كتاب : البرهان في علوم
القرآن
المؤلف : بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
قال الشيخ الإمام العلامة وحيد الدهر وفريد العصر جامع
شتات الفضائل وناصر الحق بالبرهان من الدلائل أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد
الله الزركشي الشافعي بلغه الله منه ما يرجوه:
الحمد لله الذي نور بكتابه القلوب وأنزل في أوجز لفظه
وأعجز أسلوبه فأعيت بلاغته البلغاء وأعجزت حكمته الحكماء وأبكمت فصاحته الخطباء.
أحمده أن جعل فاتحة أسراره وخاتمة تصاريفه وأقداره وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله المصطفى ونبيه المرتضى
الظافر من المحامد بالخصل الظاهر بفضله على ذوي الفضل معلم الحكمة وهادي الأمة
أرسله بالنور الساطع والضياء اللامع صلى الله عليه وعلى آله الأبرار وصحبه الأخيار
أما بعد:
فإن أول ما أعملت فيه القرائح وعلقت به الأفكار اللواقح
فحص عن أسرار التنزيل والكشف عن حقائق التأويل الذي تقوم به المعالم وتثبت الدعائم
فهو العصمة الواقية والنعمة الباقية والحجة البالغة والدلالة الدامغة وهو شفاء
الصدور والحكم العدل عند مشتبهات الأمور وهو الكلام الجزل والفصل الذي ليس بحزن
سراج لا يخبو ضياؤه وشهاب لا يخمد نوره وثناؤه وبحر لا يدرك غوره
بهرت
بلاغته العقول وظهرت فصاحته على كل مقول وتظافر إيجازه وإعجازه وتظاهرت حقيقته
ومجازه وتقارن في الحسن مطالعه ومقاطعه وحوت كل البيان جوامعه وبدائعه قد أحكم
الحكيم صيغته ومعناه وقسم لفظه ومعناه إلى ما ينشط السامع ويقرط المسامع من تجنيس
أنيس وتطبيق لبيق وتشبيه نبيه وتقسيم وسيم وتفصيل أصيل وتبليغ بليغ وتصدير بالحسن
جدير وترديد ماله مزيد إلى غير ذلك مما أجرى الصياغة البديعة، والصناعة الرفيعة،
فالآذان بأقراطه حالية، والأذهان من أسماطه غير خالية فهو من تناسب ألفاظه وتناسق
أغراضه قلادة ذات اتساق، ومن تبسم زهره وتنسم نشره، حديقة مبهجة للنفوس والأسماع
والأحداق، كل كلمة منه لها من نفسها طرب، ومن ذاتها عجب، ومن طلعتها غرة، ومن
بهجتها درة، لاحت عليه بهجة القدرة، ونزل ممن له الأمر، فله على كل كلام سلطان
وإمرة، بهر تمكن فواصله، وحسن ارتباط أواخره وأوائله وبديع إشاراته وعجيب انتقالاته
من قصص باهرة إلى مواعظ زاجرة وأمثال سائرة وحكم زاهرة وأدلة على التوحيد ظاهرة
وأمثال بالتنزيه والتحميد سائرة ومواقع تعجب واعتبار ومواطن تنزيل واستغفار إن كان
سياق الكلام ترجية بسط وإن كان تخويفاً قبض وإن كان وعداً أبهج وإن كان وعيداً
أزعج وإن كان دعوة حدب وإن كان زجرة أرعب وإن كان موعظة أقلق وإن كان ترغيباً شوق.
هذا وكم فيه من مزايا ... وفي زواياه من خبايا
ويطمع الحبر في التقاضي ... فيكشف الخبر عن قضايا
فسبحان من سلكه ينابيع في القلوب وصرفه بأبدع معنى وأغرب
أسلوب،
لا يستقصي
معانيه فهم الخلق ولا يحيط بوصفه على الإطلاق ذو اللسان الطلق فالسعيد من صرف همته
إليه ووقف فكره وعزمه عليه والموفق من وفقه الله لتدبره واصطفاه للتذكير به وتذكره
فهو يرتع منه في رياض ويكرع منه في حياض
أندى على الأكباد من قطر الندى ... وألذ في الأجفان من
سنة الكرى
يملأ القلوب بشراً ويبعث القرائح عبيراً ونشراً يحيي
القلوب بأوراده ولهذا سماه الله روحاً فقال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ
عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}] غافر: من الآية15[ فسماه روحاً لأنه يؤدي إلى
حياة الأبد ولولا الروح لمات الجسد فجعل هذا الروح سببا للاقتدار وعلماً للاعتبار
يزيد على طول التأمل بهجة ... كأن العيون الناظرات صياقل
وإنما يفهم بعض معانيه ويطلع على أسراره ومبانيه من قوي
نظره واتسع مجاله في الفكر وتدبره وامتد باعه ووقت طباعه وامتد في فنون الأدب
وأحتط بلغة العرب.
قال الحرالي في جزء سماه مفتاح الباب المقفل لفهم الكتاب
المنزل: لله تعالى مواهب جعلها أصولا للمكاسب فمن وهبه عقلا يسر عليه السبيل ومن
ركب فيه خرقاً نقص ضبطه من التحصيل ومن أيده بتقوي الاستناد إليه في جميع
أموره
علمه وفهمه قال: وأكمل العلماء من وهبه الله تعالى فهماً في كلامه ووعياً عن كتابه
وتبصرة في الفرقان وإحاطة بما شاء من علوم القرآن ففيه تمام شهود ماكتب الله
لمخلوقاته من ذكره الحكيم بما يزيل بكريم عنايته من خطأ اللاعبين إذ فيه كل العلوم
وقال الشافعي رضي الله عنه: جميع ما تقوله الأمة شرح
للسنة وجميع السنة شرح للقرآن وجميع القرآن شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العليا
زاد غيره: وجميع الأسماء الحسنى شرح لاسمه الأعظم وكما أنه أفضل من كل كلام سواه
فعلومه أفضل من كل علم عداه قال تعالى:
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} وقال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ
يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}.
قال مجاهد: الفهم والإصابة في القرآن. وقال. وقال مقاتل:
يعني علم القرآن. وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ
الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}. قال: أحرمهم فهم
القرآن
وقال سفيان الثوري: لا يجتمع فهم القرآن والاشتغال
بالحطام في قلب مؤمن أبدا.
وقال عبد
العزيز بن يحيى الكناني: مثل علم القرآن مثل الأسد لا يمكن من غيله سواه.
قال ذو النورين المصري: أبى الله عز وجل إلا أن يحرم
قلوب البطالين مكنون حكمة القرآن.
وقال عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ
شَيْءٍ} . وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}.
وقال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . قال: القرآن، يقول: أرشدنا إلى علمه.
وقال الحسن البصري: علم القرآن ذكر لا يعلمه إلا الذكور
من الرجال.
وقال الله جل ذكره {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}.
وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ
فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} يقول: إلى كتاب الله.
وكل علم
من العلوم منتزع من القرآن وإلا فليس له برهان.
قال ابن مسعود: من أراد العلم فليثور القرآن فإن فيه علم
الأولين والآخرين رواه البيهقي في المدخل وقال: أراد به أصول العلم.
وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم علماء كل منهم مخصوص
بنوع من العلم كعلي رضي الله عنه بالقضاء وزيد بالفرائض ومعاذ بالحلال والحرام
وأبي بالقراءة فلم يسم أحد منهم بحراً إلا عبد الله بن عباس لاختصاصه دونهم
بالتفسير وعلم التأويل وقال فيه علي بن أبي طالب: كأنما ينظر إلى الغيب من ستر
رقيق. وقال فيه عبد الله بن مسعود: نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس وقد مات
ابن مسعود في سنة ثنتين وثلاثين وعمر بعده ابن عباس ستاً وثلاثين سنة فما ظنك بما
كسبه من العلوم بعد ابن مسعود نعم كان لعلي فيه اليد السابقة قبل ابن عباس وهو
القائل: لو أردت أن أملي وقر بعير على الفاتحة لفعلت.
وقال ابن عطية: فأما صدر المفسرين والمؤيد فيهم فعلي بن
أبي طالب ويتلوه ابن عباس رضي الله عنهما وهو تجرد للأمر وكمله وتتبعه العلماء
عليه كمجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما وكان جلة من السلف كسعيد بن المسيب والشعبي
وغيرهما يعظمون تفسير القرآن ويتوقفون عنه تورعاً واحتياطاً لأنفسهم مع إدراكهم
وتقدمهم.
ثم جاء
بعدهم طبقة فطبقة فجدوا واجتهدوا وكل ينفق مما رزق الله ولهذا كان سهل بن عبد الله
يقول: لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في
آية من كتابه لأنه كلام الله وكلامه صفته وكما أنه ليس لله نهاية فكذلك لا نهاية
لفهم كلامه وإنما يفهم كل بمقدار ما يفتح الله عليه وكلام الله غير مخلوق ولا تبلغ
إلى نهاية فهمه فهوم محدثة مخلوقة.
ولما كانت علوم القرآن لا تنحصر ومعانيه لا تستقصى وجبت
العناية بالقدر الممكن ومما فات المتقدمين وضع كتاب يشتمل على أنواع علومه وكما
وضع الناس ذلك بالنسبة إلى علم الحديث فاستخرت الله تعالى ـ وله الحمد ـ في وضع
كتاب في ذلك جامع لما تكلم الناس في فنونه وخاضوا في نكته وعيونه وضمنته من
المعاني الأنيقة والحكم الرشيقة ما يهز القلوب طرباً ويبهر العقول عجباً ليكون
مفتاحاً لأبوابه وعنواناً على كتابه معيناً للمفسر على حقائقه ومطلعاً على بعض أسراره
ودقائقه والله المخلص والمعين وعليه أتوكل وبه أستعين وسميته البرهان في علوم
القرآن.
هذه فهرست أنواعه:
الأول: معرفة سبب النزول
الثاني: معرفة المناسبات بين الآيات
الثالث: معرفة الفواصل
الرابع: معرفة الوجوه والنظائر
الخامس: علم المتشابه
السادس:
علم المبهمات
السابع: في أسرار الفواتح
الثامن: في خواتم السور
التاسع: في معرفة المكي والمدني
العاشر: معرفة أول ما نزل
الحادي عشر: معرفة على كم لغة نزل
الثاني عشر: في كيفية إنزاله
الثالث عشر: في بيان جمعه ومن حفظه من الصحابة
الرابع عشر: معرفة تقسيمه
الخامس عشر: معرفة أسمائه
السادس عشر: معرفة ما وقع فيه من غير لغة الحجاز
السابع عشر: معرفة ما فيه من لغة العرب
الثامن عشر: معرفة غريبه
التاسع عشر: معرفة التصريف
العشرون: معرفة الأحكام
الحادي والعشرون: معرفة كون اللفظ أو التركيب أحسن وأفصح
الثاني والعشرون: معرفة اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقصان
الثالث والعشرون: معرفة توجيه القراءات
الرابع والعشرون: معرفة الوقف والابتداء
الخامس والعشرون: علم مرسوم الخط
السادس والعشرون: معرفة فضائله
السابع
والعشرون: معرفة خواصه
الثامن والعشرون: هل في القرآن شيء أفضل من شيء
التاسع والعشرون: في آداب تلاوته
الثلاثون: في أنه هل يجوز في التصانيف والرسائل والخطب
استعمال بعض آيات القرآن
الحادي والثلاثون: معرفة الأمثال الكائنة فيه
الثاني والثلاثون: معرفة أحكامه
الثالث والثلاثون: في معرفة جدله
الرابع والثلاثون: معرفة ناسخه ومنسوخه
الخامس والثلاثون: معرفة توهم المختلف
السادس والثلاثون: في معرفة المحكم من المتشابه
السابع والثلاثون: في حكم الآيات المتشابهات الواردة في
الصفات
الثامن والثلاثون: معرفة إعجازه
التاسع والثلاثون: معرفة وجوب تواتره
الأربعون: في بيان معاضدة السنة للكتاب
الحادي والأربعون: معرفة تفسيره
الثاني والأربعون: معرفة وجوب المخاطبات
الثالث والأربعون: بيان حقيقته ومجازه
الرابع والأربعون: في الكناية والتعريض
الخامس والأربعون: في أقسام معنى الكلام
السادس
والأربعون: في ذكر ما يتيسر من أساليب القرآن
السابع والأربعون: في معرفة الأدوات
واعلم أنه ما من نوع من هذه الأنواع إلا ولو أراد
الإنسان استقصاءه لاستفرغ عمره ثم لم يحكم أمره ولكن اقتصرنا من كل نوع على أصوله
والرمز إلى بعض فصوله فإن الصناعة طويلة والعمر قصير ماذا عسى أن يبلغ لسان لتقصير
قالوا خذ العين من كل فقلت لهم في العين فضل ولكن ناظر
العين
فصل: في علم
التفسير
التفسير علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه واستمداد
ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات ويحتاج
لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ
وقد أكثر الناس فيه من الموضوعات ما بين مختصر ومبسوط
وكلهم يقتصر على الفن الذي يغلب عليه فالزجاج والواحدي في البسيط يغلب عليهما
الغريب والثعلبي يغلب عليه القصص والزمخشري علم البيان والإمام فخر الدين علم
الكلام وما في معناه من العلوم العقلية
واعلم أن
من المعلوم أن الله تعالى إنما خاطب خلقه بما يفهمونه ولذلك أرسل كل رسول بلسان
قومه وأنزل كتابه على لغتهم وإنما احتيج إلى التفسير لما سنذكر بعد تقرير قاعدة
وهى أن كل من وضع من البشر كتابا فإنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح وإنما احتيج
إلى الشروح لأمور ثلاثة:
أحدها: كمال فضيلة المصنف فإنه لقوته العلمية يجمع
المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز فربما عسر فهم مراده فقصد بالشرح ظهور تلك
المعاني الخفية ومن هنا كان شرح بعض الأئمة تصنيفه أدل على المراد من شرح غيره له.
وثانيها: قد يكون حذف بعض مقدمات الأقيسة أو أغفل فيها
شروطا اعتمادا على وضوحها أو لأنها من علم آخر فيحتاج الشارح لبيان المحذوف
ومراتبه
وثالثها: احتمال اللفظ لمعان ثلاثة كما في المجاز
والاشتراك ودلالة الالتزام فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه وقد يقع في
التصانيف ما لا يخلو منه بشر من السهو والغلط وتكرار الشيء وحذف المهم وغير ذلك
فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك
وإذا علم هذا فنقول إن القرآن إنما أنزل بلسان عربي مبين
في زمن أفصح العرب وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه أما دقائق باطنه فإنما كان يظهر
لهم بعد البحث والنظر من سؤالهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
الأكثر كسؤالهم لما نزل {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} فقالوا: أينا
لم يظلم نفسه ففسره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشرك واستدل
عليه
بقوله تعالى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وكسؤال عائشة رضي الله عنها عن
الحساب اليسير فقال: "ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب" وكقصة عدي ابن
حاتم في الخيط الذي وضعه تحت رأسه وغير ذلك مما سألوا عن آحاد منه
ولم ينقل إلينا عنهم تفسير القرآن وتأويله بجملته فنحن
نحتاج إلى ما كانوا يحتاجون إليه وزيادة على ما لم يكونوا محتاجين إليه من أحكام
الظواهر لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم فنحن أشد الناس احتياجا إلى
التفسير.
ومعلوم أن تفسيره يكون بعضه من قبيل بسط الألفاظ الوجيزة
وكشف معانيها وبعضه من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض لبلاغته ولطف معانيه
ولهذا لا يستغني عن قانون عام يعول في تفسيره عليه ويرجع في تفسيره إليه من معرفة
مفردات ألفاظه ومركباتها وسياقه وظاهره وباطنه وغير ذلك مما لا يدخل تحت الوهم
ويدق عنه الفهم
بين أقداحهم حديث قصير هو سحر وما سواه كلام
وفى هذا تتفاوت الأذهان وتتسابق في النظر إليه مسابقة
الرهان فمن سابق بفهمه وراشق كبد الرمية بسهمه وآخر رمى فأشوى وخبط في النظر خبط
عشوا كما قيل وأين الدقيق من الركيك وأين الزلال من الزعاق
وقال
القاضي شمس الدين الخويي رحمه الله علم التفسير عسير يسير أما عسره فظاهر من وجوه
أظهرها أنه كلام متكلم لم يصل الناس إلى مراده بالسماع منه ولا إمكان للوصول إليه
بخلاف الأمثال والأشعار فإن الإنسان يمكن علمه بمراد المتكلم بأن يسمع منه أو يسمع
ممن سمع منه أما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلا بأن يسمع من الرسول
عليه السلام وذلك متعذر إلا في آيات قلائل فالعلم بالمراد يستنبط بأمارات ودلائل
والحكمة فيه أن الله تعالى أراد أن يتفكر عباده في كتابه فلم يأمر نبيه بالتنصيص
على المراد وإنما هو عليه السلام صوب رأي جماعة من المفسرين فصار ذلك دليلا قاطعا
على جواز التفسير من غير سماع من الله ورسوله
قال واعلم أن بعض الناس يفتخر ويقول كتبت هذا وما طالعت
شيئا من الكتب ويظن أنه فخر ولا يعلم أن ذلك غاية النقص فإنه لا يعلم مزية ما قاله
على ما قيل ولا مزية ما قيل على ما قاله فبماذا يفتخر ومع هذا ما كتبت شيئا إلا
خائفا من الله مستعينا به معتمدا عليه فما كان حسنا فمن الله وفضله بوسيلة مطالعة
كلام عباد الله الصالحين وما كان ضعيفا فمن النفس الأمارة بالسوء
فصل: في علوم القرآن
ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب قانون التأويل إن
علوم القرآن
خمسون
علما وأربعمائة وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة
قال بعض السلف إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومقطع وهذا مطلق دون اعتبار تراكيبه وما
بينها من روابط وهذا ما لا يحصى ولا يعلمه إلا الله عز وجل
قال وأم علوم القرآن ثلاثة أقسام توحيد وتذكير وأحكام
فالتوحيد تدخل فيه معرفة المخلوقات ومعرفة الخالق بأسمائه وصفاته وأفعاله والتذكير
ومنه الوعد والوعيد والجنة والنار وتصفية الظاهر والباطن والأحكام ومنها التكاليف
كلها وتبيين المنافع والمضار والأمر والنهي والندب
فالأول {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فيه التوحيد كله
في الذات والصفات والأفعال
والثاني {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ}
والثالث {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} ولذلك قيل في معنى قوله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث
القرآن". يعني في الأجر وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقيل ثلثه في المعنى لأن القرآن ثلاثة أقسام كما ذكرنا
وهذه السورة اشتملت على التوحيد
ولهذا المعنى صارت فاتحة الكتاب أم الكتاب لأن فيها
الأقسام الثلاثةفأما التوحيد فمن أولها إلى قوله {يَوْمِ الدِّينِ} وأما الأحكام
فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وأما التذكير فمن قوله {اهْدِنَا}
إلى آخرها فصارت بهذا أما لأنه يتفرع عنها كل نبت
وقيل صارت
أما لأنها مقدمة على القرآن بالقبلية والأم قبل البنت وقيل سميت فاتحة لأنها تفتح
أبواب الجنة على وجوه مذكورة في مواضعها وقال أبو الحكم بن برجان في كتاب الإرشاد
وجملة القرآن تشتمل على ثلاثة علوم علم أسماء الله تعالى وصفاته ثم علم النبوة
وبراهينها ثم علم التكليف والمحنة قال وهو أعسر لإغرابه وقلة انصراف الهمم إلى
تطلبه من مكانه
وقال غيره القرآن يشتمل على أربعة أنواع من العلوم أمر
ونهي وخبر واستخبار وقيل ستة وزاد الوعد والوعيد
وقال محمد بن جرير الطبري يشتمل على ثلاثة أشياء التوحيد
والأخبار والديانات ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "{قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن
: .
وهذه السورة تشمل التوحيد كله.
وقال علي بن عيسى القرآن يشتمل على ثلاثين شيئا الإعلام
والتنبيه والأمر والنهي والوعد والوعيد ووصف الجنة والنار وتعليم الإقرار باسم
الله وصفاته وأفعاله وتعليم الاعتراف بإنعامه والاحتجاج على المخالفين والرد على
الملحدين والبيان عن الرغبة والرهبة الخير والشر والحسن والقبيح ونعت الحكمة وفضل
المعرفة
ومدح
الأبرار وذم الفجار والتسليم والتحسين والتوكيد والتفريع والبيان عن ذم الإخلاف
وشرف الأداء
قال القاضي أبو المعالي عزيزي وعلى التحقيق أن تلك
الثلاثة التي قالها محمد بن جرير تشمل هذه كلها بل أضعافها فإن القرآن لا يستدرك
ولا تحصى غرائبه وعجائبه قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا
يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} وقال غيره علوم ألفاظ القرآن أربعة
الإعراب وهو في الخبر والنظم وهو القصد نحو {اللاَّئِي
لَمْ يَحِضْنَ} معنى باطن نظم بمعنى ظاهر وقوله {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ
يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ} كأنه قيل
قالوا ومن يبدأ الخلق ثم يعيده فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن
يقول: "{اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ} لفظ ظاهر نظم بمعنى باطن
والتصريف في الكلمة كأقسط عدل وقسط جار وبعد ضد قرب وبعد
هلك
والاعتبار وهو معيار الأنحاء الثلاثة وبه يكون الاستنباط
والاستدلال وهو كثير منه ما يعرف بفحوى الكلام ومعنى اعتبرت الشيء طلبت بيانه عبرت
الرؤيا بينتها قال الله تعالى {فَاعْتَبِرُوا} بعد {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ
مِنْ دِيَارِهِمْ} دل على أن انتقامه بالخروج من الدار من أعظم الوجوهو {لأَوَّلِ
الْحَشْرِ} دل على أن لها توابع لأن أول لا يكون إلا مع آخر وكان هذا في بني
النضير ثم أهل نجران {مَا
ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} إلا بنبأ وأنهم يستقلون عدد من كان مع النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ}
فيه دليل على أن الإخراج مثل العذاب في الشدة إذ جعل بدله
وقد يتعدد الاعتبار نحو أتاني غير زيد أي أتياه أو أتاه
غير زيد لا هو لو شئت أنت لم أفعل أمرتني أو نهيتني قال الله تعالى {لَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا عَبَدْنَا} رد عليهم بأن الله لا يأمر بالفحشاء بدليل قوله {وَاللَّهُ
أَمَرَنَا بِهَا} {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} فالاعتبار إباحة
ومن الاعتبار ما يظهر بآي أخر كقوله: {فَإِذَا جَاءَ
أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} فهذه تعتبر بآخر الواقعة
من أن الناس على ثلاثة منازل أي أحل كل فريق في منزلة له والله بصير بمنازلهم
ومنه ما
يظهر بالخبر كقوله تعالى {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ
نَزَّلَهُ} بمعنى الحديث: "إن اليهود قالوا لو جاء به ميكائيل لاتبعناك لأنه
يأتي بالخير وجبريل لم يأت بالخير قط" وأي خير أجل من القرآن !
ومن ضروب النظم قوله تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ} إن حمل على أن يعتبر أن العزة له لم ينتظم به ما بعده وإن
حمل على معنى أن يعلم لمن العزة انتظم
النوع
الأول :معرفة أسباب النزول
وقد اعتنى بذلك المفسرون في كتبهم وأفردوا فيه تصانيف
منهم علي بن المديني شيخ البخاري ومن أشهرها تصنيف الواحدي في ذلك وأخطأ من زعم
أنه لا طائل تحته لجريانه مجرى التاريخ وليس كذلك بل له فوائد منها وجه الحكمة
الباعثة على تشريع الحكم
ومنها تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب
ومنها الوقوف على المعنى قال الشيخ أبو الفتح القشيري
بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز وهو أمر تحصل للصحابة بقرائن
تحتف بالقضايا
ومنها أنه قد يكون اللفظ عاما ويقوم الدليل على التخصيص
فإن محل السبب لا يجوز
إخراجه
بالاجتهاد والإجماع كما حكاه القاضي أبو بكر في مختصر التقريب لأن دخول السبب قطعي
ونقل بعضهم الاتفاق على أن لتقدم السبب على ورود العموم أثرا ولا التفات إلى ما
نقل عن بعضهم من تجويز إخراج محل السبب بالتخصيص لأمرين
أحدهما أنه يلزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا
يجوز
والثاني أن فيه عدولا عن محل السؤال وذلك لا يجوز في حق
الشارع لئلا يلتبس على السائل واتفقوا على أنه تعتبر النصوصية في السبب من جهة
استحالة تأخير البيان عن وقت الحاجة وتؤثر أيضا فيما وراء محل السبب وهو إبطال
الدلالة على قول والضعف على قول
ومن الفوائد أيضا دفع توهم الحصر قال الشافعي ما معناه
في معنى قوله تعالى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية إن
الكفار لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله وكانوا على المضادة والمحادة
جاءت الآية مناقضة لغرضهم فكأنه قال لا حلال إلا ما حرمتموه ولا حرام إلا ما
أحللتموه نازلا منزلة من يقول لا تأكل اليوم حلاوة فتقول لا آكل اليوم إلا الحلاوة
والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة فكأنه قال لا حرام إلا ما حللتموه
من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ولم يقصد حل ما وراءه إذا
القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل
قال إمام الحرمين: "وهذا في غاية الحسن ولولا سبق
الشافعي إلى ذلك لما كنا
نستجيز
مخالفة مالك في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية وهذا قد يكون من الشافعي أجراه مجرى
التأويل "ومن قال بمراعاة اللفظ دون سببه لا يمنع من التأويل
وقد جاءت آيات في مواضع اتفقوا على تعديتها إلى غير
أسبابها كنزول آية الظهار في سلمة بن صخر وآية اللعان في شأن هلال بن أمية ونزول
حد القذف في رماة عائشة رضي الله عنها ثم تعدى إلى غيرهم وإن كان قد قال سبحانه
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} فجمعها مع غيرها إما تعظيما لها إذ أنها
أم المؤمنين
ومن رمى
أم قوم فقد رماهم وإما للإشارة إلى التعميم ولكن الرماة لها كانوا معلومين فتعدى
الحكم إلى من سواهم فمن يقول بمراعاة حكم اللفظ كان الاتفاق هاهنا هو مقتضى الأصل
ومن قال بالقصر على الأصل خرج عن الأصل في هذه الآية بدليل ونظير هذا تخصيص
الاستعاذة بالإناث في قوله تعالى {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي
الْعُقَدِ} لخروجه على السبب وهو أن بنات لبيد سحرن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كذا قال أبو عبيد وفيه نظر فإن الذي سحر النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو لبيد ابن الأعصم كما جاء في الصحيح
وقد تنزل الآيات على الأسباب خاصة وتوضع كل واحدة منها
مع ما يناسبها من الآي رعاية لنظم القرآن وحسن السياق فذلك الذي وضعت معه الآية
نازلة على سبب خاص للمناسبة إذ كان مسوقا لما نزل في معنى يدخل تحت ذلك اللفظ
العام أو كان من جملة الأفراد الداخلة وضعا تحت اللفظ العام فدلالة اللفظ عليه هل
هي كالسبب فلا يخرج ويكون مرادا من الآيات قطعا؟أولا ينتهي في القوة إلى ذلك؟لأنه
قد يراد غيره وتكون المناسبة مشبهة به؟فيه احتمال
واختار
بعضهم أنه رتبة متوسطة دون السبب وفوق العموم المجرد ومثاله قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فإن مناسبتها للآية التي قبلها وهى
قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ
يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ
أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} أن ذلك إشارة إلى كعب بن الأشرف كان قدم
إلى مكة وشاهد قتلى بدر وحرض الكفار على الأخذ بثأرهم وغزو النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوه من أهدى سبيلا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أو هم فقال أنتم كذبا منه وضلالة لعنه الله فتلك الآية في حقه وحق من شاركه في تلك
المقالة وهم أهل كتاب يجدون عندهم في كتابهم بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وصفته وقد أخذت عليهم المواثيق ألا يكتموا ذلك وأن ينصروه وكان ذلك
أمانة لازمة لهم فلم يؤدوها وخانوا فيها وذلك مناسب لقوله {نَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} قال ابن العربي في
تفسيره وجه النظم أنه أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وقولهم إن المشركين أهدى سبيلا فكان ذلك خيانة منهم فانجر الكلام إلى
ذكر جميع الأمانات انتهى
ولا يرد على هذا أن قصة كعب بن الأشرف كانت عقب بدر
ونزول {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} في الفتح أو قريبا منها وبينهما ست سنين لأن
الزمان إنما يشترط في سبب النزول ولا يشترط في المناسبة لأن المقصود منها وضع آية
في موضع يناسبها والآيات كانت تنزل على أسبابها ويأمر النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوضعها في المواضع التي علم من الله تعالى أنها مواضعها
ومن فوائد
هذا العلم إزالة الإشكال ففي الصحيح عن مروان بن الحكم أنه بعث إلى ابن عباس يسأله
لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون فقال
ابن عباس هذه الآية نزلت في أهل الكتاب ثم تلا {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} إلى
قوله {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ
يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}
قال ابن عباس سألهم النبي صلى الله وسلم عن شيء فكتموه
وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه فاستحمدوا بذلك إليه
وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه انتهى
قال بعضهم وما أجاب به ابن عباس عن سؤال مروان لا يكفي
لأن اللفظ أعم من السبب ويشهد له قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي
زور"
وإنما الجواب أن الوعيد مرتب على أثر الأمرين المذكورين وهما الفرح وحب الحمد لا
عليهما أنفسهما إذ هما من الأمور الطبيعية التي لا يتعلق بها التكليف أمرا ولا
نهيا
قلت: لا يخفى عن ابن عباس رضي الله عنه أن اللفظ أعم من
السبب لكنه بين أن المراد باللفظ خاص ونظيره تفسير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الظلم بالشرك فيما سبق.
ومن ذلك قوله تعالى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية فحكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن
معد يكرب أنهما كانا يقولان الخمر مباحة ويحتجان بهذه الآية وخفي عليهما سبب
نزولها فإنه يمنع من ذلك وهو ما قاله الحسن وغيره لما نزل تحريم الخمر قالوا كيف
بإخواننا الذين ماتوا وهي في بطونهم وقد أخبر الله أنها رجس فأنزل الله تعالى
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا
طَعِمُوا}
ومن ذلك قوله تعالى {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ
الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} الآية قد أشكل معنى هذا الشرط على
بعض الأئمة وقد بينه سبب النزول روي
أن ناسا
قالوا: يا رسول الله قد عرفنا عدة ذوات الأقراء فما عدة اللائي لم يحضن من الصغار
والكبار؟ فنزلت فهذا يبين معنى {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي إن أشكل عليكم
حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا حكمهن
ومن ذلك قوله تعالى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فإنا لو تركنا مدلول
اللفظ لاقتضى أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة سفرا ولا حضرا وهو خلاف
الإجماع فلا يفهم مراد الآية حتى يعلم سببها وذلك أنها نزلت لما صلى النبي صلى
عليه وسلم على راحلته وهو مستقبل من مكة إلى المدينة حيث توجهت به فعلم أن هذا هو
المراد
ومن ذلك قوله تعالى {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً} فإن سبب نزولها أن قوما أرادوا الخروج للجهاد فمنعهم
أزواجهم وأولادهم فأنزل الله تعالى هذه الآية ثم أنزل في بقيتها ما يدل على الرحمة
وترك المؤاخذة فقال {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ}
فصل: فيما نزل مكررا
وقد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه وتذكيرا به عند حدوث
سببه خوف نسيانه وهذا كما قيل في الفاتحة نزلت مرتين مرة بمكة وأخرى بالمدينة وكما
ثبت في
الصحيحين
عن أبى عثمان النهدي عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره فأنزل الله تعالى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ
النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ} فقال الرجل إلي هذا؟فقال بل لجميع أمتي فهذا كان في المدينة والرجل
قد ذكر الترمذي أو غيره أنه أبو اليسر
وسورة هود مكية بالاتفاق ولهذا أشكل على بعضهم هذا
الحديث مع ما ذكرنا ولا إشكال لأنها نزلت مرة بعد مرة
ومثله ما في الصحيحين عن ابن مسعود في قوله تعالى
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} أنها نزلت لما سأله اليهود عن الروح وهو في
المدينة ومعلوم أن هذه في سورة {سُبْحَانَ} وهي مكية بالاتفاق فإن المشركين لما
سألوه عن ذي القرنين وعن أهل الكهف قيل ذلك بمكة وأن اليهود أمروهم أن يسألوه عن
ذلك فأنزل الله الجواب كما قد بسط في موضعه
وكذلك ما ورد في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أنها جواب
للمشركين بمكة وأنها جواب لأهل الكتاب بالمدينة
وكذلك ما
ورد في الصحيحين من حديث المسيب لما حضرت أبا طالب الوفاة وتلكأ عن الشهادة فقال:
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والله لأستغفرن لك ما لم
أنه" فأنزل الله {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} وأنزل الله في أبى
طالب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وهذه الآية نزلت في آخر الأمر بالاتفاق
وموت أبي طالب كان بمكة فيمكن أنها نزلت مرة بعد أخرى وجعلت أخيرا في براءة
والحكمة في هذا كله أنه قد يحدث سبب من سؤال أو حادثة
تقتضى نزول آية وقد نزل قبل ذلك ما يتضمنها فتؤدى تلك الآية بعينها إلى النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تذكيرا لهم بها وبأنها تتضمن هذه والعالم قد
يحدث له حوادث فيتذكر أحاديث وآيات تتضمن الحكم في تلك الواقعة وإن لم تكن خطرت له
تلك الحادثة قبل مع حفظه لذلك النص
ومما يذكره المفسرون من أسباب متعددة لنزول الآية قد
يكون من هذا الباب لاسيما وقد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال
نزلت هذه الآية
في كذا
فإنه يريد بذلك أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها
وجماعة من المحدثين يجعلون هذا من المرفوع المسند كما في قول ابن عمر في قوله
تعالى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}. وأما الإمام أحمد فلم يدخله في المسند وكذلك
مسلم وغيره وجعلوا هذا مما يقال بالاستدلال وبالتأويل فهو من جنس الاستدلال على
الحكم بالآية لا من جنس النقل لما وقع
فصل:خصوص السبب وعموم الصيغة
وقد يكون السبب خاصا والصيغة عامة لينبه على أن العبرة
بعموم اللفظ وقال الزمخشري في نفس سورة الهمزة يجوز أن يكون السبب خاصا والوعيد
عاما ليتناول كل من باشر ذلك القبيح وليكون جاريا مجرى التعريض بالوارد فيه فإن
ذلك أزجر له وأنكى فيه
تقدم نزول الآية على الحكم
واعلم أنه قد يكون النزول سابقا على الحكم وهذا كقوله
تعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} فإنه يستدل بها على زكاة الفطر روى البيهقي
بسنده إلى ابن عمر
أنها نزلت
في زكاة رمضان ثم أسند مرفوعا نحوه وقال بعضهم لا أدري ما وجه هذا التأويل لأن هذه
السورة مكية ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة
وأجاب البغوي في تفسيره انه يجوز أن يكون النزول سابقا
على الحكم كما قال {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا
الْبَلَدِ} فالسورة مكية وظهور أثر الحل يوم فتح مكة حتى: قال عليه السلام:
"أحلت لي ساعة من نهار" وكذلك نزل بمكة {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} قال عمر بن الخطاب: كنت لا أدري: أي الجمع يهزم فلما كان
يوم بدر رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " {سَيُهْزَمُ
الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}
فائدة
روى البخاري في كتاب الأدب المفرد في بر الوالدين عن سعد
بن أبي وقاص رضي الله عنه قال نزلت في أربع آيات من كتاب الله عز وجل كانت أمي
حلفت ألا تأكل ولا تشرب حتى أفارق محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل
الله تعالى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} والثانية أني
كنت أخذت سيفا فأعجبني فقلت يا رسول الله هب لي هذا
فنزلت
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} والثالثة أني كنت مرضت فأتاني رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت يا رسول الله إني أريد أن أقسم مالي أفأوصي
بالنصف فقال لا فقلت الثلث فسكت فكان الثلث بعد جائزا والرابعة أني شربت الخمر مع
قوم من الأنصار فضرب رجل منهم أنفي بلحى جمل فأتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله عز وجل تحريم الخمر
واعلم أنه جرت عادة المفسرين أن يبدءوا بذكر سبب النزول
ووقع البحث أيما أولى البداءة به بتقدم السبب على المسبب أو بالمناسبة لأنها
المصححة لنظم الكلام وهي سابقة على النزول؟
والتحقيق التفصيل بين أن يكون وجه المناسبة متوقفا على
سبب النزول كالآية السابقة في {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا
الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فهذا ينبغي فيه تقديم ذكر السبب لأنه حينئذ من باب
تقديم الوسائل على المقاصد وإن لم يتوقف على ذلك فالأولى تقديم وجه المناسبة
النوع الثاني: معرفة المناسبات بين الآيات
وقد أفرده
بالتصنيف الأستاذ أبو جعفر بن الزبير شيخ الشيخ أبي حيان وتفسير الإمام فخر الدين
فيه شيء كثير من ذلك
واعلم أن المناسبة علم شريف تحزر به العقول ويعرف به قدر
القائل فيما يقول والمناسبة في اللغة المقاربة وفلان يناسب فلانا أي يقرب منه
ويشاكله ومنه النسيب الذي هو القريب المتصل كالأخوين وابن العم ونحوه وإن كانا
متناسبين بمعنى رابط بينهما وهو القرابة ومنه المناسبة في العلة في باب القياس
الوصف المقارب للحكم لأنه إذا حصلت مقاربته له ظن عند وجود ذلك الوصف وجود الحكم
ولهذا قيل المناسبة أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول وكذلك المناسبة في
فواتح الآي وخواتمها ومرجعها
والله أعلم إلى معنى ما رابط بينهما عام أو خاص عقلي أو
حسي أو خيالي وغير ذلك من أنواع العلاقات أو التلازم الذهي كالسبب والمسبب والعلة
والمعلول والنظيرين والضدين ونحوه أو التلازم الخارجي كالمرتب على ترتيب الوجود
الواقع في باب الخبر
وفائدته
جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض فيقوى بذلك الارتباط ويصير التأليف حاله
حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء
وقد قل اعتناء المفسرين بهذا النوع لدقته وممن أكثر منه
الإمام فخر الدين الرازي وقال في تفسيره أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات
والروابط وقال بعض الأئمة من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض لئلا يكون منقطعا.
وهذا النوع يهمله بعض المفسرين أو كثير منهم وفوائده
غزيرة قال القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين ارتباط آي القرآن بعضها ببعض
حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم لم يتعرض له إلا
عالم واحد عمل فيه سورة البقرة ثم فتح الله عز وجل لنا فيه فلما لم نجد له حملة
ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه
وقال الشيخ أبو الحسن الشهراباني أول من أظهر ببغداد علم
المناسبة ولم نكن سمعناه من غيره هو الشيخ الإمام أبو بكر النيسابوري وكان غزير
العلم في الشريعة والأدب وكان يقول على الكرسي إذا قرئ عليه الآية لم جعلت هذه
الآية إلى جنب هذه؟وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟وكان يزري على
علماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة انتهى
وقال
الشيخ عز الدين بن عبد السلام المناسبة علم حسن ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام
أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه
ارتباط أحدهما بالآخر
قال: ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا برباط
ركيك يصان عنه حسن الحديث فضلا عن أحسنه فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في
أحكام مختلفة ولأسباب مختلفة وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض إذ لا يحسن أن
يرتبط تصرف الإله في خلقه وأحكامه بعضها ببعض مع اختلاف العلل والأسباب كتصرف
الملوك والحكام والمفتين وتصرف الإنسان نفسه بأمور متوافقة ومتخالفة ومتضادة وليس
لأحد أن يطلب ربط بعض تلك التصرفات مع بعض مع اختلافها في نفسها واختلاف أوقاتها
انتهى
قال بعض مشايخنا المحققين: قد وهم من قال: لا يطلب للآي
الكريمة مناسبة لأنها على حسب الوقائع المتفرقة وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع
تنزيلا وعلى حسب الحكمة ترتيبا فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما في الكتاب
المكنون مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف وحافظ القرآن العظيم لو استفتي في أحكام
متعددة أو ناظر فيها أو أملاها لذكر آية كل حكم على ما سئل وإذا رجع إلى التلاوة
لم يتل كما أفتى ولا كما نزل مفرقا بل كما أنزل جملة إلى بيت العزة ومن المعجز
البين أسلوبه ونظمه الباهر فإنه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ
مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}
قال: والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها
مكملة لما قبلها أو مستقلة ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ففي ذلك علم جم
وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له
قلت وهو
مبني على أن ترتيب السور توقيفي وهذا الراجح كما سيأتي وإذا اعتبرت افتتاح كل سوره
وجدته فى غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها ثم هو يخفى تارة ويظهر أخرى
كافتتاح سورة الأنعام بالحمد فإنه مناسب لختام سورة المائدة من فصل القضاء كما قال
سبحانه {وَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
وكافتتاح سورة فاطر بـ {الحمد} أيضا فإنه مناسب لختام ما
قبلها من قوله {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ
بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} وكما قال تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وكافتتاح سورة الحديد بالتسبيح فإنه مناسب
لختام سورة الواقعة من الأمر به وكافتتاح البقرة بقوله {آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا
رَيْبَ فِيهِ} إشارة إلى {الصِّرَاطَ} في قوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم
الهداية إليه هو الكتاب
وهذا معنى حسن يظهر فيه ارتباط سورة البقرة بالفاتحة وهو
يرد سؤال الزمخشري في ذلك
وتأمل ارتباط سورة {لإِيلافِ قُرَيْشٍ} بسورة الفيل حتى
قال الأخفش: اتصالها بها من باب قوله {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ
لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}
ومن لطائف
سورة الكوثر أنها كالمقابلة للتي قبلها لأن السابقة قد وصف الله فيها المنافق
بأمور أربعة البخل وترك الصلاة والرياء فيها ومنع الزكاة فذكر هنا في مقابلة البخل
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أي الكثير وفى مقابلة ترك الصلاة {فَصَلِّ} أي
دم عليها وفى مقابلة الرياء {لِرَبِّكَ} أي لرضاه لا للناس وفى مقابلة منع الماعون
{وَانْحَرْ}
وأراد به التصدق بلحم الأضاحي فاعتبر هذه المناسبة العجيبة
وكذلك مناسبة فاتحة سورة الإسراء بالتسبيح وسورة الكهف
بالتحميد لأن التسبيح حيث جاء مقدم على التحميد يقال سبحان الله والحمد الله
وذكر الشيخ كمال الدين الزملكاني في بعض دروسه مناسبة
استفتاحها بذلك ما ملخصه إن سورة بني إسرائيل افتتحت بحديث الإسراء وهو من الخوارق
الدالة على صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه رسول من عند
الله والمشركون كذبوا ذلك وقالوا كيف يسير في ليلة من مكة إلى بيت المقدس وعادوا
وتعنتوا وقالوا صف لنا بيت المقدس فرفع له حتى وصفه لهم والسبب في الإسراء أولا
لبيت المقدس ليكون ذلك دليلا على صحة قوله بصعود السموات فافتتحت بالتسبيح تصديقا
لنبيه فيما ادعاه لأن تكذيبهم له تكذيب عناد فنزه نفسه قبل الإخبار بهذا الذي
كذبوه
أما الكهف فإنه لما احتبس الوحي وأرجف الكفار بسبب ذلك
أنزلها الله ردا عليهم وأنه لم يقطع نعمه عن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بل أتم عليه بإنزال الكتاب فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة وإذا
ثبت هذا بالنسبة إلى السور فما ظنك بالآيات وتعلق بعضها ببعض بل عند التأمل يظهر
أن القرآن كله كالكلمة الواحدة
أنواع
ارتباط الآي بعضها ببعض
عدنا إلى ذكر ارتباط الآي بعضها ببعض فنقول ذكر الآية
بعد الأخرى إما أن يظهر الارتباط بينهما لتعلق الكلام بعضه ببعض وعدم تمامه
بالأولى فواضح وكذلك إذا كانت الثانية للأولى على جهة التأكيد والتفسير أو
الاعتراض والتشديد وهذا القسم لا كلام فيه
وإما ألا يظهر الارتباط بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن
الأخرى وأنها خلاف النوع المبدوء به فإما أن تكون معطوفة على ما قبلها بحرف من
حروف العطف المشترك في الحكم أولا:
القسم الأول: أن تكون معطوفة ولا بد أن تكون بينهما جهة
جامعة على ما سبق تقسيمه كقوله تعالى {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا
وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} وقوله {وَاللَّهُ يَقْبِضُ
وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وفائدة العطف جعلهما كالنظيرين والشريكين
وقد تكون العلاقة بينهما المضادة وهذا كمناسبة ذكر
الرحمة بعد ذكر العذاب والرغبة بعد الرهبة وعادة القرآن العظيم إذا ذكر أحكاما ذكر
بعدها وعدا ووعيدا ليكون ذلك باعثا على العمل بما سبق ثم يذكر آيات التوحيد
والتنزيه ليعلم عظم الآمر والناهي
وتأمل سورة البقرة والنساء والمائدة وغيرها تجده كذلك
وقد تأتي الجملة معطوفة على ما قبلها ويشكل وجه الارتباط
فتحتاج إلى شرح ونذكر من ذلك صورا يلتحق بها ما هو في معناها:
فمنها قوله تعالى يسألونك {يَسْأَلونَكَ عَنِ
الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ
تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} الآية
فقد يقال أي رابط بين أحكام الأهلة وبين حكم إتيان
البيوت والجواب من وجوه
أحدها: كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الحكمة في
تمام الأهلة ونقصانها معلوم أن كل ما يفعله الله فيه حكمة ظاهرة ومصلحة لعباده
فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم مما ليس من البر في شيء وأنتم
تحسبونها برا
الثاني
: أنه من باب الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج وكان
هذا من أفعالهم في الحج ففي الحديث أن ناسا من الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخل
أحد منهم حائطا ولا دارا ولا فسطاطا من باب فإن كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر
بيته منه يدخل ويخرج أو يتخذ سلما يصعد به وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء
فقيل لهم ليس البر بتحرجكم من دخول الباب لكن البر بر من اتقى ما حرم الله وكان من
حقهم السؤال عن هذا وتركهم السؤال عن الأهلة ونظيره في الزيادة على الجواب قوله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئل عن المتوضئ بماء البحر فقال: "هو
الطهور ماؤه الحل ميتته"
الثالث: أنه من قبيل التمثيل لما هم عليه من تعكيسهم في
سؤالهم وأن مثلهم كمثل من يترك بابا ويدخل من ظهر البيت فقيل لهم ليس البر ما أنتم
عليه من تعكيس الأسئلة ولكن البر من اتقى ذلك ثم قال الله سبحانه {وَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} أي باشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر
عليها ولا تعكسوا والمراد أن يصمم القلب على أن جميع أفعال الله حكمة منه وأنه {لا
يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} فإن في السؤال اتهاما
ومنها قوله سبحانه وتعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
إِلَى
الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} إلى أن قال {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} فإنه قد يقال:
أي رابط بين الإسراء و{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} ؟ ووجه اتصالها بما قبلها أن
التقدير: أطلعناه على الغيب عيانا وأخبرناه بوقائع من سلف بيانا لتقوم أخباره على
معجزته برهانا أي سبحان الذي أطلعك على بعض آياته لتقصها ذكرا وأخبرك بما جرى
لموسى وقومه في الكرتين لتكون قصتهما آية أخرى أو أنه أسرى بمحمد إلى ربه كما أسرى
بموسى من مصر حين خرج منها خائفا يترقب ثم ذكر بعده {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا
مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} ليتذكر بنو إسرائيل نعمة الله عليهم
قديما حيث نجاهم من الغرق إذ لو لم ينج أباهم من أبناء نوح لما وجدوا وأخبرهم أن
نوحا كان عبدا شكورا وهم ذريته والولد سر أبيه فيجب أن يكونوا شاكرين كأبيهم لأنه
يجب أن يسيروا سيرته فيشكروا
وتأمل كيف أثنى عليه وكيف تليق صفته بالفاصلة ويتم النظم
بها مع خروجها مخرج المرور عن الكلام الأول إلى ذكره ومدحه بشكره وأن يعتقدوا
تعظيم تخليصه إياهم من الطوفان بما حملهم عليه ونجاهم منه حين أهلك من عداهم وقد
عرفهم أنه إنما يؤاخذهم بذنوبهم وفسادهم فيما سلط عليهم من قتلهم ثم عاد عليهم
بالإحسان والإفضال كي يتذكروا ويعرفوا قدر نعمة الله عليهم وعلى نوح الذي ولدهم
وهم ذريته فلما صاروا إلى جهالتهم وتمردوا عاد عليهم التعذيب
ثم ذكر تعالى في ثلاث آيات بعد ذلك معنى هذه القصة
بكلمات قليلة العدد كثيرة الفوائد لا يمكن شرحها إلا بالتفصيل الكثير والكلام
الطويل مع ما اشتمل عليه من التدريج العجيب والموعظة العظيمة بقوله {إِنْ
أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ
فَلَهَا} ولم ينقطع بذلك نظام الكلام إلى أن خرج
إلى قوله {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} يعنى إن
عدتم إلى الطاعة عدنا إلى العفو ثم خرج خروجا آخر إلى حكمة القرآن لأنه الآية
الكبرى وعلى هذا فقس الانتقال من مقام إلى مقام حتى ينقطع الكلام
وبهذا يظهر لك اشتمال القرآن العظيم على النوع المسمى
بالتخلص وقد أنكره أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي وقال ليس في القرآن
الكريم منه شيء لما فيه من التكلف وليس كما قال
ومن أحسن أمثلته قوله تعالى {اللَّهُ نُورُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية فإن فيها خمس تخلصات وذلك أنه جاء بصفة النور
وتمثيله ثم تخلص منه إلى ذكر الزجاجة وصفاتها ثم رجع إلى ذكر النور والزيت يستمد
منه ثم التخلص منه إلى ذكر الشجرة ثم تخلص من ذكرها إلى صفة الزيت ثم تخلص من صفة
الزيت إلى صفة النور وتضاعفه ثم تخلص منه إلى نعم الله بالهدى على من يشاء
ومنه قوله تعالى {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}
الآية فإنه سبحانه ذكر أولا عذاب الكفار وأن لا دافع له من الله ثم تخلص إلى قوله {تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} بوصف {اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} منه قوله
تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ
مَا تَعْبُدُونَ}
إلى قوله
{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فهذا تخلص من قصة
إبراهيم وقومه إلى قوله هكذا وتمني الكفار في الدار الآخرة الرجوع إلى الدنيا
ليؤمنوا بالرسل وهذا تخلص عجيب
وقوله {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ
يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ
يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ
الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي
خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} وذلك أنه لما أراد الانتقال من أحوال أصنامهم إلى ذكر
صفات الله قال إن أولئك لي أعداء إلا الله فانتقل بطريق الاستثناء المنفصل
وقوله تعالى {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا
يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ َلَّا يَسْجُدُوا
لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا
تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ}
وقوله تعالى في سورة الصافات {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً
أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} وهذا من بديع التخلص فإنه سبحانه خلص من وصف المخلصين وما أعد
لهم إلى وصف الظالمين وما أعد لهم
ومنه أنه تعالى في سورة الأعراف ذكر الأمم الخالية
والأنبياء الماضين من آدم عليه السلام إلى أن انتهى إلى قصة موسى عليه السلام فقال
في آخرها {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا
أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} إلى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل}
وهو من بديع التخلص
واعلم أنه
حيث قصد التخلص فلا بد من التوطئة له ومن بديعه قوله تعالى {نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} يشير إلى قصة يوسف عليه السلام فوطأ بهذه الجملة إلى
ذكر القصة يشير إليها بهذه النكتة من باب الوحي والرمز وكقوله سبحانه موطئا للتخلص
إلى ذكر مبتدأ خلق المسيح عليه السلام {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً}
الآية
ومنها قوله تعالى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فإنه قد يقال ما وجه اتصاله بما قبله
وهو قوله {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} الآية؟
قال الشيخ أبو محمد الجويني في تفسيره سمعت أبا الحسين
الدهان يقول وجه اتصالها هو أن ذكر تخريب بيت المقدس قد سبق أي فلا يجرمنكم ذلك
واستقبلوها فإن لله المشرق والمغرب.
ومنها قوله {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الأِبِلِ كَيْفَ
خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} الآية فإنه يقال ما وجه الجمع بين
الإبل والسماء والجبال والأرض في هذه الآية والجواب أنه جمع بينهما على مجرى الإلف
والعادة بالنسبة إلى أهل الوبر فإن كل انتفاعهم في معايشهم من الإبل فتكون عنايتهم
مصروفة إليها ولا يحصل إلا بأن ترعى وتشرب وذلك بنزول المطر وهو سبب تقلب وجوههم
في السماء ثم لا بد لهم من مأوى يؤويهم وحصن يتحصنون به ولا شيء في ذلك كالجبال ثم
لا غنى لهم لتعذر طول مكثهم في منزل عن التنقل من أرض إلى سواها فإذا نظر البدوي
في خياله وجد صورة هذه الأشياء حاضرة فيه على الترتيب المذكور
ومنها
قوله تعالى {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا
لِلَّهِ شُرَكَاءَ} فيقال: أي ارتباط بينهما؟وجوابه أن المبتدأ وهو {مَنْ} خبره
محذوف أي أفمن هو قائم على كل نفس تترك عبادته أو معادل الهمزة تقديره أفمن هو
قائم على كل نفس كمن ليس بقائم ووجه العطف على التقديرين واضح أما الأول فالمعنى
أتترك عبادة من هو قائم على كل نفس ولم يكف الترك حتى جعلوا له شركاء وأما على
الثاني فالمعنى إذا انتفت المساواة بينهما فكيف تجعلون لغير المساوي حكم المساوي!
ومنها قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ
إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَوْ كَالَّذِي
مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} عطف قصة على قصة مع أن شرط العطف المشاكلة فلا يحسن في نظير
الآية {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} {أَوْ كَالَّذِي}
ووجه ما بينهما من المشابهة أن {أَلَمْ تَرَ} بمنزلة هل
رأيت كالذي حاج إبراهيم وإنما كانت بمنزلتها لأن {أَلَمْ تَرَ} مركبة من همزة
الاستفهام وحرف النفي ولذلك يجاب ببلى والاستفهام يعطي النفي إذ حقيقة المستفهم
عنه غير ثابتة عند المستفهم ومن ثم جاء حرف الاستفهام مكان حرف النفي ونفي النفي
إيجاب فصار بمثابة رأيت غير أنه مقصود به الاستفهام ولم يمكن أن يؤتى بحرفه لوجوده
في اللفظ فلذلك أعطى معنى هل رأيت فإن قلت من أين جاءت إلى ورأيت يتعدى بنفسه؟أجيب
لتضمنه معنى تنظر
القسم الثاني: ألا تكون معطوفة فلا بد من دعامة تؤذن
باتصال الكلام وهى قرائن معنوية مؤذنة بالربط والأول مزج لفظي وهذا مزج معنوي تنزل
الثانية من الأولى منزلة جزئها الثاني وله أسباب
أحدها: التنظير فإن إلحاق النظير بالنظير من
دأب العقلاء ومن أمثلته قوله تعالى {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ } عقب قوله
{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فإن الله سبحانه أمر رسوله أن يمضي لأمره في
الغنائم على كره من أصحابه كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير وهم كارهون
وذلك أنهم اختلفوا في القتال يوم بدر في الأنفال وحاجوا النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجادلوه فكره كثير منهم ما كان من فعل رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النفل فأنزل الله هذه الآية وأنفذ أمره بها وأمرهم
أن يتقوا الله ويطيعوه ولا يعترضوا عليه فيما يفعله من شيء ما، بعد أن كانوا
مؤمنين ووصف المؤمنين ثم قال {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ
وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} يريد أن كراهتهم لما فعلته من
الغنائم ككراهتهم للخروج معك
وقيل: معناه أولئك هم المؤمنون حقا كما أخرجك ربك من
بيتك بالحق كقوله تعالى {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ
مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}
وقيل: الكاف صفة لفعل مضمر وتأويله: افعل في الأنفال كما
فعلت في الخروج إلى بدر وإن كره القوم ذلك ونظيره قوله تعالى {كَمَا أَرْسَلْنَا
فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ} معناه:
كما أنعمنا عليكم بإرسال رسول من أنفسكم فكذلك أتم نعمتي
عليكم فشبه كراهتهم ما جرى من أمر الأنفال وقسمتها بالكراهة في مخرجه من بيته وكل
ما لا يتم الكلام إلا به من صفة وصلة فهو من نفس الكلام
وأما قوله تعالى {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى
الْمُقْتَسِمِينَ} بعد قوله {وَقُلْ إِنِّي أَنَا
النَّذِيرُ
الْمُبِينُ} فإن فيه محذوفا كأنه قال أنا النذير المبين عقوبة أو عذابا مثل ما
أنزلنا على المقتسمين
وأما قوله تعالى {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ
لِتَعْجَلَ بِهِ} وقد اكتنفه من جانبيه قوله {بَلِ الإنسان عَلَى نَفْسِهِ
بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} وقوله {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ
الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} فهذا من باب قولك للرجل وأنت تحدثه بحديث
فينتقل عنك ويقبل على شيء آخر: أقبل علي واسمع ما أقول وافهم عني ونحو هذا الكلام
ثم تصل حديثك فلا يكون بذلك خارجا عن الكلام الأول قاطعا له وإنما يكون به مشوقا
للكلام وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أميا لا يقرأ ولا يكتب
وكان إذا نزل عليه الوحي وسمع القرآن حرك لسانه بذكر الله فقيل له تدبر ما يوحى
إليك ولا تتلقفه بلسانك فإنما نجمعه لك ونحفظه عليك
ونظيره قوله في سورة المائدة {الْيَوْمَ يَئِسَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} إلى قوله {الْأِسْلامَ دِيناً} فإن الكلام بعد
ذلك متصل بقوله أولا {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} ووسط هذه الجملة بين الكلامين ترغيبا في
قبول هذه الأحكام والعمل بها والحث على مخالفة الكفار وموت كلمتهم وإكمال الدين
ويدل على اتصال فمن اضطر بقوله {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} آية الأنعام {قُلْ لا أَجِدُ فِي
مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ}
الثاني: المضادة ومن أمثلته قوله تعالى في سورة
البقرة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} الآية فإنه أول السورة كان
حديثا عن القرآن الكريم وأن من شأنه كيت وكيت وأنه لا يهدي القوم الذين من صفاتهم
كيت وكيت فرجع إلى الحديث عن المؤمنين فلما أكمله عقب بما هو حديث عن الكفار
فبينهما جامع وهمي بالتضاد من هذا الوجه وحكمته التشويق والثبوت على الأول كما قيل:
وبضدها تتبين الأشياء
فإن قيل: هذا جامع بعيد لأن كونه حديثا عن المؤمنين
بالعرض لا بالذات والمقصود بالذات الذي هو مساق الكلام إنما هو الحديث عن الكتاب
لأنه مفتتح القول قلنا لا يشترط في الجامع ذلك بل يكفي التعلق على أي وجه كان
ويكفي في وجه الربط ما ذكرنا لأن القصد تأكيد أمر القرآن والعمل به والحث على
الإيمان به ولهذا لما فرغ من ذلك قال{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا
عَلَى عَبْدِنَا}الآية فرجع إلى الأول
الثالث: الاستطراد كقوله تعالى {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا
عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ
خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}
قال الزمخشري: هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب
ذكر بدو السوءات وخصف الورق عليها إظهارا للمنة فيما خلق الله من اللباس ولما في
العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة وإشعارا بأن الستر باب عظيم من أبواب
التقوى
وجعل القاضي أبو بكر في كتاب إعجاز القرآن من الاستطراد
قوله تعالى {أَوَلَمْ
يَرَوْا
إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ
وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ}
وقال: كأن المراد أن يجري بالقول الأول إلى الإخبار عن
أن كل شيء يسجد لله عز وجل وإن كان ابتداء الكلام في أمر خاص انتهى وفيه نظر
ومنه الانتقال من حديث إلى آخر تنشيطا للسامع كقوله
تعالى في سورة ص بعد ذكر الأنبياء {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ
مَآبٍ} فإن هذا القرآن نوع من الذكر لما انتهى ذكر الأنبياء وهو نوع من التنزيل
أراد أن يذكر نوعا آخر وهو ذكر الجنة وأهلها فقال {هَذَا ذِكْرٌ} فأكد تلك
الإخباريات باسم الإشارة تقول أشير عليك بكذا ثم تقول بعده هذا الذي عندي والأمر
إليك وقال {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} كما يقول المصنف هذا باب يشرع
في باب آخر ولذلك لما فرغ من ذكر أهل الجنة قال {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ
لَشَرَّ مَآبٍ}
فصل في اتصال اللفظ والمعنى على خلاف
وقد يكون اللفظ متصلا بالآخر والمعنى على خلافه كقوله
تعالى {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} فقوله {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} منظوم بقوله {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} لأنه موضع
الشماتة
وقوله {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ
يَنْظُرُونَ} فإنه متصل بقوله: {وَإِنَّ
فَرِيقاً
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا
تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ} وقوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا
أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} جواب الشرط قوله تعالى: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} وقوله {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} داخل
في الشرط
وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ
الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} إلى قوله: {إِلاَّ قَلِيلا}ً فقوله {إِلاَّ قَلِيلاً} متصل
بقوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ومثل بقوله: {وَلَوْلا
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} على تأويل: ولولا فضل الله عليكم ورحمته
إلا قليلا ممن لم يدخله في رحمته واتبعوا الشيطان لاتبعتم الشيطان
ومما يحتمل الاتصال والانقطاع قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ
أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} يحتمل أن يكون متصلا
بقوله: {فِيهَا مِصْبَاحٌ} أي المصباح في بيوت ويكون تمامه على قوله: {وَيُذْكَرَ
فِيهَا اسْمُهُ} و(يسبح له فيها رجال) صفة للبيوت ويحتمل أن يكون منقطعا خبرا لقوله:
و{رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ}
ومما يتعين أن يكون منقطعا قوله: {وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا
أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}
مستأنف لأنه لو جعل متصلا بيعزب لاختل المعنى إذ يصير
على حد قولك ما يعزب عن ذهني إلا في كتاب أي استدراكه
وقوله: {فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} منهم من قضى
باستئنافه على أنه مبتدأ وخبر ومنهم من قضى بجعل {فِيهِ} خبر {لا} و{هُدىً} نصب
على الحال فى تقدير هاديا
ولا يخفى
انقطاع: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} عن قوله: {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ
النَّارِ}
وكذا:
{فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} عن قوله سبحانه: {إِنَّا
نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وكذلك قوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ} عن قوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ
أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ}
النوع الثالث: معرفة الفواصل ورؤوس الآي
...
النوع الثالث: معرفة الفواصل ورءوس الآي
وهى كلمة آخر الآية كقافية الشعر وقرينة السجع
وقال الداني: كلمة آخر الجملة
قال الجعبري: وهو خلاف المصطلح ولا دليل له في تمثيل
سيبويه {يَوْمَ يَأْتِ} و{مَا كُنَّا نَبْغِ} وليسا رأس أي لأن مراده الفواصل اللغوية
لا الصناعية ويلزم أبا عمرو إمالة {مَنْ أَعْطَى} لأبي عمرو
وقال القاضي أبو بكر: الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع
يقع بها إفهام المعاني انتهى
وفرق الإمام أبو عمرو الداني بين الفواصل ورءوس الآي قال
أما الفاصلة فهي الكلام المنفصل مما بعده والكلام المنفصل قد يكون رأس آية وغير
رأس وكذلك
الفواصل
يكن رءوس أي وغيرها وكل رأس أية فاصلة وليس كل فاصلة رأس أية فالفاصلة تعم النوعين
وتجمع الضربين ولأجل كون معنى الفاصلة هذا ذكر سيبويه في تمثيل القوافي {يَوْمَ
يَأْتِ} و{مَا كُنَّا نَبْغِ} -وهما غير رأس آيتين بإجماع -مع {إِذَا يَسْرِ} وهو رأس آية باتفاق
انتهى
وتقع الفاصلة عند الاستراحة في الخطاب لتحسين الكلام بها
وهي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام وتسمى فواصل لأنه ينفصل عندها
الكلامان وذلك أن آخر الآية قد فصل بينها وبين ما بعدها ولم يسموها أسجاعا
فأما مناسبة فواصل فلقوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ
آيَاتُهُ} وأما تجنب أسجاع فلأن أصله من سجع الطير فشرف القرآن الكريم أن يستعار
لشيء فيه لفظ هو أصل في صوت الطائر ولأجل تشريفه عن مشاركة غيره من الكلام الحادث
في اسم السجع الواقع فى كلام آحاد الناس ولأن القرآن من صفات الله عز وجل فلا يجوز
وصفه بصفة لم يرد الإذن بها وإن صح المعنى ثم فرقوا بينهما فقالوا السجع هو الذي
يقصد في نفسه ثم يحيل المعنى عليه والفواصل التي تتبع المعاني ولا تكون مقصودة
فينفسها
قال الرماني في كتاب إعجاز القرآن وبنى عليه أن الفواصل
بلاغة والسجع عيب وتبعه القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب إعجاز القرآن ونقل عن
الأشعرية امتناع كون في القرآن سجعا قال ونص عليه الشيخ أبو الحسن الأشعري في غير
موضع من كتبه
قال: وذهب
كثير من مخالفيهم إلى إثبات السجع في القرآن وزعموا أن ذلك مما تبين فيه فضل
الكلام وأنه من الأجناس التي يقع بها التفاضل في البيان والفصاحة كالتجنيس
والالتفاف ونحوها قال وأقوى ما استدلوا به الاتفاق على أن موسى أفضل من هارون
عليهما السلام ولما كان السجع قيل فى موضع {هَارُونَ وَمُوسَى} ولما كانت الفواصل
في موضع آخر بالواو والنون قيل {مُوسَى وَهَارُونَ}
قالوا: وهذا يفارق أمر الشعر لأنه لا يجوز أن يقع في
الخطاب إلا مقصودا إليه وإذا وقع غير مقصود إليه كان دون القدر الذي نسميه شعرا
وذلك القدر يتفق وجوده من المفحم كما يتفق وجوده في الشعر وأما ما جاء في القرآن
من السجع فهو كثير لا يصح أن يتفق كله غير مقصود إليه
قال: وبنوا الأمر في ذلك على تحديد معنى السجع
قال أهل اللغة هو موالاة الكلام على وزن واحد قل ابن
دريد سجعت الحمامة رددت صوتها
قال القاضي: وهذا الذي يزعمونه غير صحيح ولو كان القرآن
سجعا لكان غير خارج عن أساليب كلامهم ولو كان داخلا فيها لم يقع بذلك إعجاز ولو
جاز أن يقال هو سجع معجز لجاز لهم أن يقولوا شعر معجز وكيف والسجع مما كانت
كهان
العرب تألفه ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر لأن الكهانة تخالف
النبوات بخلاف الشعر
وما توهموا أنه سجع باطل لأن مجيئه على صورته لا يقتضى
كونه هو لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدى السجع وليس كذلك ما
أتفق مما هو في معنى السجع من القرآن لأن اللفظ وقع فيه تابعا للمعنى وفرق بين أن
ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه وبين أن يكون المعنى
منتظما دون اللفظ ومتى ارتبط المعنى بالسجع كان إفادة السجع كإفادة غيره ومتى
انتظم المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلبا لتحسين الكلام دون تصحيح المعنى
قال وأما ما ذكروه في تقديم موسى على هارون في موضع
وتأخيره عنه في موضع لأجل السجع ولتساوي مقاطع الكلام فمردود بل الفائدة فيه إعادة
القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدي معنى واحدا وذلك من الأمر الصعب الذي تظهر فيه
الفصاحة وتقوى البلاغة ولهذا أعيدت كثير من القصص في مواضع كثيرة مختلفة على
ترتيبات متفاوتة تنبيها بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله مبتدأ به ومكررا
ولو
أمكنهم المعارضة لقصدوا تلك القصة وعبروا عنها بألفاظ لهم تؤدي إلى تلك المعاني
ونحوها وجعلوها بإزاء ما جاء به وتوصلوا بذلك إلى تكذيبه وإلى مساواته فيما حكى
وجاء به وكيف وقد قال: لهم: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا
صَادِقِينَ}
فعلى هذا يكون المقصد بتقديم بعض الكلمات على بعض
وتأخيرها إظهار الإعجاز على الطريقين جميعا
دون السجع الذي توهموه
إلى أن قال: فبان بما قلنا أن الحروف الواقعة في الفواصل
مناسبة موقع النظائر التي تقع في الأسجاع لا يخرجها عن حدها ولا يدخلها في باب
السجع وقد بينا أنهم يذمون كل سجع خرج عن اعتدال الأجزاء فكان بعض مصاريعه كلمتين
وبعضها يبلغ كلمات ولا يرون ذلك فصاحة بل يرونه عجزا فلو فهموا اشتمال القرآن على
السجع لقالوا نحن نعارضه بسجع معتدل فنزيد في الفصاحة على طريق القرآن ونتجاوز حده
في البراعة والحسن انتهى ما ذكره القاضي والرماني
رد عليهما الخفاجي في كتاب سر الفصاحة فقال: وأما قول
الرماني إن السجع عيب والفواصل على الإطلاق بلاغة فغلط فإنه إن أراد بالسجع ما
يتبع المعنى وكأنه غير مقصود فذلك بلاغة والفواصل مثله وإن أراد به ما تقع المعاني
تابعة له وهو مقصود متكلف فذلك عيب والفواصل مثله
قال وأظن
أن الذي دعاهم إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل ولم يسموا ما تماثلت حروفه سجعا
رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عن الكهنة وغيرهم
وهذا غرض في التسمية قريب والحقيقة ما قلناه
ثم قال والتحرير أن الأسجاع حروف متماثلة في مقاطع
الفواصل
فإن قيل إذا كان عندكم أن السجع محمود فهلا ورد القرآن
كله مسجوعا وما الوجه في ورود بعضه مسجوعا وبعضه غير مسجوع قلنا إن القرآن نزل
بلغة العرب وعلى عرفهم وعادتهم وكان الفصيح منهم لا يكون كلامه كله مسجوعا لما فيه
من أمارات التكلف والاستكراه والتصنع لاسيما فيما يطول من الكلام فلم يرد كله
مسجوعا جريا منه على عرفهم في اللطيفة العالية من كلامهم ولم يخل من السجع لأنه
يحسن في بعض الكلام على الصفة السابقة وعليها ورد في فصيح كلامهم فلم يجز أن يكون
عاليا في الفصاحة وقد أدخل فيه بشرط من شروطها فهذا هو السبب في ورود بعضه كذلك
وبعضه بخلافه
وخصت فواصل الشعر باسم القوافي لأن الشاعر يقفوها أي
يتبعها في شعره لا يخرج عنها وهي في الحقيقة فاصلة لأنها تفصل آخر الكلام فالقافية
أخص في الاصطلاح إذ كل قافية فاصلة ولا عكس
ويمتنع استعمال القافية في كلام الله تعالى لأن الشرع
لما سلب عنه اسم الشعر وجب
سلب
القافية أيضا عنه لأنها منه وخاصة به في الاصطلاح وكما يمتنع استعمال القافية في
القرآن لا تطلق الفاصلة في الشعر لأنها صفة لكتاب الله فلا تتعداه
قيل وقد يقع في القرآن الإيطاء وهو ليس بقبيح فيه إنما
يقبح في الشعر كقوله تعالى في سورة البقرة: {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ثم قال
في آخرين: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ثلاث فواصل متوالية يعلمون يعلمون يعلمون
فهذا لا يقبح في القرآن قولا واحدا
قيل ويقع فيه التضمين وليس بقبيح إنما يقبح في الشعر
ومنه سورتا الفيل وقريش فإن اللام في: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ} قيل إنها متعلقة
{فَجَعَلَهُمْ} في آخر الفيل
وحكى حازم في منهاج البلغاء خلافا غريبا فقال وللناس في
الكلام المنثور من جهة تقطيعه إلى مقادير تتقارب في الكمية وتتناسب مقاطعها على
ضرب منها أو بالنقلة من ضرب واقع في ضربين أو أكثر إلى ضرب آخر مزدوج في كل ضرب
ضرب منها
أو يزيد على الازدواج ومن جهة ما يكون غير مقطع إلى مقادير بقصد تناسب أطرافها
وتقارب ما بينها في كمية الألفاظ والحروف ثلاثة مذاهب:
منهم من يكره تقطيع الكلام إلى مقادير متناسبة الأطراف
غير متقاربة في الطول والقصر لما فيه من التكلف إلا ما يقع به الإلمام في النادر
من الكلام.
والثاني: أن التناسب الواقع بإفراغ الكلام في قوالب
التقفية وتحليتها بمناسبات المقاطع أكيد جدا.
والثالث:
وهو الوسط أن السجع لما كان زينة للكلام فقد يدعو إلى
التكلف فرئي ألا يستعمل في الكلام وأن لا يخلى الكلام بالجملة منه أيضا ولكن يقبل
من الخاطر فيه ما اجتلبه عفوا بخلاف التكلف وهذا رأي أبي الفرج قدامة
قالحازم:
وكيف يعاب السجع على الإطلاق وإنما نزل القرآن على
أساليب الفصيح من كلام العرب فوردت الفواصل فيه بإزاء ورود الأسجاع في كلام العرب
وإنما لم يجئ على أسلوب واحد لأنه لا يحسن في الكلام جميعا أن يكون مستمرا على نمط
واحد لما فيه من التكلف ولما في الطبع من الملل عليه ولأن الافتنان في ضروب
الفصاحة أعلى من الاستمرار على ضرب واحد فلهذا وردت بعض أي القرآن متماثلة المقاطع
وبعضها غير متماثل
[إيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل]
واعلم أن إيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل حيث تطرد
متأكد جدا ومؤثر في اعتدال نسق الكلام وحسن موقعه من النفس تأثيرا عظيما ولذلك خرج
عن نظم الكلام لأجلها في مواضع:
.
أحدها
زيادة حرف لأجلها ولهذا ألحقت الألف بـ (الظنون) في قوله تعالى {وَتَظُنُّونَ
بِاللَّهِ الظُّنُونَا} لأن مقاطع فواصل هذه السورة ألفات منقلبة عن تنوين في
الوقف فزيد على النون ألف لتساوي المقاطع وتناسب نهايات الفواصل ومثله:
{فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا}، {وَأَطَعْنَا
الرَّسُولا}
وأنكر بعض المغاربة ذلك وقال لم تزد الألف لتناسب رءوس
الآي كما قال قوم لأن في سورة الأحزاب: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ
يَهْدِي السَّبِيلَ} وفيها: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا}. وكل واحد منها رأس آية وثبتت الألف
بالنسبة إلى حالة أخرى غير تلك في الثاني دون الأول فلو كان لتناسب رءوس الآي لثبت
من الجميع
قال: وإنما زيدت الألف في مثل ذلك لبيان القسمين واستواء
الظاهر والباطن بالنسبة إلى حالة أخرى غير تلك وكذلك لحاق هاء السكت في قوله: {مَا
هِيَهْ} في سورة القارعة هذه الهاء عدلت مقاطع الفواصل في هذه السورة وكان للحاقها
في هذا الموضع تأثير عظيم في الفصاحة
وعلى هذا والله أعلم-ينبغي أن يحمل لحاق النون في
المواضع التي قد تكلم في لحاق النون إياها نحو قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}
وقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} فإن من مآخذ الفصاحة ومذاهبها أن يكون
ورود هذه النون في مقاطع هذه الأنحاء للآي راجح الأصالة في الفصاحة لتكون فواصل
السور الوارد فيها ذلك قد استوثق فيما قبل حروفها المتطرفة وقوع حرفي المد واللين
وقوله
تعالى: {وَطُورِ سِينِينَ} وهو طور سيناء لقوله: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ
سَيْنَاءَ} وقوله تعالى: {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَعْلَمُونَ} كرر لعل مراعاة لفواصل الآي إذ لو جاء على الأصل لقال لعلي أرجع إلى
الناس فيعلموا بحذف النون على الجواب
الثاني: حذف همزة أو حرف اطرادا كقوله تعالى:
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}
الثالث الجمع بين المجرورات وبذلك يجاب عن سؤال في قوله
تعالى: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} فإنه قد توالت
المجرورات بالأحرف الثلاثة وهى اللام في: {لَكُمْ} والباء في{بِهِ}وعلى في
{عَلَيْنَا} وكان الأحسن الفصل
وجوابه أن تأخر {تَبِيعاً} وترك الفصل أرجح من أن يفصل
به بين بعض الروابط وكذلك الآيات التي تتصل بقوله: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ
عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} فإن فواصلها كلها منصوبة منونة فلم يكن بد من تأخير قوله
{تَبِيعاً} لتكون نهاية هذه الآية مناسبة لنهايات ما قبلها حتى تتناسق على صورة
واحدة
الرابع: تأخير ما أصله أن يقدم كقوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي
نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} لأن أصل الكلام أن يتصل الفعل بفاعله ويؤخر المفعول لكن
أخر الفاعل وهو موسى لأجل رعاية الفاصلة
قلت للتأخير حكمة أخرى وهي أن النفس تتشوق لفاعل أوجس
فإذا جاء بعد أن أخر وقع بموقع
وكقوله
تعالى {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ
مُسَمّىً} فإن قوله {وَأَجَلٌ مُسَمّىً} معطوف على {كَلِمَةٌ} ولهذا رفع والمعنى {وَلَوْلا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} في التأخير {وَأَجَلٌ مُسَمّىً} لكان العذاب لزاما لكنه قدم وأخر لتشتبك
رءوس الآي قاله ابن عطية
وجوز الزمخشري عطفه على الضمير في {لَكَانَ} أي لكان
الأجل العاجل وأجل مسمى لازمين له كما كانا لازمين لعاد وثمود ولم ينفرد الأجل
المسمى دون الأجل العاجل ومنه قوله تعالى {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ
النُّذُرُ} فأخر الفاعل لأجل الفاصلة وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
أخر الفعل عن المفعول فيها وقدمه فيما قبلها في قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} لتوافق رءوس الآي قاله أبو البقاء وهو أجود من قول
الزمخشري قدم المفعول للاختصاص
ومنه تأخير الاستعانة عن العبادة في قوله تعالى
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وهى قبل العبادة وإنما أخرت لأجل
فواصل السورة في أحد الأجوبة
الخامس:
إفراد ما أصله أن يجمع كقوله تعالى: {إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} قال الفراء الأصل الأنهار وإنما وحد لأنه
رأس آية فقابل بالتوحيد رءوس
الآي
ويقال النهر الضياء والسعة فيخرج من هذا الباب
وقوله {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} قال: ابن سيده
في المحكم أي أعضادا وإنما أفرد ليعدل رءوس الآي بالإفراد والعضد المعين
السادس:
جمع ما أصله أن يفرد كقوله تعالى: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا
خِلالٌ} فإن المراد ولا خلة بدليل الآية الأخرى لكن جمعه لأجل مناسبة رءوس الآي
السابع: تثنية ما أصله أن يفرد كقوله تعالى: {وَلِمَنْ
خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}
قال: الفراء هذا باب مذهب العرب في تثنية البقعة الواحدة وجمعها
كقوله ديار لها بالرقمتين وقوله بطن المكتين وأشير بذلك إلى نواحيها أو للإشعار
بأن لها وجهين وأنك إذا أوصلتها ونظرت إليها يمينا وشمالا رأيت في كلتا الناحيتين
ما يملأ عينك قرة وصدرك مسرة
قال وإنما
ثناهما لأجل الفاصلة رعاية للتي قبلها والتي بعدها على هذا الوزن والقوافي تحتمل
في الزيادة والنقصان مالا يحتمله سائر الكلام
وأنكر ذلك ابن قتيبة عليه وأغلظ وقال إنما يجوز في رءوس
الآي زيادة هاء السكت أو الألف أو حذف همزة أو حرف فأما أن يكون الله وعد جنتين
فنجعلهما جنة واحدة من أجل رءوس الآي فمعاذ الله وكيف هذا وهو يصفها بصفات الاثنين
قال: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} ثم قال فيها {فِيهِمَا} ولو أن قائلا قال في خزنة النار إنهم
عشرون وإنما جعلهم الله تسعة عشر لرأس الآية ما كان هذا القول إلا كقول الفراء
قلت وكأن الملجيء للفراء إلى ذلك قوله تعالى: {وَأَمَّا
مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوَى} وعكس ذلك قوله تعالى {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ
فَتَشْقَى} على أن هذا قابل للتأويل فإن الألف واللام للعموم خصوصا أنه يرد على
الفراء قوله: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}
الثامن: تأنيث ما أصله أن يذكر كقوله تعالى {كَلاَّ
إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} وإنما عدل إليها للفاصلة
التاسع: كقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وقال
في العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ} فزاد في الأولى {الأَعْلَى} وزاد في الثانية: {خَلَقَ} مراعاة للفواصل في السورتين وهى في سبح
{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} وفي العلق: {خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}
العاشر: صرف ما أصله ألا ينصرف كقوله تعالى:
{قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا} صرف الأول لأنه آخر الآية وآخر الثاني بالألف فحسن جعله
منونا ليقلب تنوينه ألفا فيتناسب مع بقية الآي كقوله تعالى {سَلاسِلا وَأَغْلالاً}
فإن {سَلاسِلا} لما نظم إلى {وَأَغْلالاً وَسَعِيراً} صرف ونون للتناسب وبقي قوارير الثاني
فإنه وإن لم يكن آخر الآية جاز صرفه لأنه لما نون قواريرا الأول ناسب أن ينون
قواريرا الثاني ليتناسبا ولأجل هذا لم ينون قواريرا الثاني إلا من ينون قواريرا
الأول وزعم إمام الحرمين في البرهان أن من ذلك صرف ما كان جمعا في القرآن ليناسب
رءوس الآي كقوله تعالى {سَلاسِلا وَأَغْلالاً} وهذا مردود لأن سلاسلا ليس رأس آية
ولا قواريرا الثاني وإنما صرف للتناسب واجتماعه مع غيره من المنصرفات فيرد إلى
الأصل ليتناسب معهاونظيره في مراعاة المناسبة أن الأفصح أن يقال بدأ ثلاثي قال
الله تعالى {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} وقال تعالى: {كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}
ثم قال {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}
فجاء به رباعيا فصيحا لما حسنه من التناسب بغيره وهو قوله: {يُعِيدُهُ}
الحادي
عشر: إمالة ما أصله ألا يمال كإمالة ألف {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}
ليشاكل التلفظ بهما التلفظ بما بعدهما
والإمالة أن تنحو بالألف نحو الياء والغرض الأصلي منها
هو التناسب وعبر عنه بعضهم بقوله الإمالة للإمالة وقد يمال لكونها آخر مجاور ما
أميل آخره كألف تلا في قوله تعالى {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} فأميلت ألف تلاها
ليشاكل اللفظ بها اللفظ الذي بعدها مما ألفه غير ياء نحو {جَلاَّهَا} و{غشاها}
فإن قيل: هلا جعلت إمالة {تَلاهَا} لمناسبة ما قبلها
أعني {ضُحَاهَا} قيل لأن ألف {ضُحَاهَا} عن واو وإنما أميل لمناسبة ما بعده
الثاني عشر: العدول عن صيغة المضي إلى الاستقبال كقوله
تعالى: {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} حيث لم يقل وفريقا قتلتم
كما سوى بينهما في سورة الأحزاب فقال {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ
فَرِيقاً} وذلك لأجل أنها هنا رأس آية
تفريعات
ختم مقاطع الفواصل بحروف المد واللين
ثم هنا تفريعات
الأول قد كثر في القرآن الكريم ختم كلمة المقطع من الفاصلة
بحروف المد واللين وإلحاق النون وحكمته وجود التمكن من التطريب بذلكقال سيبويه
رحمه الله أما إذا ترنموا فإنهم يلحقون الألف والواو والياء ما ينون وما لا ينون
لأنهم أرادوا مد الصوت
وإذا
أنشدوا ولم يترنموا فأهل الحجاز يدعون القوافي على حالها في الترنم وناس من بني
تميم يبدلون مكان المدة النون انتهى
وجاء القرآن على أعذب مقطع وأسهل موقف
مبنى الفواصل على الوقف
الثاني:
إن مبنى الفواصل على الوقف ولهذا شاع مقابلة المرفوع
بالمجرور وبالعكس وكذا المفتوح والمنصوب غير المنون ومنه قوله تعالى {إِنَّا
خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ
لازِبٍ}
مع تقدم قوله {عَذَابٌ وَاصِبٌ} و{شِهَابٌ ثَاقِبٌ} وكذا {بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} و{
قَدْ قُدِرَ} وكذا {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} مع {وَيُنْشِئُ
السَّحَابَ الثِّقَالَ}
وعبارة السكاكي قد تعطي اشتراط كون السجع يشترط فيه
الموافقة في الإعراب لما قبله على تقدير عدم الوقوف عليه كما يشترط ذلك في الشعر
وبه صرح ابن الخشاب معترضا على قول الحريري في المقامة التاسعة والعشرين:
يا صارفا عني المودة ... والزمان له صروف
ومعنفي في فضح من ... جاوزت تعنيف العسوف
لا تلحني فيما أتيت ... فإنني بهم عروف
ولقد نزلت بهم فلم ... أرهم يراعون الضيوف
وبلوتهم فوجدتهم ... لما سبكتهمو زيوف
ألا ترى أنها إذا أطلقت ظهر الأول والثالث مرفوعين
والرابع والخامس منصوبين
والثاني
مجرورا وكذا باقي القصيدة
والصواب أن ذلك ليس بشرط لما سبق ولا شك أن كلمة الأسجاع
موضوعة على أن تكون ساكنة الأعجاز موقوفا عليها لأن الغرض المجانسة بين القرائن
والمزاوجة ولا يتم ذلك إلا بالوقف ولو وصلت لم يكن بد من إجراء كل القرائن على ما
يقتضيه حكم الإعراب فعطلت عمل الساجع وفوت غرضهم
وإذا رأيتهم يخرجون الكلم عن أوضاعها لغرض الازدواج
فيقولون آتيك بالغدايا والعشايا مع أن فيه ارتكابا لما يخالف اللغة فما ظنك بهم في
ذلك
المحافظة
على الفواصل لحسن النظم والتئامه
الثالث:
ذكر الزمخشري في كشافه القديم أنه لا تحسن المحافظة على
الفواصل لمجردها إلا مع بقاء المعاني على سدادها على النهج الذي يقتضيه حسن النظم
والتئامه كما لا يحسن تخير الألفاظ المونقة في السمع السلسلة على اللسان إلا مع
مجيئها منقادة للمعاني الصحيحة المنتظمة فأما أن تهمل المعاني ويهتم بتحسين اللفظ
وحده غير منظور فيه إلى مؤاده على بال فليس من البلاغة في فتيل أو نقير ومع ذلك
يكون قوله {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وقوله {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ} لا يتأتى فيه ترك رعاية التناسب في العطف بين الجمل الفعلية إيثارا
للفاصلة لأن ذلك أمر لفظي لا طائل تحته وإنما عدل إلى هذا لقصد الاختصاص
تقسيم الفواصل باعتبار المتماثل والمتقارب في الحروف
الرابع:
أن الفواصل تنقسم إلى ما تماثلت حروفه في المقاطع وهذا
يكون في السجع وإلى ما تقاربت حروفه في المقاطع ولم تتماثل وهذا لا يكون سجعا ولا
يخلو كل واحد من هذين القسمين أعني المتماثل والمتقارب من أن يأتي طوعا سهلا تابعا
للمعاني أو متكلفا يتبعه المعنى
فالقسم الأول هو المحمود الدال على الثقافة وحسن البيان
والثاني هو المذموم فأما القرآن فلم يرد فيه إلا القسم الأول لعلوه في الفصاحة
وقد وردت فواصله متماثلة ومتقاربة
مثال
المتماثلة قوله تعالى {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ}
وقوله تعالى {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لِتَشْقَى ِإلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ
وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
وقوله تعالى {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِيَاتِ
قَدْحاً فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً}
وقوله تعالى {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} إلى آخره وحذفت الياء من {يَسْرِ} طلبا للموافقة في
الفواصل
وقوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ
الْقَمَرُ} وجميع هذه السورة على الازدواج،
وقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ
الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}
وقوله
تعالى {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا
اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} وقوله تعالى {فَأَمَّا الْيَتِيمَ
فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ}
وقوله تعالى {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا}
وقوله تعالى {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ
وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ}
وقوله تعالى {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ}
وقوله تعالى {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} الآية
وقوله تعالى {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}
ومثال المتقارب في الحروف قوله تعالى {الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
وقوله تعالى {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا
أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ
الْكَافِرُونَ
هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ}
وهذا لا يسمى سجعا قطعا عند القائلين بإطلاق السجع في
القرآن لأن السجع ما تماثلت حروفه
إذا علمت هذا فاعلم أن فواصل القرآن الكريم لا تخرج عن
هذين القسمين بل تنحصر في المتماثلة والمتقاربة وبهذا يترجح مذهب الشافعي على مذهب
أبى حنيفة في عد الفاتحة سبع آيات مع البسملة وذلك لأن الشافعي المثبت لها في
القرآن قال: {صِرَاطَ الَّذِينَ} إلخ السورة آية واحدة وأبو حنيفة لما أسقط
البسملة من الفاتحة قال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية و{غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} آية. ومذهب الشافعي أولى لأن فاصلة قوله: {صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} لا تشابه فاصلة الآيات المتقدمة ورعاية التشابه
في الفواصل لازم وقوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ليس من القسمين فامتنع جعله من المقاطع
وقد اتفق الجميع على أن الفاتحة سبع آيات لكن الخلاف في كيفية العدد
[تقسيم الفواصل باعتبار المتوازي والمتوازن والمطرف]
الخامس: قسم البديعيون السجع والفواصل أيضا إلى متواز
ومطرف [ومتوازن]
وأشرفها المتوازي وهو أن تتفق الكلمتان في الوزن وحروف
السجع كقوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} وقوله: {وَالتَّوْرَاةَ
وَالْأِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ}
والمطرف
أن يتفقا في حروف السجع لا في الوزن كقوله تعالى {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ
وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً}
والمتوازن أن يراعى في مقاطع الكلام الوزن فقط كقوله
تعالى: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}
وقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ
الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
فلفظ الكتاب والصراط متوازنان ولفظ المستبين والمستقيم
متوازنان
وقوله {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً
وَنَرَاهُ قَرِيباً يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ
كَالْعِهْنِ}
وقوله تعالى {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً
لِلشَّوَى تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى}
وقوله {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا
تَجَلَّى} إلى آخرها
وقوله {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى . . . . . } إلى آخرها
وقد تكرر في سورة حمعسق في قوله تعالى {وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مَا
اسْتُجِيبَ لَهُ} إلى آخر الآيات السبع فجمع في فواصلها بين شديد وقريب وبعيد
وعزيز ونصيب وأليم وكبير على هذا الترتيب وهو في القرآن كثير وفى المفصل خاصة في
قصاره
ومنهم من يذكر بدله الترصيع وهو أن يكون المتقدم من
الفقرتين مؤلفا من كلمات مختلفة والثاني مؤلفا من مثلها في ثلاثة أشياء: وهي الوزن والتقفية
وتقابل القرائن قيل ولم يجئ هذا القسم في القرآن العظيم لما فيه من التكلف
وزعم بعضهم أن منه قوله تعالى {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي
نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} وليس كذلك لورود لفظة إن ولفي كل واحد
من الشطرين وهو مخالف لشرط الترصيع إذ شرطه اختلاف الكلمات في الشطرين جميعا
وقال: بعض المغاربة سورة الواقعة من نوع الترصيع وتتبع
آخر آيها يدل على أن فيها موازنة
قالوا وأحسن السجع ما تساوت قرائنه ليكون شبيها بالشعر
فإن أبياته متساوية كقوله تعالى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} وعلته أن السمع ألف الانتهاء إلى غاية في الخفة بالأولى فإذا
زيد عليها ثقل عنه الزائد لأنه يكون عند وصولها إلى مقدار الأول كمن توقع الظفر
بمقصوده
ثم ما طالت قرينته الثانية كقوله {وَالنَّجْمِ إِذَا
هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}أو الثالثة كقوله تعالى: {خُذُوهُ
فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ
ذَرْعُهَا
سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ}
وهو إما قصير كقوله {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً
فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً}
أو طويل كقوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ
قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي
الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ
يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي
أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ
تُرْجَعُ الأُمُورُ}
أو متوسط كقوله {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ
الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}
ائتلاف الفواصل مع ما يدل عليه الكلام
السادس:
اعلم أن من المواضع التي يتأكد فيها إيقاع المناسبة
مقاطع الكلام وأواخره وإيقاع الشيء فيها بما يشاكله فلا بد أن تكون مناسبة للمعنى
المذكور أولا وإلا خرج بعض الكلام عن بعض.
وفواصل القرآن العظيم لا تخرج عن ذلك لكن منه ما يظهر
ومنه ما يستخرج بالتأمل للبيب.
وهي منحصرة في أربعة أشياء: التمكين والتوشيح والإيغال
والتصدير.
والفرق بينها أنه إن كان تقدم لفظها بعينه في أول الآية
سمي تصديرا وإن كان في
أثناء
الصدر سمي توشيحا وإن أفادت معنى زائدا بعد تمام معنى الكلام سمي إيغالا وربما
اختلط التوشيح بالتصدير لكون كل منهما صدره يدل على عجزه والفرق بينهما أن دلالة
التصدير لفظية ودلالة التوشيح معنوية.
الأول: التمكين وهو أن تمهد قبلها تمهيدا تأتي به
الفاصلة ممكنة في مكانها مستقرة في قرارها مطمئنة في موضعها غير نافذة ولا قلقة
متعلقا معناها بمعنى الكلام كله تعلقا تاما بحيث لو طرحت اختل المعنى واضطرب الفهم
وهذا الباب يطلعك على سر عظيم من أسرار القرآن فاشدد
يديك به
ومن أمثلته قوله تعالى {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً}، فإن الكلام لو اقتصر فيه على
قوله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} لأوهم ذلك بعض الضعفاء موافقة
الكفار في اعتقادهم أن الريح التي حدثت كانت سبب رجوعهم ولم يبلغوا ما أرادوا وأن
ذلك أمر اتفاقي فأخبر سبحانه في فاصلة الآية عن نفسه بالقوة والعزة ليعلم المؤمنين
ويزيدهم يقينا وإيمانا على أنه الغالب الممتنع وأن حزبه كذلك وأن تلك الريح التي
هبت ليست اتفاقا بل هي من إرساله سبحانه على أعدائه كعادته وأنه ينوع النصر
للمؤمنين ليزيدهم إيمانا وينصرهم مرة بالقتال كيوم بدر وتارة بالريح كيوم الأحزاب
وتارة بالرعب كبني النضير وطورا ينصر عليهم كيوم أحد تعريفا لهم أن الكثرة لا تغني
شيئا وأن النصر من عنده كيوم حنين
ومنه قوله تعالى {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ
أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي
مَسَاكِنِهِمْ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ
إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ
وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} فانظر إلى قوله في صدر الآية التي الموعظة
فيها سمعية {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} ولم يقل أولم يروا وقال بعد ذكر
الموعظة: {أَفَلا يَسْمَعُونَ} لأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع أو أخبار القرون
وهو كما يسمع وكيف قال في صدر الآية التي موعظتها مرئية: {أَوَلَمْ يَرَوْا} وقال
بعدها أفلا يبصرون لأن سوق الماء إلى الأرض الجرز مرئي.
ومنه قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ
تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي
أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}
فإنه لما تقدم ذكر العبادة والتصرف في الأموال كان ذلك
تمهيدا تاما لذكر الحلم والرشد لأن الحلم الذي يصح به التكليف والرشد حسن التصرف
في الأموال فكان آخر الآية مناسبا لأولها مناسبة معنوية ويسميه بعضهم ملاءمة
ومنه قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ
يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
فإنه سبحانه لما قدم نفي إدراك الأبصار له عطف على ذلك
قوله: {وَهُوَ اللَّطِيفُ} خطابا للسامع بما يفهم إذ العادة أن كل لطيف لا تدركه
الأبصار ألا ترى أن حاسة البصر إنما تدرك اللون من كل متلون والكون من كل متكون
فإدراكها إنما هو للمركبات دون المفردات ولذلك لما قال {وَهُوَ يُدْرِكُ
الأَبْصَارَ} عطف عليه قوله الخبير مخصصا لذاته سبحانه بصفة الكمال لأنه ليس كل من
أدرك شيئا كان خبيرا بذلك الشيء لأن المدرك للشيء قد يدركه ليخبره ولما كان الأمر
كذلك أخبر سبحانه وتعالى
أنه يدرك
كل شيء مع الخبرة به وإنما خص الإبصار بإدراكه ليزيد في الكلام ضربا من المحاسن
يسمى التعطف ولو كان الكلام لا تبصره الأبصار وهو يبصر الأبصار لم تكن لفظتا {اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} مناسبتين لما
قبلهما
ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ
خَبِيرٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
إلى قوله {لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} إنما فصل الأولى بـ لطيف
خبير لأن ذلك في موضع الرحمة لخلقه بإنزال الغيث وإخراج النبات من الأرض ولأنه
خبير بنفعهم وإنما فصل الثانية بـ غني حميد لأنه قال: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الأَرْضِ} أي لا لحاجة بل هو غني عنهما جواد بهما لأنه ليس غنى نافعا
غناه إلا إذا جاد به وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليه واستحق عليه الحمد فذكر
الحمد على أنه الغني النافع بغناه خلقه وإنما فصل الثالثة بـ رؤوف رحيم لأنه لما
عدد للناس ما أنعم به عليهم من تسخير ما في الأرض لهم وإجراء الفلك في البحر لهم
وتسييرهم في ذلك الهول العظيم وجعله السماء فوقهم وإمساكه إياها عن الوقوع حسن
ختامه بالرأفة والرحمة
ونظير هذه الثلاث فواصل مع اختلافها قوله تعالى في سورة
الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ } الآيات
وقوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فقال الغني الحميد لينبه
على أن ما له ليس لحاجة بل هو غني عنه جواد به وإذا جاد به حمده المنعم عليه إذ
حميد كثير المحامد الموجبة تنزيهه عن الحاجة والبخل وسائر النقائض فيكون غنيا
مفسرا بالغنى المطلق لا يحتاج فيه لتقدير غني عنه
ومنه قوله
تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ
أَفَلا تَسْمَعُونَ} لما كان سبحانه هو الجاعل الأشياء على الحقيقة وأضاف إلى نفسه
جعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة صار الليل كأنه سرمد بهذا التقدير وظرف الليل ظرف
مظلم لا ينفذ فيه البصر لاسيما وقد أضاف الإتيان بالضياء الذي تنفذ فيه الأبصار
إلى غيره وغيره ليس بفاعل على الحقيقة فصار النهار كأنه معدوم إذ نسب وجوده إلى
غير موجد والليل كأنه لا موجود سواه إذ جعل سرمدا منسوبا إليه سبحانه فاقتضت
البلاغة أن يقول {أَفَلا تَسْمَعُونَ} لمناسبة ما بين السماع والظرف الليلي الذي
يصلح للاستماع ولا يصلح للإبصار
وكذلك قال في الآية التي تليها: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ
إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا
تُبْصِرُونَ} لأنه لما أضاف جعل النهار سرمدا إليه صار النهار كأنه سرمد وهو ظرف
مضيء تنور فيه الأبصار وأضاف الإتيان بالليل إلى غيره وغيره ليس بفاعل على الحقيقة
فصار الليل كأنه معدوم إذ نسب وجوده إلى غير موجد والنهار كأنه لا موجود سواه إذ
جعل وجوده سرمدا منسوبا إليه فاقتضت البلاغة أن يقول {أَفَلا تُبْصِرُونَ} إذ
الظرف مضيء صالح للإبصار وهذا من دقيق المناسبة المعنوية.
ومنه قوله تعالى في أول سورة الجاثية: {إِنَّ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ
مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإن
البلاغة تقتضي أن تكون فاصلة الآية الأولى للمؤمنين لأنه
سبحانه
ذكر العالم بجملته حيث قال {السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ومعرفة الصانع من الآيات
الدالة على أن المخترع له قادر عليم حكيم وإن دل على وجود صانع مختار لدلالتها على
صفاته مرتبة على دلالتها على ذاته فلا بد أولا من التصديق بذاته حتى تكون هذه
الآيات دالة على صفاته لتقدم الموصوف وجودا واعتقادا على الصفات.
وكذلك قوله في الآية الثانية {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإن سر الإنسان
وتدبر خلقة الحيوان أقرب إليه من الأول وتفكره في ذلك مما يزيده يقينا في معتقده
الأول
وكذلك معرفة جزئيات العالم من اختلاف الليل والنهار
وإنزال الرزق من السماء وإحياء الأرض بعد موتها وتصريف الرياح يقتضي رجاحة العقل
ورصانته لنعلم أن من صنع هذه الجزئيات هو الذي صنع العالم الكلى التي هي أجرامه
وعوارض عنه ولا يجوز أن يكون بعضها صنع بعضا فقد قام البرهان على أن للعالم الكلى
صانعا مختارا فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون فاصلة الآية الثالثة {لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ} وإن احتيج إلى العقل في الجميع إلا أن ذكره هاهنا أنسب بالمعنى الأول إذ
بعض من يعتقد صانع العالم ربما قال إن بعض هذه الآثار يصنع بعضا فلا بد إذا من
التدبر بدقيق الفكر وراجح العقل
ومنه قوله تعالى حكاية عن لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ
مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ
أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}
ومنه قوله تعالى: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
والمناسبة فيه قوية لأن من دل عدوه على عورة نفسه وأعطاه
سلاحه
ليقتله به
فهو جدير بأن يكون مقلوب العقل فلهذا ختمها بقوله {أَفَلا تَعْقِلُونَ}
وهذه الفاصلة لا تقع إلا في سياق إنكار فعل غير مناسب في
العقل نحو قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}،
لأن فاعل غير المناسب ليس بعاقل
وقوله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ
يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} ختم بصفة العلم
إشارة إلى الإحاطة بأحوالنا وأحوالكم وما نحن عليه من الحق وما أنتم عليه من
الباطل وإذا كان عالما بذلك فنسأله القضاء علينا وعليكم بما يعلم منا ومنكم
فصل
وقد تجتمع فواصل في موضع واحد ويخالف بينها وذلك في
مواضع:
منها في أوائل النحل، وذلك أنه سبحانه بدأ فيها بذكر
الأفلاك فقال {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} ثم ذكر خلق الإنسان
فقال: {مِنْ نُطْفَةٍ}. وأشار إلى عجائب الحيوان فقال: {وَالأَنْعَامِ} ثم عجائب
النبات فقال {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ
وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ
وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
فجعل مقطع هذه الآية التفكر لأنه استدلال بحدوث الأنواع
المختلفة من النبات على وجود الإله القادر المختار
وفيه جواب
عن سؤال مقدر وهو أنه لم لا يجوز أن يكون المؤثر فيه طبائع الفصول وحركات الشمس
والقمر؟ولما كان الدليل لا يتم إلا بالجواب عن هذا السؤال لا جرم كان مجال التفكر
والنظر والتأمل باقيا إنه تعالى أجاب عن هذا السؤال من وجهين:
أحدهما : أن تغيرات العالم الأسفل مربوطة بأحوال حركات
الأفلاك فتلك الحركات حيث حصلت فإن كان حصولها بسبب أفلاك أخرى لزم التسلسل وإن
كان من الخالق الحكيم فذلك الإقرار بوجود الإله تعالى وهذا هو المراد بقوله تعالى:
{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ
مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، فجعل
مقطع هذه الآية العقل والتقدير كأنه قيل إن كنت عاقلا فاعلم أن التسلسل باطل فوجب
انتهاء الحركات إلى حركة يكون موجدها غير متحرك وهو الإله القادر المختار
والثاني : أن نسبة الكواكب والطبائع إلى جميع أجزاء
الورقة الواحدة والحبة الواحدة واحدة ثم إنا نرى الورقة الواحدة من الورد أحد
وجهيها في غاية الحمرة والآخر في غاية السواد فلو كان المؤثر موجبا بالذات لامتنع
حصول هذا التفاوت في الآثار فعلمنا أن المؤثر قادر مختار وهذا هو المراد من قوله:
{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}
كأنه قيل: قد ذكرنا ما يرسخ في عقلك أن الموجب بالذات
والطبع لا يختلف تأثيره فإذا نظرت إلى حصول هذا الاختلاف علمت أن المؤثر ليس هو
الطبائع بل الفاعل المختار فلهذا جعل مقطع الآية التذكر
تنبيه
من بديع هذا النوع اختلاف الفاصلتين في موضعين والمحدث
عنه واحد لنكتة لطيفة وذلك قوله تعالى في سورة إبراهيم: {وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}
ثم قال في سورة النحل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
قال القاضي ناصر الدين بن المنير في تفسيره الكبير كأنه
يقول إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت آخذها وأنا معطيها فحصل لك عند أخذها وصفان كونك
ظلوما وكونك كفارا ولي عند إعطائها وصفان وهما أني غفور رحيم أقابل ظلمك بغفراني
وكفرك برحمتي فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ولا أجازي جفاءك إلا بالوفاء انتهى
وهو حسن لكن بقي سؤال آخر وهو ما الحكمة في تخصيص آية
النحل بوصف المنعم وآية إبراهيم بوصف المنعم عليه؟والجواب أن سياق الآية في سورة
إبراهيم في وصف الإنسان وما جبل عليه فناسب ذكر ذلك عقيب أوصافه وأما آية النحل
فسيقت في وصف الله تعالى وإثبات ألوهيته وتحقيق صفاته فناسب ذكر وصفه سبحانه فتأمل
هذه التراكيب ما أرقاها في درجة البلاغة
ونظيره قوله تعالى في سورة الجاثية: {مَنْ عَمِلَ
صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا
ثُمَّ
إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}
وفى فصلت: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}
وحكمة فاصلة الأولى أن قبلها: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا
يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ} فناسب الختام بفاصلة البعث لأن قبله وصفهم بإنكاره وأما
الأخرى فالختام بها مناسب أي لأنه لا يضيع عملا صالحا ولا يزيد على من عمل شيئا
ونظيره قوله في سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ختم الآية مرة
بقوله: {فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} ومرة بقوله: {ضَلالاً بَعِيداً} لأن الأول نزل في
اليهود وهم الذين افتروا على الله ما ليس في كتابه والثاني نزل في الكفار ولم يكن
لهم كتاب وكان ضلاهم أشد
وقوله في المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ} ذكرها ثلاث مرات وختم الأولى بالكافرين والثانية بالظالمين والثالثة
بالفاسقين فقيل لأن الأولى نزلت في أحكام المسلمين والثانية نزلت في أحكام اليهود
والثالثة نزلت في أحكام النصارى
وقيل: ومن لم يحكم بما أنزل الله إنكارا له فهو كافر ومن
لم يحكم بالحق مع اعتقاد الحق وحكم بضده فهو ظالم ومن لم يحكم بالحق جهلا وحكم
بضده فهو فاسق
وقيل الكافر والظالم والفاسق كلها بمعنى واحد وهو الكفر
عبر عنه بألفاظ مختلفة لزيادة الفائدة واجتناب صورة التكرار وقيل غير ذلك
تنبيه
عكس هذا اتفاق الفاصلتين والمحدث عنه مختلف كقوله تعالى
في سورة النور {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إلى قوله {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
ثم قال: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ
فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
قال ابن عبد السلام في تفسيره في الأولى عليم بمصالح
عباده حكيم في بيان مراده وقال في الثانية عليم بمصالح الأنام حكيم ببيان الأحكام
ولم يتعرض للجواب عن حكمة التكرار
تنبيه
حق الفاصلة في هذا القسم تمكين المعنى المسوق إليه كما
بينا ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
ووجه مناسبته أن بعث الرسول تولية والتولية لا تكون إلا
من عزيز غالب على ما يريد وتعليم الرسول الحكمة لقومه إنما يكون مستندا إلى حكمة
مرسله لأن الرسول واسطة بين المرسل والمرسل إليه فلا بد وأن يكون حكيما فلا جرم
كان اقترانهما مناسبا
وقوله
تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
وجه المناسبة في الحكم محمول على قول مجاهد إن من حضر
الموصي فرأى منه جنفا على الورثة في وصيته مع فقرهم فوعظه في ذلك وأصلح بينه
وبينهم حتى رضوا فلا إثم عليه وهو غفور للموصي إذا ارتدع بقول من وعظه فرجع عما هم
به وغفرانه لهذا برحمته لا خفاء به والإثم المرفوع عن القائل يحتمل أن يكون إثم
التبديل السابق في الآية قبلها في قوله تعالى {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا
سَمِعَهُ} يعني من الموصي أي لا يكون هذا المبدل داخلا تحت وعيد من بدل على العموم
لأن تبديل هذا تضمن مصلحة راجحة فلا يكون كغيره وقد أشكل على ذلك مواضع منها قوله
تعالى: {إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ
فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
فإن قوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} يوهم أن الفاصلة
الغفور الرحيم وكذا نقلت عن مصحف أُبَيّ رضي الله عنه وبها قرأ ابن شنبوذ ولكن إذا
أمعن النظر علم أنه يجب أن يكون ما عليه التلاوة لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب
إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه فهو العزيز لأن العزيز في صفات الله هو الغالب
من قولهم عزه يعزه عزا إذا غلبه ووجب أن يوصف بالحكيم أيضا لأن الحكيم من يضع
الشيء في محله فالله تعالى كذلك إلا أنه قد يخفى وجه الحكمة في بعض أفعاله فيتوهم
الضعفاء أنه خارج عن الحكمة فكان في الوصف بالحكيم احتراس حسن أي وإن تغفر لهم مع
استحقاقهم العذاب فلا معترض عليك لأحد في ذلك والحكمة فيما فعلته
قيل: وقيل لا يجوز الغفور الرحيم لأن الله تعالى قطع لهم
بالعذاب في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}. وقيل لأنه
مقام تبر
فلم يذكر الصفة المقتضية استمطار العفو لهم وذكر صفة العدل في ذلك بأنه العزيز
الغالب
وقوله: {الْحَكِيمُ} الذي يضع الأشياء مواضعها فلا يعترض
عليه إن عفا عمن يستحق العقوبة
وقيل: ليس هو على مسألة الغفران وإنما هو على معنى تسليم
الأمر إلى من هو أملك لهم
ولو قيل فإنك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة
ولا يسوغ الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه لا لنبي ولا لغيره وأما قوله
{فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وهم عباده عذبهم أو لم يعذبهم فلأن المعنى إن تعذبهم تعذب
من العادة أن تحكم عليه وذكر العبودية التي هي سبب القدرة كقول رؤبة:
يا رب إن أخطأت أو نسيت ... فأنت لا تنسى ولا تموت
والله لا يضل ولا ينسى ولا يموت أخطأ رؤبة أو أصاب فكأنه
قال إن أخطأت تجاوزت لضعفي وقوتك ونقصي وكمالك
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة براءة: {أُولَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
والجواب ما ذكرناه
ومثله قوله تعالى في سورة الممتحنة: {رَبَّنَا لا
تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
ومثله في سورة غافر في قول السادة الملائكة: {وَمَنْ
صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
ومنه قوله تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ
عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَلَوْلا
فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} فإن الذي يظهر
في أول النظر أن الفاصلة تواب رحيم لأن الرحمة مناسبة للتوبة وخصوصا من هذا الذنب
العظيم ولكن هاهنا معنى دقيق من أجله قال: {حَكِيمٌ} وهو أن ينبه على فائدة مشروعية اللعان
وهى الستر عن هذه الفاحشة العظيمة وذلك من عظيم الحكم فلهذا كان حكيم بليغا في هذا
المقام دون رحيم
ومن خفي هذا الضرب قوله تعالى في سورة البقرة: {خَلَقَ
لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
وقوله في آل عمران: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي
صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإن المتبادر إلى
الذهن في آية البقرة الختم بالقدرة وفى آية آل عمران الختم بالعلم لكن إذا أمعن
النظر علم أنه يجب أن يكون ما عليه التلاوة في الآيتين وكذلك قوله تعالى: {فَإِنْ
كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } مع أن ظاهر الخطاب ذو عقوبة
شديدة وإنما قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمة الله تعالى في الاجتراء على معصيته
وذلك أبلغ في التهديد ومعناه لا تغتروا بسعة رحمة الله تعالى في الاجتراء على
معصيته فإنه مع ذلك لا يرد عذابه عنكم
وقريب منه: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً}
وأما قوله
تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
فمناسبة الجزاء للشرط أنه لما أقدم المؤمنون وهم ثلاثمائة وبضعة عشر على قتال
المشركين وهم زهاء ألف متوكلين على الله تعالى وقال المنافقون: {غَرَّ هَؤُلاءِ
دِينُهُمْ} حتى أقدموا على ثلاثة أمثالهم عددا أو أكثرهم قال الله تعالى ردا على
المنافقين وتثبيتا للمؤمنين: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في جميع أفعاله
وأما قوله تعالى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً
غَفُوراً} فإن قيل: ما وجه الختام بالحلم والمغفرة عقيب تسابيح الأشياء وتنزيهها
أجاب صاحب الفنون بثلاثة أوجه:
أحدها: إن فسرنا التسبيح على ما درج في الأشياء من العبر
وأنها مسبحات بمعنى مودعات من دلائل العبر ودقائق الإنعامات والحكم ما يوجب تسبيح
المعتبر المتأمل فكأنه سبحانه يقول إنه كان من كبير إغفالكم النظر في دلائل العبر
مع امتلاء الأشياء بذلك وموضع العتب قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} كذلك
موضع المعتبة قوله: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وقد كان ينبغي أن
يعرفوا بالتأمل ما يوجب القربة لله مما أودع مخلوقاته بما يوجب تنزيهه فهذا موضع
حلم وغفران عما جرى في ذلك من الإفراط والإهمال
الثاني : إن جعلنا التسبيح حقيقة في الحيوانات بلغاتها
فمعناه الأشياء كلها تسبحه
وتحمده
ولا عصيان في حقها وأنتم تعصون فالحلم والغفران للتقدير في الآية وهو العصيان
وفي الحديث: " لولا بهائم رتع وشيوخ ركع وأطفال رضع
لصب عليكم العذاب صبا"
الثالث:
أنه سبحانه قال في أولها: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ
السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ} ، أي أنه كان لتسابيح المسبحين حليما عن تفريطهم غفورا لذنوبهم ألا
تراه قال في موضع آخر: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ} وكأنها اشتملت على ثلاثة معان إما العفو عن ترك البحث المؤدي إلى
الفهم لما في الأشياء من العبر وأنتم على العصيان أو يريد بها الأشياء كلها تسبحه
ومنها ما يعصيه ويخالفه فيغفر عصيانهم بتسابيحهم.
تنبيه
قد تكون الفاصلة لا نظير لها في القرآن كقوله تعالى عقب
الأمر بالغض في سورة النور: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} وقوله عقب
الأمر بطلب الدعاء والإجابة: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} وقيل فيه تعريض بليلة
القدر أي لعلهم يرشدون إلى معرفتها.
وإنما
يحتاجون للإرشاد إلى ما لا يعلمون فإن هذه الآية الكريمة ذكرت عقب الأمر بالصوم
وتعظيم رمضان وتعليمهم الدعاء فيه وأن أرحى أوقات الإجابة فيه ليلة القدر
الثاني: التصدير كقوله تعالى: {لا تَفْتَرُوا عَلَى
اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}
وقوله: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}
وقوله: {خُلِقَ الأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ
آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}
وقوله: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ
فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ}
وقوله: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ
كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
وقوله:
{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً
فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
وقوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى
ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} فجعل لفاصلة: {يَزِرُونَ} لجناس: {أَوْزَارَهُمْ}
وإنما قال: {عَلَى ظُهُورِهِمْ} ولم يقل على رءوسهم لأن الظهر أقوى للحمل فأشار
إلى ثقل الأوزار
وقوله: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ
غَفَّاراً}
وقوله:
{وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}
وقوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ
يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}
وقوله: {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}
الثالث:
التوشيح ويسمى به لكون نفس الكلام يدل على آخره نزل
المعنى منزلة الوشاح ونزل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح اللذين يجول
عليهما الوشاح ولهذا قيل فيه إن الفاصلة تعلم قبل ذكرها.
وسماه ابن وكيع المطمع لأن صدره مطمع في عجزه كقوله
تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ}
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ
إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} فإن معنى اصطفاء المذكورين
يعلم منه الفاصلة إذ المذكورون نوع من جنس العالمين
وقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ
النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} فإنه من كان حافظا لهذه السورة متيقظا إلى
أن مقاطع فواصلها النون المردفة وسمع في صدر هذه الآية: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ
مِنْهُ النَّهَارَ} علم أن الفاصلة مظلمون فإن من انسلخ النهار عن ليلة أظلم ما
دامت تلك الحال
وقوله {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ
أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} فإن قوله: {لِيُرَوْا
أَعْمَالَهُمْ} يدل على التقسيم
وقوله: {أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ}
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
الرابع:
الإيغال وسمى به لأن المتكلم قد تجاوز المعنى الذي هو
آخذ فيه وبلغ إلى زيادة على الحد يقال أوغل في الأرض الفلانية إذا بلغ منتهاها
فهكذا المتكلم إذا تم معناه ثم تعداه بزيادة فيه فقد أوغل كقوله تعالى أفحكم
الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون فإن الكلام تم بقوله: {وَمَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} ثم احتاج إلى فاصلة تناسب القرينة الأولى فلما أتى
بها أفاد معنى زائدا
وكقوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا
وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} فإن المعنى قد تم بقوله: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ
الدُّعَاءَ} ثم أراد أن يعلم تمام الكلام بالفاصلة فقال: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}
فإن قيل:
ما معنى: {مُدْبِرِينَ} وقد أغنى عنها: {وَلَّوْا} قلت لا يغني عنها: {وَلَّوْا}
فإن التولي قد يكون بجانب دون جانب بدليل قوله: {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ}
وإن كان ذكر الجانب هنا مجازا ولا شك أنه سبحانه لما أخبر عنهم أنهم صم لا يسمعون
أراد تتميم المعنى بذكر توليهم في حال الخطاب لينفى عنهم الفهم الذي يحصل من
الإشارة فإن الأصم يفهم بالإشارة ما يفهم السميع بالعبارة ثم إن التولي قد يكون
بجانب مع لحاظه بالجانب الآخر فيحصل له إدراك بعض الإشارة فجعل الفاصلة:
{مُدْبِرِينَ} ليعلم أن التولي كان بجميع الجوانب بحيث صار ما كان مستقبلا مستدبرا
فاحتجب المخاطب عن المخاطب، أو صار من ورائه فخفيت عن عينه الإشارة كما صم أذناه
عن العبارة فحصلت المبالغة من عدم الإسماع بالكلية وهذا الكلام وإن بولغ فيه بنفي
الإسماع البتة فهو من إيغال الاحتياط الذي أدمجت فيه المبالغة في نفي الإسماع
وقد يأتي الاحتياط في غير المقاطع من مجموع جمل متفرقة
في ضروب من الكلام شتى يحملها معنى واحد كقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ
الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ} الآية
وقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ}
وقوله فأتوا بعشر سور مثله كما يقول الرجل لمن يجحد ما
يستحق علي درهما ولا دانقا ولا حبة ولا كثيرا ولا قليلا ولو قال ما يستحق علي شيئا
لأغنى في الظاهر لكن التفصيل أدل على الاحتياط وعلى شدة الاستبعاد في الإنكار
ومنه قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ
أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فإن المعنى تم
بقوله:
{أَجْراً} ثم زاد الفاصلة لمناسبة رءوس الآي فأوغل بها كما ترى حتى أتى بها تفيد
معنى زائدا على معنى الكلام
فصل: في ضابط الفواصل
ذكره الجعبري ولمعرفتها طريقان توقيفي وقياسي
الأول:
التوقيفي روى أبو داود عن أم سلمة لما سئلت عن قراءة
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: كان يقطع قراءته آية آية وقرأت
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إلى {الَّذِينَ} تقف على كل آية فمعنى
يقطع قراءته آية آية أي يقف على كل آية وإنما كانت قراءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كذلك ليعلم رءوس الآي
قال ووهم فيه من سماه وقف السنة لأن فعله عليه السلام إن
كان تعبدا فهو مشروع لنا وإن كان لغيره فلا فما وقف عليه السلام عليه دائما تحققنا
أنه فاصلة وما وصله دائما تحققنا أنه ليس بفاصلة وما وقف عليه مرة ووصله أخرى
احتمل الوقف أن يكون لتعريفهما أو لتعريف الوقف التام أو للاستراحة والوصل أن يكون
غير فاصلة أو فاصلة وصلها لتقدم تعريفها
الثاني: القياسي وهو ما ألحق من المحتمل غير المنصوص
بالمنصوص لمناسب ولا محذور في ذلك لأنه لا زيادة فيه ولا نقصان وإنما غايته أنه
محل فصل أو وصل والوقف على كل كلمة جائز ووصل القرآن كله جائز فاحتاج القياسي إلى
طريق تعرفه فأقول فاصلة الآية كقرينة السجعة في النثر وقافية البيت في النظم وما
يذكر من عيوب القافية من
اختلاف
الحذو والإشباع والتوجيه فليس بعيب في الفاصلة وجاز الانتقال في الفاصلة والقرينة
وقافية الأرجوزة من نوع إلى آخر بخلاف قافية القصيد.
ومن ثم ترى: {يَرْجِعُونَ} مع: {عليم} و: {الْمِيعَادَ}
مع: {الثَّوَابِ} و: {الطَّارِقُ} مع: {الثَّاقِبُ}
والأصل في الفاصلة والقرينة المتجردة في الآية والسجعة
المساواة ومن ثم أجمع العادون على ترك عد: {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} و: {وَلا
الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} بالنساء و{كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} بسبحان
و{لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} بمريم و{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
بطه و:
{مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} و: {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ} بالطلاق لم يشاكل طرفيه.
وعلى ترك عد: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} بآل
عمران و{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} بالمائدة وعدوا نظائرها للمناسبة
نحو {لأُولِي الأَلْبَابِ} بآل عمران و: {عَلَى اللَّهِ كَذِباً} بالكهف و: {وَالسَّلْوَى}
بطه.
وقد يتوجه الأمران في كلمة فيختلف فيها فمنها البسملة
وقد نزلت بعض آية في النمل وبعضها في أثناء الفاتحة في بعض الأحرف السبعة
فمن قرأ بحرف نزلت فيه عدها آية ولم يحتج إلى إثباتها
بالقياس للنص المتقدم خلافا للداني ومن قرأ بحرف لم تنزل معه لم يعدها ولزمه من
الإجماع على أنها سبع آيات أن يعد عوضها وهو بعد اهدنا لقوله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"
أي قراءة
الصلاة تعد منها ولا للعبد إلا هاتان و{الْمُسْتَقِيمَ} محقق فقسمتا بعدها قسمين
فكانت {عَلَيْهِمْ} الأولى وهى مماثلة في الروي لما قبلها
ومنها حروف الفواتح فوجه عدها استقلالها على الرفع
والنصب ومناسبة الروي والردف ووجه عدمه الاختلاف في الكمية والتعلق على الجزء
ومنها بالبقرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} و{إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ} فوجه عده مناسبة الروي ووجه عدمه تعلقه بتاليه
ومنها: {إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} بآل عمران حملا على ما
في الأعراف والشعراء والسجدة والزخرف
ومنها {فَبَشِّرْ عِبَادِ}بالزمر لتقدير تاليه مفعولا ومبتدأ ومنها
{وَالطُّورِ} و{الرَّحْمَنِ} و{الْحَاقَّةُ} و{الْقَارِعَةُ} و{وَالْعَصْر} حملا على {وَالْفَجْرِ}
و{وَالضُّحَى} للمناسبة لكن تفاوتت في الكمية
النوع الرابع: في جمع الوجوه والنظائر
وقد صنف
فيه قديما مقاتل بن سليمان وجمع فيه من المتأخرين ابن الزاغوني وأبو الفرج بن
الجوزي والدامغاني الواعظ وأبو الحسين بن فارس وسمى كتابه الأفراد
فالوجوه اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان كلفظ
الأمة والنظائر كالألفاظ المتواطئة
وقيل النظائر في اللفظ والوجوه في المعاني وضعف لأنه لو
أريد هذا لكان الجمع في الألفاظ المشتركة وهم يذكرون في تلك الكتب اللفظ الذي
معناه واحد في مواضع كثيرة فيجعلون الوجوه نوعا لأقسام والنظائر نوعا آخر كالأمثال
وقد جعل بعضهم ذلك من أنواع معجزات القرآن حيث كانت
الكلمة الواحدة تنصرف إلى عشرين وجها أو أكثر أو أقل ولا يوجد ذلك في كلام البشر
وذكر
مقاتل في صدر كتابه حديثا مرفوعا لا يكون الرجل فقيها كل الفقه حتى يرى للقرآن
وجوها كثيرة
فمنه الهدى سبعة عشر حرفا:
بمعنى البيان كقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ
رَبِّهِمْ}
وبمعنى الدين: {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}
وبمعنى الإيمان: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ
اهْتَدَوْا هُدىً}
وبمعنى الداعي: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}
وبمعنى الرسل والكتب {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي
هُدىً}
وبمعنى المعرفة: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}
وبمعنى الرشاد: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
وبمعنى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى}{مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى}
وبمعنى القرآن: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ
الْهُدَى}
وبمعنى
التوراة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى}
وبمعنى الاسترجاع: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}
ونظيرها في التغابن: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} أي في المصيبة أنها من عند الله: {يَهْدِ
قَلْبَهُ} للاسترجاع
وبمعنى الحجة: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ} بعد قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي
رَبِّهِ} أي لا يهديهم إلى الحجة.
وبمعنى التوحيد: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ}
وبمعنى السنة: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}
وبمعنى الإصلاح: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ
الْخَائِنِينَ}
وبمعنى الإلهام: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ
هَدَى} هدى كلا في معيشته
وبمعنى التوبة: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تبنا
وهذا كثير الأنواع:
وقال ابن
فارس في كتاب الأفراد:
كل ما في كتاب الله من ذكر الأسف فمعناه الحزن كقوله
تعالى في قصة يعقوب عليه السلام { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} إلا قوله تعالى:
{فَلَمَّا آسَفُونَا} فإن معناه أغضبونا وأما قوله في قصة موسى عليه السلام {غَضْبَانَ أَسِفاً
} فقال ابن عباس مغتاظا
وكل ما في القرآن من ذكر البروج فإنها الكواكب كقوله
تعالى {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} إلا التي في سورة النساء {وَلَوْ كُنْتُمْ
فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} فإنها القصور الطوال المرتفعة في السماء الحصينة.
وما في القرآن من ذكر البر والبحر فإنه يراد بالبحر الماء
وبالبر التراب اليابس غير واحد في سورة الروم: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ} فإنه بمعنى البرية والعمران وقال بعض علمائنا في البر قتل ابن آدم
أخاه وفى {الْبَحْرِ} أخذ الملك كل سفينة غصبا
والبخس في القرآن النقص مثل قوله تعالى: {فَلا يَخَافُ
بَخْساً وَلا رَهَقاً} إلا حرفا واحدا في سورة يوسف {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ}
فإن أهل التفسير قالوا بخس: حرام.
وما في القرآن من ذكر البعل فهو الزوج كقوله تعالى:
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
بِرَدِّهِنَّ}
إلا حرفا واحدا في الصافات: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} فإنه أراد صنما
وما في القرآن من ذكر البكم فهو الخرس عن الكلام
بالإيمان كقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ}. إنما أراد بكم عن النطق والتوحيد مع صحة ألسنتهم
إلا حرفين أحدهما في سورة بني إسرائيل: {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً}
والثاني في سورة النحل قوله عز وجل: {أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ}
فإنهما في هذين الموضعين اللذان لا يقدران على الكلام وكل شيء في القرآن {جثيا}
فمعنا جميعا إلا التي في سورة الشريعة: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} فإنه
أراد تجثو على ركبتيها
وكل حرف في القرآن حسبان فهو من العدد غير حرف في سورة
الكهف {حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ} فإنه بمعنى العذاب
وكل ما في القرآن حسرة فهو الندامة كقوله عز وجل {يَا
حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} إلا التي في سورة آل عمران {يَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ
حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} فإنه يعني به حزنا
وكل شيء في القرآن الدحض والداحض فمعناه الباطل كقوله:
{حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} إلا التي في سورة الصافات: {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} وكل حرف
في القرآن من رجز فهو العذاب كقوله تعالى في قصة بني إسرائيل
{لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} إلا في سورة المدثر والرجز
فاهجر فإنه يعني الصنم فاجتنبوا عبادته
وكل شيء في القرآن من ريب فهو شك غير حرف واحد وهو قوله
تعالى {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} فإنه يعني حوادث الدهر
وكل شيء في القرآن يرجمنكم ويرجموكم فهو القتل غير التي
في سورة مريم عليها السلام {لأَرْجُمَنَّكَ} يعني لأشتمنك
قلت وقوله {رَجْماً بِالْغَيْبِ} أي ظنا والرجم أيضا
الطرد واللعن ومنه قيل للشيطان رجيم
وكل شيء في القرآن من زور فهو الكذب ويراد به الشرك غير
التي في المجادلة منكرا من القول وزورا فإنه كذب غير شرك
وكل شيء في القرآن من زكاة فهو المال غير التي في سورة
مريم وحنانا من لدنا وزكاة فإنه يعنى تعطفا
وكل شيء في القرآن من زاغوا ولا تزغ فإنه من مالوا ولا
تمل غير واحد في سورة الأحزاب {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ} بمعنى شخصت
وكل شيء في القرآن من يسخرون وسخرنا فإنه يراد به
الاستهزاء غير التي في سورة الزخرف {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً}
فإنه أراد أعوانا وخدما
وكل سكينة في القرآن طمأنينة في القلب غير واحد في سورة
البقرة {فِيهِ سَكِينَةٌ
مِنْ
رَبِّكُمْ} فإنه يعني شيئا كرأس الهرة لها جناحان كانت في التابوت
وكل شيء في القرآن من ذكر السعير فهو النار والوقود إلا
قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} فإنه العناد
وكل شيء في القرآن من ذكر شيطان فإنه إبليس وجنوده
وذريته إلا قوله تعالى في سورة البقرة {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}
فإنه يريد كهنتهم مثل كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأبي ياسر أخيه
وكل شهيد في القرآن غير القتلى في الغزو فهم الذين
يشهدون على أمور الناس إلا التي في سورة البقرة قوله عز وجل: {وَادْعُوا
شُهَدَاءَكُمْ} فإنه يريد شركاءكم
وكل ما في القرآن من أصحاب النار فهم أهل النار إلا
قوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً} فإنه يريد خزنتها
وكل صلاة في القرآن فهي عبادة ورحمة إلا قوله تعالى:
{وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} فإنه يريد بيوت عبادتهم
وكل صمم في القرآن فهو عن الاستماع للإيمان غير واحد في
بني إسرائيل قوله عز وجل {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} معناه لا يسمعون شيئا
وكل عذاب في القرآن فهو التعذيب إلا قوله عز وجل:
{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} فإنه يريد الضرب
والقانتون المطيعون لكن قوله عز وجل في البقرة {كُلٌّ
لَهُ قَانِتُونَ}
معناه
مقرون وكذلك في سورة الروم {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ
قَانِتُونَ} يعنى مقرون بالعبودية
وكل كنز في القرآن فهو المال إلا الذي في سورة الكهف
{وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} فإنه أراد صحفا وعلما
وكل مصباح في القرآن فهو الكوكب إلا الذي في سورة النور
{الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} فإنه السراج نفسه
النكاح في القرآن التزوج إلا قوله جل ثناؤه: {حَتَّى
إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} فإنه يعنى الحلم
النبأ والأنباء في القرآن الأخبار إلا قوله تعالى:
{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ} فإنه بمعنى الحجج
الورود في القرآن الدخول إلا في القصص: {وَلَمَّا وَرَدَ
مَاءَ مَدْيَنَ} يعنى هجم عليه ولم يدخله
وكل شيء في القرآن من {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً
إِلاََّ وُسْعَهَا} يعني عن العمل إلا التي في سورة النساء {لاَّ مَا آتَاهَا}
يعنى النفقة
وكل شيء في القرآن من يأس فهو القنوط إلا التي في الرعد:
{أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي ألم يعلموا قال ابن فارس أنشدني أبى
فارس بن زكريا:
أقول لهم
بالشعب إذ ييسرونني ... ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم
قال الصاغاني: البيت لسحيم بن وثيل اليربوعي
وكل شيء في القرآن من ذكر الصبر محمود إلا قوله عز وجل
{لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} و: {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} انتهى ما
ذكره ابن فارس
وزاد غيره: كل شيء في القرآن لعلكم فهو بمعنى لكي غير
واحد في الشعراء: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} فإنه للتشبيه أي كأنكم
وكل شيء في القرآن أقسطوا فهو بمعنى العدل إلا واحد في
الجن: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} يعني العادلين
الذين يعدلون به غيره هذا باعتبار صورة اللفظ وإلا فمادة الرباعي تخالف مادة
الثلاثي
وكل كسف في القرآن يعني جانبا من السماء غير واحد في
سورة الروم: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} يعني السحاب قطعا
وكل ماء معين فالمراد به الماء الجاري غير الذي في سورة
تبارك فإن المراد به الماء الطاهر الذي تناله الدلاء وهى زمزم
وكل شيء
في القرآن "لئلا" فهو بمعنى كيلا غير واحد في الحديد: {لِئَلاَّ
يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} يعني لكي يعلم
وكل شيء في القرآن من الظلمات إلى النور فهو بمعنى الكفر
والإيمان غير واحد في أول الأنعام: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} يعني ظلمة
الليل ونور النهار
وكل صوم في القرآن فهو الصيام المعروف إلا الذي في سورة
مريم {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} يعني صمتا وذكر أبو عمرو الداني في
قوله تعالى {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}
أن المراد بالحضور هنا المشاهدة قال وهو بالظاء بمعنى المنع والتحويط قال ولم يأت
بهذا المعنى إلا في موضع واحد وهو قوله تعالى {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}
قيل وكل شيء في القرآن {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد أخبرنا به
وما فيه: {وَمَا يُدْرِيكَ} فلم يخبرنا به حكاه البخاري رحمه الله في تفسيره
واستدرك بعضهم عليه موضعا وهو قوله وما يدريك لعل الساعة قريب وقيل الإنفاق حيث
وقع القرآن فهو الصدقة إلا قوله تعالى:
{فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا
أَنْفَقُوا} فإن المراد به المهر وهو صدقة في الأصل تصدق الله بها على النساء
النوع الخامس: علم المتشابه
وقد صنف
فيه جماعة ونظمه السخاوي وصنف في توجيهه الكرماني كتاب البرهان والرازي درة
التأويل وأبو جعفر بن الزبير وهو أبسطها في مجلدين
وهو إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة ويكثر
في إيراد القصص والأنباء وحكمته التصرف في الكلام وإتيانه على ضروب ليعلمهم عجزهم
عن جميع طرق ذلك مبتدأ به ومتكررا وأكثر أحكامه تثبت من وجهين فلهذا جاء باعتبارين
وفيه فصول
الفصل الأول: المتشابه باعتبار الأفراد
الأول: باعتبار الأفراد وهو على أقسام:
الأول: أن يكون في موضع على نظم وفي آخر على
عكسه وهو يشبه رد العجز على الصدر ووقع في القرآن منه كثير ففي البقرة
{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} وفي الأعراف {وَقُولُوا
حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً}
وفي البقرة {وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} وفي الحج:
{وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى}
في البقرة والأنعام {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ
الْهُدَى} وفي آل عمران {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} في البقرة: {وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} وفي الحج {شَهِيداً عَلَيْكُمْ}
في البقرة {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} وباقي
القرآن {لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}
في البقرة
{لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} وفي إبراهيم {مِمَّا كَسَبُوا
عَلَى شَيْءٍ}
في آل عمران {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} وفي
الأنفال {ولتطمئن به قلوبكم}
في النساء {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ
لِلَّهِ} وفي المائدة {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}
في الأنعام {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
ء} وفي حم المؤمن {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}
في الأنعام {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وفي بني
إسرائيل {نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}
في النحل {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِر} وفي فاطر
{فِيهِ مَوَاخِرَ}
في بني إسرائيل {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي
هَذَا الْقُرْآنِ} وفي الكهف {فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ}
في بني إسرائيل {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ} وفي العنكبوت {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً}
في
المؤمنين {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} وفي النمل
{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ}
في القصص: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ
يَسْعَى} وفي يس {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى}
في آل عمران {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ
وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} وفي كهيعص {وَكَانَتِ
امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً}
الثاني: ما يشتبه بالزيادة والنقصان
ففي البقرة {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ
لَمْ تُنْذِرْهُمْ}
وفي يس {سَوَاءٌ} بزيادة واو لأن ما في البقرة جملة هي
خبر عن اسم إن وما في يس جملة عطفت بالواو على جملة
في البقرة {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} وفي
غيرها بإسقاط {مِّنْ} لأنها للتبعيض ولما كانت سورة البقرة سنام القرآن وأوله بعد
الفاتحة حسن دخول {مِّنْ} فيها ليعلم أن التحدي واقع على جميع القرآن من أوله إلى
آخره بخلاف غيرها من السور فإنه لو دخلها{مِّنْ}لكان التحدي واقعا على بعض السور
دون بعض ولم يكن ذلك بالسهل
في البقرة: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} وفي طه: {فَمَنْ
تَبِعَ هُدَايَ} لأجل قوله هناك {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ}
في
البقرة: {يُذَبِّحُونَ} بغير واو على أنه بدل من: {يَسُومُونَكُمْ} ومثله في
الأعراف: {يُقَتِّلُونَ} وفي إبراهيم {وَيُذَبِّحُونَ} بالواو لأنه من كلام موسى
عليه السلام يعدد المحن عليهم
في البقرة: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
وفي آل عمران: {وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
في البقرة: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً} ثم قال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً}
في البقرة {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وسائر ما في القرآن بإسقاط من وفيها: {وَلا
يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} وفي آل عمران:
{وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا
يُزَكِّيهِمْ}
قالوا: وجميع ما في القرآن من السؤال لم يقع عنه الجواب
بالفاء إلا قوله تعالى في طه: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا
رَبِّي نَسْفاً} الآية لأن الأجوبة في الجميع كانت بعد السؤال وفي طه كانت قبل
السؤال وكأنه قبل إن سئلت عن الجواب فقل في الأعراف: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحاً}بغير واو وليس في القرآن غيره
في البقرة: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} وفي الأنفال: {كُلُّهُ لِلَّهِ} في آل عمران: {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وفى المائدة: {بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} في آل عمران: {جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} بباء واحدة إلا في قراءة ابن عامر وفي فاطر {بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} بثلاث باءات، في آل عمران {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} وسائر ما في القرآن {هَؤُلاءِ} بإثبات الهاء، في النساء: {خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} بالواو وفي: {بَرَاءَةٌ} {ذَلِكَ} بغير واو. في النساء: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} وفي المائدة بزيادة: {مِنْهُ} في الأنعام: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} فكرر: {لَكُمْ} وقال في هود: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} لأنه تكرر لكم في قصته أربع مرات فاكتفى بذلك في الأنعام: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
وفي القلم: {بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} بزيادة الباء ولفظ الماضي وفي النجم {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} في الأنعام {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} وفي سورة المؤمنين بزيادة نموت وفيها أيضا: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ليس فيها غيره وفيها {جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} وفي فاطر{خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} بإثبات {فِي}، في الأعراف: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} وفي ص: {أَنْ تَسْجُدَ} وفي الحجر: {أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} فزاد: {لا} في الأعراف: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} بالفاء وكذا حيث وقع إلا في يونس في الأعراف: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} بغير واو وفي المؤمنين وهود: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} بالواو في الأعراف: {كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} وفي يونس بزيادة {بِهِ} {كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} في الأعراف: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} وفي الشعراء بزيادة: {بِسِحْرِهِ}
في هود: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا} وفي إبراهيم: {وَإَِّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا} في يوسف: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} وفي الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} في النحل: {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وفي العنكبوت: {مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} وكذلك حذف من من قوله: {لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} وفي الحج: {مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} في الحج: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} وفي السجدة: {مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} في النمل: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} وفي القصص: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} في العنكبوت: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً} وفي هود: {وَلَمَّا جَاءَتْ} بغير أن
في
العنكبوت: {فَأَحْيَا
بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} بزيادة {مِنْ} ليس غيره في سورة المؤمن:
{إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ} وفي طه: {آتِيَةٌ} في النحل: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ} وفي الأعراف {مِنْ دُونِهِ} في المؤمنين: {مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ
بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
وفي المؤمن بإسقاط ذكر الأخ في البقرة: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ}
وفي سورة إبراهيم: {وَيُذَبِّحُونَ} بالواو ووجهه أنه في سورة إبراهيم تقدم: {وَذَكِّرْهُمْ
بِأَيَّامِ اللَّهِ } وهي أوقات عقوبات إلى أن قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ
لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} واللائق أن يعدد امتحانهم تعديدا يؤذن بصدق الجمع عليه
لتكثير المنة ولذلك أتى بالعاطف ليؤذن بأن إسامتهم العذاب مغاير لتذبيح الأبناء
وسبي النساء وهو ما كانوا عليه من التسخير بخلاف المذكور في البقرة فإن ما بعد:
{يَسُومُونَكُمْ} تفسير له فلم يعطف عليه ولأجل مطابقة السابق جاء في الأعراف:
{يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ} ليطابق: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي
نِسَاءَهُمْ }
الثالث: التقديم والتأخير وهو قريب من الأول ومنه في
البقرة: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِكَ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} مؤخر وما سواه: {يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}
ومنه تقديم اللعب على اللهو في موضعين من سورة الأنعام
وكذلك في القتال والحديد
وقدم اللهو على اللعب في الأعراف والعنكبوت وإنما قدم
اللعب في الأكثر لأن اللعب زمان الصبا واللهو زمان الشباب وزمان الصبا متقدم على
زمان اللهو
تنبيه:
ما ذكره في الحدي: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا لَعِبٌ} أي كلعب الصبيان: {وَلَهْوٌ} أي كلهو الشباب: {وَزِينَةً}
كزينة النساء: {وَتَفَاخُرٌ} كتفاخر الإخوان: {وَتَكَاثُرٌ} كتكاثر السلطان
وقريب منه في تقديم اللعب على اللهو قوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ لَوْ
أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا
فَاعِلِينَ}
وقدم اللهو في الأعراف لأن ذلك يوم القيامة فذكر على
ترتيب ما انقضى وبدأ بما به الإنسان انتهى من الحالين
وأما العنكبوت فالمراد بذكرهما زمان الدنيا وأنه سريع
الانقضاء قليل البقاء: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي الحياة
التي لا أبد لها ولا نهاية لأبدها فبدأ بذكر اللهو لأنه في زمان الشباب وهو أكثر
من زمان اللعب وهو زمان الصبا
ومنه
تقديم لفظ الضرر على النفع في الأكثر لأن العابد يعبد معبودا خوفا من عقابه أولا
ثم طمعا في ثوابه
وحيث تقدم النفع على الضر فلتقدم ما يتضمن النفع وذلك في
سبعة مواضع ثلاثة منها بلفظ الاسم وهي في الأعراف والرعد وسبأ وأربعة بلفظ الفعل
وهي في الأنعام: {مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} وفي آخر يونس: {مَا لا
يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} وفي الأنبياء: {مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا
يَضُرُّكُمْ} وفي الفرقان: {مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} أما في الأعراف
فلتقدم قوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ} فقدم
الهداية على الضلال وبعد ذلك: {لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ
السُّوءُ} فقدم الخير على السوء وكذا قدم النفع على الضر أما في الرعد فلتقدم
الطوع في قوله: {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} أما في سبأ فلتقدم البسط في قوله:
{يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} وفي يونس قدم الضر على الأصل ولموافقة
ما قبلها فإن فيها: {مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا
يَنْفَعُهُمْ}
وفيها: {وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ الضُّرُّ} فتكون الآية ثلاث مرات
وكذلك ما جاء بلفظ الفعل فلسابقة معنى يتضمن نفعا
أما الأنعام ففيها: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} ثم وصله
بقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا}
وفي يونس تقدم قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ
حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} ثم قال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} وفي الأنبياء تقدم قول الكفار لإبراهيم في
المجادلة: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ} وفي الفرقان تقدم:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} نعما جمة في الآيات ثم قال:
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ}
فتأمل هذه المواضع المطردة التي هي أعظم اتساقا من
العقود ومن أمثلته قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ
شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} ثم قال
سبحانه في السورة: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً}
الآيةوفيها سؤالان:
أحدهما
:أنه سبحانه في الأولى قدم نفي قبول الشفاعة على أخذ العدل وفي الثاني قدم نفي
قبول العدل على الشفاعة
السؤال الثاني: أنه سبحانه وتعالى قال في الأولى: {وَلا
يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} وفي الثانية: {وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} فغاير بين
اللفظين فهل ذلك لمعنى يترتب عليه أو من باب التوسع في الكلام والتنقل من أسلوب
إلى آخر كما جرت عادة العرب؟
والجواب: أن القرآن الحكيم وإن اشتمل على النقل من أسلوب
إلى آخر لكنه يشتمل مع ذلك على فائدة وحكمة قال الله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ
فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ولم يقل من رحمن ولا رحيم للتنصيص على أنه
لا بد من الحكمة وهاتان الآيتان كلاهما في حق بني إسرائيل وكانوا يقولون إنهم
أبناء الأنبياء وأبناء أبنائهم وسيشفع لنا آباؤنا فأعلمهم الله أنه لا تنفعهم
الشفاعة ولا تجزي نفس عن نفس شيئا
وتعلق بهذه الآية المعتزلة على نفي الشفاعة كما ذكره
الزمخشري وأجاب عنها أهل السنة بأجوبة كثيرة ليس هذا محلها
وذكر الله في الآيتين النفس متكررة ثم أتى بضمير يحتمل
رجوعه إلى الأولى أو إلى الثانية وإن كانت القاعدة عود الضمير إلى الأقرب ولكن قد
يعود إلى غيره كقوله تعالى: { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلاً} فالضمير في التعزير والتوقير راجع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي التسبيح عائد إلى الله تعالى وهو متقدم على ذكر النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعاد الضمير على غير الأقرب
إذا علمت ذلك فقوله في الأولى {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا
شَفَاعَةٌ} الضمير راجع إلى
النفس
الأولى وهي الشفاعة لغيرها
فلما كان المراد في هذه الآية ذكر الشفاعة للمشفوع له
أخبر أن الشفاعة غير مقبولة للمشفوع احتقارا له وعدم الاحتفاء به وهذا الخبر يكون
باعثا للسامع في ترك الشفاعة إذا علم أن المشفوع عنده لا يقبل شفاعتة فيكون
التقدير على هذا التفسير: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ
مِنْهَا شَفَاعَةٌ} لو شفعت يعني وهم لا يشفعون فيكون ذلك مؤيسا لهم فيما زعموا أن
آباءهم الأنبياء ينفعونهم من غير عمل منهم
وقوله: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} إن جعلنا الضمير
في: {مِنْهَا} راجعا إلى الشافع أيضا فقد جرت العادة أن الشافع إذا أراد أن يدفع
إلى المشفوع عنده شيئا ليكون مؤكدا لقبول شفاعته فمن هذا قدم ذكر الشفاعة على دفع
العدل وإن جعلنا الضمير راجعا إلى المشفوع فيه فهو أحرى بالتأخير ليكون الشافع قد
أخبره بأن شفاعته قد قبلت فتقديم العدل ليكون ذلك مؤسسا لحصول مقصود الشفاعة وهو
ثمرتها للمشفوع فيه
وأما الآية الثانية: فالضمير في قوله {مِنْهَا عَدْلٌ}
راجع إلى النفس الثانية وهي النفس التي هي صاحبة الجريمة فلا يقبل منها عدل لأن
العادة بذل العدل من صاحب الجريمة يكون مقدما على الشفاعة فيه ليكون ذلك أبلغ في
تحصيل مقصوده فناسب ذلك تقديم العدل الذي هو الفدية من المشفوع له على الشفاعة
ففي هذه الآية بيان أن النفس المطلوبة بجرمها لا يقبل
منها عدل عن نفسها ولا تنفعها شفاعة شافع فيها وقد بذل العدل للحاجة إلى الشفاعة
عند من طلب ذلك منه ولهذا قال في الأولى {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} وفي
الثانية: {وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} لأن الشفاعة إنما تقبل من الشافع وتنفع
المشفوع له
وقال
الراغب إنما كرر {لا} فيهما
على سبيل الإنذار بالواعظ إذا وعظ لأمر فإنه يكرر اللفظ لأجله تعظيما للآمر قال
وأما تغييره النظم فلما كان قبول وأخذه وقبول الشفاعة ونفعها متلازمة لم يكن بين
اتفاق هذه العبارات واختلافها فرق في المعنى
وقال الإمام فخر الدين لما كان الناس متفاوتين فمنهم من
يختار أن يشفع فيه مقدما على العدل الذي يخرجه ومنهم من يختار العدل مقدما على الشفاعة
ذكر سبحانه وتعالى القسمين فقدم الشفاعة باعتبار طائفة وقدم العدل باعتبار أخرى
قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى الظاهر أنه سبحانه
وتعالى إنما نفى قبول الشفاعة لا نفعها ونفى أصل العدل الذي هو الفداء وبدأ
بالشفاعة لتيسيرها على الطالب أكثر من تحصيل العدل الذي هو الفداء على ما هو
المعروف في دار الدنيا وفي الآية الثانية أنه لما تقرر زيادة تأكيدها بدأ فيها
بالأعظم الذي هو الخلاص بالعدل وثنى بنفع الشفاعة فقال: {وَلا تَنْفَعُهَا
شَفَاعَةٌ} ولم يقل لا تقبل منها شفاعة وإن كان نفي الشفاعة يستلزم نفي قبولها لأن
الشفاعة تكون نافعة غير مقبولة وتنفع لأغراض من وعد بخير وإبدال المشفوع بغيره
فنفي النفع أعم فلم يكن بين نفي القبول ونفي النفع بالشفاعة تلازم كما ادعاه
الراغب وكان التقدير بالفداء الذي هو نفي قبول العدل ونفي نفع الشفاعة شيئين
مؤكدين لاستقرار ذلك في الآية الثانية
ومما يدل على أن نفي الشفاعة أمر زائد نفي قبولها أنه
سبحانه لما أخبر عن المشركين أخبر بنفي النفع لا بنفي القبول فقال: {فَمَا
تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وقال: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ
عِنْدَهُ} الآية
وفى الحديث الصحيح أنهم قالوا يا رسول الله هل نفعت عمك
أبا طالب؟
فقال: "وجدته فنقلته إلى ضحضاح من النار" مع علمهم أنه لا يشفع فيه فإن
قيل فقد قال في آخر السورة: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ
وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} فنفى الشفاعة ولم ينف نفعها
قيل: من باب زيادة التأكيد أيضا فإنه سبحانه ذكر في هذه الآية
الأسباب المنجية في الدنيا ونفاها هناك وهي إما البيع الذي يتوصل به الإنسان إلى
المقاصد أو الخلة التي هي كمال المحبة وبدأ بنفي المحبة لأنه أعم وقوعا من الصداقة
والمخالة وثنى بنفي الخلة التي هي سبب لنيل الأغراض في الدنيا أيضا وذكر ثالثا نفي
الشفاعة أصلا وهى أبلغ من نفي قبولها فعاد الأمر إلى تكرار الجمل في الآيات ليفيد
قوة الدلالة
الرابع: بالتعريف والتنكير كقوله في البقرة:
{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وفي آل عمران: {بِغَيْرِ حَقٍّ}
وقوله في البقرة: {هَذَا بَلَداً آمِناً} وفي سورة إبراهيم {هَذَا بَلَداً آمِناً}
لأنه للإشارة إلى قوله: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} ويكون {بَلَداً} هنا هو
المفعول الثاني و: {آمَنَّا} صفته وفى إبراهيم: {الْبَلَدَ} مفعول أول و:
{آمَنَّا} الثاني وقوله في آل عمران:
{وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ} وفى الأنفال: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقوله في حم السجدة: {فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وفي الأعراف:
{إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لأنها في حم مؤكدة بالتكرار بقوله:
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} فبالغ بالتعريف وليس هذا في سورة
الأعراف فجاء على الأصل المخبر عنه معرفة والخبر نكرة
الخامس بالجمع والإفراد كقوله في سورة البقرة: {لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} وفى آل عمران: {مَعْدُودَاتٍ}
لأن الأصل في الجمع إذا كان واحده مذكر أن يقتصر في
الوصف على التأنيث نحو: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} فجاء في البقرة على الأصل وفي
آل عمران على الفرع
السادس: إبدال حرف بحرف غيره كقوله تعالى في البقرة:
{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا} بالواو وفي الأعراف: {فَكُلا} بالفاء
وحكمته أن: {اسْكُنْ} في البقرة من السكون الذي هو الإقامة فلم يصلح إلا بالواو
ولو جاءت الفاء لوجب تأخير الأكل إلى الفراغ من الإقامة والذي في الأعراف من
المسكن وهو اتخاذ الموضع سكنا فكانت الفاء أولى لأن اتخاذ المسكن لا يستدعي زمنا
متجددا وزاد في البقرة: {رَغَداً} لقوله: {وَقُلْنَا} بخلاف سورة الأعراف فإن فيها: {قَالَ} وذهب قوم
إلى أن ما في الأعراف خطاب لهما قبل الدخول وما في البقرة بعد الدخول
ومنه قوله تعالى في البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا
هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا} بالفاء وفي الأعراف بالواو
في
البقرة: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ} ثم قال بعد ذلك: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ}
في البقرة: {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا
هُمْ يُنْصَرُونَ}. وفى غيرها: {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}
في البقرة: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} ، وفى آل عمران:
{عَلَيْنَا}
في الأنعام: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ
انْظُرُوا}، وفى غيرها: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا}
في الأعراف: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } بالواو وفى
غيرها بالفاء.
في الأعراف: {آمَنْتُمْ بِهِ} وفي الباقي: {آمَنْتُمْ
لَهُ}
في سورة الرعد: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً} وفى
لقمان: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} لا ثاني له
في الكهف: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ
رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا}، وفى السجدة: {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا}
في طه: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ}، بالفاء وفى السجدة:
{أَوَلَمْ يَهْدِ}
في القصص:
{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ}، وفى الشورى: {فَمَا أُوتِيتُمْ} بالفاء
في الطور: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، و:
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} ،
بالواو فيهما وفى الصافات: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى
بَعْضٍ}، وفى القلم: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ}، بالفاء فيهما كما أن: {وَبِئْسَ الْقَرَارُ}،
و{وَيُذَبِّحُونَ} بالواو
فيهما في إبراهيم
في الأعراف: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ}، وفي فاطر:
{إِلَى بَلَدٍ}
السابع إبدال كلمة بأخرى:
في البقرة: {مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}، وفي
لقمان: {وَجَدْنَا}
في البقرة: {فَانْفَجَرَتْ} وفي الأعراف: {فَانْبَجَسَتْ}
في البقرة: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ}، وفي الأعراف
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ}
في آل عمران {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ}
، وفي مريم: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ}، لأنه تقدم ذكره في {لأَهَبَ
لَكِ غُلاماً زَكِيّاً}
في
النساء: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ} ، وفى الأحزاب: { شَيْئاً أَوْ
تُخْفُوهُ}
في الأنعام: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ}، والثاني
{يُخْرِجُ} بالفعل
في الكهف: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي}، وفى حم:
{وَلَئِنْ رُجِعْتُ}
في طه: {فَلَمَّا أَتَاهَا} ، وفي النمل: {فَلَمَّا
جَاءَهَا}
في طه: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً}، وفي الزخرف:
{وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً}
في الأنبياء: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ
رَبِّهِمْ } ، وفي الشعراء {مِنَ الرَّحْمَنِ}
في النمل: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ} ،
وفى الزمر: {فَصَعِقَ}
في الأحزاب في أولها: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}،
وفيها: {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً}
بعد: {وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا}
{عَذَاباً أَلِيماً}، بعد { لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ} ،
و{عَذَاباً مُهِيناً} ، بعد
{يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}
{أَجْراً كَرِيماً} بعد: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ
سَلامٌ} ، و{رِزْقاً كَرِيماً}
بعد {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ}
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ}
موضعان في الأحزاب وفي سورة غافر: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ} وفي
البقرة: {وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} وفي النحل: {لِلْمُسْلِمِينَ} ، في
موضعين
في المائدة: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} وبالنون في الكهف
الثامن: الإدغام وتركه
في النساء والأنفال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ}، وفي
الحشر بالإدغام.
في الأنعام: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} وفي الأعراف:
{يَضَّرَّعُونَ}
الفصل
الثاني: ما جاء على حرفين
{لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}: في القرآن اثنان في
البقرة.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ }، اثنان في
يونس والنمل {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} ، في البقرة وفي آل عمران: {أَنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} ، وأما: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} فواحدة في البقرة
وكذلك فيها: {غَنِيٌّ حَلِيمٌ} ، وليس غيره
{الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} ، حرفان، في الزخرف وفي
الذاريات.
{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ
مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ، اثنان في قصة
نوح في هود والمؤمنون في السورتين بالفاء.
و{عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} اثنان في هود والزخرف
{مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} اثنان في العنكبوت
وسبأ وأما الذي في القصص فهو
{مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ} ، وباقي
القرآن: {وَيَقْدِرُ} فقط
{فَلَمَّا أَنْ} حرفان في يوسف: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ
الْبَشِيرُ} وفي القصص {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ}
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى} بالواو حرفان في
الأنعام وفي يونس: {فَمَنْ أَظْلَمُ} بالفاء
{أَعْرَضَ} حرفان في الكهف وفي السجدة إلا أن الأول:
{فَأَعْرَضَ} والثاني
{ثُمَّ أَعْرَضَ}
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} من غير تكرار الطاعة
حرفان وهما في آل عمران، :
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ
تَوَلَّوْا}{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
{وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} بغير تاء التأنيث حرفان
وهما في آل عمران
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ}، حرفان في آل عمران وفي
الأنفال
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ} بالفاء، حرفان في آل عمران وفي
الأنعام
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ} حرفان وهما في الأنعام
{لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ، حرفان في التوبة
وفي المنافقين
{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} بزيادة اللام حرفان في الحج:
{فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} حرفان في هود في قصة صالح وشعيب قال
بعض المشايخ ما كان فيه الصيحة فهو{دِيَارِهِمْ} على الجمع وما كان فيه الرجفة فهو
{دَارِهِمْ} بالتوحيد
{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ
أَوْلِيَاءَ} بتكرير من حرفان هما في هود.
{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} حرفان
في العنكبوت والزمر
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} بلفظ التوحيد
حرفان في الحجر والعنكبوت: {تَبِعَ} بإسقاط الألف حرفان في البقرة وآل عمران
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ
خَبِيراً} حرفان في الفرقان وفي آلم السجدة
{إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} حرفان في لقمان وحم عسق.
اللهو قبل
اللعب حرفان في الأعراف والعنكبوت
{أَوَلَمْ يَهْدِ} بالواو حرفان في الأعراف وآلم السجدة
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} حرفان في النحل والعنكبوت
{إ ِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
وَأَصْلَحُوا} بزيادة {مِنْ} حرفان في آل عمران والنور
{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} بغير من حرفان
في البقرة والنساء
{وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} حرفان في
آل عمران وفي الحديد.
{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} في الزمر
وحم عسق.
{هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
إخبارا عن الجماعة الغيب حرفان في الأعراف وسبأ
{أَمْوَاتٌ} بالرفع في البقرة: {أَمْوَاتٌ بَلْ
أَحْيَاءٌ} وفي النحل: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ}
الفصل
الثالث: ما جاء على ثلاثة أحرف
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} ثلاثة في القرآن في
الروم وفاطر والمؤمن.
{فَنَجَّيْنَاهُ} بالفاء في يونس والأنبياء والشعراء
{قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ثلاثة في الأعراف والنمل
والحاقة.
{لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} اثنان في الأعراف والثالث
في الأنفال.
{تَتَذَكَّرُونَ} بتائين متكررتين ثلاثة في الأنعام والم
السجدة والمؤمن.
{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} في البقرة
وآل عمران وإبراهيم.
{فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}
في النساء والتوبة والصف.
{وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} بزيادة الباء في أول البقرة وفي
النساء والتوبة ولكن هو فيهما بالنفي
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ} في البقرة
وفي المائدة وفي الصف
{فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} في البقرة اثنان والثالث في التين
والزيتون إلا أنه بإسقاط الهاء والميم
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} ، في هود والرعد
والمؤمن
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} ، في
البقرة ويوسف والمؤمن
{وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}، في هود ويوسف
والسجدة
{كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} ،
بزيادة من في الأنعام وص والم
السجدة لكن بلفظ {مِنَ الْقُرُونِ}
{أَجْمَعُونَ} بالواو في الحجر والشعراء وص
{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} في المائدة
والنور والحشر
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} في آل عمران
والمائدة ولقمان
{وَلَوْ شِئْنَا} ، في الأعراف والفرقان والم السجدة
{مِنْ ذُنُوبِكُمْ}، بزيادة من في إبراهيم والأحقاف ونوح
{مُبَيِّنَاتٍ} ، في النور اثنان والثالث في الطلاق
{لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ} ، في الرعد اثنان والثالث في
يونس
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} ، في الرعد والنحل
وفاطر {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ}، في الروم والتوبة والعنكبوت لكن
بالواو
{لَعَلِّي}، في الحج وسبأ ونون
{فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} ، في سبأ اثنان
وفي آخر فاطر
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} ، بواو في البقرة
والحجر وص
{وَنَزَّلْنَا}، ثلاثة أحرف في طه والنحل وق والباقي
وأنزلنا
{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ}، في المائدة ويونس والتغابن
{أَلَمْ يَرَوْا} ، بغير واو في النحل والنمل ويس
{أَمْوَاتاً} ، بالنصب في البقرة {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً}، وآل عمران {فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْوَاتاً} ، وفي المرسلات { أحياء وأمواتا}
{أَجَلاً} ، بالنصب في الأنعام وبني إسرائيل والمؤمن
{أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً}، بغير ذكر العظام في الرعد
والنمل وق
، {وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ}، في الرعد والروم والمؤمن
الفصل
الرابع: ما جاء على أربعة حروف
{مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ}، بتكرير
{مَنْ} في يونس والحج والنمل والزمر
{مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} ،
في المائدة اثنان في ص وآخر الزخرف
{أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} ، بإسقاط من في بني إسرائيل
والأنبياء والفرقان وسبأ
{أَهَؤُلاءِ} ، بألف قبل الهاء في المائدة والأنعام
والأعراف وسبأ
{مِنْ تَحْتِهِمْ}، في الأنعام والأعراف ويونس والكهف
وأما {تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} ، فموضع واحد في براءة
{أَوْ أَنْ} ، بهمزة قبل الواو في هود {أَوْ أَنْ
نَفْعَلَ}، وفي بني إسرائيل {أَوْ إِنْ
يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ}، وفي طه {أَوْ أَنْ يَطْغَى} ،
وفى المؤمن {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ}،
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}، في النساء اثنان وفي
الأحزاب والإنسان
{آبَاؤُهُمْ} ، بالرفع في البقرة {أَوَلَوْ كَانَ
آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً}،
وفي المائدة {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ
شَيْئاً}، وفي هود {إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ} وفي يس {لِتُنْذِرَ قَوْماً
مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} ،
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} في الأعراف وفي يونس اثنان
منها وفي الحج
{نُصَرِّفُ الآياتِ} في الأنعام ثلاثة والرابع في
الأعراف
{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} في
المائدة والأنعام والقصص والأحقاف
{مُبَارَكاً} بالنصب في آل عمران ومريم والمؤمنين وق
{مُبَارَكٌ} ، في الأنعام اثنان وفي الأنبياء وص
{مَا كَسَبَتْ} بحذف الباء من أوله في البقرة وآل عمران
اثنان وفي إبراهيم
{مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} بإثبات الهمزة قبل الواو في
آل عمران والنساء والنحل وغافر
{أَلَمْ يَرَوْا} بغير واو في الأنعام والأعراف والنمل
ويس
{وَلَبِئْسَ}
في البقرة اثنان {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ}
و{وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} وفي الحج {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} وفي النور {وَلَبِئْسَ
الْمَصِيرُ} وأما {فَلَبِئْسَ} بالفاء فموضع واحد في النحل {فَلَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ}
{إِلاَّ قَلِيلٌ} بالرفع في النساء والتوبة وهود والكهف
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا} في يوسف وفي الحج وفي المؤمن وفي
القتال
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} في الأنعام {قُلْ سِيرُوا
فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا}
وليس في القرآن ثم غيره وفي النمل {قُلْ سِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَانْظُرُوا} وكذا في العنكبوت والروم
{أَفَرَأَيْتَ} بالفاء بعد الهمزة في مريم والشعراء
والجاثية والنجم اللعب قبل اللهو في الأنعام اثنان وفي القتال والحديد
{لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} بلفظ الجمع في البقرة
والرعد والروم والنحل
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} على لفظ الجمع
في يونس
{لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} بالتوحيد في النحل كذلك
وبالجمع في الروم والم السجدة
{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} في مريم
والعنكبوت ويس والأحقاف
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} في هود والنحل اثنان وفي الزخرف
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ} في البقرة وبني إسرائيل
والكهف وطه
والأنبياء والنبيين بغير حق في آل عمران {النَّبِيِّينَ
بِغَيْرِ حَقٍّ}
وفيها {وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} وفيها أيضا
{وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } وفي النساء فأما الذي في البقرة {وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فليس له نظير
الفصل
الخامس: ما جاء على خمسة حروف
{حَكِيمٌ عَلِيمٌ} في الأنعام ثلاثة والرابع في الحجر
والخامس في النمل
{مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} في الأنفال اثنان وفي
الحج والنور وسبأ
الأرض قبل السماء في آل عمران ويونس وإبراهيم وطه
والعنكبوت
{لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} بلفظ الجمع في الرعد
والروم والزمر والجاثية وبلفظ التوحيد في النحل
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} بتكرير
الطاعة في النساء والمائدة والنور والقتال والتغابن
{وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} منها حرفان بالواو في
التوبة {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وكذلك في المؤمن والباقي بلا واو في
يونس والدخان والحديد
الفصل السادس: ما جاء على ستة أحرف
{فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} في الأنعام
والنحل والنمل والعنكبوت والروم والزمر
{وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} منها بواو واحد في
النساء {خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وفي المائدة {ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ومثله في التوبة موضعان والصف والتغابن
{فَمَنْ أَظْلَمُ} بالفاء في الأنعام موضعان والأعراف
ويونس والكهف والزمر
{وَيَسْأَلونَكَ} بالواو ثلاث في البقرة وبني إسرائيل
والكهف وطه
{فَبِئْسَ} بالفاء في ص اثنان وفي الزمر وفى غافر
والزخرف والمجادلة
{نَزَّلْنَا} بغير واو في البقرة والنساء والأنعام موضعان
والحجر والإنسان
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} في آل عمران ثلاثة وفي
المائدة ثلاثة
الفصل السابع: ما جاء على سبعة حروف
{لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} في البقرة وإبراهيم والقصص
ثلاثة مواضع والزمر والدخان
{السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} في مريم
والشعراء والصافات وص موضعان والزخرف والدخان
المرأة مكتوبة بالتاء في سبعة مواضع في آل عمران وفي
يوسف موضعان {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} وفي القصص
{امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} وفي التحريم ثلاثة مواضع
الفصل
الثامن: ما جاء على ثمانية حروف
النفع قبل الضر في الأنعام والأعراف ويونس والرعد
والأنبياء والفرقان والشعراء وسبأ
{يتَذَكَّرُ} بتاء في الرعد وطه والملائكة وص والزمر
والمؤمن والنازعات والفجر
الفصل التاسع: ما جاء على تسعة حروف
{مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} بغير تكرار من في
آل عمران والرعد وفى بني إسرائيل ومريم والأنبياء والنور والنمل والروم والرحمن
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} بالهاء والميم في
الأنعام والأعراف والأنفال ويونس والقصص موضعان والزمر والذي في الدخان والطور
{يَكُ} بالياء من غير نون بعد الكاف في الأنفال والتوبة
والنحل ومريم والمؤمن موضعان وفى المدثر موضعان بالنون في أوله وفى القيامة {أَلَمْ
يَكُ نُطْفَةً}
الفصل العاشر: ما جاء على عشرة أحرف
{وَلَمَّا} ، بالواو في هود ويوسف وفى غيرهما بالفاء في
هود أربعة أحرف وفي يوسف ستة
{أَنْ لا}، تكتب في المصحف بالنون منفصلة عشرة في
الأعراف موضعان والتوبة وفى هود موضعان والحج ويس والدخان والممتحنة والقلم
الفصل
الحادي عشر: ما جاء على أحد عشر حرفا
أحد عشر {جَنَّاتِ عَدْنٍ} في التوبة والرعد والنحل
والكهف ومريم وطه والملائكة وص والمؤمن والصف ولم يكن
{مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} في البقرة والنساء
والأنعام ويونس والنحل والنور والعنكبوت ولقمان والحديد والحشر والتغابن
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} في النساء ثلاثة مواضع
والمائدة والتوبة موضعان والأحزاب والتغابن والطلاق والجن والبرية
{وَتِلْكَ} بالواو في البقرة وآل عمران والأنعام وهود
والكهف والشعراء والعنكبوت والزخرف والمجادلة والحشر والطلاق
{نِعْمَتَ اللَّهِ} كتبت بالتاء في أحد عشر موضعا في
البقرة
{اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وفي آل عمران
والمائدة وإبراهيم موضعان والنحل ثلاثة مواضع ولقمان وفاطر والطور
{ في ما} كتبت منفصلة في أحد عشر موضعا
في البقرة: {فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ
مَعْرُوفٍ}
وفي المائدة: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}
وفي الأنعام: {فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ } وفيها أيضا:
{لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}
وفي الأنبياء: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ
خَالِدُونَ}
وفي النور: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ}
وفي الشعراء: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ}
وفي الروم: {شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ}
وفي الزمر: {فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
وفيها أيضا: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا
كَانُوا}
وفي الواقعة: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ}
الفصل الثاني
عشر: ما جاء على خمسة عشر وجها
{جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ليس فيها
خالدين في البقرة موضعان وآل عمران والمائدة والرعد والنحل والحج موضعان والفرقان
والزمر والقتال والفتح والصف والتحريم والبروج
{السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} بالتوحيد في البقرة والأعراف
ويونس والأنبياء موضعان وفي الحج والنمل موضعان والروم وسبأ والملائكة وص والدخان
والذاريات والحديد
الفصل الثالث عشر: ما جاء على ثمانية عشر وجه
{أَكُ} {نَكُ} و{يَكُ} و{تَكُ} بحروف المضارعة في أولها
وبغير نون في آخرها في النساء {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً}
والأنفال
{لَمْ يَكُ مُغَيِّراً}
وفي التوبة: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ}
وفي هود موضعان {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ
هَؤُلاءِ} ، {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ}
وفي النحل موضعان: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، {وَلا
تَكُ فِي ضَيْقٍ}
وفي مريم: ثلاثة مواضع وفي لقمان وغافر أربع مواضع وفي
المدثر موضعان وفي القيامة
الفصل الرابع عشر: فيما جاء على عشرين وجها
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} على التوحيد في البقرة وآل
عمران وهود والحجر وفي النحل خمسة أحرف بالتوحيد وفي الشعراء ثمانية في النمل
والعنكبوت وسبأ
الفصل
الخامس عشر: ما جاء على ثلاثة وعشرين حرفا
وذلك {نَزَّلَ} و{نْزِلَ}
في البقرة {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ}
وفي آل عمران {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}
وفي النساء موضعان {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى
رَسُولِهِ}، {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ}
وفي الأنعام {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ
مِنْ رَبِّهِ}
وفي الأعراف موضعان: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ
سُلْطَانٍ} {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ}
وفي الحجر: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ
الذِّكْرُ}
وفي النحل: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ}
وفي بني إسرائيل {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}
وفي الفرقان ثلاثة مواضع أولها {تَبَارَكَ الَّذِي
نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ
الْقُرْآنُ}
وفي
الشعراء {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}
وفي العنكبوت {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} وليس في القرآن
{مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} بزياده من غيره
وفي الصافات {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ}
وفي الزمر {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}
وفي الزخرف موضعان {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا
الْقُرْآنُ}{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ}
وفى القتال موضعان {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى
مُحَمَّدٍ} {مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ}
وفى الحديد {مَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} وفى تبارك {مَا
نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}
النوع السادس: علم المبهمات
وقد صنف
فيه أبو القاسم السهيلى كتابه المسمى بالتعريف والإعلام وتلاه تلميذه ابن عساكر في
كتابه المسمى بالتكميل والإتمام
وهو المبهمات المصنفة في علوم الحديث وكان في السلف من
يعنى به قال عكرمة طلبت الذي خرج في بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم أدركه الموت
أربع عشرة سنة
إلا أنه لا يبحث فيما أخبر الله باستئثاره بعلمه كقوله
{وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} والعجب ممن
تجرأ وقال قيل إنهم قريظة وقيل من الجن
وله أسباب:
الأول: أن
يكون أبهم في موضع استغناء ببيانه في آخر في سياق الآية كقوله تعالى {مَالِكِ
يَوْمِ الدِّينِ} بينه بقوله {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} الآية
وقوله: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وبينه بقوله:
{مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}
وقوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} والمراد آدم والسياق بينه
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} والمراد بهم المهاجرون لقوله في الحشر
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ}
وقد احتج بها الصديق على الأنصار يوم السقيفة فقال نحن
الصادقون وقد أمركم الله أن تكونوا معنا أي تبعا لنا وإنما استحقها دونهم لأنه
الصديق الأكبر
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ
آيَةً} يعني مريم وعيسى وقال {آيَةً} ولم يقل آيتين وهما آيتان لأنها قضية واحدة
وهي ولادتها له من غير ذكر
والثاني: أن يتعين لاشتهاره كقوله {اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ولم يقل حواء لأنه ليس غيرها
وكقوله
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} والمراد النمروذ
لأنه المرسل أليه
وقوله: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ}
والمراد العزيز
وقوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ
بِالْحَقِّ} ، والمراد قابيل وهابيل
وقوله: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ
أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}
قالوا:
وحيثما جاء في القرآن {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} فقائلها
النضر بن الحارث بن كلدة وإنما كان يقولها لأنه دخل بلاد فارس وتعلم الأخبار ثم
جاء وكان يقول أنا أحدثكم أحسن مما يحدثكم محمد وإنما يحدثكم أساطير الأولين وفيه
نزل: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقتله النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صبرا يوم بدر
وقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} فإنه ترجح
كونه مسجد قباء بقوله: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} لأنه أسس قبل مسجد المدينة وحدس هذا
بأن اليوم قد يراد به المدة والوقت وكلاهما أسس على هذا من أول يوم أي من أول عام
من الهجرة وجاء في الحديث تفسيره بمسجد المدينة وجمع بينهما بأن كليهما مراد الآية
الثالث: قصد الستر عليه ليكون أبلغ في استعطافه، ولهذا
كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا
بلغه عن
قوم شيء خطب فقال: "ما بال رجال قالوا كذا" وهو غالب ما في القرآن كقوله
تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} قيل هو مالك بن الصيف
وقوله {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ
كَمَا سُئِلَ مُوسَى} والمراد هو رافع بن حريملة ووهب بن زيد
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً
مِنَ الْكِتَابِ}
وقوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}
الرابع:
ألا يكون في تعيينه كثير فائدة كقوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى
قَرْيَةٍ} والمراد بها بيت المقدس
{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} والمراد أيلة وقيل
طبرية
{فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ} والمراد نينوى
{أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} قيل برقة
فإن قيل ما الفائدة في قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
لأَبِيهِ آزَرَ}
قيل: آزر اسم صنم وفي الكلام حذف أي دع آزر وقيل كلمة زجر وقيل بل
هو اسم أبيه وعلى هذا فالفائدة أن الأب يطلق على الجد فقال آزر لرفع المجاز
الخامس:
التنبيه على التعميم وهو غير خاص بخلاف مالو عين كقوله
تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ،
قال: عكرمة
أقمت أربع عشرة سنة أسال عنه حتى عرفته هو ضمرة بن العيص وكان من المستضعفين بمكة
وكان مريضا فلما نزلت آية الهجرة خرج منها فمات بالتنعيم
وقوله {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
سِرّاً وَعَلانِيَةً} قيل نزلت في علي كان معه أربع دوانق فتصدق بواحد بالنهار
وآخر بالليل وآخر سرا وآخر علانية
وقوله:
{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} قيل نزلت في عدي بن حاتم كان
له كلاب خمسة قد سماها بأسماء أعلام
السادس: تعظيمه بالوصف الكامل دون الاسم كقوله: {وَلا
يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} والمراد الصديق
وكذلك:
{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} يعني محمدا {وَصَدَّقَ
بِهِ} يعنى أبا بكر ودخل في الآية كل مصدق ولذلك قال {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}
السابع تحقيره بالوصف الناقص كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآيَاتِنَا}
وقوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} والمراد فيها
العاص بن وائل
وقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} والمراد الوليد بن عقبة
بن أبي معيط
وأما قوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} فذكره هنالك
للتنبيه على أن ما له للنار ذات اللهب
تنبيهات
الأول:
قد يكون للشخص اسمان فيقتصر على أحدهما دون الآخر لنكتة
فمنه قوله تعالى في مخاطبة الكتابيين {يَا بَنِي إِسْرائيلَ} ولم يذكروا في القرآن
إلا
بهذا دون
يا بني يعقوب وسره أن القوم لما خوطبوا بعبادة الله وذكروا بدين أسلافهم موعظة لهم
وتنبيها من غفلتهم سموا بالاسم الذي فيه تذكرة بالله فإن إسرائيل اسم مضاف إلى
الله سبحانه في التأويل ولهذا لما دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوما إلى الإسلام يقال لهم بنو عبد الله قال يا بني عبد الله إن الله قد حسن اسم
أبيكم يحرضهم بذلك على ما يقتضيه اسمه من العبودية ولما ذكر موهبته لإبراهيم
وتبشيره به قال يعقوب وكان أولى من إسرائيل لأنها موهبة تعقب أخرى وبشرى عقب بها
بشرى فقال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} وإن
كان اسم يعقوب عبرانيا لكن لفظه موافق للعربي من العقب والتعقيب فانظر مشاكلة
الاسمين للمقامين فإنه من العجائب
وكذلك حيث ذكر الله نوحا سماه به واسمه عبد الغفار
للتنبيه على كثرة نوحه على نفسه في طاعة ربه ومنه قوله تعالى حاكيا عن عيسى
{وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} ولم يقل محمد
لأنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد حمد ربه فنبأه وشرفه فلذلك تقدم على محمد فذكره
عيسى به
ومنه أن مدين هم أصحاب الأيكة إلا أنه سبحانه حيث اخبر
عن مدين قال أخاهم شعيبا وحيث أخبر عن الأيكة لم يقل أخوهم والحكمة فيه
أنه لما
عرفها بالنسب وهو أخوهم في ذلك النسب ذكره ولما عرفهم بالأيكة التي أصابهم فيها
العذاب لم يقل أخوهم وأخرجه عنهم
ومنه:
{وَذَا النُّونِ} فأضافه إلى الحوت والمراد يونس وقال في
سورة القلم {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} والإضافة بذي أشرف من الإضافة بصاحب
ولفظ النون أشرف من الحوت ولذلك وجد في حروف التهجي كقوله {نْ وَالْقَلَمِ} وقد
قيل إنه قسم وليس في الآخر ما يشرفه بذلك
ومنه قوله تعالى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} فعدل عن
الاسم إلى الكنية إما لاشتهاره بها أو لقبح الاسم فقد كان اسمه عبد العزى
واعلم أنه لم يسم الله قبيلة من جميع قبائل العرب باسمها
إلا قريشا سماهم بذلك في القرآن ليبقى على مر الدهور ذكرهم فقال تعالى: {لإِيلافِ
قُرَيْشٍ}
الثاني:
أنه قد بالغ في الصفات للتنبيه على أنه يريد إنسانا
بعينه كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ
بِنَمِيمٍ} الآية قيل إنه الأخنس بن شريق
وقوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} قيل إنه أمية
بن خلف كان يهمز النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الثالث: قيل لم يذكر الله تعالى امرأة في
القرآن وسماها باسمها إلا مريم بنت عمران فإنه ذكر اسمها في نحو ثلاثين موضعا
لحكمة ذكرها بعض الأشياخ قال إن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم ولا يبتذلون
أسماءهم يكنون عن الزوجة بالعرس والعيال والأهل ونحوه فإذا ذكروا الإماء لم يكنوا
عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر والتصريح بها فلما قالت النصارى في مريم وفى
أبنها ما قالت صرح الله تعالى باسمها ولم يكن عنها تأكيدا لأمر العبودية التي هي
صفة لها وإجراء للكلام على عادة العرب في ذكر أبنائها ومع هذا فإن عيسى لا أب له
واعتقاد هذا واجب فإذا تكرر ذكره منسوبا إلى الأم استشعرت القلوب ما يجب عليها
اعتقاده من نفى الأب عنه وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود لعنهم الله
الرابع: وأما الرجال فذكر منهم كثيرا وقد قيل في قوله
تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} إنه الوليد بن المغيرة وقد سمى الله
زيدا في سورة الأحزاب للتصريح بأنه ليس بابن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأضيف إلى ذلك السجل قيل إنه كان يكتب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأنه المراد بقوله تعالى: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}
النوع السابع: في أسرار الفواتح والسور
اعلم أن
سور القرآن العظيم مائة وأربع عشرة سورة وفيها يلغز فيقال أي شيء إذا عددته زاد
على المائة وإذا عددت نصفه كان دون العشرين؟
وقد افتح سبحانه وتعالى كتابه العزيز بعشرة أنواع من
الكلام لا يخرج شيء من السور عنها
الاستفتاح بالثناء
الأول: استفتاحه بالثناء عليه عز وجل والثناء قسمان
إثبات لصفات المدح ونفي وتنزيه من صفات النقص
والإثبات نحو {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في خمس سور
و{تَبَارَكَ} في سورتين الفرقان {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} والملك {تَبَارَكَ
الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}
والتنزيه
نحو {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} كلاهما في سبع سور
فهذه أربع عشرة سورة استفتحت بالثناء على الله لثبوت صفات الكمال ونصفها لسلب
النقائص
قلت وهو سر عظيم من أسرار الألوهية قال صاحب العجائب سبح
لله هذه كلمة استأثر الله بها فبدأ بالمصدر منها في بني إسرائيل لأنه الأصل ثم
الماضي سبح لله في الحديد والحشر والصف لأنه أسبق الزمانين ثم المستقبل في الجمعة
والتغابن ثم بالأمر في سورة الأعلى استيعابا لهذه الكلمة من جميع جهاتها وهى أربع
المصدر والماضي والمستقبل والأمر المخاطب فهذه أعجوبة وبرهان
2 الاستفتاح بحروف التهجي
الثاني استفتاح السور بحروف التهجي نحو الم المص المر
كهيعص طه طس طسم حم حمعسق ق ن وذلك في تسع وعشرين سورة
قال الزمخشرى وإذا تأملت الحروف التي افتتح الله بها
السور وجدتها نصف
أسامي
حروف المعجم أربعة عشر الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء
والعين والطاء والسين والخاء والقاف والنون في تسع وعشرين عدد حروف المعجم ثم
تجدها مشتملة على أصناف أجناس الحروف المهموسة والمجهورة والشديدة والمطبقة
والمستعلية والمنخفضة وحروف القلقلة ثم إذا استقريت الكلام تجد هذه الحروف هي أكثر
دورا مما بقي ودليله أن الألف واللام لما كانت أكثر تداورا جاءت في معظم هذه
الفواتح فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته انتهى
قيل وبقى عليه من الأصناف الشديدة والمنفتحة وقد ذكر
تعالى نصفها أما حروف الصفير فهي ثلاثة ليس لها نصف فجاء منها السين والصاد ولم
يبق إلا الزاي وكذلك الحروف اللينة ثلاثة ذكر منها اثنين الألف والياء أما المكرر
وهو الراء والهاوي وهو الألف والمنحرف وهو اللام فذكرها
ولم يأت خارجا عن هذا النمط إلا ما بين الشديدة والرخوة
فإنه ذكر فيه أكثر من النصف وهذا التداخل موجود في كل قسم قبله ولولاه لما انقسمت
هذه الأقسام كلها
ووهم الزمخشري في عدد حروف القلقلة إنما ذكر نصفها فإنها
خمسة ذكر منها حرفان القاف والطاء
وقال
القاضي أبو بكر إنما جاءت على نصف حروف المعجم كأنه قيل من زعم أن القرآن ليس بآية
فليأخذ الشطر الباقي ويركب عليه لفظا معارضة للقرآن وقد علم ذلك بعض أرباب الحقائق
واعلم أن الأسماء المتهجاة في أول السور ثمانية وسبعون
حرفا فالكاف والنون كل واحد في مكان واحد والعين والياء والهاء والقاف كل واحد في
مكانين والصاد في ثلاثة والطاء في أربعة والسين في خمسة والراء في ستة والحاء في
سبعة والألف واللام في ثلاثة عشر والميم في سبعة عشر وقد جمع بعضهم ذلك في بيتين
وهما
كن واحد عيهق اثنان ثلاثة صا ... د الطاء أربعة والسين
خمس علا
والراء ست وسبع الحاء آل ودج ... وميمها سبع عشر تم
واكتملا
وهى في القرآن في تسعة وعشرين سورة وجملتها من غير تكرار
أربعة عشر حرفا يجمعها قولك نص حكيم قاطع له سر
وجمعها السهيلي في قوله الم يسطع نور حق كره
وهذا الضابط في لفظه ثقل وهو غير عذب في السمع ولا في
اللفظ ولو قال لم يكرها نص حق سطح لكان أعذب
ومنهم من ضبط بقوله طرق سمعك النصيحة وصن سرا يقطعك حمله
وعلى صراط حق يمسكه وقيل من حرص على بطه كاسر وقيل سر حصين قطع كلامه
ثم بنيتها ثلاثة حروف موحدة ص ق ن وعشرة مثنى طه طس يس
حم واثنا عشر مثلثة الحروف الم الر طسم واثنان حروفها أربعة المص المر واثنان
حروفها خمسة كهيعص حمعسق
وأكثر هذه السور التي ابتدئت بذكر الحروف ذكر منها ما هو
ثلاثة أحرف وما هو أربعة أحرف سورتان وما ابتدئ بخمسة أحرف سورتان
وأما ما
بدئ بحرف واحد فاختلفوا فيه فمنهم من لم يجعل ذلك حرفا وإنما جعله اسما لشيء خاص
ومنهم من جعله حرفا وقال أراد أن يتحقق الحروف مفردها ومنظومتها
فأما ما ابتدئ بثلاثة أحرف ففيه سر وذلك أن الألف إذا
بدئ بها أولا كانت همزة وهي أول المخارج من أقصى الصدر واللام من وسط مخارج الحروف
وهي أشد الحروف اعتمادا على اللسان والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم وهذه
الثلاثة هي أصل مخارج الحروف أعني الحلق واللسان والشفتين وترتبت في التنزيل من
البداية إلى الوسط إلى النهاية
فهذه الحروف تعتمد المخارج الثلاثة التي يتفرع منها ستة
عشر مخرجا ليصير منها تسعة وعشرون حرفا عليها مدار كلام الخلق أجمعين مع تضمنها
سرا عجيبا وهو أن الألف للبداية واللام للتوسط والميم للنهاية فاشتملت هذه الأحرف
الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما
وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف فهي مشتملة على مبدأ الخلق
ونهايته وتوسطه مشتملة على خلق العالم وغايته وعلى التوسط بين البداية من الشرائع
والأوامر فتأمل ذلك في البقرة وآل عمران وتنزيل السجدة وسورة الروم
وأيضا فلأن الألف واللام كثرت في الفواتح دون غيرها من
الحروف لكثرتها في الكلام
وأيضا من أسرار علم الحروف أن الهمزة من الرئة فهي أعمق
الحروف واللام مخرجها من طرف اللسان ملصقة بصدر الغار الأعلى من الفم فصوتها يملأ
ما وراءها من هواء الفم والميم مطبقة لأن مخرجها من الشفتين إذا أطبقا ويرمز بهن
إلى باقي الحروف كما رمز
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله
إلا الله" إلى الإتيان بالشهادتين وغيرهما مما هو من لوازمهما
وتأمل اقتران الطاء بالسين والهاء في القرآن فإن الطاء
جمعت من صفات الحروف خمس صفات لم يجمعها غيرها وهي
الجهر والشدة والاستعلاء والإطباق والإصمات والسين مهموس
رخو مستفل صفير منفتح فلا يمكن أن يجمع إلى الطاء حرف يقابلها كالسين والهاء فذكر
الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف
وتأمل السورة التي اجتمعت على الحروف المفردة كيف تجد
السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف فمن ذلك: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} فإن السورة مبنية
على الكلمات القافية من ذكر القرآن ومن ذكر الخلق وتكرار القول ومراجعته مرارا
والقرب من ابن آدم وتلقي الملكين وقول العتيد وذكر الرقيب وذكر السابق والقرين
والإلقاء في جهنم والتقدم بالوعد وذكر المتقين وذكر القلب والقرن والتنقيب في
البلاد وذكر القتل مرتين وتشقق الأرض وإلقاء الرواسي فيها وبسوق النخل والرزق وذكر
القوم وخوف الوعيد وغير ذلك
وسر آخر وهو أن كل معاني السورة مناسب لما في حرف القاف
من الشدة والجهر والقلقلة والانفتاح وإذا أردت زيادة إيضاح فتأمل ما اشتملت عليه
سورة ص من الخصومات المتعددة فأولها خصومة الكفار مع النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقولهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ
ِإلَهاً
وَاحِداً} إلى آخر كلامهم ثم اختصام الخصمين عند داود ثم تخاصم أهل النار ثم
اختصام الملأ الأعلى في العلم وهو الدرجات والكفارات ثم تخاصم إبليس واعتراضه على
ربه وأمره بالسجود ثم اختصامه ثانيا في شأن بنيه وحلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل
الإخلاص منهم
وكذلك سورة: {نْ وَالْقَلَمِ} فإن فواصلها كلها على هذا
الوزن مع ما تضمنت من الألفاظ النونية
وتأمل سورة الأعراف زاد فيها ص لأجل قوله: {فَلا يَكُنْ
فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} وشرح فيها قصص آدم فمن بعده من الأنبياء ولهذا قال بعضهم معنى
المص: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وقيل معناه المصور وقيل أشار بالميم لمحمد
وبالصاد للصديق وفيه إشارة لمصاحبة الصاد الميم وأنها تابعة لها كمصاحبة الصديق
لمحمد ومتابعته له
وجعل السهيلي هذا من أسرار الفواتح وزاد في الرعد راء
لأجل قوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} ولأجل ذكر الرعد والبرق
وغيرهما
واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر
بعدها ما يتعلق بالقرآن كقوله: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} وقد جاء بخلاف ذلك في
العنكبوت والروم فيسأل عن حكمة ذلك.
تنبيهات
ثم لا بد من التنبيه على أحكام تختص بهذه الفواتح
الشريفة
الأول: أن البصريين لم يعدوا شيئا منها آية وأما
الكوفيون فمنها ما عدوه آية ومنها
ما لم
يعدوه آية وهو علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور أما الم فآية حيث وقعت
من السور المفتتحة بها وهي ست وكذلك المص آية والمر لم تعد آية والر ليست بآية من
سورها الخمس وطسم آية في سوريتيها وطه ويس آيتان وطس ليست بآية وحم آية في سورها
كلها وحم عسق آيتان وكهيعص آية واحدة وص وق ون لم تعد واحدة منها آية وإنما عد ما
هو في حكم كلمة واحدة آية كما عد الرحمن وحده ومداهمتان وحدها آيتين على طريق
التوقيف:
وقال الو احدي في البسيط في أول سورة يوسف لا يعد شيء
منها آية إلا في طه وسره أن جميعها لا يشاكل ما بعده من رءوس الآي فلهذا لم يعد
آية بخلاف طه فإنها تشاكل ما بعدها
الثاني: هذه الفواتح الشريفة على ضربين
أحدهما: امالا يتأتى فيه إعراب نحو كهيعص والم
والثاني:
ما يتأتى فيه وهو إما أن يكون اسما مفردا كص وق ون أو
أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد ك حم وطس ويس فإنها موازنة لقابيل وهابيل وكذلك
طسم يتأتى فيها أن تفتح نونها فتصير ميم مضمومة إلى طس فيجعلا اسما واحدا كدار
انجرد فالنوع الأول محكي ليس إلا وأما النوع الثاني فسائغ فيه الأمران الإعراب
والحكاية
الثالث:
أنه يوقف على جميعها وقف التمام إن حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده
وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور وينعق بها كما ينعق بالأصوات أو جعلت وحدها أخبار
ابتداء محذوف كقوله تعالى: {الم اللَّهُ} أي هذه السورة آلم ثم ابتدأ فقال:
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
الرابع: أنها كتبت في المصاحف الشريفة على صورة الحروف
أنفسها لا على صورة أساميها وعلل ذلك بأن الكلمة لما كانت مركبة من ذوات الحروف
واستمرت العادة متى تهجيت ومتى قيل للكاتب اكتب كيت وكيت أن يلفظ بالأسماء وتقع في
الكتابة الحروف أنفسها فحمل على ذلك للمشاكلة المألوفة في كتابة هذه الفواتح وأيضا
فإن شهرة أمرها وإقامة ألسنة الأحمر والأسود لها وأن اللافظ بها غير متهجاة لا
يجيء بطائل فيها وأن بعضها مفرد لا يخطر ببال غير ما هو عليه من مورده أمنت وقوع
اللبس فيها وقد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياسات التي يبنى عليها علم
الخط والهجاء ثم ما عاد ذلك بنكير ولا نقصان لاستقامة اللفظ وبقاء الحفظ وكان
اتباع خط المصحف سنة لا تخالف أشار إلى هذه الأحكام المذكورة صاحب الكشاف
وقد اختلف الناس في الحروف المقطعة أوائل السور على
قولين:
أحدهما: أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر
الله به ولهذا قال الصديق رضي الله عنه في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور
قال الشعبي إنها من المتشابه نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله عز وجل.
قال الإمام الرازي وقد أنكر المتكلمون هذا القول وقالوا
لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لا يفهمه الخلق لأن الله تعالى أمر بتدبره
والاستنباط منه وذلك لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه ولأنه كما جاز التعبد بما لا
يعقل معناه في الأفعال فلم لا يجوز في الأقوال بأن يأمرنا الله تارة بأن نتكلم بما
نقف على معناه وتارة بما لا نقف على معناه ويكون القصد منه ظهور الانقياد والتسليم.
القول الثاني أن المراد منها معلوم وذكروا فيه ما يزيد
على عشرين وجها فمنها البعيد ومنها القريب
أحدها ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن كل حرف منها
مأخوذ من اسم من أسمائه سبحانه فالألف من الله واللام من لطيف والميم من مجيد أو
الألف من آلائه واللام من لطفه والميم من مجده
قال ابن فارس وهذا وجه جيد وله في كلام العرب شاهد
قلنا لها قفي فقالت ق فعبر عن قولها وقفت بق
الثاني:
أن الله أقسم بهذه الحروف بأن هذا الكتاب الذي يقرؤه
محمد هو الكتاب المنزل لا شك فيه وذلك يدل على جلالة قدر هذه الحروف إذ كانت مادة
البيان وما في كتب الله المنزلة باللغات المختلفة وهي أصول كلام الأمم بها
يتعارفون وقد أقسم الله تعالى ب: {الْفَجْرِ}{وَالطُّورِ} فكذلك شأن هذه الحروف في
القسم بها
الثالث:
أنها الدائرة من الحروف التسعة والعشرين فليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من
أسمائه عز وجل أو آلائه أو بلائه أو مدة أقوام أو آجالهم فالألف سنة واللام ثلاثون
سنة والميم أربعون روي عن الربيع بن أنس قال ابن فارس وهو قول حسن لطيف لأن الله
تعالى أنزل على نبيه الفرقان فلم يدع نظما عجيبا ولا علما نافعا إلا أودعه إياه
علم ذلك من علمه وجهله من جهله
الرابع: ويروى عن ابن عباس أيضا في قوله تعالى الم أنا
الله أعلم وفي المص أنا الله أفصل والر أنا الله أرى ونحوه من دلالة الحرف الواحد
على الاسم العام والصفة التامة
الخامس أنها أسماء للسور ف الم اسم لهذه وحم اسم لتلك
وذلك أن الأسماء وضعت للتمييز فهكذا هذه الحروف وضعت لتمييز هذه السور من غيرها
ونقله الزمخشري عن الأكثرين وأن سيبويه نص عليه في كتابه
وقال الإمام فخر الدين هو قول أكثر المتكلمين فإن قيل
فقد وجدنا الم افتتح بها عدة سور فأين التمييز قلنا قد يقع الوفاق بين اسمين
لشخصين ثم يميز بعد ذلك بصفة وقعت كما يقال زيد وزيد ثم يميزان بأن يقال زيد
الفقيه وزيد النحوي فكذلك إذا قرأ القارئ الم ذلك الكتاب فقد ميزها عن الم الله لا
إله إلا هو الحي القيوم
السادس: أن لكل كتاب سرا وسر القرآن فواتح السور قال ابن
فارس وأظن قائل ذلك أراد أنه من السر الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم
واختاره جماعة منهم أبو حاتم بن حبان
قلت وقد
استخرج بعض أئمة المغرب من قوله تعالى {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} فتوح بيت المقدس
واستنقاذه من العدو في سنة معينة وكان كما قال
السابع: أن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه وقال
بعضهم: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} فأنزل الله هذا النظم
البديع ليعجبوا منه ويكون تعجبهم سببا لاستماعهم واستماعهم له سببا لاستماع ما
بعده فترق القلوب وتلين الأفئدة
الثامن: أن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من
الحروف التي هي أ ب ت ث فجاء بعضها مقطعا وجاء تمامها مؤلفا ليدل القوم الذين نزل
القرآن بلغتهم أنه بالحروف التي يعقلونها ويبنون كلامهم منها
التاسع: واختاره ابن فارس وغيره أن تجعل هذه التأويلات
كلها تأويلا واحدا فيقال إن الله جل وعلا افتتح السور بهذه الحروف إرادة منه
للدلالة بكل حرف منها على معان كثيرة لا على معنى واحد فتكون هذه الحروف جامعة لأن
تكون افتتاحا وأن يكون كل واحد منها مأخوذا من اسم من أسماء الله تعالى وأن يكون
الله عز وجل قد وضعها هذا الوضع فسمى بها وأن كل حرف منها في آجال قوم وأرزاق
آخرين وهي مع ذلك مأخوذة من صفات الله تعالى في إنعامه وإفضاله ومجده وأن الافتتاح
بها سبب لأن يسمع القرآن من لم يكن سمع وأن فيها إعلاما للعرب أن القرآن الدال على
نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الحروف وأن عجزهم عن الإتيان
بمثله مع نزوله بالحروف المتعالمة بينهم دليل على كفرهم وعنادهم وجحودهم وأن كل
عدد منها إذا وقع أول كل سورة فهو اسم لتلك السورة
قال وهذا القول الجامع للتأويلات كلها والله أعلم بما
أراد من ذلك
العاشر: أنها كالمهيجة لمن سمعها من الفصحاء والموقظة
للهمم الراقدة من البلغاء لطلب التساجل والأخذ في التفاصيل وهي بمنزلة زمجرة الرعد
قبل الناظر في الأعلام لتعرف الأرض فضل الغمام وتحفظ ما أفيض عليها من الإنعام وما
هذا شأنه خليق بالنظر فيه والوقوف على معانيه بعد حفظ مبانيه
الحادي عشر:
التنبيه على أن تعداد هذه الحروف ممن لم يمارس الخط ولم
يعان الطريقة على ما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ
وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}
الثاني عشر:
انحصارها في نصف أسماء حروف المعجم لأنها أربعة عشر حرفا
على ما سبق تفصيله وهذا واضح على من عد حروف المعجم ثمانية وعشرين حرفا وقال لا
مركبة من اللام والألف والصحيح أنها تسعة وعشرون حرفا والنطق بلا في الهجاء كالنطق
في لا رجل في الدار وذلك لأن الواضع جعل كل حرف من حروف المعجم صدر اسمه إلا الألف
فإنه لما لم يمكن أن يبتدأ به لكونه مطبوعا على السكون فلا يقبل الحركة أصلا توصل
إليه باللام لأنها شابهته في الاعتداد والانتصاب ولذلك يكتب على صورة الألف إلا
إذا اتصل بما بعده
فإن قلت: فقد تقدم اسم الألف في أول حروف الهجاء قلت ذلك
اسم الهمزة لوجهين أحدهما أنه صدره والثاني أنتها صدر ما تصدر من حروف المعجم
لتكون صورته ثلاثا وإنما كانت صدره لأن صورتها كالمتكررة أربع مرات لأنها تلبس
صورة العين وصورة الألف والواو والياء لما يعرض من الحركة والسكون ولذلك أخروا ما
بعد الطاء
والظاء
والعين لأن صورتها ليست متكررة وجوابه على هذا المذهب أن الحرف لا يمكن تنصيفه
فيتعين سقوط حرف لأنه الأليق بالإيجاز.
الثالث عشر: مجيئها في تسع وعشرين سورة بعدد الحروف فإن
قلت هلا روعي صورتها كما روعي عددها قلت عرض لبعضها الثقل لفظا فأهمل.
فصل
اعلم أنه لما كانت هذه الحروف ضرورية في النطق واجبة في
الهجاء لازمة التقدم في الخط والنطق إذ المفرد مقدم على المركب فقدمت هذه المفردات
على مركباتها في القرآن فليس في المفرد ما في المركب بل في المركب ما في المفرد
وزيادة ولما كان نزول القرآن في أزمنة متطاولة تزيد على عشرين سنة وكان باقيا إلى
آخر الزمان لأنه ناسخ لما قبله ولا كتاب بعده جعل الله تعالى حروفه كالعلائم مبينة
أن هذه السورة هي من قبيل تلك التي أنزلت من عشر سنين مثلا حتى كأنها تتمة لها وإن
كان بينهما مدة
وأما نزول ذلك في مدد وأزمنة أو نزول سور خالية عن
الحروف فبحسب تلك الوقائع وأما ترتيب وضعها في المصحف أعنى السور فله أسباب مذكورة
في النوع الثالث عشر
وأما زيادة بعض الحروف في بعض السور وتغيير بعضها فليعلم
أن المراد الإعلام بالحروف فقط وذلك أنه متى فرض الإنسان في بعضها شيئا مثل {الم}
السجدة لزمه في مثلها مثله كألف لام ميم البقرة فلما لم يجد دله ذلك الثاني على
بطلان الأول وتحقق أن هذه الحروف هي علامات المكتوب والمنطوق وأما كونها اختصت
بسورة البقرة فيحتمل أن
ذلك تنبيه
على السور وأنها احتوت على جملة المنطوق به من جهة الدلالة ولهذا حصلت في تسعة
وعشرين سورة بعدد جملة الحروف ولو كان القصد الاحتواء على نصف الكتاب لجاءت في
أربع عشرة سورة وهذا الاحتواء ليس من كل وجه بل من وجه يرجع إلى النطق والفصاحة
وتركيب ألفاظ اللغة العربية وما يقتضي أن يقع فيه التعجيز ويحتمل لأن يكون لمعان
أخر يجدها من يفتح الله عليه بالتأمل والنظر أو هبة من لدنه سبحانه
ولا يمتنع أن يكون في بقية السور أيضا كما في ذوات
الحروف بل هذه خصصت بعلامات لفضيلة وجب من أجلها أن تعلم عليها السور لينبه على
فضلها وهذا من باب الاحتمال والأولى أن الأحرف إنما جاءت في تسعة وعشرين سورة
لتكون عدة السور دالة لنا على عدة الحروف فتكون السور من جهة العدة مؤدية إلى
الحروف من جهة العدة فيعلم أن الأربعة عشر عوض عن تسعة وعشرين
3ـ الاستفتاح بالنداء
النوع الثالث من أنواع استفتاح السور النداء نحو {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}{يَا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ} وذلك في عشر سور
4ـ الاستفتاح بالجمل الخبرية
الرابع:
الجمل الخبرية نحو {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ}
{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ} {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسَابُهُمْ} {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا}{تَنْزِيلُ
الْكِتَابِ}{الَّذِينَ كَفَرُوا}{إِنَّا فَتَحْنَا}{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} {الرَّحْمَنُ
عَلَّمَ الْقُرْآنَ}{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ}{الْحَاقَّةُ}{سَأَلَ سَائِلٌ}{إِنَّا
أُرْسِلْنَا}{لا أُقْسِمُ} في موضعين {عَبَسَ}{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}{لَمْ
يَكُنْ}{الْقَارِعَةُ}{أَلْهَاكُمُ}{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} فتلك ثلاث وعشرون سورة
5ـ الاستفتاح بالقسم
الخامس القسم نحو {وَالصَّافَّاتِ}{وَالذَّارِيَاتِ}{وَالطُّورِ}{وَالنَّجْمِ}{وَالْمُرْسَلاتِ} {وَالنَّازِعَاتِ}{وَالسَّمَاءِ
ذَاتِ الْبُرُوجِ}{وَالسَّمَاءِ
وَالطَّارِقِ}{وَالْفَجْرِ}{وَالشَّمْسَ}{وَاللَّيْلِ}{وَالضُّحَى}{وَالتِّينِ}{وَالْعَادِيَاتِ}{وَالْعَصْرِ} فتلك خمس عشرة
سورة
6ـ الاستفتاح بالشرط
السادس: الشرط نحو {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} {إِذَا
جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}{إِذَا السَّمَاءُ
انْفَطَرَتْ} {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
{إِذَا زُلْزِلَتِ} {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} فذلك
سبع سور
7ـ الاستفتاح بالأمر
االسابع الاستفتاح بالأمر في ست سور {قُلْ أُوحِيَ}
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
{قُلْ أَعُوذُ} في سورتين
8ـ الاستفتاح بالاستفهام
الثامن لفظ الاستفهام في {هَلْ أَتَى}{عَمَّ
يَتَسَاءَلُونَ} {هَلْ أَتَاكَ}{أَلَمْ نَشْرَحْ}{أَلَمْ تَرَ}{أَرَأَيْتَ} فتلك
ست سور
9ـ الاستفتاح بالدعاء
التاسع الدعاء في ثلاث سور {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}
{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}
10 ـ الاستفتاح بالتعليل
العاشر التعليل في موضع واحد نحو {لإِيلافِ قُرَيْشٍ}
هكذا جمع الشيخ شهاب الدين أبو شامة المقدسي قال وما
ذكرناه في قسم
الدعاء
يجوز أن يذكر مع الخبر وكذا الثناء على الله سبحانه وتعالى كله خبر إلا: {سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} فإنه يدخل أيضا في
قسم الأمر و: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}
يحتمل الأمر والخبر ونظم ذلك في بيتين فقال
أثنى على نفسه سبحانه بثبو ... ت المدح والسلب لما
استفتح السورا
والأمر شرط الندا التعليل والقسم الدعا حروف التهجي
استفهم الخبرا
النوع الثامن: في خواتم السور
وهي مثل
الفواتح في الحسن لأنها آخر ما يقرع الأسماع فلهذا جاءت متضمنة للمعاني البديعة مع
إيذان السامع بانتهاء الكلام حتى يرتفع معه تشوف النفس إلى ما يذكر بعد
ومن أوضحه خاتمة سورة إبراهيم {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} وخاتمة سورة
الأحقاف: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} ولأنها بين
أدعية ووصايا وفرائض ومواعظ وتحميد وتهليل ووعد ووعيد إلى غير ذلك كتفصيل جملة
المطلوب في خاتمة فاتحة الكتاب إذ المطلوب الأعلى الإيمان المحفوظ من المعاصي
المسببة لغضب الله والضلال ففصل جملة ذلك بقوله{الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} والمراد
المؤمنين ولذلك أطلق الإنعام ولم يقيده ليتناول كل إنعام لأن من أنعم عليه بنعمة
الإيمان فقد أنعم عليه بكل نعمة لأن نعمة الإيمان مستتبعة لجميع النعم ثم وصفهم
بقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} يعني أنهم جمعوا بين
النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله والضلال المسببين عن
معاصيه وتعدي حدوده
وكالدعاء
الذي اشتملت عليه الآيتان من آخر سورة البقرة
وكالوصايا التي ختمت بها سورة آل عمران بالصبر على
تكاليف الدين والمصابرة لأعداء الله في الجهاد ومعاقبتهم والصبر على شدائد الحرب
والمرابطة في الغزو المحضوض عليها بقوله: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ
بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} والتقوى الموعود عليها بالتوفيق في المضايق
وسهولة الرزق في قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} ، وبالفلاح لأن {لعلّ} من الله واجبة
وكالوصايا والفرائض التي ختمت بها سورة النساء وحسن
الختم بها لأنها آخر ما نزل من الأحكام عام حجة الوداع
وكالتبجيل والتعظيم الذي ختمت به المائدة {لِلَّهِ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ} ولإرادة المبالغة في التعظيم اختيرت ما على من لإفادة العموم فيتناول
الأجناس كلها
وكالوعد والوعيد الذي ختمت به سورة الأنعام بقوله:
{إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
ولذلك أورد على وجه المبالغة في وصف العقاب بالسرعة
وتوكيد الرحمة بالكلام المفيد لتحقيق الوقوع
وكالتحريض
على العبادة بوصف حال الملائكة الذي ختمت به سورة الأعراف والحض على الجهاد وصلة
الأرحام الذي ختم به الأنفال
ووصف الرسول ومدحه والاعتداد على الأمم به وتسليمه
ووصيته والتهليل الذي ختمت به براءة
وتسليته عليه الصلاة والسلام الذي ختم بها سورة يونس
ومثلها خاتمة هود ووصف القرآن ومدحه الذي ختم به سورة يوسف
والرد على من كذب الرسول الذي ختم به الرعد
ومدح
القرآن وذكر فائدته والعلة في أنه إله واحد الذي ختمت به إبراهيم ووصيته الرسول
التي ختم بها الحجر وتسلية الرسول بطمأنينته ووعد الله سبحانه الذي ختمت به النحل
والتحميد الذي ختمت به سبحان وتحضيض الرسول على البلاغ والإقرار بالتنزيه والأمر
بالتوحيد الذي ختمت به الكهف وقد أتينا على نصف القرآن ليكون مثالا لمن نظر في
بقيته
فصل: في مناسبة فواتح السور وخواتمها
ومن أسراره مناسبة فواتح السور وخواتمها وتأمل سورة
القصص وبداءتها بقصة مبدأ أمر موسى ونصرته وقوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً
لِلْمُجْرِمِينَ} وخروجه من وطنه ونصرته وإسعافه بالمكالمة وختمها بأمر النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بألا يكون ظهيرا
للكافرين
وتسليته بخروجه من مكة والوعد بعوده إليها بقوله {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}
قال: الزمخشري وقد جعل الله فاتحة سورة المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ} وأورد في خاتمتها: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} فشتان ما بين
الفاتحة والخاتمة
فصل: في مناسبة فاتحة السورة بخاتمة التي قبلها
ومن أسراره مناسبة فاتحة السورة بخاتمة التي قبلها حتى
إن منها ما يظهر تعلقها به لفظا كما قيل في
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} {لإِيلافِ قُرَيْشٍ}
وفي الكواشي لما ختم سورة النساء أمرا بالتوحيد والعدل
بين العباد أكد ذلك بقوله في أول سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}
النوع التاسع: معرفة المكي والمدني
وما نزل
بمكة والمدينة وترتيب ذلك
ومن فوائده معرفة الناسخ والمنسوخ والمكي أكثر من المدني
اعلم أن للناس في ذلك ثلاثة اصطلاحات
أحدها: أن المكي ما نزل بمكة والمدني ما نزل بالمدينة
والثاني: وهو المشهور أن المكي ما نزل قبل الهجرة وإن
كان بالمدينة والمدني ما نزل بعد الهجرة وإن كان بمكة
والثالث:
أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة والمدني ما وقع خطابا
لأهل المدينة وعليه يحمل قول ابن مسعود الآتي لأن الغالب على أهل مكة الكفر
فخوطبوا يأيها الناس وإن كان غيرهم داخلا فيها وكان الغالب على أهل المدينة
الإيمان فخوطبوا يأيها الذين آمنوا وإن كان غيرهم داخلا فيهم
وذكر الماوردي أن البقرة مدنية في قول الجميع إلا آية
وهي: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} فإنها نزلت يوم النحر
في حجة الوداع بمنى انتهى
ونزولها
هناك لا يخرجها عن المدني بالاصطلاح الثاني أن ما نزل بعد الهجرة مدني سواء كان
بالمدينة أو بغيرها
وقال الماوردي في سورة النساء هي مدنية إلا آية واحدة
نزلت في مكة في عثمان ابن طلحة حين أراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أن يأخذ منه مفاتيح الكعبة ويسلمها إلى العباس فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} والكلام فيه كما تقدم
ومن جملة علاماته أن كل سورة فيها يأيها الناس وليس فيها
يأيها الذين آمنوا فهي مكية وفي الحج اختلاف وكل سورة فيها كلا فهي مكية وكل سورة
فيها حروف المعجم فهي مكية إلا البقرة وآل عمران وفي الرعد خلاف وكل سورة فيها قصة
آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة وكل سورة فيها ذكر المنافقين فمدنية سوى العنكبوت
وقال هشام عن أبيه كل سورة ذكرت فيها الحدود والفرائض
فهي مدنية وكل ما كان فيه ذكر القرون الماضية فهي مكية
وذكر أبو عمرو عثمان بن سعيد الدارمي بإسناده إلى يحيى
بن سلام قال ما نزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة فهو من المكي
وما نزل
على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من
المدني وما كان من القرآن يأيها الذين آمنوا فهو مدني وما كان يأيها الناس فهو مكي
وذكر أيضا بإسناده إلى عروة بن الزبير قال ما كان من حد
أو فريضة فإنه أنزل بالمدينة وما كان من ذكر الأمم والعذاب فإنه أنزل بمكة
وقال الجعبري لمعرفة المكي والمدني طريقان سماعي وقياسي
فالسماعي ما وصل إلينا نزوله بأحدهما والقياسي قال علقمة عن عبد الله كل سورة فيها
يأيها الناس فقط أو كلا أو أولها حروف تهج سوى الزهراوين والرعد في وجه أو فيها
قصة آدم وإبليس سوى الطولى فهي مكية وكل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية
مكية وكل سورة فيها فريضة أو حد فهي مدنية انتهي
وذكر ابن أبي شيبة في مصنفة في كتاب فضائل القرآن حدثنا
وكيع عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال كل شيء نزل فيه يأيها الناس فهو بمكة وكل
شيء نزل فيه يأيها الذين آمنوا فهو بالمدينة وهذا مرسل قد أسند عن عبد الله بن
مسعود
ورواه
الحاكم في مستدركه في آخر كتاب الهجرة عن يحيى بن معين قال حدثنا وكيع عن أبيه عن
الأعمش وعن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود به
ورواه البيهقي في أواخر دلائل النبوة وكذا رواه البزار
في مسنده ثم قال وهذا يرويه غير قيس عن علقمة مرسلا ولا نعلم أحدا أسنده إلا قيس
انتهي
ورواه ابن مردويه في تفسيره في سورة الحج عن علقمة عن
أبيه وذكر في آخر الكتاب عن عروة بن الزبير نحوه وقد نص على هذا القول جماعة من
الأئمة منهم أحمد بن حنبل وغيره وبه قال كثير من المفسرين ونقله عن ابن عباس
وهذا القول إن أخذ على إطلاقه ففيه نظر فإن سورة البقرة
مدنية وفيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وفيها {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} وسورة النساء مدنية وفيها:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} وفيها: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
أَيُّهَا النَّاسُ} وسورة الحج مكية وفيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} فإن أراد المفسرون أن الغالب ذلك فهو صحيح ولذا قال مكي:
هذا
إنما هو
في الأكثر وليس بعام وفي كثير من السور المكية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}
انتهي
والأقرب تنزيل قول من قال مكي ومدني على أنه خطاب
المقصود به أو جل المقصود به أهل مكة يأيها الذين آمنوا كذلك بالنسبة إلى أهل
المدينة
وفي تفسير الرازي عن علقمة والحسن أن ما في القرآن يأيها
الناس مكي وما كان يأيها الذين آمنوا فبالمدينة وأن القاضي قال إن كان الرجوع في
هذا إلى النقل فمسلم وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة
فضعيف إذ يجوز خطاب المؤمنين بصفتهم واسمهم وجنسهم ويؤمر غير المؤمنين بالعبادة
كما يؤمر المؤمنون بالاستمرار عليها والازدياد منها انتهي
فصل
ويقع السؤال أنه هل نص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ على بيان ذلك؟ قال القاضي أبو بكر: في الانتصار إنما هذا يرجع لحفظ
الصحابة وتابعيهم كما أنه لا بد في العادة من معرفة معظمي العالم والخطيب وأهل
الحرص على حفظ كلامه ومعرفة كتبه ومصنفاته من أن يعرفوا ما صنفه أولا وآخرا وحال
القرآن في ذلك أمثل والحرص عليه أشد غير أنه لم يكن من النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك قول ولا ورد عنه أنه قال اعلموا أن قدر ما نزل بمكة كذا
وبالمدينة كذا وفصله لهم ولو كان ذلك منه لظهر وانتشر وإنما لم يفعله أنه لم يؤمر
به ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة
تاريخ الناسخ والمنسوخ ليعرف الحكم الذي تضمنهما فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول
بعينه وقوله
هذا هو
الأول المكي وهذا هو الآخر المدني وكذلك الصحابة والتابعون من بعدهم لما لم
يعتبروا أن من فرائض الدين تفصيل جميع المكي والمدني مما لا يسوغ الجهل به لم
تتوفر الدواعي على إخبارهم به ومواصلة ذكره على أسماعهم وأخذهم بمعرفته وإذا كان
كذلك ساغ أن يختلف في بعض القرآن هل هو مكي أو مدني وأن يعلموا في القول بذلك ضربا
من الرأي والاجتهاد وحينئذ فلم يلزم النقل عنهم ذكر المكي والمدني ولم يجب على من
دخل في الإسلام بعد الهجرة أن يعرف كل آية أنزلت قبل إسلامه مكية أو مدنية فيجوز
أن يقف في ذلك أو يغلب على ظنه أحد الأمرين وإذا كان كذلك بطل ما توهموه من وجوب
نقل هذا أو شهرته في الناس ولزوم العلم به لهم ووجوب ارتفاع الخلاف فيه
فصل
قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري في
كتاب التنبيه على فضل علوم القرآن من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما
نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك ثم ما نزل بمكة وحكمه
مدني وما نزل بالمدينة وحكمه مكي وما نزل بمكة في أهل المدينة وما نزل بالمدينة في
أهل مكة ثم ما يشبه نزول المكي في المدني وما يشبه نزول المدني في المكي ثم ما نزل
بالجحفة وما نزل ببيت المقدس وما نزل بالطائف وما نزل بالحديبية ثم ما نزل ليلا
وما نزل نهارا وما نزل مشيعا وما نزل مفردا ثم الآيات المدنيات في السور المكية
والآيات المكية في السور المدنية ثم ما حمل من مكة إلى المدينة وما حمل من المدينة
إلى مكة وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة ثم ما نزل مجملا وما نزل مفسرا وما نزل
مرموزا ثم ما اختلفوا فيه فقال بعضهم مدني هذه خمسة وعشرون وجها من لم يعرفها
ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى
ذكر ما
نزل من القرآن بمكة ثم ترتيبه
أول ما نزل من القرآن بمكة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}
ثم {نْ وَالْقَلَمِ} ثم {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ثم {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}
ثم {تبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} ثم {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ثم {سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الأَعْلَى} ثم {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ثم {وَالْفَجْرِ} ثم {وَالضُّحَى} ثم
{أَلَمْ نَشْرَحْ} ثم {وَالْعَصْرِ} ثم {وَالْعَادِيَاتِ} ثم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}
ثم {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ثم {أَرَأَيْتَ الَّذِي} ثم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثم
سورة الفيل ثم الْفَلقِ ثم النَّاسِ ثم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} ثم {عَبَسَ وَتَوَلَّى} ثم {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} ثم {وَالشَّمْسِ
وَضُحَاهَا} ثم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ثم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} ثم
{لإِيلافِ قُرَيْشٍ} ثم {الْقَارِعَةُ} ثم {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} ثم
الهمزة ثم المرسلات ثم {ق وَالْقُرْآنِ} ثم {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} ثم
الطارق ثم {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} ثم {ص وَالْقُرْآنِ} ثم الأعراف ثم الجن ثم {يس} ثم الفرقان ثم
الملائكة ثم مريم ثم طه ثم الواقعة ثم الشعراء ثم النمل ثم القصص ثم بني إسرائيل
ثم يونس ثم هود ثم يوسف ثم الحجر ثم الأنعام ثم الصافات ثم لقمان ثم سبأ ثم الزمر
ثم حم المؤمن ثم حم السجدة ثم حم عسق ثم حم الزخرف ثم حم الدخان ثم حم الجاثية ثم
حم الأحقاف ثم والذاريات ثم الغاشية ثم الكهف ثم النحل ثم نوح ثم إبراهيم ثم
الأنبياء ثم المؤمنون ثم{الم تَنْزِيل} ثم {وَالطُّورِ} ثم الملك ثم {الْحَاقَّةُ}
ثم {سَأَلَ سَائِلٌ} ثم {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ثم {وَالنَّازِعَاتِ} ثم {إِذَا
السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} ثم {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ثم الروم
واختلفوا
في آخر ما نزل بمكة فقال ابن عباس العنكبوت وقال الضحاك وعطاء المؤمنون وقال مجاهد
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فهذا ترتيب ما نزل من القرآن بمكة وعليه استقرت الرواية
من الثقات وهي
خمس وثمانون سورة
ذكر ترتيب ما نزل بالمدينة
وهو تسع وعشرون سورة
فأول ما نزل فيها سورة البقرة ثم الأنفال ثم آل عمران ثم
الأحزاب ثم الممتحنة ثم النساء ثم {إِذَا زُلْزِلَتِ} ثم الحديد ثم محمد ثم الرعد
ثم الرحمن ثم {هَلْ أَتَى} ثم الطلاق ثم {لَمْ يَكُنِ} ثم الحشر ثم {إِذَا
جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} ثم النور ثم الحج ثم المنافقون ثم المجادلة ثم الحجرات ثم
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} ثم الصف ثم الجمعة ثم التغابن ثم الفتح
ثم التوبة ثم المائدة
ومنهم من يقدم المائدة على التوبة: "وقرأ النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المائدة في خطبة حجة الوداع وقال يأيها الناس
إن آخر القرآن نزولا سورة المائدة فأحلوا حلالها وحرموا حرامها"
فهذا ترتيب ما نزل بالمدينة وأما ما اختلفوا فيه ففاتحة
الكتاب قال ابن عباس والضحاك ومقاتل وعطاء إنها مكية وقال مجاهد مدنية واختلفوا
في: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فقال ابن عباس مدنية وقال عطاء هي آخر ما نزل بمكة
فجميع ما نزل بمكة خمس وثمانون سورة وجميع ما نزل بالمدينة تسع وعشرون سورة على
اختلاف الروايات
ذكر ما
نزل بمكة وحكمه مدني
منها قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ} الآية
ولها قصة يطول بذكرها الكتاب ونزولها بمكة يوم فتحها وهي
مدنية لأنها نزلت بعد الهجرة
ومنها قوله في المائدة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ} إلى قوله {الْخَاسِرِينَ} نزلت يوم الجمعة والناس وقوف بعرفات فبركت ناقة
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هيبة القرآن وهي مدنية لنزولها بعد
الهجرة وهي عدة آيات يطول ذكرها
ذكر ما نزل بالمدينة وحكمه مكي
منه الممتحنة إلى آخرها وهي قصة حاطب بن أبي بلتعة وسارة
والكتاب الذي دفعة إليها وقصتها مشهورة فخاطب بها أهل مكة
ومنها قوله تعالى في سورة النحل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا
فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} إلى آخر السورة مدنيات يخاطب بها أهل مكة
ومنها سورة الرعد يخاطب أهل مكة وهي مدنية
ومن أول
براءة إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} خطاب لمشركي مكة وهي مدنية
فهذا من جملة ما نزل بمكة في أهل المدينة وحكمه مدني وما
أنزل في أهل مكة وحكمه مكي
ما يشبه تنزيل المدينة في السور المكية
من ذلك قوله تعالى في النجم {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ
كَبَائِرَ الأِثْمِ} يعني كل ذنب عاقبته النار {وَالْفَوَاحِشَ} يعني كل ذنب فيه حد
{إِلاَّ اللَّمَمَ} وهو بين الحدين من الذنوب نزلت في نبهان والمرأة التي راودها
عن نفسها فأبت والقصة مشهورة واستقرت الرواية بما قلنا والدليل على صحته أنه لم
يكن بمكة حد ولا غزو.
ومنها قوله تعالى في هود{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ
النَّهَارِ} الآية نزلت في أبي مقبل الحسين بن عمر بن قيس والمرأة التي اشترت منه
التمر فراودها
ما يشبه تنزيل مكة في السور المدنية
من ذلك قوله تعالى في الأنبياء: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} نزلت في نصارى نجران ومنهم السيد
والعاقب
ومنها
سورة {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} في رواية الحسين بن واقد وقصتها مشهورة ومنها قوله
تعالى في الأنفال {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ}
الآية
ما نزل بالجحفة
قوله عز وجل في سورة القصص: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} نزلت بالجحفة والنبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهاجر
ما نزل ببيت المقدس
قوله تعالى في الزخرف: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}
نزلت عليه ليلة أسري به
ما نزل بالطائف
قوله تعالى في الفرقان: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ
كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} الآية ولذلك قصة عجيبة
وقوله في: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} {بَلِ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} يعني كفار مكة
ما نزل بالحديبية
قوله تعالى في الرعد: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ
بِالرَّحْمَنِ} نزلت بالحديبية حين صالح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أهل مكة فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي: " اكتب
"بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل بن عمرو: ما نعرف الرحمن
الرحيم ولو نعلم أنك رسول الله لتابعناك فأنزل الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}
إلى قوله {مَتَابِ}
ما نزل ليلا
قوله تعالى: في أول سورة الحج {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} نزلت ليلا في
غزوة بني المصطلق وهم حي من خزاعة والناس يسيرون
وقوله تعالى في المائدة: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ} نزلت في بعض غزوات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك أن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحرس كل ليلة
قال عبد الله بن عامر بن ربيعة قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يحرسنا الليلة فأتاه حذيفة وسعد في آخرين معهم
الحجف والسيوف وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خيمة من أدم
فباتوا على باب الخيمة فلما أن كان بعد هزيع من الليل أنزل الله عليه الآية فأخرج
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه من الخيمة فقال: "يأيها
الناس انصرفوا فقد عصمني الله"
ومنها قوله:
{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية قالت عائشة
رضي الله عنها نزلت هذه الآية على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأنا معه في اللحاف ونزل عليه أكثر القرآن نهارا
ما نزل
مشيعا
سورة الأنعام نزلت مرة واحدة شيعها سبعون ألف ملك طبقوا
ما بين السموات والأرض لهم زجل بالتسبيح فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سبحان الله وخر ساجدا
قلت ذكر أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه أن الخبر المذكور
جاء من حديث أبي ابن كعب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي إسناده
ضعف ولم نر له إسنادا صحيحا وقد روي ما يخالفه فروي أنها لم ينزل جملة واحدة بل
نزل منها آيات بالمدينة اختلفوا في عددها فقيل ثلاث هي قوله تعالى قل تعالوا إلخ
الآيات وقيل ست وقيل غير ذلك وسائرها نزل بمكة
وفاتحة الكتاب نزلت ومعها ثمانون ألف ملك
وآية الكرسي نزلت ومعها ثلاثون ألف ملك
وسورة يونس نزلت ومعها ثلاثون ألف ملك
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا نزلت ومعها عشرون ألف
ملك وسائر القرآن نزل به جبريل بلا تشييع
الآيات المدنيات في السور المكية
منها سورة الأنعام وهي كلها مكية خلا ست آيات واستقرت
بذلك الروايات
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} نزلت هذه في
مالك بن الصيف إلى آخر الآية والثانية والثالثة
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} نزلت
في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان من الرضاعة حين قال: {سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ} وذلك أنه كان يكتب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فأنزل الله جل ذكره: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ
مِنْ طِينٍ} فأملاها عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما بلغ
قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " اكتب: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} إلخ الآية فقال إن كنت نبيا فأنا
نبي لأنه خطر ببالي ما أمليت علي فلحق كافرا
وأما قوله: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ
إِلَيْهِ شَيْءٌ} فإنه نزل في مسيلمة الكذاب حين زعم أن الله سبحانه أوحى إليه
وثلاث آيات من آخرها: {قُلْ تَعَالَوْا} إلى قوله: {تَتَّقُونَ}
سورة الأعراف مكية إلا ثلاث آيات: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ} إلى قوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ}
سورة إبراهيم مكية غير آيتين نزلتا في قتلى بدر: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} إلخ الآيتين
سورة النحل مكية إلى قوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي
اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} والباقي مدني
سورة بني
إسرائيل مكية غير قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ} يعني ثقيفا وله قصة
سورة الكهف مكية غير قوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} نزلت في
سلمان الفارسي وله قصة
سورة القصص مكية غير آية: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ} يعني الإنجيل: {مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} يعني الفرقان نزلت في
أربعين رجلا من مؤمني أهل الكتاب
قدموا من
الحبشة مع جعفر بن أبي طالب فأسلموا ولهم قصة
سورة الزمر مكية غير قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية
الحواميم كلها مكيات غير آية في الأحقاف نزلت في عبد
الله بن سلام: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ
بِهِ}
الآيات المكية في السور المدنية
منها قوله تعالى في الأنفال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآية يعني أهل مكة حتى يخرجك من بين أظهرهم
استقرت به الرواية
سورة التوبة مدنية غير آيتين: {لَقَدْ جَاءَكُمْ} إلخ
السورة
سورة الرعد مدنية غير قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً
سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} إلى قوله: {جَمِيعاً}
سورة الحج مدنية وفيها أربع آيات مكيات قوله: {وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ
مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى} إلى قوله: {عَقِيمٍ} وله قصة
سورة: {أَرَأَيْتَ} مكية إلا قوله: {فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ} إلى آخرها فإنها مدنية كذا قال مقاتل بن سليمان
ما حمل من مكة إلى المدينة
أول سورة حملت من مكة إلى المدينة سورة يوسف انطلق بها
عوف بن عفراء في الثمانية الذين قدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مكة فعرض عليهم الإسلام فأسلموا وهم أول من أسلم من الأنصار قرأها على
أهل المدينة في بني زريق فأسلم يومئذ بيوت من الأنصار روى ذلك يزيد بن رومان عن
عطاء عن ابن يسار عن ابن عباس ثم حمل بعدها: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إلى آخرها ثم حمل
بعدها الآية التي في الأعراف
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ
إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} إلى قوله:
{تَهْتَدُونَ} فأسلم عليها طوائف من أهل المدينة وله قصة
ما حمل من المدينة إلى مكة
من ذلك الأنفال التي في البقرة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} الآية وذلك حين أورد عبد الله بن جحش كتاب
مسلمي مكة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن المشركين عيرونا
قتل ابن الحضرمي وأخذ الأموال والأسارى في الشهر
أقسام الكتاب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق