وإن الإنسان ليأخذه العَجَبُ من بعض الدعاة الذين يغفلون أو يتغافلون عن آيات القرآن وتأثيرها في نفوس المدعوين، فهم يتكلمون بكل كلام يخطر ببالهم إلاَّ كلام الله تعالى حال دعوتهم، ولا يستدلون إلاَّ بالآيات القليلة، وفي بعض الأحيان لا يُسمع منهم آية واحدة، مع كثرة حديثهم وتشعبه
وقد أيَّد الله سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن الكريم، وأمره أن يدعوه به، ويعتمد عليه، وما ذاك إلاَّ لقوة تأثيره في النفوس، ولذا فإننا نجد نصوصاً قرآنية كثيرة تأمر بالدَّعوة بالقرآن العظيم نفسه وتحثُّ عليه، فمن ذلك:
.1قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: 19]. كان مجاهد رحمه الله يقول: «حيثما يأتي القرآن فهو داعٍ، وهو نذير، ثم قرأ: ﴿ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾
.2قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 2]. فأي قيمة هي يشتمل عليها هذا القرآن الذي أنزله خالق السموات والأرضين ومدبر أفلاك المجرات والنجوم والشموس والكواكب وكل ما في الكون علمناه أم لم نعلمه
🔺🔺🔺🔺🔺🔺🔺🔺🔺🔺🔺🔺🔺🔺
3.قول الله تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ﴾ [الإسراء: 106]. فالله عزّ وجل، نَزَّل القرآن مُنَجَّماً ومفرَّقاً على الوقائع والأحداث إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم، في ثلاث وعشرين سنة ليقرأه عليهم ويبلغهم إياه على مهلٍ، ليتدبروا آياته ويؤمنوا به
وكذلك ينبغي على كل داعية حريص على الاقتداء بنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، أن يقرأ القرآن العظيم على الناس ويدعوهم به على مهل، ليتأثروا بما فيه من حِكَمٍ وعلوم نافعة.
.4قول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ﴾ [الأنبياء: 45]. فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى، لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، بأن ينذر الناسَ كلَّهم ويدعوهم بالقرآن العظيم الذي هو وحي من الله، فإن استجابوا فلأنفسهم، وإن لم يستجيبوا، فذلك لأن صوت القرآن الحكيم الذي سمعوه لم يجد قلباً قابلاً للهدى، فكان كالأصم الذي لا يسمع صوتاً، ولا يدري ماذا يقول المتحدِّث إليه
وكذلك الدَّاعية إلى الله عزّ وجل، يُنذر الناس بالقرآن ويخوفهم به، فمن لم يستجب منهم ولم يتأثر فذلك لأن قلبه خال من الخير والقبول به، فهو كالأصمِّ في عدم الانتفاع بما في الأصوات من معانٍ وأخبار.
.5قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 52]. فهذه الآية الكريمة نصٌّ صريح على أن الدَّعوة بالقرآن العظيم من أعظم أبواب الجهاد في سبيل الله تعالى، إذْ سمَّاه الله تعالى جهاداً، بل كبيراً، فما أعظم شرف الدعاة إلى الله تعالى، بلقب «المجاهدين جهاداً كبيراً»، وما أكبر هذه النِّعمة عليهم، التي تستحق منهم الشكر والإخلاص والعمل الدؤوب بمجاهدة الكافرين وغيرهم من عصاة المسلمين بالقرآن العظيم؛ لأن الذي يُجاهِدُ به الكفارَ، يكون مِنْ باب أَولى أن يُجاهِدَ به أهلَ المعصية من المسلمين.
وعن هذا الأمر يقول الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله: «وكما يُجاهَدُ أهلُ الكفر بالقرآن العظيم الجهاد الكبير، كذلك يُجاهَدُ به أهلُ المعصية؛ لأنه كتاب الهداية لكلِّ ضال، والدَّعوة لكل مرشد، وفي ذكر الكافرين تنبيه على العصاة، من التنبيه بالأعلى على الأدنى، لاشتراكهم في العلة وهي المخالفة... وكما أن الجهاد بالقرآن العظيم هو فرض عليه - أي: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم - فكذلك هو فرض على أمته، هكذا على الإجمال، وعند التفصيل تجده فرضاً على الدعاة والمرشدين الذين يقومون بهذا الفرض الكفائي على المسلمين، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم قدوة لأمته فيما اشتملت عليه الآية من نهي وأمر»
والدَّعوة بالقرآن العظيم هي الميزان الذي يُعْرَفُ به صلاح الدَّاعية وصدقه وسلامة منهجه، قال الشيخ ابن بادِيس رحمه الله: «عندما يختلف عليك الدُّعاة الذين يَدَّعي كل منهم أنه يدعوك إلى الله تعالى، فانظر مَنْ يدعوك بالقرآن إلى القرآن - وَمِثْلُه ما صح من السُّنة؛ لأنها تفسيره وبيانه - فاتَّبِعْه؛ لأنه هو المتّبِعُ للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، في دعوته وجهاده بالقرآن، والمتمثِّل لِمَا دلت عليه أمثال هذه الآية الكريمة من آيات القرآن»
.6قول الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ [القصص: 59]. وهذه الآية كذلك تُبَيِّنُ أهمية الدَّعوة بالقرآن، إذْ جعل الله سبحانه، سماعَ تلاوةِ الآيات ملاذاً ومعاذاً من نزول العذاب بالكافرين، وذلك لقيام الحجة عليهم بسماعهم للقرآن العظيم الذي هو أبلغُ وسيلة، وأعظمُ سببٍ للإيمان بالله عزّ وجل، والدُّخول في دينه
ومثل هذا، الآية قول الله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 6[
فقوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ﴾؛ «أي: القرآن الذي تقرؤه عليه، ويَتَدَبَّرُهُ، ويَطَّلِعُ على حقيقة الأمر، وتقوم عليه حُجَّةُ الله به، فَإِنْ أَسْلَمَ ثَبَتَ له ما للمسلمين، وإن أَبَى فإنه يُرَدُّ إلى مَأْمَنِه ودارِه التي يأمَنُ فيها، ثم قاتِلْهُ إِنْ شِئْتَ»
فلو لم يكن للقرآن العظيم من تأثيرٍ بالغٍ في قلوب سامعيه، لَمَا كان هو الحد الفاصل لنهاية إجارة المشرك.
.7قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45]. وذلك لأن القرآن يهزُّ القلوب، ويجعلها في خوف من شدة عذاب الله إن لم تؤمن بالقرآن، وتعمل بما فيه. فلذا كان القرآن الكريم أعظمَ سلاحٍ يستعمله الدُّعاة إلى الله سبحانه، في دعوتهم للناس، والتأثير فيهم
=======
يقول تعالى: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [يونس: 101]، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 185].
والنَّظر في ملَكوت السموات والأرض يتطلَّب أن يَقف الإنسان على ما تمَّ التوصُّل إليه من علومٍ هدى الله الناسَ إليها؛ ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ [البقرة: 255]،
قَوْلُهُ تَعَالَى : يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ .
أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى الرُّوحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْوَحْيُ ; لِأَنَّ الْوَحْيَ بِهِ حَيَاةُ الْأَرْوَاحِ ، كَمَا أَنَّ الْغِذَاءَ بِهِ حَيَاةُ الْأَجْسَامِ . وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ [ 42 \ 52 ] ، وَقَوْلُهُ : رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [ 40 \ 15 ، 16[
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الْوَحْيُ ; إِتْيَانُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ : يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ [ 16 \ 2 ] بِقَوْلِهِ : أَنْ أَنْذِرُوا [ 16 \ 2 ] ; لِأَنَّ الْإِنْذَارَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْوَحْيِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ الْآيَةَ [ 21 \ 45 ] ، وَكَذَلِكَ إِتْيَانُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ : يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [ 40 \ 15 ] ، بِقَوْلِهِ : لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ الْآيَةَ [ 40 \ 15 ] ; لِأَنَّ الْإِنْذَارَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْوَحْيِ أَيْضًا . وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو : " يَنْزِلُ " - بِضَمِّ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ - . وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ . وَلَفْظَةُ : " مِنْ " [ 16 \ 2 ] فِي الْآيَةِ تَبْعِيضِيَّةٌ ، أَوْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ .
وَقَوْلُهُ : عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [ 26 \ 2 ] ، أَيْ : يُنَزِّلُ الْوَحْيَ عَلَى مَنِ اخْتَارَهُ وَعَلِمَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ .
كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [ 22 \ 75 ] ، وَقَوْلِهِ : اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [ 6 \ 124 ] ، وَقَوْلِهِ : يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [ 40 \ 15 [ وَقَوْلِهِ : بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [ 2 \ 90[
وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَأَمْثَالُهَا رَدٌّ عَلَى الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ : لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [ 43 \ 31 [
(ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) (2(
المفردات:
- الروح: هي الوحي: أي الدين الموحى به من عند الله.
المعنى الإجمالي:
بعد أن نزه الله سبحانه وتعالى ذاته عن الشريك في الآية السابقة، بين أن كل دعوة الأنبياء كانت إلى التوحيد.
وأن الله هو الذي أنزل الملائكة بالدين الذي هو حياة القلوب كما أن الطعام هو حياة الأبدان، ولهذا سمى الدين المنزل بالروح.
وبينت الآية أن هدف الدعوة إلى دين الله هو التزام العباد بالتقوى.
المعنى التفصيلي:
- جاء التعبير بـ (ينزل) بالتشديد، وليس " ينزل "؛ لأن السياق سياق إثبات للتوحيد، وإن من الأمور المثبتة لذلك هو تنزيل الملائكة بالوحي، فناسب التشديد أهمية ذكر الوحي في سياق إثبات الوحدانية لله.
أو لأن المقصود بإنزال الملائكة هو نزولها من بداية البشرية إلى وفاة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو تنزيل عظيم على مدى هذه السنين الطويلة، فناسبه التشديد.
- جاء التعبير بالفعل المضارع (ينزل الملائكة)؛ لأن نزول الملائكة بالرسالات كان مستمرا حتى زمن نزول الآيات.
- قد يقال: إن الملك الذي ينزل بالوحي هو جبريل، فلماذا قيل (الملائكة) بالجمع علما أن جبريل عليه السلام مفرد؟
جاء ذكر (الملائكة) بالجمع؛ لأن الوحي قد يكون عن طريق جمع من الملائكة كما حصل لإبراهيم عليه السلام لما جاءه ضيفه من الملائكة (وبشروه بغلام عليم) (الذاريات: 28(
- الروح تأتي بعدة معان، منها ما تكون الحياة به: (ويسألونك عن الروح) (الإسراء: 85)، ومنها جبريل: (نزل به الروح الأمين) (الشعراء: 193)، ومنها الوحي: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) (الشورى: 52)
والمقصود بالروح في هذه الآية هو: الوحي.
والوحي قد يرد بعدة معان، فقد يراد به الإلهام (وأوحى ربك إلى النحل) (النحل: 68)، أو تكليم الملك للنبي، ومنه يطلق الوحي على الموحى به، وقد يراد به الإشارة (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) (مريم: 11(.
و المقصود به هنا هو الموحى به من الدين؛ لأنه حياة القلوب كما أن الطعام حياة الأبدان.
- قيل (بالروح) وليس " بالأرواح "؛ لأن الدين من الله واحد، رغم تعدد الأنبياء، فهو دين إلهي واحد، ولا يصح أن يقال: الأديان السماوية، ومن هنا ناسب التعبير عن الدين الواحد بالمفرد (الروح).
- قيل: إن (من) في الآية تبعيضية أو لبيان الجنس، وقيل: هي بمعنى الباء، أي بأمره.
فالمعنى إذا كانت تبعيضية: ينزل الملائكة بالروح ببعض أمره.
وإذا كانت لبيان الجنس: ينزل الملائكة بالروح من جنس أمره.
وإذا كانت بمعنى الباء أي سببية: ينزل الملائكة بالروح بأمره.
ولكن هذه الآية جاءت في سياق إظهار أمر الله في إنزال رسالة التوحيد عبر ملائكته على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وفي أمره باختيار من يبلغ التوحيد، وفي أمر الأنبياء والرسل أن يبلغوا التوحيد.
ولهذا قال تعالى (من يشاء من عباده) فأظهر المشيئة، ولو قال: على أنبيائه أو رسله، لدل على ذلك دون ذكر المشيئة، ولكن ذكر المشيئة مقصود في الآية؛ لإظهار مشيئة الله في إيصال عقيدة التوحيد لعباده.
وقال تعالى (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا) ليدل على أن إنذار الناس بالتوحيد كان أيضا بأمره.
ولهذا ناسب ذلك أن يكون معنى (من أمره) أي بسبب أمره، أي بأمره نزل الملائكة وبأمره اختير الأنبياء، وبأمره بلغ الناس، فأمره ظاهر في إرادة التوحيد من البداية إلى النهاية. والأمر هنا هو مفرد الأوامر، لا مفرد الأمور.
)أن) من قوله (أن أنذروا) هي (أن) المفسرة، فحقيقة ما أنزل الله على عباده التوحيد، فما من نبي ولا رسول إلا وقد دعا إلى التوحيد، قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) (الأنبياء: 25).
- في الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب، تدبر معي قوله تعالى (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا) حيث جاء النص بأسلوب الغيبة ثم جاء النص بالأمر بالتقوى ولكن بأسلوب الخطاب (فاتقون).
ودلالة هذا الالتفات من الغيبة إلى الخطاب هو إبراز أهمية التقوى؛ لأن إنزال الملائكة وبعث الرسل كله لأجل أن نتقي ربنا، فلا نشرك به شيئا ولا نعصيه، ولذا تغير الأسلوب؛ فإن من دلالات أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب إعلاء شأن موضوع الخطاب.
--------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق