوه عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف أخذه فقيده، وحمله إلى قلعة لآل أبي دلف بالزز، فحسبه فيها، وكان كل ما لآل أبي دلف من مال ومتاع نفيس وجوهر في القلعة، وشفيع مولاهم موكل بحفظ ذلك وحفظ القلعة، ومعه جماعة من غلمان عمر وخاصته، فلما استأمن عمر إلى السلطان، وهرب بكر عاصيًا للسلطان بقيت القلعة بما فيها في يد شفيع، فكلمه أبو ليلى في إطلاقه فأبى، وقال: لا أفعل فيك وفيما في يدي إلا بما يأمرني به عمر.
فذكر عن جارية لأبي ليلى أنها قالت: كان مع أبي ليلى في الحبس غلام صغير يخدمه، وآخر يدخل ويخرج في حوائجه ولا بيت عنده، ويبيت عنده الغلام الصغير، فقال أبو ليلى لغلامه الذي يخرج في حوائجه: احتل لي في مبرد تدخله إلي، ففعل وأدخله في شيء من طعامه.
وكان شفيع الخادم يجيء في كل ليلة إذا أراد أن ينام إلى البيت الذي فيه أبو ليلى حتى يراه، ثم يقفل عليه باب البيت هو بيده ويمضي فينام، وتحت فراشه سيف مسلول.
وكان أبو ليلى قد سأل أن تدخل إليه جارية، فأدخلت إليه جارية حدثة السن، فذكر عن ذلفاء جارية أبي ليلى عن هذه الجارية أنها قالت: برد أبو ليلى المسمار الذي في القيد، حتى كان يخرجه من رجله إذا شاء.
قالت: وجاء شفيع الخادم عشية من العشايا إلى أبي ليلى، فقعد معه يحدثه، فسأله أبو ليلى أن يشرب معه أقداحًا، ففعل، ثم قام الخادم لحاجته.
قالت: فأمرني أبو ليلى، ففرشت فراشه، فجعل عليه ثيابًا في موضع الإنسان من الفراش، وغطى على الثياب باللحاف، وأمرني أن أقعد عند رجل الفراش، وقال لي: إذا جاء شفيع لينظر إلي ويقفل الباب، فسألك عني فقولي: هو نائم.
وخرج أبو ليلى من البيت، فاختفى في جوف فرش ومتاع في صفة فيها باب هذا البيت، وجاء شفيع فنظر إلى الفراش، وسأل الجارية فأخبر أنه قد نام، فأقفل الباب؛ فلما نام الخادم ومن معه في الدار التي في قلعة خرج أبو ليلى، فأخذ السيف من تحت فراش شفيع، وشد عليه فقتله، فوثب الغلمان الذين كانوا ينامون حوله فزعين، فاعتزلهم أبو ليلى والسيف في يده، وقال لهم: أنا أبو ليلى قد قتلت شفيعًا، ولئن تقدم إلي منكم أحد لأقتلنه وأنتم آمنون؛ فاخرجوا من الدار حتى أكلمكم بما أريد، ففتحوا باب القلعة، وخرجوا، وجاء حتى قعد على باب القلعة، واجتمع الناس ممن كان في القلعة، فكلمهم ووعدهم الإحسان، وأخذ عليهم الإيمان.
فلما أصبح نزل من القلعة، ووجه إلى الأكراد وأهل الزموم، فجمعهم وأعطاهم، وخرج مخالفًا على السلطان.
وقيل إن قتله الخادم كان في ليلة السبت لاثنتي عشرة بقيت من ذي القعدة من هذه السنة، وقيل أنه ذبح الخادم ذبحًا بسكين كان أدخلها إليه غلامه، ثم أخذ السيف من تحت فراش الخادم وقام به إلى الغلمان.
وفي هذه السنة - وهي سنة أربع وثمانين ومائتين - كان المنجمون يوعدون الناس بغرق أكثر الأقاليم، وأن إقليم بابل لا يسلم منه إلا اليسير، وأن ذلك يكون بكثرة الأمطار وزيادة المياه في الأنهار والعيون والآبار، فقحط الناس فلم يروا فيها من المطر إلا اليسير، وغارت المياه في الأنهار، والعيون والآبار، حتى احتاج الناس إلى الاستسقاء فاستقوا ببغداد مرات.
ولليلة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة كانت - فيما ذكر - وقعة بين عيسى النوشري وبين أبي ليلى بن عبد العزيز بن أبي دلف، وذلك يوم الخميس دون أصبهان بفرسخين، فأصاب أبا ليلى سهم في حلقه - فيما ذكر - فنحره، فسقط على دابته، وانهزم أصحابه، وأخذ رأسه فحمل إلى أصبهان.
وحج الناس في هذه السنة محمد بن عبد الله بن داود الهاشمي المعروف بأترجة.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من قطع صالح بن مدرك الطائي في جماعة من طيىء على الحاج بالأجفر الأربعاء لاثنتي عشرة بقيت من المحرم، فحاربه الجني الكبير، وهو أمير القافلة، فظفر الأعراب بالقافلة؛ فأخذوا ما كان فيها من الأموال والتجارات، وأخذوا جماعة من النساء الحرائر والممالك.
وقيل إن الذي أخذوا من الناس بقيمة ألفي ألف دينار.
ولسبع بقين من المحرم منها قرىء على جماعة من حاج خراسان في دار المعتضد بتوليه عمرو بن الليث الصفار ما وراء نهر بلخ، وعزل إسماعيل بن أحمد عنه.
ولخمس خلون من صفر منها ورد مدينة السلام وصيف كامه مع جماعة من القواد من قبل بدر مولى المعتضد وعبيد الله بن سليمان من الجبل، معهم رأس الحارث بن عبد العزيز بن أبي دلف المعروف بأبي ليلى، فمضوا به إلى دار المعتضد بالثريا، فاستوهبه أخوه فوهبه، واستأذنه في دفنه فأذن له، وخلع على عمر بن عبد العزيز في هذا اليوم وعلى جماعة من القواد القادمين.
وفيها - فيما ذكر - كتب صاحب البريد من الكوفة، يذكر أن ريحًا صفراء ارتفعت بنواحي الكوفة في ليلة الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الأول، فلم تزل إلى وقت صلاة المغرب، ثم استحالت سوداء، فلم يزل الناس في تضرع إلى الله.
وإن السماء مطرت بعقب ذلك مطرًا شديدًا برعود هائلة وبروق متصلة، ثم سقط بعد ساعة بقرية تعرف بأحمد أباذ ونواحيها حجارة بيض وسود مختلفة الألوان، في أوساطها ضغطة شبه أفهار العطارين، فأنفذ منها حجرًا، فأخرج إلى الدواوين والناس حتى رأوه.
ولتسع بقين منه شخص ابن الإخشاد أميرًا على طرسوس من بغداد مع النفر الذين كانوا قدموا منها يسألون أن يولى عليهم وال.
وخرج أيضًا في هذا اليوم من بغداد فاتك مولى المعتضد للنظر في أمور العمال بالموصل وديار ربيعة وديار مضر والثغور والشأمية والجزرية وإصلاح الأمور بها إلى ما كان يتقلده من أعمال البريد بهذه النواحي.
وفي هذه السنة ورد الخبر - فيما ذكر - من البصرة أن ريحًا ارتفعت بها بعد صلاة الجمعة لخمس بقين من شهر ربيع الأول صفراء، ثم استحالت خضراء ثم سواد، ثم تتابعت الأمطار بما لم يروا مثلها، ثم وقع برد كبار كان وزن البردة الواحدة مائة وخمسين درهمًا - فيما قيل - وأن الريح أقلعت من نهر الحسين خمسمائة نخلة أو أكثر، ومن نهر معقل مائة نخلة عددًا.
وفيها كانت وفاة الخليل بن ريمال بحلوان.
ولخمس خلون من جمادى الآخرة ورد الخبر على السلطان أن بكر بن عبد العزيز بن أبي دلف توفي بطبرستان من علة أصابته، ودفن هنالك.
فأعطى بالذي جاء بالخبر - فيما ذكر - ألف دينار.
وفيها ولى المعتضد محمد بن أبي الساج أعمال أذربيجان وأرمينية، وكان قد تغلب عليها وخالف، وبعث إليه بخلع وحملان.
وفيها ورد الخبر لثلاث خلون من شعبان أن راغبًا الخادم مولى الموفق غزا في البحر، فأظفره الله بمراكب كثيرة، وبجميع من فيها من الروم، فضرب أعناق ثلاثة آلاف من الروم الذين كانوا في المراكب، وأحرق المراكب، وفتح حصونًا كثيرة من حصون الروم، وانصرفوا سالمين.
وفي ذي الحجة منها ورد الخبر بوفاة أحمد بن عيسى بن شيخ وقيام ابنه محمد بن أحمد بن عيسى بما كان في يد أبيه بآمد، وما يليها على سبيل التغلب.
ولإحدى عشرة بقيت من ذي الحجة منها خرج المعتضد من بغداد قاصدًا إلى آمد، وخرج معه ابنه أبو محمد والقواد والغلمان، واستخلف ببغداد صالحًا الامين الحاجب، وقلده النظر في المظالم وأمر الجسرين وغير ذلك.
وفيها وجه هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون ومن معه من قواد المصريين إلى المعتضد وضيف قاطرميز، يسألونه مقاطعتهم عما في أيديهم من مصر والشأم، وأجرى هارون على ما كان يجري عليه أبوه، فقدم وصيف بغداد، فرده المعتضد، ووجه معه عبد الله بن الفتح ليشافههم برسائل، ويشترط عليهم شروطًا، فخرجا لذلك في آخر هذه السنة.
وفيها غزا ابن الإخشاد بأهل طرسوس وغيرهم في ذي الحجة، وبلغ سلندو.
وفتح عليه، وكان انصرافه إلى طرسوس في سنة ست وثمانين ومائتين.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن عبد الله بن داود الهاشمي.
ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة
فمن ذلك ما كان من توجيه محمد بن أبي الساج ابنه معروف بأبي المسافر إلى بغداد رهينة بما ضمن للسلطان من الطاعة والمناصحة، فقدم - فيما ذكر - يوم الثلاثاء، لسبع خلون من المحرم منها، معه هدايا من الدواب والمتاع وغير ذلك، والمعتضد يومئذ غائب عن بغداد.
وفي شهر ربيع الأخر منها ورد الخبر أن المعتضد بالله وصل إلى آمد، فأناخ بجنده عليها، وأغلق محمد بن أحمد بن عيسى بن شيخ عليه أبواب مدينة آمد، وعلى من فيها من أشياعه.
ففرق المعتضد جيوشه حولها وحاصرهم، وذلك لأيام بقيت من شهر ربيع الأول، ثم جرت بينهم حروب، ونصب عليهم المجانيق، ونصب أهل آمد على سورهم المجانيق، وتراموا بها.
وفي يوم السبت لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى وجه محمد بن أحمد ابن عيسى إلى المعتضد يطلب لنفسه ولأهله ولأهل آمد الأمان، فوجه إلى ذلك فخرج محمد بن أحمد بن عيسى في هذا اليوم ومن معه من أصحابه وأوليائه فوصلوا إلى المعتضد، فخلع عليه وعلى رؤساء أصحابه، وانصرفوا إلى مضرب قد أعد لهم، وتحول المعتضد من عسكره إلى منازل ابن عيسى ابن شيخ ودوره؛ وكتب بذلك كتابًا إلى مدينة السلام مؤرخًا بيوم الأحد لعشر بقين من جمادى الأولى منها ورد الكتاب من المعتضد بفتحه آمد إلى مدينة السلام، وقرىء على المنبر بالجامع.
وفيها انصرف عبد الله بن الفتح إلى المعتضد وهو مقيم بآمد من مصر بأجوبة كتبه إلى هارون بن خمارويه، وأعلمه أن هارون قد بذل أن يسلم أعمال قنسرين والعواصم، ويحمل إلى بيت المال ببغداد في كل سنة أربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، وأنه يسأل أن يجدد له ولاية مصر والشأم، وأن يوجه المعتضد بخادم من خدمه إليه بذلك؛ فأجابه إلى ما سأل، وأنفذ إليه بدرًا القدامي وعبد الله بن الفتح بالولاية والخلع، فخرجا من آمد إلى مصر بذلك وتسلم عمال المعتضد أعمال قنسرين والعواصم من أصحاب هارون في جمادى الأولى، وأقام المعتضد بآمد بقية جمادى الأولى وثلاثة وعشرين يومًا من جمادى الآخرة.
ثم ارتحل منها يوم السبت لسبع بقين منها نحو الرقة، وخلف ابنه عليًا بآمد مع جيوش ضمهم إليه لضبط الناحية وأعمال قنسرين والعواصم وديار ربيعة وديار مضر.
وكان كاتب علي بن المعتضد يومئذ الحسين بن عمرو النصراني، وقلد الحسين بن عمرو النظر في أمور هذه النواحي ومكاتبة العمال بها، وأمر المعتضد بهدم سور آمد فهدم.
وفيها وافت هدية عمرو بن الليث الصفار من نيسابور إلى بغداد، فكان مبلغ المال الذي وجه أربعة ألاف ألف دينار، وعشرين من الدواب، بسروج ولجم محلاة مغرقة ومائة وخمسين دابة بجلال مشهرة وكسوة وطيب وبزاة، وذلك في يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة.
وفي هذه السنة ظهر رجل من القرامطة يعرف بأبي سعيد الجنابي بالبحرين، فاجتمع إليه جماعة من الأعراب والقرامطة؛ وكان خروجه - فيما ذكر - في أول هذه السنة، وكثر أصحابه في جمادى الآخرة، وقوى أمره، فقتل من حوله من أهل القرى، ثم صار إلى موضع يقال له القطيف، وبينه وبين البصرة مراحل، فقتل من بها.
وذكر أنه يريد البصرة، فكتب أحمد بن محمد بن يحيى الواثقي - وكان يتقلد معاون البصرة وكور دجلة في ذلك الوقت - إلى السلطان بما اتصل به من عزم هؤلاء القرامطة؛ فكتب إليه وإلى محمد بن هشام المتولي أعمال الصدقات والخراج والضياع بها، في عمل سور على البصرة، فقدرت النفقة على ذلك أربعة عشر ألف دينار، فأمر بالإنفاق عليه فبني.
وفي رجب من هذه السنة صار إلى الأنبار جماعة من أعراب بني شيبان، فأغاروا على القرى، وقتلوا من لحقوا من الناس، واستاقوا المواشي.
فخرج إليهم أحمد بن محمد بن كمشجور المتولي المعاون بها، فلم يطقهم.
فكتب إلى السلطان يخبره بأمورهم.
فوجه من مدينة السلام نفيسًا المولدي وأحمد بن محمد الزرنجي والمظفر بن حاج مددًا له في زهاء ألف رجل؛ فصاروا إلى موضع الأعراب، فواقعوهم بموضع يعرف بالمنقبة من الأنبار، فهزمهم الأعراب، وقتلوا أصحابهم وغرق أكثرهم في الفرات، وتفرقوا.
فورد كتاب ابن حاج يوم الاثنين بقين من رجب بخبر هذه الوقعة وهزيمة الأعراب إياهم، فأقام الأعراب يعيشون في الناحية، ويتخفرون القرى، فكتب إلى المعتضد بخبرهم، فوجه إليهم لقتالهم من الرقة العباس بن عمرو الغنوي وخفيفًا الأذكوتكيني وجماعة من القواد.
فصار هؤلاء القواد إلى هيت في آخر شعبان من هذه السنة.
وبلغ الأعراب خبرهم، فارتحلوا عن موضعهم من سواد الأنبار، وتوجهوا نحو عين التمر، فنزلوهما ودخل القواد الأنبار، فأقاموا بها، وعاث الأعراب بعين التمر ونواحي الكوفة؛ مثل عيثهم بنواحي الأنبار، وذلك بقين شعبان وشهر رمضان.
وفيها وجه المعتضد إلى راغب مولى أبي أحمد وهو بطرسوس، يأمره بالمصير إليه بالرقة، فصار إليه وهو بها، فلما وصل إليه تركه في عسكره يومًا ثم أخذه من الغد فحبسه؛ وأخذ جميع ما كان معه؛ ورد الخبر بذلك مدينة السلام يوم الاثنين لتسع خلون من شعبان، ثم مات راغب بعد أيام، وقبض على مكنون غلام راغب وعلى أصحابه، وأخذ ماله بطرسوس يوم الثلاثاء لست بقين من رجب، وكان المتولي أخذهم ابن الإخشاد.
ولعشر بقين من شهر رمضان منها وجه المعتضد مؤنسًا الخازن إلى الأعراب بنواحي الكوفة وعين التمر، وضم إليه العباس بن عمرو وخفيفًا الاذكرتكيني وغيرهما من القواد، فسار مؤنس ومن معه حتى بلغ الموضع المعروف بنينوى فوجد الأعراب قد ارتحلوا عن موضعهم، ودخل بعضهم إلى برية طريق مكة وبعضهم إلى برية الشأم، فأقام بموضعه أيامًا، ثم شخص إلى مدينة السلام.
وفي شوال منها قلد المعتضد وعبيد الله بن سليمان ديوان المشرق محمد بن داود ابن الجراح، وعزل عنه أحمد بن محمد بن الفرات، وقلد ديوان المغرب علي بن عيسى بن داود بن الجراح، وعزل عنه ابن الفرات.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من قبض المعتضد على محمد بن أحمد بن عيسى بن شيخ وعلى جماعة من أهله وتقييده إياهم، وحبسه لهم في دار ابن طاهر؛ وذلك أنه صار بعض أقربائه - فيما ذكر - إلى عبيد الله بن سليمان، فأعلمه أن محمدًا على الهرب في جماعة من أصحابه وأهله، فكتب بذلك عبيد الله إلى المعتضد، فكتب إليه المعتضد يأمره بالقبض عليه، ففعل ذلك يوم الأربعاء لأربع خلون من المحرم منها.
وفي هذا الشهر من هذه السنة ورد كتاب أبي الأغر على السلطان أن طيئًا تجمعت له، وحشدوا واستعانوا بمن قدروا عليه من الأعراب، واعترضوا قافلة الحاج، فواقعوهم لما جاوزوا المعدن منصرفين إلى مدينة السلام من مكة ببضعة عشر ميلًا، وأقبل إليهم فرسان الأعراب ورجالتهم ومعهم بيوتهم وحرمهم وإبلهم؛ وكانت رجالتهم أكثر من ثلاثة ألاف، فالتحمت الحرب بينهم، ولم تزل الحرب بينهم يومهم أجمع، وهو يوم الخميس لثلاث بقين من ذي الحجة، فلما جنهم الليل باينوهم؛ فلما أصبحوا غادوهم الحرب غداة يوم الجمعة إلى حين انتصاف النهار.
ثم أنزل الله النصر على أوليائه وولى الأعراب منهزمين، فما اجتمعوا بعد تفرقهم، وأنه سار هو وجميع الحاج سالمين، وأنفذ كتابه مع سعيد بن الأصفر بن عبد الأعلى، وهو أحد وجوه بني عمه والمتولي كان للقبض على صالح بن مدرك.
وفي يوم السبت لثلاث بقين من المحرم وافى أبو الأغر مدينة السلام، وبين يديه رأس صالح بن مدرك، ورأس جحنش، ورأس غلام لصالح أسود، وأربعة أسارى من بني عم صالح، فمضى إلى دار المعتضد، فخلع عليه، وطوق بطوق من ذهب، ونصبت الرءوس على رأس الجسر الأعلى بالجانب الشرقي، وأدخل الأسرى المطامير.
ولأربع ليال بقين من صفر منها، دخل المعتضد من متنزهه ببراز الروز إلى بغداد، وأمر ببناء قصر في موضع اختاره من براز الروز، فحمل إليه الآلات، وابتدأ في عمله.
وفي شهر بيع الأول منها غلظ أمر القرامطة بالبحرين، فأغاروا على نواحي هجر، وقرب بعضهم من نواحي البصرة، فكتب أحمد بن محمد بن يحيى الواثقي يسأل المدد، فوجه إليه في آخر هذا الشهر بثماني شذوات، فيها ثلثمائة رجل، وأمر المعتضد باختيار جيش لينفذه إلى البصرة.
وفي يوم الأحد لعشر خلون من شهر ربيع الآخر، قعد بدر مولى المعتضد في داره، ونظر في أمور الخاصة والعامة من الناس والخراج والضياع والمعاون.
وفي يوم الاثنين لإحدى عشرة خلت من شهر ربيع الآخر، مات محمد بن عبد الحميد الكاتب المتولى ديوان زمام المشرق والمغرب.
وفي يوم الأربعاء لثلاث عشرة منه ولي جعفر بن محمد بن حفص هذا الديوان، فصار من يومه إلى الديوان وقعد فيه.
وفي شهر ربيع الأخر منها ولي المعتضد بن عباس بن عمرو الغنوي اليمامة والبحرين ومحاربة أبي سعيد الجنابي ومن معه من القرامطة، وضم إليه زهاء ألفي رجل، فعسكر العباس بالفرك أيامًا حتى اجتمع إليه أصحابه، ثم مضى إلى البصرة، ثم شخص منها إلى البحرين واليمامة.
وفيها - فيما ذكر - وافى العدو باب قلمية من طرسوس، فنفر أبو ثابت وهو أمير طرسوس بعد موت ابن الإخشاد - وكان استخلفه على البلد حين غزا - فمات وهو على ذلك؛ فبلغ في نفيره إلى نهر الريحان في طلب العدو، فأسر أبو ثابت وأصيب الناس؛ فكان ابن كلوب غازيًا في درب السلامة؛ فلما قفل من غزاته جمع المشايخ من أهل الثغر ليتراضوا بأمير يلي أمورهم، فاتفق رأيهم على علي بن الأعرابي، فولوه أمرهم بعد اختلاف من ابن أبي ثابت.
وذكر أن أباه استخلفه، وجمع جمعًا لمحاربة أهل البلد حتى توسط الأمر ابن كلوب، فرضى ابن ثابت؛ وذلك في شهر ربيع الآخر، وكان النغيل حينئذ غازيًا ببلاد الروم، فانصرف إلى طرسوس، وجاء الخبر أن أبا ثابت حمل إلى القسطنطينية من حصن قونية، ومعه جماعة من المسلمين.
وفي شهر ربيع الآخر مات إسحاق بن أيوب الذي كان إليه المعاون بديار ربيعة، فقلد ما كان إليه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعتمر.
وفي يوم الأربعاء لخمس بقين من جمادى الأولى، ورد كتاب - فيما ذكر - على السلطان بأن إسماعيل بن أحمد أسر عمرًا الصفار، واستباح عسكره؛ وكان من خبر عمرو وإسماعيل، ان عمرًا سأل السلطان أن يوليه ما وراء النهر، فولاه ذلك، ووجه إليه وهو مقيم بنيسابور بالخلع، واللواء على ما وراء النهر، فخرج لمحاربة إسماعيل بن أحمد، فكتب إليه إسماعيل بن أحمد: إنك قد وليت دنيا عريضة، وإنما في يدي ما وراء النهر، وأنا ثغر؛ فاقنع بما في يدك، واتركني مقيمًا بهذا الثغر.
فأبى إجابته إلى ذلك؛ فذكر له أمر نهر بلخ وشدة عبوره، فقال: لو أشاء أن أسكره ببدر الأموال وأعبره لفعلت؛ فلما أيس إسماعيل من انصرافه عنه جمع من معه والتناء والدهاقين، وعبر النهر إلى الجانب الغربي؛ وجاء عمرو فنزل بلخ، وأخذ إسماعيل عليه النواحي، فصار كالمحاصر، وندم على ما فعل، وطلب المحاجزة - فيما ذكر - فأبى إسماعيل عليه ذلك، فلم يكن بينهما كثير قتال حتى هزم فولى هاربًا، ومر بأجمة في طريقه، قيل له أنها أقرب، فقال لعامة من معه: امضوا في الطريق الواضح.
ومضى في نفر يسير، فدخل الأجمة، فوحلت دابته؛ فوقعت، ولم يكن له في نفسه حيلة، ومضى من معه، ولم يلووا عليه، وجاء أصحاب إسماعيل، فأخذوه أسيرًا.
ولما وصل الخبر إلى المعتضد بما كان من أمر عمرو وإسماعيل، مدح إسماعيل - فيما ذكر - وذم عمرًا.
ولليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، ورد الخبر على السلطان أن وصيفًا خادم ابن أبي الساج، هرب من برذعة، ومضى إلى ملطية مراغمًا لمحمد بن أبي الساج في أصحابه، وكتب إلى المعتضد يسأله أن يوليه الثغور، ليقوم بها، فكتب إليه المعتضد يأمره بالمصير إليه، ووجه إليه رشيقًا الحرمي.
ولسبع خلون من رجب من هذه السنة توفيت ابنة خمارويه بن أحمد بن طولون، زوجة المعتضد، ودفنت داخل قصر الرصافة.
ولعشر خلون من رجب وفد على السلطان ثلاثة أنفس وجههم وصيف خادم ابن أبي الساج إلى المعتضد، يسأله أن يوليه الثغور، يوجه إليه الخلع، فذكر أن المعتضد أمر بتقرير الرسل بالسبب الذي من أجله فارق وصيف صاحبه ابن أبي الساج، وقصد الثغور، فقرروا بالضرب، فذكروا أنه فارقه على مواطأة بينه وبين صاحبه، على أنه متى صار إلى الموضع الذي هو به متى لحق به صاحبه، فصار جميعًا إلى مضر وتغلبًا عليها، وشاع ذلك في الناس وتحدثوا به.
ولإحدى عشرة خلت من رجب من هذه السنة ولي حامد بن العباس الخراج والضياع بفارس؛ وكانت في يد عمرو بن الليث الصفار، ودفعت كتبه بالولاية إلى أخيه أحمد بن العباس، وكان حامد مقيمًا بواسط، لأنه كان يليها وكور دجلة، وكتب إلى عيسى النوشري وهو بإصبهان بالمصير إلى فارس واليًا على معونتها.
خروج العباس بن عمرو الغنوي من البصرة
وفي هذه السنة كان خروج العباس بن عمرو الغنوي - فيما ذكر - من البصرة بمن ضم إليه من الجند، مع من خف معه من مطوعة البصرة نحو أبي سعيد الجناني ومن انضوى إليه من القرامطة، فلقيهم طلائع لأبي سعيد، فخلف العباس سواده، وسار نحوهم، فلقي أبا سعيد ومن معه مساء، فتناوشوا القتال، ثم حجز بينهم الليل، فانصرف كل فريق منهما إلى موضعهم.
فلما كان الليل انصرف من كان مع العباس من أعراب بني ضبة - وكانوا زهاء ثلثمائة - إلى البصرة، ثم تبعهم مطوعة البصرة؛ فلما أصبح العباس غادي القرامطة الحرب، فاقتتلوا قتالًا شديدًا.
ثم إن صاحب ميسرة العباس - وهو نجاح غلام أحمد بن عيسى بن شيخ - حمل في جماعة من أصحابه زهاء مائة رجل على ميمنة أبي سعيد؛ فوغلوا فيهم، فقتل وجميع من معه، وحمل الجنابي وأصحابه على أصحاب العباس، فانهزموا، فاستأسر العباس، وأسر من أصحابه زهاء سبعمائة رجل، واحتوى الجنابي على ما كان في عسكر العباس؛ فلما كان من غد يوم الوقعة أحضر الجنابي من كان أسر من أصحاب العباس، فقتلهم جميعًا، ثم أمر بحطب فطرح عليهم، وأحرقهم.
وكانت هذه الوقعة - فيما ذكر - في آخر رجب، وورد خبرها بغداد لأربع خلون من شعبان.
وفيها - فيما ذكر - صار الجنابي إلى هجر، فدخلها وآمن أهلها؛ وذلك بعد منصرفه من وقعة العباس، وانصرف فل أصحاب العباس بن عمرو يريدون البصرة، ولم يكن أفلت منهم إلا القليل بغير أزواد ولا كسًا، فخرج إليهم من البصرة جماعة بنحو من أربعمائة راحلة، عليها الأطعمة والكسا والماء، فخرج عليهم - فيما ذكر - بنو أسد، فأخذوا تلك الرواحل بما عليها، وقتلوا جماعة ممن كان مع تلك الرواحل ومن أفلت من أصحاب العباس؛ وذلك في شهر رمضان فاضطربت البصرة لذلك اضطرابًا شديدًا وهموا بالإنتقال عنها، فمنعهم أحمد بن محمد الواثقي المتولي لمعاونها من ذلك، وتخوفوا هجوم القرامطة عليهم.
ولثمان خلون من شهر رمضان منها - فيما ذكر - وردت خريطة على السلطان من الأبلة بموافاة العباس بن عمرو في مركب من مراكب البحر، وأن أبا سعيد الجنابي أطلقه وخادمًا له.
ولإحدى عشرة خلت من شهر رمضان، وافى العباس بن عمرو مدينة السلام وصار إلى دار المعتضد بالثريا، فذكر أنه بقي عند الجنابي أيامًا بعد الوقعة، ثم دعا به، فقال له: أتحب أن أطلقك؟، قال: نعم، قال: امض وعرف الذي وجه بك إلى ما رأيت.
وحمله على رواحل، وضم إليه رجالًا من أصحابه، وحملهم ما يحتاجون إليه من الزاد والماء، وأمر الرجال الذين وجههم معه أن يؤدوه إلى مأمنه، فساروا به حتى وصل إلى بعض السواحل، فصادف به مركبًا، فحمله، فصار إلى الأبلة، فخلع عليه المعتضد وصرفه إلى منزله.
وفي يوم الخميس لإحدى عشرة خلت من شوال ارتحل المعتضد من مضربه بباب الشماسية في طلب وصيف خادم ابن أبي الساج، وكتم ذلك، وأظهر أنه يريد ناحية ديار مضر.
وفي يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت منه، ورد الخبر - فيما ذكر - على السلطان أن القرامطة بالسواد من أهل جنبلاء وثبوا بواليهم بدر غلام الطائي، فقتلوا من المسلمين جمعًا فيهم النساء والصبيان، وأحرقوا المنازل.
ولأربع عشرة خلت من ذي القعدة نزل المعتضد كنيسة السوداء في طلب وصيف الخادم، فأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء، حتى تلاحق به الناس، وأراد الرحيل في طريق المصيصة، فأتته العيون أن الخادم يريد عين زربة، فأحضر الركاضة الثغريين وأهل الخبرة، فسألهم عن أقصد الطريق إلى عين الزربة، فقطعوا به جيحان غداة الخميس لسبع عشرة خلت من ذي القعدة، فقدم ابنه عليًا ومعه الحسن بن علي كوره، وأتبعه بجعفر بن سعر، ثم أتبع جعفرًا محمد بن كمشجور، ثم أتبعه خاقان المفلحي، ثم مؤنس الخادم، ثم مؤنس الخازن، ثم مضى في آثارهم مع غلمان الحجر، ومربعين زربة؛ وضرب لهم بها مضرب، وخلف بها خفيفًا السمرقندي مع سواده، وسار هو قاصدًا للخادم في أثر القواد، فلما كان بعد صلاة العصر جاءته البشارات بأخذ الخادم، ووفوا به المعتضد، فسلمه إلى مؤنس الخادم وهو يومئذ صاحب شرطة العسكر، وأمر ببذل الأمان لأصحاب الخادم والنداء في العسكر ببراءة الذمة ممن وجد في رحله شيء من نهب عسكر الخادم، ولم يرده على أصحابه؛ فرد الناس على كثير منهم ما انتهبوا من عسكرهم.
وكانت الوقعة وأسر وصيف الخادم - فيما قيل - يوم الخميس لثلاث عشرة بقيت من ذي القعدة، وكان من اليوم الذي ارتحل المعتضد فيه من مضربه بباب الشماسية إلى أن قبض على الخادم ستة وثلاثون يومًا.
ولما قبض المعتضد على الخادم انصرف - فيما ذكر - إلى عين زربة، فأقام بها يومين، فلما كان في صبيحة الثالث؛ اجتمع إليه أهل الزربة، وسألوه أن يرحل عنهم لضيق الميرة ببلدهم، فرحل عنها في اليوم الثالث، فنزل المصيصة بجميع عساكره إلا أبا الأغر خليفة بن المبارك؛ فإنه كان وجهه ليأخذ على الخادم الطريق لئلا يصير إلى مرعش وناحية ملطية، وكان الخادم قد أنفذ عياله وعيال أصحابه إلى مرعش، وبلغ أصحاب الخادم الذين كانوا قد هربوا ما بذل لهم من الأمان، وما أمر برده عليهم من أمتعتهم، فلحقوا بعسكر المعتضد داخلين في أمانه.
وكان نزول المعتضد بالمصيصة - فيما قيل - يوم الأحد لعشر بقين من ذي القعدة، فأقام بها إلى الأحد الآخر، وكتب إلى وجوه أهل طرسوس في المصير إليه، فأقبلوا إليهم منهم النغيل - وكان من رؤساء الثغر - وابن له، ورجل يقال له ابن المهندس، وجماعة معهم، فحبس هؤلاء مع آخرين، وأطلق أكثرهم.
فحمل الذين حبسهم معه إلى بغداد، وكان قد وجد عليهم لأنهم - فيما ذكر - كانوا كاتبوا وصيفًا الخادم، وأمر المعتضد بإحراق جميع المراكب البحرية التي كان المسلمون يغزون فيها جميع آلاتها.
وذكر أن دميانة غلام يازمان هو الذي أشار عليه لشيء كان في نفسه على أهل طرسوس، فأحرق ذلك كله، وكان في المراكب نحو من خمسين مركبًا قديمًا قد أنفق عليها أموال جليلة لا يعمل مثلها في هذا الوقت فأحرقت، فأضر ذلك بالمسلمين، وكسر ذلك أعضادهم، وقوي به الروم، وأمنوا أن يغزوا في البحر.
وقلد المعتضد الحسن بن علي كوره الثغور الشأمية بمسألة من أهل الثغور واجتماع كلمتهم عليه، ورحل المعتضد - فيما قيل - من المصيصة فنزل فندق الحسين، ثم الإسكندرية، ثم بغراس ثم إنطاكية، لليلتين خلتا من ذي الحجة.
فأقام بها إلى أن نحر، وبكر في ثاني النحر بالرحيل، فنزل أرتاح ثم الأثارب ثم حلب، فأقام بها يومين، ثم رحل إلى الناعورة، ثم إلى خساف وصفين هنالك في الجانب الجزري، وبيت مال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الجانب الآخر، ثم إلى يالس، ثم إلى دوسر، ثم إلى بطن دامان، ثم إلى الرقة، فدخلها لثمان بقين من ذي الحجة، فأقام بها إلى أن بقي ليلتان منه.
ذكر الخبر عن مقتل محمد بن زيد العلوي
ولخمس بقين من شوال ورد الخبر على السلطان بأن محمد بن زيد العلوي قتل.
ذكر الخبر عن سبب مقتله
ذكر أن محمد بن زيد خرج لما اتصل به الخبر عن أسر إسماعيل بن أحمد عمرو بن الليث في جيش كثيف نحو خراسان، طامعًا فيها، ظنًا منه أن إسماعيل بن أحمد لا يتجاوز عمله الذي كان يتولاه أيام ولاية عمرو بن الليث الصفار خراسان، وأنه لا دافع له عن خراسان، إذ كان عمرو قد أسر، ولا عمل للسلطان به؛ فلما صار إلى جرجان واستقر به كتب إليه يسأله الرجوع إلى طبرستان، وترك جرجان له، فأبى عليه ابن زيد، فنذب إسماعيل - فيما ذكر لي - خليفة كان يرفع بن هرثمة أيام ولاية رافع خراسان يدعى محمد بن هارون، لحرب محمد بن زيد، فانتدب له، فضم إليه جمعًا كثيرًا من رجاله وجنده، ووجهه إلى ابن زيد لحربه، فشخص محمد بن هارون نحو ابن زيد، فالتقيا على باب جرجان، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم عسكر محمد بن هارون.
ثم إن محمد بن هارون رجع، وقد انتفضت صفوف العلوي، فانهزم عسكر محمد بن زيد، وولوا هاربين، وقتل منهم - فيما ذكر - بشر كثير، وأصابت ابن زيد ضربات، وأسر ابنه زيد، وحوى محمد بن هارون عسكره وما كان فيه.
ثم مات محمد بن زيد بعد هذه الوقعة بأيام من الضربات التي كانت فيه، فدفن على باب جرجان، وحمل ابنه زيد إلى إسماعيل بن أحمد وشخص محمد بن هارون إلى طبرستان.
وفي يوم السبت لاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة أوقع بدر غلام الطائي بالقرامطة على غرة منهم بنواحي روذميستان وغيرها، فقتل منهم - فيما ذكر - مقتلة عظيمة، ثم تركهم خوفًا على السواد أن يخرب؛ إذ كانوا فلاحية وعماله، وطلب رؤساءهم في أماكنهم، فقتل من ظفر به منهم؛ وكان السلطان قد قوى بدرًا بجماعة من جنده وغلمانه بسببهم للحدث الذي كان منهم.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن عبد الله بن داود.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من ورد الخبر على السلطان - فيما ذكر - بوقوع الوباء بأذربيجان، فمات منه خلق كثير إلى أن فقد الناس ما يكفنون به الموتى، فكفنوا في الأكسية واللبود، ثم صاروا إلى أن لم يجدوا من يدفن الموتى، فكانوا يتركونهم مطروحين في الطرق.
وفيها دخل أصحاب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث فارس، وأخرجوا منها عمال السلطان، وذلك لاثنتي عشرة بقيت من صفر منها.
وفيها توفي محمد بن أبي الساج الملقب بأذربيجان، فاجتمع غلمانه وجماعة من أصحابه، فأمروا عليهم ديوداد بن محمد، واعتزلهم يوسف بن أبي الساج لهم.
ولليلتين بقيتا من شهر ربيع الآخر ورد كتاب صاحب البريد بالأهواز، يذكر فيه أن أصحاب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث صاروا إلى سنبيل يريدون الأهواز.
وفي أول جمادى الأولى أدخل عمرو بن الليث عبد الله بن الفتح - الموجه كان إلى إسماعيل بن أحمد - بغداد وأشناس غلام إسماعيل بن أحمد.
وذكر لي أن إسماعيل بن أحمد خيره بين المقام عنده أسيرًا وبين توجيهه إلى باب أمير المؤمنين، فاختار توجيهه فوجهه.
ولليلتين خلتا من جمادى الآخرى، ورد - فيما ذكر - كتاب صاحب البريد الأهواز منها، يذكر أن كتاب إسماعيل بن أحمد ورد على طاهر بن محمد بن عمرو يعلمه أن السلطان ولاه سجستان، وأمره بالخروج إليها، وأنه خارج إليه إلى فارس ليوقع به، ثم ينصرف إلى سجستان، وأن طاهرًا خرج لذلك، وكتب إلى ابن عمه وكان مقيمًا بأرجان في عسكره يأمره بالإنصراف إليه إلى فارس بمن معه.
وفيها ولى المعتضد مولاه بدرًا فارس، وأمره بالشخوص إليها لما بلغه من تغلب طاهر بن محمد عليها، وخلع عليه لتسع خلون من جمادى الآخرة، وضم إليه جماعة من القواد، فشخص في جيش عظيم من الجند والغلمان.
ولعشر خلون من جمادى الآخرة منها خرج عبد الله بن الفتح وأشناس غلام إسماعيل إلى إسماعيل بن أحمد بن سامان بخلع من المعتضد حملها إليه وببدنه وتاج وسيف من ذهب، مركب على جميع ذلك جوهر وبهدايا وثلاثة آلاف ألف درهم، يفرقها في جيش من جيوش خراسان، يوجه إلى سجستان لحرب من بها من أصحاب طاهر بن محمد بن عمرو.
وقد قيل: إن المال الذي وجهه إليه المعتضد كان عشرة آلاف ألف درهم، وجه ببعض ذلك من بغداد، وكتب بباقيه إلى عمال الجبل، وأمروا أن يدفعوه إلى الرسل.
وفي رجب منها وصل بدر مولى المعتضد إلى ما قرب من أرض فارس، فتنحى عنها من كان بها من أسباب طاهر بن محمد بن عمرو، فدخلها أصحاب بدر، وجي عماله الخراج به.
ولليلتين خلتا من شهر رمضان منها، ذكر أن كتاب بن حاج عامل مكة ورد يذكر فيه أن بني يعفر أوقعوا برجل كان تغلب على صنعاء، وذكر أنه علوي وأنهم هزموه، فلجأ إلى مدينة تحصن بها، فصاروا إليه فأوقعوا به، فهزموه أيضًا، وأسروا ابنًا له، وأفلت هو في نحو من خمسين نفسًا، ودخل بنو يعفر صنعاء وخطبوا بها للمعتضد.
وفيها أوقع يوسف بن أبي الساج وهو في نفر يسير بابن أخيه ديوداد بن محمد، ومعه جيش أبيه محمد بن أبي الساج، فهرب عسكره، فبقي ديوداد في جماعة قليلة، فعرض عليه يوسف المقام معه، فأبى وأخذ طريق الموصل فوافى بغداد يوم الخميس لسبع بقين من شهر رمضان من هذه السنة، فكانت الوقعة بينهما بناحية أذربيجان.
وفيها غزا نزار بن محمد عامل الحسن بن علي كوره الصائفة، ففتح حصونًا كثيرة للروم، وأدخل طرسوس مائة علج ونيفًا وستين علجًا من القوامسة والشمامسة وصلبانًا كثيرًا وأعلامًا لهم، فوجهها كروه إلى بغداد.
ولاثنتي عشرة خلت من ذي الحجة وردت كتب التجار من الرقة أن الروم وافت في مراكب كثيرة، وجاء قوم منهم على الظهر إلى ناحية كيسون، فاستاقوا من المسلمين أكثر من خمسة عشر ألف نفس إنسان؛ ما بين رجل وامرأة وصبي، فمضوا بهم، وأخذوا فيهم قومًا من أهل الذمة.
وفيها قرب أصحاب أبي سعيد الجنابي من البصرة، واشتد جزع أهل البصرة منهم حتى هموا بالهرب منها والنقلة عنها، فمنعهم من ذلك واليهم.
وفي آخر ذي الحجة منها قتل وصيف خادم ابن أبي الساج، فحملت جثته فصلبت في الجانب الشرقي.
وقيل إنه مات ولم يقتل، فلما مات احتز رأسه.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد المكنى أبا بكر.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائتين
ذكر الخبر عن الكائن فيها من الأمور
فمن ذلك ما كان من انتشار القرامطة بسواد الكوفة، فوجه إليهم شبل غلام أحمد بن محمد الطائي، وتقدم إليه في طلبهم، وأخذ من ظفر به منهم وحملهم إلى باب السلطان.
وظفر برئيس لهم يعرف بابن أبي فوارس، فوجه به معهم، فدعا به المعتضد لثمان بقين من المحرم، فساءله، ثم أمر به فقلعت أضراسه، ثم خلع بمد إحدى يديه - فيما ذكر - ببكرة، وعلق في الأخرى صخرة، وترك على حالة تلك من نصف النهار إلى المغرب، ثم قطعت يداه ورجلاه من غد ذلك اليوم، وضربت عنقه، وصلب بالجانب الشرقي، ثم حملت جثته بعد أيام إلى الياسرية، فصلب مع من صلب هنالك من القرامطة.
ولليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، أخرج من كانت له دار وحانوت بباب الشماسية عن داره وحانوته، وقيل لهم: خذوا أقفاصكم واخرجوا؛ وذلك أن المعتضد كان قد قدر أن يبني لنفسه دارًا يسكنها، فخط موضع السور، وحفر بعضه، وابتدأ في بناء دكة على دجلة، كان المعتضد أمر ببنائها لينتقل فيقيم فيها إلى أن يفرغ من بناء الدار والقصر.
وفي ربيع الآخر منها ليلة الأمير توفي المعتضد، فلما كان في صبيحتها أحضر دار السلطان يوسف بن يعقوب وأبو خازم عبد الحميد بن عبد العزيز وأبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب، وحضر الصلاة عليه الوزير القاسم بن عبيد الله بن سليمان، وأبو خازم وأبو عمر والحرم والخاصة، وكان أوصى أن يدفن في دار محمد بن عبد الله بن طاهر، فحفر له فيها، فحمل من قصره المعروف بالحسنى ليلًا، فدفن في قبره هنالك.
ولسبع بقين من شهر ربيع الآخر من هذه السنة - وهي سنة تسع وثمانين ومائتين - جلس القاسم بن عبيد الله بن سليمان في دار السلطان في الحسنى، وأذن للناس، فعزوه بالمعتضد، وهنئوه بما جدد له من أمر المكتفي، وتقدم إلى الكتاب والقواد في تجديد البيعة للمكتفي بالله، فقبلوا.
خلافة المكتفي بالله
ولما توفي المعتضد القاسم بن عبيد الله بالخبر إلى المكتفي كتبًا، وأنفذها من ساعته؛ وكان المكتفي مقيمًا بالرقة، فلما وصل الخبر إليه أمر الحسين بن عمرو النصراني كاتبه يومئذ بأخذ البيعة على من في عسكره، ووضع العطاء لهم، ففعل ذلك الحسين، ثم خرج شاخصًا من الرقة إلى بغداد، ووجه إلى النواحي بديار ربيعة وديار مضر ونواحي المغرب من يضبطها.
وفي يوم الثلاثاء لثمان خلون من جمادى الأولى دخل المكتفى إلى داره بالحسني؛ فلما صار إلى منزله، أمر بهدم المطامير التي كان أبوه اتخذها لأهل الجرائم.
وفي هذا اليوم كنى المكتفى بلسانه القاسم بن عبيد الله وخلع عليه.
وفي هذا اليوم مات عمرو بن الليث الصفار، ودفن في غد هذا اليوم بالقرب بالقرب من القصر الحسني، وقد كان المعتضد - فيما ذكر - عند موته بعد ما امتنع من الكلام أمر صافيًا الحرمي بقتل عمرو بالإيماء والإشارة، ووضع يده على رقبته وعلى عينه، أراد ذبح الأعور فلم يفعل ذلك صافي لعلمه بحال المعتضد وقرب وفاته، وكره قتل عمرو، فلما دخل المكتفى بغداد سأل - فيما قيل - القاسم بن عبيد الله عن عمرو: أحي هو؟ قال: نعم، فسر بحياته.
وذكر أنه يريد أن يحسن إليه، وكان عمرو يهدى إلى المكتفى ويبره برًا كثيرًا أيام مقامه بالرى فأراد مكافأته، فذكروا أن القاسم بن عبيد الله كره ذلك، ودس إلى عمرو من قتله.
وفي رجب منها ورد الخبر لأربع بقين منه أن جماعة من أهل الرى كاتبوا محمد بن هارون الذي كان إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان استعمله على طبرستان بعد قتله محمد بن زيد العلوي، فخلع محمد بن هارون وبيض، فسألوه المصير إلى الرى ليدخلوه إليها؛ وذلك أن أوكر تمش التركي المولي عليهم كان - فيما ذكر - قد أساء السيرة فيهم، فحاربه، فهزمه محمد بن هارون وقتله، وقتل ابنين له وقائدًا من قواد السلطان يقال له أبرون أخو كيغلغ، ودخل محمد بن هارون الرى واستولى عليها.
وفي رجب من هذه السنة زلزلت بغداد، ودامت الزلزلة فيها أيامًا وليالي كثيرة.
ذكر الخبر عن مقتل بدر غلام المعتضد
وفي هذه السنة كان مقتل بدر غلام المعتضد.
ذكر سبب قتله
ذكر أن سبب ذلك كان أن القاسم بن عبيد الله كان هم بتصيير الخلافة من بعد المعتضد في غير ولد المعتضد، وأنه كان ناظر بدرًا في ذلك، فامتنع بدر عليه وقال: ما كنت لأصرفها عن ولد مولاي الذي هو ولي نعمتي فلما رأى القاسم ذلك وعلم أنه لا سبيل إلى مخالفة بدر؛ إذ كان بدر صاحب جيش المعتضد، والمستولي على أمره، والمطاع في خدمه وغلمانه، اضطغنها على بدر.
وحدث بالمعتضد حدث الموت وبدر بفارس، فعقد القاسم للمكتفى عقد الخلافة، وبايع له وهو بالرقة، لما كان بين المكتفى وبين بدر من التباعد في حياة والده.
وكتب القاسم إلى المكتفى لما بايع غلمان أبيه له بالخلافة، وأخذ عليهم البيعة بما فعل من ذلك، فقدم بغداد المكتفى وبدر بعد بفارس، فلما قدمها القاسم في هلاك بدر؛ حذرًا على نفسه - فيما ذكر - من بدر أن يقدم على المكتفى، فيطلعه على ما كان القاسم هم به، وعزم عليه في حياة المعتضد من صرف الخلافة عن ولد المعتضد إذا مات.
فوجه المكتفى - فيما ذكر - محمد بن كمشجور وجماعة من القواد برسائل، وكتب إلى القواد الذين مع بدر يأمرهم بالمصير إلى ما قبله ومفارقة بدر وتركه، فأوصلت الكتب إلى القواد في شر، ووجه إليه يانس خادم الموفق، ومعه عشرة آلاف ألف درهم ليصرفها في عطاء أصحابه لبيعة المكتفى، فخرج بها يانس.
فذكر أنه لما صار بالأهواز، وجه إليه بدر من قبض المال منه فرجع يانس إلى مدينة السلام؛ فلما وصلت كتب المكتفى إلى القواد المضمومين إلى بدر، فارق بدرًا جماعة منهم، وانصرفوا عنه إلى مدينة السلام؛ منهم العباس بن عمرو الغنوي وخاقان المفلحي ومحمد بن إسحاق بن كنداج وخفيف الأذكوتكيني وجماعة غيرهم.
فلما صاروا إلى مدينة السلام دخلوا على المكتفى، فخلع - فيما ذكر - على نيف وثلاثين رجلًا منهم، وأجاز جماعة من رؤسائهم؛ كل رجل منهم بمائة ألف درهم، وأجاز آخرين بدون ذلك، وخلع على بعضهم، ولم يجزه بشيء.
وانصرف بدر في رجب؛ عامدًا المصير إلى واسط.
واتصل بالمكتفى إقبال بدر إلى واسط، فوكل بدار بدر، وقبض على جماعة من غلمانه وقواده؛ فحبسوا، منهم نحرير الكبير، وعريب الجبلي، ومنصور، ابن أخت عيسى النوشري.
وأدخل المكتفي على نفسه القواد، وقال لهم: لست أؤمر عليكم أحدًا، ومن كانت له منكم حاجة فليلق الوزير، فقد تقدمت إليه بقضاء حوائجكم.
وأمر بمحو اسم بدر من التراس والاعلام، وكان عليها مولى المعتضد بالله، وكتب بدر إلى المكتفى كتابًا دفعه إلى زيدان السعيدي، وحمله على الجمازات.
فلما وصل الكتاب إلى المكتفى أخذه، ووكل بزيدان هذا، وأشخص الحسن بن علي كوره في جيش إلى ناحية واسط.
وذكر أنه قدمه المكتفى على مقدمته.
ثم أحدر محمد بن يوسف مع المغرب لليلة بقيت من شعبان من هذه السنة برسالة إلى بدر، وكان المكتفى أرسل إلى بدر حين فصل من عمل فارس يعرض عليه ولاية أي النواحي شاء؛ إن شاء أصبهان وإن شاء الرى، وإن شاء الجبال، ويأمره بالمصير إلى حيث أحب من هذه النواحي مع من أحب من الفرسان والرجالة، يقيم بها واليًا عليها.
فأبى ذلك بدر، وقال: لا بد لي من المصير إلى باب مولاي.
فوجد القاسم بن عبيد الله مساغًا للقول فيه، وقال للمكتفى: يا أمير المؤمنين، قد عرضنا عليه أن نقلده أي النواحي شاء أن يمضي إليها، فأبى إلا المجيء إلى بابك، وخوفه غائلته، وحرض المكتفى على لقائه ومحاربته، واتصل الخبر ببدر أنه قد وكل بداره، وحبس غلمانه وأسبابه، فأيقن بالشر، ووجه من يحتال في تخليص ابنه هلال وإحداره إليه، فوقف القاسم بن عبيد الله على ذلك، فأمر بالحفظ به، ودعا أبا خازم القاضي على الشرقية وأمره بالمضي إلى بدر ولقائه وتطييب نفسه وإعطائه الأمان من أمير المؤمنين، على نفسه وماله وولده، فذكر أن أبا خازم قال له: أحتاج سماع ذلك من أمير المؤمنين حتى أؤديه إليه عنه، فقال له: انصرف حتى أستأذن لك في ذلك أمير المؤمنين.
ثم دعا بأبي عمر محمد بن يوسف، فأمره بمثل الذي أمر به أبا خازم، فسارع إلى إجابته إلى ما أمره به، ودفع القاسم بن عبيد الله إلى أبي عمر كتاب أمان عن المكتفى، فمضى به نحو بدر، فلما فصل بدر عن واسط ارفض عنه أصحابه وأكثر غلمانه؛ مثل عيسى النوشري وختنه يانس المستأمن وأحمد بن سمعان ونحرير الصغير، صاروا إلى مضرب المكتفى في الأمان.
فلما كان بعد مضى ليلتين من شهر رمضان من هذه السنة، خرج المكتفى من بغداد إلى مضربه بنهر ديالى، وخرج معه جميع جيشه، فعسكر هنالك، وخلع على من صار إلى مضربه من الجماعة الذين سميت، وعلى جماعة من القواد والجند.
ووكل بجماعة منهم، ثم قيد تسعة منهم، وأمر بحملهم مقيدين إلى السجن الجديد؛ ولقى - فيما ذكر - أبو عمر محمد بن يوسف بدرًا بالقرب من واسط، ودفع إليه الأمان وخبره عن المكتفى بما قال له القاسم بن عبيد الله، فصاعد معه في حراقة بدر، وكان قد سيره في الجانب الشرقي وغلمانه الذين بقوا معه في جماعة من الجند وخلق كثير من الأكراد وأهل الجبل يسيرون معه بمسيرة على شط دجلة، فاستقر الأمر بين بدر وأبي عمر على أن يدخل بدر بغداد سامعًا ومطيعًا، وعبر بدر دجلة، فصار إلى النعمانية، وأمر غلمانه وأصحابه الذين يقوا معه أن ينزعوا سلاحهم، وألا يحاربوا أحدًا، وأعلمهم ما ورد به عليه أبو عمر من الأمان؛ فبينا هو يسير إذ وافاه محمد بن إسحاق بن كنداج في شذًا، ومعه جماعة من الغلمان، فتحول إلى الحراقة، وسأله بدر عن الخبر، فطيب نفسه، وقال له قولًا جميلًا، وهم في كل ذلك يؤمرونه؛ وكان القاسم بن عبيد الله وجهه، وقال له: إذا اجتمعت مع بدر، وصرت معه في موضع واحد؛ فأعلمني.
فوجه القاسم، وأعلمه؛ فدعا القاسم بن عبيد الله لؤلؤًا أحد غلمان السلطان، فقال له: قد ندبتك لأمر، فقال: سمعًا وطاعة؛ فقال له: امض وتسلم بدرًا من ابن كنداجيق، وجئني برأسه.
فمضى في طيار حتى استقبل بدرًا ومن معه بين سيب بني كوما وبين اضطربد، فتحول من الطيار إلى الحراقة، وقال لبدر: قم، فقال: وما الخبر؟ قال: لا بأس عليك، فحوله إلى طياره، ومضى به حتى صار به إلى جزيرة بالصافية، فأخرجه إلى الجزيرة، وخرج معه، ودعا بسيف كان معه فاستله، فلما أيقن بدر بالقتل سأله أن يمهله حتى يصلي ركعتين، فأمهله، فصلاهما، ثم قدمه فضرب عنقه، وذلك في يوم الجمعة قبل الزوال لست خلون من شهر رمضان، ثم أخذ رأسه ورجع إلى طياره؛ وأقبل راجعًا إلى معسكر المكتفى بنهر ديالى ورأس بدر معه، وتركت جثته مكانها، فبقيت هنالك.
ثم وجه عياله من أخذ جثته سرًا، فجعلها في تابوت، وأخفوها عندهم، فلما كان أيام الموسم حملوها إلى مكة، فدفنوها بها - فيما قيل - وكان أوصى بذلك، وأعتق قبل أن يقتل مماليكه كلهم، وتسلم السلطان ضياع بدر ومستغلاته ودوره وجميع ماله بعد قتله.
وورد الخبر على المكتفى بما كان من قتل بدر، لسبع خلون من شهر رمضان من هذه السنة، فرحل منصرفًا إلى مدينة السلام، ورحل معه من كان معه من الجند، وجيء برأس بدر إليه، فوصل إليه قبل ارتحاله من موضع معسكره، فأمر به فنظف، ورفع في الخزانة، ورجع أبو عمر القاضي إلى داره يوم الاثنين كئيبًا حزينًا، لما كان منه في ذلك، وتكلم الناس فيه، وقالوا: هو السبب في قتل بدر، وقالوا فيه أشعارًا، فمما قيل فيه منها:
قل لقاضي المدينة المنصور ** بم أحللت أخذ رأس الأمير!
بعد إعطائه المواثيق والعه ** د وعقد الأيمان في منشور
أين أيمانك التي شهد الل ** ه على أنها يمين فجور
أن كفيك لا تفارق كفي ** ه إلى أن ترى مليك السرير
يا قليل الحياء يا أكذب الأ ** مة يا شاهدًا شهادة زور
ليس هذا فعل القضاة ولا يح ** سن أمثاله ولاة الجسور
أي أمر ركبت في الجمعة الزه ** راء من شهر خير خير الشهور
قد مضى من قتلت في رمضان ** صائمًا بعد سجدة التعفير
يا بني يوسف بن يعقوب أضحى ** أهل بغداد منكم في غرور
بدد الله شملكم وأراني ** ذلكم في حياة هذا الوزير
فأعد الجواب للحكم العا ** دل من بعد منكر ونكير
أنتم كلكم فدا لأبي خا ** زم المستقيم كل الأمور
ولسبع خلون من شهر رمضان، حمل زيدان السعيدي الذي كان قدم رسولًا من قبل بدر إلى المكتفى مع التسعة الأنفس الذين قيدوا من قواد بدر، وسبعة أنفس أخر من أصحاب بدر قبض عليهم بعدهم في سفينة مطبقة عليهم، وأحدروا مقيدين إلى البصرة، فحبسوا في سجنها.
وذكر أن لؤلؤًا الذي ولى قتل بدر غلامًا من غلمان محمد بن هارون الذي قتل محمد بن زيد بطبرستان وأكرتمش بالرى، قدم مع جماعة من غلمان محمد بن هارون على السلطان في الأمان.
وفي ليلة الاثنين لأربع عشرة بقيت من شهر رمضان منها قتل عبد الواحد بن أبي أحمد الموفق - فيما ذكر - وكانت والدته - فيما قيل - وجهت معه إلى دار مؤنس لما قبض عليه دابة له، ففرق بينه وبين الداية فمكثت يومين أو ثلاثة، ثم صرفت إلى منزل مولاتها، فكانت والدة عبد الواحد إذا سألت عن خبره قيل لها: إنه في دار المكتفى؛ وهو في عافية.
وكانت طامعة في حياته، فلما مات المكتفى أيست منه وأقامت عليه مأتمًا.
ذكر باقي الكائن من الأمور الجليلة في سنة تسع وثمانين ومائتين
فمما كان من ذلك فيها لتسع بقين من شعبان منها، ورد كتاب من إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان على السلطان بخبر وقعة كانت بين أصحابه وبين ابن جستان الديملي بطبرستان، وأن أصحابه هزموه، وقرىء بذلك كتابه بمسجدي الجامع ببغداد.
وفيها لحق رجل يقال له إسحاق الفرغاني من أصحاب بدر لما قتل بدر إلى ناحية البادية في جماعة من أصحابه على الخلاف على السلطان؛ فكانت بينه هنالك وبين أبي الأغر وقعة، هزم فيها أبو الأغر، وقتل من أصحابه ومن قواده عدة، ثم أشخص مؤنس الخازن في جمع كثيف إلى الكوفة لحرب إسحاق الفرغاني.
ولسلخ ذي القعدة خلع على خاقان المفلحي، وولى معونة الرى، وضم إليه خمسة آلاف رجل.
وفيها ظهر بالشام رجل جمع جموعًا كثيرة من الأعراب وغيرهم، فأتى بهم دمشق، وبها طغج بن جف من قبل هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون على المعونة، وذلك في آخر هذه السنة، فكانت بين طغج، وبينه وقعات كثيرة قتل فيها - فيما ذكر - خلق كثير.
ذكر خبر هذا الرجل الذي ظهر بالشام وما كان من سبب ظهوره بها
ذكر أن زكرويه بن مهرويه الذي ذكرنا أنه كان داعيًا قرمط لما تتابع من المعتضد توجيه الجيوش إلى من بسواد الكوفة من القرامطة، وألح في طلبهم، وأثخن فيهم القتلى، ورأى أنه لا مدفع عن أنفسهم عند أهل السواد ولا غناء، سعى في استغواء من قرب من الكوفة من أعراب أسد وطييء وتميم وغيرهم من قبائل الأعراب، ودعاهم إلى رأيه؛ وزعم لهم أن من بالسواد من القرامطة يطابقونهم على أمره إن استجابوا له.
فلم يستجيبوا له، وكانت جماعة من كلب تخفر الطريق على البر بالسماوة فيما بين الكوفة ودمشق على طريق تدمر وغيرها، وتحمل الرسل وأمتعة التجار على إبلها، فأرسل زكرويه أولاده إليهم، فبايعوهم وخالطوهم، وانتموا إلى علي بن أبي طالب وإلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، وذكروا أنهم خائفون من السلطان، وأنهم ملجئون إليهم، فقبلوهم على ذلك، ثم دبوا فيهم بالدعاء إلى رأى القرامطة؛ فلم يقبل ذلك أحد منهم - أعني من الكلبيين - إلا الفخذ المعروفة ببني العليص ابن ضمضم بن عدي بن جناب ومواليهم خاصة، فبايعوا في آخر سنة تسع وثمانين ومائتين بناحية السماوة ابن زكرية المسمى بيحيى والمكنى أبا القاسم، ولقبوه الشيخ، على أمر احتال فيهم، ولقب به نفسه، وزعم لهم أنه أبو عبد الله ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد.
وقد قيل إنه زعم أنه محمد بن عبد الله بن يحيى.
وقيل إنه زعم أنه محمد ابن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب.
وقيل إنه لم يكن لمحمد بن إسماعيل ابن يسمى عبد الله، وزعم لهم أن أباه المعروف بأبي محمود داعية له، وأن له بالسواد والمشرق والمغرب مائة ألف تابع، وأن ناقته التي يركبها مأمورة، وأنهم إذا اتبعوها في مسيرها ظفروا.
وتكهن لهم، وأظهروا عضدًا له ناقصة، وذكر أنها آية، وانحارت إليه جماعة من بني الأصبغ، وأخلصوا له وتسموا بالفاطميين، ودانوا بدينه، فقصدهم سبك الديلمي مولى المعتضد بالله بناحية الرصافة في غربي الفرات من ديار مضر، فاغتروه وقتلوه، وحرقوا مسجد الرصافة، واعترضوا كل قرية اجتازوا بها حتى أصعدوا إلى أعمال الشأم التي كان هارون بن خمارويه قوطع عليها، وأسند أمرها هارون إلى طغج بن جف، فأناح عليها وهزم كل عسكر لقيه لطغج حتى حصره في مدينة دمشق، فأنفذ المصريون إليه بدرًا الكبير غلام ابن طولون، فاجتمع مع طغج على محاربته، فواقعوهم قريبًا من دمشق، فقتل الله عدو الله يحيى بن زكرويه.
وكان سبب قتله - فيما ذكر - أن بعض البرابرة زرقه بمزراق واتبعه نفاط، فزرقه بالنار فأحرقه؛ وذلك في كبد الحرب وشدتها، ثم دارت على المصريين الحرب، فانحازوا، فاجتمعت موالى بني العليص إلى بني العليص ومن معهم من الأصبغيين وغيرهم على نصب الحسين بن زكرويه أخي الملقب بالشيخ فنصبوا أخاه، وزعم لهم أنه أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر ابن محمد، وهو ابن نيف وعشرين سنة، وقد كان الملقب بالشيخ حمل موالى بني العليص على صريحهم، فقتلوا جماعة منهم، واستذلوهم، فبايعوا الحسين ابن زكرويه المسمى بأحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بعد أخيه، فأظهر شامة في وجهه ذكر أنها آيته، وطرأ إليه ابن عمه عيسى بن مهرويه المسمى عبد الله، وزعم أنه عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد، فلقبه المدثر، وعهد إليه؛ وذكر أنه المعنى في السورة التي يذكر فيها المدثر، ولقب غلامًا من أهله المطوق، وقلده قتل أسرى المسلمين، وظهر على المصريين، وعلى جند حمص وغيرها من أهل الشأم، وتسمى بأمره المؤمنين على منابرها، وكان ذلك كله في سنة تسع وثمانين، وفي سنة تسعين.
وفي اليوم التاسع من ذي الحجة من هذه السنة صلى الناس في قمص الصيف ببغداد، فهبت ريح الشمال عند العصر، فبرد الهواء حتى احتاج الناس بها من شدة البرد إلى الوقود والاصطلاء بالنار، ولبس المحشو والجباب، وجعل البرد حتى جمد الماء.
وفيها كانت وقعة بين إسماعيل بن أحمد بالرى ومحمد بن هارون وابن هارون - فيما قيل - حينئذ في نحو من ثمانية آلاف، فانهزم محمد بن هارون وتقدم أصحابه، وتبعه من أصحابه نحو من ألف، ومضوا نحو الديلم، فدخلها مستجيرًا بها، ودخل إسماعيل بن أحمد الرى، وصار زهاء ألف رجل - فيما ذكر - ممن انهزم من أصحابه إلى باب السلطان.
وفي جمادى الآخرة منها لأربع خلون منها ولي القاسم بن سيما غزو الصائفة بالثغور الجزرية، وأطلق له من المال اثنا وثلاثون ألف دينار.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
ثم دخلت سنة تسعين ومائتين
ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها
فمما كان فيها من ذلك التوجيه المكتفى رسولًا إلى إسماعيل بن أحمد لليلتين خلتا من المحرم منها بخلع، وعقد ولاية له على الرى، وبهدايا مع عبد الله ابن الفتح.
ولخمس بقين من المحرم منها ورد - فيما ذكر - كتاب علي بن عيسى من الرقة، يذكر فيه أن القرمطي بن زكرويه المعروف بالشيخ، وافى الرقة في جمع كثير، فخرج إليه جماعة من أصحاب السلطان ورئيسهم سبك غلام المكتفى، فواقعوه، فقتل سبك، وانهزم أصحاب السلطان.
ولست خلون من شهر ربيع الآخر ورد الخبر بأن طغج بن جف أخرج من دمشق جيشًا إلى القرمطي، عليهم غلام له يقال له بشير، فواقعوهم القرمطي، فهزم الجيش وقتل بشيرًا.
ولئلات عشرة بقيت من شهر ربيع الآخر خلع على أبي الأغر ووجه به لحرب القرمطي بناحية الشأم، فمضى إلى حلب في عشرة آلاف رجل.
ولإحدى عشرة بقيت من شهر ربيع لآخر على أبي العشائر أحمد بن نصر وولي طرسوس، وعزل عنها مظفر بن حاج لشكاية أهل الثغور إياه.
وللنصف من جمادى الأولى من هذه السنة، وردت كتب التجار إلى بغداد من دمشق مؤرخه لسبع بقين من ربيع الآخر يخبرون فيها أن القرمطي الملقب بالشيخ قد هزم طغج غير مرة، وقتل أصحابه إلا القليل، وأنه قد بقي في قلة، وامتنع من الخروج، وإنما تجتمع العامة، ثم تخرج للقتال، وأنهم قد أشرفوا على الهلكة، فاجتمعت جماعة من تجار بغداد في هذا اليوم، فمضوا إلى يوسف بن يعقوب، فأقرءوه كتبهم، وسألوه المضى إلى الوزير ليخبره خبر أهل دمشق، فوعدهم ذلك.
ولسبع بقين من جمادى الأولى أحضر دار السلطان أبو خازم ويوسف وابنه محمد، وأحضر صاحب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث، فقوطع على مال فارس، ثم عقد المكتفى لطاهر على أعمال فارس، وخلع على صاحبه، وحملت إليه خلع مع العقد.
وفي جمادى الأولى هرب من مدينة السلام القائد المستأمن المعروف بأبي سعيد الخوارزمي، وأخذ نحو طريق الموصل، فكتب إلى عبد الله المعروف بغلام نون، وكان يتقلد المعاون بتكريت والأعمال المتصلة بها إلى حد سامرا وإلى الموصل في معارضته وأخذه، فزعموا أن عبد الله عارضه، فاختدعه أبو سعيد حتى اجتمعا جميعًا على غير حرب، ففتك به أبو سعيد فقتله، ومضى أبو سعيد نحو شهرزور، فاجتمع هو وابن أبي الربيع الكردي، وصاهره، واجتمعا على عصيان السلطان.
ثم إن أبا سعيد قتل بعد ذلك، وتفرق من كان اجتمع إليه.
ولعشر خلون من جمادى الآخرة، شخص أبو العشائر إلى عمله بطرسوس، وخرج معه جماعة من المطوعة للغزو، ومعه هدايا من المكتفى إلى ملك الروم.
ولعشر بقين من جمادى الآخرة خرج المكتفى بعد العصر عامدًا سامرا، مريدًا البناء بها للانتقال إليها، فخلع يوم الخميس لخمس بقين من جمادى الآخرة، ثم انصرف إلى مضارب قد ضربت له بالجوسق، فدعا القاسم بن عبيد الله والقوام بالبناء، فقدروا له البناء وما يحتاج إليه من المال للنفقة عليه، فكثروا عليه في ذلك، وطولوا مدة الفراغ مما أراد بناءه، وجعل القاسم يصرفه عن رأيه في ذلك، ويعظم أمر النفقة في ذلك وقدر مبلغ المال، فثناه عن عزمه، ودعا بالغداء، فتغدى ثم نام، فلما هب من نومه ركب إلى الشط، وقعد في الطيار، وأمر القاسم بن عبيد الله بالانحدار.
ورجع أكثر الناس من الطريق قبل أن يصلوا إلى سامرا حين تلقاهم الناس راجعين.
ولسبع خلون من رجب خلع على ابني القاسم بن عبيد الله، فولى الأكبر منهما ضياع الولد والحرم والنفقات، والأصغر منهما كتبة أبي أحمد بن المكتفى؛ وكانت هذه الأعمال إلى الحسين بن عمرو النصراني، فعزل بهما، وكان القاسم بن عبيد الله اتهم الحسين بن عمرو أنه قد سعى به إلى المكتفى.
ثم إن الحسين بن عمرو كاشف القاسم بن عبيد الله بحضرة الله المكتفى، فلم يزل القاسم يدبر عليه، ويغلظ قلب المكتفى عليه، حتى وصل إلى ما أراد من أمره.
وفي يوم الجمعة لأربع عشرة بقيت من شعبان قرىء كتابان في الجامعين بمدينة السلام بقتل يحيى بن زكرويه الملقب بالشيخ، قتله المصريون على باب دمشق؛ وكانت الحرب اتصلت بينه وبين من حاربه من أهل دمشق وجندها ومددهم من أهل مصر، وكسر لهم جيوشًا، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وكان يحيى بن زكرويه هذا يركب برجاله، ويلبس ثيابًا واسعة ويعتم عمه أعرابية، ويلتثم، ولم يركب دابة من لدن ظهر إلى أن قتل، وأمر أصحابه ألا يحاربوا أحدًا؛ وإن أتى عليهم حتى يبتعث الجمل من قبل نفسه؛ وقال لهم: إذا فعلتم ذلك لم تهزموا.
وذكر أنه كان إذا أشار بيده إلى ناحية من النواحي التي فيها محاربوه، انهزم أهل الناحية، فاستغوى بذلك الأعراب، ولما كان في اليوم الذي قتل فيه يحيى بن زكرويه الملقب بالشيخ، وانحازوا إلى أخيه الحسين بن زكرويه، فطلب أخاه الشيخ في القتلى، فوجده، فواراه وعقد الحسين بن زكرويه لنفسه، وتسمى بأحمد بن عبد الله، وتكنى بأبي العباس.
وعلم أصحاب بدر بعد ذلك بقتل الشيخ، فطلبوه في القتلى فلم يجدوه، ودعا الحسين بن زكرويه إلى مثل ما دعا إليه أخوه أكثر أهل البوادي وغيرهم من سائر الناس، واشتدت شوكته وظهر.
وصار إلى دمشق، فذكر أن أهلها صالحوه على خراج دفعوه إليه، ثم انصرف عنهم، ثم سار إلى أطراف حمص، فتغلب، عليها، وخطب له على منابرها، وتسمى بالمهدي، ثم سار إلى مدينة حمص، فأطاعه أهلها، وفتحوا له بابها خوفًا منه على أنفسهم فدخلها، ثم سار منها إلى حماة ومعرة النعمان وغيرهما، فقتل أهلها، وقتل النساء والأطفال ثم سار إلى بعلبك فقتل عامة أهلها حتى لم يبق منهم - فيما قيل - إلا اليسير، ثم سار إلى سلمية فحاربه أهلها ومنعوه الدخول، ثم وادعهم وأعطاهم الأمان، ففتحوا له بابها، فدخلها، فبدأ بمن فيها من بني هاشم، وكان بها منهم جماعة فقتلهم، ثم ثني بأهل سلمية فقتلهم أجمعين.
ثم قتل البهائم، ثم قتل صبيان الكتاتيب، ثم خرج منها؛ وليس بها عين تطرف - فيما قيل - وسار فيها حوالي ذلك من القرى يقتل ويسبي ويحرق ويخيف السبيل.
فذكر عن متطبب بباب المحول يدعى أبا الحسن أنه قال: جاءتني امرأة بعد ما أدخل القرمطي صاحب الشامة وأصحابه بغداد، فقالت لي: إني أريد أن تعالج شيئًا في كتفي، قلت: وما هو؟ قالت: جرح، قلت: أنا كحال؛ وها هنا امرأة تعالج النساء، وتعالج الجراحات، فانظري مجيئها.
فقعدت، ورأيتها مكروبة كئيبة باكية، فسألتها عن حالها، وقلت: ما سبب جراحتك؟ فقالت: قصتي تطول، فقلت: حدثني بها وصادقني، وقد خلا من كان عندي، فقالت: كان لي ابن غاب عني، وطالت غيبته، وخلف علي أخوات له، فضقت واحتجت.
واشتقت إليه، وكان شخص إلى ناحية الرقة، فخرجت إلى الموصل وإلى بلد وإلى الرقة؛ كل ذلك أطلبه، وأسأل عنه؛ فلم أدل عليه، فخرجت عن الرقة في طلبه، فرقعت في عسكر القرمطي، فجعلت أطوف وأطلبه؛ فبينا أنا كذلك إذ رأيته فتعلقت به، فقلت: ابني! فقال: أمي! فقلت: نعم، قال ما فعل أخواتي؟ قلت: بخير، وشكوت ما نالنا بعده من الضيق، فمضى بي إلى منزله، وجلس بين يدي، وجعل يسائلني عن أخبارنا، فخبرته، ثم قال: دعيني من هذا وأخبريني ما دينك؟ فقلت: يا بني أما تعرفني! فقال: وكيف لا أعرفك! فقلت: ولم تسألني من ديني وأنت تعرفني وتعرف ديني! فقال: كل ما كنا فيه باطل، والدين ما نحن فيه الآن، فأعظمت ذلك وعجبت منه، فلما رآني كذلك خرج وتركني.
ثم وجه إلي بخبر ولحم وما يصلحني، وقال: اطبخيه، فتركنه ولم أمسه، ثم عاد فطبخه، وأصلح أمر منزله، فدق الباب داق؛ فخرج إليه فإذا رجل يسأله، ويقول له: هذه القادمة عليك تحسن أن تصلح من أمر النساء شيئًا؟ فسألني فقلت: نعم، فقال: امضي معي، فمضيت فأدخلني دارًا، وإذا امرأة تطلق، فقعدت بين يديها، وجعلت أكلمها، فلا تكلمني، فقال لي الرجل الذي جاء بي إليها: ما عليك من كلامها، أصلحي أمر هذه، ودعى كلامها، فأقمت حتى ولدت غلامًا، وأصلحت من شأنه، وجعلت أكلمها وأتلطف بها وأقول لها: يا هذه، لا تحتشميني؛ نقد وجب حقي عليك، أخبريني خبرك وقصتك ومن والد هذا الصبي، فقالت: تسألينني عن أبيه لتطالبيه بشيء يهبه لك! فقلت: لا، ولكن أحب أن أعلم خبرك، فقالت لي: إني امرأة هاشمية - ورفعت رأسها؛ فرأيت أحسن الناس وجهًا - وإن هؤلاء القوم أتونا، فذبحوا أبي وأمي وإخوتي وأهلي جميعًا، ثم أخذني رئيسهم فأقمت عنده خمسة أيام، ثم أخرجني، فدفعني إلى أصحابه، فقال: طهروها فأرادوا قتلي، فبكيت.
وكان بين يديه رجل من قواده، فقال: هبها لي، فقال: خذها، فأخذني، وكان بحضرته ثلاثة أنفس قيام من أصحابه، فسلوا سيوفهم، وقالوا: لا نسلمها إليك؛ وإما أن تدفعها إلينا، وإلا قتلناها.
وأرادوا قتلي، وضجوا، فدعاهم رئيسهم القرمطي، وسألهم عن خبرهم فخبروه، فقال: تكون لكم أربعتكم، فأخذوني، فأنا مقيمة معهم أربعتهم، والله ما أدرى ممن هو هذا الولد منهم! قالت: فجاء بعد المساء رجل فقالت لي: هنية فهنأته بالمولود، فأعطاني سبيكة فضة، وجاء آخر وآخر، أهنىء كل واحد منهم، فيعطيني سبيكة فضة؛ فلما كان في السحر جاء جماعة مع رجل وبين يديه شمع، وعليه ثياب خز تفوح منه رائحة المسك، فقالت لي: هنيه، فقمت إليه، فقلت: بيض الله وجهك، والحمد لله الذي رزقك هذا الابن، ودعوت له، فأعطاني سبيكة فيها ألف درهم، وبات الرجل في بيت، وبت مع المرأة في بيت، فلما أصبحت قلت للمرأة: يا هذه، قد وجب عليك حقي، فالله الله في، خلصيني! قالت: مم أخلصك؟ فخبرتها خبر ابني، وقلت لها: إني جئت راغبة إليه، وإنه قال لي كيت وكيت، وليس في يدي منه شيء، ولي بنات ضعاف خلفتهن بأسوأ حال، فخلصيني من ها هنا لأصل إلى بناتي.
فقالت: عليك بالرجل الذي جاء آخر القوم، فسليه ذلك، فإنه يخلصك.
فأقمت يومي إلى أن أمسيت؛ فلما جاء تقدمت إليه، وقبلت يده ورجله، وقلت: يا سيدي قد وجب حقي عليك، وقد أغناني الله على يديك بما أعطيتني، ولي بنات ضعفاء فقراء، فإن أذنت لي أن أمضي فأجيئك ببناتي حتى يخدمنك ويكن بين يديك! فقال: وتفعلين؟ قلت: نعم، فدعا قومًا من غلمانه.
فقال: امضوا معها حتى تبلغوا بها موضع كذا وكذا، ثم اتركوها وارجعوا. فحملوني على دابة، ومضوا بي.
قالت: فبينما نحن نسير. وإذا أنا بابني يركض، وقد سرنا عشرة فراسخ - فيما خبرني به القوم الذين معي - فلحقني وقال: يا فاعلة، زعمت أنك تمضين وتجيئين ببناتك! وسل سيفه ليضربني؛ فمنعه القوم، فلحقني طرف السيف، فوقع في كتفي، وسل القوم سيوفهم. فأرادوه، فتنحى عني.
وساروا بي حتى بلغوا بي الموضع الذي سماه لهم صاحبهم. فتركوني ومضوا، فتقدمت إلى ها هنا وقد طفت لعلاج جرحي، فوصف لي هذا الموضع، فجئت إلى ها هنا.
قالت: ولما قدم أمير المؤمنين بالقرمطي وبالأسارى من أصحابه خرجت لأنظر إليهم؛ فرأيت ابني فيهم على جمل؛ عليه برنس وهو يبكي وهو فتى شاب، فقلت له: لا خفف الله عنك ولا خلصك! قال المتطبب: فقمت معها إلى المتطببة لما جاءت، وأوصيتها بها، فعالجت جرحها وأعطتها مرهمًا، فسألت المتطببة عنها بعد منصرفها، فقالت: قد وضعت يدي على الجرح، وقلت: انفحي، فنفحت فخرجت الريح من الجرح من تحت يدي، وما أراها تبرأ منه، فمضت فلم تعد إلينا.
ولإحدى عشرة بقيت من شوال من هذه السنة، قبض القاسم بن عبيد الله على الحسين بن عمرو النصراني، وحبسه، وذلك أنه لم يزل يسعى في أمره إلى المكتفى، ويقدح فيه عنده؛ حتى أمره بالقبض عليه، وهرب كاتب الحسين ابن عمرو حين قبض على الحسين المعروف بالشيرازي، فطلب وكبست منازل جيرانه، ونودي: من وجده فله كذا وكذا، فلم يوجد.
ولسبع بقين منه صرف الحسين بن عمرو إلى منزله، على أن يخرج من بغداد.
وفي يوم الجمعة التي بعدها خرج الحسين بن عمرو وحدر إلى ناحية واسط على وجه النفي، ووجد الشيرازي كاتبه لثلاث خلون من ذي القعدة.
ولليلتين خلتا من شهر رمضان من هذه السنة أمر المكتفى بإعطاء الجند أرزاقهم والتأهب للشخوص لحرب القرمطي بناحية الشأم، فأطلق للجند في دفعة واحدة مائة ألف دينار؛ وذلك أن أهل مصر كتبوا إلى المكتفى يشكون ما لقوا ابن زكرويه المعروف بصاحب الشامة، وأنه قد أخرب البلاد، وقتل الناس، وما لقوا من أخيه قبله ومن قتلهما رجالهم، وأنه لم يبق منهم إلا العدد اليسير.
ولخمس خلون خلت من شهر رمضان أخرجت مضارب المكتفى، فضربت بباب الشماسية.
ولسبع خلون منه خرج المكتفى في السحر إلى مضربه بباب الشماسية، ومعه قواده وغلمانه وجيوشه.
ولاثني عشرة ليلة من شهر رمضان، رحل المكتفى من مضربه بباب الشماسية في السحر، وسلك طريق الموصل.
وللنصف من شهر رمضان منها مضى أبو الأغر إلى حلب، فنزل وادي بطنان قريبًا من حلب، ونزل معه جميع أصحابه، فنزع - فيما ذكر - جماعة من أصحابه ثيابهم، ودخلوا الوادي يتبر دون بمائة، وكان يومًا شديد الحر؛ فبيناهم كذلك إذ وافى جيش القرمطي المعروف بصاحب الشامة، وقد بدرهم المعروف بالمطوق، فكبسهم على تلك الحال، فقتل منهم خلقًا كثيرًا وانتهب العسكر، وأفلت أبو الأغر في جماعة من أصحابه، فدخل حلب، وأفلت معه مقدار ألف رجل، وكان في عشرة آلاف بين فارس وراجل، وكان قد ضم إليه جماعة ممن كان على باب السلطان من قواد الفراعنة ورجالهم، فلم يفلت منهم إلا اليسير.
ثم صار أصحاب القرمطي إلى باب حلب، فحاربهم أبو الأغر ومن بقي معه من أصحابه وأهل البلد، فانصرفوا عنه بما أخذوا من عسكره من الكراع والسلاح والأموال والأمتعة بعد حرب كانت بينهم، ومضى المكتفى بمن معه من الجيش حتى انتهى إلى الرقة، فنزلها، وسرح الجيوش إلى القرمطي جيشًا بعد جيش.
ولليلتين خلتا من شوال ورد مدينة السلام كتاب أبو القاسم بن عبيد الله، يخبر فيه أن كتابًا ورد عليه من دمشق من بدر الحمامي صاحب ابن طولون، يخبر فيه أنه واقع القرمطي صاحب الشامة، فهزمه ووضع في أصحابه السيف، ومضى من أفلت منهم نحو البادية، وأن أمير المؤمنين وجه في أثره الحسين بن حمدان بن حمدون وغيره من القواد.
وورد أيضًا في هذه الأيام - فيما ذكر - كتاب من البحرين من أميرها ابن بانوا، يذكر فيه أنه كبس حصنًا للقرامطة، فظفر بمن فيه.
ولثلاث عشرة خلت من ذي القعدة منها - فيما ذكر - ورد كتاب آخر من ابن بانوا من البحرين، يذكر فيه أنه واقع قرابة لأبي سعيد الجنابي، وولى عهده من بعده على أهل طاعته، فهزمه.
وكان مقام هذا المهزوم بالقطيف فوجد بعدما انهزم أصحابه قتيلًا بين القتلى، فاحتز رأسه، وأنه دخل القطيف فافتتحها.
ومن كتب صاحب الشامة إلى بعض عماله:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله أحمد بن عبد الله المهدي المنصور بالله لدين الله القائم بأمر الله الحاكم بحكم الله، الداعي إلى كتاب الله، الذاب عن حرم الله، المختار من ولد رسول الله أمير المؤمنين وإمام المسلمين، ومذل المنافقين خليفة الله على العالمين، وحاصد الظالمين، وقاصم المعتدين، ومبيد الملحدين، وقاتل القاسطين، ومهلك المفسدين، وسراج المبصرين، وضياء المستضيئين، ومشتت المخالفين، والقيم بسنة سيد الرسلين، وولد خير الوصيين، ﷺ وعلى أهل بيته الطيبين، وسلم كثيرًا، وإلى جعفر بن حميد الكردي: سلام عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلى على جدي محمد رسول الله ﷺ.
وأما بعد؛ فقد أنهى إلينا ما حدث قبلك من أخبار أعداء الله الكفرة، وما فعلوه بناحيتك، وأظهروه من الظلم والعيث والفساد في الأرض، فأعظمنا ذلك، ورأينا أن ننفذ إلى ما هناك من جيوشنا من ينقم الله به أعدئه الظالمين، والذين يسعون في الأرض فسادًا، وأنفذنا عطيرًا داعيتنا وجماعة من المؤمنين إلى مدينة حمص، وأمددناهم بالعساكر، ونحن في أثرهم، وقد أوعزنا إليهم في المصير إلى ناحيتك لطلب أعداء الله حيث كانوا، نحن نرجو أن يجرينا الله فيهم على أحسن عوائده عندنا في أمثالهم؛ فينبغي أن تشد قلبك وقلوب من معك من أوليائنا، وتثق بالله وبنصره الذي لم يزل في كل مرق عن الطاعة وانحرف عن الإيمان، وتبادر إلينا بأخبار الناحية، وما يتجدد فيها، ولا تخف عني شيئًا من أمرها إن شاء الله.
سبحانك اللهم، وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله جدي محمد رسول الله، وعلى أهل بيته وسلم كثيرًا.
نسخة كتاب عامل له إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله أحمد الإمام المهدي المنصور بالله، ثم الصدر كله على مثال نسخة صدر كتابه إلى عامله الذي حكينا في الكتاب الذي قبل هذا الكتاب، إلى ولد خير الوصيين صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين وسلم كثيرًا.
ثم بعد ذلك من عامر بن عيسى العنقائي.
سلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته؛ أما بعد أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وادام الله عزه وتأييده، ونصره وسلامته، وكرامته ونعمته وسعادته، وأسبغ نعمه عليه، وزاد في إحسانه إليه، وفضله لديه.
فقد كان وصل كتاب سيدي أمير المؤمنين أطال الله بقاؤه، يعلمه فيه ما كان من نفوذ بعض الجيوش المنصورة مع قائد من قواده إلى ناحيتنا لمجاهدة أعداء الله بني الفصيص والخائن ابن دحيم، وطلبهم حيث كانوا، والإيقاع بهم وبأسبابهم وضياعهم، ويأمرني أدام الله عزه عند نظري في كتابه بالنهوض في كل من قدرت عليه من أصحابي وعشائري للقائهم ومكانفة الجيش ومعاضدتهم والمسير بسيرهم، والعمد كل ما يومون إليه ويأمرون به، وفهمته، ولم يصل إلي هذا الكتاب أعز الله أمير المؤمنين حتى وافت جيوش المنصورة؛ فنالت طرفًا من ناحية ابن دحيم، وانصرفوا بالكتاب الوارد عليهم من مسرور بن أحمد الداعية ليلقوه بمدينة أفامية.
ثم ورد علي كتاب مسرور بن أحمد في درجة الكتاب الذي اقتصصت ما فيه في صدر كتابي هذا، يأمرني فيه بجمع من تهيأ من أصحابي وعشيرتي والنهوض إلى ما قبلته، ويحذرني التخلف عنه.
وكان ورود كتابه علي وقت صح عندنا نزول المارق سبك عبد مفلح مدينة عرقة في زهاء ألف رجل، ما بين فارس وراجل.
وقد شارف بلدنا، وأطل على ناحيتنا، وقد وجه أحمد بن الوليد عبد أمير المؤمنين أطال الله بقاؤه إلى جميع أصحابه، ووجهت إلى جميع أصحابي، فجمعناهم إلينا ووجهنا العيون إلى ناحية عرقة لنعرف أخبار هذا الخائن، وأين يريد، فيكون قصدنا ذلك الوجه، ونرجوا أن يظفر الله به، ويمكن منه بمنه وقدرته.
ولولا هذا الحادث، ونزول هذا المارق في هذه الناحية، وإشرافه على بلدنا لما تأخرت في جماعة أصحابي عن النهوض إلى مدينة أفامية، لتكون يدي مع أيدي القواد المقيمين بها لمجاهدة من بتلك الناحية حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
وأعلمت سيدي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه السبب في تخلفي عن مسرور بن أحمد، ليكون على علم منه.
ثم إن أمرني أدام الله عزه بالنفوذ إلى أفامية كان نفوذي برأيه، وامتثلت ما يأمرني به إن أشاء الله.
أتم الله على أمير المؤمنين نعمة وأدام عزه وسلامته، وهنأه كرامته، وألبسه عفوه وعافيته.
والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته؛ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي وعلى أهل بيته الطاهرين الاختيار.
وفيها وجه القاسم بن عبيد الله الجيوش إلى صاحب الشامة، وولي حربه محمد بن سليمان الكاتب الذي كان إليه ديوان الجيش، وضم جميع القواد إليه، وأمرهم بالسمع له والطاعة، فنفذ من الرقة في جيش كثيف، وكتب إلى من تقدمه من القواد بالسمع والطاعة.
وفيها ورد رسولًا صاحب الروم؛ أحدهما خادم، والآخر فحل، يسأله الفداء بمن يده من المسلمين أسير، ومعهما هدايا من صاحب الروم وأسارى من المسلمين بعث بهم إليه، فأجبنا إلى ما سألا، وخلع عليهما.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك بن عبد الله بن العباس ابن محمد.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليلة
ذكر خبر الوقعة بين أصحاب السلطان وصاحب الشامة
فمن ذلك ما كان من أمر الوقعة بين أصحاب السلطان وصاحب الشامة.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة
قال أبو حعفر: قد مضى ذكرى شخوص المكتفى مدينة السلام نحو صاحب الشامة لحربه ومصيره إلى الرقة، وبثه جيوشه فيما بين حلب وحمص، وتوليه حرب صاحب الشامة محمد بن سليمان الكاتب وتصييره أمر جيشه وقواده إليه؛ فلما دخلت هذه السنة كتب وزيره القاسم بن عبيد الله إلى محمد ابن سليمان وقواد السلطان يأمره وإياهم بمناهضة ذي الشامة وأصحابه، فساروا إليه حتى صاروا إلى موضع بينهم وبين حماة - فيما قيل - اثنا عشرة ميلًا، فلقوا به أصحاب القرمطي في يوم الثلاثاء لست خلون من المحرم، وكان القرمطي قدم أصحابه وتخلف هو في جماعة من أصحابه، ومعه مال قد كان جمعه، وجعل السواد وراءه، فالتحمت الحرب بين أصحاب السلطان وأصحاب القرمطي، واشتدت، فهزم أصحاب القرمطي، وقتلوا، وأسر من رجالهم بشر كثير، وتفرق الباقون في البوادي، وتبعهم أصحاب السلطان ليلة الأربعاء لسبع خلون من المحرم.
فلما رأى القرمطي ما نزل بأصحابه من الفلول والهزيمة حمل - فيما قيل - أخًا له يكنى أبا الفضل مالًا، وتقدم إليه أن يلحق بالبوادي إلى أن يظهر في موضع، فيصير إليه، وركب هو وابن عمه المسمى المدثر والمطوق صاحبه وغلام له رومي.
وأخذ دليلًا، وسار يريد الكوفة عرضًا في البرية، حتى انتهى إلى موضع يعرف بالدالية من أعمال طريق الفرات، فنفذ ما كان معهم من الزاد والعلف، فوجه بعض ما كان معه ليأخذ له ما يحتاجون إليه، فدخل الدالية المعروفة بدالية ابن طوق لشراء حاجه، فأنكروا زيه، وسئل عن أمره فمجمج، فأعلم المتولى مسلحة هذه الناحية بخبره، وهو رجل يعرف بأبي خبزة خليفة أحمد بن محمد بن كمشرد عامل أمير المؤمنين المكتفى على المعاون بالرحبة وطريق الفرات.
فركب في جماعة، وسأل هذا الرجل عن خبره، فأخبره أن الشامة خلف رابية هنالك في ثلاثة نفر.
فمضى إليهم، فأخذهم وصار بهم إلى صاحبه، فتوجه بهم ابن كشمرد وأبو خبزة إلى المكتفى بالرقة، ورجعت الجيوش من الطلب بعد أن قتلوا وأسروا جميع من قدروا عليه من أولياء القرمطي وأشياعه، وكتب محمد بن سليمان إلى الوزير بالفتح: " بسم الله الرحمن الرحيم " قد تقدمت كتبي إلى الوزير أعزه الله في خبر القرمطي اللعين وأشياعه؛ بما أرجو أن يكون قد وصل إن شاء الله.
ولما كان في يوم الثلاثاء لست ليال خلون من المحرم رحلت من الموضع المعروف بالقراونة، نحو موضع يعرف بالعليانة، في جميع العسكر من الأولياء، وزحفنا بهم على مراتبهم في القلب والميمنة والميسرة وغير ذلك؛ فلم أبعد أن وافاتي الخبر بأن الكافر القرمطي أنفذ النعمان ابن أخي إسماعيل بن النعمان أحد دعاته في ثلاثة آلاف فارس، وخلق من الرجالة، وإنه نزل بموضع يعرف بتمتع، بينه وبين حماة اثنا عشرة ميلًا، فاجتمع إليه جميع من كان بمعرة النعمان وبناحية الفصيصي وسائر النواحي من الفرسان والرجالة، فأسررت ذلك عن القواد والناس جميعًا ولم أظهره، وسألت الدليل الذي كان معي عن هذا الموضع، وكم بيننا وبينه، فذكر أنه ستة أميال، فتوكلت على الله عز وجل، وتقدمت إليه في المسير نحوه، فمال بالناس جميعًا، وسرنا حتى وافيت الكفرة، فوجدتهم على تعبئة، ورأينا طلائهم.
فلما نظروا إلينا مقبلين زحفوا نحونا، وسرنا إليهم، فاقترفوا ستة كراديس، وجعلوا على ميسرتهم - على ما أخبرني من ظفرت به من رؤسائهم - مسرورًا العليصي وأبا الحمل وغلام هارون العليصي، وأبا العذاب ورجاء وصافي وأبا يعلى العلوي، في ألف وخمسمائة فارس، وكمنوا كمينًا في أربعمائة فارس ميسرتهم بإزاء ميمنتنا، وجعلوا في قلب النعمان العليصي والمعروف بأبي الحطي، والحمارى وجماعة من بطلانهم في ألف وأربعمائة فارس وثلاثة آلاف راجل، وفي ميمنتهم كليبًا العليصي والمعروف بالسديد العليصي والحسين بن العليصي وأبا الجراح العليصي وحميد العليصي، وجماعة من نظرائهم في ألف وأربعمائة فارس، وكمنوا مائتي فارس؛ فلم يزالوا زفًا إلينا ونحن نسير نحوهم غير متفرقين، متوكلين على الله عز وجل.
وقد استحثت الأولياء والغلمان وسائر الناس غيرهم، ووعدتهم.
فلما رأى بعضنا بعضًا حمل الكردوس الذي كان في ميسرتهم ضربًا بالسياط، فقصد الحسين بن حمدان، وهو في جناح الميمنة، فاستقبلهم الحسين - بارك الله عليه وأحسن جزاءه - بوجهه وبموضعه من سائر أصحابه برماحهم، فكسروها في صدورهم، فانفلوا عنهم، وعاود القرامطة الحمل عليهم، فأخذوا السيوف، واعترضوا ضربًا للوجوه، فصرع من الكفار الفجرة ستمائة فرس في أول وقعة، وأخذ أصحاب الحسين خمسمائة فرس وأربعمائة طوق فضة، وولوا مدبرين مفلولين واتبعهم الحسين، فرجعوا عليه، فلم يزالوا حملة وحملة، وفي خلال ذلك يصرع منهم الجماعة بعد الجماعة؛ حتى أفناهم الله عز وجل، فلم يفلت منهم إلا أقل من مائتي رجل.
وحمل الكردوس الذي كان في ميمنتهم على القاسم بن سيما ويمن الخادم ومن كان معهما من بني شيبان وبني تميم، فاستقبلوهم بالرماح حتى كسروها فيهم؛ واعتنق بعضهم بعضًا، فقتل من الفجرة جماعة كثيرة.
وحمل عليهم في وقت حملتهم خليفة بن المبارك ولؤلؤ، وكنت قد جعلته جناحًا لخليفة في ثلثمائة فارس، وجميع أصحاب الخليفة؛ وهو يعاركون بني شيبان وتميم، فقتل من الكفرة مقتلة عظيمة، واتبعوهم، فأخذ بنو شيبان منهم ثلثمائة فرس ومائة طوق، وأخذ أصحاب خليفة مثل ذلك؛ وزحف النعمان ومن معه في القلب إلينا، فحملت ومن معي، وكنت بين القلب والميمنة، وحمل خاقان القشوري بن كمشجور ومن كان معهم في الميمنة، ووصيف موشكير ومحمد بن إسحاق بن كنداجيق وابنا كيغلغ والمبارك القمى وربيعة بن محمد ومهاجر بن طليق والمظفر بن حاج وعبد الله بن حمدان وحي الكبير ووصيف البكتمري وبشر البكتمري ومحمد بن قراطغان.
وكان في جناح الميمنة جميع من حمل على من في القلب ومن انقطع ممن كان حمل الحسين بن حمدان، فلم يزالوا يقتلون الكفار فرسانهم ورجالتهم حتى قتلوا أكثر من خمسة أميال.
ولما أن تجاوزت المصاف بنصف ميل خفت أن يكون من الكفار مكيدة في الإحتيال على الرجالة والسواد، فوقفت إلى أن لحقوني.
وجمعتهم وجمعت الناس، إلي وبين يدي المطرد المبارك، مطرد أمير المؤمنين، وقد حملت في الوقت الأول، وحمل الناس.
ولم يزل عيسى النوشري ضابطًا للسواد من مصاف خلفهم مع فرسانه ورجالته على ما رسمته له، لم يزل من موضعه إلى أن رجع الناس جميعًا إلي من كل موضع، وضربت مضربي في الموضع الذي وقفت فيه؛ حتى نزل الناس جميعًا، ولم أزل واقفًا إلى أن صليت المغرب، حتى استقر العسكر بأهله، ووجهت في الطلائع ثم نزلت؛ وأكثرت حمد الله على ما هنأنا به من النصر، ولم يبق أحد من قواد أمير المؤمنين وغلمانه ولا العجم وغيرهم غاية في نصر هذه الدولة المباركة في المناصحة لها إلا بلغوها؛ بارك الله عليهم جميعًا! ولما استراح الناس خرجت القواد جميعًا لنقيم خارج المعسكر إلى أن يصبح الناس خوفًا من حيلة تقع، وأسأل الله تمام النعمة وإيزاع الشكر؛ وأنا - أعز الله سيدنا الوزير - راحل إلى حماة، ثم أشخص إلى سلمية بمن الله تعالى وعونه، فمن بقي من هؤلاء الكفار فهم بسلمية؛ فإنه قد صار إليها منذ ثلاثة أيام، وأحتاج إلى أن يتقدم الوزير بالكتاب إلى جميع القواد وسائر بطون العرب من بني شيبان وتغلب وبني تميم، يجزيهم جميعًا الخير على ما كان في هذه الوقعة؛ فما بقي أحد منهم - صغير ولا كبير - غاية، والحمد لله على ما تفضل به، وإياه أسأل تمام النعمة.
ولما تقدمت في جمع الرءوس، وجد رأس أبي الحمل ورأس أبي العذاب وأبي البغل.
وقيل أن النعمان قد قتل؛ وقد تقدمت في طلبه، وأخذ رأسه وحمله مع الرءوس إلى حضرة أمير المؤمنين إن شاء الله.
وفي يوم الاثنين الأربع بقين من المحرم، أدخل صاحب الشامة إلى الرقة ظاهرًا للناس فالج، عليه برنس حرير ودراعه ديباج، وبين يديه المدثر والمطوق على جملين.
ثم إن المكتفى خلف عساكره مع محمد بن سليمان، وشخص في خاصته وغلمانه وخدمه، وشخص معه القاسم بن عبيد الله من الرقة إلى بغداد، وحمل معه القرمطي والمدثر والمطوق وجماعة من أسارى الوقعة، وذلك في أول صفر من هذه السنة.
فلما صار إلى بغداد عزم - فيما ذكر - على أن يدخل القرمطي مدينة السلام مصلوبًا على دقل، والد قل على ظهر فيل؛ فأمر بهدم طاقات الأبواب التي يجتاز بها الفيل، وإن كانت أقصر من الدقل؛ وذلك مثل باب الطاق وباب الرصافة وغيرهما.
ثم استمسج المكتفى - فيما ذكر - فعل ما كان عزم عليه من ذاك، فعمل له دميانة - غلام يازمان - كرسيًا، وركب الكرسي على ظهر الفيل، وكان ارتفاعه عن ظهر الفيل ذراعين ونصف الذراع - فيما قيل - ودخل المكتفى مدينة السلام بغداد صبيحة يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربع الأول، وقدم الأسرى بين يديه على جمال مقيدين، عليهم دراريع حرير وبرانس حرير، والمطوق في وسطهم، غلام ما خرجت لحيته، قد جعل في فيه خشبة مخروطة، وشدت إلى قفاه كهيئة اللجام، وذلك أنه لما أدخل الرقة كان يشم الناس إذا دعوا عليه، ويبزق عليهم، ففعل ذلك لئلا يشم إنسانًا.
ثم أمر المكتفى ببناء دكة في المصلى العتيق من الجانب الشرقي، تكسيرها عشرون ذراعًا في عشرين ذراعًا، وارتفاعها نحو من عشرة أذرع، وبنى لها درج يصعد منها إليها.
وكان المكتفى خلف مع محمد بن سليمان عساكره بالرقة عند منصرفه إلى مدينة السلام، فتلقط محمد بن سليمان من كان في تلك الناحية من قواد القرمطي وقضاته وأصحاب شرطة، فأخذهم وقيدهم، وانحدر والقواد الذين تخلفوا معه إلى مدينة السلام على طريق الفرات، فوافى باب الأنبار ليلة الخميس لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأول، ومعه جماعة من القواد، منهم خاقان المفلحي ومحمد بن إسحاق بن كنداجيق وغيرهما: فأمر القواد الذين ببغداد بتلقي محمد بن سليمان والدخول معه، فدخل بغداد وبين يديه نيف وسبعون أسيرًا، حتى صار إلى الثريا، فخلع عليه، وطوق بطوق من ذهب وسور بسوارين من ذهب، وخلع على جميع القواد القادمين معه، وطوقوا وسوروا وصرفوا إلى منازلهم، وأمر بالأسرى إلى السجن.
وذكر عن صاحب الشامة أنه أخذ وهو في حبس المكتفى سكرجة من المائدة التي تدخل إليه فكسرها، وأخذ شظية منها فقطع بها بعض عروق نفسه، فخرج منه دم كثير، ثم شد يده.
فلما وقف المولي خدمته على ذلك سأله: لم فعل ذلك؟ فقال: هاج بي الدم فأخرجته.
فترك حتى صلح، ورجعت إليه قوته.
ولما كان يوم الاثنين لسبع بقين من شهر ربيع الأول أمر المكتفى القواد والغلمان بحضور الدكة التي أمر ببنائها، وخرج من الناس خلق كثير لحضورها، فحضروها، وحضر أحمد بن محمد الواثقي وهو يومئذ يلي الشرطة بمدينة السلام ومحمد بن سليمان كاتب الجيش الدكة، فقعدا عليها، وحمل الأسرى الذين جاء بهم المكتفى معه من الرقة والذين جاء بهم محمد بن سليمان ومن كان في السجن من القرامطة الذين جمعوا الكوفة، وقوم من أهل بغداد كانوا على رأى القرامطة، وقوم من الرفوغ من سائر البلدان من غير القرامطة - وكانوا قليلًا - فجيء بهم على جمال، وأحضروا الدكة، ووقفوا على جمالهم، ووكل بكل رجل منهم عونان، فقيل: إنهم كانوا ثلثمائة ونيفًا وعشرين، وقيل ثلثمائة وستين، وجيء بالقرمطي الحسين بن زكرويه المعروف بصاحب الشامة؛ ومعه ابن عمه المعروف بالمدثر على بغل في عمارية، وقد أسبل عليها الغشاء، ومعهما جماعة من الفرسان والرجالة، فصعد بهما إلى الدكة وأقعدا، وقدم أربعة وثلاثون إنسانًا من هؤلاء الأسارى، فقطعت أيديهم وأرجلهم، وضربت أعناقهم واحدًا بعد واحد، كان يأخذ الرجل فيبطح على وجهه فيقطع يمنى يديه، ويحلق بها إلى أسفل ليراها الناس، ثم تقطع رجله اليسرى، ثم يسرى يديه، ثم يمنى رجليه، ويرمى بما قطع منه إلى أسفل، ثم يقعد فيمد رأسه، فيضرب عنقه، ويرمى برأسه وجثته إلى أسفل.
وكانت جماعة من هؤلاء الأسرى قليلة يضجون ويستغيثون، ويحلفون أنهم ليس من القرامطة.
فلما فرغ من قتل هؤلاء الأربعة والثلاثين النفس - وكانوا من وجوه أصحاب القرمطي - فيما ذكر - وكبرائهم قدم المدثر، فقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه، ثم قدم القرمطي فضرب مائتي سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، وكوى فغشي عليه، ثم أخذ خشب فأضرمت فيه النار، ووضع في خواصره وبطنه، فجعل يفتح عينيه ثم يغمضهما؛ فلما خافوا أن يموت ضربت عنقه، ورفع رأسه على خشبة، وكبر من على الدكة وكبر سائر الناس.
فلما قتل انصرف القواد ومن كان حضر ذلك الموضع للنظر إلى ما يفعل بالقرمطي.
وأقام الواثقي وجماعة من أصحابه في ذلك الموضع إلى وقت العشاء الآخرة، حتى ضرب أعناق باقي الأسرى الذين أحضروا الدكة؛ ثم انصرف.
فلما كان من غد هذا اليوم حملت رءوس القتلى من المصلى إلى الجسر، وصلب بدن القرمطي في طرف الجسر الأعلى ببغداد، وحفرت لأجساد القتلى في يوم الأربعاء آبار إلى جانب الدكة، وطرحت فيها وطمت، ثم أمر بعد أيام بهدم الدكة ففعل.
ولأربع عشرة خلت من شهر ربيع الآخر وافى بغداد القاسم بن سيما منصرفًا عن عمله بطريق الفرات، ومعه رجل من بني العليص من أصحاب القرمطي صاحب الشامة؛ دخل إليه بأمان، وكان أحد دعاة القرمطي، يكنى أبا محمد.
وكان سبب دخوله في الأمان أن السلطان راسله ووعده الإحسان إن هو دخل الأمان؛ وذلك أنه لم يكن بقي من رؤساء القرامطة بنواحي الشأم غيره، وكان من موالي بني العليص، فر وقت الوقعة إلى بعض نواحي الغامضة، فأفلت.
ثم رغب الدخول في الأمان والطاعة خوفًا على نفسه، فوافى هو ومن معه مدينة السلام، وهم نيف وستون رجلًا، فأمنوا وأحسن إليهم، ووصلوا بمال حمل إليهم، وأخرج هو ومن معه إلى رحبة مالك بن طوق مع القاسم بن سيما، وأجريت لهم الأرزاق، فلما وصل القاسم بن سيما إلى عمله وهم معه، وأقاموا معه مدة، ثم أجمعوا على الغدر بالقاسم بن سيما، وئلتمروا به، ووقف على ذلك من عزمهم، فبادرهم ووضع السيف فيهم فأبارهم، وأسر جماعة منهم، فارتدع من بقي من بني العليص ومواليهم، وذلوا، ولزموا أرض السماوة وناحيتها مدة حتى راسلهم الخبيث زكرويه، وأعلمهم أن مما أوحى إليه، أن المعروف بالشيخ وأخاه يقتلان، وأن إمامه الذي يوحى إليه يظهر ويظفر.
وفي يوم الخميس لتسع خلون من جمادى الأولى زوج المكتفى ابنه محمدًا ويكنى أبا أحمد بابنه أبي الحسين القاسم بن عبيد الله على صداق مائة ألف دينار.
وفي آخر جمادى الأولى من هذه السنة ورد - فيما ذكر - كتاب من ناحية جبي، يذكر فيه أن جبي وما يليها جاءها سيل في واد من الجبل، فغرق نحوًا من ثلاثين فرسخًا، وغرق في ذلك خلق كثير، وغرقت المواشي والغلات، وخرجت المنازل والقرى، وأخرج من الغرقى ألف ومائتا نفس، سوى من لم يلحق منهم.
وفي يوم الأحد غرة رجب خلع المكتفى على محمد بن سليمان كاتب الجيش وعلى جماعة من وجوه القواد، منهم محمد ابن إسحاق بن كنداجيق، وخليفة بن المبارك المعروف بأبي الأغر وابنا كيغلغ، وبندقة بن كمشجور وغيرهم من القواد، وأمرهم بالسمع والطاعة لمحمد بن سليمان، وخرج محمد بن سليمان والخلع عليه حتى نزل مضربه بباب الشماسية، وعسكر هنالك، وعسكر معه جماعة القواد الذين أخرجوا وبرزوا، وكان خروجهم ذلك قاصدين لدمشق ومصر لقبض الأعمال من هارون بن خمارويه؛ لما تبين للسلطان من ضعفه وضعف من معه وذهاب رجاله بقتل من قتل منهم القرمطي.
ثم رحل لست خلون من رجب محمد بن سليمان من باب الشماسية ومن ضم إليه من الرجال، وهم زهاء عشرة آلاف رجل، وأمر بالجد في المسير.
ولثلاث بقين من رجب قرىء في الجامعين بمدينة السلام كتاب ورد من إسماعيل بن أحمد من خراسان، يذكر فيه أن الترك قصدوا المسلمين في جيش عظيم وخلق كثير، وأنه كان في عسكرهم سبعمائة قبة تركية، ولا يكون ذلك إلا للرؤساء منهم، فوجه إليه برجل من قواده في جيش ضمه إليه، ونودي في الناس بالنفير، فخرج من المطوعة ناس كثير، ومضى صاحب العسكر نحو الترك بمن معه، فوافاهم المسلمون وهم غارون، فكبسوهم مع الصبح، فقتل منهم خلق كثير، وانهزم الباقون، واستبيح عسكرهم، وانصرف المسلمون إلى موضعهم سالمين غانمين.
وفي شعبان منها ورد الخبر أن صاحب الروم وجه عشرة صلبان معها مائة ألف رجل إلى الثغور، وأن جماعة منهم قصدت نحو الحدث، فأغاروا وسبوا من قدروا عليه من المسلمين، وأحرقوا.
وفي شهر رمضان منها ورد كتاب من القاسم بن سيما من الرحبة على السلطان.
يذكر فيه أن الأعراب الذين استأمنوا إلى السلطان وإليه من بني العليص ومواليهم ممن كان مع القرمطي نكثوا وغدروا، وأنهم عزموا على أن يكبسوا الرحبة في يوم الفطر، عند اشتغال الناس بصلاة العيد، فيقتلوا من يلحقون، وأن يحرقوا وينهبوا، وإني أوقعت عليهم الحيلة حتى قتلت منهم وأسرت خمسين ومائة نفس، سوى من غرق منهم في الفرات، وإني قادم بالأسرى وفيهم جماعة من رؤسائهم وبرءوس من قتل منهم.
وفي آخر شهر رمضان من هذه السنة ورد كتاب من أبي معدان من الرقة - فيما قيل - باتصال الأخبار به من طرسوس أن الله أظهر المعروف بغلام زرافة في غزاة غزاها الروم في هذا الوقت بمدينة تدعى أنطاكية، وزعموا أنها تعادل قسطنطينية، وهذه المدينة على ساحل البحر، وأن غلام زرافة فتحها بالسيف عنوة، وقتل - فيما قيل - خمسة آلاف رجل، وأسر شبيهًا بعدتهم، واستنقذ من الأسارى أربعة آلاف إنسان.
وأنه أخذ للروم ستين مركبًا، فحملها ما غنم من الفضة والذهب والمتاع والرقيق، وأنه قدر نصيب كل رجل حضر هذه الغزاة، فكان ألف دينار.
فاستبشر المسلمون بذلك.
وبادرت بكتابي هذا ليقف على ذلك.
وكتب يوم الخميس لعشر خلون من شهر رمضان.
وأقام الحج للناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك بن عبد الله بن العباس ابن محمد.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائتين
ذكر ما كان فيها من الأحداث الجليلة
فمن ذلك ما كان توجيه نزار بن محمد من البصرة إلى السلطان ببغداد رجلًا ذكر أنه أراد الخروج على السلطان، وصار إلى واسط، وأن نزارًا وجه في طلبه من قبض عليه بواسط، وأحدره إلى البصرة، وأنه أخذ بالبصرة قومًا، ذكر أنهم بايعوه.
فوجه نزار جميعهم في سفينة إلى بغداد، فوقفوا في فرضة البصريين، فحمل هذا الرجل الفالج، وبين يديه ابن له صبي على جمل، ومعه تسعة وثلاثون إنسانًا على جمال، وعلى جماعتهم برانس حرير ودراريع الحرير، وأكثرهم يستغيث ويبكي، ويحلف أنه بريء، وأنه لا يعرف مما ادعى عليه شيئًا، وجازوا بهم في التمارين وباب الكرخ والخلد حتى وصلوا إلى دار المكتفى، فأمر بردهم، وحبسهم في السجن المعروف بالجديد.
وفي المحرم منها أغار أندر ونقس الرومي على مرعش ونواحيها، فنفر أهل المصيصة وأهل طرسوس، فأصيب أبو الرجال بن أبي بكار في جماعة من المسلمين.
وفي المحرم منها صار محمد بن سليمان إلى حدود مصر لحرب هارون بن خمارويه، ووجه المكتفى دميانة غلام يازمان من بغداد، وأمره بركوب البحر والمضي إلى مصر ودخول النيل، وقطع المواد عمن بمصر من الجند، فمضى ودخل النيل حتى وصل إلى الجسر، فأقام به، وضيق عليهم.
وزحف إليهم محمد بن سليمان في الجيوش على الظهر حتى دنا من الفسطاط، وكاتب القواد الذين بها، فكان أول من خرج إليه بدر الحمامي - وكان رئيس القوم - فكسرهم ذلك، ثم تتابع من يستأمن إليه من قواد المصريين وغيرهم؛ فلما رأى ذلك هارون وبقية من معه، زحفوا إلى محمد بن سليمان، فكانت بينهم وقعات - فيما ذكر - ثم وقع أصحاب هارون في بعض الأيام عصبية فاقتتلوا، فخرج هارون ليسكتهم، فرماه بعض المغاربة بزانة فقتله.
وبلغ محمد بن سليمان الخبر، فدخل هو ومن معه الفسطاط، واحتوى على دور آل طولون وأسبابهم، وأخذهم جميعًا وهم بضعة عشر رجلًا، فقيدهم وحبسهم، واستصفى أموالهم، وكتب بالفتح، وكانت الوقعة في صفر من هذه السنة.
وكتب محمد بن سليمان في إشخاص جميع آل طولون وأسبابهم من القواد، وألا يترك أحدًا منهم بمصر ولا بالشأم، وأن يبعث بهم إلى بغداد.
ففعل ذلك.
ولثلاث خلون خلت من شهر ربيع الأول منها سقط الحائط الذي على رأس الجسر الأول من الجانب الشرقي من الدار التي كانت لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر على الحسين بن زكرويه القرمطي، وهو مصلوب بقرب ذلك الحائط، فطحنه، فلم يوجد بعد منه شيء.
وفي شهر رمضان منها ورد الخبر على السلطان بأن قائدًا من قواد المصريين يعرف بالخليجي، يسمى إبراهيم، خلف عن محمد بن سليمان في آخر حدود مصر مع جماعة استمالهم من الجند وغيرهم، ومضى إلى مصر مخالفًا للسلطان، وصار معه عيسى النوشري محاربته، وكان عيسى النوشري العامل على المعونة بها يومئذ، فعجز عن ذلك لكثرة من مع الخليجي، فانحاز عنه إلى الإسكندرية وأخلى مصر فدخلها الخليجي.
وفيها ندب السلطان لمحاربة الخليجي وإصلاح أمر المغرب فاتكًا مولى المعتضد، وضم إليه بدرًا الحمامي، وجعله مشيرًا عليه فيما يعمل به، وضم إليه جماعة من القواد وجندًا كثيرًا.
ولسبع خلون من شوال منها خلع على فاتك وبدر الحمامي لما ندبا إليه من الخروج إلى مصر، وأمرا بسرعة الخروج، ثم شخص فاتك وبدر الحمامي لاثنتي عشرة خلت من شوال.
وللنصف من شوال منها دخل طرسوس رستم بن بردوا واليًا عليها وعلى الثغور الشأمية.
وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم، وأول يوم من ذلك كان لست بقين من ذي القعدة منها، فكان جملة من فودى به من المسلمين - فيما قيل - ألفًا ونحو مائتي نفس.
ثم غدر الروم، فانصرفوا، ورجع المسلمون بمن بقي معهم من أسارى الروم، فكان عهد الفداء والهدنة من أبي العشائر والقاضي ابن مكرم؛ فلما كان من أمر أندر ونقس ما كان من غاترته على أهل مرعش وقتله أبا الرجال وغيره، عزل أبو العشائر وولى رستم، فكان الفداء على يديه، وكان المتولى أمر الفداء من قبل الروم يدعى أسطانة.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك بن عبد الله بن العباس ابن محمد.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من ورود الخبر لخمس بقين من صفر؛ بأن الخليجي المتغلب على مصر، واقع أحمد بن كيغلغ وجماعة من القواد بالقرب من العريش، فهزمهم أقبح هزيمة، فندب للخروج إليه جماعة من القواد المقيمين بمدينة السلام، فيهم إبراهيم بن كيغلغ، فخرجوا.
ولسبع خلون من شهر ربيع الأول منها، وافى مدينة السلام قائد من قواد طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث بن الصفار مستأمنًا، يعرف بأبي قابوس، مفارقًا عسكر السجزية، وذلك أن طاهر بن محمد - فيما ذكر - تشاغل باللهو والصيد، ومضى إلى سجستان للصيد والنزهة، فغلب على الأمر بفارس الليث ابن علي بن الليث وسبكرى مولى عمرو بن الليث، ودبر الأمر في عمل طاهر والاسم له، فوقع بينهم وبين أبي قابوس تباعد، ففارقهم وصار إلى باب السلطان، فقبله السلطان، وخلع عليه وعلى جماعة معه وحباه وأكرمه، فكتب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث إلى السلطان، يسأله رد أبي قابوس إليه، ويذكر أنه استكفاه بعض أعمال فارس، وأنه جبى المال، وخرج به معه، ويسأل إن لم يرد إليه أن يحسب له ما ذهب به من مال فارس مما صودر عليه؛ فلم يجبه السلطان إلى شيء من ذلك.
ذكر الخبر عن ظهور أخي الحسين بن زكرويه
وفي هذا الشهر من هذه السنة ورد الخبر أن أخًا للحسين بن زكرويه المعروف بصاحب الشامة ظهر بالدالية من طريق الفرات في نفر، وأنه اجتمع إليه نفر من الأعراب والمتلصصة، فسار بهم نحو دمشق على طريق البر، وعاث بتلك الناحية، وحارب أهلها، فندب للخروج إليه الحسين بن حمدان بن حمدون، فخرج في جماعة كثيرة من الجند، وكان مصير هذا القرمطي إلى دمشق في جمادى الأولى من هذه السنة.
ثم ورد الخبر أن هذا القرمطي صار إلى طبرية فامتنعوا من إدخاله، فحاربهم حتى دخلها، فقتل عامة من بها من الرجال والنساء، ونهبها، وانصرف إلى ناحية البادية.
وفي شهر ربيع الآخر ورد الخبر بأن الداعية الذي بنواحي اليمن صار إلى مدينة صنعاء، فحاربه أهلها، فظفر بهم، فقتل أهلها، فلم ينفلت منهم إلا القليل، وتغلب على سائر مدن اليمن.
عاد الخبر إلى ما كان من أمر أخي ابن زكرويه: فذكر عن محمد بن داود بن الجراح أنه قال: أنفذ زكرويه بن مهرويه بعد ما قتل ابنه صاحب الشامة رجلًا كان يعلم الصبيان بقرية تدعى الزابوقة من عمل الفلوجة، يسمى عبد الله بن سعيد، ويكنى أبا غانم، فتسمى نصرًا ليعمى أمره، فدار على أحياء كلب يدعى على رأيه، فلم يقبله منهم أحد سوى رجل من بني زياد، يسمى مقداد بن الكيال، فإنه استغوى له طوائف من الأصبغيين المنتميين إلى الفواطم وسواقط من العليصيين وصعاليك من سائر بطون كلب، وقصد ناحية الشأم، وعامل السلطان على دمشق والأردن أحمد بن كيغلغ، وهو مقيم بمصر على حرب ابن خليج، الذي كان خلف محمد بن سليمان، ورجع إلى مصر، فغلب عليها، فاغتنم ذلك عبد الله بن سعيد هذا، وسار إلى مدينتي بصرى وأذرعات من كورتي حوران والبثنية، فحارب أهلها ثم آمنهم. فلما استسلموا قتل مقاتلهم، وسبى ذراريهم، واستصفى أموالهم، ثم سار يؤم دمشق، فخرج إليه جماعة ممن كان مرسومًا بتشحينها من المصريين كان خلفهم أحمد بن كيغلغ مع صالح بن الفضل، فظهروا عليهم، وأثخنوا فيهم. ثم اعتروهم ببذل الأمان لهم، فقتلوا صالحًا، وفضوا عسكره، ولم يطمعوا في مدينة دمشق، وكانوا قد صاروا إليها، فدافعهم أهلها عنها، فقصدوا نحو طبرية مدينة جند الأردن، ولحق بهم جماعة افتتنت من الجند بدمشق، فواقعهم يوسف بن إبراهيم بن بغامردي عامل أحمد بن كيغلغ على الأردن، فكسروه وبذلوا الأمان له، ثم غدروا به، فقتلوه ونهبوا مدينة الأردن، وسبوا النساء، وقتلوا طائفة من أهلها، فأنفذ السلطان الحسين بن حمدان لطلبهم ووجوهًا من القواد، فورد دمشق وقد دخل أعداء الله طبرية، فلما اتصل خبره بهم عطفوا نحو السماوة، وتبعهم الحسين يطلبهم في برية السماوة، وهم يتنقلون من ماء إلى ماء، ويعورونه حتى لجئوا إلى الماءين المعروفين بالدمعانة والحالة، وانقطع الحسين من اتباعهم لعدمه الماء، فعاد إلى الرحبة. وأسرى القرامطةُ مع غاويهم المسمى نصرًا إلى قرية هيت، فصبحوها وأهلها غارون لتسع بقين من شعبان مع طلوع الشمس، فنهب رضها، وقتل من قدر عليه من أهلها، وأحرق المنازل، وانتهب السفن التي في الفرات في غرضتها، وقتل من أهل البلد - فيما قيل - زهاء مائتي نفس ما بين رجل وامرأة وصبي، وأخذ ما قدر عليه من الأموال والمتاع، وأوقر - فيما قيل - ثلاثة آلاف راجلة، كانت معه زهاء مائتي كر حنطة بالمعدل ومن البر والعطر والسقط جميع ما احتاج إليه، وأقام بها بقية اليوم الذي دخلها والذي بعده، ثم رحل عنها بعد المغرب إلى البرية. وإنما أصاب ذلك من ربضها، وتحصن منه أهل المدينة بسورها، فشخص محمد بن إسحاق بن كنداجيق إلى هيت في جماعة من القواد في جيش كثيف بسبب هذا القرمطي، ثم تبعه بعد أيام مؤنس الخازن.
وذكر عن محمد بن داود، أنه قال: إن القرامطة صبحوا هيت وأهلها غارون، فحماهم الله منه بسورها، ثم عجل السلطان محمد بن إسحاق بن كنداجيق نحوهم، فلم يقيموا بها إلا ثلاثًا، حتى قرب محمد بن إسحاق منهم، فهربوا منه نحو الماءين، فنهض محمد نحوهم، فوجدهم قد عوروا المياه بينه وبينهم، فأنفذت إليه من الحضرة الإبل والروايا والزاد. وكتب إلى الحسين ابن حمدان بالنفوذ من جهة الرحبة إليهم ليجتمع هو ومحمد بن إسحاق على الإيقاع بهم، فلما أحس الكلبيون بإشراف الجند عليهم، ائتمروا بعدو الله المسمى نصرًا، فوثبوا عليه، وفتكوا به، وتفرد بقتله رجل منهم يقال له الذئب ابن القائم، وشخص إلى الباب متقربًا بما كان منه، ومستأمنًا لبقيتهم، فأسنيت له الجائزة، وعرف له ما أتاه، وكف عن طلب قومه، فمكث أيامًا ثم هرب، وظفرت بطلائع محمد بن إسحاق برأس المسمى بنصر، فأحتزوه وأدخلوه مدينة السلام، واقتتلت القرامطة بعده، حتى وقعت بينهما الدماء، فصار مقدام بن الكيال إلى ناحية طيىء مفلتًا بما احتوى عليه من الحطام، وصارت فرقة منهم كرهت أمورهم إلى بني أسد المقيمين بنواحي عين التمر، فجاوروهم وأرسلوا إلى السلطان وفدًا يعتذرون مما كان منهم، ويسألون إقرارهم في جوار بني أسد، فأجيبوا إلى ذلك، وحصلت على الماءين بقية الفسقة المستبصرة في دين القرامطة.
وكتب السلطان إلى حسين بن حمدان في معاودتهم باجتثاث أصولهم، فأنفذ زكرويه إليهم داعية له من أكره أهل السواد يسمى القاسم بن أحمد بن علي، ويعرف بأبي محمد، من رستاق نهر تلحانا، فأعلمهم أن فعل الذئب بن القائم قد أنفره عنهم، وثقل قلبهم عليهم؛ وأنهم قد ارتدوا عن الدين، وأن وقت ظهورهم قد حضر. وقد بايع له بالكوفة أربعون ألف رجل، وفي سوادها أربعمائة ألف رجل، وأن يوم موعدهم الذي ذكره الله في كتابه في شأن موسى كليمه ﷺ، وعدوه فرعون إذ يقول: " موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى ". وأن زكرويه يأمرهم أن يخفوا أمرهم، ويظهروا الإنقلاع نحو الشأم، ويسيروا نحو الكوفة حتى يصبحوها في غداة يوم النحر، وهو يوم الخميس لعشر تخلو من ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين ومائتين، فإنهم لا يمنعون منها، وأنه يظهر لهم، وينجز لهم وعده الذي كانت رسله تأتيهم به، وأن يحملوا القاسم بن أحمد معهم. فامتثلوا أمره، ووافوا باب الكوفة، وقد انصرف الناس عن مصلاهم مع إسحاق بن عمران عامل السلطان بها، وكان الذين وافوا باب الكوفة في هذا اليوم - فيما ذكر - ثمانمائة فارس آو نحوها، رأسهم الذبلاني ابن مهروبه من أهل الصوءر. وقيل إنه من أهل جنبلاء، عليهم الدروع والجواشن والآلة الحسنة، ومعهم جماعة من الرجالة على الرواحل، فأوقعوا بمن لحقوه من العوام، وسلبوا جماعة، وقتلوا نحوًا من عشرين نفسًا. وبادر الناس إلى الكوفة فدخلوها، وتنادوا السلاح. فنهض إسحاق بن عمران في أصحابه، ودخل مدينة الكوفة من القرامطة زهاء مائة فارس من الباب المعروف بباب كندة، فاجتمعت العوام وجماعة من أصحاب السلطان، فرموهم بالحجارة وحاربوهم، وألقوا عليهم الستر، فقتل منهم زهاء عشرين نفسًا، وأخرجوهم من المدينة، وخرج إسحاق بن عمران ومن معه من الجند، فصافوا القرامطة الحرب. وأمر إسحاق بن عمران أهل الكوفة بالتحارس لئلًا يجد القرامطة غرة منهم، فيدخلوا المدينة، فلم يزل بينهم إلى وقت العصر يوم النحر، ثم انهزمت القرامطة نحو القادسية، وأصلح أهل الكوفة سورهم وخندقهم، وقاموا مع أصحاب السلطان يحرسون مدينتهم ليلًا ونهارًا.
وكتب إسحاق بن عمران إلى السلطان يستمده، فندب للخروج إليه جماعة من قواده، منهم طاهر بن علي بن وزير ووصيف بن صوار تكين التركي والفضل بن موسى بن بغا، وبشر الخادم الأفشيني وجني الصفواني ورائق الخزري. وضم إليه جماعة من غلمان الحجر وغيرهم. فشخص أولهم يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة، ولم يرأس واحد منهم؛ كل واحد منهم رئيس على أصحابه. وأمر القاسم بن سيما وغيره من رؤساء الأعراب بجمع الأعراب من البوادي بديار مضر وطريق الفرات ودقوقاء وخانيجار وغيرها من النواحي، لينهضوا إلى هؤلاء القرامطة إذ كان أصحاب السلطان متفرقين في نواحي الشأم ومصر، فمضت الرسائل بذلك إليهم، فحضروا. ثم ورد الخبر فيها بأن الذين شخصوا مددًا لإسحاق بن عمران خرجوا إلى زكرويه في رجالهم، وخلفوا إسحاق بن عمران بالكوفة مع من معه من رجاله ليضبطها، وصاروا إلى موضع بينه وبين القادسية أربعة أميال، يعرف بالصوءر وهي في البرية في العرض، فلقيهم زكرويه هنالك فصافوه يوم الاثنين لتسع بقين من ذي الحجة.
وقد قيل كانت الوقعة يوم الأحد لعشر بقين منه، وجعل أصحاب السلطان بينهم وبين سوادهم نحوًا من ميل، ولم يخلفوا أحدًا من المقاتلة عنده، واشتدت الحرب بينهم. وكانت الدبرة أول هذا اليوم على القرمطي وأصحابه حتى كادوا أن يظفروا بهم، وكان زكرويه قد كمن عليهم كمينًا من خلفهم، ولم يشعروا به. فلما انتصف النهار خرج الكمين على السواد فانتهبه، ورأى أصحاب السلطان السيف من ورائهم، فانهزموا أقبح هزيمة، ووضع القرمطي وأصحابه السيف في أصحاب السلطان، فقتلوهم كيف شاءوا، وصبر جماعة من غلمان الحجر من الخزر وغيرهم، وهم زهاء مائة غلام، وقاتلوا حتى قتلوا حميعًا بعد نكاية شديدة نكوها في القرامطة، واحتوت القرامطة على سواد أصحاب السلطان فحازوه، ولم يفلت من أصحاب السلطان إلا من كان في دابته فضل فنجا به، أو من أثخن بالجراح، فطرح نفسه في القتلى، فتحامل بعد انقضاء الوقعة حتى دخل الكوفة. وأخذ للسلطان في هذا السواد، مما كان وجه به مع رجاله من الجمازات، عليها السلاح والآلة زهاء ثلثمائة جمازة، ومن البغال خمسمائة بغل.
وذكر أن مبلغ من قتل من أصحاب السلطان في هذه الوقعة سوى غلمانهم والحمالين ومن كان في السواد ألف وخمسمائة رجل، فقوى القرمطي وأصحابه بما أخذوا في هذه الوقعة، وتطرف بيادر كانت إلى جانبه، فأخذ منها طعامًا وشعيرًا، وحمله على بغال السلطان إلى عسكره، وارتحل من موضع الوقعة نحوًا من خمسة أميال في العرض إلى موضع يقرب من الموضع المعروف بنهر المثنية، وذلك أن روائح القتلى آذتهم.
وذكر عن محمد بن داود بن الجراح أنه قال: وافى باب الكوفة الأعراب الذين كان زكرويه راسلهم، وقد انصرف المسلمون عن مصلاتهم مع إسحاق بن عمران، فتفرقوا من جهتين، ودخلوا أبيات الكوفة، وقد ضربوا على القاسم بن أحمد داعية زكرويه قبة، قالوا: هذا ابن رسول الله ﷺ، ودعوا: يال ثاراث الحسين! يعنون الحسين بن زكرويه المصلوب بباب جسر مدينة السلام، وشعارهم: يا أحمد يا محمد - يعنون ابن زكرويه المقتولين. وأظهروا الأعلام البيض، وقدروا أن يستغووا رعاع الكوفيين بذلك القوا، فأسرع إسحاق بن عمران ومن معه المبادرة نحوهم، ودفعهم وقتل من ثبت له منهم، وحضر جماعة من آل أبي طالب، فحاربوا مع إسحاق بن عمران، وحضر جماعة من العامة؛ فحاربوا. فانصرف القرامطة خاسئين، وصاروا إلى قرية تدعى العشيرة من آخر عمل طسوج السالحين ونهر يوسف مما يلي البر من يومهم، وأنفذوا إلى عدو الله زكرويه بن مهرويه من استخرجه من نقير في الأرض، كان متطمرًا فيه سنين كثيرة بقرية الدرية وأهل قرية الصوءر يتلفونه على أيديهم، ويسمونه ولي الله. فسجدوا له لما رأوه، وحضر معه جماعة من دعاته وخاصته، وأعلمهم أن القاسم بن أحمد أعظم الناس عليهم منة، وأنه ردهم إلى الدين بعد خروجهم منه، وأنهم إذا امتثلوا أنجز مواعيدهم، وبلغهم آمالهم. ورمز لهم رموزًا؛ وذكر فيها آيات القرآن، نقلها عن الوجه الذي أنزلت فيه، واعترف لزكرويه حميع من رسخ حب الكفر إلى قلبه؛ من عربي ومولى ونبطي وغيرهم أنه رئيسهم المقدم، وكهفهم وملاذهم، وأيقنوا بالنصر وبلوغ الأمل. وسار بهم وهو محجوب عنهم يدعونه السيد، ولا يبرزونه لمن في عسكرهم، والقاسم يتولى الأمور دونه، ويمضيها على رأيه إلى مؤاخر سقى الفرات من عمل الكوفة، وأعلمهم أن أهل السواد قاطبة خارجون إليه، فأقام هنالك نيفًا وعشرين يومًا؛ يبث رسله في السواديين مستلحقين، فلم يلحق بهم من السواديين إلا من لحقته الشقوه، وهم زهاء خمسمائة رجل بنسائهم وأولادهم، وسرب إليه السلطان الجنود، وكتب إلى كل من كان نفذ نحو الأنبار وهيت لضبطها خوفًا من معاودة المقيمين، كانوا بالماءين إليها بالانصراف نحو الكوفة، فعجل إليهم جماعة من القواد منهم، بشر الأفشيني وجنى الصفواني ونحرير العمري، ورائق فتى أمير المؤمنين والغلمان الصغار المعروفين بالحجرية، فأوقعوا بأعداء الله بقرب قرية الصوءر، فقتلوا رجالتهم وجماعة من فرسانهم، وأسلموا بيوتهم في أيديهم، فدخلوها، وتشاغلوا بها، فعطفت القرامطة عليهم فهزموهم.
وذكر عن بعض من ذكر أنه حضر مجلس محمد بن داود بن الجراح، وقد أدخل إليه قوم من القرامطة، منهم سلف زكرويه، فكان مما حدثه أن قال: كان زكرويه مختفيًا في منزلي في سرداب في داري عليه باب حديد، وكان لنا تنور ننقله، فإذا جاءنا الطلب وضعنا التنور على باب السرداب، وقامت امرأة تسجره؛ فمكث كذلك أربع سنين، وذلك في أيام المعتضد. وكان يقول: لا أخرج والمعتضد في الأحياء. ثم انتقل من منزلي إلى دار قد جعل فيها بيت وراء باب الدار، إذا فتح باب الدار انطبق على باب البيت، فيدخل الداخل فلا يرى باب البيت الذي هو فيه، فلم يزل هذه حاله حتى مات المعتضد، فحينئذ أنفذ الدعاة، وعمل في الخروج.
ولما ورد خبر الوقعة التي كانت بين القرمطي وأصحاب السلطان بالصوءر على السلطان والناس، أعظموه، وندب للخروج إلى الكوفة من ذكرت من القواد، وجعلت الرئاسة لمحمد بن إسحاق بن كنداج، وضم إليه جماعة من أعراب بني شيبان والنمر زهاء ألفي رجل، وأعطوا الأرزاق.
ولاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى قدم بغداد من مكة جماعة نحو العشرة، فصاروا إلى باب السلطان، وسألوه توجيه جيش إلى بلدهم، لأنهم على خوف من الخارج بناحية اليمن أن يطأ بلدهم، وإذ كان قد قرب منها بزعمهم.
وفي يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من رجب، قرىء على المنبر ببغداد كتاب ورد على السلطان، وأن أهل صنعاء وغيرهم من مدن اليمن اجتمعوا على الخارجي الذي تغلب عليها، فحاربوه وهزموه، وفلوا جموعه، فانحاز إلى موضع من نواحي اليمن، ثم خلع السلطان لثلاث خلون من شوال على مظفر ابن حاج، وعقد له على اليمن، فخرج ابن حاج لخمس خلون من ذي القعدة، ومضى إلى عمله باليمن، فأقام بها حتى مات.
ولسبع بقين من رجب من هذه السنة، أخرج مضرب المكتفى، فضرب بباب الشماسية على أن يخرج إلى الشأم بسبب ابن الخليج، فوردت خريطة لست بقين منه من مصر من قبل فاتك، يذكر أنه والقواد زحفوا إلى الخليجي، وكانت بينهم حروب كثيرة، وأن آخر حرب جرت بينهم وبينه قتل فيها أكثر أصحابه، ثم انهزم الباقوان، فظفروا بهم، واحتووا على معسكرهم، فهرب الخليجي حتى دخل الفسطاط، فاستر بها عند رجل من أهل البلد، ودخل الأولياء الفسطاط.
فلما استقروا بها دل على الخليجي، وعلى من كان استر معه ممن شايعه، فقبض عليهم وحبسهم قبله، فكتب إلى فاتك في حمل الخليجي ومن أخذ معه إلى مدينة السلام، فردت مضارب المكتفى التي أخرجت إلى باب الشماسية، ووجه في رد خزائنه، فردت.
وقد كانت جاوزت تكريت.
ثم وجه فاتك الخليجي من مصر وجماعة ممن أسر معه مع بشر مولى محمد بن أبي الساج إلى مدينة السلام.
فلما كان يوم الخميس للنصف من شهر رمضان من هذه السنة أدخل مدينة السلام من باب الشماسية، وقدم بين يديه إحدى وعشرون رجلًا على جمال، وعليهم برانس ودراريع حرير، منهم ابنا بينك - فيما قيل - وابن أشكال الذي كان صار إلى السلطان من عسكر عمرو الصفار في الأمان، وصندل المزاحمي الخادم الأسود.
فلما وصل الخليجي إلى المكتفى، فنظر إليه أمر بحبسه في الدار، وأمر بحبس الآخرين في الحديد، فوجه بهم إلى ابن عمرويه، وكانت إليه الشرطة ببغداد، ثم خلع المكتفى على وزيره العباس بن الحسن خلعًا، لحسن تدبيره في هذا الفتح، وخلع على بشر الأفشيني.
ولخمس خلون من شوال أدخل بغداد رأس القرمطي المسمى نصرًا الذي كان انتهب هيت منصوبًا على قناة.
ولسبع خلون من شوال ورد الخبر مدينة السلام أن الروم أغاروا على قورس، فقاتلهم أهلها، فهوموهم، وقتلوا أكثرهم، وقتلوا رؤساء بني تميم، ودخلوا المدينة، وأحرقوا مسجدها، واستاقوا من بقي من أهلها.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة
فمما كان فيها من ذلك دخول ابن كيغلغ طرسوس غازيًا في أول المحرم، وخرج معه رستم، وهي غزاة رستم الثانية، فبلغوا سلندو، ففتح الله عليهم، وصاروا إلى آلس، فحصل في أيديهم نحو من خمسة آلاف رأس، وقتلوا من الروم مقتلة عظيمة، وانصرفوا سالمين.
خبر زكرويه بن مهرويه القرمطي
ولاثنتي عشرة خلت من المحرم ورد الخبر مدينة السلام أن زكرويه بن مهرويه القرمطي ارتحل من الموضع المعروف بنهر المثنية، يريد الحاج، وأنه وافى موضعًا بينه وبين واقصة أربعة أميال.
وذكر عن محمد بن داود أنهم مضوا في البر من جهة المشرق، حتى صاروا بالماء المسمى سلمان، وصار ما بينهم وبين السواد مفازة، فأقام بموضعه يريد الحاج ينتظر القافلة الأولى، ووافت القافلة واقصة لست - أو سبع - خلون من المحرم، فأنذرهم أهل المنزل، وأخبرهم أن بينهم وبينهم أربعة أميال. فارتحلوا ولم يقيموا، فنجوا.
وكان في هذه القافلة الحسن بن موسى الربعي وسيما الإبراهيمي، فلما أمعنت القافلة في السير صار القرمطي إلى واقصة، فسألهم عن القافلة فأخبروه أنها لم تقم بواقصة، فاتهمهم بإنذارهم إياهم، فقتل من العلافين بها جماعة، وأحرق العلف، وتحصن أهلها في حصنهم، فأقام بها أيامًا، ثم ارتحل عنها نحو زبالة.
وذكر عن محمد بن داود أنه قال: إن العساكر سارت في طلب زكرويه نحو عيون الطف، ثم انصرف عنه لما علمت بمكانه بسلمان، ونفذ علان بن كشمرد مع قطعة من فرسان الجيش متجردة على طريق جادة مكة نحو زكرويه، حتى نزلوا السبال، فمضى نحو واقصة حتى نزلها بعد أن جازت القافلة الأولى، ومر زكرويه في طريقه بطوائف بني أسد، فأخذها من بيوتها معه، وقصد الحاج المنصرفين إلى مكة، وقصد الجادة نحوهم.
ووافى الخبر الطير من الحوفة لأربع عشر بقيت من المحرم من هذه السنة بأن زكرويه اعترض قافلة الخراسانية يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من المحرم بالعقبة من طريق مكة، فحاربوه حربًا شديدًا، فساءلهم: وقال: أفيكم السلطان؟ قالوا: ليس معنا سلطان، ونحن الحاج، فقال لهم: فامضوا فلست أريدكم.
فلما سارت القافلة تبعها فأوقع بها، وجعل أصحابه ينخسون الجمال بالرماح، ويبعجونها بالسيوف، فنفرت، واختلطت القافلة، وأكب أصحاب الخبيث على الحاج يقتلونهم كيف شاءوا، فقتلوا الرجال والنساء، وسبوا من النساء من أرادو، واحتووا على ما كان في القافلة، وقد كان لقي بعض من أفلت من هذه القافلة علان بن كشمرد، فسأله عن الخبر، فأعلمه ما نزل بالقافلة الخراسانية، وقال له: ما بينك وبين القوم إلا قليل، والليلة أو في غد توافى القافلة الثانية، فإن رأوا علما للسلطان قويت أنفسهم. والله الله فيهم! فرجع علان من ساعته، وأمر من معه بالرجوع، وقال: لا أعرض أصحاب السلطان للقتل، ثم أصعد زكرويه، ووافته القافلة الثانية.
وقد كان السلطان كتب إلى رؤساء القافلتين الثانية والثالثة ومن كان فيهما من القواد والكتاب مع جماعة من الرسل الذين تنكبوا طريق الجادة بخبر الفاسق وفعله بالحاج، ويأمرهم بالتحرز منه، والعدول عن الجادة نحو واسط والبصرة، أو الرجوع إلى فيد أو إلى المدينة، إلى أن يلحق بهم الجيوش. ووصلت الكتب إليهم فلم يسمعوا ولم يقيموا، ولم يلبثوا.
وتقدم أهل القافلة الثانية وفيها المبارك القمى وأحمد بن نصر العقيلي وأحمد بن علي بن الحسين الهمداني، فوافوا الفجرة، وقد رحلوا عن واقصة، وعوروا مياهها، ومثلوا بركها وبئارها بجيف الإبل والدواب التي كانت معهم، مشققة بطونها، ووردوا منزل العقبة في يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من المحرم، فحاربهم أصحاب القافلة الثانية.
وكان أبو العشائر مع أصحابه في أول القافلة ومبارك القمى فيمن معه في ساقتها، فجرت بينهم حرب شديدة حتى كشفوهم، وأشرفوا على الظفر بهم، فوجد الفجرة من ساقتهم غرة، فركبوهم من جهتها، ووضعوا رماحهم في جنوب إبلهم وبطونها، فطحنتهم الإبل وتمكنوا منهم، فوضعوا السيف فيهم فقتلوهم عن آخرهم، إلا من استعبدوه.
ثم أنفذوا إلى ما دون العقبة بأميال فوارس لحقوا المفلتة من السيف، فأعطوهم الأمان، فرجعوا فقتلوهم أجمعين، وسبوا من النساء ما أحبوا، واكتسحوا الأموال والأمتعة.
وقتل المبارك القمى والمظفر ابنه، وأسر أبو العشائر، وجمع القتلى، فوضع بعضهم على بعض، حتى صاروا كالتل العظيم.
ثم قطعت يدا أبي العشائر ورجلاه، وضربت عنقه، وأطلق من النساء من لم يرغبوا فيه، وأفلت من الجرحى قوم وقعوا بين القتلى، فتحاملوا في الليل ومضوا؛ فمنهم من مات، ومنهم من نجا وهم قليل.
وكان نساء القرامطة يطفن مع صبيانهم في القتلى يعرضون عليهم الماء، فمن كلمهم أجازوا عليه.
وقيل أنه كان في القافلة من الحاج زهاء عشرين ألف رجل، قتل جميعهم غير نفر يسير ممن قوى على العدو، فنجا بغير زاد ومن وقع في القتل وهو مجروح، وأفلت بعد، أو من استعبدوه لخدمتهم.
وذكر أن الذي أخذوا من المال والأمتعة الفاخرة في هذه القافلة قيمة ألفي ألف دينار.
وذكر عن بعض الضرابين أنه قال: وردت علينا كتب الضرابين بمصر أنكم في هذه السنة تستغنون، قد وجه آل ابن طولون والقواد المصريون الذين أشخصوا إلى مدينة السلام، ومن كان في مثل حالهم في حمل ما لهم بمصر إلى مدينة السلام، وقد سبكوا آنية الذهب والفضة والحلى نقارًا، وحمل إلى مكة ليوافوا به مدينة السلام مع الحاج، فحمل، في القوافل الشاخصة إلى مدينة السلام، فذهب ذلك كله.
وذكر أن القرامطة بينا هم يقتلون وينهبون هذه القافلة يوم الاثنين، إذ أقبلت قافلة الخراسانية، فخرج إليهم جماعة من القرامطة، فراقعوهم، فكان سبيلهم سبيل هذه.
فلنا فرغ زكرويه من أهل القافلة الثانية من الحاج.
وأخذ أموالهم، واستباح حريمهم، رحل من وقته من العقبة بعد أن ملأ البرك والآبار بها بالجيف من الناس والدواب.
وكان ورد خبر قطعة على القافلة الثانية من قوافل السلطان مدينة السلام في عشية يوم الجمعة لأربع عشرة بقيت من المحرم، فعظم ذلك على الناس جميعًا وعلى السلطان، وندب الوزير العباس بن الحسن بن أيوب محمد بن داود بن الجراح الكاتب المتولي دواوين الخراج والضياع بالمشرق وديوان الجيش للخروج إلى الكوفة، والمقام بها لإنفاذ الجيوش إلى القرمطي.
فخرج من بغداد لإحدى عشرة بقيت من المحرم، وحمل معه أموالًا كثيرة لإعطاء الجند.
ثم سار زكرويه إلى زبالة فنزلها، وبث الطلائع أمامه ووراءه خوفًا من أصحاب السلطان المقيمين بالقادسية أن يلحقوه، ومتوقعًا ورود القافلة الثالثة التي فيها الأموال والتجار.
ثم سار إلى الثعلبية، ثم إلى الشقوق، وأقام بها بين الشقوق والبطان في طرف الرمل في موضع يعرف بالطليح، ينتظر القافلة الثالثة، وفيها من القواد نفيس المولدي وصالح الأسود، ومعه الشمسة والخزانة.
وكانت الشمسة جعل فيها المعتضد جوهرًا نفيسًا.
وفي هذه القافلة، كان إبراهيم ابن أبي الأشعث - وإليه كان قضاء مكة والمدينة وأمر طريق مكة والنفقة فيه لمصالحه - وميمون بن إبراهيم الكاتب - وكان إليه أمر ديوان زمام الخراج والضياع - وأحمد بن محمد بن أحمد المعروف بابن الهزلج، والفراتبن أحمد بن محمد بن الفرات، والحسن بن إسماعيل قرابة العباس بن الحسن - وكان يتولى بريد الحرمين - وعلي بن العباس النهيكي.
فلما صار أهل هذه القافلة إلى فيد بلغهم خبر الخبيث زكرويه وأصحابه، وأقاموا بفيد أيامًا ينتظرون تقوية لهم من قبل السلطان.
وقد كان ابن كشمرد رجع من الطريق إلى القادسية في الجيوش التي أنفذها السلطان معه وقبله وبعد.
ثم سار زكرويه إلى فيد وبها عامل السلطان، يقال له حامد بن فيروز، فالتجأ منه حامد إلى أحد حصنيها في نحو من مائة رجل كانوا معه في المسجد، وشحن الحصن الأخر بالرجال، فجعل زكرويه يراسل أهل فيد، ويسألهم أن يسلموا إليه عاملهم ومن فيها من الجند، وأنهم إن فعلوا ذلك آمنهم.
فلم يجيبوه إلى ما سأل.
ولما لم يجيبوه حاربهم، فلم يظفر منهم بشيء.
قال: فلما رأى أنه لا طاقة له بأهلها، تنحى فصار إلى النباح، ثم إلى حفير أبي موسى الأشعري.
وفي أول شهر ربيع الأول أنهض المكتفى وصيف صوارتكين - ومعه من القواد جماعة - فنفذوا من القادسية على طريق خفان، فلقيه وصيف يوم السبت لثمان بقين من شهر ربيع الأول، فاقتتلوا يومهم، ثم حجز بينهم الليل، فباتوا يتحارسون، ثم عادوهم الحرب، فقتل جيش السلطان منهم مقتلة عظيمة، وخلصوا إلى عدو الله زكرويه، فضربه بعض الجند بالسيف على قفاه وهو مول ضربة اتصلت بدماغه.
فأخذ أسيرًا وخلفته وجماعة من خاصته وأقربائه، فيهم ابنه وكاتبه وزوجته، واحتوى الجند على ما في عسكره.
وعاش زكرويه خمسة أيام ثم مات، فشق بطنه، ثم حمل بهيئته، وانصرف بمن كان بقي حيًا في يديه من أسرى الحاج.
وفيها غزا ابن كيغلغ من طرسوس، فأصاب من العدو أربعة آلاف رأس سبي ودواب ومواشي كثيرة ومتاعًا.
ودخل بطريق من البطارقة إليه في الأمان، وأسلم.
وكان شخوصه من طرسوس لهذه الغزاة في أول المحرم من هذه السنة.
وفيها كاتب أندور نقس البطريق السلطان يطلب الأمان، وكان على حرب أهل الثغور من قبل صاحب الروم، فأعطى ذلك، فخرج، وأخرج نحوًا من مائتي نفس من المسلمين كانوا أسرى في حصنه، وكان صاحب الروم قد وجه إليه من يقبض عليه، فأعطى المسلمين الذين كانوا في حصنه أسرى السلاح، وأخرج معهم بعض بنيه، فكبسوا البطريق الموجه إليه للقبض عليه ليلًا؛ فقتلوا ممن معه خلقًا كثيرًا، وغنموا ما في عسكره.
وكان رستم قد خرج في أهل الثغور في جمادى الأولى قاصدًا أندرونقس ليتخلصه، فرافى رستم قونية بعقب الوقعة.
وعلم البطارقة بمسير المسلمين إليهم فانصرفوا، ووجه أندرونقس ابنه إلى رستم، ووجه رستم كاتبه وجماعة من البحرين، فباتوا في الحصن، فلما أصبحوا خرج أندرونقس وجميع من معه من أسارى المسلمين، ومن صار إليهم منهم، ومن وافقه على رأيه من النصارى، وأخرج ماله ومتاعه إلى معسكر المسلمين، وخرب المسلمون قونية، ثم قفلوا إلى طرسوس وأندرونقس وأسارى المسلمين ومن كان مع أندرونقس من النصارى.
وفي جمادى الآخرة منها كانت بين أصحاب حسين بن حمدان بن حمدون وجماعة من أصحاب زكرويه كانوا هربوا من الوقعة التي أصابه فيها ما أصابه، وأخذوا طريق الفرات.
يريدون الشأم، فأوقع بهم الوقعة، فقتل جماعة منهم، وأسر جماعة من نسائهم وصبيانهم.
وفيها وافى رسل ملك الروم أحدهم خال ولده اليون وبسيل الخادم، ومعهم جماعة باب الشماسية بكتاب منه إلى المكتفى يسأله الفداء بمن في بلاده من المسلمين، من في بلاد الإسلام من الروم، وأن يوجه المكتفى رسولًا إلى بلاد الروم ليجمع الأسرى من المسلمين الذين في بلاده، وليجتمع هو معه على أمر يتفقان عليه، ويتخلف بسيل الخادم بطرسوس ليجتمع إليه الأسرى من الروم في الثغور ليصيرهم مع صاحب السلطان إلى موضع الفداء.
فأقاموا بباب الشماسية أيامًا، ثم أدخلوا بغداد ومعهم هدية من صاحب الروم عشرة من أسارى المسلمين، فقبلت منهم.
وأجيب صاحب الروم إلى ما سأل.
وفيها أخذ رجل بالشأم - زعم أنه السفياني - فحمل هو وجماعة معه من الشأم إلى باب السلطان، فقيل إنه موسوس.
وفيها أخذ الأعراب بطريق مكة رجلين يعرف أحدهما بالحداد والآخر بالمنتقم، وذكر أن المعروف بالمنتقم منهما أخو امرأة زكرويه، فدفعوهما إلى نزار بالكوفة، فوجههما نزار إلى السلطان، فذكر عن الأعراب أنهما كانا صار إليهما يدعوانهم إلى الخروج على السلطان.
وفيها وجه الحسين بن حمدان من طريق الشأم رجلًا يعرف بالكيال مع ستين رجل من أصحابه إلى السلطان كانوا استأمنوا إليه من أصحاب زكرويه.
وفيها وصل إلى بغداد أندورنقس البطريق.
وفيها كانت وقعة بين الحسين بن حمدان وأعراب كليب والنمر وأسد وغيرهم، اجتمعوا عليه في شهر رمضان منها، فهزموه حتى بلغوا به باب حلب.
وفيها حاصر أعراب طيىء وصيف بن صوارتكين بفيد، وكان وجه أميرًا على الموسم، فحوصر ثلاثة أيام، ثم خرج إليهم، فواقعوهم فقتل منهم قتلى، ثم انهزمت الأعراب ورحل وصيف من فيد بمن معه من الحاج.
وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من خروج عبد الله بن إبراهيم المسمعي عن مدينة أصبهان إلى قرية من قراها على فراسخ منها وانضمام نحو من عشرة آلاف من الأكراد وغيرهم - فيما ذكر - إليه مظهرًا الخلاف على السلطان.
فأمر بدر الحمامي بالشخوص إليه، وضم إليه جماعة من القواد ونحو من خمسة آلاف من الجند.
وفيها كانت وقعة للحسين بن موسى على أعراب طيىء الذين كانوا حاربوا وصيف بن صوارتكين على غرة منهم، فقتل من رجالهم - فيما قيل - سبعين، وأسر من فرسانهم جماعة.
وفيها توفي أبو إبراهيم إسماعيل بن احمد عامل خراسان وما وراء النهر في صفر منها، لأربع عشرة خلت منه، وقام ابنه أحمد بن إسماعيل بن أحمد في عمل أبيه مقامه، وولى أعمال أبيه.
وذكر أن المكتفي لأربع ليال خلون من شهر ربيع الآخر قعد، فقعد بيده لواء ودفعه إلى طاهرين علي بن وزير، وخلع عليه وأمره بالخروج باللواء إلى أحمد بن إسماعيل.
وفيها وجه منصور بن عبد الله بن منصور الكاتب إلى عبد الله بن إبراهيم المسمعي، وكتب إليه يخوفه عاقبة الخلاف إليه، فتوجه إليه، فلما صار إليه ناظره، فرجع إلى طاعة السلطان، وشخص في نفر من غلمانه، واستخلف على عمله بأصبهان خليفة، وعه منصور بن عبد الله، حتى صار إلى باب السلطان، فرضى عنه المكتفى ووصله وخلع عليه وعلى ابنه.
وفيها أوقع الحسين بن موسى بالكردي المتغلب كان على نواحي الموصل، فظفر بأصحابه، واستباح عسكره وأمواله، وأفلت الكردي فتعلق بالجبال فلم يدرك.
وفيها فتح المظفر بن حاج بعض ما كان غلب عليه بعض الخوارج باليمن، وأخذ رئيسًا من رؤسائهم يعرف بالحكيمي.
وفيها لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة أمر خاقان المفلحي بالشخوص إلى أذربيجان لحرب يوسف بن أبي الساج، وضم إليه نحو أربعة آلاف رجل من الجند.
ولثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان دخل بغداد رسول أبي مضر زيادة الله بن الأعلف، ومعه فتح الأعجمي، ومعه هدايا وجه بها إلى المكتفي.
وفيها تم الفداء بين المسلمين والروم في ذي القعدة؛ وكانت عدة من فودى به من الرجال والنساء ثلاثمائة آلاف نفس.
وفي ذي القعدة لاثنتي ليلة خلت منها توفي المكتفى بالله، وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وتسعة عشر يومًا، وكان يوم توفي ابن اثنتين وثلاثين سنة يومئذ، وكان ولد سنة أربع وستين ومائتين، ويكنى أبا محمد، وأمه أم ولد تركية تسمى جيجك.
وكان ربعة جميلًا، رقيق اللون، حسن الشعر، وافر الحمة، وافر اللحية.
خلافة المقتدر بالله
ثم بويع جعفر عبد المعتضد بالله؛ ولما بويع جعفر بن المعتضد لقب المقتدر بالله وهو يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وشهر واحد وأحد عشرين يومًا.
وكان مولده ليلة الجمعة لثمان بقين من شهر رمضان من سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وكنيته أبو الفضل، وأمه أم ولد يقال لها شغب، فذكر كان في بيت المال يوم بويع خمسة عشر ألف ألف دينار.
ولما بويع المقتدر غسل المكتفى وصلي عليه، ودفن في موضع من دار محمد بن عبد الله بن طاهر.
وفيها كانت بين عج بن حاج والجند وقعة في اليوم الثاني من أيام منى، قتل فيها جماعة، وجرح منهم، بسبب طلبهم جائزة بيعة المقتدر، وهرب الناس الذين كانوا بمنى بستان ابن عامر، وانتهب الجند مضرب أبي عدنان ربيعة بن محمد بمنى.
وكان أحد أمراء القوافل، وأصاب المنصرفين من مكة في منصرفهم في الطريق من القطع والعطش أمر غليظ، مات من العطش - فيما قيل - منهم جماعة.
وسمعت بعض من يحكي أن الرجل كان يبول في كفه، ثم يشربه.
وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من اجتماع جماعة من القواد والكتاب والقضاة على خلع المقتدر، وتناظرهم فيمن يجعل في موضعه، فاجتمع رأيهم على عبد الله بن المعتز وناظره في ذلك، فأجابهم إلى ذلك على ألا يكون في سفك ذلك دم ولا حرب، فأخبروه أن الأمر يسلم عفوًا، وأن جميع من وراءهم من الجند والقواد والكتاب قد رضوا به.
فبايعهم على ذلك، وكان الرأس في ذلك محمد بن داود ابن الجراح وأبو المثنى أحمد بن يعقوب القاضي، وواطأ محمد بن داود بن الجراح جماعة من القواد على الفتك بالمقتدر والبيعة لعبد الله بن المعتز، وكان العباس بن الحسن على مثل رأيهم.
فلما رأى العباس أمره مستوثقًا له مع المقتدر، بدا له فيما كان عزم عليه من ذلك، فحينئذ وثب به الأخرون فقتلوه، وكان الذي تولى قتله بدر الأعجمي والحسين بن حمدان ووصيف بن صوارتكين، وذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول.
ولما كان من غد هذا اليوم - وذلك يوم الأحد - خلع المقتدر القواد والكتاب وقضاة بغداد، وبايعوا عبد الله بن المعتز، ولقبوه الراضي بالله.
وكان الذي أخذ له البيعة على القواد وتولى استحلافهم والدعاء بأسماءهم محمد بن سعيد الأزرق كاتب الجيش.
وفي هذا اليوم كانت بين الحسين بن حمدان وبين غلمان الدار حرب شديدة من غدوه إلى انتصاف النهار.
وفيه انتفضت الجموع التي كان محمد بن داود جمعها لبيعة ابن المعتز عنه؛ وذلك أن الخادم الذي يدعى مؤنسًا حمل غلمانًا من غلمان الدار في شذوات، فصاعد بها وهم فيها في دجلة فلما حاذوا الدار التي فيها ابن المعتز ومحمد بن داود صاحاو بهم، ورشقوهم بالنشاب، فتفرقوا، وهرب من في الدار من الجند والقواد والكتاب، وهرب ابن المعتز، ولحق بعض الذين بايعوا ابن المعتز بالمقتدر، فاعتذروا بأنه منع من المصير إليه، واختفى بعضهم فأخذوا وقتلوا وانتهب العامة دور ابن داود بن الحسن؛ وأخذ ابن المعتز فيمن أخذ.
وفي يوم السبت لأربع بقين من شهر ربيع الأول منها سقط الثلج ببغداد من غدوة إلى قدر صلاة العصر، حتى صار في الدور والسطوح منه نحو من أربعة أصابع، وذكر أنه لم ير ببغداد مثل ذلك قط.
وفي يوم الاثنين لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول منها، سلم محمد بن يوسف القاضي ومحمد بن عمرويه وأبو المثنى وابن الحصاص والأزرق كاتب الجيش في جماعة غيرهم إلى مؤنس الخازن، فترك أبا المثنى في دار السلطان، ونقل الآخرين إلى منزله، فافتدى بعضهم نفسه، وقتل بعضهم، وشفع في بعض فأطلق.
وفيها كانت وقعة بين طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث وسبكرى غلام عمرو بن الليث، فأسر سبكرى طاهرًا، ووجهه مع أخيه يعقوب بن محمد إلى السلطان.
وفيها وجه القاسم بن سيما مع جماعة من القواد والجند في طلب حسين بن حمدان بن حمدون، فشخص لذلك حتى صار إلى قرقيسيا والرحبة والدالية، وكتب إلى أخي الحسين عبد الله بن حمدان بن حمدون بطلب أخيه، فالتقى هو وأخوه بموضع يعرف بالأعمى بين تكريت والسودقانية بالجانب الغربي من دجلة، فانهزم عبد الله، وبعث الحسين يطلب الأمان، فأعطى ذلك.
ولسبع بقين من جمادى الآخرة منها وافى الحسين بن حمدان بغداد، فنزل باب حرب، ثم صار إلى دار السلطان من غد ذلك اليوم، فخلع عليه وعقد له على قم وقاشان.
ولست بقين من جمادى الآخرة، خلع على ابن دليل النصراني كاتب يوسف ابن أبي الساج ورسوله، وعقد ليوسف بن أبي الساج على المراغة وأذربيجان، وحملت إليه الخلع، وأمر بالشخوص إلى عمله.
وللنصف من شعبان منها خلع على مؤنس الخادم، وأمر بالشخوص إلى طرسوس لغزو الصائفة، فنفذ لذلك وخرج في عسكر كثيف وجماعة من القواد وغلمان الحجر.
وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك من غزو مؤنس الخادم الصائفة بلاد الروم من ثغر ملطية في جيش كثيف، ومعه أبو الأغر السلمي وظفر بالروم، وأسر أعلاجًا في آخر سنة ست وتسعين ومائتين، وورد الخبر بذلك على السلطان لست خلون من المحرم.
وفيها صار الليث بن علي بن الليث الصفار إلى فارس في جيش، فتغلب عليها، وطرد سبكري، وذلك بعد ما ولى السلطان سبكري بعد ما بعث سبكري طاهر بن محمد إلى السلطان أسيرًا، فأمر المقتدر مؤنسًا الخادم بالشخوص إلى فارس لحرب الليث بن علي، فشخص إليها في شهر رمضان منها.
وفيها وجه أيضًا المقتدر القاسم بن سيما لغزوة الصائفة ببلاد الروم في جمع كثير من الجند في شوال منها.
وفيها كانت بين مؤنس الخادم والليث بن علي بن الليث وقعة هزم فيها الليث، ثم أسر وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، واستأمن منهم إلى مؤنس جماعة كثيرة، ودخل أصحاب السلطان النوبندجان، وكان الليث قد تغلب عليها.
وأقام الحج فيها للناس الفضل بن عبد الملك بن عبد الله بن عبيد الله ابن العباس بن محمد.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان فيها من غزو القاسم بن سيما أرض الروم الصائفة.
وفيها وجه المقتدر وصيف كامه الديلمي في جيش وجماعة من القواد لحرب سبكري غلام عمرو بن الليث.
وفيها كانت بين سبكري ووصيف كامه وقعة هزمه فيها وصيف، وأخرجه من عمل فارس، ودخل وصيف كامه ومن معه فارس، واستأمن إليه من أصحاب سبكري جماعة كثيرة، فأسر رئيس عسكره المعروف بالقتال، ومضى سبكري هاربًا إلى أحمد بن إسماعيل بن أحمد بما معه من الأموال والذخائر فأخذ ما معه إسماعيل بن أحمد، وقبض عليه فحبسه.
وفيها كانت بين أحمد بن إسماعيل بن أحمد ومحمد بن علي بن الليث وقعة بناحية بست والرخج، أسره فيها أحمد بن إسماعيل.
وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من غزو رستم بن بردوا الصائفة من ناحية طرسوس، وهو وإلى الثغور من قبل بني نفيس، ومعه دميانة، فحاصر حصن مليح الأرمني، ثم رحل عنه، وأحرق أرباض ذي الكلاع.
وفيها ورد رسول أحمد بن إسماعيل بن أحمد بكتاب منه إلى السلطان يخبر فيه أنه فتح سجستان، وأن أصحابه دخلوها، وأخرجوا من كان بها من أصحاب الصفار، وأن المعدل بن علي بن الليث صار إليه بمن معه من أصحابه في الأمان، وكان المعدل يومئذ مقيمًا بزرنج، فصار إلى أحمد بن إسماعيل وهو مقيم ببست والرخج، فوجه به ابن إسماعيل وبعياله ومن معه إلى هراة، وبين سجستان وبست الرخج ستون فرسخًا، فوردت الخريطة بذلك على السلطان يوم الاثنين لعشر خلون من صفر.
وفيها وافى بغداد العطير صاحب زكرويه ومعه الأغر - وهو أيضًا أحد قواد زكرويه - مستأمنًا.
وفي ذي الحجة منها غضب على علي بن محمد بن الفرات لأربع خلون منه، وحبس ووكل بدوره ودور أهله وأخذ كل ما وجد له ولهم، وانتهت دوره ودور بني إخوته وأهلهم، واستوزر محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان.
وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك.
ثم دخلت سنة ثلثمائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من ورود بغداد رسول من العامل على برقة، وهي من عمل مصر، إلى ما خلفها بأربع فرسخ، ثم ما بعد ذلك من عمل المغرب بخير خارجي خرج عليه، وأنه ظفر بعسكره، وقتل خلقًا من أصحابه، ومعه آذان وأنوف من قتله في خيوط وأعلام الخارجي.
وفي هذه السنة كثرت الأمراض والعلل ببغداد في الناس، وذكر أن الكلاب والذئاب كلبت فيها بالبادية، فكانت تطلب الناس والدواب والبهائم، فإذا عضت إنسانًا أهلكته.
وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
ثم دخلت سنة إحدى وثلثمائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك عزل المقتدر محمد بن عبيد الله عن الوزارة وحبسه إياه مع ابنيه عبد الله وعبد الواحد وتصييره علي بن عيسى بن داود بن الجراح له وزيرًا.
وفيها كثر أيضًا الوباء ببغداد، فكان بها منه نوع سموه حنينًا، ومنه نوع سموه الماسرا؛ فأما الحنين فكانت سليمة، وأما الماسرا فكانت طاعونًا قتالة.
وفيها أحضر دار الوزير علي بن عيسى رجل - ذكر انه يعرف بالحلاج ويكنى أبا محمد - مشعوذ، ومعه صاحب له، سمعت جماعة من الناس يزعمون أنه يدعى الربوبية فصلب هو وصاحبة ثلاثة أيام، كل يوم من ذلك من أوله إلى انتصافه، ثم ينزل بهما، فيؤمر بهما إلى الحبس، فحبس مدة طويلة، فافتتن به جماعة منهم نصر القشوري وغيره، إلى أن ضج الناس، ودعوا على من يعيبه، وفحش أمره، وأخرج من الحبس، فقطعت يداه ورجلاه، ثم ضربت عنقه، ثم أحرق بالنار.
وفيها غزا الصائفة الحسين بن حمدان بن حمدون، فورد كتاب من طرسوس يذكر فيه أنه فتح حصونًا كثيرة، وقتل من الروم خلقًا كثيرًا.
وفيها قتل أحمد بن إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان وما وراء النهر؛ قتله غلام له تركي - أخص غلمانه به - ذبحًا، وهو غلامان معه، ودخلوا عليه في قبته، ثم هربوا فلم يدركوا.
وفيها وقع الاختلاف بين نصر بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد وعم أبيه إسحاق بن أحمد، فكان مع نصر بن أحمد غلمان أبيه وكتابه وجماعة من قواده والأموال والكراع السلاح، وانحاز بعد قتل أبيه إلى بخارى وإسحاق بن أحمد بسمرقند وهو عليل من نقرس به، فدعا الناس بسمرقند إلى مبايعته على الرئاسة عليهم، وبعث كل واحد منهما إلى السلطان كتبه خاطبًا على نفسه، عمل إسماعيل بن أحمد، وأنفذ إسحاق كتبه - فيما ذكر - إلى عمران المرزباني لإيصالها إلى السلطان، ففعل ذلك، وأنفذ نصر بن أحمد ابن إسماعيل كتبه إلى حماد ابن أحمد؛ ليتولى إيصالها إلى السلطان، ففعل.
وفيها كانت وقعة بين نصر بن إسماعيل وأصحابه من أهل بخارى وإسحاق بن أحمد عم أبيه وأصحابه من أهل سمرقند، لأربع عشرة بقيت من شعبان منها، هزم فيها نصر وأصحابه إسحاق وأهل سمرقند ومن كان قد انضم إليه من أهل النواحي، وتفرقوا عنه هاربين، وكانت هذه الوقعة بينهم على باب بخارى.
وفيها زحف أهل بخارى إلى أهل سمرقند بعدما هزموا إسحاق بن أحمد ومن معه، فكانت بينهم وقعة أخرى ظفر فيها أيضًا أهل بخارى بأهل سمرقند، فهزموهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ودخلوا سمرقند قسرًا، وأخذوا إسحاق بن أحمد أسيرًا، وولوا ما كان إليه من عمل ابنًا لعمرو بن نصر بن أحمد.
وفيها أصحاب ابن البصرى من أهل المغرب بالرقة، وطرد عنها عامل السلطان.
وولى أبو بكر محمد بن علي بن أحمد بن أبي زنبور الماذرائي أعمال مصر وخراجها.
وفيها قتل أبو سعيد الجنابي كان بناحية البحرين وهجر، قتله - فيما قيل - خادم له.
وفيها كثرت الأمراض والعلل ببغداد، وفشا الموت في أهلها، وكان أكثر ذلك - فيما قيل - في الحربية وأهل الأرباض.
وفيها وافى قائد من قواد ابن البصرى في البرابرة والمغاربة الإسكندرية.
وفيها ورد كتاب تكين عامل السلطان من مصر يسأله المدد.
وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلثمائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من إشخاص الوزير بن عيسى بن عبد الباقي في ألفي فارس فيها لغزو الصائفة، معونة لبشر خادم ابن أبي الساج وهو والى طرسوس من قبل السلطان، فلم يتيسر لهم غزو الصائفة، فغزوها شاتية في برد وثلج.
وفيها تنحى الحسن بن علي العلوي الأطروس بعد غلبته على طبرستان عن آمل، وصار إلى سالوس فأقام بها.
ووجه صعلوك صاحب الرى إلى جيشًا، فلم يكن لجيشه بها ثبات، وعاد الحسن بن علي إليها، ولم ير الناس مثل عدل الأطروش وحسن سيرته وإقامته الحق.
وفيها دخل حباسة صاحب ابن البصرى الإسكندرية، وغلب عليها، وذكر أنه وردها في مائتي مركب في البحر.
وفيها وافى حباسة صاحب ابن البصرى موضعًا من فسطاط مصر على مرحلة، يقال لها سفط، ثم رجع منه إلى وراء ذلك، فنزل منزلًا بين الفسطاط والإسكندرية.
وفيها شخص مؤنس الخادم إلى مصر لحرب حباسة، وقوي بالرجال والسلاح والمال.
وفيها لسبع بقين من جمادى الأولى قبض على الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص وعلى ابنية، واستصفى كل شيء له، ثم حبس وقييد.
وفيها كانت وقعة بمصر بين أصحاب السلطان وحباسة وأصحابه لست بقين من جمادى الأولى منها، فقتل من الفريقين جماعة، وجرحت منهم جماعة، ثم أخرى ذلك بيوم نحو التي كانت في هذه، ثم ثالثة بعد ذلك في جمادى منها.
ولأربع عشرة بقيت من عشرة من جمادى الآخرة، ورد كتاب بوقعة كانت بينهم، هزم أصحاب السلطان فيها المغاربة.
وفيها ورد كتاب من بشر عامل السلطان على طرسوس على السلطان، يذكر فيه غزوة أرض الروم، وما فتح فيها من الحصون، وما غنم وسبي، وأنه أسر من البطارقة مائة وخمسين، وأن مبلغ السبي نحو من ألفي رأس.
ولإحدى عشرة بقيت من رجب ورد الخبر من مصر أن أصحاب السلطان لقوا حباسة وأهل المغرب يقاتلونهم.
فكانت الهزيمة على المغاربة، فقتلوا منهم وأسروا سبعة آلاف رجل، وهرب الباقون مفلولين، وكانت الوقعة يوم الخميس بسلخ جمادى الآخرة.
وفيها انصرف حباسة ومن معه من المغاربة عن الإسكندرية راجعين إلى المغرب بعد ما ناظر - فيما ذكر - حباسة عامل السلطان بمصر على الدخول إليه بالأمان، وجرت بينهما في ذلك كتب.
وكان انصرافه - فيما ذكر - لاختلاف حدث بين أصحابه في الموضع الذي شخص منه.
وفيها أوقع يانس الخادم بناحية وادي الذئاب، وما قرب من ذلك الموضع بمن هنالك من الأعراب، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وذكر أنه قتل منهم سبعة آلاف رجل، ونهب بيوتهم، وأصاب في بيوتهم من أموال التجار وأمتعتهم التي كانوا أخذوها بقطع الطريق عليهم ما لا يحصى كثرته.
ولست خلون من ذي الحجة هلكت بدعة مولاة المأمون.
وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك.
وفي اليوم الثاني العشرين من ذي الحجة منها خرج أعراب من الحاجر على ثلاثة فراسخ مما يلي البر على المنصرفين من مكة، فقطعوا عليهم الطريق، وأخذوا ما معهم من العين واستاقوا من جمالهم ما أرادوا، وأخذوا - فيما قيل - مائتين وثمانين امرأة حرائر سوى من أخذوا من المماليك والإماء.