*3*ما
قالته اليهود عند صرف القبلة إلى الكعبة
|
@ قال
ابن إسحاق : ولما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة ، وصُرفت في رجب على رأس سبعة
عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، أتى رسول الله صلى
الله عليه وسلم رفاعة بن قيس ، وقردم بن عمرو ، وكعب بن الأشرف ، ورافع بن أبي
رافع ، والحجاج بن عمرو ، حليف كعب بن الأشرف ، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق
، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، فقالوا : يا محمد ، ما ولاك عن قبلتك التي كنت
عليها وأنت تزعم (3/ 87) أنك على ملة إبراهيم ودينه ؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت
عليها نتبعك ونصدقك ، وإنما يريدون بذلك فتنته عن دينه . فأنزل الله تعالى فيهم
: ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، قل لله
المشرق والمغرب ، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . وكذلك جعلناكم أمة وسطا
لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا . وما جعلنا القبلة التي
كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) ، أي ابتلاء واختبارا
( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) ، أي من الفتن : أي الذين ثبَّت
الله ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) ، أي إيمانكم بالقبلة الأولى ، وتصديقكم
نبيكم ، واتباعكم إياه إلى القبلة الآخرة ، وطاعتكم نبيكم فيها : أي ليُعطينكم
أجرهما جميعا ( إن الله بالناس لرءوف رحيم ) .
|
ثم
قال تعالى : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر
المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) .
|
*3*تفسير ابن هشام لبعض الغريب
|
@ ابن هشام : شطره : نحوه وقصده . قال عمرو بن أحمر الباهلي -
وباهلة بن يعصر بن سعد بن قيس بن عيلان - يصف ناقة له :
|
تعدو
بنا شطر جمع وهي عاقدة * قد كارب العقد من إيفادها الحقبا
|
وهذا
البيت في قصيدة له . (3/ 88)
|
وقال
قيس بن خويلد الهذلي يصف ناقته :
|
إن
النَّعوس بها داء مخامرها * فشطرها نظر العينين محسورُ
|
وهذا
البيت في أبيات له .
|
قال
ابن هشام : والنعوس : ناقته ، وكان بها داء فنظر إليها نظر حسير ، من قوله : وهو
حسير .
|
( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ، وما الله
بغافل عما يعملون . ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ، وما
أنت بتابع قبلتهم ، وما بعضهم بتابع قبلة بعض ، ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما
جاءك من العلم ، إنك إذا لمن الظالمين ) .
|
قال
ابن إسحاق : إلى قوله تعالى : ( وإنه للحق من ربك ، فلا تكونن من الممترين ) .
|
*3*كتمانهم ما في التوراة من الحق
|
@ وسأل معاذ بن جبل ، أخو بني سلمة ، وسعد بن معاذ ، أخو بني
عبدالأشهل ؛ وخارجة بن زيد ، أخو بلحارث بن الخزرج ، نفرا من أحبار يهود عن بعض
ما في التوراة ، فكتموهم إياه ، وأبوا أن يخبروهم عنه . فأنزل الله تعالى فيهم :
( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب
أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) . (3/ 89)
|
*3*جوابهم للنبي عليه الصلاة و السلام حين دعاهم إلى الإسلام
|
@ قال : ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود من أهل الكتاب
إلى الإسلام ورغبهم فيه ، وحذرهم عذاب الله ونقمته ؛ فقال له رافع بن خارجة ،
ومالك بن عوف : بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا ، فهم كانوا أعلم وخيرا
منا .
|
فأنزل
الله عز وجل في ذلك من قولهما : ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل
نتبع ما ألفينا عليك آباءنا ، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) .
|
*3*جمعهم في سوق بني قينقاع
|
@ ولما أصاب الله عز وجل قريشا يوم بدر جمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يهود في سوق بني قينقاع ، حين قدم المدينة ، فقال : يا معشر يهود ،
أسلموا قبل أن يصيبكم الله بمثل ما أصاب به قريشا ، فقالوا له : يا محمد ، لا
يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش ، كانوا أغمارا لا يعرفون القتال ، إنك
والله لو قاتلتنا لعرفت أنَّا نحن الناس ، وأنك لم تلق مثلنا ، فأنزل الله تعالى
في ذلك من قولهم : ( قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد
كان لكم آية في فئتين التقتا ، فئة تقاتل في سبيل الله ، وأخرى كافرة ، يرونهم
مثليهم رأي العين ، والله يؤيد بنصره من يشاء ، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار )
. (3/ 90)
|
*3*دخوله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس
|
@ قال : ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على
جماعة من يهود ، فدعاهم إلى الله ؛ فقال له النعمان بن عمرو ، والحارث بن زيد :
على أي دين أنت يا محمد ؟ قال : على ملة إبراهيم ودينه ؛ قالا : فإن إبراهيم كان
يهوديا ؛ فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلم إلى التوراة ، فهي
بيننا وبينكم ، فأبيا عليه . فأنزل الله تعالى فيهما : ( ألم تر إلى الذين أوتوا
نصيبا من الكتاب يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، ثم يتولى فريق منهم وهم
معرضون . ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ، وغرهم في دينهم ما
كانوا يفترون ) .
|
*3*تنازع اليهود والنصارى في إبراهيم عليه السلام
|
@ وقال أحبار يهود ونصارى نجران ، حين اجتمعوا عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم فتنازعوا ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقالت
النصارى من أهل نجران : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا . فأنزل الله عز وجل فيهم :
( يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده
أفلا تعقلون ، ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ، (3/ 91) فلم تحاجون فيما
ليس لكم به علم ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون . ما كان إبراهيم يهوديا ولا
نصرانيا ، ولكن كان حنيفا مسلما ، وما كان من المشركين . إن أولى الناس بإبراهيم
لَلَّذين اتبعوه ، وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) .
|
*3*ما نزل في إيمانهم غدوة وكفرهم عشيا
|
@ وقال عبدالله بن صيف ، وعدي بن زيد ، والحارث بن عوف ، بعضهم
لبعض : تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ، ونكفر به عشية ، حتى نلبس
عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع ، ويرجعون عن دينه .
|
فأنزل
الله تعالى فيهم : ( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل ، وتكتمون الحق وأنتم
تعلمون . وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه
النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون . ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، قل إن الهدى
هدى الله أن يُؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم ، قل إن الفضل بيد
الله يؤتيه من يشاء ، والله واسع عليم ) .
|
*3*ما نزل في قول أبي رافع و النجراني ( أتريد أن نعبدك كما تعبد
النصارى عيسى )
|
@ وقال أبو رافع القرظي ، حين اجتمعت الأحبار من يهود ، والنصارى
من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الإسلام : أتريد
منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ وقال رجل من أهل نجران
نصراني ، يقال له : الرّبيِّس ، - ويروى : الريس ، والرئيس - : أو ذاك تريد منا
يا محمد وإليه تدعونا ؟ أو كما قال .
|
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره
، فما بذلك بعثني الله ، ولا أمرني ؛ أو كما قال . (3/ 92)
|
فأنزل
الله تعالى في ذلك من قولهما : ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم
والنبوة ، ثم يقولَ للناس كونوا عبادا لي من دون الله ، ولكن كونوا ربانيين بما
كنتم تعلمون الكتاب ، وبما كنتم تدرسون ) . .. إلى قوله تعالى : ( بعد إذ أنتم
مسلمون ) .
|
قال
ابن هشام : الربانيون : العلماء الفقهاء السادة ؛ واحدهم : رباني .
|
قال
الشاعر :
|
لو
كنت مرتهنا في القوس أفتنني * منها الكلام وربَّانيَّ أحبارِ
|
*3*تفسير ابن هشام لبعض الغريب
|
@ قال ابن هشام : القوس : صومعة الراهب . وأفتنني ، لغة تميم .
وفتنني ، لغة قيس .
|
قال
جرير :
|
لا
وصل إذ صرمت هند ولو وقفت * لاستنزلتني وذا المسحين في القوس
|
أي
صومعة الراهب . والربّاني : مشتق من الرب ، وهو السيد . وفي كتاب الله : ( فيسقي
ربه خمرا ) ، أي سيده .
|
قال
ابن إسحاق : ( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ، أيأمركم بالكفر
بعد إذ أنتم مسلمون ) .
|
*3*ما نزل في أخذ الميثاق عليهم
|
@ قال ابن إسحاق : ثم ذكر ما أخذ الله عليهم ، وعلى أنبيائهم من
الميثاق بتصديقه إذ هو جاءهم ، وإقرارهم ، فقال : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين
لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ،
قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ، قالوا أقررنا ، قال فاشهدوا وأنا معكم من
الشاهدين ) ... إلى آخر القصة . (3/ 93)
|
*3*سعيهم في الوقيعة بين الأنصار
|
@ قال ابن إسحاق : ومر شأس بن قيس ، وكان شيخا قد عسا ، عظيم
الكفر شديد الضغن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ، على نفر من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم من الأوس والخرزج ، في مجلس قد جمعهم ، يتحدثون فيه ، فغاظه
ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم ، وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الذي كان بينهم
من العداوة في الجاهلية .
|
فقال
: قد اجتمع ملأ بن قيلة بهذه البلاد ، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها
من قرار . فأمر فتى شابا من يهود كان معهم ، فقال : اعمد إليهم ، فاجلس معهم ،
ثم اذكر يوم بُعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار .
|
*3*شيء عن يوم بعاث
|
@ وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه
يومئذ للأوس على الخزرج ، وكان على الأوس يومئذ حُضير بن سماك الأشهلي ، أبو
أسيد بن حضير ؛ وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي ، فقتلا جميعا .
|
قال
ابن هشام : قال أبو قيس بن الأسلت :
|
على
أن قد فُجعت بذي حفاظ * فعاودني له حزن رصين
|
فإما
تقتلوه فإن عمرا * أعضَّ برأسه عَضْبٌ سَنينُ
|
وهذا
البيتان في قصيدة له . وحديث يوم بعاث أطول مما ذكرت ، وإنما منعني من استقصائه
ما ذكرت من القطع . (3/ 94)
|
*3*تفسير ابن هشام لبعض الغريب
|
@ قال ابن هشام : سنين : مسنون ، من سنَّه ، إذا شحذه .
|
قال
ابن إسحاق : ففعل . فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من
الحيين على الركب ، أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة بن الحارث ، من الأوس ، وجبار
بن صخر ، أحد بني سلمة من الخزرج ، فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم
رددناها الآن جذعة ، فغضب الفريقان جميعا ، وقالوا : قد فعلنا ، موعدكم الظاهرة
- والظاهرة : الحرة - السلاح السلاح . فخرجوا إليها .
|
فبلغ
ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين
حتى جاءهم ، فقال : يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين
أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ،
واستنقذكم به من الكفر ، وألف به بين قلوبكم ؛ فعرف أنها نزغة من الشيطان ، وكيد
من عدوهم ، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله
شأس بن قيس . فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وما صنع : ( قل يا أهل الكتاب لم
تكفرون بآيات الله ، والله شهيد على ما تعلمون . قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن
سبيل الله من آمن تبغونها عوجا ، وأنتم شهداء ، وما الله بغافل عما تعملون ) .
|
وأنزل
الله في أوس بن قيظي ، وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما
صنعوا عما أدخل عليهم شأسُ من أمر الجاهلية : ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا
فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وأنتم
تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم .
(3/ 95) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ، ولا تموتُنَّ إلا وأنتم
مسلمون ) ... إلى قوله تعالى : ( وأولئك لهم عذاب عظيم ) .
|
*3*ما نزل في قولهم : ( ما اتبع محمدا إلا شرارنا ) .
|
@ قال ابن إسحاق : ولما أسلم عبدالله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ،
وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، ومن أسلم من يهود معهم ، فآمنوا وصدقوا ورغبوا
في الإسلام ، ورسخوا فيه ، قال أحبار يهود ، أهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد ولا
اتبعه إلا شرارنا ، ولو كانوا من أخيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره .
فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم : ( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون
آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) .
|
*3*تفسير ابن هشام لبعض الغريب
|
@ قال ابن هشام : آناء الليل : ساعات الليل : وواحدها : إِنْي .
قال المتنخل الهذلي ، واسمه مالك بن عويمر ، يرثي أُثيلة ابنه :
|
حلو
ومر كعطف القِدح شيمته * في كل إِني قضاه الليل ينتعل
|
وهذا
البيت في قصيدة له . وقال لبيد بن ربيعة ، يصف حمار وحش :
|
يُطرِّب
آناء النهار كأنه * غوي سقاه في التجار نديمُ
|
وهذا
البيت في قصيدة له ، ويقال : إنى ( مقصور ) ، فيما أخبرني يونس . ( يؤمنون بالله
واليوم الآخر ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ويسارعون في الخيرات ،
وأولئك من الصالحين ) .
|
*3*ما نزل في نهي المسلمين عن مباطنة اليهود
|
@ قال ابن إسحاق : وكان رجال من المسلمين يُواصلون رجالا من
اليهود ، لما (3/ 96) كان بينهم من الجوار والحلف ، فأنزل الله تعالى فيهم
ينهاهم عن مباطنتهم : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ، لا
يألونكم خبالا ، ودُّوا ما عنتُّم ، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم
أكبر ، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون . ها أنتم أُولاء تحبونهم ولا يحبونكم
، وتؤمنون بالكتاب كله ) ، أي تؤمنون بكتابكم ، وبما مضى من الكتب قبل ذلك وهم
يكفرون بكتابكم ، فأنتم كنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم ( و إذا لقوكم قالوا
آمنا ، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ، قل موتوا بغيظكم ) إلى آخر
القصة .
|
*3*دخول أبي بكر بيت المدراس ، و ما كان بينه و بين فنحاص
|
@ ودخل أبو بكر الصديق بيت المدراس على يهود ، فوجد منهم ناسا
كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم ، يقال له فنحاص ، وكان من علمائهم وأحبارهم ،
ومعه حبر من أحبارهم ، يقال له : أشيع ؛ فقال أبو بكر لفنحاص : ويحك يا فنحاص !
اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمدا لرسول الله ، وقد جاءكم بالحق من
عنده ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوارة والإنجيل ؛ فقال فنحاص لأبي بكر : والله
يا أبا بكر ، ما بنا إلى الله من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، وما نتضرع إليه كما
يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، وما هو عنا بغنيّ ، ولو كان عنا غنيا ما
استقرضنا أموالنا ، كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويُعطيناه ، ولو كان عنا
غنيا ما أعطانا الربا .
|
قال
: فغضب أبو بكر ، فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا ، وقال : والذي نفسي بيده ، لولا
العهد الذي بيننا وبينكم ، لضربت رأسك ، أي عدو الله .
|
قال
: فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، انظر ما صنع
بي صاحبك ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : ما حملك على ما صنعت ؟
فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إن عدو الله قال (3/ 97) قولا عظيما ، إنه زعم أن
الله فقير وأنهم أغنياء ، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال ، وضربت وجهه . فجحد
ذلك فنحاص ، وقال : ما قلت ذلك .
|
فأنزل
الله تعالى فيما قال فنحاص ردا عليه ، وتصديقا لأبي بكر : ( لقد سمع الله قول
الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ، سنكتب ما قالوا ، وقتلهم الأنبياء بغير
حق ، ونقول ذوقوا عذاب الحريق ) . ونزل في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وما
بلغه في ذلك من الغضب : ( ولتسمعنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين
أشركوا أذى كثيرا . وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) .
|
ثم
قال فيما قال فنحاص والأحبار معه من يهود : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا
الكتاب لَتُبينُّنه للناس ولا تكتمونه ، فنبذوه وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمنا
قليلا ، فبئس ما يشترون . لا تحسبن الذين يفرحون بما أَتَوْا ، ويحبون أن
يحُمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ، ولهم عذاب أليم ) يعني
فنحاص ، وأشيع وأشباههما من الأحبار ، الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما
زينوا للناس من الضلالة ، ويحبون أن يحُمدوا بما لم يفعلوا ؛ أن يقول الناس :
علماء ، وليسوا بأهل علم ، لم يحملوهم على هدى ولا حق ، ويحُبون أن يقول الناس :
قد فعلوا .
|
*3*أمر اليهود المؤمنين بالبخل
|
@ قال ابن إسحاق : وكان كردم بن قيس ، حليف كعب بن الأشرف ،
وأسامة بن حبيب ، ونافع بن أبي نافع ، وبحري بن عمرو ، وحيي بن أخطب ، ورفاعة بن
زيد بن التابوت ، يأتون رجالا من الأنصار كانوا يخالطونهم ، ينتصحون لهم ، (3/
98) من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فييقولون لهم : لا تنفقوا أموالكم
فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون علام
يكون .
|
فأنزل
الله فيهم : ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله
) ، أي من التوراة ، التي فيها تصديق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم (
وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا . والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون
بالله ولا باليوم الآخر ) ... إلى قوله : ( وكان الله بهم عليما ) .
|
*3*اليهود لعنهم الله يجحدون الحق
|
@ قال ابن إسحاق : وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود ،
إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه ، وقال : أرعنا سمعك يا محمد ،
حتى نُفهمك ، ثم طعن في الإسلام وعابه . فأنزل الله فيه : ( ألم تر إلى الذين
أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل . والله أعلم
بأعدائكم ، وكفى بالله وليا ، وكفى بالله نصيرا . من الذين هادوا يحرفون الكلم
عن مواضعه ، ويقولون سمعنا وعصينا ، واسمع غير مُسمَع ، وراعنا ) ، أي راعنا
سمعك ( لَيَّاً بألسنتهم ، وطعنا في الدين ، ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع
وانظرنا ، لكان خيرا لهم وأقوم ، ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا )
.
|
وكلم
رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود ، منهم عبدالله بن صوريا
الأعور ، وكعب بن أسد ، فقال لهم : يا معشر يهود ، اتقوا الله وأسلموا ، فوالله
إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق ، قالوا : ما نعرف ذلك يا محمد : فجحدوا ما
عرفوا ، وأصروا على الكفر . (3/ 99)
|
فأنزل
الله تعالى فيهم : ( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم
من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ،
وكان أمر الله مفعولا ) .
|
*3*تفسير ابن هشام لبعض الغريب
|
@ قال ابن هشام : نطمس : نمسحها فنسويها ، فلا يُرى فيها عين ولا
أنف ولا فم ، ولا شيء بما يرى في الوجه ؛ وكذلك ( فطمسنا أعينهم ) . المطموس
العين : الذي ليس بين جفنيه شق . ويقال : طمست الكتاب والأثر ، فلا يُرى منه شيء
. قال الأخطل ، واسمه الغوث بن هبيرة بن الصلت التغلبي ، يصف إبلا كلفها ما ذكر
:
|
وتكلِيفُناها
كل طامسة الصُّوى * شَطون ترى حِرباءها يتململُ
|
وهذا
البيت في قصيدة له .
|
قال
ابن هشام : واحدة الصُّوى : صُوّة . والصُوى : الأعلام التي يُستدل بها على
الطرق والمياه .
|
قال
ابن هشام : يقول : مُسحت فاستوت بالأرض ، فليس فيها شيء ناتىء .
|
*3*من حزب الأحزاب
|
@ قال ابن إسحاق : وكان الذين حزّبوا الأحزاب من قريش وغطفان
وبني قريظة : حيي بن أخطب ، وسلام بن أبي الحقيق ، أبو رافع ، والربيع بن الربيع
بن أبي الحقيق ، وأبو عمار ، ووَحْوح بن عامر ، وهوذة بن قيس . فأما وحوح ، وأبو
عمار ، وهوذة ، فمن بني وائل ، وكان سائرهم من بني النضير . فلما قدموا (3/ 100)
على قريش قالوا : هؤلاء أحبار يهود ، وأهل العلم بالكتاب الأول ، فسلوهم :
دينُكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم ، فقالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى
منه وممن اتبعه . فأنزل الله تعالى فيهم : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من
الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ) .
|
*3*تفسير ابن هشام لبعض الغريب
|
@ قال ابن هشام : الجبت عند العرب : ما عبد من دون الله تبارك
وتعالى . و الطاغوت : كل ما أضل عن الحق . وجمع الجبت : جبوت ؛ وجمع الطاغوت :
طواغيت .
|
قال
ابن هشام : وبلغنا عن ابن أبي نجيح أنه قال : الجبت : السحر ؛ والطاغوت :
الشيطان .
|
( ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ) .
|
قال
ابن إسحاق : إلى قوله تعالى : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ،
فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة ، وآتيناهم ملكا عظيما ) .
|
*3*إنكار اليهود التنزيل
|
@ قال ابن إسحاق : وقال سُكين وعدي بن زيد : يا محمد ، ما نعلم
أن الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما : (
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ، وأوحينا إلى إبراهيم و
إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان ، وآتينا داود
زبورا . ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ، ورسلا لم نقصصهم عليك ، وكلم الله موسى
تكليما . رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، وكان
الله عزيزا حكيما ) . (3/ 101)
|
ودخلت
على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة منهم ، فقال لهم : أما والله إنكم
لتعلمون أني رسول من الله إليكم ؛ قالوا : ما نعلمه ، وما نشهد عليه . فأنزل
الله تعالى في ذلك من قولهم : ( لكنِ الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه
والملائكة يشهدون ، وكفى بالله شهيدا ) .
|
*3*اتفاقهم على طرح الصخرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
|
@ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في
دية العامريَّيْن اللَّذَيْن قتل عمرو بن أمية الضمري . فلما خلا بعضهم ببعض
قالوا : لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن ، فمن رجل يظهر على هذا البيت ، فيطرح
عليه صخرة فيريحنا منه ؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب : أنا ؛ فأتى رسول الله صلى
الله عليه وسلم الخبر ، فانصرف عنهم . فأنزل الله تعالى فيه ، وفيما أراد هو
وقومه : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا
إليكم أيديهم ، فكف أيديهم عنكم ، واتقوا الله ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) .
|
*3*ادعاؤهم أنهم أحباء الله
|
@ وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء ، وبحري بن
عمرو ، وشأس بن عدي ، فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى
الله ، وحذرهم نقمته ؛ فقالوا : ما تخُوفنا يا محمد ، نحن والله أبناء الله
وأحباؤه ، كقول النصارى . فأنزل الله تعالى فيهم : ( وقالت اليهود والنصارى نحن
أبناء الله وأحباؤه ، قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ، يغفر لمن
يشاء ، ويعذب من يشاء ، ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير ) .
|
*3*إنكارهم نزول كتاب بعد موسى عليه و السلام
|
@ قال ابن إسحاق : ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود إلى
الإسلام ورغبهم فيه ، وحذرهم غير الله وعقوبته ، فأبوا عليه ، وكفروا بما جاءهم
به ، فقال لهم معاذ بن (3/ 102) جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب : يا معشر
يهود ، اتقوا الله ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، و لقد كنتم تذكرونه
لنا قبل مبعثه ، وتصفونه لنا بصفته ؛ فقال رافع بن حريملة ، ووهب بن يهوذا : ما
قلنا لكم هذا قط ، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا
بعده . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما : ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا
يُبَيِّن لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ، فقد
جاءكم بشير ونذير ، والله على كل شيء قدير ) .
|
ثم
قص عليهم خبر موسى وما لقي منهم ، وانتقاضهم عليه ، وما ردوا عليه من أمر الله
حتى تاهوا في الأرض أربعين سنة عقوبة .
|
*3*رجوعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حكم الرجم
|
@ قال ابن إسحاق : وحدثني ابن شهاب الزهري أنه سمع رجلا من مزينة
، من أهل العلم ، يحدث سعيد بن المسيب ، أن أبا هريرة حدثهم : أن أحبار يهود
اجتمعوا في بيت المدراس ، حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وقد
زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة من يهود قد أحصنت ، فقالوا : ابعثوا بهذا الرجل
وهذه المرأة إلى محمد ، فسلوه كيف الحكم فيهما ، وولوه الحكم عليهما ، فإن عمل
فيهما بعملكم من التَّجْبِية - والتجبية : الجلد بحبل من ليف مطلي بقار ، ثم
تسود وجوههما ، ثم يحملان على حمارين ، وتجُعل وجوههما من قبل أدبار الحمارين -
فاتبعوه ، فإنما هو ملك ، وصدقوه ؛ وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنه نبي ، فاحذروه
على ما في أيديكم أن يسلبكموه .
|
فأتوه
، فقالوا : يا محمد ، هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت ، فاحكم فيهما
، فقد وليناك الحكم فيهما . فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى (3/ 103)
أحبارهم في بيت المدراس فقال : يا معشر يهود ، أخرجوا إلي علماءكم ، فأخرج له
عبدالله بن صوريا .
|
قال
ابن إسحاق : وقد حدثني بعض بني قريظة : أنهم قد أخرجوا إليه يومئذ ، مع ابن
صوريا ، أبا ياسر بن أخطب ، ووهب بن يهوذا ، فقالوا : هؤلاء علماؤنا . فسألهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى حصّل أمرهم ، إلى أن قالوا لعبدالله بن
صوريا : هذا أعلم من بقي بالتوراة .
|
قال
ابن هشام : من قوله : ( وحدثني بعض بني قريظة ) . إلى : ( أعلم من بقي بالتوراة
) . من قول ابن إسحاق ، وما بعده من الحديث الذي قبله .
|
فخلا
به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا ، فألظّ به
رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة ، يقول له : يابن صوريا ، أنشدك الله
وأُذكِّرك بأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه
بالرجم في التوراة ؟ قال : اللهم نعم ، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون
أنك لنبي مرسل ولكنهم يحسدونك .
|
قال
: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بهما فَرُجما عند باب مسجده في بني
غنم بن مالك بن النجار . ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا ، وجحد نبوة رسول الله صلى
الله عليه وسلم .
|
قال
ابن إسحاق : فأنزل الله تعالى فيهم : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون
في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، ومن الذين هادوا
سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ) . أي الذين بعثوا منهم من بعثوا
وتخلفوا ، وأمروهم (3/ 104) بما أمروهم به من تحريف الحكم عن مواضعه . ثم قال :
( يحرفون الكلم من بعد مواضعه ، يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه ، وإن لم تؤتوه ) ،
أي الرجم ( فاحذروا ) إلى آخر القصة .
|
قال
ابن إسحاق : وحدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن رُكانة عن إسماعيل بن إبراهيم ، عن
ابن عباس ، قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما ، فرجما بباب مسجده
، فلما وجد اليهودي مسَّ الحجارة قام إلى صاحبته فجنأ عليها ، يقيها مس الحجارة
، حتى قتلا جميعا .
|
قال
: وكان ذلك مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في تحقيق الزنا منهما .
|
قال
ابن إسحاق : وحدثني صالح بن كيسان ، عن نافع مولى عبدالله ابن عمر ، عن عبدالله
بن عمر ، قال : لما حكَّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما ، دعاهم
بالتوراة ، وجلس حبر منهم يتلوها ، وقد وضع يده على آية الرجم ، قال : فضرب
عبدالله بن سلام يد الحبر ، ثم قال : هذه يا نبي الله آية الرجم ، يأبى أن
يتلوها عليك . (3/ 105)
|
فقال
لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويحكم يا معشر يهود ! ما دعاكم إلى ترك حكم
الله وهو بأيديكم ؟ قال : فقالوا : أما والله إنه قد كان فينا يُعمل به ، حتى
زنى رجل منا بعد إحصانه ، من بيوت الملوك وأهل الشرف ، فمنعه الملك من الرجم ،
ثم زنى رجل بعده ، فأراد أن يرجمه ، فقالوا : لا والله ، حتى ترجم فلانا ، فلما
قالوا له ذلك اجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التجبية ، وأماتوا ذكر الرجم والعمل به
.
|
قال
: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأنا أول من أحيا أمر الله وكتابه وعمل
به ، ثم أمر بهما فرجما عند باب مسجده . قال عبدالله بن عمر : فكنت فيمن رجمهما
.
|
*3*ظلمهم في الدية
|
@ قال ابن إسحاق : وحدثني داود بن الحصين عن عكرمة ، عن ابن عباس
: أن الآيات من المائدة التي قال الله فيها : ( فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ، وإن
تعرض عنهم فلن يضروك شيئا ، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ، إن الله يحب المقسطين
) . إنما أنزلت في الدية بين بني النضير وبين بني قريظة ، وذلك أن قتلى بني
النضير ، وكان لهم شرف ، يؤدون الدية كاملة ، وأن بني قريظة كانوا يؤدون نصف
الدية ، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ذلك
فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك ، فجعل الدية سواء
.
|
قال
ابن إسحاق : فالله أعلم أي ذلك كان .
|
*3*رغبتهم في فتنة الرسول صلى الله عليه وسلم
|
@ قال ابن إسحاق : وقال كعب بن أسد ، وابن صلوبا ، وعبدالله بن
صوريا ، وشأس بن قيس ، بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد ، لعلنا نفتنه عن دينه
، فإنما هو بشر ، فأتوه ، فقالوا له : يا محمد ، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود
وأشرافهم (3/ 106) وسادتهم ، وأنا إن اتبعناك اتبعتك يهود ، ولم يخالفونا ، وأن
بيننا وبين بعض قومنا خصومة ، أفنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ، ونؤمن بك ونصدقك
، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم . فأنزل الله فيهم : ( وأن احكم
بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل
الله إليك ، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، وإن كثير
من الناس لفاسقون . أفحكم الجاهلية يبغون ، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون )
.
|
*3*إنكارهم نبوة عيسى عليه السلام
|
@ قال ابن إسحاق : وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر منهم :
أبو ياسر بن أخطب ، ونافع بن أبي نافع ، وعازر بن أبي عازر ، وخالد ، وزيد ،
وإزار بن أبي إزار ، وأشيع ، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل ؛ فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( نؤمن بالله وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل
وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أُوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم ، لا
نفرق بين أحد منهم ، ونحن له مسلمون ) . فلما ذكر عيسى بن مريم جحدوا نبوته ،
وقالوا : لا نؤمن بعيسى بن مريم ولا بمن آمن به . فأنزل الله تعالى فيهم : ( قل
يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل
، وأن أكثركم فاسقون ) .
|
*3*ادعاؤهم أنهم على الحق
|
@ وأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رافع بن حارثة ، وسلام بن
مشكم ، ومالك بن الصيف ، ورافع بن حريملة ، فقالوا : يا محمد ، ألست تزعم أنك
على ملة إبراهيم ودينه ، وتؤمن بما عندنا من التوراة ، وتشهد أنها من الله حق ؟
قال : بلى ، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ الله عليكم من الميثاق فيها ،
وكتمتم منها ما أُمرتم أن تبينوه للناس ، فبرئتُ من إحداثكم ؛ قالوا : فإنا نأخذ
بما في أيدينا ، فإنا على الهدى والحق ، ولا نؤمن بك ، ولا نتبعك . (3/ 107)
فأنزل الله تعالى فيهم : ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة
والإنجيل ، وما أنزل إليكم من ربكم ، وليزيدنّ كثيرا منهم ما أُنزل إليك من ربك
طغيانا وكفرا ، فلا تأس على القوم الكافرين ) .
|
*3*إشراكهم بالله
|
@ قال ابن إسحاق : وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم النحام بن
زيد ، وقردم بن كعب ، وبحري بن عمرو ، فقالوا له : يا محمد ، أما تعلم مع الله
إلها غيره ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله لا إله إلا هو ، بذلك
بُعثت ، وإلى ذلك أدعو . فأنزل الله فيهم وفي قولهم : ( قل أي شيء أكبر شهادة ،
قل الله شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ، أإنكم
لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ، قل لا أشهد ، قل إنما هو إله واحد ، وإنني برىء
مما تشركون . الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ؛ الذين خسروا
أنفسهم فهم لا يؤمنون ) .
|
*3*نهي الله تعالى المؤمنين عن موادتهم
|
@ وكان رفاعة بن زيد بن التابوت ، وسويد بن الحارث ، قد أظهرا
الإسلام ونافقا ، فكان رجال من المسلمين يوادّونهم . فأنزل الله تعالى فيهما : (
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم
والكفار أولياء ، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) ... إلى قوله : ( وإذا جاءوكم قالوا
آمنا ، وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ، والله أعلم بما كانوا يكتمون ) .
|
*3*سؤالهم عن قيام الساعة
|
@ وقال جبل بن أبي قشير ، وشمويل بن زيد ، لرسول الله صلى الله
عليه وسلم : يا محمد ، أخبرنا ، متى تقوم الساعة إن (3/ 108) كنت نبيا كما تقول
؟ فأنزل الله تعالى فيهما : ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ، قل إنما علمها
عند ربي ، لا يجلِّيها لوقتها إلا هو ، ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا
بغتة ، يسأونك كأنك حفي عنها ، قل إنما علمها عند الله ، ولكن أكثر الناس لا
يعلمون ) .
|
*3*تفسير ابن هشام لبعض الغريب
|
@ قال ابن هشام : أيان مرساها : متى مرساها . قال قيس بن
الحُدادية الخزاعي :
|
فجئت
ومُخْفَى السر بيني وبينها * لأسألها أيان من سار راجع ؟
|
وهذا
البيت في قصيدة له . ومرساها : منتهاها ، وجمعه : مراس . قال الكميت بن زيد
الأسدي :
|
والمصيبين
باب ما أخطا النا سُ * ومرسى قواعد الإسلام
|
وهذا
البيت في قصيدة له . ومُرسَى السفينة : حيث تنتهي . وحَفِيّ عنها ( على التقديم
والتأخير ) يقول : يسألونك عنها كأنك حفي بهم فتخبرهم بما لا تخبر به غيرهم .
والحفيّ : البَرّ المتعهد . وفي كتاب الله : ( إنه كان بي حفيا ) . وجمعه : أحفياء
. وقال أعشى بني قيس بن ثعلبة :
|
فإن
تسألي عني فيا رب سائل * حفي عن الأعشى به حيث أصعدا
|
وهذا
البيت في قصيدة له . والحفي أيضا : المستحفي عن علم الشيء ، المبالغ في طلبه .
|
*3*ادعاؤهم أن عزيرا ابن الله
|
@ قال ابن إسحاق : وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاّم بن
مشكم ، ونعمان بن أبي أوفى أبو أنس ، ومحمود بن دحية ، وشأس بن قيس ، ومالك بن
الصيف ، فقالوا له : كيف (3/ 109) نتبعك وقد تركت قِبلتنا ، وأنت لا تزعم أن
عزيرا ابن الله ؟ فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم : ( وقالت اليهود عزير ابن
الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله ، ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين
كفروا من قبل ، قاتلهم الله أنى يؤفكون ) إلى آخر القصة .
|
*3*تفسير ابن هشام لبعض الغريب
|
@ قال ابن هشام : يضاهئون : أي يشاكل قولهم قول الذين كفروا ،
نحو أن تحدث بحديث ، فيحدث آخر بمثله ، فهو يضاهيك .
|
*3*طلبهم كتابا من السماء
|
@ قال ابن إسحاق : وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمود بن
سيحان ، ونعمان بن أضاء ، وبحري بن عمرو ، وعزير بن أبي عزير ، وسلام بن مشكم ،
فقالوا : احق يا محمد أن هذا الذي جئت به لحق من عند الله ، فإنا لا نراه متسقا
كما تتسق التوارة ؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما والله إنكم
لتعرفون أنه من عند الله . تجدونه مكتوبا عندكم في التوارة ، ولو اجتمعت الإنس
والجن على أن يأتوا بمثله ما جاءوا به ؛ فقالوا عند ذلك ، وهم جميع : فنحاص ،
وعبدالله بن صوريا ، وابن صلوبا ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وأشيع ،
وكعب بن أسد ، وشمويل بن زيد ، وجبل بن عمرو بن سكينة : يا محمد ، أما يعلمك هذا
إنس ولا جن ؟ قال : فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما والله إنكم
لتعلمون أنه من عند الله ، و إني لرسول الله : تجدون ذلك مكتوبا عندكم في التوراة
؛ فقالوا : يا محمد ، فإن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما يشاء ويقدر منه على ما
أراد ، فأنزل علينا كتابا من السماء نقرؤه ونعرفه ، وإلا جئناك بمثل ما تأتي به
. فأنزل الله تعالى فيهم وفيما قالوا : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن
يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) .
|
*3*تفسير ابن هشام لبعض الغريب
|
@ قال ابن هشام : الظهير : العون . ومنه قول العرب : تظاهروا
عليه ، (3/ 110) أي تعاونوا عليه . قال الشاعر :
|
يا
سَميّ النبي أصبحت للدّيـــن قواما وللإمام ظهيرا *
|
أي
عونا ؛ وجمعه : ظهراء .
|
*3*سؤالهم له صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين
|
@ قال ابن إسحاق : وقال حيي بن أخطب ، وكعب بن أسد ، وأبو رافع ،
وأشيع ، وشمويل بن زيد ، لعبدالله بن سلام حين أسلم : ما تكون النبوة في العرب
ولكن صاحبك ملك ، ثم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن ذي القرنين
فقص عليهم ما جاءه من الله تعالى فيه ، مما كان قص على قريش ، وهم كانوا ممن أمر
قريشا أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ، حين بعثوا إليهم النضر بن
الحارث ، وعقبة بن أبي معيط .
|
*3*تهجمهم على ذات الله ، و غضب الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك
|
@ قال ابن إسحاق : وحُدثت عن سعيد بن جبير أنه قال : أتى رهط من
يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ، هذا الله خلَق
الخلق ، فمن خلق الله ؟ قال : فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتُقع
لونه ، ثم ساورهم غضبا لربه . قال : فجاءه جبريل عليه السلام فسكنه ، فقال :
خفِّض عليك يا محمد ، وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه : ( قل هو الله أحد .
الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد ) .
|
قال
: فلما تلاها عليهم ، قالوا : فصف لنا يا محمد كيف خَلْقه ؟ كيف ذراعه ؟ كيف
عضده ؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأول ، وساورهم . فأتاه
جبريل عليه السلام ، فقال له مثل ما قال له أول مرة ، وجاءه من الله تعالى بجواب
ما سألوه . يقول الله تعالى : ( وما قدروا الله حق قدره ، والأرض جميعا قبضته
يوم القيامة ، والسماوات مطويات بيمينه ، سبحانه وتعالى عما يشركون ) . (3/ 111)
|
قال
ابن إسحاق : وحدثني عتبة بن مسلم ، مولى بني تيم ، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن ،
عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يُوشك الناس
أن يتساءلوا بينهم حتى يقول قائلهم : هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ فإذا
قالوا ذلك فقولوا : ( قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن
له كفوا أحد ) . ثم ليتفل الرجل عن يساره ثلاثا ، وليستعذ بالله من الشيطان
الرجيم ) .
|
*3*تفسير ابن هشام لبعض الغريب
|
@ قال ابن هشام : الصمد : الذي يُصمد إليه ، ويفزع إليه ، قالت
هند بنت معبد بن نضلة تبكي عمرو بن مسعود ، وخالد بن نضلة ، عَمَّيْها الأسديين
، وهما اللذان قتل النعمان بن المنذر اللخمي ، وبنى الغريَّيْنِ اللذين بالكوفة
عليها :
|
ألا
بكر الناعي بخيري بني أسدْ * بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمدْ (3/ 112)
|
*2*ذكر نصارى نجران وما أنزل الله فيهم
|
*3*معنى العاقب والسيد والأسقف
|
@ قال ابن إسحاق : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد
نصارى نجران ، ستون راكبا ، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، وفي الأربعة عشر
منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم : العاقب ، أمير القوم وذو رأيهم ، وصاحب
مشورتهم ، والذي لا يُصدرون إلا عن رأيه ، واسمه عبدالمسيح ؛ والسيد ، لهم
ثمالهم ، وصاحب رحلهم ومجتمعهم ، واسمه الأيهم ؛ وأبو حارثة بن علقمة ، أحد بني
بكر بن وائل ، أسقفهم وحبرهم وإمامهم ، وصاحب مدراسهم .
|
*3*منزل أبي حارثة عند ملوك الروم
|
@ وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ، ودرس كتبهم ، حتى حسن علمه في
دينهم ، فكانت ملوك الروم من النصرانية قد شرّفوه وموّلوه وأخدموه ، وبنوا له
الكنائس ، وبسطوا عليه الكرامات ، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم .
(3/ 113)
|
*3*سبب إسلام كوز بن علقمة
|
@ فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران ، جلس
أبو حارثة على بغلة له موجِّها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى جنبه أخ
له ، يقال له : كوز بن علقمة - قال ابن هشام : ويقال : كرز - فعثرت بغلة أبي
حارثة ، فقال كوز : تعس الأبعد : يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال له
أبو حارثة : بل أنت تعست ! فقال : ولم يا أخي ؟ قال : والله إنه للنبي الذي كنا
ننتظر ؛ فقال له كوز : ما يمنعك منه وأنت تعلم هذا ؟ قال : ما صنع بنا هؤلاء
القوم ، شرفونا وموّلونا وأكرمونا ، وقد أبوا إلا خلافه ، فلو فعلت نزعوا منا كل
ما ترى . فأضمر عليها منه أخوه كوز بن علقمة ، حتى أسلم بعد ذلك . فهو كان يحدث
عنه هذا الحديث فيما بلغني .
|
*3*رؤساء نجران وإسلام ابن رئيس
|
@ قال ابن هشام : وبلغني أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتابا
عندهم . فكلما مات رئيس منهم فأفضت الرياسة إلى غيره ، ختم على تلك الكتب خاتما
مع الخواتم التي كانت قبله ولم يكسرها ، فخرج الرئيس الذي كان على عهد النبي صلى
الله عليه وسلم يمشي فعثر ، فقال له ابنه : تعس الأبعد ! يريد النبي صلى الله
عليه وسلم ؛ فقال له أبوه : لا تفعل ، فإنه نبي ، واسمه في الوضائع ، يعني الكتب
.
|
فلما
مات لم تكن لابنه همة إلا أن شد فكسر الخواتم ، فوجد فيها ذكر النبي صلى الله
عليه وسلم ، فأسلم فحسن إسلامه وحج ، وهو الذي يقول :
|
إليك
تعدو قلقا وضينها * معترضا في بطنها جنينها
|
مخالفا
دين النصارى دينها *
|
قال
ابن هشام : الوضين : الحزام ، حزام الناقة . وقال هشام بن عروة : وزاد فيه أهل
العراق :
|
معترضا
في بطنها جنينها* (3/ 114)
|
فأما
أبو عبيدة فأنشدناه فيه .
|
*3*صلاتهم إلى جهة المشرق
|
@ قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : لما
قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر
، عليهم ثياب الحبرات ، جبب وأردية ، في جمال رجال بني الحارث بن كعب . قال :
يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ : ما رأينا وفدا
مثلهم ، وقد حانت صلاتهم ، فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوهم ؛ فصلوا إلى المشرق .
|
*3*أسماؤهم ومعتقداتهم ، و مناقشتهم الرسول صلى الله عليه وسلم
|
@ قال ابن إسحاق : فكانت تسمية الأربعة عشر ، الذين يئول إليهم
أمرهم : العاقب ، وهو عبدالمسيح ؛ والسيد وهو الأيهم ، وأبو حارثة ابن علقمة أخو
بني بكر بن وائل ، وأوس ، والحارث ، وزيد ، وقيس ، ويزيد ، ونبيه ، وخويلد ،
وعمرو ، وخالد ، وعبدالله ، ويحنَّس ، في ستين راكبا .
|
فكلم
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منهم : أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب عبدالمسيح ،
والأيهم السيد - وهم من النصرانية على دين الملك ، مع اختلاف من أمرهم ، يقولون
: هو الله ، ويقولون : هو ولد الله ، ويقولون : هو ثالث ثلاثة ، وكذلك قول
النصرانية .
|
فهم
يحتجون في قولهم : ( هو الله ) بأنه كان يحيي الموتى ، ويبرىء الأسقام ، ويخبر
بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا ، وذلك كله بأمر
الله تبارك وتعالى : ( ولنجعله آية للناس ) . (3/ 115)
|
ويحتجون
في قولهم : ( إنه ولد الله ) بأنهم يقولون : لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في
المهد ، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله .
|
ويحتجون
في قولهم : ( إنه ثالث ثلاثة ) بقول الله : فعلنا ، وأمرنا ، وخلقنا ، وقضينا ،
فيقولون : لو كان واحدا ما قال إلا فعلت ، وقضيت ، وأمرت ، وخلقت ؛ ولكنه هو
وعيسى ومريم . ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن - فلما كلمه الحبران ، قال
لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسلما ؛ قالا : قد أسلمنا ؛ قال : إنكما لم
تسلما فأسلما ؛ قالا : بلى ، قد أسلمنا قبلك ، قال : كذبتما ، يمنعكما من
الإسلام دعاؤكما لله ولدا ، وعبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير ؛ قالا : فمن
أبوه يا محمد ؟ فصمت عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهما .
|
*3*ما نزل فيهم من القرآن في آل عمران
|
@ فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم ، واختلاف أمرهم كله ، صدر
سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها ، فقال جل وعز : ( الم الله لا إله إلا
هو الحي القيوم ) . فافتتح السورة بتنزيه نفسه عما قالوا ، وتوحيده إياه بالخلق
والأمر ، لا شريك له فيه ، ردا عليهم ما ابتدعوا من الكفر ، وجعلوا معه من
الأنداد ، (3/ 116) واحتجاجا بقولهم عليهم في صاحبهم ، ليعرفهم بذلك ضلالتهم ؛
فقال : ( الم الله لا إله إلا هو ) ليس معه غيره شريك في أمره ( الحي القيوم )
الحي الذي لا يموت ، وقد مات عيسى وصُلب في قولهم . والقيوم : القائم على مكانه
من سلطانه في خلقه لا يزول ، وقد زال عيسى في قولهم عن مكانه الذي كان به ، وذهب
عنه إلى غيره .
|
( نزَّل عليك الكتاب بالحق ) ، أي بالصدق فيما اختلفوا فيه (
وأنزل التوراة و الإنجيل ) : التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى ، كما أنزل
الكتب على من كان قبله ( وأنزل الفرقان ) ، أي الفصل بين الحق والباطل فيما
اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره .
|
( إن الذين كفرو بآيات الله ، لهم عذاب شديد ، والله عزيز ذو
انتقام ) ، أي أن الله منتقم ممن كفر بآياته ، بعد علمه بها ، ومعرفته بما جاء
منه فيها .
|
( إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ) ، أي قد
علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم في عيسى ، إذ جعلوه إلها وربا ،
وعندهم من علمه غير ذلك ، غِرَّة بالله ، وكفرا به .
|
( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ) ، أي قد كان عيسى ممن
صُوّر في الأرحام ، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه ، كما صُوِّر غيره من ولد آدم ،
فكيف يكون إلها وقد كان بذلك المنزل .
|
ثم
قال تعالى إنزاها لنفسه ، وتوحيدا لها مما جعلوا معه : ( لا إله إلا هو العزيز
الحكيم ) ، العزيز في انتصاره ممن كفر به إذا شاء الحكيم في حجته وعذره إلى
عباده . (3/ 117)
|
( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ) فيهن
حجة الرب ، وعصمة العباد ، ودفع الخصوم والباطل ، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما
وُضعن عليه ( وأخر متشابهات ) لهن تصريف وتأويل ، ابتلى الله فيهن العباد ، كما
ابتلاهم في الحلال والحرام ، ألاّ يُصرفن إلى الباطل ، ولا يحُرَّفن عن الحق .
|
يقول
عز وجل : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ ) ، أي ميل عن الهدى ( فيتَّبعون ما تشابه
منه ) ، أي ما تصرف منه ، ليصدقوا به (3/ 118) ما ابتدعوا وأحدثوا ، لتكون لهم
حجة ، ولهم على ما قالوا شبهة ( ابتغاء الفتنة ) ، أي اللبس ( وابتغاء تأويله )
. ذلك على ما ركبوا من الضلالة في قولهم : خلقنا وقضينا . يقول : ( وما يعلم
تأويله ) ، أي الذي به أرادوا ما أرادوا ( إلا الله ، والراسخون في العلم يقولون
آمنا به كل من عند ربنا ) فكيف يختلف وهو قول واحد ، من رب واحد . ثم ردوا تأويل
المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد
، واتسق بقولهم الكتاب ، وصدق بعضه بعضا ، فنفذت به الحجة ، وظهر به العذر ،
وزاح به الباطل ، ودمغ به الكفر .
|
يقول
الله تعالى في مثل هذا : ( وما يذكَّر ) في مثل هذا ( إلا أولوا الألباب . ربنا
لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ) : أي لا تمل قلوبنا ، وإن مِلْنا بأحداثنا . (
وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ) .
|
ثم
قال : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو الملائكة وأولوا العلم ) بخلاف ما قالوا (
قائما بالقسط ) ، أي بالعدل فيما يريد ( لا إله إلا هو العزيز الحكيم . إن الدين
عند الله الإسلام ) ، أي ما أنت عليه يا محمد : التوحيد للرب ، والتصديق للرسل .
( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلامن بعد ما جاءهم العلم ) ، أي الذي جاءك ، أي
أن الله الواحد الذي ليس له شريك ( بغيا بينهم ، ومن يكفر بآيات الله فإن الله
سريع الحساب . فإن حاجوك ) ، أي بما يأتون به من (3/ 119) الباطل من قولهم :
خلقنا وفعلنا وأمرنا ، فإنما هي شبهة باطل قد عرفوا ما فيها من الحق ( فقل أسلمت
وجهي لله ) ، أي وحده ( ومن اتبعنِ ، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ) الذين
لا كتاب لهم ( أأسلمتم ، فإن أسلموا فقد اهتدوا ، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ،
والله بصير بالعباد ) .
|
*3*ما نزل من القرآن فيما اتبعه اليهود والنصارى
|
@ ثم جمع أهل الكتابين جميعا ، وذكر ما أحدثوا وما ابتدعوا ، من
اليهود والنصارى ، فقال : ( إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق
، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ) ، إلى قوله : ( قل اللهم مالك الملك )
، أي رب العباد ، والملك الذي لا يقضي فيهم غيره ( تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع
الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء ، وتذل من تشاء ، بيدك الخير ) ، أي لا إله غيرك
( إنك على كل شيء قدير ) ، أي لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك . ( تولج
الليل في النهار ، وتولج النهار في الليل ، وتخرج الحي من الميت ، وتخرج الميت
من الحي ) بتلك القدرة ( وترزق من تشاء بغير حساب ) لا يقدر على ذلك غيرك ، ولا
يصنعه إلا أنت ، أي فإن كنتُ سلطت عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إله ،
من إحياء الموتى ، وإبراء الأسقام ، والخلق للطير من الطين ، والإخبار عن الغيوب
، لأجعله به آية للناس ، وتصديقا له في نبوته التي بعثته بها إلى قومه ، فإن من
سلطاني وقدرتي ما لم أعطه تمليك الملوك بأمر النبوة ، ووضعها حيث شئت ، وإيلاج
الليل في النهار ، والنهار في الليل ، وإخراج الحي من الميت ، وإخراج الميت من
الحي ، ورزق من شئت من بر أو فاجر بغير حساب ؛ فكل ذلك لم أسلط عيسى عليه ، ولم
أملكه إياه ، أفلم تكن لهم في ذلك عبرة وبينة ! أن لو كان إلها كان ذلك (3/ 120)
كله إليه ، وهو في علمهم يهرب من الملوك ، وينتقل منهم في البلاد ، من بلد إلى
بلد .
|
*3*ما نزل من القرآن في وعظ المؤمنن وتحذيرهم
|
@ ثم وعظ المؤمنين وحذرهم ، ثم قال : ( قل إن كنتم تحبون الله )
، أي إن كان هذا من قولكم حقا ، حبا لله وتعظيما له ( فاتبعوني يحببكم الله ،
ويغفر لكم ذنوبكم ) ، أي ما مضى من كفركم ( والله غفور رحيم . قل أطيعوا الله
والرسول ) فأنتم تعرفونه وتجدونه في كتابكم ( فإن تولوا ) ، أي على كفرهم ( فإن
الله لا يحب الكافرين ) .
|
*3*ما نزل من القرآن في خلق عيسى
|
@ ثم استقبل لهم أمر عيسى عليه السلام ، وكيف كان في بدء ما أراد
الله به ، فقال : ( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم ، و آل عمران على
العالمين . ذرية بعضها من بعض ، والله سميع عليم ) . ثم ذكر أمر امرأة عمران ،
وقولها : ( رب إني نذرت لك ما في بطني محررا ) ، أي نذرته فجعلته عتيقا ، تعبده
لله ، لا ينتفع به لشيء من الدنيا ( فتقبل مني إنك أنت السميع العليم . فلما
وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى ، والله أعلم بما وضعت ، وليس الذكر كالأنثى ) ،
أي ليس الذكر كالأنثى لما جعلتها محررا لك نذيرة ( وإني سميتها مريم ، وإني
أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) . يقول الله تبارك وتعالى : ( فتقبلها
بها بقبول حسن ، وأنبتها نباتا حسنا ، وكفلها زكريا ) بعد أبيها وأمها . (3/
121)
|
قال
ابن هشام : كفلها : ضمها .
|
*3*خبر زكريا ومريم عليهما السلام
|
@ قال ابن إسحاق : فذكرها باليتم ، ثم قص خبرها وخبر زكريا ، وما
دعا به ، وما أعطاه إذ وهب له يحيى . ثم ذكر مريم ، وقول الملائكة لها : ( يا
مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين . يا مريم اقنتي لربك
واسجدي واركعي مع الركعين ) . يقول الله عز وجل : ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه
إليك ، وما كنت لديهم ) ، أي ما كنت معهم ( إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ) .
|
*3*تفسير ابن هشام لبعض الغريب
|
@ قال ابن هشام : أقلامهم : سهامهم ، يعني قداحهم التي استهموا
بها عليها ، فخرج قدح زكريا فضمها ، فيما قال الحسن بن أبي الحسن البصري .
|
*3*كفالة جريج الراهب لمريم
|
@ قال ابن إسحاق : كفلها هاهنا جريج الراهب ، رجل من بني إسرائيل
نجار ، خرج السهم عليه بحملها ، فحملها ، وكان زكريا قد كفلها قبل ذلك ، فأصابت
بني إسرائيل أزمة شديدة ، فعجز زكريا عن حملها ، فاستهموا عليها أيهم يكفلها ،
فخرج السهم على جريج الراهب بكفولها فكفلها . ( وما كنت لديهم إذ يختصمون ) ، أي
ما كنت معهم إذ يختصمون فيها . يخبره بخفي ما كتموا عنه من العلم عندهم ، لتحقيق
نبوته والحجة عليهم بما يأتيهم به مما أخفوا منه .
|
ثم
قال : ( إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن
مريم ) ، أي هكذا كان أمره ، لا كما تقولون فيه ( وجيها في الدنيا والآخرة ) أي
عند الله ( ومن المقربين . ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ) يخبرهم
بحالاته (3/ 122) التي يتقلب فيها في عمره ، كتقلب بني آدم في أعمارهم ، صغارا
وكبارا ، إلا أن الله خصه بالكلام في مهده آية لنبوته ، وتعريفا للعباد بمواقع
قدرته . ( قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ؟ قال كذلكِ الله يخلق ما
يشاء ) ، أي يصنع ما أراد ، ويخلق ما يشاء من بشر أو غير بشر ( إذا قضى أمرا
فإنما يقول له كن ) مما يشاء وكيف شاء ، ( فيكون ) كما أراد .
|
*3*ما نزل من القرآن في بيان آيات عيسى عليه السلام
|
@ ثم أخبرها بما يريد به ، فقال : ( ويعلمه الكتاب والحكمة
والتوراة ) التي كانت فيهم من عهد موسى قبله ( والإنجيل ) ، كتابا آخر أحدثه
الله عز وجل إليه لم يكن عندهم إلا ذكره أنه كائن من الأنبياء بعده ( ورسولا إلى
بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم ) ، أي يحقق بها نبوتي ، أني رسول منه إليكم
( أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ) الذي
بعثني إليكم ، وهو ربي و ربكم ( وأُبرىء الأكمه والأبرص ) .
|
*3*تفسير ابن هشام لبعض الغريب
|
@ قال ابن هشام : الأكمه : الذي يولد أعمى . قال رؤبة بن العجاج:
|
هرَّجتُ
فارتدّ ارتداد الأكمه *
|
وجمعه
: كمه .
|
قال
ابن هشام : هرجت : صحت بالأسد ، وجلبت عليه . وهذا البيت في أرجوزة له .
|
( وأحيي الموتى بإذن الله ، وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في
بيوتكم ، إن في ذلك لآية لكم ) أني رسول الله من الله إليكم ( إن كنتم مؤمنين ،
ومصدقا لما بين يدي من التوراة ) ، أي لما سبقني عنها ( و لأحل لكم بعض الذي حرم
عليكم ) ، أي أخبركم (3/ 123) به أنه كان عليكم حراما فتركتموه ، ثم أُحله لكم
تخفيفا عنكم ، فتصيبون يسره وتخرجون من تباعاته ( وجئتكم بآية من ربكم ، فاتقوا
الله وأطيعون . إن الله ربي وربكم ) ، أي تبريَّا من الذي يقولون فيه ، واحتجاجا
لربه عليهم ، ( فاعبدوه هذا صراط مستقيم ) ، أي هذا الذي قد حملتكم عليه وجئتكم
به . ( فلما أحس عيسى منهم الكفر ) والعداون عليه ، ( قال من أنصاري إلى الله ،
قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله ) هذا قولهم الذي أصابوا به الفضل من
ربهم ( واشهد بأنا مسلمون ) لا ما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فيه ( ربنا آمنا بما
أنزلت واتبعنا الرسول ، فاكتبنا مع الشاهدين ) ، أي هكذا كان قولهم وإيمانهم .
|
*3*رفع عيسى عليه السلام
|
@ ثم ذكر سبحانه وتعالى رفعه عيسى إليه حين اجتمعوا لقتله ، فقال
: ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) .
|
ثم
أخبرهم ورد عليهم فيما أقروا لليهود بصلبه ، كيف رفعه وطهره منهم ، فقال : ( إذ
قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ، ومطهرك من الذين كفروا ) ، إذ هموا
منك بما هموا ( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ) . ثم
القصة ، حتى انتهى إلى قوله : ( ذلك نتلوه عليك ) يا محمد ( من الآيات والذكر
الحكيم ) القاطع الفاصل الحق ، الذي لا يخالطه الباطل ، من الخبر عن عيسى ، وعما
اختلفوا فيه من أمره ، فلا تقبلن خبرا غيره . (3/ 124)
|
( إن مثل عيسى عند الله ) فاستمع ( كمثل آدم خلقه من تراب ، ثم
قال له كن فيكون . الحق من ربك ) ، أي ما جاءك من الخبر عن عيسى ( فلا تكن من
الممترين ) ، أي قد جاءك الحق من ربك فلا تمترينّ فيه ، وإن قالوا : خلق عيسى من
غير ذكَر فقد خلقت آدم من تراب ، بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر ، فكان كما
كان عيسى لحما ودما ، وشعرا وبشرا ، فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا . (
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم ) ، أي من بعد ما قصصت عليك من خبره ،
وكيف كان أمره ، ( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ، ونساءنا ونساءكم ، وأنفسنا
وأنفسكم ، ثم نبتهلْ فنجعلْ لعنة الله على الكاذبين ) .
|
*3*تفسير ابن هشام لبعض الغريب
|
@ قال ابن هشام : قال أبو عبيدة : نبتهل : ندعو باللعنة ، قال
أعشى بني قيس بن ثعلبة :
|
لا
تقعدن وقد أكَّلْتها حطبا * نعوذ من شرها يوما ونبتهل
|
وهذا
البيت في قصيدة له . يقول : ندعو باللعنة . وتقول العرب : (3/ 125) بهل الله
فلانا ، أي لعنه ، وعليه بهلة الله .
|
قال
ابن هشام : ويقال : بهُلة الله ، أي لعنة الله ؛ ونبتهل أيضا : نجتهد ، في
الدعاء .
|
قال
ابن إسحاق : ( إن هذا ) الذي جئت به من الخبر عن عيسى ( لهو القصص الحق ) من
أمره ( وما من إله إلا الله ، وإن الله لهو العزيز الحكيم . فإن تولوا ، فإن
الله عليم بالمفسدين . قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا
نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ،
فإن تولوا ، فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) . فدعاهم إلى النَّصَف ، وقطع عنهم
الحجة .
|
*3*إباؤهم الملاعنة
|
@ فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله عنه ،
والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأُمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه
، دعاهم إلى ذلك ؛ فقالوا له : يا أبا القاسم ، دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك
بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه . فانصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب ، وكان ذا
رأيهم ، فقالوا : يا عبدالمسيح ، ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد
عرفتم أن محمدا لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما
لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم
، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم ، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في
صاحبكم ، فوادعوا الرجل ، ثم انصرفوا إلى بلادكم . فأتوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، قد رأينا ألا نلاعنك ، وأن نتركك علىدينك
ونرجع على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا ، يحكم بيننا في
أشياء اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم عندنا رضا . (3/ 126)
|
*3*أبو عبيدة يتولى أمورهم
|
@ قال محمد بن جعفر : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ائتوني العشية أبعثْ معكم القوي الأمين . قال : فكان عمر بن الخطاب يقول : ما
أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ ، رجاء أن أكون صاحبها ، فرحت إلى الظهر
مُهجِّرا ، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم ، ثم نظر عن
يمينه وعن يساره ، فجعلت أتطاول له ليراني ، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا
عبيدة بن الجراح ، فدعاه فقال : اخرج معهم ، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه
. قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة .
|
*2*أخبار عن المنافقين
|
*3*شقاء عبدالله بن أبي ، وأبي عامر بن صيفي
|
@ قال ابن إسحاق : وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة -
كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة - وسيد أهلها عبدالله بن أبي بن سلول العوفي ،
ثم أحد بن الحبلى ، لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان ، لم تجتمع (3/ 127)
الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين ، حتى جاء الإسلام ، غيره
، ومعه في الأوس رجل ، هو في قومه من الأوس شريف مطاع ، أبو عامر عبد عمرو بن
صيفي بن النعمان ، أحد بني ضبيعة بن زيد ، وهو أبو حنظلة ، الغسيل يوم أحد ،
وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، وكان يقال له : الراهب . فشقيا بشرفهما
وضرَّهما .
|
*3*نفاق ابن أبي
|
@ فأما عبدالله بن أُبي فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم
يملكوه عليهم ، فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم ، (3/ 128) وهم على
ذلك . فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن ، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قد استلبه ملكا . فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا
على نفاق وضغن .
|
*3*كفر أبي عامر بن صيفي
|
@ وأما أبو عامر فأبى إلا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على
الإسلام ، فخرج منهم إلى مكة ببضعة عشر رجلا مفارقا للإسلام ولرسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما حدثني محمد بن أبي أمامة
عن بعض آل حنظلة بن أبي عامر - : لا تقولوا : الراهب ، ولكن قولوا : الفاسق .
|
*3*جزاء بن صيفي لتعريضه به صلى الله عليه وسلم
|
@ قال ابن اسحاق : وحدثني جعفر بن عبدالله بن أبي الحكم ، وكان
قد أدرك وسمع ، وكان راوية : أن أبا عامر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
قدم المدينة ، قبل أن يخرج إلى مكة ، فقال : ما هذا الدين الذي حئت به ؟ فقال :
جئت بالحنيفية دين إبراهيم ، قال : فأنا عليها ؛ فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم : إنك لست عليها ؛ قال : بلى ، قال : إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية
ما ليس منها ، قال : ما فعلت ، ولكني جئت بها بيضاء نقية ؛ قال : الكاذب أماته
الله طريدا غريبا وحيدا - يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم - أي أنك جئت بها
كذلك .
|
قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : أجل ، فمن كذب ففعل الله تعالى ذلك به . فكان هو
ذلك عدو الله ، خرج إلى مكة ، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خرج
إلى الطائف . فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام . فمات بها طريدا غريبا وحيدا .
|
*3*الاختصام في ميراثه إلى قيصر
|
@ وكان قد خرج معه علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن
كلاب ، وكنانة بن (3/ 129) عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفي ، فلما مات اختصما
في ميراثه إلى قيصر ، صاحب الروم . فقال قيصر : يرث أهل المدر أهل المدر ، ويرث
أهل الوبر أهل الوبر ، فورثه كنانة ابن عبد ياليل بالمدر دون علقمة .
|
فقال
كعب بن مالك لأبي عامر فيما صنع :
|
معاذ
الله من عمل خبيث * كسعيك في العشيرة عبد عمرو
|
فإما
قلت لي شرف ونخل * فقد ما بعتَ إيمانا بكفر
|
قال
ابن هشام : ويروى :
|
فإما
قلت لي شرف ومال
|
قال
ابن إسحاق : وأما عبدالله بن أُبي فأقام على شرفه في قومه مترددا ، حتى غلبه
الإسلام ، فدخل فيه كارها .
|
*3*تعرض ابن أبي له صلى الله عليه وسلم ، وغضب قومه منه
|
@ قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن مسلم الزهري ، عن عروة بن
الزبير ، عن أسامة بن زيد بن حارثة ، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :
ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة يعوده من شكو أصابه على حمار
عليه إكاف ، فوقه قطيفة فدكية مختطمة بحبل من ليف ، وأردفني (3/ 130) رسول الله
صلى الله عليه وسلم خلفه . قال : فمر بعبدالله بن أبي ، وهو في ظل مزاحم أُطُمِه
.
|
قال
ابن هشام : مزاحم : اسم الأطم .
|
قال
ابن إسحاق : وحوله رجال من قومه ، فلما رآه رسول الله تذمم من أن يجاوزه حتى
ينزل ، فنزل فسلم ثم جلس قليلا فتلا القرآن ودعا إلى الله عز وجل ، وذكر بالله
وحذر ، وبشر وأنذر قال : وهو زام لا يتكلم ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله
عليه وسلم من مقالته ، قال : يا هذا ، إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا
فاجلس في بيتك فمن جاءك له فحدثه إياه ، ومن لم يأتك فلا تغُتَّه به ، ولا تأته
في مجلسه بما يكره منه .
|
قال
: فقال عبدالله بن رواحة في رجال كانوا عنده من المسلمين : بلى ، فاغشنا به ،
وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا ، فهو والله مما نحب ، ومما أكرمنا الله به
وهدانا له ، فقال عبدالله بن أبي حين رأى من (3/ 131) خلاف قومه ما رأى :
|
متى
ما يكن مولاك خصمك لا تزل * تذل ويصرعْك الذين تُصارع
|
وهل
ينهض البازي بغير جناحه * وإن جُذ يوما ريشه فهو واقع
|
قال
ابن هشام : البيت الثاني عن غير ابن إسحاق .
|
*3*غضبه صلى الله عليه وسلم من قول ابن أبي
|
@ قال ابن إسحاق : وحدثني الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن أسامة
، قال : وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل على سعد بن عبادة ، وفي وجهه
ما قال عدو الله ابن أبي ، فقال : والله يا رسول الله إني لأرى في وجهك شيئا ،
لكأنك سمعت شيئا تكرهه ؛ قال : أجل ، ثم أخبره بما قال ابن أبي ، فقال سعد : يا
رسول الله ، ارفق به ، فوالله لقد جاءنا الله بك ، وإنا لننظم له الخرز لنتوِّجه
، فوالله إنه ليرى أن قد سلبته ملكا . (3/ 132)
|
*2*ذكر من اعتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد
الهجرة
|
*3*مرض أبي بكر وبلال وعامر بن فهيرة ، و حديث عائشة عنهم
|
@ قال ابن إسحاق : وحدثني هشام بن عروة ، وعمر بن عبدالله بن
عروة ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لما قدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم المدينة ، قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى ، فأصاب أصحابه
منها بلاء وسقم ، فصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم .
|
قالت
: فكان أبو بكر ، وعمر بن فهيرة ، وبلال ، مَوْليا أبي بكر ، مع أبي بكر في بيت
واحد ، فأصابتهم الحمى ، فدخلت عليهم أعودهم ، وذلك قبل أن يُضرب علينا الحجاب ،
وبهم ما لا يعلمه إلا االله من شدة الوعك ، فدنوت من أبي بكر ، فقلت له : كيف
تجدك يا أبت ؟ فقال :
|
كل
امرىء مُصبَّح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله
|
قالت
: فقلت : والله ما يدري أبي ما يقول . قالت : ثم دنوت إلى عامر ابن فهيرة ، فقلت
له : كيف تجدك يا عامر ؟ فقال :
|
لقد
وجدتُ الموت قبل ذوقه * إن الجبان حتفه من فوقه
|
كل
امرىء مجاهد بطوقه * كالثور يحمي جلده برَوْقه
|
بطوقه
يريد : بطاقته ، فيما قال ابن هشام : قالت : فقلت : والله ما يدري عامر ما يقول
! قالت : وكان بلال إذا تركته الحمَّى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته فقال :
(3/ 133)
|
ألا
ليت شعري هل أبيتنّ ليلة * بفخّ وحَوْلي إذخر وجليل
|
وهل
أردنْ يوما مياه مَجِنَّة * وهل يبدون لي شامة وطفيل
|
قال
ابن هشام : شامة وطفيل : جبلان بمكة .
|
*3*دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بنقل وباء المدينة إلى مهيعة
|
@ قالت عائشة رضي الله عنها : فذكرت لرسول الله صلى الله عليه
وسلم ما سمعت منهم ، فقلت : إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى . قالت : فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم حبِّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة ،
أو أشد ، وبارك لنا في مُدّها وصاعها وانقل وباءها إلى مهيعة ، ومهيعة : الجحفة
.
|
*3*ما جهد المسلمين من الوباء
|
@ قال ابن إسحاق : وذكر ابن شهاب الزهري ، عن عبدالله بن عمرو
ابن العاصي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه
أصابتهم حمى المدينة ، حتى جهدوا مرضا ، وصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله
عليه وسلم ، حتى كانوا ما يصلُّون إلا وهُم قعود ، قال : فخرج عليهم رسول الله
صلى الله عيه وسلم وهم يصلون كذلك ، فقال لهم : اعلموا أن (3/ 134) صلاة القاعد
على النِّصْف من صلاة القائم . قال : فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف
والسقم التماس الفضل .
|
*3*بدء قتال المشركين
|
@ قال ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيأ
لحربه ، قام فيما أمره الله به من جهاد عدوه ، وقتال من أمره الله به ممن يليه
من المشركن ، مشركي العرب ، وذلك بعد أن بعثه الله تعلى بثلاث عشرة سنة . (3/
135)
|
*2*تاريخ الهجرة
|
@ بالإسناد المتقدم عن عبدالملك بن هشام ، قال : حدثنا زياد بن
عبدالله البكائي ، عن محمد بن إسحاق المطلبي ، قال : قدم رسول الله صلى الله
عليه وسلم المدينة يوم الإثنين ، حين اشتد الضحاء ، وكادت الشمس تعتدل ، لثنتي
عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول ، وهو التاريخ ، فيما قال ابن هشام .
|
*3*عمره صلى الله عليه وسلم حين الهجرة
|
@ قال ابن إسحاق : ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن ثلاث
وخمسين سنة ، وذلك بعد أن بعثه الله عز وجل بثلاث عشرة سنة ، فأقام بها بقية شهر
ربيع الأول ، وشهر ربيع الآخر ، وجماديين ، ورجبا ، وشعبان ، وشهر رمضان ،
وشوالا ، وذا القعدة ، وذا الحجة - وولي تلك الحجة المشركون - والمحرم ، ثم خرج
غازيا في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة .
|
قال
ابن هشام : واستعمل على المدينة سعد بن عبادة .
|
*2*غزوة ودان ، وهي أول غزواته عليه الصلاة والسلام
|
*3*موادعة بني ضمرة و الرجوع من غير حرب
|
@ قال ابن إسحاق : حتى بلغ وَدّان ، وهي غزوة الأبواء ، يريد
قريشا وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، فوادعته فيها بنو ضمرة ، وكان
الذي وادعه منهم عليهم مخَشيّ بن عمرو الضمري ، وكان سيدهم في زمانه ذلك .
|
ثم
رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ولم يلق كيدا ، فأقام بها بقية
صفر ، وصدرا من شهر ربيع الأول . قال ابن هشام : وهي أول غزوة غزاها . (3/ 136)
|
*2*سرية عبيدة بن الحارث ، وهي أول راية عقدها عليه الصلاة
والسلام
|
*3*أول سهم رمي به في الإسلام
|
@ قال ابن إسحاق : وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في
مُقامه ذاك بالمدينة عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي في ستين أو
ثمانين راكبا من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد ، فسار حتى بلغ ماء
بالحجاز ، بأسفل ثنيِّة المرة ، فلقي بها جمعا عظيما من قريش ، فلم يكن بينهم
قتال ، إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمي يومئذ بسهم ، فكان أول سهم رمي به في
الإسلام .
|
*3*من فر من المشركين إلى المسلمين في هذه السرية
|
@ ثم انصرف القوم عن القوم ، وللمسلمين حامية . وفر من المشركين
إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني ، حليف بني زهرة ، وعتبة بن غزوان بن
جابر المازني ، حليف بني نوفل بن عبد مناف ، وكانا مسلمين ، ولكنهما خرجا
ليتوصَّلا بالكفار . وكان على القوم عكرمة ابن أبي جهل .
|
قال
ابن هشام : حدثني ابن أبي عمرو بن العلاء ، عن أبي عمرو المدني : أنه كان عليهم
مِكْرز بن حفص بن الأخيف ، أحد بني معيص بن عامر ابن لؤي بن غالب بن فهر . (3/
137)
|
*3*شعر أبي بكر في هذه السرية
|
@ قال ابن إسحاق : فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، في غزوة
عبيدة بن الحارث - قال ابن هشام : وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة لأبي
بكر رضي الله عنه - :
|
أمن
طيف سلمى بالبطاح الدمائث * أرقت وأمر في العشيرة حادث
|
ترى
من لؤي فرقة لا يصدها * عن الكفر تذكير ولا بعث باعث
|
رسول
أتاهم صادق فتكذبوا * عليه وقالوا : لست فينا بماكث
|
إذا
ما دعوناهم إلى الحق أدبروا * وهروا هرير المجحرات اللواهث
|
فكم
قد متتنا فيهم بقرابة * وترك التُّقى شيء لهم غيرُ كارث
|
فإن
يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم * فما طيبات الحل مثل الخبائث
|
وإن
يركبوا طغيانهم وضلالهم * فليس عذاب الله عنهم بلابث
|
ونحن
أناس من ذؤابة غالب * لنا العز منها في الفروع الأثائث
|
فأولي
برب الراقصات عشية * حراجيج تحدى في السريح الرثائث
|
كأدم
ظباء حول مكة عكف * يردن حياض البئر ذات النبائث
|
لئن
لم يفيقوا عاجلا من ضلالهم * ولست إذا آليت قولا بحانث (3/ 138)
|
لتبتدرنهَّم
غارة ذات مصدق * تحرم أطهار النساء الطوامث
|
تغادر
قتلى تعصب الطير حولهم * ولا ترأف الكفار رأف ابن حارث
|
فأبلغ
بني سهم لديك رسالة * وكل كفور يبتغي الشر باحث
|
فإن
تشعثوا عرضي على سوء رأيكم * فإني من أعراضكم غير شاعث
|
*3*شعر ابن الزبعرى يرد على أبي بكر
|
@ فأجابه عبدالله بن الزبعرى السهمي ، فقال :
|
أمن
رسم دار أقفرت بالعثاعث * بكيت بعين دمعها غير لابث
|
ومن
عجب الأيام والدهر كله * له عجب من سابقات وحادث
|
لجيش
أتانا ذي عرام يقوده * عبيدة يُدعى في الهياج ابن حارث
|
لنترك
أصناما بمكة عكفا * مواريث موروث كريم لوراث
|
فلما
لقيناهم بسمر ردينة * وجرد عتاق في العجاج لواهث
|
وبيض
كأن الملح فوق متونها * بأيدي كماة كالليوث العوائث
|
نقيم
بها إصعار من كان مائلا * ونشقي الذحول عاجلا غير لابث
|
فكفوا
على خوف شديد وهيبة * وأعجبهم أمر لهم أمر رائث
|
ولو
أنهم لم يفعلوا ناح نسوة * أيامى لهم ، من بين نسء وطامث (3/ 139)
|
وقد
غودرت قتلى يخبر عنهمُ * حفي بهم أو غافل غير باحث
|
فأبلغ
أبا بكر لديك رسالة * فما أنت عن أعراض فهر بماكث
|
ولما
تجب مني يمين غليظة * تجدد حربا حلفة غير حانث
|
قال
ابن هشام : تركنا منها بيتا واحدا ، وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة
لابن الزبعرى .
|
*3*شعر سعد بن أبي وقاص يذكر رميته في هذه السرية
|
@ قال ابن إسحاق : وقال سعد بن أبي وقاص في رميته تلك فيما
يذكرون :
|
ألا
هل أتى رسول الله أني * حميت صحابتي بصدور نبلي
|
أذود
بها أوائلهم ذيادا * بكل حُزُونة وبكل سَهْلِ
|
فما
يعتدُّ رام في عدو * بسهم يا رسول الله قبلي
|
وذلك
أن دينك دين صدق * وذو حق أتيت به وعدل
|
ينجَّى
المؤمنون به ، ويجُزى * به الكفار عند مقام مَهْل
|
فمهلا
قد غويت فلا تَعِبْني * غويَّ الحي ويحك يا ابن جهل
|
قال
ابن هشام : وأكثر أهل العم بالشعر ينكرها لسعد .
|
*3*أول راية في الإسلام كانت لعبيدة
|
@ قال ابن إسحاق : فكانت راية عبيدة بن الحارث - فيما بلغني -
أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام ، لأحد من المسلمين .
وبعض العلماء يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه حين أقبل من غزوة
الأبواء ، قبل أن يصل إلى المدينة . (3/ 140)
|
*2*سرية حمزة إلى سيف البحر
|
*3*ما فعلته هذه السرية
|
@ وبعث في مقامه ذلك ، حمزة بن عبدالمطلب بن هاشم ، إلى سيف
البحر ، من ناحية العيص ، في ثلاثين راكبا من المهاجرين ، وليس فيهم من الأنصار
أحد . فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاث مئة راكب من أهل مكة . فحجز
بينهم مجديُّ بن عمرو الجهني . وكان موادعا للفريقين جميعا ، فانصرف بعض القوم
عن بعض ، ولم يكن بينهم قتال .
|
*3*من قال أن أول راية في الإسلام كانت لحمزة رضي الله عنه ، و
شعر حمزة في ذلك
|
@ وبعض الناس يقول : كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله
صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين . وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا ،
فشُبِّه ذلك على الناس . وقد زعموا أن حمزة قد قال في ذلك شعرا يذكر فيه أن
رايته أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كان حمزة قد قال ذلك ،
فقد صدق إن شاء الله ، لم يكن يقول إلا حقا ، فالله أعلم أي ذلك كان .
|
فأما
ما سمعنا من أهل العلم عندنا ، فعبيدة بن الحارث أول من عقد له . فقال حمزة في
ذلك ، فيما يزعمون :
|
قال
ابن هشام : وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذا الشعر لحمزة رضي الله عنه :
|
ألا
يا لقومي للتحلم والجهل * وللنقص من رأي الرجال وللعقل
|
وللراكبينا
بالمظالم لم نطأ * لهم حرمات من سوام ولا أهل
|
كأنا
تَبلْناهم ولا تبل عندنا * لهم غير أمر بالعفاف وبالعدل (3/ 141)
|
وأمر
بإسلام فلا يقبلونه * وينزل منهم مثل منزلة الهزل
|
فما
برحوا حتى انتدبت لغارة * لهم حيث حلوا أبتغي راحة الفضل
|
بأمر
رسول الله ، أول خافق * عليه لواء لم يكن لاح من قبلي
|
لواء
لديه النصر من ذي كرامة إله عزيز فعله أفضل الفعل *
|
عشية
ساروا حاشدين وكلنا * مراجله من غيظ أصحابه تغلي
|
فلما
تراءينا أناخوا فعقَّلوا مطايا وعقَّلنا مدى غرض النبل *
|
فقلنا
لهم : حبل الإله نصيرنا * وما لكم إلا الضلالة من حبل
|
فثار
أبو جهل هنالك باغيا * فخاب وردَّ الله كيد أبي جهل
|
وما
نحن إلا في ثلاثين راكبا * وهم مئتان بعد واحدة فضل
|
فيا
للؤي لا تطيعوا غواتكم * وفيئوا إلى الإسلام والمنهج السهل
|
فإني
أخاف أن يُصبَّ عليكم * عذاب فتدعوا بالندامة والثكل
|
*3*شعر أبو جهل يرد على حمزة
|
@ فأجابه أبو جهل بن هشام ، فقال :
|
عجبت
لأسباب الحفيظة والجهل * وللشاغبين بالخلاف وبالبطل
|
وللتاركين
ما وجدنا جدودنا * عليه ذوي الأحساب والسؤدد الجزل
|
أتونا
بإفك كي يضلوا عقولنا * وليس مضلا إفكهم عقل ذي عقل
|
فقلنا
لهم : يا قومنا لا تخالفوا * على قومكم إن الخلاف مدى الجهل
|
فإنكم
إن تفعلوا تدع نسوة * لهن بواك بالرزية والثكل
|
وإن
ترجعوا عما فعلتم فإننا * بنو عمكم أهل الحفائظ والفضل
|
فقالوا
لنا : إنا وجدنا محمدا * رضا لذوي الأحلام منا وذي العقل
|
فلما
أبوا إلا الخلاف وزينوا * جماع الأمور بالقبيح من الفعل
|
تيممتهم
بالساحلين بغارة * لأتركهم كالعصف ليس بذي أصل (3/ 142)
|
فورَّعني
مجديّ عنهم وصحبتي * وقد وازروني بالسيوف وبالنبل
|
لإلٍّ
علينا واجب لا نضيعه * أمين قواه غير منتكث الحبل
|
فلولا
ابن عمرو كنت غادرت منهم * ملاحم للطير العكوف بلا تبل
|
ولكنه
آلى بإلٍّ فقلَّصت * بأيماننا حد السيوف عن القتل
|
فإن
تُبقني الأيام أرجعْ عليهم * ببيض رقاق الحد محدثة الصقل
|
بأيدي
حماة من لؤي بن غالب * كرام المساعي في الجدوبة والمحل
|
قال
ابن هشام : وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذا الشعر لأبي جهل .
|
*2*غزوة بواط
|
*3*يومها
|
@ قال ابن إسحاق : ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر
ربيع الأول يريد قريشا .
|
*3*ابن مظعون في المدينة
|
@ قال ابن هشام : واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون
.
|
*3*العودة إلى المدينة
|
@ قال ابن إسحاق : حتى بلغ بواط ، من ناحية رضوى ، ثم رجع إلى
المدينة ولم يلق كيدا ، فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى . (3/
143)
|
*2*غزوة العشيرة
|
*3*من استعمله صلى الله عليه وسلم على المدينة
|
@ ثم غزا قريشا ، فاستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبدالأسد ،
فيما قال ابن هشام .
|
*3*الطريق الذي سلكه صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغزوة
|
@ قال ابن إسحاق : فسلك على نقب بني دينار ، ثم على فيفاء الخبار
، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر ، يقال لها : ذات الساق ، فصلى عندها . فثمَّ
مسجده صلى الاله عليه وسلم ، وصُنع له عندها طعام ، فأكل منه ، وأكل الناس معه ،
فموضع أثافي البرمة معلوم هنالك ، واستُقي له من ماء به ، يقال له : المشترب ،
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم فترك الخلائق بيسار ، وسلك شعبة يقال لها
: شعبة عبدالله ، وذلك اسمها اليوم ، ثم صب لليسار حتى هبط يليل ، فنزل بمجتمعه
ومجتمع الضبوعة ، واستقى من بئر بالضبوعة ، ثم سلك الفرش : فرش ملل ، حتى لقي
الطريق بصحيرات اليمام ، ثم اعتدل به الطريق ، حتى نزل العشيرة من بطن ينبع .
فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة ، وادع فيها بني مدلج وحلفاءهم
من بني ضمرة ، ثم رجع إلى المدينة ، ولم يلق كيدا . (3/ 144)
|
*3*تكنيته صلى الله عليه وسلم عليا أبا تراب
|
@ وفي تلك الغزوة قال لعلي بن أبي طالب عليه السلام ما قال .
|
قال
ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن محمد بن خيثم المحاربي ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن
محمد بن خيثم أبي يزيد ، عن عمار بن ياسر ، قال : كنت أنا وعلي بن أبي طالب
رفيقين في غزوة العشيرة ؛ فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بها ؛
رأينا أناسا من بني مدلج يعملون في عين لهم وفي نخل ؛ فقال لي علي بن أبي طالب :
يا أبا اليقظان ، هل لك في أن تأتي هؤلاء القوم ، فننظر كيف يعملون ؟ قال : قلت
: إن شئت ؛ قال : فجئناهم ، فنظرنا إلى عملهم ساعة ، ثم غشينا النوم . فانطلقت
أنا وعلي حتى اضطجعنا في صور من النخل ، وفي دقعاء من التراب فنمنا ، فوالله ما
أهبَّنا إلا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم يحركنا برجله . وقد تترَّبْنا من
تلك الدقعاء التي نمنا فيها ، فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن
أبي طالب : ما لك يا أبا تراب ؟ لما يرى عليه من التراب .
|
*3*أشقى رجلين
|
@ ثم قال : ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين ؟ قلنا : بلى ، يا
رسول الله ؛ قال : أحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي يضربك يا علي على هذه - و
وضع يده على قرنه - حتى يَبُلَّ منها هذه . وأخذ بلحيته .
|
قال
ابن إسحاق : وقد حدثني بعض أهل العلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما
سمَّى عليا أبا تراب ، أنه كان إذا عتب على فاطمة في (3/ 145) شيء لم يكلمها ،
ولم يقل لها شيئا تكرهه ، إلا أنه يأخذ ترابا فيضعه على رأسه . قال : فكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عليه التراب عرف أنه عاتب على فاطمة ، فيقول :
ما لك يا أبا تراب ؟ فالله أعلم أي ذلك كان .
|
*2*سرية سعد بن أبي وقاص
|
*3*ذهابه إلى الخرار و رجوعه من غير حرب
|
@ قال ابن إسحاق : وقد كان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيما بين ذلك من غزوة سعد بن أبي وقاص ، في ثمانية رهط من المهاجرين ، فخرج حتى
بلغ الخرَّار من أرض الحجاز ، ثم رجع ولم يلق كيدا .
|
قال
ابن هشام : ذكر بعض أهل العلم أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة .
|
*2*غزوة سفوان ، وهي غزوة بدر الأولى
|
*3*إغارة كرز و الخروج في طلبه
|
@ قال ابن إسحاق : ولم يُقم رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر ، حتى أغار كرز
ابن جابر الفهري على سرح المدينة ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه ،
(3/ 146) واستعمل على المدينة زيد بن حارثة ، فيما قال ابن هشام .
|
*3*فوات كرز و الرجوع من غير حرب
|
@ قال ابن إسحاق : حتى بلغ واديا ، يقال له : سفوان ، من ناحية
بدر ، و فاته كرز بن جابر ، فلم يدركه ، وهي غزوة بدر الأولى . ثم رجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجبا وشعبان .
|
*2*سرية عبدالله بن جحش ونزول : ( يسئلونك عن الشهر الحرام ) .
|
*3*بعثه و الكتاب الذي حمله من الرسول صلى الله عليه و سلم
|
@ وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن جحش بن رئاب
الأسدي في رجب ، مقفله من بدر الأولى ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ، ليس
فيهم من الأنصار أحد ، وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم
ينظر فيه ، فيمضي لما أمره به ، ولا يستكره من أصحابه أحدا .
|
*3*أصحاب ابن جحش في هذه السرية
|
@ وكان أصحاب عبدالله بن جحش من المهاجرين ، ثم من بني عبد شمس
ابن عبد مناف : أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ؛ ومن حلفائهم : عبدالله
بن جحش ، وهو أمير القوم ، وعكاشة بن محصن ابن حرثان ، أحد بني أسد بن خزيمة ،
حليف لهم .
|
ومن
بني نوفل بن عبد مناف : عتبة بن غزوان بن جابر ، حليف لهم .
|
ومن
بني زهرة بن كلاب : سعد بن أبي وقاص .
|
ومن
بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة ، حليف لهم من عنز (3/ 147) ابن وائل ، وواقد بن
عبدالله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة ابن يربوع ، أحد بني تميم ، حليف لهم ،
وخالد بن البكير ، أحد بني سعد بن ليث ، حليف لهم .
|
ومن
بني الحارث بن فهر : سهيل بن بيضاء .
|
*3*ابن جحش يفتح الكتاب
|
@ فلما سار عبدالله بن جحش يومين فتح الكتاب ، فنظر فيه فإذا فيه
: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة ، بين مكة والطائف ، فترصد بها قريشا
وتعلم لنا من أخبارهم . فلما نظر عبدالله بن جحش في الكتاب ، قال : سمعا وطاعة ؛
ثم قال لأصحابه : قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة ،
أرصد بها قريشا ، حتى آتيه منهم بخبر ؛ وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم . فمن كان
منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ؛ فأما أنا فماض
لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمضى ومضى معه أصحابه ، لم يتخلف عنه منهم
أحد .
|
*3*من تخلف عن السرية بمعدن وسببه
|
@ و سلك على الحجاز ، حتى إذا كان بمعدن ، فوق الفرع ، يقال له :
بحران ، أضل سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما ، كانا يعتقبانه .
فتخلفا عليه في طلبه . ومضى عبدالله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة .
|
*3*السرية تلتقي بتجارة لقريش
|
@ فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما ، وتجارة من تجارة قريش ،
فيهما عمرو بن الحضرمي . (3/ 148)
|
*3*اسم الحضرمي ونسبه
|
@ قال ابن هشام : واسم الحضرمي : عبدالله بن عباد ، ويقال : مالك
بن عباد أحد الصدف ، واسم الصدف : عمرو بن مالك ، أحد السكون ابن أشرس بن كندة ،
ويقال : كنديّ .
|
قال
ابن إسحاق : وعثمان بن عبدالله بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبدالله ، المخزوميان
، والحكم بن كيسان ، مولى هشام بن المغيرة .
|
*3*ما جرى بين الفريقين و ما خلص به ابن جحش
|
@ فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم ، فأشرف لهم
عكاشة بن محصن ، وكان قد حلق رأسه ، فلما رأوه أمنوا ، وقالوا عُمَّار ، لا بأس
عليكم منهم . وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب ، فقال القوم : والله
لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم ، فليمتنعن منكم به ، ولئن قتلتموهم
لتقتلنهم في الشهر الحرام ؛ فتردد القوم ، وهابوا الإقدام عليهم ، ثم شجعوا
أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذ ما معهم . فرمى واقد
بن عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبدالله ،
والحكم بن كيسان ؛ وأفلت لقومَ نوفلُ بن عبدالله فأعجزهم . وأقبل عبدالله ابن
جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين ، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة .
|
وقد
ذكر بعض آل عبدالله بن جحش : أن عبدالله قال لأصحابه : إن لرسول الله صلى الله
عليه وسلم مما غنمنا الخمس - وذلك قبل أن يفرض الله تعالى الخمس من المغانم -
فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير ، وقسم سائرها بين أصحابه . (3/
149)
|
*3*إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم قتالهم في الأشهر الحرم
|
@ قال ابن إسحاق : فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة ؛ قال : ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام . فوقَّف العير والأسيرين .
وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا ؛ فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سُقط في
أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا .
وقالت قريش : قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم ، وأخذوا
فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال ؛ فقال من يرد عليهم من المسلمين ، ممن كان
بمكة : إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان .
|
*3*توقع اليهود بالمسلمين الشر
|
@ وقالت يهود - تفاءَلُ بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم -
عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبدالله ، عمرو ، عمرت الحرب ؛ والحضرمي ، حضرت
الحرب ؛ وواقد بن عبدالله ، وقدت الحرب . فجعل الله ذلك عليهم لا لهم . (3/ 150)
|
*3*القرآن يقر ما فعله ابن جحش
|
@ فلما أكثر الناس في ذلك ، أنزل الله على رسول الله صلى الله
عليه وسلم : ( يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه ، قل قتال فيه كبير ، وصد عن
سبيل الله وكفر به ، والمسجد الحرام ، وإخراج أهله منه أكبر عند الله ) أي إن
كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به ، وعن المسجد
الحرام ، وإخراجكم منه وأنتم أهله ، أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم (
والفتنة أكبر من القتل ) : أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه ، حتى يردوه إلى
الكفر بعد إيمانه ، فذلك أكبر عند الله من القتل ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى
يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) : أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه ، غير
تائبين ولا نازعين .
|
فلما
نزل القرآن بهذا من الأمر ، وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق
، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين ، وبعثت إليه قريش في فداء
عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا
نُفديكموهما حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان - فإنا
نخشاكم عليهما ، فإن تقتلوهما ، نقتل صاحبيكم . فقدم سعد وعتبة ، فأفداهما رسول
الله صلى الله عليه وسلم منهم .
|
*3*إسلام ابن كيسان و موت عثمان كافرا
|
@ فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه ، وأقام عند رسول الله
صلى الله عله وسلم حتى قُتل يوم بئر معونة شهيدا . وأما عثمان بن عبدالله فلحق
بمكة ، فمات بها كافرا .
|
*3*طمع ابن جحش أمير السرية في الأجر وما نزل في ذلك من القرآن
|
@ فلما تجلى عن عبدالله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل
القرآن ، طمعوا في الأجر ، فقالوا : يا رسول الله ، أنطمع أن تكون لنا غزوة
نُعطى فيها أجر المجاهدين ؟ فأنزل الله عز وجل فيهم : ( إن الذين آمنوا والذين
هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون (3/ 151) رحمة الله ، والله عفور رحيم
) ، فوضعهم الله عز وجل من ذلك على أعظم الرجاء .
|
والحديث
في هذا عن الزهري ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير .
|
*3*إحلال الفيء وقسمه
|
@ قال ابن إسحاق : وقد ذكر بعض آل عبدالله بن جحش : أن الله عز
وجل قسم الفيء حين أحله ، فجعل أربعة أخماس لمن أفاءه الله ، وخمسا إلى الله
ورسوله ، فوقع على ما كان عبدالله بن جحش صنع في تلك العير .
|
*3*أول غنيمة للمسلمين
|
@ قال ابن هشام : وهي أول غنيمة غنمها المسلمون . وعمرو بن
الحضرمي أول من قتله المسلمون ، وعثمان بن عبدالله ، والحكم بن كيسان أول من أسر
المسلمون .
|
*3*شعر عبدالله بن جحش في هذه السرية
|
@ قال ابن إسحاق : فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في غزوة
عبدالله بن جحش ، ويقال : بل عبدالله بن جحش قالها ، حين قالت قريش : قد أحل
محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه المال ، وأسروا فيه
الرجال - قال ابن هشام : هي لعبدالله ابن جحش - :
|
تعدون
قتلا في الحرام عظيمة * وأعظم منه لو يرى الرشدَ راشدُ
|
صدودكم
عما يقول محمد * وكفر به والله راء وشاهد
|
وإخراجكم
من مسجد الله أهله * لئلا يُرى لله في البيت ساجد
|
فإنا
وإن عيرتمونا بقتله * وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
|
سقينا
من ابن الحضرمي رماحنا * بنخلة لما أوقد الحرب واقد
|
دما
وابنُ عبدالله عثمان بيننا * ينازعه غُلّ من القدّ عاند (3/ 152)
|
*2*صرف القبلة إلى الكعبة
|
@ قال ابن إسحاق : ويقال : صُرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية
عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة .
|
*2*غزوة بدر الكبرى
|
*3*عير أبي سفيان
|
@ قال ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بأبي
سفيان بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة ، فيها أموال لقريش وتجارة من
تجاراتهم ، وفيها ثلاثون رجلا من قريش أو أربعون ، منهم مخرمة بن نوفل بن أهيب
بن عبد مناف بن زهرة ، وعمرو بن العاص بن وائل بن هشام .
|
قال
ابن هشام : ويقال : عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم .
|
*3*ندب المسلمين للعير و حذر أبي سفيان
|
@ قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن مسلم الزهري ، وعاصم بن عمر بن
قتادة ، وعبدالله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير وغيرهم من
علمائنا ، عن ابن عباس ، كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقته من
حديث بدر ، قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من
الشام ، ندب المسلمين إليهم ، وقال : هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا (3/
153) إليها لعل الله يُنْفِلُكُموها .
|
فانتدب
الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم يلقى حربا .
|
وكان
أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على
أمر الناس . حتى أصاب خبرا من بعض الركبان : أن محمدا قد استنفر أصحابه لك
ولعيرك فحذر عند ذلك . فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى مكة ، وأمره أن
يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه .
فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة .
|
*2*ذكر رؤيا عاتكة بنت عبدالمطلب
|
*3*عاتكة تقص رؤياها على أخيها العباس
|
@ قال ابن إسحاق : فأخبرني من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس ،
ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، قالا : وقد رأت عاتكة بنت عبدالمطلب ، قبل
قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال ، رؤيا أفزعتها . فبعث إلى أخيها العباس بن عبدالمطلب
فقالت له : يا أخي ، والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني ، وتخوفت أن يدخل على
قومك منها شر ومصيبة ، فاكتم عني ما أحدثك به ؛ فقال لها : وما رأيت ؟ قالت :
رأيت راكبا أقبل على بعير له ، حتى وقف بالأبطح ، ثم صرخ بأعلى صوته : ألا
انفروا يا لَغُدُر لمصارعكم في ثلاث ، فأرى الناس اجتمعوا إليه ، ثم دخل المسجد
والناس يتبعونه ، فبينما هم حوله مَثَل به بعيره على ظهر الكعبة ، ثم صرخ بمثلها
: ألا انفروا يالغدر لمصارعكم في ثلاث : ثم مثل به بعيره على رأس (3/ 154) أبي
قبيس ، فصرخ بمثلها .
|
ثم
أخذ صخرة فأرسلها . فأقبلت تهوي ، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضَّت ، فما بقي
بيت من بيوت مكة ، ولا دار إلا دخلتها منها فلقة ؛ قال العباس : والله إن هذه
لرؤيا ، وأنت فاكتميها ، ولا تذكريها لأحد .
|
*3*انتشار حديث الرؤيا في قريش
|
@ ثم خرج العباس ، فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وكان له صديقا
، فذكرها له ، واستكتمه إياها . فذكرها الوليد لأبيه عتبة ، ففشا الحديث بمكة ،
حتى تحدثت به قريش في أنديتها .
|
*3*ما جرى بين أبي جهل و العباس بسبب الرؤيا
|
@ قال العباس : فغدوت لأطوف بالبيت ، وأبو جهل بن هشام في رهط من
قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة ، فلما رآني أبو جهل قال : يا أبا الفضل ، إذا
فرغت من طوافك فأقبل إلينا ، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم ، فقال لي أبو جهل :
يا بني عبدالمطلب ، متى حدثت فيكم هذه النبية ؟ قال : قلت : وما ذاك ؟ قال : تلك
الرؤيا التي رأت عاتكة ؛ قال : فقلت : وما رأت ؟ قال : يا بني عبدالمطلب ، أما
رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ، قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال :
انفُروا في ثلاث ، فسنتربص بكم هذه الثلاث ، فإن يك حقا ما تقول فسيكون ، و إن
تمض الثلاث ولم يكن من (3/ 155) ذلك شيء ، نكتبْ عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت
في العرب . قال العباس : فوالله ما كان مني إليه كبير ، إلا أني جحدت ذلك ،
وأنكرت أن تكون رأت شيئا . قال : ثم تفرقنا .
|
*3*نساء عبدالمطلب يلمن العباس للينه مع أبي جهل
|
@ فلما أمسيت ، لم تبق امرأة من بني عبدالمطلب إلا أتتني ، فقالت
: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ،
ثم لم يكن عندك غِيَر لشيء مما سمعت ، قال : قلت : قد والله فعلت ، ما كان مني
إليه من كبير . وأيم الله لأتعرضن له ، فإن عاد لأكفينَّكُنَّه .
|
*3*ضمضم الغفاري يستنجد قريشا لأبي سفيان
|
@ قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة ، وأنا حديد مغضب
أُرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه . قال : فدخلت المسجد فرأيته ،
فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ، ليعود لبعض ما قال فأقع به ، وكان رجلا خفيفا ،
حديد الوجه ، حديد اللسان ، حديد النظر . قال : إذ خرج نحو باب المسجد يشتد .
قال : فقلت في نفسي : ما له لعنه الله ، أكلُّ هذا فَرَق مني أن أشاتمه ! قال :
وإذا هو قد سمع ما لم أسمع : صوت ضمضم بن عمرو الغفاري ، وهو يصرخ ببطن الوادي
واقفا على بعيره ، قد جدع بعيره ، وحوّل رحله ، وشق قيمصه ، وهو يقول : يا معشر
قريش ، اللطيمةَ اللطيمةَ ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ،
لا أرى أن تدركوها ، الغوثَ الغوثَ . قال : فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من
الأمر . (3/ 156)
|
*3*قريش تتجهز للخروج
|
@ فتجهز الناس سراعا ، وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير
ابن الحضرمي ، كلا والله ليعلمن غير ذلك . فكانوا بين رجلين ، إما خارج وإما
باعث مكانه رجلا . وأوعبت قريش ، فلم يتخلف من أشرافها أحد .
|
*3*تخلف أبي لهب عند بدر
|
@ إلا أن أبا لهب بن عبدالمطلب تخلف ، وبعث مكانه العاصي بن هشام
ابن المغيرة ، وكان قد لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه ، أفلس بها ،
فاستأجره بها على أن يجُزئ عنه ، بعثه فخرج عنه ، وتخلف أبو لهب .
|
*3*أمية بن خلف يحاول التخلف
|
@ قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالله بن أبي نجيح : أن أمية بن خلف
كان أجمع القعود ، وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا ، فأتاه عقبة بن أبي معيط ، وهو
جالس في المسجد بين ظهراني قومه ، بمجمرة يحملها ، فيها نار ومجمر ، حتى وضعها
بين يديه ، ثم قال : يا أبا علي ، استجمر ، فإنما أنت من النساء ؛ قال : قبحك
الله وقبح ما جئت به ، قال : ثم تجهز فخرج مع الناس .
|
*3*ما وقع بين قريش وكنانة من الحرب قبل بدر ، و تحاجزهم يوم بدر
|
@ قال ابن إسحاق : ولما فرغوا من جهازهم ، وأجمعوا المسير ،
ذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب ، فقالوا : إنا
نخشى أن يأتونا من خلفنا ، وكانت الحرب التي كانت بين قريش وبين بني بكر - كما
حدثني بعض بني عامر بن لؤي ، عن محمد (3/ 157) ابن سعيد بن المسيَّب - في ابنٍ
لحفص بن الأخيف ، أحد بني مَعيص بن عامر بن لؤي ، خرج يبتغي ضالة له بضجنان ،
وهو غلام حدث في رأسه ذؤابة ، وعليه حلة له ، وكان غلاما وضيئا نظيفا ، فمر
بعامر بن يزيد بن عامر بن الملوح ، أحد بني يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث
بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، وهو بضجنان ، وهو سيد بني بكر يومئذ ، فرآه
فأعجبه ؛ فقال : من أنت يا غلام ؟ قال : أنا ابنٌ لحفص ابن الأخيف القرشي .
|
فلما
ولىَّ الغلام ، قال عامر بن زيد : يا بني بكر ، ما لكم في قريش من دم ؟ قالوا :
بلى والله ، إن لنا فيهم لدماء ؛ قال : ما كان رجل ليقتل هذا الغلام برَجُله إلا
كان قد استوفى دمه .
|
قال
: فتبعه رجل من بني بكر ، فقتله بدم كان له في قريش ؛ فتكلمت فيه قريش ، فقال
عامر بن يزيد : يا معشر قريش ، قد كانت لنا فيكم دماء ، فما شئتم . إن شئتم
فأدوا علينا ما لنا قبلكم ، ونؤدي ما لكم قبلنا ، وإن شئتم فإنما هي الدماء :
رجل برجل ، فتجافوا عما لكم قِبَلَنا ، ونتجافى عما لنا قبلكم ، فهان ذلك الغلام
على هذا الحي من قريش ، وقالوا : صدق ، رجل برجل . فلهوا عنه ، فلم يطلبوا به .
|
*3*قتل مكرز عامر بن الملوح
|
@ قال : فبينما أخوه مكرز بن حفص بن الأخيف يسير بِمرِّ الظهران
، إذ نظر إلى عامر بن يزيد بن عامر بن الملوح على جمل له ، فلما رآه أقبل إليه
حتى أناخ به ، وعامر متوشح سيفه ، فعلاه مكرز بسيفه حتى قتله ، ثم خاض بطنه
بسيفه ، ثم أتى به مكة ، فعلَّقه من الليل بأستار الكعبة .
|
فلما
أصبحت قريش رأوا سيف عامر بن يزيد بن عامر معلقا بأستار الكعبة ، فعرفوه ؛
فقالوا : إن هذا لسيف عامر بن يزيد ، عدا عليه مكرز بن حفص فقتله ، فكان ذلك من
أمرهم . (3/ 158)
|
فبينما
هم في ذلك من حربهم ، حجز الإسلام بين الناس ؛ فتشاغلوا به ، حتى أجمعت قريش
المسير إلى بدر ، فذكروا الذي بينهم وبين بني بكر فخافوهم .
|
*3*ما قاله مكرز شعرا في قتله عامر
|
@ وقال مكرز بن حفص في قتله عامرا :
|
لما
رأيت أنه هو عامر * تذكرت أشلاء الحبيب الملحَّب
|
وقلت
لنفسي : إنه هو عامر * فلا ترهبيه ، وانظري أي مركب
|
وأيقنت
أني إن أجلله ضربة * متى ما أُصبه بالفُرافر يعطب
|
خفضت
له جأشي وألقيت كلكلي * على بطل شاكي السلاح مجرب
|
ولم
أك لما التف روعي وروعه * عصارة هجن من نساء ولا أب
|
حللت
به وِتْرِي ولم أنس ذحله * إذا ما تناسى ذحله كل عيهب
|
قال
ابن هشام : الفَرار ( في غير هذا الموضع ) : الرجل الأضبط ، ( وفي هذا الموضع )
: السيف ، والعيهب : الذي لا عقل له ، ويقال لتيس الظباء وفحل النعام : العيهب .
قال الخليل : العيهب : الرجل الضعيف عن إدراك وتره .
|
*3*إبليس يغري قريشا بالخروج
|
@ قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ،
قال : لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر ، فكاد ذلك
يثنيهم ، فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن (3/ 159) جعشم المدلجي ،
وكان من أشراف بني كنانة ، فقال لهم : أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم
بشئ تكرهونه ، فخرجوا سراعا .
|
*3*خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم
|
@ قال ابن إسحاق : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال
مضت من شهر رمضان في أصحابه - قال ابن هشام : خرج يوم الأثنين لثمان ليال خلون
من شهر رمضان - واستعمل عمرو بن أم مكتوم - ويقال : اسمه : عبدالله بن أم مكتوم
- ، أخا بني عامر بن لؤي ، على الصلاة بالناس ، ثم رد أبا لبابة من الروحاء ،
واستعمله على المدينة .
|
*3*صاحب اللواء
|
@ قال ابن إسحاق : ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد
مناف بن عبدالدار .
|
قال
ابن هشام : وكان أبيض .
|
*3*رايتا الرسول صلى الله عليه وسلم
|
@ قال ابن إسحاق : وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم
رايتان سوداوان ، إحداهما مع علي بن أبي طالب ، يقال لها : العقاب ، والأخرى مع
بعص الأنصار .
|
*3*عدد إبل المسلمين
|
@ قال ابن إسحاق : وكانت إبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
يومئذ سبعين بعيرا ، فاعتقبوها ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلي بن
أبي طالب ، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرا ، وكان حمزة بن عبدالمطلب ،
وزيد بن حارثة ، وأبو كبشة ، وأنسة ، موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعتقبون بعيرا ، وكان أبو بكر ، وعمر ، وعبدالرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا .
|
قال
ابن إسحاق : وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار . وكانت
راية الأنصار مع سعد بن معاذ ، فيما قال ابن هشام . (3/ 160)
|
*3*طريق المسلمين إلى بدر
|
@ قال ابن إسحاق : فسلك طريقه من المدينة إلى مكة ، على نَقْب
المدينة ، ثم على العقيق ، ثم على ذي الحُليفة ، ثم على أولات الجيش .
|
قال
ابن هشام : ذات الجيش .
|
*3*الرجل الذي اعترض الرسول و جواب سلمة له
|
@ قال ابن إسحاق : ثم مر على تُرْبان ، ثم على ملل ، ثم غَميس
الحمام من مريين ، ثم على صخيرات اليمام ، ثم على السيَّالة ، ثم على فج الروحاء
، ثم على شنوكة ، وهي الطريق المعتدلة ؛ حتى إذا كان بعرق الظبية - قال ابن هشام
: الظبية : عن غير ابن إسحاق - لقوا رجلا من الأعراب ، فسألوه عن الناس ، فلم
يجدوا عنده خبرا ؛ فقال له الناس : سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال
: أوفيكم رسول الله ؟ قالوا : نعم ، فسلم عليه ؛ ثم قال : إن كنت رسول الله
فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه . قال له سلمة بن سلامة بن وقش : لا تسأل رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل علي فأنا أخبرك عن ذلك . نزوت عليها ، ففي
بطنها منك سخلة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه ، أفحشت على الرجل ؛
ثم أعرض عن سلمة .
|
*3*بقية الطريق إلى بدر
|
@ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم سجسج ، وهي بئر الروحاء ،
ثم ارتحل (3/ 161) منها ، حتى إذا كان بالمنصرف ، ترك طريق مكة بيسار ، وسلك ذات
اليمين على النازية ، يريد بدرا ، فسلك في ناحية منها ، حتى جزع واديا ، يقال له
: رُحْقان ، بين النازية وبين مضيق الصفراء ، ثم على المضيق ، ثم انصب منه ، حتى
إذا كان قريبا من الصفراء ، بعث بسبس بن الجهني ، حليف بني ساعدة ، وعدي بن أبي
الزغباء الجهني ، حليف بني النجار ، إلى بدر يتحسسان له الأخبار ، عن أبي سفيان
بن حرب وغيره .
|
ثم
ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد قدمها . فلما استقبل الصفراء ، وهي
قرية بين جبلين ، سأل عن جبليهما ما اسماهما ؟ فقالوا : يقال لأحدهما ، هذا مسلح
، وللآخر : هذا مخرىء ؛ وسأل عن أهلهما ، فقيل : بنو النار وبنو حراق ، بطنان من
بني غفار ، فكرههما رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرور بينهما ، وتفاءل
بأسمائهما وأسماء أهلهما . فتركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم والصفراء بيسار
، وسلك ذات اليمين على واد يقال له : ذَفِران ، فجزع فيه ، ثم نزل .
|
*3*ما قاله أبو بكر وعمر و المقداد تشجيعا للجهاد
|
@ وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ؛ فاستشار الناس ،
وأخبرهم عن قريش ؛ فقام أبو بكر الصديق ، فقال وأحسن .
|
ثم
قام عمر بن الخطاب ، فقال وأحسن .
|
ثم
قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك ، والله
لا نقول لك كما قالت (3/ 162) بنو إسرائيل لموسى : ( اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا
ههنا قاعدون ) . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك
بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه ، حتى تبلغه ؛ فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ، ودعا له به .
|
*3*استشارة الأنصار
|
@ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشيروا علي أيها الناس
، وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم عدد الناس ، وأنهم حين بايعوه بالعقبة ، قالوا
: يا رسول الله ، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلينا ،
فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا .
|
فكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن
دهمه بالمدينة من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم .
|
فلما
قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك
تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل ؛ قال : فقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما
جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، على السمع والطاعة ، فامض
يا رسول الله لما أردت فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر
فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ،
إنا لَصُبُرٌ في الحرب ، صُدُق في اللقاء . لعل الله يريك منا ما تقر به عينك ،
فسر بنا على بركة الله . فسُر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونشَّطه
ذلك ؛ ثم قال : سيروا وأبشروا ، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله
لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم .
|
*3*التعرف على أخبار قريش
|
@ ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذفران ، فسلك على
ثنايا . يقال لها : الأصافر ؛ ثم انحط منها إلى بلد (3/ 163) يقال له :
الدَّبَّة ، وترك الحنَّان بيمين وهو كثيب عظيم كالجبل العظيم ؛ ثم نزل قريبا من
بدر ، فركب هو ورجل من أصحابه .
|
قال
ابن هشام : الرجل هو أبو بكر الصديق .
|
قال
ابن إسحاق كما حدثني محمد بن يحيى بن حبان : حتى وقف على شيخ من العرب ، فسأله
عن قريش ، وعن محمد وأصحابه ، وما بلغه عنهم ؛ فقال الشيخ : لا أخبركما حتى
تخبراني ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أخبرتنا أخبرناك .
قال : أذاك بذاك ؟ قال : نعم ؛ قال الشيخ : فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا
يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذي أخبرني ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا ، للمكان الذي
به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن
كان الذي أخبرني صدقني ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا ، للمكان الذي فيه قريش .
|
فلما
فرغ من خبره ، قال : ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن من
ماء ، ثم انصرف عنه . قال : يقول الشيخ : ما من ماء ، أمن ماء العراق ؟
|
قال
ابن هشام : يقال : ذلك الشيخ : سفيان الضمري .
|
*3*ظفر المسلمين برجلين من قريش يقفانهم على أخبارهم
|
@ قال ابن إسحاق : ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
أصحابه ؛ فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص
، في نفر من أصحابه ، إلى ماء بدر ، يلتمسون الخبر له عليه - كما حدثني يزيد بن
رومان ، عن عروة بن الزبير - فأصابوا رواية لقريش فيها أسلم ، غلام بني الحجاج ،
وعريض أبو يسار ، غلام بني العاص بن سعيد ، فأتوا بهما فسألوهما ، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم (3/ 164) قائم يصلي ، فقالا : نحن سقاة قريش ، بعثونا نسقيهم
من الماء .
|
فكره
القوم خبرهما ، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان ، فضربوهما . فلما أذلقوهما قالا :
نحن لأبي سفيان ، فتركوهما . وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتيه ،
ثم سلم ، وقال : إذا صدقاكم ضربتموهما ، وإذا كذباكم تركتموهما ، صدقا ، والله
إنهما لقريش ، أخبراني عن قريش ؟ قالا : هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى
بالعدوة القصوى - والكثيب : العقنقل - فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم :
كم القوم ؟ قالا : كثير ؛ قال : ما عدتهم ؟ قالا : لا ندري ؛ قال : كم ينحرون كل
يوم ؟ قالا : يوما تسعا ، ويوما عشرا ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
القوم فيما بين التسع مئة والألف .
|
ثم
قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ،
وأبو البختري بن هشام ، وحكيم بن حزام ، ونوفل بن خويلد ، والحارث بن عامر بن
نوفل ، وطعيمة بن عدي بن نوفل ، والنضر بن الحارث ، و زمعة بن الأسود ، وأبو جهل
بن هشام ، وأمية بن خلف ، ونبيه ، ومنبه ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو ، وعمرو بن
عبد ود .
|
فأقبل
رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ، فقال : هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ
كبدها .
|
*3*بسبس و عدي يتجسسان الأخبار
|
@ قال ابن إسحاق : وكان بسبس بن عمرو ، وعدي بن أبي الزغباء ، قد
مضيا حتى نزلا بدرا ، فأناخا إلى تل قريب من الماء ، ثم أخذا شنَّا لهما يستقيان
فيه ، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء . فسمع عدي (3/ 165) وبسبس جاريتين من
جواري الحاضر ، وهما يتلازمان على الماء ، والملزومة تقول لصاحبتها : إنما تأتي
العير غدا أو بعد غد ، فأعمل لهم ، ثم أقضيك الذي لك . قال مجدي : صدقتِ ، ثم
خلَّص بينهما . وسمع ذلك عدي وبسبس ، فجلسا على بعيريهما ، ثم انطلقا حتى أتيا
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبراه بما سمعا .
|
*3*نجاة أبي سفيان بالعير
|
@ و أقبل أبو سفيان بن حرب ، حتى تقدم العير حذرا ، حتى ورد
الماء ؛ فقال لمجدي بن عمرو : هل أحسست أحدا ؟ فقال : ما رأيت أحدا أنكره ، إلا
أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ، ثم استقيا في شن لهما ، ثم انطلقا .
|
فأتى
أبو سفيان مُناخهما ، فأخذ من أبعار بعيريهما ، ففتَّه ، فإذا فيه النوى ؛ فقال
: هذه والله علائف يثرب . فرجع إلى أصحابه سريعا ، فضرب وجه عيره عن الطريق ،
فساحل بها ، وترك بدرا بيسار ، وانطلق حتى أسرع .
|
*3*رؤيا جهيم بن الصلت في مصارع قريش
|
@ قال : وأقبلت قريش ، فلما نزلوا الجحفة ، رأى جهيم بن الصلت بن
مخرمة بن عبدالمطلب بن عبد مناف رؤيا ، فقال : إني رأيت فيما يرى النائم ، وإني
لبين النائم واليقظان . إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف ، ومعه بعير له
؛ ثم قال : قتل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو الحكم بن هشام ، وأمية بن
خلف ، وفلان وفلان ، فعدد رجالا ممن قتل يوم بدر ، من أشراف قريش ، ثم رأيته ضرب
في لَبَّة بعيره ، ثم (3/ 166) أرسله في العسكر ، فما بقي خباء من أخبية العسكر
إلا أصابه نضح من دمه .
|
قال
: فبلغت أبا جهل ؛ فقال : وهذا أيضا نبي آخر من بني المطلب ، سيعلم غدا من
المقتول إن نحن التقينا .
|
*3*أبو سفيان يرسل إلى قريش يطلب منهم الرجوع
|
@ قال ابن إسحاق : ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره ، أرسل
إلى قريش : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، فقد نجاها الله ،
فارجعوا ؛ فقال أبو جهل بن هشام : والله لا نرجع حتى نرد بدرا - وكان بدر موسما
من مواسم العرب ، يجتمع لهم به سوق كل عام - فنقيم عليه ثلاثا ، فننحر الجزر ،
ونطعم الطعام ، ونُسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا
، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها ، فامضوا .
|
*3*الأخنس يرجع ببني زهرة
|
@ وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، وكان حليفا لبني
زهرة و هم بالجحفة : يا بني زهرة ، قد نجَّى الله لكم أموالكم ، وخلّص لكم
صاحبكم مخرمة بن نوفل ، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله ، فاجعلوا لي جُبْنها وارجعوا
، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة ، لا ما يقول هذا ، يعني أبا جهل .
|
فرجعوا
، فلم يشهدها زُهري واحد ، أطاعوه وكان فيهم مطاعا .
|
ولم
يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس ، إلا بني عدي بن كعب ، لم يخرج منهم
رجل واحد ، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، فلم يشهد بدرا من هاتين
القبيلتين أحد ، ومشى القوم .
|
وكان
بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة ، فقالوا : والله
لقد عرفنا يا بني هاشم ، وإن خرجتم (3/ 167) معنا ، أن هواكم لمع محمد . فرجع
طالب إلى مكة مع من رجع . وقال طالب بن أبي طالب :
|
لاهُمّ
إما يغزونّ طالبْ * في عصبة محالف محاربْ
|
في
مِقنب من هذه المقانب * فليكن المسلوبَ غير السالب
|
وليكن
المغلوب غير الغالب *
|
قال
ابن هشام : قوله : ( فليكن المسلوب ) ، وقوله ( وليكن المغلوب ) عن غير واحد من
الرواة للشعر .
|
*3*قريش تنزل بالعدوة والمسلمون ببدر
|
@ قال ابن إسحاق : ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي
، خلف العقنقل وبطن الوادي ، وهو يَلْيَل ، بين بدر و بين العقنقل ، الكثيب الذي
خلفه قريش ، والقُلُب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة .
|
وبعث
الله السماء ، وكان الوادي دهسا ، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
منها ما لبَّد لهم الأرض ، ولم يمنعهم عن السير ، وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا
على أن يرتحلوا معه . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبادرهم إلى الماء ،
حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به .
|
*3*الحُباب يشير على الرسول صلى الله عليه وسلم بمكان النزول
|
@ قال ابن إسحاق : فحُدثت عن رجال من بني سلمة ، أنهم ذكروا : أن
الحباب بن المنذر بن الجموح قال : يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلا
أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ، ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟
(3/ 168) قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة ، فقال : يا رسول الله ، فإن هذا
ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم ، فننزله ، ثم نُغَوِّر ما
وراءه من القلب ، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ، ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا
يشربون ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أشرت بالرأي .
|
فنهض
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس ، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من
القوم نزل عليه ، ثم أمر بالقلب فغورت ، و بنى حوضا على القَليب الذي نزل عليه ،
فمُلىء ماء ، ثم قذفوا فيه الآنية .
|
*3*بناء العريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم
|
@ قال ابن إسحاق : فحدثني عبدالله بن أبي بكر أنه حدث : أن سعد
بن معاذ قال : يا نبي الله ، ألا نبني لك عريشا تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ،
ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا ، كان ذلك ما أحببنا ، وإن
كانت الأخرى ، جلست على ركائبك ، فلحقت بمن وراءنا ، فقد تخلف عنك أقوام ، يا
نبي الله ، ما نحن بأشد لك حبا منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ،
يمنعك الله بهم ، يناصحونك ويجاهدون معك . فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم خيراً ، ودعا له بخير . ثم بُني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش ، فكان
فيه .
|
*3*ارتحال قريش ودعاء الرسول عليهم
|
@ قال ابن إسحاق : وقد ارتحلت قريش حين أصبحت ، فأقبلت ، فلما
رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تَصَوَّب من العقنقل - و هو الكثيب الذي
جاءوا منه إلى الوادي - قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك
وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم أحنهم الغداة . (3/ 169)
|
وقد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له
أحمر - إن يكن في أحد القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا .
|
وقد
كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري ، أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري ، بعث إلى
قريش ، حين مروا به ، ابنا له بجزائره أهداها لهم ، وقال : إن أحببتم أن نمدكم
بسلاح ورجال فعلنا . قال : فأرسلوا إليه مع ابنه : أن وصلتك رحم ، قد قضيت الذي
عليك ، فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم ، ولئن كنا إنما
نقاتل الله ، كما يزعم محمد ، فما لأحد بالله من طاقة .
|
*3*إسلام ابن حزام
|
@ فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيهم حكيم بن حزام ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوهم
. فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل ، إلا ما كان من حكيم بن حزام ، فإنه لم يقتل ،
ثم أسلم بعد ذلك ، فحسن إسلامه . فكان إذا اجتهد في يمينه ، قال : لا والذي
نجاني من يوم بدر .
|
*3*محاولة قريش الرجوع عن القتال
|
@ قال ابن إسحاق : وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم
، عن أشياخ من الأنصار ، قالوا : لما اطمأن القوم ، بعثوا عمير بن وهب الجمحي
فقالوا : احزروا لنا أصحاب محمد ، قال : فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم
، فقال : ثلاث مائة رجل ، يزيدون قليلا أو ينقصون ، ولكن أمهلوني حتى أنظر
أللقوم كمين أو مدد ؟ قال : فضرب في الوادي حتى أبعد ، فلم ير شيئا ، فرجع إليهم
فقال : ما وجدت شيئا ، ولكن (3/ 170) قد رأيت ، يا معشر قريش ، البلايا تحمل
المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا
سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم ، حتى يقتل رجلا منكم ، فإذا أصابوا
منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ؟ فروا رأيكم .
|
فلما
سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس ، فأتى عتبة بن ربيعة ، فقال : يا أبا الوليد
، إنك كبير قريش وسيدها ، والمطاع فيها ، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير
إلى آخر الدهر ؟ قال : وما ذاك يا حكيم ؟ قال : ترجع بالناس ، وتحمل أمر حليفك
عمرو بن الحضرمي ؛ قال : قد فعلت ، أنت علي بذلك ، إنما هو حليفي ، فعلي عقله
وما أصيب من ماله ، فأت ابن الحنظلية .
|
*3*الحنظلية ونسبها
|
@ قال ابن هشام : والحنظلية أم أبي جهل ، وهي أسماء بنت مخُرِّبة
، أحد بني نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم - فإني لا
أخشى أن يشجر أمر الناس غيره ، يعني أبا جهل بن هشام .
|
ثم
قام عتبة بن ربيعة خطيبا ، فقال : يا معشر قريش ، إنكم والله ما تصنعون بأن
تلقوا محمدا وأصحابه شيئا ، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل
يكره النظر إليه ، قتل ابن عمه أو ابن خاله ، أو رجلا من عشيرته ، فارجعوا و
خلوا بين محمد وبين سائر العرب ، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم ، وإن كان غير ذلك
ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون . (3/ 171)
|
قال
حكيم : فانطلقت حتى جئت أبا جهل ، فوجدته قد نثل درعا له من جرابها ، فهو يهنئها
. - قال ابن هشام : يهيئها - فقلت له : يا أبا الحكم ، إن عتبة أرسلني إليك بكذا
وكذا ، للذي قال ؛ فقال : انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه ، كلا والله
لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، وما بعتبة ما قال ، ولكنه قد رأى أن
محمدا وأصحابه أكلة جزور ، وفيهم ابنه ، فقد تخوفكم عليه . ثم بعث إلى عامر بن
الحضرمي ، فقال : هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثأرك بعينك ، فقم
فانشد خفرتك ، ومقتل أخيك . فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ : واعمراه ،
واعمراه ، فحميت الحرب ، وحَقِب الناس ، واستوسقوا على ما هم عليه من الشر ،
وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة .
|
فلما
بلغ عتبة قول أبي جهل ( انتفخ والله سحره ) ، قال : سيعلم مُصَفِّر استه من
انتفخ سحره ، أنا أم هو ؟ .
|
قال
ابن هشام : السَحْر : الرئة وما حولها مما يعلق بالحلقوم من فوق السرة . وما كان
تحت السرة ، فهو القُصْب ، ومنه قوله : رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار :
قال ابن هشام : حدثني بذلك أبو عبيدة . (3/ 172)
|
ثم
التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه ، فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته ؛
فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له .
|
----------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق