كتاب : الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع السيوطي
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات التي تأمر بالاتباع
وتنهى عن الابتداع
قال الله عز وجل: (ورحمتي و سعت كل
شيء فسأكتبها للذين يتقون وَيُؤتُونَ الزَكَاةَ وَاَلَذِينَ هم بآياتِنا يؤمنون
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) إلى قوله: (فالذين آمنوا بِه وعزروه ونصروه
واتبعوا النور الذِي أنزل معه أولئك هم المفلحون).
وقال تعالى: (واتبعوه لعلكم تهتدون).
وقال تعالى: (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
ويغفر لكم ذُنُوبَكُمْ).
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله
ولا تولوا عنه وأنتم تَسْمَعُونَ) إلى قوله: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله
وللرسول إذا دعاكم لما يُحْيكُم).
وقال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
فانتهوا).
وقال تعالى: ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا
تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون).
وقال تعالى: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم
فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
وقال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول
إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر).
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في قوله: (فردوه إلى
الله والرسول) أي إلى ما قاله الله والرسول.
إلى غير ذلك من الآيات.
الأحاديث التي تأمر بالاتباع
وتنهى عن الابتداع
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه قال: خط لنا رسول الله ( خطاً، ثم قال: " هذا سبيل الله " ثم خط
خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: " هذه سُبل، على كل سبيل منها شيطانٌ
يدعو إليه " ثم قرأ " وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل
فتفرق بكم عن سبيله " الآية.
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال: صلى بنا رسول
الله ( ذات يوم، ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون،
ووجلت منها القلوب؛ فقال رجل: يا رسول الله، كأنها موعظة مُودِّع، فماذا تعهد
إلينا؟ فقال: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً؛ فإنه
من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين،
تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل
بدعة ضلالة، أخرجه أبو داود والترمذي
" .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله) :
" ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على
أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم
" متفق عليه.
وعن بلال بن الحارث أن النبي ( قال له: " اعلم قال:
ما اعلم يا رسول الله؟ قال: اعلم يا بلال. قال ذروني أعلم يا رسول الله؟ قال: إنه
من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص
من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضى الله ورسوله كان عليه مثل آثام من
عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً " . رواه الترمذي.
فصل
في الأمر بلزوم السنة والجماعة
والنهي عن الفرقة
قال الله تعالى: (وما تفرقوا إلا
من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر رضي الله عنه خطب
بالجابية فقال: قام فينا رسول الله ( خطيباً فقال: " من أراد منكم بَحبوحَة
الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد " . رواه
الترمذي وصححه.
وقال رسول الله) : " يد الله مع الجماعة، والشيطان
مع من يخالف الجماعة " .
وعن أبي شريك رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ( يقول:
" يد الله على الجماعة، فإذا شذ الشاذ منهم اختطفه الشيطان كما يخطف الذئب
الشاة من الغنم " .
وعن معاذ رضي الله عنه أن النبي ( قال: " إن
الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ الشاة القاصية النائية، فإياكم والشعاب،
وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد
" .
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي ( قال: " اثنان
خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة؛ فعليكم بالجماعة، فإن
الله لم يجمع أمتي إلا على هدى
" .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله) : " لَيَأتيَنَّ على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حَذوَ النَّعلِ بالنَّعلِ، حتى إن كان منهم من يأتي أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك. وإن بني لإسرائيل تفرقوا اثنين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاثة وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا ملة واحدة " قالوا: من هي يا رسول الله قال: " ما أنا عليه وأصحابي " أخرجه أبو داود والترمذي.
ما جاء عن السلف في الأمر بالاتباع
وعن معاوية بن أبي سفيان: أنه قام
في الناس خطيباً، فقال: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنين وسبعين
ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاثة وسبعين ملة، اثنان وسبعون في النار، وواحدة
في الجنة، وهي الجماعة.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: الاقتصاد في السنة
خير من الاجتهاد في البدعة.. وقال أبي بن كعب رضي الله عنه: عليكم بالسبيل والسنة،
فإنه ليس من عبد على سبيل وسنة ذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فمسته النار
أبداً. وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: النظر إلى الرجل من أهل
السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة. وقال أبو العالية: عليكم بالأمر الأول الذي
كانوا عليه قبل أن يفترقوا.
وقال الأوزاعي رضي الله عنه: اصبر نفسك على السنة، وقف
حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه
يسعك ما وسعهم.
وقال الأوزاعي أيضاً: رأيت رب العزة في المنام، فقال لي:
يا أبا عبد الرحمن، أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فقلت: بفضلك يا رب.
قلت: يا
رب أَمتَّنِي على الإسلام، قال: وعلى السنة.
وقال أيوب: إني لأخبر بموت الرجل من أهل السنة، فكأني
أفقد بعض أعضائي. وقال أيضاً: إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله لعالم
من أهل السنة.
وقال ابن شوذب: إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن
يوافى صاحب سنة يحمله عليها.
وقال ابن أسباط: كان أبي قدرياً، وأخوالي روافض، فأنقذني
الله بسفيان.
وقال معتمر بن سليمان: دخلت على أبي وأنا منكسر القلب،
فقال لي: مالك؟ قلت نعم: فقال لا تحزن عليه.
وقال سفيان الثوري: استوصوا بأهل السنة خيراً، فإنهم
غرباء.
وقال أبو بكر بن عياش: السنة في الإسلام أعز من الإسلام
في سائر الأديان.
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: إذا رأيت رجلاً من
أصحاب الحديث، فكأني رأيت رجلاً من أصحاب رسول الله.
وقال الجنيد رحمه الله: الطرق كلها مسدودة إلا على
المقتفين آثار رسول الله( والمتبعين سنته وطريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة
عليه، كما قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
فصل
في ذم البدع والأهواء
الآيات التي تذم البدع والأهواء
قال الله تعالى: (ومن أضل مِمَّن
اتبع هواه بغير هدى من الله).
وقال تعالى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).
الأحاديث التي تذم البدع والأهواء
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت:
قال رسول الله) : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " ، وفي
رواية " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " متفق عليه.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: عن النبي، أنه قال:
" من رغب عن سنتي فليس مني " . أخرجه البخاري.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله:( "
أنا فرطكم على الحوض ولَيَحْتَلِجن رجال دوني، فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا
تدري ما أحدثوا بعدك " . متفق عليه.
آثار السلف في ذم البدع والأهواء
وقال عبد الله بن محيريز: يذهب
الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة.
وقال معاذ بن جبل: يفتح القرآن على الناس حتى تقرأه
المرأة والصبي والرجل فيقول الرجل: قد قرأت القرآن فلم أتبع، والله لأقومن به فيهم
لعلي أتبع، فيقوم به فيهم فلا يتبع: فيقول: قد قرأت القرآن فلم أتبع، وقمت به فيهم
فلم أتبع لأحْتَضِرَنْ في بيتي مسجداً فيحتضر في بيته مسجداً، فلا يتبع، فيقول:
لقد قرأت القرآن فلم أتبع، وقمت به فلم أتبع، وقد احْتَضَرْت في بيتي مسجداً فلم
أتبع. والله لآتينهم بحديث لا يجدونه في كتاب الله ولم يسمعوه من رسول الله ( لعلي
أتبع. فإياكم وما جاء به، فإن ما جاء به ضلالة.
وروى هذا الأثر أبو داود بلفظ آخر،
فقال معاذ: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه
المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحر، فيوشك أن يقول
قائل: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بِمُتَّبِعيَّ حتى أبتدع لهم غيره
فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيفة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول
كلمة الضلالة على لسان الحكيم. وقد يقول المنافق كلمة الحق.
وقال عبد الله: تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب
أهله. ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع، وعليكم بالعتيق.
وفي رواية أخرى: أيها الناس إنكم ستحدثون ويحدث لكم،
فإذا رأيتم مُحَدَثَةً فعليكم بالأمر الأول.
وعن قيس بن أبي حازم، دخل أبو بكر رضي الله عنه على
امرأة من أحمس يقال لها زينب، فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها؟ فقيل: حجت. فقال لها
تكلمي فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية.
وعن زياد بن حدير قال: قال عمر رضي الله عنه: هل تدري ما
يهدم دين الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال منافق بالآيات، وحكم الأئمة
المضلين.
وعن عمر رضي الله عنه قال: سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات
القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أهل السنة أعلم بكتاب الله عز وجل.
وعن عثمان الأزدي، قال: دخلت على ابن عباس رضي الله
عنهما، فقلت له: أوصني فقال: عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع.
وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن
أبغض الأمور إلى الله تعالى البدع، وإن من البدع الاعتكاف في المساجد التي في
الدور.
وروى أبو داود في سننه عن حذيفة رضي الله عنه، قال: كل
عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله ( فلا تتعبدوا بها؛ فإن الأول لم يدع للآخر
مقالاً؛ فاتقوا الله يا معشر القراء، خذوا طريق من كان قبلكم.
ومن كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أوصيكم بتقوى
الله، والاقتصاد في أمره، واتباع أمر رسول الله (، وترك ما أحدث المحدثون بعده.
وقال ابن سيرين رحمه الله: ما أحدث رجل بدعة فراجع سنة.
أعمال صاحب البدعة لا تقبل حتى يدعها
وقال الحسن: لا يقبل الله لصاحب
البدعة صوماً، ولا صلاة ولا حجاً، ولا عمرة، حتى يدعها.
وقال محمد بن أسلم: من وقر صاحب بدعة، فقد أعان على هدم
الإسلام.
وقال أبو مغشر: سألت إبراهيم عن شيء من هذه الأهواء،
فقال: ما جعل الله في شيء منها مثقال ذرة من خير، ما هي إلا نزغة من الشيطان، عليك
بأول الأمر.
وعن ابن عمر رضي الله عنه، قال: كل بدعة ضلالة وإن رآها
الناس حسنة.
وقال عمر: كان طاووس جالساً يوماً وعنده ابنه، فجاء رجل
من المعتزلة، فتكلم في شيء، فأدخل طاووس إصبعيه في أذنيه، وقال: يا بني أدخل إصبعك
في أذنيك حتى لا تسمع من قوله شيئاً؛ فإن هذا القلب ضعيف. ثم قال: أي بني أشدد،
فما زال يقول أشدد حتى قام الرجل.
مقاطعة وتجنب من يترددون على الفرق المخالفة لأهل السنة مثل المرجئة
وعن محمد العيني، قال: كان رجل
معنا يختلف إلى إبراهيم، فبلغ إبراهيم أنه دخل في الإرجاء، فقال إبراهيم: إذا قمت
من عندنا فلا تعد.
وقال محمد بن داود الحرائي: قلت لسفيان بن عيينة: إن هذا
يتكلم في القدر - يعني إبراهيم بن أبي يحيى - فقال سفيان: عرفوا الناس أمره، واسألوا
ربكم العافية.
وقال صالح المري: دخل رجل على ابن سيرين وأنا شاهد، فتح
باباً من أبواب القدر، فتكلم فيه. وقال ابن سيرين: إما أن تقوم وإما أن نقوم.
وقال سلام بن مطيع: قال رجل من أهل الأهواء لأيوب: لا
أكلمه بكلمة، فقال: ولا بنصف كلمة.
وقال أيوب ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من
الله بعداً.
البدعة أحب إلى إبليس من المعصية
وقال سفيان الثوري رحمه الله:
البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتابُ منها.
وقال: من سمع مبتدعاً لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه
فقد نقض الإسلام عروة عروة.
ولما مرض سليمان الهيثمي بكى بكاء شديداً فقيل له: ما
يبكيك؟ الجزع من الموت؟ فقال: لا، ولكن مررت على قدري فسلمت عليه فأخاف أن يحاسبني
ربي عليه.
وقال الفضيل بن عياض: من جلس إلى صاحب بدعة أحبط الله
عمله، وأخرج نور الإيمان - أو قال الإسلام - من قبله.
وقال: إذا رأيت مبتدعاً في طريق
فخذ في طريق آخر، ولا يرفع لصاحب بدعة إلى الله عمل، ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان
على هدم الإسلام.
وقال: من زَوَّج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها.
وقال: من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله
من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له! وقال محمد بن نصر الحارثي: من
أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة نُزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه.
وقال الليث بن سعد: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء ما
قبلته.
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: أما إنه قد قصد لو
رأيته يمشي في الهواء ما قبلته.
وسأل رجل عمر بن عبد العزيز عن الأهواء، فقال: الزم دين
الصبي في المكتب، والْهُ عما سوى ذلك.
مدلول البدع عند مالك بن أنس
وقال مالك بن أنس: إياكم والبدع،
قيل: يا أبا عبد الله، وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه
وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان. وقالوا: لو كان
الكلام علماً لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام، ولكنه باطل يدل على
باطل.
وسئل سفيان الثوري عن الكلام، فقال: دع الباطل، أين أنت
من الحق؟ اتبع السنة، ودع البدعة.
وقال: وجدت الأمر بالاتباع.
وقال: عليكم بما عليه الحمالون والنساء في البيوت
والصبيان في المكاتب من الإقرار والعمل.
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: لأن يلقى الله العبد
بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء.
وقال أيضاً: لأن يبتلى المرء بما نهى الله عنه ما خلا
الشرك بالله خير له من أن يبتليه بالكلام.
وقال ما ابتدأ أحد بالكلام فأفلح. وقال أيضاً: حكمي في
أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر
والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام.
وقال مالك: بئس القوم هؤلاء أهل الأهواء لا يسلم عليهم.
وقال أبو الحسن البغوي: قد مضت الصحابة والتابعون
وأتباعهم وعلماء السنة على معاداة أهل البدع ومهاجرتهم.
وقال ابن عمر في أهل القدر: خبرهم أني برئ منهم وأنهم
برآء مني.
وقال أبو قلابة: لا تجالسوا أصحاب الأهواء، فإني لا آمن
من أن يغمسوكم في ضلالهم ويُلبسوا عليكم بعض ما تعرفون.
وقال سفيان: من سمع بدعة فلا يحكها لجلسائه ولا يلقها في
قلوبهم.
وقال أبو الحسن البغوي: قد كفر بعض أهل العلم طوائف
منهم، فروي عن جماعة من السلف تكفير من قال بخلق القرآن، وروي ذلك عن مالك، وابن
عُيَيْنة وابن المبارك، والليث بن سعد، ووكيع بن الجراح، وناظر الإمام الشافعي
لحفص الفرد، وكان يسميه لحفص الفرد، فقال: القرآن مخلوق، فقال الشافعي: كفرت بالله
العظيم.
وقال محمد بن إسماعيل البخاري: نظرت في كلام اليهود
والنصارى والمجوس، فما رأيت قوماً أضل في كفرهم من الجهمية، وإني لاستجهل من لا
يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم وقال: ما باليت صليت خلف اليهود والنصارى.
وحكي عن عبد الله بن أحمد عن أبيه، فيمن قال بخلق
القرآن: أنه لا يصلى خلفه الجمعة ولا غيرها، إلا أنه لا يدع إتيانها، فإن صلى أعاد
الصلاة.
وقال مالك بن أنس: من يبغض أحداً من أصحاب النبي (، وكان
في قلبه عليهم غلّ، فليس له حق في فئ المسلمين، ثم قرأ: (ما أفاء الله على رسوله
من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى) إلى قوله: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا
اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان). الآية.
وذكر بين يديه رجل ينتقص أصحاب
رسول الله ( فقرأ مالك هذه الآية: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) إلى
قوله: (ليغيظ بهم الكفار). ثم قال: من أصبح من الناس في قلبه غل على أحد من أصحاب
رسول الله ( فقد أصابته هذه الآية. وقال سفيان الثوري: من قدم علياً على أبي بكر
وعمر فقد أزرى وقال أبو الحسن البغوي: وهذا الهجران والتبرُّء والمعاداة لأهل
البدع والمخالفين في الأصول، أما الاختلاف في الفروع بين العلماء فاختلاف رحمة،
أراد الله أن لا يكون على المؤمنين حرج في الدين. فعلى المسلم إذا رأى رجلاً يتعاطى
شيئاً من الأهواء والبدع معتقداً ويتهاون بشيء من السنن أن يهجره ويتبرأ منه،
ويتركه حياً وميتاً، فلا يسلم عليه إذا لقيه، ولا يُجيبه إذا ناداه.
والنهي عن الهجران فوق الثلاث فيما يقع بين الرجلين من
التقصير في حقوق الصحبة دون ما كان في حق الدين، فإن هجر أهل البدع والأهواء دائم
إلى أن يتوبوا.
كلمات جوامع
فعليك يا أخي باتباع السنة
وقبولها، وموالاة أهلها، واجتناب البدع وردها، ومعاداة أهلها. قال أحدهم لعبد الله
بن مسعود رضي الله عنه: علمني كلمات جوامع موانع فقال: لا تشرك بالله شيئاً، وزل
مع القرآن حيث زال، ومن جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بعيداً بغيضاً، ومن جاءك
بالباطل فرده عليه وإن كان قريباً حبيباً.
وعليك بما قال ابن عمر رحمه الله: ثلاث أحب لنفسي
ولإخواني: هذه السُّنَّة أن يتعلموها ويسألوا عنها، والقرآن أن يتفقهوه ويسألوا
عنه، ويدعوا الناس إلى الخير. وربما قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: خمس كان عليها
أصحاب النبي) : لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، والجهاد
في سبيل الله عز وجل.
رزقنا الله الاتباع، وإحياء السنن، وجنبنا البدع
والأهواء في السرّ والعلن.
فصل
في تمييز البدعة من السنة
ما السنة
؟
اعلم رحمك الله إن السنة في اللغة الطريق، ولا ريب في أن
أهل النقل والأثر، المتبعين آثار رسول الله ( وآثار الصحابة، هم أهل السنة؛ لأنهم على
تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث، وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله (
وأصحابه.
ما البدعة
؟
والبدعة عبارة عن فعلة تصادم الشريعة بالمخالفة، أو توجب
التعاطي عليها بزيادة أو نقصان. وقد كان جمهور السلف يكرهون ذلك، وينفرون من كل
مبتدع. وإن كان جائزاً حفاظاً للأصل، وهو الاتباع، وقد قال زيد بن ثابت لأبي بكر وعمر
رضي الله عنهما حين قالا له " اجمع القرآن " : كيف تفعلان شيئاً لم يفعله
رسول الله (؟ وعن عبد الله بن أبي سلمة: أن سعد بن مالك رحمه الله تعالى سمع رجلاً
يقول: " لبيك ذا المعارج " فقال: ما كنا نقول هذا على عهد رسول الله (.
وعن أبي البحتري قال: أخبر رجل ابن مسعود رضي الله عنه
أن قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب، فيهم رجل يقول: كبروا الله كذا، وسبحوا
الله كذا وكذا، واحمدوا كذا وكذا. وقال عبد الله فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني
فاخبرني بمجلسهم. فلما جلسوا أتاه الرجل فاخبره، فجاء عبد الله بن مسعود، فقال: والذي لا إله
غيره لقد جئتم ببدعة ظلماً أو لقد فضلتم أصحاب محمد علماً! فقال عمر بن عتبة: نستغفر الله، فقال:
عليكم بالطريق فالزموه ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلن ضلالاً بعيداً.
وعن عبد الله بن عون قال: كنا عند إبراهيم النخعي، فجاء
رجل فقال: يا أبا عمر وأنا أدعو الله أن يشفيني، فرأيت أنه كرهه كراهية شديدة حتى
عرفنا كراهية ذلك في وجهه. وذكر إبراهيم السنة، فرغب فيها، وذكرنا ما أحدث الناس فكرهه،
وقال فيه.
وجاء أصحاب الحديث إلى ذي النون، فسألوه عن الخطرات
والوساوس، فقال: أنا لا أتكلم في شيء من هذا، فإن هذا محدث، سلوني عن شيء من
الحديث أو الصلاة.
وقال محمد بن زياد: رأى ذي النون عليَّ خفا أحمر فقال:
انزع هذا يا بني، فإنه شُهْرَة، ما لبسه رسول الله (، إنما لبس رسول الله ( خفين
أسودين ساذجين.
فقد تبين لك أن القوم كانوا يتحرزون عن بدعة، وإن لم يكن
بها بأس لئلا يحدثوا ما لم يكن.
فصل
محدثات وبدع لا تصادم الشريعة
وقد جرت محدثات لا تصادم الشريعة؛
ولم تتعاط عليها، فلم يروا بفعلها بأساً بل قال بعضهم: إنها قربة وهو صحيح كما
رُوي أن الناس كانوا يصلون في رمضان وحداناً، وكان الرجل يصلي فيصلي بصلاته
الجماعة، فجمعهم عمر رضي الله عنه، فلما خرج فرآهم قال: نعمت البدعة هذه، والتي
ينامون عنها أفضل من هذه - يعني صلاة آخر الليل.
وكان الناس يقومون أوله. وقال الحسن: القصص بدعن ونعمت
البدعة؛ كم من أخ يستفاد، ودعوة تُستجاب.
أنواع البدع
والحوادث تنقسم إلى: بدعة مستحسنة، وإلى بدع مستقبحة، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم. واحتج بقول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هذه. وقال الإمام الشافعي أيضاً رضي الله تعالى عنه: المحدثات في الأمور ضربان: أحدهما ما حدث يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً فهذه البدعة الضلالة. والثاني: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا فهي محدثة غير مذمومة. وقد قال عمر في قيام شهر رمضان نعمت البدعة هذه يعني أنها محدثة لم تكن وإذا كانت فليس فيها ردّ لما مضى وقال بعضهم: وإنما كان ذلك لأن النبي ( حثّ على قيام شهر رمضان وفعله هو (، واقتدى به بعض الصحابة ليلة بعد أخرى، فهي مشروعة في الأصل. وكذا قول الحسن في القصص: نعم البدعة؛ لأن الواعظ مشروع، ومتى استند المحدث إلى أصل مشروع لم يذم.
متى تكون البدعة حسنة
؟
فالبدعة الحسنة متفق على جواز فعلها والاستحباب لها رجاء
الثواب لمن حسنت نيته فيها، وهي كل مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء،
ولا يلزم من فعله محظور شرعي، وذلك نحو بناء المنابر، والربط والمدارس، وخانات السبيل،
وغير ذلك من أنواع البر التي لم تعهد في صدر الإسلام؛ فإنه موافق لما جاءت به
الشريعة من اصطناع المعروف والمعاونة على البر والتقوى. وما يُعد من البدع الحسنة:
التصانيف في العلوم النافعة الشرعية على اختلاف فنونها، وتعيين قواعدها، وتفسير
الكتاب العزيز، وجمع الأخبار النبوية، وتفسيرها، والكلام على الأسانيد والمتون،
وتتبع كلام العرب واستخراج علوم جمَّة منه، فذلك كله وما شاكله من علوم حسنة ظاهر
فائدته، معين على معرفة أحكام الله، وفهم معاني كلامه، وسنة رسوله. وكل ذلك مأمور
به لا يلزم من فعله محظور شرعي. قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله في شرح قوله) :
" كل مُحدَث بدعة " هذا خاص في بعض الأمور دون بعض، وهو كل شيء أحدث على
غير مثال أصل من أصول الدين، وعلى غير مقياسه. وأما ما كان منها مبنياً على قواعد
الأصول ومردود إليها، فليس ببدعة ولا ضلالة. وأما إذا كانت البدعة كالمتمم، فقد
اعتقد نقص الشريعة، فإذا كانت مضادة فهي أعظم شيء لم يكن من قبل في الشريعة لا
مستند لهم فيه.
البدعة المستقبحة
فالبدعة المستقبحة هي ما كان مخالفاً للشريعة أو ملتزماً لمخالفتها، وذلك منقسم إلى محرم ومكروه، ويختلف ذلك باختلاف الوقائع، وبحسب ما به مخالفة الشريعة تارة ينتهي ذلك إلى ما يوجب التحريم، وتارة لا يتجاوز كراهة التنزيه. وكل فقيه موفق يتمكن بعون الله من التمييز بين القسمين مهما رسخت قدمه في إيمانه وعلمه.
أقسام البدع المستقبحة
وهذه البدع المستقبحة تنقسم إلى
قسمين: أحدهما: في العقائد المؤدية إلى الضلال والخسران، مثلها الاعتراض على ما
أحدثه أهل الضلالة والظلمة.
وأهل الفرق الضالة ست، وقد انقسمت كل فرقة منها اثني عشر
فرقة، فذلك اثنان وسبعون فرقة، هم الذين أخبر النبي ( أنهم في النار، ولسنا نحن
هنا بصدد بيانها، ولكن من لزوم السنة والجماعة وأعرض عن أصول هذه البدع وفروعها
كان في الفرقة الناجية بفضل الله تعالى.
القسم الثاني: في الأفعال من البدع المستقبحة: وهو
المراد من هذا الباب، وينقسم قسمين: قسم تعرف العامة والخاصة أنه بدعة محدثة، إما
محرمة، وإما مكروهة.
وقسم يظنه معظمهم عبادات، وقربان، وطاعات وسنناً:
الخلوة بالنساء الأجنبيات ومصاحبتهن من البدع التي يمكن أن تؤدي إلى
الهلاك
فمن القسم الأول ما قد وقع فيه طائفة من جهال العوام المنابذين لشريعة الإسلام، التاركين الاقتداء بأئمة الدين. وهو ما يفعله طائفة من المنتمين إلى الفقر، الذي حقيقته الافتقار من الإيمان، من مؤاخاة النسوان الأجانب والخلوة بهن. وهذا حرام باتفاق المسلمين، ومستحل هذا كافر، وفاعله على طريق التهاون به عاص، ضال، مضل، مارق من الدين، ومفارق لجماعة المسلمين، أبعد الله فاعله؛ فإن النظر إلى النساء الأجانب، والخلوة بهن، وسماع كلامهن، حرام على كل بالغ ما خلا ذي الرحم المحرم بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة. وليس هذا موضع استقصاء الدليل عليه، وإنما المراد تبيين الدليل والبدع والتحذير منها، وليس هذا يخفى على مسلم.
فصل
معاشرة الأحداث والنظر إلى الغلمان
من البدع المهلكة ومن ذلك معاشرة
الأحداث. وقد كان السلف يبالغون في الإعراض عن المُرْد.. وصحبة الأحداث أقوى حبائل
الشيطان.
قال أبو بكر الرازي؛ قال أبو يوسف بن حسين: نظرت في آفات
الخلق فعرفت من أين أتت، رأيت أنه من صحبة الأحداث ومعاشرة الأضداد.
قال أبو عبد الله الجلاء: كنت واقفاً أنظر إلى غلام
نصراني حسن الوجه، كأنما أفرغ في قالب الجمال، فمر بي أبو عبد الله، فقال: أيش
وقوفك هنا؟ فقلت: يا عم ترى هذه الصورة تعذب في النار مع ما أعطيت من الحسن
والجمال؟ فضرب بيده على كتفه، قال لتجدن غبَّها ولو بعد حين. قال: فوجدت غبها بعد أربعين
سنة، أنسيت القرآن، وعن أبي الأديان، قال: كنت مع أستاذي أبي بكر الدقاق، فمر بي
حدث، فنظرت إليه فرآني أنظر إليه، فقال: لتجدن غب هذه النظرة ولو بعد حين. فبقيت
عشرين سنة وأنا أراعي ذلك فما أجد ذلك الغب؛ فنمت ليلة وأنا مفكر فيما قال لي
الأستاذ، فأصبحت وأنا قد أنسيت القرآن.
هذه عقوبة للمتهاونين بذلك في الدنيا والآخرة أدهى وأمر.
وأما أصحاب الحزم والعزم فبالغوا في الإعراض عنه، كان
أبو سفيان الثوري لا يدع أمرد يجيء له يجالسه. وقال يحيى بن معين: ما طمع أمر
بصحبتي.
وكذلك الإمام أحمد، ودخل سفيان الحمام، فدخل عليه غلام
حسن الوجه، فقال: " أخرجوه أخرجوه فإني أرى مع كل امرأة شيطان، ومع كل صبيح بضعة
عشر شيطاناً " . وقال محمد بن أحمد: دخلنا على محمد بن الحسين، وكان يقال عنه:
إنه ما رفع رأسه إلى السماء منذ أربعين سنة، ومعنا غلام حسن، فجلس بين يديه، فقال:
قم من حذائي. وأجلسه من خلفه.
واعلم يا أخي أن كل من فاته العلم تخبط؛ فإن حصل له
العلم وفاته العمل كان أشد تخبطاً. ومن استعمل أدب الشرع مثل قوله تعالى: (قُلّ
للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) الآية، فمتى غض بصره في البداية سلم مما يصعب أمره في النهاية؛
فقد ورد النهي عن مجالسة المردان. وأوصى العلماء بذلك، فلا يغتر مغتر فيكون العطف
عليه أسرع، والهلاك أقرب من حاجبيه إلى عينيه. وليس هذا موضع استقصاء ما ورد في
ذلك من النهي والزجر، ولو استقصينا ما ورد في ذلك لطال الكلام، وإنما المراد بيان
ما أحدث من البدع والضلال.
فصل
السماع والرقص والوجد تسقط المروءة
ومن ذلك ما أحدث من السماع والرقص
والوجد. وفاعل ذلك ساقط المروءة، مردود الشهادة، عاصٍ لله ولرسوله.
وهو محظور قال الله عز وجل: (ومن الناس من يشتري لهو
الحديث ليضل عن سبيل الله).
قال ابن مسعود: واللهو هنا: الغناء.
وكذلك قال عكرمة، ومجاهد، والحسن، وسعيد بن جبير،
وقتادة، وإبراهيم.
وقال تعالى: (وأنتم سامدون).
قال ابن عباس: هو الغناء.
وكذلك قال مجاهد: يقول أهل اليمن: سمد فلان إذا غنّى.
وقال تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك).
قال مجاهد: هو الغناء والمزامير.
وعن نافع، قال: كنت مع ابن عمر في طريق، فسمع زمارة راع
فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل عن الطريق، وقال: رأيت رسول الله ( سمع زمارة راعٍ
فصنع كذلك ياأخي.
فإذا كان هذا فعلهم في حق صوت ليس بمطرب يخرج مستمعه عن
حد الاعتدال، فكيف بسماع صوت أهل هذا الزمان ومزمرتهم؟ وقد نهى رسول الله ( عن
شراء المغنيات وعن بيعهن، وقال: " ثمنهن حرام " . والأحاديث والآثار في
ذلك كثيرة، وليس هذا موضع استقصاء ما ورد في ذلك.
واعلم وفقك الله لطاعته أن الأشعار
التي ينشدها المغنون اليوم يصفون فيها المستحسنات، والخمر، والقَدّ، والعين، وغير
ذلك، مما يحرك الطباع، ويخرجها عن الاعتدال، ويثير كامنها من حيث اللهو، وهو حرام.
قال الطبري رحمه الله: أجمع علماء الأنصار على كراهة الغناء، والمنع عنه. وهذا منعهم
منه مع أنه كان في زمانهم منه ما يتعلق بالزهديات المليحة، فكيف لو رأوا ما أحدثوا
في هذا الزمان فيه من الزيادات القبيحة. فاحذره يا أخي، واقتد بالسلف الصالح. فقد
قال ابن عباس رضي الله عنه: الغناء يُنبتُ النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل.
وسأل رجل القاسم بن محمد عن الغناء فقال: أنهاك عنه،
وأكرهه لك. فقال: حرام هو؟ فقال: يا أخي إذا ميّز الله الحق من الباطل في أيهما
تجعل الغناء؟ وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك.
بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من
حملة العلم أن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما
ينبت العشب الماء. ولعمري لتوقي ذلك بترك حضور المواطن في قلبه.
وقال الفضيل بن عياض: الغناء رقية الزنا. وقال الضحاك:
الغناء مفسدة للقلب، ومسخطة للرب.
وقال يزيد بن الوليد: يا بني أمية، إياكم والغناء، فإنه
يزيد الشهوة، ويهدم المروءة وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعله السكرة.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: الغناء ينبت النفاق في
القلب. وسئل عن استماع القصائد، فقال: أكرهه، هو بدعة، ولا يجالسون. وقال: التغبير
بدعة محدثة، وقال إسحق بن عيسى: سألت مالك بن أنس عما يترخص فيه أهل المدينة في الغناء،
فقال: إنما يفعله عندنا الفساق.
وقال الطبري رحمه الله: أما مالك فإنه نهى عن الغناء،
وعن استماعه، وقال إذا اشترى الرجل جارية، فوجدها مغنية كان له ردها بالعيب.
وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يكره الغناء، ويجعل سماع
الغناء من الذنوب.
وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة، مثل: إبراهيم النخعي،
والشعبي، وحماد، وسفيان، وغيرهم. قال: ولا يعرف لهم مخالف في كراهة ذلك والمنع منه.
وقال الشافعي رضي الله عنه: خلفت بالعراق شيئاً أحدثه
الزنادقة يسمى التغيير يشغلون به الناس عن القرآن. وقال: الغناء هو مكروه يشبه
الباطل.
وقد كان أصحاب الشافعي ينكرون السماع.
هذا قول العلماء فيه، وكراهيتهم له، مع تجريده عن غيره
من المحرمات من حضور النساء، والمردان، والدفوف، والشبابات، وغير ذلك من أنواع
المنكرات. قال الشيخ جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله: وكم فتنت الأصوات بالغناء
من زاهد وعابد، قال: وقد ذكرنا جملة من أخبارهم في كتابنا المسمى ب " ذم
الهوى " ، فمن أراد أن يعرف فتنته وعاقبة أمره، فليقف عليه، ولينظر ما تم على
غيره، فينبغي للعاقل أن ينصح نفسه وإخوانه، ويحذرهم مكائد الشيطان، ولولا خوف
الإطالة لاستقصينا ما ورد في ذلك، ولكن العاقل الفطن الموفق من قبل نصح الناصح
بأخصر عبارة وعرف الحق واتبعه بأدنى إشارة.
بدع تعظيم الأماكن والقبور
فصل
تعظيم الأماكن التي لا تستحق التعظيم
ومن البدع أيضاً: ما قد عم الابتلاء به تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد بالزعفران المجبول بماء الورد، وإسراج مواضع مخصوصة في كل بلد بما ليس عليهم، فيفعلون ذلك، ويظنون أنهم متقربون بذلك؛ ثم يتجاوزون في ذلك إلى تعظيم تلك الأماكن في قلوبهم؛ فيعظمونها، ويرجون الشفاء، وقضاء الحوائج بالنذر لها، وتلك الأماكن من بين عيون وشجر وحائط وطاقة وعامود وما أشبه ذلك بذات أنواط الواردة في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه، عن أبي واقد الليثي.
قال: خرجنا مع رسول الله ( إلى
حنين، وكانت لقريش شجرة خضراء عظيمة، يأتونها كل سنة، فيعلقون عليها أسلحتهم،
ويعلفون عندها، ويذبحون لها. وفي رواية أخرى: خرجنا مع رسول الله ( قبل حنين، ونحن
حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها، وينيطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات
أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا " ذات أنواط " كما لهم
" ذات أنواط " فقال رسول الله) : " سبحان الله الله أكبر!! "
كما قال قوم موسى لموسى: (اجعل لنا إلهاً كما لهم الهة) قال: " والذي نفسي
بيده لتركبنّ سنة من كان قبلكم " فأنكر النبي ( مجرد مشابهتهم للكفار.
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي: فانظروا رحمكم الله أينما
وجدتم سِدرةً، أو شجرة، أو عاموداً، أو حائطاً، أو طاقة، أو حجراً؛ يقصدها الناس،
ويعظمون من شأنها، ويرجون عندها البُرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها الخِرَق، ويوقدون
عندها شمعاً، أو سراجاً، أو ينذرون بها زيتاً، أو غيره، فهي ذات أنواط. فاقطعوها،
واقلعوها، وقوله " ينوطون " أي يعقلون وهذا أمر منكر قبيح؛ فإن هذا يشبه
عبادة الأوثان وهو ذريعة إليها، ونوع من عبادة الأوثان؛ إذ عبدة الأوثان كانوا
يقصدون بقعة بعينها لتمثال هناك أو غير تمثال يرجون الخير بقصدها. ولم تستحب
الشريعة ذلك، فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض. وسواء قصدها ليصلي عندها، أو
ليدعوا أو ليقرأ، أو ليذكر الله، أو ليذبح عندها ذبيحة، أو يخصها بنوع من العبادات.
بدع النذور
وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهناً لتنويرها أو شمعاً، ويقول: إنها تقبل النذر، كما يقول بعض الضالين، أو ينذر ذلك لقبر، أي قبر كان، فإن هذا نذر معصية باتفاق العلماء، لا يجوز الوفاء به، بل عليه كفارة يمين عند كثير من العلماء، منهم أحمد وغيره، وكذلك إذا نذر خبزاً وغيره للحيتان أو لعين أو لبئر، وكذلك إذا نذر مالاً ما: دراهم، أو ذهباً، أو بقراً، أو جملاً، أو معزاً للمجاورين عند القبور، أو عند هذه الأماكن المنذور لها، ويسمون السدنة فهذا أيضاً نذر معصية، وفيه شبه من النذر لسدنة الأصنام.
قبور وهمية
فمن هذه الأماكن ما يظن أنه قبر
نبي أو رجل صالح، أو يظن أنه مقام، وليس كذلك، فمن هذه الأماكن: عدة أماكن بدمشق،
مثل ما يزعمون عن قبر أبي بن كعب أنه خارج باب الشرقي، ولا يعرف بين أهل العلم أن
أبي بن كعب إنما توفي بالمدينة ولم يمت بدمشق، والله أعلم قبر من هو. وكذلك مكان
بالحائط القبلي بالجامع، ويقولون: إنه قبر هود عليه السلام. فلن يذكر أحد من أهل
العلم أن هوداً عليه الصلاة والسلام مات بدمشق، بل قيل: إنه مات باليمن، وقيل: بمكة، وكذلك قبر بباب حبرون، يقال: إنه
قبر بعض أهل البيت، وليس بصحيح، بل هذا باب قديم قيل: بناه سليمان عليه السلام،
وقيل ذو القرنين، وقيل غير ذلك. وإنما ذكر لهم بعضهم من لا يوثق به في شهور سنة ست
وثلاثين وستمائة أنه رأى مناماً يقتضي أن ذلك المكان دفن فيه بعض أهل البيت، قال
الشيخ شهاب الدين أبو محمد عبد الرحمن المعروف بأبي شامة الشافعي رحمه الله: وقد أخبرني
عنه ثقة أنه اعترف أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريق المارة، وجعلوا الباب بكماله مسجداً
مغصوباً.
وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فضاعف الله نكال من تسبب
بذلك في بنائه، واجزل ثواب من أعان على هدمه اتباعاً لسنة رسول الله ( في هدم مسجد
الضرار المرصد لأعدائه من الكفار. فلم ينظر الشرع إلى كونه مسجداً، وهدمه لما قصد به
من السوء والضرار.
وكذلك مسجد خارج باب الجابية، يقال له: مسجد أويس
القرني، ولم يذكر أحد أن أويساً مات بدمشق، ومن ذلك قبر باب الصغير، يقال: إنه قبر
أم سلمة زوجة النبي (. ولا خلاف أن أم سلمة رضي الله عنها ماتت بالمدينة. ومن ذلك
مشهد بقاهرة مصر يقال: إن فيه رأس الحسين رضي الله عنه، وأصله أنه كان له بعسقلان
مشهد، يقال باتفاق العلماء - لم يخالف أحد منهم: إن رأس الحسين كان بعسقلان، بل
فيه أقوال ليس هذا مكانها.
وكذلك مقابر كثيرة لأسماء رجال معروفين، وقد علم أنها
ليست مقابرهم، فهذه المواضع ليست فيها فضيلة أصلاً.
أوهام وأباطيل
ومن ذلك مواضع يقال إن فيها أثر النبي ( أو غيره، كما يقوله الجهلة في الصخرة التي ببيت المقدس إن فيها أثراً من وطء النبي (. وفي مسجد قبل دمشق يسمى القدم يقال: إن فيه أثر قدم موسى (. وهذا باطل لا أصل له، ولم يقدم موسى ( دمشق، ولا ما حولها، وكذلك مساجد تضاف إلى بعض الأنبياء والصالحين تم بناؤها على أنه رؤى في المنام هناك، ورؤية النبي ( أو الرجل الصالح في المنام ببقعة لا يوجب لها فضيلة، تقصد لأجلها وتتخذ مصلى مكروه، وإنما يفعل ذلك وأمثاله أهل الكتاب. وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في أكثر البلاد، فهذه البقاع لا يعتقد لها خصيصة كائنة ما كانت، فإن تعظيم مكان لم يعظمه الله شر مكان، وهذه المشاهد الباطلة إنما وضعت مضاهاة لبيوت الله، وتعظيماً لما لم يعظمه الله، وعكوفاً على أشياء لم تنفع ولم تضر، وصداً للخلق عن سبيل الله، وهي عبادته وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسول الله ( واتخاذها عيداً هو الاجتماع عندها، واعتياد قصدها، فإن العيد من المعاودة. وقد يحكى عندها من الحكايات التي فيها تأثير مثل أن رجلاً دعا عندها فاستجيب، أو نذر لها فقضيت حاجته، أو نحن ذلك. وبمثل هذه الأمور كانت تعبد الأصنام، وبمثل هذه الشبهات حدث الشرك في الأرض.
كراهية النذر
وقد صح عن النبي ( أنه نهى عن النذر، وقال: " إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل " فإذا كان نذر الطاعات المعلقة بشرط لا فائدة فيه، ولا يأتي بخير، فما الظن بالنذر لما لا يضر ولا ينفع.
دفع شبهة
وأما إجابة الدعاء هناك فقد يكون
سببه اضطرار الداعي، وقد يكون سببه مجرد رحمة الله له، وقد يكون سببه أمراً قضاه
الله عز وجل لا لأجل دعائه، وقد يكون له أسباب أخرى. وإن كانت فتنة في حق الداعي،
وقد كان الكفار يدعون، فيستجاب لهم، فيُسقون ويُنصرون ويُعافون مع دعائهم عند
أوثانهم وتوسلهم بها. وقد قال تعالى: (كَّلاّ نُمْدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك
وما كان عطاء ربك محظوراً).
وأسباب المقدورات فيها أمور يطول تعدادها، وإنما على
الخلق اتباع ما بعث الله به المرسلين، والعلم بأن فيه خير الدنيا والآخرة.
النهي عن الصلاة في القبور واتخاذها عيدا
ً
ومن هذه الأمكنة ما له خصيصة لكن لا تقتضي اتخاذها
عيداً، ولا الصلاة عندها، ونحوها من العبادات كالدعاء عندها. فمن هذه الأمكنة قبور
الأنبياء والصالحين. وقد جاء عن رسول الله ( أنه قال: " لا تجعلوا بيوتكم
قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " .
وعن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله أنه رأى
رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ( فيدخل فيها ويدعو، فقال: ألا أحدثك
حديثاً، عن أبي، عن جدي، عن رسول الله ( أنه قال: " لا تتخذوا قبري عيداً ولا
بيوتكم قبوراً وصلوا عليّ؛ فإن صلاتكم عليّ تبلغني حيث كنتم " أخرجه الحافظ
أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقري فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة
على الصحيحين، وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في صحيحه، وروى سعيد في سنته عن أبي
سعيد مولى المهدي قال: قال رسول الله) : " لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا بيوتكم
قبوراً، وصلوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني " .
وروي أيضاً عن سهل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسين بن
الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر، فناداني وهو في مبيت فاطمة
يتعشى، فقال: هلمَّ إلى العشاء، فقلت سلمت على النبي (، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم
قال: إن رسول الله ( قال: " لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر؛
لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا عليّ - فإن صلاتكم تبلغني حيث
ما كنتم " .
وجه الدلالة: أن قبر رسول الله ( أفضل قبر على وجه
الأرض، وقد نهى ( عن اتخاذه عيداً من المعاودة إليه، فقبر غيره أولى بالنهي كائناً
من كان، ثم إنه قرن ذلك بقوله: " ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً " ، أي لا
تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، عكس ما يفعله المشركون
من النصارى في التشبيه بهم.
ثم أنه ( عقب النهي عن اتخاذه
عيداً بقوله: " وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم " ، يشير بذلك
( إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه، فلا
حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً، ثم إن أفضل التابعين من أهل البيت علي بن الحسين نهى
عن ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره (، وبين أن قصده للدعاء ونحوه، اتخاذه
عيداً، وكذلك ابن عمه الحسين بن الحسين شيخ أهل بيته كره أن يقصد قبره الرجل للسلام
عليه ونحوه، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً.
فانظر هذه السنة، كيف يخرجها أهل بيته، الذين لهم من
رسول الله ( قرب النسب وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا له أضبط.
آداب زيارة القبور
والذي يستحب للرجل الزائر للقبور
أن يتذكر بزيارته الآخرة، وأن يسلم عليهم، ويدعو لهم بالمأثور من الدعاء الذي كان
يعلم النبي ( أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا قبالتهم: " السلام عليكم أهل
الديار، من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، فنسأل الله لنا ولكم
العافية أنتم لنا سلف ونحن بالأثر " . وإن قرأ شيئاً من القرآن وأهداه إليهم
فهو حسن.
وما سوى ذلك من المحدثات، كالصلاة عندها، واتخاذها
مساجد، وبناء المساجد عليها؛ فقد تواترت النصوص عن النبي ( بالنهي عن ذلك،
والتغليظ على فاعله.
النهي عن بناء المساجد على القبور
فأما بناء المساجد عليها، وإشعال
القناديل والشموع أو السُّرج عندها، فقد لعن فاعله، كما جاء عن النبي (، قال:
" لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " . حديث حسن،
وقد تقدم. وصرح عامة علماء الطوائف بالنهي عن ذلك متابعة للأحاديث الواردة في النهي
عن ذلك. ولا ريب في القطع بتحريمه لما بينت في صحيح مسلم عن جندب ابن عبد الله
البجلي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ( قبل أن يموت بخمس يقول: " إني
أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ
إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من
كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور
مساجد. إني أنهاكم عن ذلك " .
وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما، قال:
لما نزل رسول الله ( طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال
وهو كذلك: " لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما
صنعوا.
وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول
الله (، قال: " قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " .
وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله ( في مرضه
الذي مات فيه: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "
قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً، متفق عليه.
وروى الإمام أحمد عن أبي مسعود رضي الله عنه أن النبي (
قال: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور
مساجد " .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: " لعن رسول الله
زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " . رواه الإمام أحمد وأبو
داود، والترمذي، والنسائي.
حكم المساجد المبنية على القبور
وفي الباب أحاديث كثيرة وآثار، فهذه المساجد المبنية على القبور يتعين إزالتها، هذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المعروفين، وتكره الصلاة فيها من غير خلاف، ولا تصح عن الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، لأجل النهي واللعن الوارد في ذلك.
بدع أخرى تتعلق بالقبور
وكذلك إيقاد المصابيح كالسرج والشمع والقناديل في هذه المشاهد والتُرب، فلا خلاف في النهي الوارد في ذلك، وفاعله ملعون على لسان رسول الله (؛ حيث قال: " لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُرُج " .
ولا يجوز الوفاء بما نذر من زيت وشمع وغير ذلك، بل موجبه موجب نذر المعصية. وكذلك الصلاة عندها مكروهة وإن لم يبن عليها مسجد، فإن كل موضع يصلى فيه فهو مسجد وإن لم يكن هناك بناء، والنبي ( قد نهى عن ذلك بقوله: " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا عليها " وقال: " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً " يعني كما أن القبور لا يصلى فيها فلا تجعلوا بيوتكم كذلك. ولا تصح الصلاة بين القبور في مذهب الإمام أحمد وتكره عند غيره.
أصل عبادة الأوثان
واعلم أن من الفقهاء من اعتقد أن
سبب الكراهة في الصلاة في المقبرة ليس إلا كونها مظنة النجاسة، ونجاسة الأرض مانع
من الصلاة عليها، سواء كانت مقبرة أو لم تكن. وليس ذلك كل المقصود بالنهي، وإنما
المقصود الأكبر بالنهي إنما هو مظنة اتخاذها أوثاناً.
كما ورد عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: وأكره
أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً مخافة الفتنة عليه من بعده من الناس. وقد نص
النبي ( على العلة بقوله: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد " ويقول:
" إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد، ولا
تجلسوا عليها " الحديث المتقدم. وأخبر ( أن الكفار " كانوا إذا مات فيهم
الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شر الخلق عند
الله يوم القيامة " فجمع ( بين التماثيل وبين القبور. وأيضاً فإن الّلات كان سبب
عبادتها تعظيم قبر رجل صالح كان هناك يلت السويق بالسمن ويطعمه للحاج، فلما مات
عكفوا على قبره. وقد ذكروا أيضاً أن وداً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً، قوم
صالحون كانوا بين آدم ونوح عليهما السلام، وكان لهم اتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا
قال أتباعهم: لو صورنا صورهم. فلما مات الأتباع، وجاء بعدهم قوم آخرون، أتاهم
إبليس، فقال: إنما كان أولئك يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر. فعبدوهم. وذكر ذلك محمد
بن جرير الطبري بسنده. وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع ( هي التي أوقعت كثيراً
من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه. ولهذا تجد أقواماً كثيرة من الضالين
يتضرعون عند قبر الصالحين، ويخشعون، ويتذللون، ويعبدونهم بقلوبهم عبادة لا
يفعلونها في بيوت الله المساجد، بل ولا في الاسحار بين يدي الله تعالى، ويرجون من
الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد التي تشد إليها الرحال.
فهذه المفسدة هي التي حسم النبي ( مادتها حتى نهى عن
الصلاة في المقبرة مطلقاً وإن لم يقصد المصلى بركة البقعة ولا ذلك المكان سداً
للذريعة إلى تلك المفسدة التي من أجلها عبدت الأوثان. فأما إن قصد الإنسان الصلاة عندها،
أو الدعاء لنفسه في مهماته وحوائجه متبركاً بها راجياً للإجابة عندها، فهذا عين
المحادّة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه وشرعه، وابتداع دين لم يأذن به الله ولا
رسوله ولا أئمة المسلمين المتبعين آثاره وسننه.
فإن قصد القبور للدعاء رجاء الإجابة فمنهي عنه، وهو إلى
التحريم أقرب. والصحابة رضي الله عنهم - وقد أجدبوا مراتٍ - ودهمتهم نوائب
بعد موته (، فهلا جاءوا فاستسقوا واستغاثوا عند قبر
النبي ( وهو أكرم الخلق على الله عز وجل، بل خرج فيهم سيدنا عمر بن الخطاب رضي
الله عنه بالعباس عم النبي ( إلى المصلى فاستسقى به، ولم يستسقوا عند قبر النبي (.
فاقتد أيها المسلم إن كنت عبد الله بسلفك الصالح، وتحقق
التوحيد الخالص؛ فلا تعبد إلا الله، ولا تشرك بربك أحداً، كما أمر الله تعالى
بقوله: (فإياي فاعبدون)، وقال تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا
يشرك بعبادة ربه أحداً). فلا تعبد إلا إياه ولا تدْعُ إلا هو، ولا تستعن إلا به،
فإنه لا مانع ولا معطي ولا مضارّ ولا نافع إلا هو سبحانه وتعالى، لا إله إلا هو
عليه توكلت وإليه أنيب.
بدع الأعياد والمناسبات والمواسم
فصل
بدع الأعياد والمواسم والنهي عن مشاركة أهل الكتاب في أعيادهم ومواسمهم
ومن البدع والمنكرات مشابهة الكفار
وموافقتهم في أعيادهم ومواسمهم الملعونة، كما يفعل كثير من جهلة المسلمين في
مشاركة النصارى وموافقتهم فيما يفعلونه في خميس البيض الذي هو أكبر أعياد النصارى،
وفي المواليد وفي الشتاء من إيقاد النار، وصنع قطائف، وصبغ البيض، وخبز أقراص، وشراء
بخور، وخضاب الصبيان والنساء ويزعمون أن مريم عليها السلام تخرج من قبرها تمر على
تلك الثياب المنشورة، فيصيبها من بركتها. وذلك باطل لا أصل له. فطائفة يجعلون على
أبواب بيوتهم ودورهم صور الحيات والعقارب والصلبان، يزعمون أنها تطرد الهوام عنهم،
وإنما تطرد الملائكة؛ إذ صح عن النبي ( أنه قال: " لا تدخل الملائكة بيتاً
فيه كلب ولا صورة " .
ويقطعون قرون البقر والغنم والمعز بالنورة لأجل البركة.
وكل هذا باطل لا شك في تحريمه. وقد يبلغ التحريم في بعضه إلى أن يكون من الكبائر
وليس على المسلم أن يبحث عنها ولا يعرفها، بل يكفيه أن يعرف فعلاً من أفعالهم أو يوماً
أو مكاناً بسبب تعظيمه من جهتهم، وأنه لا أصل له في دين الإسلام، ونحن نبينه على
ما رأينا كثيراً من الناس الجاهلين قد وقعوا فيه. فمن ذلك خميس البيض، الذي تقدم
ذكره، الذي يسمونه الخميس الكبير. وإنما هو الخميس الحقير، وهو عيد النصارى
الأكبر، فجميع ما يحدثه المسلم فيه فهو من المنكرات.
ومن المنكرات فيه: خروج النساء إلى ظاهر البلد، وتبخير
القبور، ووضع الثياب على السطح، وكتابة الأوراق وإلصاقها بالأبواب، واتخاذه موسماً
لبيع البخور، وشراء ورقة، فإن رقي البخور واتخاذها قرباناً هو دين النصارى والصابئين،
وإنما البخور طيب يتطيب بدخانه كما يتطيب بسائر الطيب، ويستحب البخور حيث يستحب
التطيب. وكذلك اختصاصه بطبخ عدس أو بسيسة أو صبغ بيض، أو خبز أقراص، ونحو ذلك.
فأما القمار بالبيض، وبيع البيض لمن قامر به، أو شراؤه من المقامرين، فظاهره
التحريم.
ومن ذلك ما يفعله الفلاحون من نكث قرون البقر والماعز
والغنم، أو نكث الشجر، أو جمع أنواع من النبات والتبرك بها والاغتسال بمائها.
ومن ذلك ما يفعله النساء من أخذ ورق الزيتون والاغتسال
بمائه، أو قصد الاغتسال في الحمام في يوم السبت الذي يسمونه سبت النور، أو
الانغماس في ماء، فإن أصل ذلك ماء المعمودية.
ومن ذلك تعطيل الوظائف الرئيسية من الصنائع والتجارات،
وغلق الحوانيت، واتخاذه يوم راحة وفرح على وجه يخالف ما قبله وما بعده من الأيام.
كل ذلك منكر وبدعة، وهو شعار النصارى فيه. فالواجب على المؤمن بالله ورسوله أن لا يحدث
في هذا اليوم شيئاً أصلاً، بل يجعله يوماً كسائر الأيام.
النهي عن الاحتفال بما يسمى بليلة رأس السنة الميلادية
ومما يفعله كثير من الناس في فصل الشتاء، ويزعمون أنه ميلاد عيسى عليه السلام، فجميع ما يصنع أيضاً في هذه الليالي من المنكرات، مثل: إيقاد النيران، وإحداث طعام، وشراء شمع، وغير ذلك؛ فإن اتخاذ هذه المواليد موسماً هو دين النصارى، وليس لذلك أصل في دين الإسلام. ولم يكن لهذا الميلاد ذكر في عهد السلف الماضين، بل أصله مأخوذ عن النصارى، وانضم إليه بسبب طبيعي، وهو كونه في الشتاء المناسب لإيقاد النيران. ثم إن النصارى تزعم أن يحيى عليه السلام بعد الميلاد بأيام عمد عيسى عليه السلام في ماء المعمودية، فهم يتعمدون - أعني النصارى، في هذا الوقت ويسمونه عيد الغطاس. وقد صار كثير من جُهل المسلمين يدخلون أولادهم الحمام في هذا الوقت، ويزعمون أن ذلك ينفع الولد. وهذا من دين النصارى، وهو من أقبح المنكرات المحرمة.
النهي عن التشبه بالكافرين
ومن ذلك أعياد اليهود أو غيرهم من
الكافرين أو الأعاجم والأعراب الضالين، لا ينبغي للمسلم أن يتشبه بهم في شيء من
ذلك، ولا يوافقهم عليه، قال الله تعالى لنبيه محمد) : " ثم جعلناك على شريعة
من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً
وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين). وأهواء الذين لا يعلمون هو ما يهوونه
من الباطل، فإنه لا ينبغي للعالم أن يتبع الجاهل فيما يفعله من أهواء نفسه، قال
تعالى لنبيه) : (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن
الظالمين). فإذا كان هذا خطابه لنبيه (، فكيف حال غيره إذا وافق الجاهلين أو
الكافرين وفعل كما يفعلون مما لم يأذن به الله ورسوله ويتابعهم فيما يختصون به من
دينهم وتوابع دينهم؟ وترى كثيراً من علماء المسلمين الذين يعلمون العلم الظاهر،
وهم منسلخون منه بالباطن، يصنعون ذلك مع الجاهلين في مواسم الكافرين بالتشبه
بالكافرين، وقد جاء عن النبي ( أنه قال: " من أشد الناس عذاباً يوم القيامة
عالم لم ينفعه الله بعلمه " . والتشبه بالكافرين حرام وإن لم يقصد ما قصده،
بدليل ما روي عن ابن عمر عن رسول الله) : " من تشبه بقوم فهو منهم " .
رواه أبو داود وغيره في السنن. فهذا الحديث أقر أحوالاً تقتضي تحريم التشبه بهم.
روى عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله ( قال:
" ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا النصارى " . وعن أبي
هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله) : " خالفوا المشركين، احفوا
الشوارب، وأعفوا اللحى " فأمر رسول الله ( بمخالفة المشركين مطلقاً.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إياكم ورطانة الأعاجم،
وأن تدخلوا على المشركين في كنائسهم.
وقال عبد الله بن عمر: من بنى بأرض المشركين وصنع
نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حُشر معهم يوم القيامة.
وقد شرط عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا يظهروا
أعيادهم في بلاد المسلمين، فإذا كانوا ممنوعين من إظهار أعيادهم في بلادنا، فكيف
يسع المسلم فعلها؟ هذا مما يقوي طمعهم وقلوبهم في إظهارها، وإنما منعوا من ذلك لما
فيه من الفساد، إما لأنه معصية، وإما لأنه شعار الكفر. والمسلم ممنوع من ذلك كله.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اجتنبوا أعداء الله في دينهم، فإن السخط ينزل
عليهم. فموافقتهم في أعيادهم من أسباب سخط الله تعالى لأنه إما محدث وإما منسوخ.
مقاطعة المتشبه بهم وعدم جواز بيع العنب لمن يصنع الخمر منهم
والمسلم لا يقر على واحد منها.
وكما لا يحل التشبه بهم في أعيادهم، فلا يعان المسلم المتشبه بهم في ذلك، كما لا
يحل بيع العنب لمن يعصرها خمراً. ومن صنع في أعيادهم دعوة لم يجب إليها، ومن أهدى من المسلمين
هدية في هذه الأعياد مخالفة العادة، وهي مما فيه تشبه بهم، لم تقبل هديته.
واعلم أن نفي مخالفتهم أمر مقصود للشارع؛ لأن الكفر
بمنزلة مرض القلب وأشد، ومتى كان القلب مريضاً لم يصح من الأعضاء؛ وإنما الصلاح أن
لا يشبه القلب في شيء من أمور الكافر أنها كلها إما فاسدة وإما ناقصة. فالحمد لله على
نعمة الإسلام التي هي أعظم النعم، وأم كل خير كما يحب ربنا ويرضى. فموافقتهم فيما
هو منسوخ بشريعتنا قبيح، وأقبح منه ما أحدثوه من العبادات أو العادات؛ فإنه مما
أحدثه الكافرون، وموافقة المسلمين لهم فيه من أعظم المنكرات. فكل ما يتشبهون بهم
من عبادة أو عادة، فهو من المحدثات والمنكرات. وقد مدح الله عز وجل من لم يشهد
أعيادهم ومواسمهم ولم يشاركهم فيها بقوله: (والذين لا يشهدون الزور)، قال مجاهد
والضحاك والربيع بن أنس: هو أعياد المشركين. وقال ابن سيرين: هو الشعانين. وتقدم قوله)
: " خالفوا المشركين " وقال: " من تشبه بقوم فهو منهم " .
واعلم أنه لم يكن على عهد السلف السابقين من المسلمين من
يشاركهم في شيء من ذلك. فالمؤمن حقاً هو السالك طريق السلف الصالحين المقتفي لآثار
نبيه سيد المرسلين (، المقتفي بمن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين. فجعلنا الله منهم بمنه وكرمه إنه جواد كريم.
عدم الاغترار بكثرة الضالين واتباع أهل الحق ولو كانوا قلة
ولا ينظر الرجل إلى كثرة الجاهلين
الواقعين في مشابهة الكافرين والعلماء والغافلين وموافقتهم، فقد قال السيد الجليل
الفضيل بن عياض رضي الله عنه: عليك بطريق الهدى وإن قل السالكون واجتنب طريق
الردّى وإن كثر الهالكون.
اللهم اجعلنا من المهتدين المتبعين لآثار سبيل الصالحين،
ولا تجعلنا من الهالكين المتبعين لآثار سبيل الكافرين والضالين بمنك وكرمك، إنك
جواد كريم.
فصل
ما يظنه الناس طاعة وقربة
وهو بخلاف ذلك
وأم ا القسم الثاني مما يظنه الناس طاعة وقربة، وهو بخلاف ذلك، أو تركه أفضل من فعله، وهو ما قد أمر به الشارع في صورة من الصور من زمان مخصوص، أو مكان معين؛ كالصوم بالنهار، والطواف بالكعبة، أو أمر به شخص دون شخص، كالذي اختص به النبي ( في المباحات والتخفيفات، فبقيس الجاهل نفسه عليه، فيفعله وهو منهي عن فعله، أو يقيس الصور بعضها على بعض بسبب الحرص على الإكثار من إيقاع العبادات والقرب والطاعات، فيحملهم الحرص على فعلها في أوقات وأماكن نهاهم الشرع في اتخاذ تلك الطاعات فيها. ومنها ما هو محرم، ومنها ما هو مكروه. ويورطهم الجهل وتزيين الشياطين بأن يقولوا هذه طاعات وقرب، قد ثبت في غير هذه الأوقات فعلها، نحن نفعلها أبداً، فإن الله لا يعاقبنا على فعل الطاعة إذا ما فعلناها.
الصلاة في الأوقات المكروهة
وذلك مثل الصلاة في الأوقات المكروهة، وهي بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد طلوعها حتى ترتفع قدر رمح، وعند استوائها حتى تزول، وبعد العصر حتى تغرب الشمس.
صوم الأيام المكروهة
وكصومهم في الأيام المنهي عنها كالعيدين، وأيام التشريق، وكوصالهم في الصيام الذي هو من خصائص النبي (. وقد اشتد نكيره على من فعل ذلك.
الرد على من فعل هذا
فهؤلاء وأمثالهم متقربون إلى الله
بما لم يشرعه الله، بل نهى عنه. وإذا قيل لهؤلاء: (لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما
نحن مصلحون ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) وما أحسن ما قال ولي الله أبو
سليمان الداراني رحمه الله: ليس لمن ألهم شيئاً من الخيرات أن يعمل به حتى يسمعه
من الأثر، فإذا سمعه من الأثر عمل به، وحمد الله تعالى حين وافق ما في قلبه.
وقال أيضاً: ربما وقع في قلبي النكتة من نكت القوم
أياماً، ولا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة.
وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله: من توجب عليه رد وديعة
في ذمته، فقام فتحرم بالصلاة التي هي أقرب القربات إلى الله تعالى، عصى ربه.
فلا يكفي كون جنس فعله من جنس الطاعات ما لم يراع فيه
الوقت، والشرط، والترتيب.
واغتر بعض الجاهلين بقوله تعالى: (واسجد واقترب)، وظنّ
أن هذا يقتضي العموم في جميع الأوقات، واعتضد بقوله: (أرأيت الذي ينهى عبداً إذا
صلى) وغفل
عن أن السجود المقرب إلى الله تعالى هو السجود المأذون فيه، وهو المشروع. والإنكار
في الآية وقع على من نهي عن الصلاة المأذون فيها، وهي المشروعة، فتلك التي لا
ينبغي لأحد أن ينهى عنها. أما إذا صلى صلاة قد علمنا نهي الشارع عنها، فإنه يجب
على كل أحد علم به نهيه عنها، بدليل الحديث الثابت في الصحيحين من رواية ابن عمر
رضي الله عنهما: أن النبي ( نهى عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى
تغرب. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: " ثلاث ساعات كان رسول الله ( ينهى
أن نصلي أو نقبر فيهم موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم
الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف للغروب حتى تغرب " أخرجه مسلم.
وعن ابن عمر: أنه رأى رجلاً يصلي بعد الجمعة في مقامه
ركعتين، فدفعه.
وفي رواية: أنه أبصر رجلاً يصلي الركعتين والمؤذن يقيم
الصلاة فدفعه، وقال: تصلي الصبح أربعاً؟!! أخرجه البيهقي في السنن.
وقد جاء هذا اللفظ في الصحيح مرفوعاً من حديث عبد الله
بن مالك بن عيينة.
وروى البيهقي عن عمر رضي الله عنه: أن النبي ( نهى عن
التنفل بعد الفجر سوى ركعتي الفجر.
قال يسار مولى ابن عمر: رآني ابن عمر وأنا أصلي بعد
الفجر وأسلم من ركعتين، فقال: إن رسول الله ( خرج علينا ونح نصلي كما تصلي فقال:
" ليبلغ الشاهد منكم الغائب، لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين " يعني سنة
الفجر لا غير.
وعن ابن عمر أيضاً: أن رسول الله (
نهى عن الوصال، فقالوا إنك تفعله! فقال: " إني لست كأحدكم إني يطعمني ربي
ويسقيني " وعن أبي هريرة نحوه. متفق عليه.
وعن كعب بن مالك: أن رسول الله ( بعثه و أوس بن الحارث
في أيام التشريق، فناديا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشرب.
رواه مسلم، ورواه الإمام أحمد بنحوه عن سعد بن أبي وقاص.
وروى الدار قطني عن أنس أن النبي ( نهى عن صوم خمسة أيام
في السنة: يوم الفطر، ويوم النحر، وثلاثة أيام التشريق. ونهى ( أيضاً عن استقبال
رمضان باليوم أو اليومين، وعن إفراد الجمعة بالصيام وليلتها بالقيام، وعن إفراده يوم
السبت بالصوم، وكذا صيام أعياد الكفار على سبيل التعظيم ما لم يوافق عادة له.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله) :
" لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين
الأيام إلا أن يكون صوماً يصومه أحدكم " رواه مسلم.
وعن عبد الله بن بشير عن أخته واسمها الصماء: أن رسول
الله ( قال: " لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم
إلا عود عنب أو لحاء شجرة فليمضغه " . رواه أبو داود والترمذي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله) :
" لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجلاً كان يصوم صوماً
فليصمه " . متفق عليه.
أفيجوز لمسلم أن يسمع هذه الأحاديث، ثم يقول إن النبي (
نهى الناس عن الصلاة والصوم من حيث هو صلاة أو صوم؟ وقائل هذا جاهل محرف لكتاب
الله وسنة رسوله (، فيدل كلامه على أنه مارق في الدين، قد سلبه الله لذة فهم مراده
من وحيه، وإن كان هذا من أوضح المواضع، فكيف بما يدق معانيه؟ فكل من رد على الناهي
عن ذلك، فإنه يتضمن الرد على رسول الله (، فإنه هو الذي نهى عنه، وأمرنا بإنكار
المنكر، والله حسيب من افترى.
صلاة الرغائب
ومن هذا القسم أمور اشتهرت في معظم بلاد الإسلام، وعظم وقعها عند العوام، ووضعت فيها أحاديث كذب على رسول الله (، واعتقد بسبب تلك الأحاديث فيها ما لم يعتقد فيما افترضه الله تعالى واقترن بها مفاسد كثيرة، وأدى التمادي في ذلك إلى أمور منكرة، فتطاير شررها فظهر شرها، فمنها " صلاة الرغائب " في " أول ليلة جمعة من رجب " . واعلم رحمك الله أن تعظيم هذا اليوم، وهذه الليلة، إنما أحدث في الإسلام " بعد المائة الرابعة " وروى في حديث موضوع باتفاق العلماء مضمونه: فضيلة صيام ذلك، وقيام تلك الليلة وسموها صلاة الرغائب. والذي عليه المحققون من أهل العلم النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم، وعن قيام هذه الليلة بهذه الصلاة المحدثة، وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم من صنع الأطعمة وإظهار الزينة وغير ذلك حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من الأيام. وكذلك يوم آخر في وسط رجب تصلى فيه صلاة تسمى " صلاة أم داود " ، فإن ذلك أيضاً لا أصل له.
من هو واضع تلك الصلاة
؟
وقال الإمام الحافظ أبو الخطاب: أما صلاة الرغائب
فالمتهم بوضعها علي ابن عبد الله بن جهضم، وضعها بحديث عن رجال مجهولين لم يوجدوا
في جميع الكتب، وأصلها ما حكاه الطرطوشي في كتابه، قال: أخبرني أبو محمد المقدسي
قال: لم يكن عندنا في بيت المقدس قط " صلاة الرغائب " هذه الليلة تصلى
في رجب وشعبان، وأول ما حدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، قدم علينا في بيت
المقدس رجل من " نابلس " يعرف بابن أبي الحمرا، وكان حسن التلاوة، فقام
يصلي في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان، فصلى خلفه رجل، ثم انضاف إليهما ثالث
ورابع، فما ختمها إلا وهم جماعة كثيرة، ثم جاء في العام الثاني، فصلى معه خلق
كثير، وشاعت في المسجد الأقصى هذه الصلاة، وانتشرت في بيوت الناس ومنازلهم، ثم
استقرت من ذلك الزمان كأنها سنة إلى يومنا هذا، فقيل لذلك الرجل الذي أحدثها بعدما
تركها: إنا رأيناك تصليها في جماعة؟ قال: نعم وأستغفر الله منها.
قال: وأما صلاة رجب فلم تحدث عندنا في بيت المقدس إلا
بعد سنة ثمانين وأربعمائة. وما كنا رأيناها ولا سمعنا بها من قبل ذلك.
فتوى ابن الصلاح في صلاة الرغائب
وقد استفتي فيها الشيخ تقي الدين بن الصلاح رحمه الله، فقال: أما الصلاة المعروفة في ليلة الرغائب. فهي بدعة، وحديثها المروي موضوع وما حدث إلا بعد أربعمائة سنة من الهجرة، وليست ليلتها تفضل على أشباهها من ليالي الجمع.
ليلة النصف من شعبان
وأما ليلة النصف من شعبان، فلها فضل، وإحياؤها بالعبادة مستحب، ولكن على الانفراد ومن غير جماعة. واتخاذ الناس لها ولليلة الرغائب موسماً وشعاراً بدعة مكروهة، وما يزيدونه فيها على الحاجة والعادة من الوقيد ونحوه فغير موافق للشريعة.
الصلاة الألفية
والصلاة الألفية التي تصلى ليلة
النصف من شعبان لا أصل لها ولأشباهها. فالعجب من حرص الناس على الأمر المبتدع في هاتين الليلتين،
وتقصيرهم في الأمور المؤكدة الثابتة عن رسول الله (، والله المستعان.
واعلم أن هذه الصلاة المبتدعة تناقض قواعد الشريعة من
وجوه.
أحدهما أن النبي ( نهى عن قيام ليلة الجمعة على التخصيص،
وهذا النهي بطريق النظر يشمل النهي عن صلاة الرغائب، فكان فعلها داخلاً تحت النهي.
الثاني: مخالفة سنة السكون في الصلاة بسبب عد التسبيحات،
وعدّ سورة القدر، والإخلاص، في كل ركعة، ولا يتأتى ذلك إلا بتحريك الأصابع في
الغالب. وقد ثبت في الصحيحين: أن النبي ( قال: " اسكنوا في الصلاة " .
الثالث: مخالفة سنة خشوع القلب وحضوره في الصلاة،
وتعريفه الله تعالى، وملاحظة جلاله، والوقوف على معاني القرآن، وهو المطلوب الأعظم
في الصلاة. وإذا لاحظ المصلي عد قراءة السورة والتسبيحات بقلبه كان مستلفتاً عن الله تعالى
معرضاً عنه.
الرابع: مخالفة سنة النوافل من جهة أن فعلها في البيوت
أولى من فعلها في المساجد، ومن جهة أن فعلها بالانفراد أولى من فعلها في الجماعة
إلا ما استثناه الشرع.
الخامس: أن كمال هذه الصلاة عند واضعها المبتدع أن
يفعلها مع صيام ذلك اليوم ولا يفطر حتى يصليها، وعند ذلك يلزم أمران أحدهما تعجيل
الفطر، والثاني تفريغ القلب من الشواغل القلقه بسبب جوع الصائم وعطشه؛ ولهذا قال رسول
الله) : " إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء " وهذه الصلاة
يدخل فيها بعد الفراغ من صلاة المغرب، ولا يفرغ منها إلا عند دخول وقت العشاء
الآخرة، فتوصل بصلاة العشاء، والقلق باق، ويتأخر الفطر إلى ما بعد ذلك.
السادس: أن سجدتي هذه الصلاة المفعولتين بعد الفراغ منها
مكروهتان؛ فإنهما سجدتان ولا سبب لهما، والشريعة لم ترد بالتقرب إلى الله تعالى
بالسجود إلا في الصلاة أو بسبب خاص: من سهو أو قراءة سجدة، وفي سجدة الشكر خلاف، استحبها
الشافعي وأحمد رحمهما الله، وكره ذلك النخعي ومالك وأبو حنيفة رحمهم الله. قال
الفقيه أبو محمد: لم ترد الشريعة بالتقرب إلى الله تعالى بسجدة منفردة لا سبب لها،
فإن القرب لها أسباب، وشرائط، وأوقات، وأركان، لا تصح بدونها. ويكره إفراد رجب
بالصوم. قال الشافعي رحمه الله.
وأكره أن يتخذ الرجل صوم شهر بكماله كما يكمل رمضان.
وكذلك يوم من بين الأيام.
حكم صوم رجب
وذكر أبو الخطاب في كتاب أداء ما
وجب في بيان وضع الواضعين في رجب.
عن المؤثر بن أحمد الساجي الحافظ، قال: كان الإمام عبد
الله الأنصاري شيخ خراسان لا يصوم " رجباً " وينهى عنه، ويقول: ما صحّ
في فضل رجب ولا صيامه شيء عن رسول الله (. قال: وقد روى كراهية صومه عن جماعة من
الصحابة، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وكان عمر رضي الله عنه يضرب بالدرة
صوامه فإن قيل: هو استعمال خير؟ قيل له: استعمال الخير يجب أن يكون مشروعاً من رسول
الله (، فإذا علمنا أنه كذب على رسول الله ( خرج عن المشروعية، وإنما كانت تعظمه
مضر في الجاهلية، كما قال عمر رضي الله عنه، وضربه أيدي الذين يصومونه. وكان ابن
عباس رضي الله عنهما حبر القرآن يكره أيضاً صيامه. وروى أبي بكر الطرطوشي بإسناده
عن عمر رضي الله عنه أنه كان يضرب أيدي الرجبيين الذين كانوا يصومون رجباً كله.
وكان ابن عمر إذا رأى الناس وما يعدون لرجب كرهه، وقال:
صوموا منه وأفطروا، فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية.
بيان بدع ليلة النصف من شعبان
ومن ذلك صلاة الألفية ليلة النصف
من شعبان، وهي صلاة طويلة مستقلة لم يأت فيها خبر ولا أثر ضعيف. وللعوامّ بها
افتتان كبير والتزام سيما بكثرة الوقيد في جميع مساجد البلاد، ويجري فيه من الفسوق
والعصيان، واختلاط الرجال والنساء، ومن الفتن المختلفة والمنكرات، ما شهرته تغني
عن وصفه وأصلها ما حكاه الطرطوشي فيما تقدم. وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم قال: ما
أدركت أحداً من أصحابنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان، ولا يلتفتون
إلى حديث مكحول، ولا يرون لها فضلاً على ما سواها، وقيل لابن أبي مليكة: إن زياداً
النهري يقول: إن أجر ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر. فقال: لو سمعته وبيدي
عصاً لضربته بها. وكان زياد قاصاً. قال الحافظ أبو الخطاب: قال أهل التعديل والجرح: ليس في فضل
النصف من شعبان حديث صحيح.
فتحفظوا عباد الله من مفتر يروي لكم حديثاً يسوقه في
معرض الخير، فاستعمال الخير ينبغي أن يكون مشروعاً عن رسول الله (، فإذا صح أنه
كذب وخرج عن المشروعية وكان مستعمله من حزب الشيطان لاستعماله حديثاً كذباً على
رسول الله ( لم ينزل الله به من سلطان.
الوقيد ليلة النصف من شعبان
ثم قال رحمه الله: مما أحدثه
المبتدعون وخرجوا به عما رسمه المشرعون رجوعاً فيه على سنن المجوس، واتخذوا دينهم
لهواً ولعباً: الوقيد ليلة النصف من شعبان، ولم يصح فيه شيء عن رسول الله (، ولا
نطق بالصلاة فيها والإيقاد فيها ذو صدق من الرواة، وما أحدثه إلا متلاعب بالشريعة
المحمدية وراغب في دين المجوسية، لأن النار معبودهم، وأول ما حدث ذلك في زمن البرامكة
فدخلوا في دين الإسلام يموهون به على الطعام وهو يعلم الإيقاد في ليلة النصف من
شعبان كأنه سنة من السنن،ومقصودهم عبادة النيران وإقامة دينهم، وهو أخس الأديان
إذا صلى المسلمون فركعوا وسجدوا، وكان ذلك إلى النار التي أوقدوا ومضت على ذلك
السنون والأعصار وتبعت بغداد فيه سائر الأمصار. وهذا مما يجتمع في تلك الليلة من
الرجال والنساء واختلاطهم فالواجب على السلطان منعهم، وعلى العالم ردعهم، وإنما
شرف شعبان: أن رسول الله ( كان يصومه إلا قليلاً.
وما روي فيه من الأحاديث المرفوعة والآثار يقتضي أنها
ليلة مفضلة، وليس فيها بيان صلاة مخصوصة، وإظهار ذلك على مثل ما ثبت من شعائر
الإسلام، قال الشيخ الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله في الحديث
المختص بها الذي فيه صلاة الألفية هذا الحديث لا شك أنه موضوع، والحديث محال قطعاً،
قال: وقد رأينا كثيراً ممن يصلي هذه الصلاة يتفق له قصر الليل، فينامون عقبها عن
صلاة الصبح، ويصبحون كُسالى والحديث الوارد في فضلها ضعيف كما تقدم، وما يترتب في
هذه الليلة بسبب الوقيد لأجل هذه الصلاة من الفسوق والمعاصي وكثرة اللغط والخطف
والسرقة وتنجيس مواضع العبادات وامتهان بيوت الله كل ذلك سببه الاجتماع للتفرج على
كثرة الوقيد سببه تلك الصلاة المبتدعة المكروهة، وكل بدعة ضلالة، وكل اجتماع يتكرر
بتكرر الأسابيع والشهور والأعوام غير الاجتماعات المشروعة هو المبتدع، ففرق بين ما
يفعل من غير ميعاد وبين ما يتخذ سنة وعادة؛ فإن ذلك يضاهي المشروع وقد كره ابن
مسعود وغيره من الصحابة اعتياد الاجتماع في مكان مخصوص، وهو المنصوص عن أحمد أنه،
قيل له: تكره أن يجتمع القوم يدعون الله تعالى ويرفعون أيديهم؟ فقال: ما أكره
للإخوان إذا لم يجتمعوا على عهد إلا أن يكثروا. وأصل هذا أن العبادات المشروعة
التي تتكرر بتكرر الأوقات حتى تصير سنناً ومواسم، قد شرع الله منها ما فيه كفاية
المتعبد، فإذا أُحدث اجتماع زائد كان مضاهاة لما شرعه الله تعالى وسنة رسوله، وفيه
من المفاسد ما تقدم التنبيه عليه، بخلاف ما يفعله الرجل وحده أو الجماعة المخصوصة
أحياناً، أو نحو ذلك يفرق بين الكبير الظاهر، والقليل الخفي، والمعتاد وغير
المعتاد، وكذلك كل ما كان مشروع الجنس، لكن البدعة فيما اتخاذه عادة لازمة حتى
يصير كأنه واجب.
فصل
بدع يوم عرفة
ومن ذلك التعريف المحدث. قال ابن
وهب: سمعت مالكاً يسأل عن جلوس الناس في المسجد عشية عرفة بعد العصر واجتماعهم
للدعاء، فقال: ليس هذا من أمر الناس، وإنما مفاتيح هذه الأشياء من البدع. وقال
مالك في العشية: وأكره
أن يجلس أهل الآفاق يوم عرفة في المساجد للدعاء، ومن اجتمع إليه الناس فلينصرف في
مقامه، ومقامه في منزله أحب إليه، فإذا حضرت الصلاة رجع فصلى في المسجد، وروى محمد
بن وضاح: أن الناس اجتمعوا بعد العصر من يوم عرفة في مسجد النبي ( يدعون، فخرج
نافع مولى ابن عمر فقال: يا أيها الناس، إن الذي أنتم فيه بدعة، وليست بسنة، أدركت
الناس ولا يصنعون هذا.
قال مالك بن أنس: ولقد رأيت رجالاً ممن يقتدى بهم
يتخلفون في بيوتهم عشية عرفة، ثم قال: ولا أحب الرجل العالم أن يقعد في المسجد تلك
العشية إذا أرادوا أن يقتدوا به وليقعد في بيته.
وقال الحارث بن سكن: كنت أرى الليث بن سعد ينصرف بعد
العصر يوم عرفة فلا يرجع إلا قرب المغرب.
وقال إبراهيم النخعي: الاجتماع يوم عرفة أمر محدث.
وقال عطاء الخراساني: إن استطعت أن تخلو عشية عرفة بنفسك
فافعل.
وكان أبو وائل لا يأتي المسجد عشية عرفة.
قال الطرطوشي: فاعلموا رحمكم الله أن هؤلاء الأئمة،
علموا فضل الدعاء يوم عرفة، ولكن علموا أن ذلك بموطن عرفة لا في غيرها، ولم يمنعوا
من خلا بنفسه فحضرته نية صادقة أن يدعو الله تعالى، وإنما كرهوا الحوادث في الدين،
وأن تظن العوام أن من السنة يوم عرفة بسائر الآفاق الاجتماع والدعاء فيتداعى الأمر
إلى أن يدخل في الدين ما ليس منه. وقد جاء هذا الذي كرهوه، فإنه قد حدث في بعض أهل
المشرق والمغرب التعريف عند خير من يحسن الظن به، ويجتمعون الاجتماع العظيم عند
قبره. وهذا نوع من الحج المبتدع الذي لم يشرعه الله تعالى، واتخاذ القبور أعياداً.
السفر إلى بيت المقدس
وكذلك السفر إلى بيت المقدس لا
خصوص له في هذا الوقت على غيره. ثم فيه مضاهاة الحج إلى البيت الحرام وتشبه له
بالكعبة. ولذهذا قد أفضى الأمر ببعض الضُلاّل للطواف بالصخرة تشبيهاً بالكعبة، أو
من حلق الرأس، أو من النسك هناك كذلك الطواف بالقبة التي بجبل الرحمن بعرفة، وكذلك
اجتماعهم في المسجد الأقصى في الموسم لأشياء. والغناء والضرب بالدفوف ونحو هذا من
أقبح المنكرات. وهذا منهي عنه خارج المسجد، فكيف بالمسجد الأقصى. فقصد بقعة بعينها
للتعريف فيها، كقبر رجل صالح أو المسجد الأقصى، لا يختلفون في النهي عنه لأن فيه
تشبيهاً بعرفات.
وأما مسجد المصر فقد اختلفوا فيه، ففعله ابن عباس وعمرو
بن حريث من الصحابة وطائفة من البصريين والمدنيين.
رفع الصوت عند الدعاء
ويكره رفع الصوت عند الدعاء. قال الحسن رحمه الله: إن رفع الصوت عند الدعاء لبدعة وإن مدّ الأيدي بالدعاء لبدعة، وإن اجتماع الرجال والنساء لبدعة وتعريف ابن عباس أنه صعد المنبر فقرأ البقرة وآل عمران وفسرهما حرفاً حرفاً، كان على هذا الوجه: فسرّ الناس القرآن واجتمعوا إليه لسماع العلم، فقيل: علاف ابن عباس بالبصرة لاجتماع الناس إليه فأقرأ التعريف في الأمصار يجتمعون يوم عرفة، قال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل رحمه الله عن التعريف في الأمصار، يجتمعون يوم عرفة فقال: أرجو أن لا يكون به بأس، قد فعله غير واحد كالحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع، كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة. وفي رواية: قال أحمد: لا بأس به إنما هو دعاء وذكر الله. فقيل له: تفعله أنت؟ قال لا.
فصل
بدع يوم عاشورا
ومن الأحداث المنكرة ما يفعله بعض
أهل الأهواء في يوم عاشوراء من التعطش والحزن والتفجع، وغير ذلك من الأمور المنكرة
المحدثة، التي لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله، ولا أحد من السلف، لا من أهل البيت
ولا من غيرهم. وإنما كانت هذه مصيبة وقعت في الزمن الأول بقتل الحسين بن علي رضي
الله عنهما.
يجب أن تتلقى بما تتلقى به المصائب، من الاسترجاع
المشروع، والصبر الجميل، دون الجزع والتفجع وتعذيب النفوس، الذي أحدثه أهل البدع
في هذا اليوم، وضموا إلى ذلك من الكذب والوقيعة في الصحابة البُرآء أموراً أخرى
مما يكرهه الله ورسوله.
وقد روى ابن ماجة عن الحسين بن علي
رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله) : " من أصيب بمصيبة فذكر مصيبته فأحدث
لها استرجاعاً وإن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثل يوم أصيب " .
وأما اتخاذ أيام المصائب مآتم: فهذا ليس من دين الإسلام،
بل هو إلى الجاهلية أقرب. ثم فوتوا على أنفسهم صوم هذا اليوم مع ما فيه من الفضل. وأحدث بعض الناس
في هذا اليوم أشياء مبتدعة: من الاغتسال، والاختضاب، والكحل، والمصافحة. وهذه أمور
منكرة مبتدعة، مستندها حديث مكذوب على رسول الله (. وإنما السنة صوم هذا اليوم لا
غير. وقد روى في فضل التوسعة فيه على العيال حديث ضعيف، قد يكون سببه الغلو في
تعظيمه من بعض النواحي لمقابلة الرافضة، فإن الشيطان يريد أن يحرف الخلق عن الصراط
المستقيم، ولا يبالي إلى أي الجهتين صاروا، فينبغي للمبتدعين اجتناب المحدثات
بالأصالة.
فصل
قراءة سورة الأنعام في صلاة التراويح
ومن البدع قراء
سورة الأنعام في ركعة صلاة
التراويح، ويرون في ذلك حديثاً لا أصل له عن ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله
عنهما عن النبي (، قال: " أنزلت سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف
ملك بالتسبيح والتحميد " . وهذا الحديث إسناده ضعيف مظلم، فاغتر بذلك من سمعه
من عوام المصلين. ثم لو صح هذا الحديث لم يكن فيه دلالة على استحباب قراءتها في
ركعة.
فقراءتها في ركعة واحدة بدعة من وجوه.
أحدها: تخصيص ذلك بسورة الأنعام دون غيرها، فيوهم أن ذلك
سنة فيها دون غيرها، والأمر بخلاف ذلك.
والثاني: تخصيص ذلك بصلاة التراويح دون غيرها.
والثالث: ما فيه من التطويل على المؤمنين، لا سيما على
من يجهل ذلك من عادتهم، فيقلق ويضجر ويسخط ويكره العبادة.
والرابع: ما فيه من مخالفة السنة من تقليل القراءة في
الركعة الثانية عن الأولى. وقد عكس صاحب هذه البدعة قضية ذلك، وخالف الشريعة، ولا
حول ولا قوة إلا بالله.
وابتدع بعضهم بدعة أخرى وهي: جمع آيات سجدات القرآن عقيب
ختم القرآن في صلاة التراوح في الركعة الأخيرة فيسجد بالمأمومين جميعاً.
بدع الكلام والمشي
فصل
التماوت في الكلام والمشي
وإن مما ابتدع واستميل به القلوب العوام الجهال: التماوت في الكلام والمشي، حتى صار ذلك شعاراً لمن يريد أن يظن به النسك والتورع.
صفة الرسول وأصحابه في الكلام والمشي
فيعلم أن الدين بخلاف ذلك، وهو ما
كان عليه النبي ( وأصحابه، ثم السلف الصالح، كما سنورده من أخبارهم في ذلك وصفاتهم
في حركاتهم وسكناتهم، فقد كان سيد الأولين والآخرين إذا مشى يقلع من صَبَبِ، وفي
سنن أبي داود عن أنس، قال: كان النبي ( إذا مشى كأنما يهوي في صوب. وفي رواية كان
إذا مشى يقلع. وفي رواية: إذا زال زال قلعاً. والمعنى: أنه كان يرفع رجليه من الأرض
رفعاً بائناً بقوة، لا كمن يمشي اختيالاً ويقارب خطاه تنعماً.
وجاء في صفته) : أنه كان يمشي هوناً. قال ابن الأنباري:
معناه كان يميل في مشيته كما يميل الغصن إذا حركه الرياح، الهون معناه الرفق
والتثبت، وهو معنى قوله: (يمشون على الأرض هوناً) والمحمود من ذلك ترك العجلة
المفرطة، وترك التكاسل والتثبيط والتماوت، ولكن بين ذلك.
وفي كتاب " شرح السنة " عن ابن عباس رضي الله
عنه إذا مشى مشى مشياً مجتمعاً يعرف أنه ليس بمشي تماجن ولا كسلان.
وروي عن الشفاء بنت عبد الله أنها رأت فتياناً يقتصدون
في المشي رويداً، فقالت: ما هؤلاء؟ فقالوا: نُساك. فقالت: كان والله عمر رضي الله
عنه إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهو الناسك حقاً.
وعن عبيد الله بن عبد الله قال: لم يكن البر يعرف في عمر
وابنه حتى يقولا أو يفعلا. قال يزيد بن هارون أخبر عبيد الله بن عبد الله بن أويس
المدني عن الزهري عن سالم نحوه. قال: قلت: يا أبا بكر ما تعني بذلك؟ قال: لم يكونا
موحشين ولا متماوتين.
وفي كتاب " الكامل " لأبي العباس المبرد قال:
ويروى أن عائشة رضي الله عنها نظرت إلى رجل متماوت، فقالت: ما هذا؟ فقالوا: أحد
القراء. فقالت: قد كان عمر قارئاً، فكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب
أوجع.
قال: ويروى أن عمر نظر إلى رجل يظهر النسك، يتماوت في
مشيته، فخفقه بالدرة، وقال: لا تمت علينا ديننا، أماتك الله.
وروى الإمام أحمد بإسناده إلى أبي
الدرداء، قال: أستعيذ بالله من خشوع النفاق. قال: أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس
بخاشع.
وقال سفيان الثوري: سيأتي أقوام يخشعون رياء وسمعة، وهم
كالذئاب الضواري، غايتهم الدنيا، وجمع الدراهم من الحلال والحرام.
وقال أبو حاتم الرازي: كان أحمد بن حنبل إذا رأيته تعلم
أنه لا يظهر النسك، ورأيت عليه نعلاً لا يشبه نعل القراء، له رأس كبير معقف،
وشراكه مشبك، كأنه اشتري له من السوق، ورأيت عليه إزاراً وجبة برد مخططة. قال عبد الرحمن:
أراد بهذا - والله اعلم ترك التزين بزي القراء، وإزالته عن نفسه ما يشهر به.
وقال الإمام أبو محمد بن إبراهيم البوشيخي: ما رأيت
أحداً في عصر أحمد أكثر منه ديانة وصيانة وأبعد من التماوت.
وقال المروزي: رأيت أبا عبد الله إذا كان في البيت كان
عامة جلوسه متربعاً خاشعاً، وإذا كان خارج بيته لم يبن منه شدة خشوع كما كان في
بيته.
التحذير من التماوت
وقال البويطي صاحب الإمام الشافعي
رضي الله عنه: أحذر كل متماوت، فإنه مُلُّد. " هو مُفْعِل من اللدد وهي
الخصومة " قال الله تعالى: ( وهو ألد الخصام) وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي
الله عنها قالت: إذا أعجبك حسن عمل امرئ فقل: (اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله
والمؤمنون) ولا يستخفنك أحد.
وعن محمد بن أبي عائشة قال: كان يقال لا تكن ذا وجهين
وذا لسانين، تظهر للناس أنك تخشى الله وقلبك فاجر.
وسأل رجل الكتاني، فقال له: أوصني، فقال له: كن كما ترى
الناس " أو قل: الناس كما تكون
" .
وقال المدائني: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو
بن العاص وهو واليه بمصر: " رفع إليّ أنك تبكي في مجلسك، فإذا جلست فكن كسائر
الناس، ولا تبك " وأخرج الحافظ أبو القاسم في تاريخه، عن محكول، عن رسول الله ( أنه قال: "
لا تكونوا عيّابين، ولا مداحين، ولا طعانين، ولا متماوتين " .
وأخرج أيضاً في ترجمته بإسناده عن عبد الرحمن بن مهدي
قال: " قلت لابن المبارك: إبراهيم ابن أدهم ممن سمع؟ قال: قد سمع من الناس،
ولكن له فضل في نفسه، صاحب سرائر وما رأيته يظهر تسبيحاً، ولا شيئاً من الخير، ولا
أكل مع قوم طعاماً إلا كان آخر من يرفع يده عن الطعام " .
وأخرج أيضاً عن عاصم بن كليب عن أبيه، قال: لقيت عبد
الرحمن الأسود وهو يمشي بجنب الحائط، فقلت له: مالك؟ فقال: أكره أن يستقبلني إنسان
فيسألني عن شيء. فقلت: لكن عمر كان شديد الوطء على الأرض له صوت جهوري.
وروى البيهقي عن ابن المبارك رحمه الله قال: إنه ليعجبني
من القراء كل طَلقٍ مِضحاكٍ، فأما من تلقاه بالبشر ويلقاك بالعبوس كأنه يمنّ عليك بسلامه
أو بعلمه، فلا أكثر الله في القراء مثله.
وهذه الطلاقة التي أشار إليها هي التي كانت تعرف من
أخلاق رسول الله (. وكانت هي الغالبة على أصحابه، وسادات المتقدمين من الأئمة
الجامعين بين العلم والعمل: كسعيد بن المسيب إمام أهل المدينة وسيد التابعين في
وقته مع حسومته المعروفة في أمر الله تعالى، وكعامر الشعبي من أئمة الكوفة، وابن سيرين
من أئمة البصرة، والأوزاعي من أئمة الشام، والليث ابن سعد من أئمة مصر، وغيرهم رضي
الله عنهم. فقد عرف ذلك من وقف على أخبارهم، وهي طريقة الإمام الشافعي رحمه الله.
قال الشيخ جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله:
إذا سكن الخوف القلب أوجب الخشوع في الظاهر، ولا يملك صاحبه فتراه مطرقاً متأدباً
متذللاً. وكانوا رضي الله عنهم يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك، فكان محمد بن سيرين رحمه
الله يبكي الليل ويضحك بين الناس في النهار.
ولسنا نأمر العالم بالانبساط بين العوام، فإن ذلك
يؤذيهم، فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا ذكرتم العلم فاكظموا عليه ولا
تخلطوه بضحك فتمجه القلوب.
ومثل هذا لا يسمى رياء لأن قلوب
العوام تضيق عن التأويل للعالم إذا انفسح للمباح؛ فينبغي أن يلقاهم بالصمت والأدب.
وإنما المذموم تكلف التخشع والتباكي وطأطأة الرأس ليرى بعين الزهد. وربما قيل له:
" ادع لنا " فتهيأ للدعاء وكأنه مستنزل الإجابة. وقد ذكرنا عن إبراهيم النخعي: أنه قيل
له " ادع لنا " فكره ذلك، وكان من الخائفين - ومن جملة الخوف الحرص على شدة
الحياء والذل فلم يرفع رأسه إلى السماء. وليس هذا بفضيلة لأنه لا خشوع فوق خشوع
رسول الله ( فقد كان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء، وفيه دليل على اسحباب النظر
إلى السماء لأجل الاعتبار بآياتها، وقال تعالى: (أ فلم ينظروا إلى السماء فوقهم
كيف بنيناها وزَيّنَّاها وما لها من فروج). وقال تعالى: (قل انظروا ماذا في
السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون).
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه قال: لم يكن
أصحاب رسول الله ( متحدقين، ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم،
ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحد منهم بشيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه
كأنه مجنون.
وعن محمد بن عبد الله القرشي عن أبيه، قال: نظر عمر بن
الخطاب رضي الله عنه إلى شاب نكس رأسه، فقال: يا هذا ارفع رأسك؛ فإن الخشوع لا
يزيد على ما في القلب؛ فمن أظهر للناس خشوعاً فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقاً
على نفاق.
وعن كهمس بن الحسن: أن رجلاً تنفس عند عمر كأنه يتحازن
فلكزه عمر " أو قال: فلكمه
" .
وقد كان السلف يسترون أحوالهم وينصحون بترك التصنع.
بدع التبتل والانصراف عن الدنيا
فصل
ترك الزواج بدعة
من الأمور المبتدعة: الانفراد، وترك النكاح، رغبة عنه وذماً له.
حكم الزواج
اعلم رحمك الله أن النكاح مع خوف العنت واجب، ومن غير خوف العنت سنة، عند جمهور العلماء، ومذهب أبي حنيفة والإمام أحمد رضي الله عنهما أنه أفضل من جميع النوافل؛ لأنه سبب وجود الولد.
الترغيب في الزواج
وقد قال : " تناكحوا تناسلوا
" .
وقال: " النكاح سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني
" وعن سعد بن أبي وقاص، قال: ردّ النبي ( على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن
له لاختصينا.
الترهيب من التبتل
وعن أنس رضي الله عنه أن نفراً من
أصحاب النبي ( سألوا أزواج النبي ( عن عمله في السر، فأخبرنهم، فقال بعضهم: أما أنا
فلا أنام على فراش، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: أما أنا لا أتزوج
النساء، وقال بعضهم: أصوم
ولا أفطر، فبلغ ذلك النبي (، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: " ما بال أقوام
قالوا كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم؛ فمن رغب
عن سنتي فليس مني " . متفق عليه.
وعن محمد بن مسلمة، قال: شدّاد بن أوس: زوجوني فإن رسول
الله ( أوصاني أن لا ألقى الله عز وجل عزباً.
وعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: دخل على رسول الله ( رجل
يقال له عكافة بن بشر التميمي، فقال رسول الله) : " يا عكافة هل من زوجة؟
" قال: لا، قال: " ولا جارية؟ " ، قال: لا، قال: " وأنت موسر؟ " ،
قال: نعم، قال: " إذاً أنت من إخوان الشياطين، لو كنت من النصارى كنت من
رهبانهم، إن سنتنا النكاح، شراركم عزابكم ما للشيطان من سلاح أبلغ في الصالحين من
النساء " .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لعن رسول الله ( مخنثي
الرجال الذين يتشبهون بالنساء، والمترجلات من النساء المتشبهات بالرجال،
والمتبتلين من الرجال الذين يقولون لا نتزوج، والمتبتلات من النساء اللاتي يقلن
ذلك.
وقال أبو بكر المروزي: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل
رضي الله عنه يقول: ليس العزوبة من أمر الإسلام في شيء، النبي ( تزوج أربع عشرة
مرة ومات عن تسع، لو كان بشر الحافي تزوج كان تم أمره كله. ولو ترك الناس النكاح
لم يغز، ولم يحج، ولك يكن كذا. وقد كان رسول الله ( يصبح وما عند أحد من أهله شيء،
وقد كان يختار النكاح، ويحث عليه، وينهى عن التبتل. فمن رغب عن فعل النبي ( فهو
على غير الحق. ويعقوب عليه السلام في حزنه تزوج وولد له.
وقد قال النبي) : " حبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث:
النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة " .
وقال إبراهيم بن أدهم: لبكاء الصبي
بين يدي أبيه يطلب منه خبزاً أفضل من كذا وكذا أين يلحق المتعبد العزب من صاحب
العيال؟.
فاعلم رحمك الله أن من ترك النكاح مع الحاجة إليه، فقد
خاطر ببدنه ودينه، وإن لم يكن به حاجة فقد فاتته الفضيلة. وفي الصحيح عن أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي ( أنه قال: " دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار
أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً
الذي أنفقته على أهلك " .
فإن قيل النكاح يوجب الميل إلى الدنيا، قلنا: هذا خلاف
الشريعة، فإن النبي ( إمام الزاهدين، كان أكثر هذه الأمة نساء، وهو الذي قال: "
تناكحوا تكاثروا؛ فإني أباهي بكم الأمم " . فأمر به، والأمر يقتضي الوجوب.
فأما تركه ليقال: " زاهد " ، والعوام تعظم هذا، فيقولون: ما عرف امرأة
قط، فهذه رهبانية تخالف الشريعة.
دفع شبهة
وقال بعضهم: ينبغي أن لا يشغل
المرء قلبه بالتزويج، فإنه يشغله عن الله، فيرى هذا أن الأنس الطبيعي بالزوجة
ينافي أنس القلوب بطاعة الله. وليس هذا كذلك، والله سبحانه وتعالى قد منَّ على
الخلق بقوله: (خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة).
وفي الحديث الصحيح، عن جابر رضي الله عنه أن النبي (
قال: " هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك " ، أي هلا تزوجت بكراً لما أخبره أنه
تزوج ثيباً، وما كان يدله على ما يقطع أنسه بالله.
أما ترى أنه ( كان ينبسط إلى نسائه ويسابق زوجته عائشة،
أكان هذا خارجاً عن الأنس بالله؟ هذه جهالات بالعلم.
وبعضهم يقول: الذي يريد الولد أحمق، فلا نال الدنيا ولا
الآخرة، إن أراد أن يأكل أو ينام أو يجامع نغص عليه، وإذا أراد أن يتعبد شغله
أيضاً - غلط عظيم لأنه لما كان مراد الله تعالى من إيجاد الخلق اتصال دوامها إلى
أن ينقضي أجلها، حثّ الله تعالى الآدمي على ذلك، تارة من حيث الطبع بإيقاد نار
الشهوة، وتارة من باب الشرع بقوله: (وأنكحوا الأيامى منكم)، وقول الرسول) : "
تناكحوا تناسلوا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط " .
وقد طلب الأنبياء الأولاد، وتسبب الصالحون إلى وجودهم.
ورب جماع حدث منه ولد صالح كالشافعي وأحمد كانا خيراً من عبادة ألف سنة. وقد جاء
الخبر بإثابة الجماع بقوله صلى الله عليه وسلم: " وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا:
يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام كان
عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " .
وكذلك الأجر والثواب في النفقة على الزوجة والأولاد، وقد
يموت له ولد فيبقى له ذخراً وأجراً كما قال) : " إذا مات ولد العبد يقول الله
تعالى للملائكة قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده، فيقولون:
نعم فيقول الله تعالى: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع " أي قال
الحمد لله أنا لله وإنا إليه راجعون " ، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً
في الجنة وسموه بيت الحمد
" .
وإما أن يخلفه بعده فيلحقه بركة دعائه كما في الصحيح أن
رسول الله ( قال: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم
ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " . فمن أعرض عن طلب الأولاد خالف السنة،
وعُدِم هذا الفضل والثواب الجزيل.
فصل
الاشتغال بنوافل العبادات وترك التعلم
ومن الأمور المحدثة: الاشتغال بنوافل العبادات مع الجهل وترك حمل العلم. وهذا خطأ يدخل على العبد منه آفات كثيرة مخالفة للشريعة. وقد قال تعالى لنبيه) : (وقل رب زدني علما)، فأمره بطلب الزيادة منه، وقال تعالى مخبراً عن موسى في قوله للخضر عليهما السلام: (هل أتبعك على أن تُعَلَمَنِ مما علمت رشداً). هذا مع ما أعطوه من العلم البارع، وما لهم من المدد من الله تعالى وقال تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون).
فضل العالم على العابد
وروى الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: ذكر لرسول الله ( رجلان: أحدهما عابد، والآخر عالم؛ فقال: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " ثم قال رسول الله) : إن الله وملائكته، وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحيتان في البحر، يصلون على معلم الناس الخير " .
وروى الترمذي أيضاً عن ابن عباس
رضي الله عنه، أن رسول الله ( قال:
" فقيه أشد على الشيطان من ألف عابد " .
وروي أيضاً عن الفضيل بن عياض، قال: عالم عامل مُعلم
يدعى كبيراً في ملكوت السموات.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول
الله) : " تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا
فقهوا " .
وفي الصحيحين أيضاً عن معاوية قال: سمعت رسول الله (
يقول: " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " .
وروى الترمذي عن أبي سعيد رضي الله عنه: " الكلمة
الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها " .
تغلب العالم على إبليس
واعلم أن العالم لا يدخل عليه
إبليس إلا مسارقة، وأما المتعبدون بلا علم فإنه يلبس عليهم في فنون التعبد أشياء
يعتقدونها فضيلة أو أفضل من غيرها وهي بخلاف ما يظنون، منها: إيثارهم التعبد على
العلم، والعلم أفضل من نوافل العبادات؛ فيرون أن المقصود من العلم العمل وما فهموا
من العلم إلا عمل الجوارح، وما علموا أن العمل عمل القلب، وعمل القلب أفضل من عمل الجوارح.
قال مطرف بن عبد الله: فضل العلم خير من فضل العبادة.
وقال يوسف ابن أسباط: باب من العلم يتعلمه العبد خير من سيف غزاة.
وقال المعافي بن عمران: كتابة حديث واحد أحب إليّ من
صلاة ليلة.
التمييز بين الحقيقة والشريعة
ومنهم من فرق بين الحقيقة
والشريعة، وأعرضوا عن ظواهر الشرع، وهذا غلط؛ لأن الشريعة كلها حقائق، قال الحسن
بن سالم جاء رجل إلى سهل بن عبد الله التستري وبيده محبرة وكتاب، فقال لسهل: أحببت
أن أكتب كتاباً ينفعني الله به، فقال: أكتب إن استطعت أن تلقى الله وبيدك المحبرة
فافعل، فقال: يا أبا محمد، أفدني فائدة، فقال: الدنيا كلها جهل إلا ما كان علماً،
والعلم كله حجة إلا ما كان عملاً، والعمل موقوف إلا ما كان على السنة، وتقوم السنة
على التقوى.
وقال أيضاً: احفظ السواد على البياض، فما أحد ترك الظاهر
إلا تزندق.
وفي رواية: إلا خرج إلى الزندقة.
وقال سهل أيضاً: سمعت الجراح بن عبد الله يقول: ما طريق
إلى الله عز وجل أفضل من العلم، فإن عدلت عن طريق العلم خطوة تهت في ظلمات الجهالة
أربعين صباحاً.
وقال أبو سعيد الخراز: كل باطن يخالف ظاهراً فهو باطل.
وقال أبو بكر الدقاق: منت ماراً في تية بني إسرائيل،
فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين لعلم الشريعة، فهتف بي هاتف من تحت شجرة: كل
حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر.
وقال أبو عقيل: جعلت الصوفية الشريعة اسماً وقالوا:
المراد منها الحقيقة، قال: وهذا قبيح لأن الشريعة ما وضعه الحق لمصالح الخلق
وتعبداتهم، فما الحقيقة بعد هذا سوى واقع في النفوس من إلقاء الشياطين؟ وكل من رام
الحقيقة من غير الشريعة فمغرور ومخدوع، ومنها أن يدخل عليهم الشيطان لجهلهم، فيقول
لهم: اعلموا أنكم لن تنجوا في الآخرة إلا بكثرة العمل، وترك الدنيا، وترك
الاشتغال. فيخرج أحدهم على وجهه ويفارق الجمعة والجماعة والعلم. وربما كانت له
عائلة أو والدة فبكت لفراقه. وربما أنه لم يعرف أركان الصلاة كما ينبغي. وهذا لقلة
علمه ورضاه عن نفسه بما يعلمه. وهذا خطأ عظيم فإن مفارقة الجمعة والجماعة حرام
وخسران ظاهر، وتعلم العلم فرض، والبعد عن العلم والعلماء يقوي سلطان الجهل، وتضييع
المال منهي عنه؛ والدنيا لا تذم لذاتها، وكيف يذم ما منّ الله تعالى به وما هو
ضرورة في بقاء الآدمي وسبب في الإعانة على تحصيل العلم والعبادة، وإنما المذموم
على طلب الدنيا أخذ الشيء من غير حلم، وتناوله على وجه السرف، لا على مقدار الحاجة،
وتصرف فيه بمقتضى رعونات النفس، لا بإذن الشرع. والخروج إلى الجبال منفرداً منهي
عنه، قال بعض السلف خرجنا إلى جبل نتعبد فيه فجاءنا سفيان الثوري، فردّنا.
فصل
تعذيب النفس وترك المباحات
ومن الأمور التي يدخل الشيطان عليهم: ترك المباحات، وتعذيب النفس بقلة المطعم حتى ييبس البدن، مع لبس الصوف، وبمنعها الماء البارد. وما هذه طريقة رسول الله ( ولا طريقة أصحابه وأتباعهم، فقد كانوا يجوعون إذا لم يجدوا، فإذا وجدوا أكلوا.
وكان رسول الله (، وهو أول
الزاهدين، يأكل اللحم ويحبه، ويأكل الدجاج، ويحب الحلو والعسل، ويستعذب الماء
البارد؛ فإن الماء الحار يؤذي المعدة ولا يروي.
ويُروى أن رجلاً قال: أنا لا آكل الخبيص لأني لا أقوم
بشكره، فقال الحسن البصري: هذا رجل أحمق! أتراه يقوم بشكر الماء البارد؟.
وكان سفيان الثوري: إذا سافر حمل معه الحمل المشوي
والفالوذج.
وينبغي الإنسان أن يعلم أن نفسه مطية ولا بد من الرفق
بها ليصل إلى المقصود. وقد قال النبي) : " وإن لنفسك عليك حقاً " . وإذا
كان لها حق فليأخذ لها ما يصلحها، وليترك ما يؤذيها من الشبع والإفراط في تناول الشهوة؛
فإن ذلك يؤذي البدن والدين. وليأخذ قدر القوام من غير أن يؤذي النفس. ومن كفها عن
التصرف على مقتضى ما وضع في طبعها فيما يصلحها فقد آذاها إلا أنه يكفها عن الشبع
المفرط والشره وما يخالف عاقبته، فإن ذلك يفسدها، فأما الكف المطلق فخطأ، ولا
يلتفت إلى غير هذا فإن اتباع الشارع صلى الله عليه وسلم وصحابته أولى ولم يكونوا
يتكلفون شيئاً إن حضر طعام شهي أكلوا وحمدوا الله تعالى، وإن لم يحضر شيئاً صبروا.
وكان ابن عقيل يقول: ما أعجب أموركم في التدين، إما
أهواء متبعة أو الحقوق واطراح العيال واللحوق بزوايا المساجد.
وإنما ذمهم بالتعوذ بزوايا المساجد؛ لأنهم تركوا طريق
السلف من التصرف فيما يستعينون به على مصالحهم، وما يعينون به أحوالهم وأهاليهم
المحاويج، وما يكف أنفسهم عن الناس. ولهم في ذلك آفات أخر.
التكبر والاستعلاء
منها: الكبر، واحتقار الناس، ومنها: أنه يخاف أن يقصروا في خدمته بالدخول بينهم، ومنها: حفظ ناموسه ورئاسته؛ فإن مخالطة الناس تذهب بذلك. وهو يريد أن تبقى طراوة فكرة، فتراه يجب أن يزار ولا يزور، ويفرح بمجيء الناس إليه واجتماعهم على خدمته وتقبيل يده، فيترك عيادة المرضى، وشهود الجنائز، ويقال: هذه عادة فلان وإن كانت عادة تخالف الشريعة. وإن كان يحتاج إلى القوت، ولم يكن عنده من يشتري له، صبر على الجوع لئلا يخرج بنفسه لشراء ذلك، فيضيع جاهه، لمشيه بين العوام. ولو أنه خرج فاشترى حاجته لانقطعت الشهرة، ولكن في باطنه حفظ الناموس، وقد كان رسول الله ( يخرج إلى السوق ويشتري حاجته ويحملها بنفسه. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يحمل الثياب على كتفه فيبيع ويشتري، قال محمد ابن القاسم: زعم عبد الله بن حنظلة، قال: مر عبد الله بن سلام وعلى رأسه حطب، فقال له ناس: ما يحملك على هذا وقد أغناك الله؟ قال: أردت أن أدفع به الكبر، وذلك أني سمعت رسول الله ( يقول: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " . وكان عادة السلف رضي الله عنهم التبذل في شراء الحاجة وغيرها وقد تغيرت تلك العادة كما تغيرت تلك الأحوال والملابس.
ادعاء الزهد
ومن الآفات أيضاً: أنه لو سئل أن
يلبس ألين من ثوبه ما فعل لئلا ينكسر جاهه في الزهد. ولو خرج لم يأكل والناس
ينظرون إليه ويرونه، ويحفظ نفسه عن التبسم، فضلاً عن الضحك.
وقد كان السلف يدفعون عنهم كل ما يوجب الإشارة إليهم،
ويهربون من المكان الذي يشار إليهم فيه، وتراه يلبس الثوب المتخرق ولا يخيطه،
ويترك إصلاح عمامته، وتسريح لحيته؛ ليرى أن ما عنده من الدنيا خير.
فإن كان صادقاً سالماً من الرياء فليعلم أنه قد سلك به
غير الجادة؛ إذ ليست هذه طريقة رسول الله ( ولا أصحابه، فقد كان يسرح شعره، وينظر
في المرآة، ويدهن، ويتطيب، وهو أشغل الخلق بالآخرة. وكان أبو بكر وعمر رضي الله
عنهما يخضبان بالحناء والكتم، وهما أخوف الصحابة وأزهدهم.
ومن ادعى رتبة تزيد على ألسنة وأفعال الأكابر لم يلتفت
إليه.
الصمت
وتراه أيضاً يلزم الصمت الدائم، وقد نهى رسول الله ( عن صمت يوم إلى ليل، وقال أبو بكر رضي الله عنه للتي رآها نذرت أن تحج مصمته: تكلمي فأن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية.
الانعزال تكبرا
ً
وتراه منفرداً عن مخالطة أهله، فيؤذيهم بقبح أخلاقه، وزيادة انقباضه، وقصده حفظ ناموسه. وقد كان رسول الله ( يمزح، ويلاعب الأطفال، ويتحدث مع أزواجه، وسابق مرة عائشة رضي الله عنها، إلى غير ذلك من الأخلاق الطيبة اللطيفة والانبساط إلى الأهل من العون على الآخرة، وربما ضيع هذا حقوق أهله مما هو فرض عليه بنافلة غير ممدوحة.
الإعجاب بعمله
وتراه معجباً بعمله، فلو قيل له
إنك من أوتاد الأرض ظن أن ذلك حق.
وتراه يرصد لظهور كرامته، ولو دعا في أمر لم يستجب له
فيه تذمر في باطنه، فكأنه أجير يطلب أجر عمله. ولو رزق الفهم لعلم أنه عبد مملوك،
والمملوك لا يمنّ بعمله، ولو نظر إلى توفيقه للعمل لرأى وجوب الشكر. فخاف من
التقصير فيه عن النظر إليه كما كانت رابعة العدوية رحمها الله تقول: استغفر الله من
قلة صدقي في قولي أستغفر الله من ذلك وقيل لها: هل عملت شيئاً ترين أنه يقبل منك؟
فقالت: إن كان فمخافتي أن يرد عليّ!
لبس المرقعات ادعاء للزهد
وتراه أيضاً لما سمع أن النبي (
كان يرقع ثوبه، وأنه قال لعائشة: " لا تستخلفي ثوباً حتى ترقعيه " وأن
عمر رضي الله عنه كان في ثوبه رقاع، وأن أويس القرني كان يلتقط الرقاع من المزابل،
ثم يغسلها، ويرقعها ويلبسها. فاختار
المرقعات فلبسها لذلك، وقد أبعد، فإن رسول الله ( وأصحابه كانوا يؤثرون، البذاذة
ويعرضون عن زينة الدنيا، وكان أكثرهم يفعل ذلك بسبب الفقر كما روي عن مسيلمة بن
عبد الملك أنه دخل على عمر بن عبد العزيز وعليه قميص وسخ، فقال: لامرأته فاطمة:
اغسلي قميص أمير المؤمنين، فقالت: والله ماله قميص غيره.
فأما إذا لم يكن هذا معرضاً عن الدنيا، ولا زاهداً فيها،
ولا يختار البذاذة تواضعاً لله، بل يفعل ذلك تصنعاً ومراءاة، كان كاذباً.
ومنهم من يعمد إلى ثوبين أو ثلاثة، كل واحد منها على
لون، فيجعلونها خرقاً، ويلونونها، حتى يصير بصورة الرقاع كما سلف. كذا ظنوا أتراهم
ما علموا أن التصوف معنى لا صورة؟ قال: وهؤلاء يقصدون التحسن بالمرقعات. وأما المعنى
فإن أولئك كانوا أصحاب رياضة وزهد. ومنهم من يلبس الصوف تحت الثياب، ويلوح بكمه
حتى يرى لباسه. وهذا لص ليلي. ومنهم من يلبس الصوف فوقها. وهذا لص نهاري مكشوف.
ومنهم من يلبس الفوط الرقيقة وإن قميص أحدهم وعمامته بثمن خمس أثواب من الحرير،
يصادقون الأمراء ويفارقون الفقراء كبراً وتعظيماً. وهذا قبيح جداً. وهذا الضرب
مذموم فاحذروهم.
التحذير من هؤلاء الأدعياء
وقد كان عيسى بن مريم عليه السلام
يقول: يا بني إسرائيل ما لكم تأتوني وعليكم ثياب الرهبان وقلوبكم قلوب الذئاب
الضواري؟! البسوا ثياب الملوك وألينوا قلوبكم بالخشية.
قال أخرم: سمعت مالك بن دينار يقول: " إنكم في زمان
أشهب لا يبصر زمانكم إلا البصير، إنكم في أهل زمان كثر تفاحشهم، وانفتحت ألسنتهم
في أفواههم، فطلبوا الدنيا بعمل الآخرة، فاحذروهم على أنفسكم لا يوقعوكم في
شبهاتهم وشبكاتهم " .
وقال محمد بن حفيف: قلت لرويم: أوصني، قال: هو بذل
الروح، ألا فلا تشتغل بترهات الصوفية.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت أبي يقول: بلغني أن
رجلاً قال للشبلي: قد وجدت جماعة من أصحابك وهم في الجامع، فمضى فرآهم عليهم
المرقعات والفوط، فأنشأ يقول: وهذه البهرجة لا تخفى إلا على غبي في الغابة.
كراهة لبس المرقعات
ويكره لبس الفوطة والمرقعات من
خمسة أوجه، أحدهما أنه ليس من لباس السلف وإنما كانوا يرقعون للضرورة.
والثاني: أنه يتضمن ادعاء الفقر، وقد أمر الإنسان أن
يظهر نعمة الله عليه.
والثالث: أنه إظهار الزهد، وقد أمرنا بالستر.
والرابع: أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة، ومن
تشبه بقوم فهو منهم.
والخامس: أنه ثوب شهرة، وفيه تفويت لفضيلة لباس البيض
التي أمر بها الشارع.
النهي عن لباس الشهرة
ونهي عن لباس الشهرة، فقد روى
الترمذي، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، عن النبي ( قال: " البسوا الثياب
البيض؛ فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم " . وقال: حديث صحيح. وفي الباب
عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما. وهذا الذي يستحبه أهل العلم. ولا تنكر لباس
المصبغ لأن لبسه جائز، وقد كان روي أنه كان يعجبه الحبرة إنما المسنون البياض،
وأما الفوط والمرقعات، فإنه لباس شهرة وقد نهى النبي ( عن الشهرتين، فقيل يا رسول الله،
وما الشهرتان؟ قال: " رقة الثياب، وغلظها، ولينها، وخشونتها، وطولها، وقصرها؛
ولكن سداد بين ذلك واقتصاد " .
وعو أبي جعفر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله) :
" من لبس ثوب شهرة أعرض الله عنه حتى يضعه " .
وعن أبن عمر رضي الله عنه، قال: " من لبس ثوباً
مشهوراً أذله الله يوم القيامة
" .
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: " من ركب
مشهوراً من الدواب، أو لبس مشهوراً من الثياب، أعرض الله عنه ما دام عليه " .
وجاء عن النبي ( أنه قال: " من لبس ثوب شهرة ألبسه
الله ثوب مذلة يوم القيامة
" .
وعن ابن عمر: أنه رأى على ابنه يوماً قباء فقال: لا تلبس
هذا؛ فإن هذا ثوب شهرة.
وعن بريدة رضي الله عنه، قال: شهدت مع رسول الله ( فتح
خيبر فيمن صعد الثلمة، فقال: حتى رأى مكاني، ثم أتيت وعليّ ثوب أحمر، فما أعلم أني
ركبت في الإسلام ذنباً أعظم من الشهرة.
وقال سفيان: كانوا يكرهون الشهرتين: الثياب الجياد التي
يشتهر بها، ويرفع الناس فيها أبصارهم؛ والثياب الذي يحتقر فيها ويستذل. وقال معمر
عاينت أيوب على طول قميصه فقال: الشهرة فيما مضى كانت في الطول، وهي اليوم في تشميره.
وأما لباس الصوف، فقد كان رسول الله ( يلبسه في بعض
الأوقات، ولم يكن لبس شهرة عند العرب، ولم يثبت في فضل لبسه شيء.
والعدل في اللباس وغيره أن يلبس ملابس بني جنسه التي لا
يتميز بها عنهم، وتكون موافقة للسنة خالية من التزيين والشهرة وإظهار الزهد
والرياء.
وروى أحمد بن منصور الهمداني بإسناده عن أنس رضي الله
عنه، قال: قال رسول الله) : " إن الأرض لتحتج لربها من الذين يلبسون الصوف
رياء " .
وعن خالد بن شوب، قال: شهدت الحسن وآتاه رجل يقال له
" فرقد " وعليه كساء، فأخذ الحسن بكسائه فهزه إليه، وقال: يا فرقد: إن
البرّ ليس في هذا الكساء، وإنما البر ما وقر في الصدر وصدقه العمل.
واعلم أن المذموم ما تهواه النفس، ونهى عنه الشرع، وكان
على وجه الرياء والشهرة. وأما ما كان للدين وموافقة السنة كالتعطر، وتسريح اللحية،
والنظر في المرآة، وتسوية العمامة، وإظهار نعمة الله على الوجه المشروع، ولباس البياض
لموافقة السنة، وسلوك الأمر الأوسط في جميع شئونه؛ فهو محمود ممدوح مأجور.
وجوب اتباع العلماء
فاعرف يا أخي مرتبة العلماء في
الاتباع وحفظ الشريعة، فهم ورثة الأنبياء، فالعلماء أدلة الطريق، والخلق وراءهم.
وفي الصحيحين، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي ( قال لعليّ رضي الله
عنه: " لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم " .
واعلم أنه ليس المقصود من سماع العلم، وحضور مجالس الذكر
البكاء والحضور، وإنما المقصود هو العمل. وإذا لم يعمل بما يسمع كان زيادة في
الحجة عليه. فعليك يا أخي بالاتباع لسلفك الصالح، واجتنب المبتدعات المنكرات، تكن عبداً
صالحاً. واسأل ربك التوفيق، والسداد، وسلوك المنهاج الرابح؛ فإن من رزق ذلك كان
متجره متجراً رابحاً رزقنا الله ذلك بمنه وكرمه؛ إنه أرحم الراحمين.
ألوان من البدع متفرقات
بدع الخطبة
- بدع رفع الصوت في الصلاة على النبي - بدع الجنائز - بدع الحج - بدع التحية ودخول المنازل - السؤال عما لا يغنيه - إظهار الإشارة في المواجيد - التلحين في القراءة والأذان - الصياح عند سماع القرآن - الموسيقى والغناء وما شابههما من اللهو - الحذف بالبندق - مضغ العلك - القمار والطاولة والشطرنج - ستر الحيطان بالحرير - استطلاع الغيب - كشف العورات - الاجتماع في المآتم - الوسوسة في الوضوء - الوسوسة في نية الصلاة - التساهل في المكاسب - أتباع هوى النفس - دخول الحمام بغير مئزر - زخرفة المساجد - شغل طرقات الناس - حب المدح وطلب الحمد
فصل
بدع الخطبة
ومن البدع في الخطبة أشياء، فمن
ذلك دق الخطيب المنبر عند صعوده ثلاث مرات بأسفل سيفه دقاً مزعجاً.
ومنها: تباطؤه في الصعود واشتغاله بالدعاء قبل الإقبال
على الناس، والسلام عليهم، ورفع يديه عند الدعاء، فبدعة قديمة.
ومنها الالتفات يميناً وشمالاً عند قوله آمركم وأنهاكم،
وعند الصلاة على النبي (، ولا أصل لشيء من ذلك، بل السنة الإقبال على الناس من أول
الخطبة إلى آخرها، قال الشافعي رضي الله عنه: ويقبل الخطيب بوجهه على الناس، ولا يلتفت
يميناً وشمالاً.
رفع الصوت في الصلاة على النبي
وتكلفهم رفع الصوت في الصلاة على
النبي (، وذلك جهل، فإن الصلاة على النبي ( إنما هو دعاء له، والأدعية جميعها السنة فيها الإسرار دون
الجهر، وحيث يسن الجهر فهو لمصلحة كدعاء القنوت، وكذا ترسل المؤذنين بالأذان،
وأذان الآحاد متفرقين يوم الجمعة بدعة.
ومنها أن يكون الخطيب لابساً ثياب سواد يغلب عليه
الإبريسم، أو ممسكاً بيده مُحلّى بذهب فهو حرام. فأما السواد الذي ليس فيه إبريسم،
فليس بمذموم، وليس بمحبوب، إذ أحب الزيّ إلى الله البياض.
فصل
بدع الجنائز
ومن البدع ما يفعل في الجنائز من
ترك الإسراع، والقرب منها، والإنصات فيها، وقراءة القرآن معها بالألحان، وعدم
التفكر فيما هم صائرون إليه، بل يتكلمون باللغو، وحديث الدنيا، وقد قال النبي) :
" أسرعوا الجنازة؛ فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن سوى ذلك فشر
تضعونه عن رقابكم " .
وعن إبراهيم النخعي رحمه الله. أنه كان يقول: انشطوا
بجنائزكم، ولا تدبوا دبيب اليهود النصارى.
وجاء عن النبي ( أنه كان إذا اتبع جنازة أكثر الصمت ورؤى
عليه الكآبة وأكثر حديث النفس
" .
وقال الفضيل: كانوا إذا اجتمعوا في جنازة يعرف ذلك فيهم
ثلاثة أيام.
ورأى ابن مسعود رضي الله عنه رجلاً يضحك في جنازة، فقال:
أتضحك مع الجنازة لا أكلمك أبداً.
وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه، قال في مرضه: إياي
وحاديهم هذا الذي له يقول: استغفروا له يغفر الله لكم. وكرهه الحسن، والنخعي،وابن
جبير، وأحمد، وإسحق. وسمع ابن عمر قائلاً يقول ذلك، فقال: لا غفر الله لك.. وإنما
كرهوه لما فيه من التشويش على المشيعين المتفكرين في المعاد.
وسئل سفيان بن عيينة عن السكوت في الجنازة: ماذا يجيء
به؟ قال: تذكر به حال يوم القيامة، ثم تلا قوله تعالى: (وخشعت الأصوات للرحمن فلا
تسمع إلا همساً).
قال قتادة: بلغنا أن أبا الدرداء رضي الله عنه نظر إلى
رجل يضحك في جنازة، فقال له: أما كان فيك رأيت من هول الموت ما يشغلك عن الضحك؟!
وكان مطرف يلقى الرجل من خاصة أهله في الجنازة فعسى أن يكون غائباً فما يزيده على السلام،
ثم يعرض عنه انشغالاً بما هو فيه.
وقال ثابت البناني: كنا نشهد الجنازة، فلا يرى إلا
مقنعاً باكياً.
فهذا خوف هؤلاء السادات من الموت. وأما اليوم، فغالب من
تراه يشهد الجنازة يلهون، ويضحكون، وما يتكلمون إلا في ميراثه، وماذا خلفه لورثته.
فصل
بدع الحج
ومما اتبع في الحج أمور، منها:
افتتان العوام بجبل عرفات، جعلوه أصلاً في الوقوف، يحرصون عليه دون بقاعها، ذلك
خطأ. وإنما الأفضل الوقوف في موقف رسول الله ( عند الصخرات عن يسار الجبل.
ومنها: إيقاد النيران عليه ليلة عرفة واهتمامهم بذلك
باسطحابهم الشموع معهم من بلادهم واختلاط الرجال بالنساء في ذلك المكان صعوداً
وهبوطاً بالشموع المشعلة. وهذه ضلالة، شابهوا فيها أهل الشرك في مثل ذلك الموقف الجليل.
وإنما أحدثوا ذلك حين انقرض أكابر العلماء، حين تركوا سنة رسول الله (.
ومن ذلك حضورهم بعرفات قبل دخول وقت الوقوف، وإنما السنة
السير في اليوم الثامن من مكة إلى منى والمبيت بها إلى يوم عرفة.
ومن البدع أيضاً: أكل العوام التمر الصيحاني في الروضة
الشريفة بين المنبر والقبر، وطوافهم بالقبر الشريف، ولا يحل ذلك. وكذلك إلصاقهم
بطونهم وظهورهم بجدار القبر، وتقبيلهم إياه بالصندوق الذي عند رأس النبي (، ومسحه باليد.
وكل ذلك منهي عنه.
فصل
بدع التحية والسلام
ومما أحدث قولهم: كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ قبل السلام وإنما السنة السلام أولاً.
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي
الله عنه أن رسول الله ( قال: " إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس ثم إذا قام
فليسلم، فليست الأولى بأحق من الثانية
" .
وروى أبو داود عن رسول الله ( وقال: " إذا لقى
أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر، ثم لقيه فليسلم
عليه أيضاً " .
وروي أيضاً عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول
الله) : " إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام " .
والسلام تحية الله لعباده المؤمنين فيما بينهم، ولهم
فيها أجر كثير، فقد روى أبو داود والترمذي، عن عمران بن حصين رضي الله، قال: كنا
عند رسول الله (، فجاء رجل فقال: السلام عليكم، فرد النبي ( وقال: " عشر
" ، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد النبي (، فقال: "
عشرون " ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه فجلس،
وقال: " ثلاثون " .
وروى أبو داود أيضاً، عن معاذ بن أنس معناه، وزاد: ثم
أتى آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فردّ عليه النبي (،
وقال: " أربعون " ، ثم قال لنا: " هكذا تكون الفضائل " .
فكان السلام شعارهم، وكانوا بعد السلام وبعد الرد يستخرج
بعضهم من بعض الحمد والثناء.
وفي الموطأ عن أنس رضي الله عنه أنه سمع عمر وقد سلم على
رجل، فقال: السلام عليكم، فرد السلام، ثم قال له عمر: كيف أنت؟ فقال: الرجل: أحمد الله
إليك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: ذلك الذي أردت منك.
وأما قول الرجل " كيف أصبحت " و " كيف
أمسيت " بلا سلام، يشبه تحية أهل الجاهلية، وقد نهينا عن التشبه بهم؛ فروى
أبو داود، عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: كنا نقول في الجاهلية: أنعم الله
بك عيناً، وأنعم صباحاً، فلما كان الإسلام نهينا عن ذلك، وأمرنا بالسلام.
بدعة الانحناء
وقد يزيد بعض الجاهلين والعلماء
والغافلين عن السنة على هذه البدعة أمراً منكراً، وهو الانحناء، وهو أمر منهي عنه،
فروى الترمذي، عن أنس رضي الله عنه، قال: " سمعت رجلاً يقول لرسول الله) : يا
رسول الله، الرجل يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: " لا " ، قال
أفيلتزمه ويقبله؟ قال: " لا " قال: أيأخذه بيده ويصافحه؟ قال: " نعم " .
وروى الترمذي رضي الله عنه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده رضي الله عنهم، قال: قال رسول الله) : " ليس منا من تشبه بغيرنا، لا
تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى
الإشارة بالأكف " .
فالسلام واستخراج الحمد، والثناء بعد السلام، والمصافحة
من تمام التحية، وهي من السنن وأفعال السلف الصالحين من الصحابة والتابعين؛ لما
روى البخاري في صحيحه، عن قتادة، قال: قلت لأنس بن مالك: كانت المصافحة في أصحاب
النبي (؟ قال: نعم.
وروى الترمذي، عن ابن مسعود، عن النبي (، قال: "
إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله واستغفراه غفر لهما " .
فصل
بدع دخول المنازل
ومما أحدث قول الداخل منزل الغير:
" يا غلام، يا جارية " . وهذا فيه مخالفة لقول الله تعالى: (لا تدخلوا
بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها)، والاستئناس طلب الأنس؛ فيدق،
أو يتنحنح، أو يحرك نعله؛ حتى يؤذن له، ويستأذن ثلاثاً؛ ففي الصحيحين، عن أبي
موسى، قال: سمعت رسول الله ( يقول: " الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع " .
وروى أبو داود، عن عبد الله بن بشر، قال: كان النبي (
إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر،
ويقول: " السلام عليكم، السلام عليكم " . وذلك أن الدور لم تكن يومئذ
عليها ستور.
فصل
بدع متفرقات
السؤال عما لا يعنيه
ومن ذلك قول الرجل لأخيه: من أين جئت؟ وإلى أين تريد؟ وهو داخل في التجسس. ومن ذلك علم الكلام والجدل، وهو بدعة ومحدث، لم يكن في السلف الماضين.
التلحين في القراءة والآذان
ومن ذلك التلحين في القراءة والآذان. وقد روي أن رجلاً من المؤذنين قال لابن عمر: " إني أحبك في الله، فقال له: لكني أبغضك في الله، قال: لم؟ قال: لأنك تتغنى في الآذان وتأخذ عليه " .
الصياح عند سماع القرآن
ومن ذلك الصياح والغشى عند سماع القرآن والوعظ، وقد صح من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال: " وعظنا رسول الله ( موعظة وجلت منها القلوب، ودمعت منها العيون. ولم يقل صرخنا ولا غشينا، كما يفعله الجاهلون أهل البدع " .
الموسيقى والغناء وما شابههما من اللهو
ومن ذلك الرقص، والغناء في
المساجد، وضرب الدف أو الرباب، أو غير ذلك من آلات الطرب.
فمن فعل ذلك في المسجد، فهو مبتدع، ضال، مستحق للطرد
والضرب؛ لأنه استخف بما أمر الله بتعظيمه، قال الله تعالى: (في بيوت أذن الله أن
ترفع " أي تعظم " ويذكر فيها اسمه)، أي يتلى فيها كتابه. وبيوت الله هي
المساجد؛ وقد أمر الله بتعظيمها، وصيانتها عن الأقذار، والأوساخ، والصبيان،
والمخاط، والثوم، والبصل، وإنشاد الشعر فيها، والغناء والرقص؛ فمن غنى فيها أو رقص
فهو مبتدع، ضال مضل، مستحق للعقوبة.
الحذف بالبندق
ومن ذلك قوس البندق، وهو الجلاهق وقال الترمذي الحكيم: وفيما يروى أن النبي ( نهى عن الحذف بالبندق، وقال: إنما ينهى عنه لأنه كالمثلة، ألا ترى أنه يصير المرمي به وقيذاً وقد تصير ميتة، وقتله إفساد. وقال أيضاً: ونهى عن اللعب بالحمام؛ لأنه أيضاً من أعمال قوم لوط، ويصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وقد روي أن قوم لوط كانت فيهم عشر خصال مذمومة، أهلكهم الله بسببها: كانوا يتضارطون في الطرقات، ويتغوطون فيها، وعلى شطوط الأنهار، ويرفعون ثيابهم قبل أن يجلسوا له، ويحذفون من مرّ بهم، وإذا اجتمعوا في مكان أظهروا المنكر بالضراط، والصفع على الرقاب، ويلعبون بالحمام الطيارة، ويرمون بالجلاهق وهو قوس البندق، وكشف العورات في الحمام، وشرب الخمر، وإتيان الذكور، وقص اللحية، وتطويل الشوارب، ومضغ العلك.
فصل
القمار والطاولة والشطرنج
ومن المنكرات اللعب بالنرد
والشطرنج، واللعاب، وسائر أنواع القمار. وقد صح عن النبي ( أنه قال: " من لعب
بالنرد فقد عصى الله ورسوله " .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الشطرنج ميسر
الأعاجم، ومر بقوم يلعبون بها فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لأن
يمس أحدكم جمراً حتى يطفأ خير له من أن يمسها. وقال أيضاً: صاحب الشطرنج اكذب
الناس يقول أحدهم: قتلت، وما قتل، وقال الإمام مالك: بلغنا أن ابن عباس ولي مالاً
ليتيم فوجدها فيه، فأحرقها.
وسئل محمد بن علي المعروف بالباقر عن الشطرنج، فقال:
دعونا من هذه المجوسية.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي) : أنه مر
بقوم يلعبون بالشطرنج، فقال: " ما هذه الكوبة؟ ألم أنه عن هذا؟ لعن الله من
فعل هذا " .
وعن أنس، عن النبي (، قال: " اللاعب بالشطرنج
كالآكل لحم الخنزير، والناظر إليها كالغامس يده في دم الخنزير " .
وروى أبو بكر الآجري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله
عنه، قال: قال رسول الله) : " إذا مررتم بهؤلاء الذي يلعبون بهذه الأزلام:
الشطرنج، والنرد، وما كان من اللهو، فلا تسلموا عليهم؛ فإنهم إذا اجتمعوا وأكبوا
عليها الشيطان بجنوده فأحدقوا بهم، كلما ذهب واحد منهم يصرف بصره عنها لكزه الشيطان
بجنوده فما يزالون يلفتونهم حتى يفترقوا كالكلاب اجتمعت على جيفة ثم تفرقت "
. ولأنهم يكذبون عليها فيقولون: شاه شاه مات وفرس وفرزان وتقدم وتأخر وروي ابن أبي
الدنيا بإسناده إلى واثلة بن الأسقع أن رسول الله ( قال: " إن لله في كل يوم ثلثمائة
وستين نظرة إلى خلقه ليس لصاحب الشاه فيها نصيب " ، وصاحب الشاه هو صاحب
الشطرنج، وهو داخل في الميسر، وهو القمار.
الذي حرمه الله سواء كان بجُعلٍ أم لا وعن عمر بن عبد
الله، قال: قلت للقاسم بن محمد: أرأيت الشطرنج ميسر هي؟ فقال: كل ما ألهى عن ذكر
الله، وعن الصلاة، فهو ميسر.
ستر الحيطان بالحرير
ومن ذلك - أي من البدع - ستر
الحيطان بستور الحرير ونحوها؛لأن ذلك سرف وخيلاء.
وروى الخلال عن علي بن الحسين، قال: " نهى رسول
الله ( أن تستر الجدر " .
وروى مسلم في الصحيح: أن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي ( في سفر، فأخذت غطاء فتسرت به على الباب، فلما قدم النبي ( ورآه عرفت الكراهة في وجهه، فجذبه حتى هتكه، ثم قال: " إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين " . والنمط كالبساط والعباءة ونحوها، فإذا كانت هذه كراهيته لذلك فكيف لو رأى ما يصنع اليوم من ستر الحيطان بالحرير ونحوه.
استطلاع الغيب
ومن البدع استعلام حوادث الأمور من
المنجمين، والضوارب بالحصاء والشعير، ونحو ذلك. وقد قال الله عز وجل لنبيه) : (قل
لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون).
وقد ورد عن النبي ( أنه قال: " من أتى عرافاً أو
كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد ( " .
والعراف من يتعاطى معرفة الشيء المسروق، ومكان الضالة،
ونحوها؛ والكاهن المنجم ومن يدعي علم الأشياء المغيبات.
كشف العورات
ومن البدع والمنكر كشف العورات في الحمامات.
الاجتماع في المآتم
ومن البدع الاجتماع لعزاء الميت، قال الشافعي رضي الله عنه: وأكره المآتم وهو اجتماع الرجال والنساء لما فيه من تجديد الحزن، وكذا اجتماع الرجال على القبر اليوم الثاني والثالث. ومن ذلك السجع في الدعاء.
فصل
الوسوسة في الوضوء
ومن ذلك الوسوسة في الوضوء، والغسل، وتنظيف الثياب، ونحو ذلك بالزيادة والإسراف وصب الماء على المشروع، والتنطع في ذلك، والتعمق والتشديد، وقد قال النبي) : " هلك المتنطعون " قالها ثلاثاً، والمتنطعون المتعمقون المتشددون في غير موضع التشديد المبالغون في الأمور. وقد توضأ النبي ( ثلاثاً، وقال: " هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم " وقال: " إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان، فاتقوا وسواس الماء " فمن أسرف في صب الماء والزيادة على الثلاث فهو مبتدع.
فصل
الوسوسة في نية الصلاة
ومن البدع أيضاً الوسوسة في نية
الصلاة، ولم يكن ذلك من فعل النبي ( ولا أصحابه، كانوا لا ينطقون بشيء من نية
الصلاة سوى التكبير. وقد قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
وقال الشافعي رحمه الله: الوسوسة في نية الصلاة والطهارة
من جهل بالشرع أو خبل في العقل.
فصل
التساهل في المكاسب وألوان التعاملات
ومن ذلك التساهل في المكاسب، وترك التحري فيها، والكلام فيما لا يعني، والخوض في الباطل، والغيبة، والنميمة، والاستماع إليها، وسوء الظن لأجلها، والنظر إلى ما يلهي.
الاستماع إلى الغناء
والإصغاء إلى اللهو من الغناء
والمزامير وآلات الطرب. وقد جاء عن النبي) : " من استمع إلى قينة صُبّ في أذنه الآنك يوم القيامة "
والقينة المغنية، وكذلك المغني. والآنك: الرصاص المذاب.
وقال الشعبي: لعن المغني والمُغَنّى له - يعني أن اللعنة
تنزل على المغني والمستمع إليه، وكذا السماع إلى الكذب، وقول الزور.
اتباع هوى النفس
ومن ذلك الجلوس في مجالس البطالين، والمشي في هوى النفس، وكذا التعصب في هوى النفس، وشدة الحرص على الدنيا.
دخول الحمام بغير مئزر
ودخول الحمام بغير مئزر. وقد قال
صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا
بإزار " وقال علي رضي الله عنه: " من كشف عورته أعرض الله عنه " .
وهذه الأمور كلها فسوق.
شغل الطريق بغير حق
ومن ذلك البيع والشراء على الطريق
إذا كان يضر المارة. وكان الورعون لا يشترون منهم.
ومن ذلك إخراج الرواسن والميازيب إلى الطريق، وطرح قشور
البطيخ والرش على الطريق.
زخرفة المساجد
ومن ذلك زخرفة المساجد، وتخلية المصاحف، وكثرة المساجد في المحلة الواحدة.
ألوان من المستحدثات
ومما أحدث الموائد، وإنما كانوا
يأكلون على السفر.
وكذا المناخل، والأشنان، والشبع، وتشييد البنيان بالجص
والآجر، ونقش الأبواب. وكانوا يكرهون النظر إلى ذلك.
ألوان من بدع اللباس
ومنها الثياب الرقاق، وكانوا يقولون: الثياب الرقاق ثياب الفساق، ومن رقَّ ثوبه رقَّ دينه. ومن البدع أيضاً: تطويل الثياب في الكم، وكان كم النبي ( إلى الرسغ، وهو مفصل اليد، وكان يقول: " ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار " . وكان يقول: " من جر ثوبه من خيلاء لم ينظر الله إليه " . وكان يقول: " أزرة المؤمن إلى أنصاف الساقين " . ودخل شاب على عمر رضي الله عنه، فإذا إزاره يمس الأرض، فقال له عمر ارفع إزارك؛ فهو أتقى لثوبك، وأتقى لربك. فتطويل الثياب شعار المتكبرين والمرحين.
ذو الوجهين
ومن ذلك: اختلاف السريرة والعلانية. وكان السلف إذا كلموا أحداً وسلموا عليه، سلمت له قلوبهم، فلا يتكلمون فيه إلا بخير في غيبته وحضوره. وإذا تكلموا في أحد لبدعة أو لفسق يعظونه. وإذا مدحوا أحداً بقول لم يذموه بفعل. وإذا ذموه بفعل لم يمدحوه بقول؛ لأن ذا اللسانين واختلاف الوجهين واختلاف السر والعلانية نفاق، كان بعض السلف يقول: ما ذكر عندي إنسان إلا مثلته جالساً، فقلت في غيبته ما أحب أن يسمع. وقال الآخر: ما ذكر عندي رجل إلا صورت نفسي في مثاله فكلما أحب أن يقال لي قلته له. ويروى في كتب الله: عجباً لمن قيل فيه الخير وليس فيه خير فكيف يفرح؟! ولمن قيل فيه السوء وهو فيه كيف يغضب؟! وأعجب من ذلك من أحب لنفسه وأبغض الناس على الظن.
حب المدح وطلب الحمد
ومما أحدث حب المدح، وطلب الحمد.
وكان السلف يكرهون ذلك، قال بعضهم: من أحب المدح، وكره الذم، فهو منافق. وقال
سفيان الثوري: إذا كنت إذا قيل لك؛ بئس الرجل، تغضب فأنت بئس الرجل. وقال آخر: لا
يزال فيك خير ما لم تر أن فيك خيراً. وسئل بعضهم: ما علامة المنافق؟ فقال: الذي
إذا مدح بما ليس فيه ارتاح لذلك قلبه. وقال سفيان: إذا رأيت الرجل يحب أن يحبه
الناس كلهم، ويكره أن يذكره أحد بسوء، فاعلم أنه منافق.
وكان السلف إذا مدحوا خافوا، وأشفقوا على المكر، وردوا
الصنعة إلى صانعها، ويشهدون أن في الفطرة فاطرها، ولا ينظرون إلى نفوسهم، ولا
يعجبون بوصفهم. وهذه طرق قد درست، وانقطع سلاكها.
اللهم انظمنا في سلكك الأبرار، وألحقنا بالأخيار، الذي
هم غرسك الذين تستعملهم بطاعتك، وقد روي عن رسول الله ( أنه قال: " لا يزال
الله يغرس في هذه الدنيا غرساً يشغلهم بطاعته " . فغرس الله تعالى محروس من
الأموال، ومحفوظ في الأصلاب والأرحام، ومرعى يكلؤهم الله ويرعاهم، وهم رجاله في أرضه
وأولياؤه، والدعاة إليه، عاملين بكتاب الله، ومتبعين لسنة نبيهم؛ أولئك الذين هدى
الله فبهداهم اقتده. اللهم اهدنا بهداهم يا رب العالمين.
فصل
تعريف السلف للسنة ووصيتهم بلزومها
وصية سفيان الثوري
قال سليمان بن عيسى: قال سفيان الثوري رحمه الله: أما بعد، عفانا الله وإياك من سخطه، وأعاذنا من النار برحمته، أوصيك بتقوى الله، واحذر عقابه، وأن تجهل بعد إذا علمت فتهلك ولا تهلك بعد إذا وضح لك، وتغتر بأهل الباطل بطلبهم الدنيا وحرصهم عليها وجمعهم إياها؛ فإن القول فيها شديد، والخطر عظيم، والأجل قريب، وكأن قد كان ما تحذر. فتفرغ، وفرغ قلبك، ثم الجد الجد، والوحاء الوحاء، الهرب الهرب؛ فارتحل إلى الآرخرة قلب أن يرحل بك، واستقبل رسل ربك بما تحب أن تستقبل به، وانكمش في أمورك، واشدد مئزرك، وقدم جهازك من قبل أن يقضى قضاؤك ويحال بينك وبين ما تريد. فقد وعظتك بما وعظت به نفسي، والتوفيق من الله، ومفتاح التوفيق الدعاء والتضرع والاستكانة والندامة على ما فرطت في أمرك، ولا تضيع حقك من هذه الأيام والليالي. أسأل الله الذي منَّ علينا بمعرفته أن لا يكلنا وإياكم إلى أنفسنا، وأن يتولى منا ومنكم ما تولى من أوليائه وأحبابه برحمته؛ إنه على كل شيء قدير.
وقال رحمة الله عليه: السنة سنتان:
سنة أخذها هدى وتركها ضلالة، وسنة أخذها هدى وتركها ليس بضلالة. وإن لله حقاً
بالليل لا يقبله بالنهار، وحقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى
تؤدى الفريضة، وإن العبد يحاسب يوم القيامة بالفرائض؛ فإن جاء بها تامة أو لم
يفردها كاملة ألحق بها النوافل حتى يكمل بها، وأول الفرائض الانتهاء عن المحارم والمظالم؛
فإن الله تعالى يقول في كتابه: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا
حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به)، فنعم والله ما وعظ به..
وقال تعالى: ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) وإنما عنى اتقوا الله في المظالم أن
تنالوها فتنفقوها في أعمال البر.
وقال رحمه الله: وأحسن سريرتك يحسن الله علانيتك، وأصلح
فيما بينك وبين الله يصلح الله فيما بينك وبين الناس، واعمل لآخرتك يكفك الله أمر
دنياك، وبع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تخافن إلا ذنبك، ولا تستنكف أن تعمل لآخرتك
ما ينفعك، ولا تستحي أن تتعلم العلم، واعمل ما ينفعك في آخرتك، فإن العمل عليك
فريضة واجبة، وإنما فضل العلم ليتقى به، وقال: إنما العلم خشية الله تعالى. وسئل
رحمه الله: بم عرفت ربك؟ فقال: بفسخ العزائم، ومنع الهمة. وقال: الصلاة والزكاة من
الإيمان، والإيمان يزيد وينقص، والناس عندنا مسئولون، والإيمان يتفاضل.
وقال الوليد بن مسلم: سألت سفيان ومالكاً والأوزاعي عن
أحاديث الصفات، فقالوا: نؤمن بها، وتمضي كما جاءت، ولا نفسرها.
وقال: من قال: " القرآن مخلوق " فهو كافر.
وقال: من قال: " إن علياًأحق بالإمامة من أبي بكر " فقد أخطأ، ولا أدري
أيرفع له عمل إلى السماء أم لا.
وقال: الخلفاء وأئمة العدل خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان،
وعلي، وعمر بن عبد العزيز. وقال: القدرية كفار الجهمية، وقال لشعيب: اكتب بسم الله
الرحمن الرحيم، الإيمان قول، ولا يصح قول إلا بعمل، ولا يصح قول وعمل إلا بنية،
ولا يصح قول وعمل ونية إلا بإصابة السنة. قلت: وما السنة؟ قال: تقديم الشيخين
أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم قال: ولا ينفعك ما كتب حتى تقدم عثمان، ولا ينفعك
ما كتب حتى تشهد للعشرة بالجنة، ولا ينفعك ما كتب حتى ترى المسح على الخفين، وأنه
آثر عندك من غسل الرجلين، ولا ينفعك ما كتب حتى تؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره،
وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. ثم قال: ولا ينفعك ما كتب حتى
تصلي الصلاة خلف كل بر وفاجر، قلت: في سائر الصلوات؟ قال: في الجمعة والعيدين، ثم
قال: وأن تشهد بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. من قال غير
هذا فهو كافر. والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ثم قال شعيب بن حرب: والله ما
قالت القدرية ما قال الله تعالى، ولا ما قالت الملائكة، ولا ما قال الأنبياء ولا
ما قال أهل النار، ولا ما قال أهل الجنة، ولا ما قال أخوهم إبليس، قال الله تعالى:
(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) الآية. وقالت الملائكة: (سبحانك لا علم لنا إلا ما
علمتنا).
وقال عيسى عليه السلام: (إن هي إلا فتنتك)، وقال أهل
الجنة: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)، وقال أهل
النار: (غلبت علينا شقوتنا) وقال إبليس: (بما أغويتني) الآية، ثم قال: ولا تصل إلا
خلف من تثق به، وتعلم أنه من أهل السنة والجماعة إلا الجمعة والعيدين، ثم إذا وقفت
بين يدي الله تعالى فقل: حدثني بهذا سفيان بن سعد ثم خل بيني وبين ربي.
وصية الإمام الشافعي
وروى الشيخ الحافظ أبو محمد عبد
الغني عبد الواحد بن علي المقدسي عن أبي منصور محمد بن علي بن صباح البلدني، قال:
هذه وصية الإمام الشافعي رضي الله عنه أوصى بها إلى أصحابه: أن يشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، لا نفرق بين أحد من رسله، وأن
صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين،
وأن الله يبعث من في القبور، وأن الجنة حق والنار حق، وأن عذاب النار حق، وأن
الحساب حق والميزان والصراط حق، والله عز وجل يجزي العباد بأعمالهم، عليه أحيا
وعليه أموت، وعليه أبعث إن شاء الله تعالى، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن
الله تعالى يُرى في الآخرة ينظر إليه المؤمنون عياناً جهاراً ويسمعون كلامه، وأنه
فوق عرشه، وأن القدر خيره وشره من الله عز وجل لا يكون إلا ما أراد الله وقضاه
وقدره، وأن خير الناس بعد رسول الله) : أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، رضي الله
عنهم. وأتولاهم، وأستغفر لهم، ولأهل الجمل وصفين القاتلين والمقتولين، وجميع أصحاب
النبي (، والسمع لأولي الأمر ما داموا يصلون والموالاة لهم، ولا يخرج
عليهم بالسيف والخلافة في قريش، وأن كل ما أسكر كثيرة فقليله حرام، والمتعة حرام،
وأوصي بتقوى الله عز وجل ولزوم السنة والآثار عن رسول الله ( وأصحابه وترك البدع والأهواء
واجتنابها؛ فاتقوا الله ما استطعتم، وعليكم بالجمعة والجماعة ولزوم السنة والإيمان
والتفقه في الدين، من حضرني منكم فليلقني لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن
محمداً عبده ورسوله، وتعاهدوا الأظفار والشارب، وإذا احتضرت فإن كانت عندي حائض
فلتقم، وأن تطيبوا وتدهنوا. هذه وصية الإمام الشافعي رضي الله عنه، وروى الشيخ
الزاهد أبو الحسن علي بن أحمد بن يوسف الهكاري، عن أبي شعيب وأبي ثور، عن أبي عبد الله
محمد بن إدريس الشافعي، قال: القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت أصحابنا عليها
أهل الحديث الذين رأيتهم وأخذت عليهم، مثل سفيان بن عيينة، ومالك، وغيرهما:
الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأشهد أن الجنة حق، وأن
النار حق وأن الساعة حق لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأؤمن بجميع ما
جاءت به الأنبياء، وأعقد قلبي على ما ظهر من لساني، ولا أشك في إيماني، ولا أكفر
أحداً من أهل التوحيد بذنب وإن عمل الكبائر، وأكلُهم إلى الله عز وجل وقدره
وإرادته خيره وشره جميعاً، وهما مخلوقان مقدران على العباد من الله عز وجل، من شاء
الله أن يكفر يكفر، ومن شاء أن يؤمن آمن، ولم يرض الله عز وجل بالشر، ولا يأمر به،
ولا يحبه، بل يأمر بالطاعة، وأحبها ورضيها، ولا أنزل المحسن من أمة محمد الجنة
بإحسانه، ولا المسئ بإساءته النار، خلق الخلق على ما أراد، فكل ميسر لما خلق له؛
كما جاء في الحديث، وأعرف حق السلف الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله
عليه وسلم، والأخذ بفضائلهم، وامسك عما شجر بينهم صغيره وكبيرهم، وأقدم أبا بكر،
ثم عمر، ثم عثمان، ثم علياً رضي الله عنهم، فهم الخلفاء الراشدون، وأعقد قلبي
ولساني على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، والكلام في اللفظ والوقف بدعة،
والإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وأؤمن برؤية الله تعالى في الآخرة، كما جاء في
الحديث عن رسول الله (، ولما سمعت الله
تعالى يقول في كتابه عن الكفار: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) دل على أنهم
حال الرضى عن المؤمنين غير محجوبين ينظرون إليه لا يضامون في رؤيته، والشفاعة لأهل
الكبائر من أمة محمد (، وأن المسح على الخفين في الحضر والسفر جائز، والجهاد مع كل
بر وفاجر، وصلاة العيدين والجمعة إلى يوم القيامة، والبيع والشراء على حكم الكتاب
والسنة، والدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح. هذه عقيدة أهل السنة والجماعة أحيانا
الله وأماتنا عليها، وجنبنا البدع ما ظهر منها وما بطن؛ إنه جواد كريم، ولا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى، ونعم النصير.
تم وكمل ولله الحمد والمنة.
والحمد لله رب العالمين
============
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق