وما اتفقوا فيه ثم اختلفوا لم نزل عن إجماعهم إلا بنص وبالله التوفيق.
وقالت طائفة: بل في المقدار الذي يجب فيه الزكاة من المذهب نص صحيح، فالواجب الوقوف عنده بهذا نقول: واحتجوا أيضا بتسويتنا في حديث عتق الشقص واشتراط مال العبد، بأننا سوينا بين العبد والامة في ذلك، وهذا خطأ، بل النص قد جاء في ذلك بلفظ مملوك، وهذا اسم يقع على الامة كوقوعه على العبد.
وأيضا: فإن لفظة العبد واقعة على الجنس، وقولنا عبيد يقع على الذكور والاناث، لانك تقول: عبد وعبدة بلا خوف من أهل اللغة، ولهم علينا في خاصتنا اعتراض ننبه عليه، وهو: أن أصحابنا لا يجوزون المزارعة، ونحن نجيزها، وهذا الاعتراض علينا على أصحابنا في المساقاة، فإنهم يقولون إن الشروط فاسدة بقوله (صلى الله عليه وسلم): كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل فأنتم إذا أجزتم المساقاة والمزارعة على النصف فكلم مقال.
لفعله (صلى الله عليه وسلم) في خيبر، فلم أجتموها بالثلث والربع ؟ وقد جاء النهي نصا عن ذلك، فهل هذا إلا قياس الثلث والربع على النصف ؟.
قال أبو محمد: ومعاذ الله أن نقول قياسا، وما قلنا ذلك اتباعا للاجماع، فإن الامة كلها، بلا خلاف من أحد منها، مساوية بين النصف وبين سائر الاجزاء يقينا، فمن مانع من كل ذلك، قاطع على أن حكم كل ذلك سواء، مبيح لكل ذلك، قاطع على أن كل ذلك سواء، فقد صح الاجماع يقينا على أن حكم النصف وسائر الاجزاء سواء، ثم وجدنا النص قد جاء بالمساقاة والمزارع على النصف، فوجب القول به، وصح بالاجماع أن حكم سائر الاجزاء كحكم النصف، والنصف حلال، فسائر الاجزاء حلال، وهذا برهان متيقن، لا يجوز خلافه.
وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا: فإن المتعاقدين على النصف والنصف، فقد تعاقدا على ما دون النصف بدخول ذلك في النصف، فإذا اقتصر أحدهما على بعض ماله أن يعاقد عليه مع سائره فذلك جائز له بالنص المجيز له أن يعاقد على ما دون النصف مع قوله تعالى: * (ولا تنسوا الفضل بينكم) * فتجافيه عن بعض ماله أن يشترطه فضل منه.
واحتجوا بقيم المتلفات ومهر المثل، ومقدار المتعة والنفقات، وإن كل ذلك لا نص فيه، قالوا: فوجب الرجوع إلى القياس.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه البتة، ولا للقياس هنا مدخل أصلا لانه ليس ههنا شئ آخر منصوص عليه يقيسون عليه هذه الاشياء، وهذا هو القياس عندهم، فبطل تمويههم، إن هذا القياس، وما هو إلا نص جلي، لا داخلة فيه، وهو قول الله تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * فهل في البيان أكثر من هذا ؟ وهل هذا إلا نص على كل قصة وجب فيها ضمان المثل ؟.
فأي معنى للقياس فيمن أتلف الآخر ثوبا قيمته دينار فقضى عليه بثوب مثله، فإن لم يوجد فمثله من القيمة في سوق البلد الذي وقع فيه الغصب، أو الذي وقع فيه الحكم ؟.
وكذلك امرأة وجب لها مهر مثلها بالنص، فعلم مقدار ما تطيب به نفس مثلها في المعهود الذي أحالنا الله تعالى عليه على لسان نبيه (صلى الله عليه وسلم).
وكذلك نص الرسول (صلى الله عليه وسلم) على أن للازواج والاقارب والمماليك النفقة والكسوة بالمعروف، وساوى في ذلك بين الاقارب وبين من ذكرنا وأحالنا على المعروف، والمعروف هو غير المنكر، فهو ما تعارفه الناس في نفقات من ذكرنا، وما فيه مصالحهم من كسوة معروفة لامثالهم، وإسكان وغير ذلك، مما لا قوام للمعاش إلا به، مما لا جوع فيه ولا عري ولا عطش ولا برد، ولا شهرة ولا اتضاع، ولا إسراف ولا تبذير، ولا تقصير ولا تقتير، فهذا هو المنكر، وضده هو المعروف، فأين القياس ههنا ؟ وعلى أي شئ قاسوا ما ذكرنا فإذ ليس ههنا شئ يقاس عليه ما ذكرنا البتة فقد بطل أن يكون قياسا، وبطل تمويههم في ذلك.
واحتجوا أيضا بأروش الجراحات والجنايات والديات.
قال أبو محمد: وهذا في التمويه كالذي قبله، وقولنا في ذلك: إن كل ما أوجبه من ذلك نص وقف عنده، وما لم يوجبه نص فهو ساقط لا يقضى به للنص الوارد:
إن دماءنا وأموالنا علينا حرام، وما تيقن أنه أجمع عليه واختلف في مقداره: وجب من ذلك أقل ما قيل فقط، وما عدا ذلك فتحكم في الدين لا يحل.
وأي شئ في معرفة مقدار شبع الناس في الجمهور في أقواتهم في ذلك البلد، مما يكون فيه للقياس معنى، وكذلك ما اتفقوا على وجوبه في المتعة، وهل شئ من هذا يوجب تحريم البلوط بالبلوط متفاضلا، إن انطلاق اللسان بمثل هذا لعظيم، ونعوذ بالله من نصر الباطل والتمادي عليه.
فهذا كل ما احتجوا به من دلائل الاجماع، فقد بينا بحول الله وقوته أنه عائد عليهم، ومبطل للقياس، والحمد لله كثيرا كما هو أهله.
واحتجوا أيضا بأحاديث وردت عن الصحابة رضي الله عنهم، كرسالة منسوبة إلى عمر رضي الله عنه، ذكروا أنه كتب بها إلى أبي موسى، وكقول ابن عباس: ولا أرى كل شئ إلا مثله، ولو لم يعتبروا ذلك إلا بالاصابع، أرأيت من ادهن، وعن سعد: أينقض الرطب إذا يبس، وعن معمر بن عبد الله أخشى أن يضارع، وعن أبي سعيد، فأيما أولى، التمر أو الورق، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا سكر هذى، وعن علي وزيد في الجد، وعن علي: لو كان هذا كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قاتل حمزة.
وعن ابن عباس: قد أمر الله بالتحكيم بين الزوجين، وفي أرنب قيمتها ربع درهم، وعن علي في احتجاجه بمحو اسمه من الصحيفة، بمحو النبي (صلى الله عليه وسلم) اسمه يوم الحديبية من الصحابة، وعن علي وعمر في قتل الجماعة بالواحد، وبالقطع في السرقة.
قال أبو محمد: هذا كل ما يحضرنا ذكره مما يمكنهم أن يتعلقوا به، ونحن إن شاء الله تعالى، نذكر كل ما يحضرنا ذكر كل ذلك بأسانيده، ونبين، بعون الله عزوجل، أنه لا حجة لهم في شئ منه لو صح، فكيف وأكثر ذلك لا يصح.
فأما رسالة عمر، فحدثنا بها أحمد بن عمر العذري، نا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي، ثنا أبو سعيد الخليل بن أحمد القاضي السجستاني، نا يحيى بن محمد بن صاعد، نا يوسف بن موسى القطان، نا عبيد الله بن موسى، نا عبيد الله بن موسى، نا عبد الملك بن الوليد بن معدان، عن أبيه قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الاشعري - فذكر الرسالة وفيها: الفهم الفهم، يعني فيما يتلجلج في صدرك، مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الامثال والاشكال، فقس الامور عند ذلك، ثم اعمد إلى أشبهها بالحق، وأقربها إلى الله عزوجل، وذكر باقي الرسالة.
وحدثناها أحمد بن عمر، نا عبد الرحمن بن الحسن الشافعي، نا القاضي أحمد بن محمد الكرخي، نا محمد بن عبد الله العلاف، نا أحمد بن علي بن محمد الوراق، نا عبد الله بن سعد، نا أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، نا سفيان، عن إدريس بن يزيد الاودي، عن سعيد بن أبي موسى الاشعري بن أبي بردى عن أبيه قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى، فذكر الرسالة وفيها، الفهم فيما يتلجلج في نفسك مما ليس في الكتاب ولا السنة، ثم قس الامور بعضها ببعض، ثم انظر أشبهها بالحق وأحبها إلى الله تعالى فاعمل به.
وفيها أيضا: المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد، أو مجريا عليه شهادة زور، أو ظنينا
في ولاء أو قرابة وذكر باقيها.
قال أبو محمد: وهذا لا يصح، لان السند الاول فيه عبد الملك بن الوليد بن معدان، وهو كوفي متروك الحديث ساقط بلا خلاف، وأبوه مجهول، وأما السند الثاني فمن بين الكرجي إلى سفيان مجهولون، وهو أيضا منقطع، فبطل القول به جملة.
ويكفي من هذا أنه لا حجة في قول أحد دون النبي (صلى الله عليه وسلم)، وكم قصة خالفوا فيها عمر.
وأيضا: فلا يخلو من أن تكون صحيحة أو غير صحيحة، فإن كانت غير صحيحة، فهو قولنا ولا حجة علينا فيها، وإن كانت صحيحة تقوم بها الحجة، فقد خالف أبو حنيفة ومالك والشافعي والحاضرون من خصومنا المحتجين بها، ما فيها، فأجازوا شهادة المجلود في الخمر والزنى إذا تاب.
وأجاز مالك والشافعي شهادة المجلود في حد القذف إذا تاب، وهذا خلاف ما في رسالة عمر، وإن ادعوا إجماعا كذبهم الاوزاعي، فإنه لا يجيز شهادة مجلود في شئ من الحدود أصلا، كما في رسالة عمر التي صححوا.
وأجازوا شهادة الاخ لاخيه، والمولى لذي ولائه، ولم يجعلوهما ظنينين في ولاء وقرابة، وردوا شهادة الاب العدل لابنه، وجعلوه ظنين في قرابة، وليس إجماعا، لان عثمان البتي وغيره يجيز شهادته له، وردوا شهادة العبد وهو مسلم.
وكل هذا خلاف ما في رسالة عمر، ومن الباطل المحال أن تكون حجة علينا في القياس، ولا تكون حجة عليهم فيما خالفوها فيه، ويكفي في هذا إقرارهم بأنها حق وحجة، ثم خلافهم ما فيها، فقد أقروا بأنهم خالفوا الجن والحجة، ونحن لا نقر بها.
ولله الحمد.
والصحيح عن عمر غير هذا من إنكار القياس، مما سنذكره في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
وأما الرسالة التي تصح عن عمر فهي غير هذه، وهي التي حدثنا بها عبد الله بن ربيع التميمي، نا محمد بن معاوية المرواني، نا أحمد بن شعيب النسائي، نا محمد بن بشار، نا أبو عامر العقدي، نا سفيان الثوري، عن أبي إسحاق الشيباني، عن الشعبي، عن شريح أنه كتب إلى عمر يسأله، فكتب إليه عمر: أن اقض بما في كتاب الله تعالى، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإن لم يكن في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاقض بما قضى الصالحون، فإن لم يكن في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله، ولم يقض به الصالحون، فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرا لك، والسلام.
قال أبو محمد: وهذا ترك الحكم بالقياس جملة، واختيار عمر لترك الحكم إذا لم يجد المرء تلك النازلة في كتاب ولا سنة ولا إجماع، فسقطت الرواية عن عمر في الامر بالقياس، لسقوط راويها.
ولوجه ثان ضروري مبين لكذب تلك الرسالة، وأنها موضوعة بلا شك، وهو اللفظ الذي فيها، ثم اعمد لاشبهها بالحق وأقربها إلى الله عزوجل، وأحبها إليه تعالى فاقض به.
قال أبو محمد: وهذا باطل موضوع: وما يدري القايس إذا شبهت الوجوه أيها أحب إلى الله عزوجل، أو أيها أقرب إليه ؟ وهذا ما يقطعون به، ولا يقطع به أحد له حظ من علم.
ثم قوله: اعمد إلى أشبهها بالحق، ولا نعلم إلا حقا أو باطلا، فما أشبه الحق فلا يخلو من أن يكون حقا أو باطلا، فالباطل لا يحل الحكم به، وإن كان حقا فلا يجوز أن يقال في الحق إنه أشبه طبقته ونظرائه بالحق، ولكن يقال في الحق إنه حق بلا شك، ولا يجوز أن يقال فيه يشبه الحق، فصح أن
القياس باطل بلا شك، وبطلت تلك الرسالة بلا شك.
وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل: افتقطعون في خبر الواحد العدل أنه حق إذا قضيتم به أم تقولون: إنه باطل، أم تقولون: إنه يشبه الحق، وهذا نفس ما دخلتم علينا ؟.
قال أبو محمد: والجواب، وبالله التوفيق: إن خبر الواحد العدل المتصل، وشهادة العدلين حق عند الله عزوجل، مقطوع به، إلا أننا نحن نقول: إن كل خبر صح مسندا بنقل من اتفق على عدالته، فهو حق عند الله، بخلاف الشهادات، وقال غيرنا: إن كل شخص من أشخاص الاخبار وأشخاص الشهادات، إما حق عند الله فهو حق مطلق، وإما باطل عند الله فهو باطل مطلق.
ولا يجوز أن يقال: إنه يشبه الحق، ولا إنه أشبه بالحق من غيره، ولسنا نوقفهم في هذه المراجعة على مذهبهم في أشخاص القياس، وإنما نتكلم على ما رووا عن عمر من لفظ، أشبهها بالحق، فعلى هذه اللفظة تكلمنا، وفسادها بينا لنرى بعون الله كذب الرواية في ذلك عن عمر.
وأما: ولا أحسب كل شئ إلا مثله فحدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد الاشقر، ثنا أحمد بن علي القلانسي، ثنا مسلم، ثنا قتيبة، ثنا حماد - وهو ابن زيد - عن عمر بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه قال ابن عباس: واحسب كل شئ مثله.
قال أبو محمد: ولا حجة لهم في هذا، لان كثيرا من أصحاب القياس لا يقولون بهذا، ولا يرون غير الطعام داخلا في حكم الطعام في ذلك، بل يرون ما عدا الطعام جائز بيعه قبل أن يستوفى، وهذا قول المالكيين، فمن المحال أن يحتج امرؤ وأيضا فإن ابن عباس لم يقطع بصحة ظنه بشئ يقر أنه خطأ لا يجوز أن يؤخذ به.
وأيضا فإن ابن عباس لم يقطع بصحة ظنه في ذلك، وانما أخبر أنه يحسب كل شئ مثل الطعام في ذلك، وهذا هو الذي قلنا عنهم رضي الله عنهم: إنهم لا يقطعون برأيهم فيما رأوه، وإنما هو ظن لا يثبتونه دينا، وليس حكم القياس عند القائلين به من باب الحسبان الذي ذكره ابن عباس في هذا الحديث، فصح يقينا أنه لا مدخل للقياس في هذا الحديث، فاحتجاجهم به باطل، وبالله تعالى التوفيق.
وأما: لو لم تعتبروا ذلك إلا بالاصابع فحدثناه حمام بن أحمد، ثنا محمد بن أبن مفرج، ثنا ابن الاعرابي، ثنا أبو يعقوب الدبري، ثنا عبد الرزاق، ثنا مالك، عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان، أن مروان أرسله إلى ابن عباس يسأله: ماذا جعل في الضرس، قال: فيه خمس من الابل، قال: فردني إلى ابن عباس: فقال: أتجعل مقدم الفم مثل الاضراس، فقال ابن عباس: لو أنك لا تعتبر ذلك إلا بالاصابع عقلها سواء.
قال أبو محمد وهذا لا مدخل للقياس فيه البتة، بل هو إبطال للتعليل جملة، لان مروان علل الدية بأنها عرض من العضو المصاب، فينبغي أن تكون دية العضو الافضل أكثر، وهذه هي علل أصحاب القياس على الحقيقة، فأراه ابن عباس بطلان هذا، وتناقضه في قوله: بأن الاصابع منافعها متفاضلة، وديتها سواء.
وهذا إبطال العلل على الحقيقة وفي إبطال العلل إبطال للقياس، إذ لا قياس إلا على علة جامعة عند حذاق القائلين به، فهذا الحديث مبطل للقياس كما ذكرنا، وراد إلى النص، وألا يتعقب بتعليل، وبالله تعالى التوفيق، وبرهان واضح فيما ذكرنا هو أن القياس بلا خلاف، إنما هو أن يحكم لما نص فيه بالحكم فيما نص، أو فيما اختلف فيه بالحكم فيما اجتمع عليه، وليس في الاصابع إجماع، فيقاس عليه الاضراس، بل الخلاف موجود فيها كما هو في الاضراس، وليس في الاصابع نص دون الاضراس، بل النص فيهما جميعا، فبطل أن تكون الاصابع أصلا يقاس عليه الاضراس.
فأما الخلاف في كل ذلك فكما حدثنا حمام بن أحمد، ثنا ابن مفرج، ثنا ابن الاعرابي، ثنا الديري، ثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، أخبرني يحيى بن سعيد - هو الانصاري - قال: قال ابن المسيب قضى عمر بن الخطاب فيما أقبل من الفم أعلى الفم وأسفله خمس قلانص، وفي الاضراس بعير بعير.
وقال عبد الرزاق أيضا: عن سفيان الثوري، عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب جعل في الابهام خمس عشرة، وفي السبابة والوسطى عشرا عشرا، وفي البنصر تسعا، وفي الخنصر سبعا.
فبطل أن يكون ههنا إجماع في الاصابع يقاس عليه أمر الاسنان والاضراس.
وأما النص فإن عبد الله بن ربيع ثنا قال: حدثنا عمر بن عبد الملك، ثنا محمد بن بكر، ثنا أبو داود السجستاني، ثنا عباس بن عبد العظيم العنبري، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث التنوري، ثنا شعبة، حدثنا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: الاصابع سواء والاسنان سواء، الثنية والضرس سواء، هذه وهذه سواء.
فصح أن النص عند ابن عباس في الاضراس، كما هو في الاصابع، بأصح إسناد وأجوده، وشعبة لم يسمع قتادة حديثا إلا فقه على سماعه، إلا حديثا واحدا في الصلاة، فبطل أن يكون ابن عباس أراد بقوله: ولو لم تعتبروا ذلك، بالاصابع، قياسا البتة، وبالله تعالى التوفيق.
نعم: قد روى التسوية أيضا بين الاضراس والاسنان، وبين الاصابع، عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده مسندا: وفي كتاب عمرو بن حزم أيضا فبطل ما ظنوه بيقين، والحمد لله رب العالمين.
وأما: أرأيت لو ادهن فحدثناه حمام بن أحمد، حدثنا ابن مفرج، حدثنا ابن الاعرابي، حدثنا الديري، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن جعفر بن يرقان قال: كان أبو هريرة يتوضأ مما مست النار، فبلغ ذلك ابن عباس، فأرسل إليه: أرأيت لو أخذت دهنة طيبة فدهنت بها لحيتي أكنت متوضئا ؟ قال أبو هريرة: يا ابن أخي، إذا حدثت بالحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فلا تضرب له الامثال جدلا.
قال أبو محمد: وليس ههنا للقياس مدخل البتة بوجه من الوجوه، وابن عباس قد روى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه شاهده أكل شيئا مما مست النار فلم يتوضأ، وهذا الحديث عنه مشهور، فلم يترك ابن عباس الوضوء مما مست النار قياسا، لكن اتباعا للنص، وإنما عارض أبا هريرة بأمر الدهن في هذا الحديث ليعلم: أيطرد أبو هريرة قوله، أم لا يرى الوضوء من الدهن فقط، فإنما هو استفهام عن مذهب أبي هريرة في الدهن: أيوجب الوضوء أم لا ؟ ليس في هذا الحديث شئ غير هذا البتة، ولكن في قول أبي هريرة: إذا حدثت بالحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فلا تضرب له الامثال جدلا، إبطال صحيح للقياس، لان القياس ضرب أمثال في الدين لم يأذن بها الله تعالى.
وقد نهى أبو هريرة عن ذلك، وأمره باتباع الحديث والتسليم له، فهذا الحديث عليهم لا لهم، والصحيح عن ابن عباس إبطال القياس، على ما ذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما: أينقص الرطب إذا يبس فحدثناه أحمد بن محمد الجسور، نا أحمد ابن سعيد بن حزم، نا عبيد الله بن يحيى، نا أبي عن مالك بن أنس، عن عبد الله ابن زيد، أن زيدا أبا عياش أخبره: أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسلت.
قال له سعد: أيتهما أفضل ؟ فقال: البيضاء، فنهاه عن ذلك، وقال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسأل عن اشتراء التمر بالرطب، فقال (صلى الله عليه وسلم): أينقص الرطب إذا يبس ؟ فقالوا: نعم فنهاه عن ذلك.
قال أبو محمد: فأول هذا إن هذا خبر لا يصح، لان زيدا أبا عياش مجهول، فارتفع الكلام فيه، وأيضا فلو صح لما كانت لهم فيه حجة، لان جميع أصحاب القياس، أولهم عن آخرهم، لا يرون هذا قياسا ولا يمنعون من البيضاء بالسلت فمحال أن يحتج قوم بما لا يقولون به.
وأيضا فإن هذا ليس قياسا عند القائلين به، لانه تنظير للافضل بما ينقص إذا يبس، وهذا ليس شبها البتة، عند من يقول بالقياس، فسقط تعلقهم بهذا الاثر، والحمد لله رب العالمين.
وأما: أخاف أن يضارع فحدثناه عبد الله بن يوسف بن نامي، نا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم، حدثني أبو الطاهر، أخبرني ابن وهب، عن عمرو بن الحارث أن أبا النضر حدثه أن بسر بن سعيد حدثه عن معمر بن عبد الله: أنه أرسل غلامه بصاع قمح، فقال: بعه ثم اشتر به شعيرا، فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض صاع، فلما جاء معمرا أخبره بذلك.
فقال له معمر: لم فعلت ذلك ؟ انطلق فرده، ولا تأخذ إلا مثلا بمثل، فإني كنت أسمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: الطعام بالطعام مثلا بمثل وكان طعامنا يومئذ الشعير، فقيل: إنه ليس بمثله ؟ قال: إني أخاف أن يضارع.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه أصلا، وإنما هو تورع من معمر بن عبد الله، لا إيجاب، ولا أنه قطع بذلك.
وبيان ذلك: إخبار معمر بأنه يخاف أن يضارع، ولم يقطع بأنه يضارع، وأيضا فإن الحنفيين والشافعيين لا يقولون بهذا، وهم يجيزون القمح بالشعير متفاضلا، فلا وجه لاحتجاج المرء بما لا يراه صحيحا، ولا ممن يخطئ ويصيب ممن لا يلزم اتباعه.
ولعل من جهل يظن أن احتجاجنا بمن دون النبي (صلى الله عليه وسلم) هو أننا نرى من دونه (صلى الله عليه وسلم) حجة لازمة، فليعلم من ظن ذلك أن ظنه كذب، وأننا لا نورد قولا عمن دون النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا على أحد وجهين لا ثالث لهما: إما خوف جاهل يدعي علينا خلاف الاجماع، فنريه كذبه، وفساد ظنونه، وأنه لا إجماع فيما ظن فيه إجماعا، وإما لنرى من يحتج بمن دون النبي (صلى الله عليه وسلم) أن الذي يحتج به مخالف له، فنوقفه على تناقضا في أنه يخالف من يراه حجة.
حاشا موضعا واحدا، وهو حكم الحكمين بجزاء الصيد، فإننا نورده احتجاجا به، لقول الله تعالى: * (يحكم به ذوا عدل منكم) * فألزمنا الله عزوجل قبول العدلين ههنا، فنحن نورد قول العدلين من السلف رضي الله عنهم، احتجاجا بقولهما، لان الله تعالى أوجب ذلك.
وأما حديث: أيما أولى ؟ فحدثناها بن نامي، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب ابن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا إسحاق بن إبراهيم، أنا عبد الاعلى، أنا داود، عن أبي نضر قال: سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا، فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري، إذ جاءه رجل فسأله عن الصرف فقال: مزاد فهو ربا.
فأنكرت ذلك لقولهما.
فقال: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم): جاءه صاحب نخلة بصاع من تمر جنيب، وكان تمر النبي (صلى الله عليه وسلم) غير هذا اللون، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): أنى لك هذا ؟ قال: انطلقت بصاعين واشتريت به هذا الصاع، فإن سعر هذا في السوق كذا وسعر هذا كذا، فقال رسول الله (ص): ويلك أرأيت إذا أردت ذلك فبع تمرا بسلعة ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت قال أبو سعيد: فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا أما الفضة بالفضة ؟.
قال أبو محمد: وهذا ليس قياسا، لان النهي عن التفاضل في الفضة بالفضة عند أبي سعيد الخدري، عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، كما روينا وبالسند المذكور إلى مسلم: حدثنا محمد بن رمح: ثنا الليث بن سعد، عن نافع مولى ابن عمر قال: ذهب ابن عمر وأنا معه حتى دخل على أبي سعيد الخدري، فذكر سؤال ابن عمر لابي سعيد عن
الصرف، فقال - أبو سعيد - وأشار بأصبعه إلى عينيه وأذنيه - فقال: أبصرت عيناي، وسمعت أذناي، رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تفشوا بعضه على بعض وذكر الحديث.
وبه إلى مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا وكيع، نا إسماعيل بن مسلم العبدي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح - مثلا بمثل فمن زاد واستزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء.
قال أبو محمد: فمن المحال البين أن يكون نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل عند أبي سعيد سماعا من لفظ النبي (صلى الله عليه وسلم)، ويعول في تحريمه على القياس.
فصح أن هذا الاثر لا مدخل للقياس فيه أصلا، لان القياس عند القائلين به، إنما هو: حكم في شئ ولا نص فيه، على نحو الحكم في نظيره، مما جاء فيه النص، والنص عند أبي سعيد مسموع في الفضة بالفضة، كما هو في التمر بالتمر، فبطل ضرورة إقرار أصحاب القياس أن يكون أحد الامرين عنده قياسا على الآخر.
فإن قيل: فما وجه قول أبي سعيد إذن هو القول، فنقول وبالله تعالى التوفيق: إننا لا نشك أن أبا نضرة مسخ لفظ أبي سعيد، وحذف منه ما لا يقوم المعنى إلا به.
كما فعل في صدر هذا الحديث نفسه، من قوله: سألت ابن عباس وابن عمر عن الصرف فلم يريا به بأسا، وهذا كلام مطموس، لان الصرف لا بأس به عند كل أحد من الامة، إذا كان على ما جاء به النص، من التماثل والتعاقد في الفضة بالفضة وفي الذهب بالذهب، ومن التفاضل والتناقد في الذهب بالفضة، فطمس أبو نضرة كل هذا.
وكذلك فعل بلا شك في كلام أبي سعيد، ويجوز غير هذا أصلا، إذ من الباطل أن يروي من هو أوثق من أبي نضرة، عن أبي سعيد أنه سمع النبي (صلى الله عليه وسلم) يوجب أن التفاضل في الفضة بالفضة ربا، ثم لا يعول أبو سعيد في تحريم ذلك إلا على تحريم التمر بالتمر متفاضلا، هذا ما لا يدخل في عقل أحد.
وجميع أصحاب القياس لا يجوزون هذا القياس، ولا يدخلون الصفر بالصفر، قياسا على الربا في التمر بالتمر، فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة والحمد لله رب العالمين، وبالله تعالى نعتصم.
وأما: سكر هذى فحدثناه حمام بن أحمد، ثنا ابن مفرج، ثنا ابن الاعرابي، ثنا الدبري، نا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، أن عمر بن الخطاب شاور الناس في حد الخمر، وقال: إن الناس قد شربوها واجترؤوا عليها، فقال له علي: إن السكران إذا سكر هذى، وهذى افترى، فاجعله حد الفرية فجعله عمر حد الفرية ثمانين.
وحدثناه أيضا أحمد بن محمد بن الجسور، ثنا أحمد بن سعيد بن حزم، ثنا عبيد الله بن يحيى بن يحيى، ثنا أبي، ثنا مالك، عن ثور بن زيد الديلي: أن عمر ابن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال له علي بن أبي طالب: نرى أن نجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، أو كما قال، فجلد عمر في الخمر ثمانين.
حدثناه محمد بن سعيد بن نبات، ثنا عبد الله بن نصر، نا قاسم بن أصبغ، ثنا ابن وضاح، نا موسى بن معاوية، نا وكيع، نا ابن أبي خالد، عن عامر الشعبي قال: استشارهم عمر في الخمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: هذا رجل افترى على القرآن رأى أن تجلده ثمانين.
حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي، نا عبد الله بن محمد بن عثمان الاسدي، ثنا أحمد ابن خالد، نا عبد الله بن عبد العزيز، نا الحجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن محارب بن دثا: إن ناسا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شربوا الخمر بالشام، وإن يزيد بن أبى سفيان كتب فيهم إلى عمر، فذكر الحديث، وفيه: إنهم احتجوا على عمر بقول الله تعالى: * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات) *.
فشاور فيهم الناس، فقال لعلي: ماذا ترى ؟ فقال: أرى قد شرعوا في دين الله تعالى ما لم يأذن به الله تعالى، فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم، فإنهم قد أحلوا ما حرم الله، وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين ثمانين، فقد افتروا على الله الكذب، وقد أخبر الله تعالى بحد ما يفتري به بعضنا على بعض.
حدثنا عبد الله بن ربيع، نا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب، نا محمد بن عبد الله ابن عبد الرحيم البرقي، ثنا سعيد بن عفير، ثنا يحيى بن فليح بن سليمان المدني، عن ثور ابن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن الشراب كانوا يضربون في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالايدي والنعال والعصي، حتى توفي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم حدا، فتوخى نحو ما كانوا يضربون في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر فجلدهم كذلك أربعين، حتى أتي برجل من المهاجرين الاولين قد شرب، فأمر به أن يجلد، فقال: لم تجلدني، بيني وبينك كتاب الله ؟ فقال عمر: وفي أي كتاب الله تجد ألا أجلدك ؟ قال له: إن الله تعالى يقول في كتابه: * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) *، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بدرا وأحدا والخندق والمشاهد.
فقال عمر:
ألا تردون عليه ما يقول ؟ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين، وحجة على الباقين، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن يحرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين، لان الله تعالى يقول: * (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان) *، ثم قرأ الاخرى،( فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا) * فإن الله نهاه أن يشرب الخمر.
فقال عمر: صدقت فما ترون ؟ فقال علي: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون جلدة، فأمر به عمر فجلد ثمانين.
قال محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي، وحدثنا سعيد بن أبي مريم، أنا يحيى ابن فليح بن سليمان، حدثني ثور بن زيد الديلمي، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكر هذا الحديث، وفي آخر: ثم سأل من عنده عن الحد فيها ؟ فقال علي بن أبي طالب: إنه إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، فاجلده ثمانين فجلده عمر ثمانين.
حدثنا حمام، نا عباس بن أصبغ، نا محمد بن عبد الملك بن أيمن، ثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، نا يوسف بن سليمان، نا حاتم بن إسماعيل، نا أسامة ابن زيد، عن ابن شهاب، أخبرني عبد الرحمن بن أزهر قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتي بسكران، فأمر من كان عنده فضربوه بما كان في أيديهم، وحث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) التراب عليه، ثم إن أبا بكر أتي بسكران فتوخى الذي كان يومئذ من ضربهم: فضرب أربعين، ثم ضرب عمر أربعين.
قال ابن شهاب: ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن وبرة الكلبي قال: بعثني خالد بن الوليد إلى عمر، فأتيته وعنده علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف، متكئون معه في المسجد، فقلت له: إن خالد
ابن الوليد يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن الناس انتهكوا في الخمر، وتحاقروا العقوبة، فما ترى ؟ فقال عمر: هم هؤلاء عندك، قال: فقال علي: أراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، فأجمعوا على ذلك.
فقال عمر: بلغ صاحبك ما قالوا، فضرب خالد ثمانين، وضرب عمر ثمانين.
قال: وكان عمر إذا أتي بالرجل القوي المنهمك في الشراب ضربه ثمانين، وإذا أتي بالرجل الذي كان منه زلة الضعيف ضربه أربعين، وفعل ذلك عثمان أربعين وثمانين.
قال أبو محمد: فهذا كل ما ورد في ذلك قد تقصيناه وكله ساقط لا حجة فيه مضطرب ينقض بعضه بعضا.
أما الآثار التي صدرنا بها من طريق الثقات: أيوب ومالك والشعبي ومحارب ابن دثار فمرسلات كلها، لا يدري عمن هي في أصلها، فسقط الاحتجاج بها.
وأما المتصلان فمن طريق يحيى بن فليح بن سليمان، وهو مجهول البتة، والحجة لا تقوم بمجهول، وأبو فليج متكلم فيه مضعف، والثاني عن أسامة بن زيد وهو ضعيف بالجملة، فسقط كل ما في هذا الباب، مع أنه لو صح هذان الاثران المتصلان لكان حجة عليهم قاطعة، لان في رواية يحيى بن فليح أن أبا بكر فرض الحد في الخمر أربعين، فلو جاز لعمر أن يزيد على ما فرض أبو بكر، لمن بعد عمر أن يزيد ويحيل الحد الذي فرض عمر، أو يسقط منه، ولا فرق، فإن لم يكن فرض أبي بكر بحضرة جميع الصحابة حجة، وعمر وغيره بالحضرة، وفي أقل من هذا يزعمون أنه إجماع، ففرض عمر، وقد مات كثير من الصحابة قبل ذلك الفرض، أحرى ألا يكون حجة، وهذا على أقوالهم إجازة لمخالفة.
وفي هذا ما فيه، وأن من يرى ما في هذا الخبر من فعل أبي بكر بحضرة الصحابة إجماعا، ثم يرى رسالة مكذوبة من عمر إلى الاشعري إجماع، لمنحرف عن الحق.
وأما الذي من طريق أسامة بن زيد، ففيه بيان جلي، على أن عمر لم يجعل ذلك فرضا واجبا، وأنه إنما كان منه تعزيرا، وذلك أنه ذكر فيه إذا أتي بالمنهمك في الشراب جلده ثمانين جلدة، وإذا أتي بالذي كانت منفي ذلك زلة الضعيف جلده أربعين، وأن عثمان أيضا جلد أربعين وثمانين فباليقين يعلم كل ذي عقل أنه لو كانت الثمانون فرضا لما جاز أن يحال في بعض الاوقات، فسقط احتجاجهم بالجملة، وعاد عليهم مسقطا لقولهم، فكيف ولا يصح من ذلك كله شئ.
وقد نزه الله عزوجل عليا رضي الله عنه عن هذا الكلام الساقط الغث الذي ليس وراءه مرمى في السقوط والهجنة، لوجوه: أحدها أنه لا يحل لمسلم أن يظن أن عمر وعليا يضعان شريعة في الاسلام لم يأت بها النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولكانا في ذلك كالذين أنكرا عليهم في الحديث نفسه أنهم شرعوا ما لم يأذن به الله تعالى، فمن المحال أن ينكر على علي من شرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى، ويشرع هو في الحين نفسه شريعة لم يأذن بها الله تعالى، وهذا ما لا يظنه بعلي ذو عقل ودين، ولا فرق بين وضع حد في الخمر، وبين إسقاط حد الزنى أو الزيادة فيه، أو إسقاط ركعة من الظهر، أو زيادة فيها، أو فرض صلاة غير الصلوات المعهودة، أو وضع حد مفترض في أكل الربا، وكل هذا كفر ممن أجازه.
ثم المشهور عن علي: رضي الله عنه بالسند الصحيح، أنه جلد الوليد بن عقبة في الخمر أربعين، في أيام عثمان رضي الله عنه، فبطل يقينا أن يكون يرى الحد ثمانين، ويجلد هو أربعين فقط، وهذا الحديث يكذب كل ما عن علي بخلافه.
وأيضا فليس كل من يشرب الخمر يسكر، وشارب الجرعة لا يسكر، والحد عليه، ولا كل من يسكر يهذي، ففي الناس كثير يغلب عليهم السكون حينئذ، نعم وذكر الله تعالى الآخرة والبكاء والدعاء والتأدب الزائد، ولا كل من
يهذي يفتري، فالمبرسم يهذي ولا يفتري، ولا كل من يفتري يلزمه الحد، فقد يفتري المجنون والنائم، فلا يحدان، فوضح أن هذا الكلام المنسوب إلى علي، وقد نزهه الله تعالى عنه، من الكذب في منزله ينزه عنها كل ذي عقل فكيف مثله رحمة الله عليه.
وأيضا، فإن كان يجلد لفرية لم يفترها بعد، فهذا ظلم بإجماع الامة، ولا خلاف بين اثنين أنه لا يحل لاحد أن يؤاخذ مسلما أو ذميا بما لم يفعل، ولا أن يقدم إليه عقوبة معجلة لذنب لم يفعله، عسى أن يفعله، أو عسى ألا يفعله، وإنما عندنا هذا من فعل ظلمة الملوك ذوي الاعياث، المشتهرين بأتباعهم من السخفاء المتطايبين بمثل هذا، وشبه من السخف، ومثل هذا الجنون لا يضيفه إلى عمر وعلي إلا جاهل بهما وبمحلهما من الفضل والعلم رضي الله عنهما.
وعهدنا بهؤلاء القوم يقولون ادرؤوا الحدود بالشبهات، فصاروا ههنا يقيمون الحدود وينسبون إلى عمر، وعلى إقامتها بأضعف الشبهات، لان لا شبهة أحمق من شبهة من يقيم حد القذف على شارب الخمر.
خوف أن يفتري، وهو لم يفتر بعد.
وأيضا: فإن كان حد الشارب إنما هو للفرية فأين حد الخمر ؟ وإن كان للخمر فأين حد الفرية ؟ ولا يحل سقوط حد لاقامة آخر.
وأيضا، فإنه إذا سكر هذى، وإذا هذى كفر، فينبغي لهم أن يضربوا عنقه، وإذا شرب سكر.
وإذا سكر زنى، فينبغي لهم أن يرجموه ويجلدوه، وإذا شرب سكر، وإذا سكر سرق فينبغي لهم أن يقطعوا يده، وإذا شرب سكر وإذا سكر هذى، وإذا هذى خرج فأفسد أموال الناس، وأقر في ماله لغيره، فينبغي لهم أن يلزموه كل هذه الاحكام، فإن لم يفعلوا فقد أبطلوا حدهم إياه ثمانين، لانه إذا هذى افترى، وهذا كله جنون، نبرأ إلى الله تعالى منه، ونقطع يقينا بلا شك أنه كذب موضوع مفترى على علي رضي الله عنه: لم يقله قط.
وكذلك الرواية التي ذكرنا أيضا عن عبد الرحمن بن عوف فهالكة جدا، ومبعد عن مثله أن يقول: افترى على القرآن اجلده ثمانين.
وهذا محال ظاهرا وكيف يمكن أن يفتري أحد على الله تعالى، أو على القرآن فرية توجب ثمانين جلدة والفرية الموجبة لذلك إنما هي في القذف بالزنى فقط، وهذا ما لا سبيل إلى إضافته إلى القرآن، لانه ليس إنسانا.
فإن صحح أهل القياس هذه القضية، فليوجبوا ثمانين جلدة حدا واجبا لا يتعد على كل من افترى على أحد بكذبة، مثل أن يرميه بكفر، أو بتهمة أو بسرقة، أو كذب على القرآن، أو على الله تعالى، وهذا ما لا يقولونه، فقد أقروا بضعف هذا القياس الذي جعلوه أصلهم وبنوا عليه، أو أنهم تركوا القياس في سائر ما ذكرنا.
ولا بد لهم من أحد الوجهين ضرورة، وأول من كان يلزمهم هذا فهم، لانهم مفترون فيما يدعونه من القياس، وبالله تعالى التوفيق.
والصحيح في هذا الباب: هو ما حدثناه عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا محمد بن المثنى، ثنا محمد بن جعفر، نا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أتي برجل شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين وفعله أبو بكر.
فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر.
قال أبو محمد: فصح أنه تعزير لا حد، نعني الاربعين الزائدة.
وقد حدثنا حمام، ثنا ابن مفرج، نا ابن الاعرابي، ثنا الدبري، ثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، ثنا عطاء بن أبي رباح أنه سمع عبيد بن عمير يقول: كان الذي يشرب الخمر يضربونه بأيديهم ونعالهم ويصكونه، فكان ذلك على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر وبعض إمارة عمر، حتى خشي أن يغتال الرجال فجعله أربعين سوطا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين، ثم قال: هذا أدنى الحدود.
حدثنا أحمد بن عمر العذري، نا عبد الله بن حسين بن عقال، نا إبراهيم بن محمد الدينوري، ثنا ابن الجهم، نا موسى بن إسحاق، نا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو خالد، عن حجاج، عن الاسود بن هلال، عن عبد الله - هو ابن مسعود - أنه أتي برجل قد شرب خمرا في رمضان، فضربه ثمانين، وعزره عشرين.
وقد فعل ذلك أيضا علي بالنجاشي.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني، ثنا أبو إسحاق البلخي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا عبد الله بن عبد الوهاب، أنا خالد بن الحارث، ثنا سفيان الثوري، ثنا أبو حصين قال: سمعت عمير بن سعد النخعي قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما كنت لاقيم حدا على أحد فيموت، فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يسنه هكذا رويناه من طريق الهمداني وغيره عمير بن سعد والصواب سعيد كما رويناه من طريق يزيد بن زريع.
حدثنا عبد الله بن نامي، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا إسحاق بن راهويه، ثنا يحيى بن حماد، ثنا عبد العزيز ابن المختار، ثنا عبد الله بن فيروز الديباج مولى ابن عامر، نا حصين بن المنذر أبو ساسان قال: شهدت عثمان أتي بالوليد، صلى الصبح ركعتين فقال: أزيدكم ؟ فشهد عليه رجلان: أحدهما حمران: أنه شرب الخمر، والثاني أنه قاءها.
فقال عثمان: يا علي فاجلده.
فقال علي للحسن: قم فاجلده، فقال الحسن ول حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه علي، فقال علي: يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده، فجلده، وعلي يعد، حتى بلغ أربعين، فقال أمسك، جلد النبي (صلى الله عليه وسلم) أربعين وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين وكل سنة.
قال أبو محمد: فهذه الاحاديث مبينة ما قلنا، من أن زيادة عمر على الاربعين التي هي حد الخمر، إنما هي تعزير، فمرة زاد عشرين فقط، ومرة زاد أربعين ومرة زاد علي وابن مسعود ستين، وأخبر علي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يسن ذلك، يعني الزيادة على الاربعين فقط، ومن ظن غير هذا فإنه يكذب النقل الصحيح، ويصدق الواهي الضعيف الساقط.
وهذا علي يجلد في أيام عثمان، بحضرة الحسن وعبد الله بن جعفر وسائر من هنالك من الصحابة وغيرهم، أربعين فقط.
وقال عمر وعبد الرحمن: بأخف الحدود، فصح يقينا أن تلك الزيادة على الاربعين لم يوجبوها فرضا ولا حدا البتة، ونعيذهم بالله تعالى من ذلك.
ولو أخبار مرسلة وردت بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) جلد في الخمر ثمانين، لكفر من يقول: إن حد الخمر ثمانون، ولكن من تعلق بخبر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فقد اجتهد، فإن وفق لخبر صحيح فله أجران، وإن يسر لخبر غير صحيح - وهو لا يدري وهيه - فهو معذور، وله أجر واحد وهو مخطئ، وإنما الشأن والبلية في اثنين هالكين: وهو من قامت عليه حجة صحيحة فتمادى، فهو ضال فاسق، أو مقلد بغير علم متجاسر في دين الله عزوجل، فهو أيضا ضال فاسق، ونعوذ بالله من الخذلان.
وأما القياس في الجد: فحدثنا حمام بن أحمد القاضي بالغرب، ثنا ابن مفرج القاضي برية، نا عبد الاعلى بن محمد بن الحسن البوسي قاضي صنعاء، نا أبو يعقوب الدبري، نا عبد الرزاق، نا سفيان الثوري، عن عيسى - هو ابن أبي عيسى الخياط - عن الشعبي قال: كره عمر الكلام في الجد حتى صار جدا فقال: إنه كان من أبي بكر أن الجد أولى من الاخ، وذكر الحديث، وفيه، فسأل عنه زيد ابن ثابت فضرب له مثلا: شجرة خرجت لها أغصان، قال: فذكر شيئا لا أحفظه، فجعل له الثلث.
قال الثوري: وبلغني أنه قال: يا أمير المؤمنين، شجرة نبتت فانشعب منها غصن، فانشعب من الغصن غصنان، فما جعل الغصن الاول أولى من الغصن الثاني، وقد خرج الغصنان من الغصن الاول ؟ قال: ثم سأل عليا، فضرب له مثلا، واديا سال فيه سيل فجعله أخا فيما بينه وبين ستة، فأعطاه السدس، وبلغني عنه أن عليا حين سأله عمر جعله سيلا.
قال: فانشعب منه شعبة، ثم انشعبت شعبتان، فقال: أرأيت لو أن ماء هذه الشعبة الوسطى يبس ؟ أما كان يرجع إلى الشعبتين جميعا ؟ قال الشعبي: فكان زيد يجعله أخا حتى يبلغ ثلاثة وهو ثالثهم، فإن زادوا على ذلك أعطاه الثلث، وكان علي يجعله أخا ما بينه وبين ستة وهو سادسهم، ويعطيه السدس، فإن زادوا على ستة أعطاه السدس، وصار ما بقي بينهم.
وحدثناه أيضا أحمد بن عمر العذري، عن عبد الرحمن بن الحسن العباسي، عن أحمد بن محمد الكرجي، أنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاف النصيبي، ثنا إسماعيل ابن إسحاق القاضي، نا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث بين الجد والاخوة، قال زيد: وكان رأيي يومئذ أن الاخوة أحق بميراث أخيهم من الجد وعمر بن الخطاب يرى يومئذ، الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته.
فتحاورت أنا وعمر محاورة شديدة، فضرب له في ذلك مثلا فقلت:
لو أن شجرة تشعب من أصلها غصن ثم تشعب في ذلك الغصن خوطان، ذلك الغصن يجمع الخوطين دون الاصل ويغدوهما، ألا ترى يا أمير المؤمنين أن أحد الخوطين أقرب إلى أخيه منه إلى الاصل ؟.
قال زيد: فأنا أعبر له وأضرب له هذه الامثال، وهو يأبى إلا أن الجد أولى من الاخوة ويقول: والله لولا إني قضيته اليوم لبعضهم لقضيت به للجد كله.
ولكن لعلي لا أخيب سهم أحد، ولعلهم أن يكونوا كلهم ذي حق، وضرب علي وابن عباس يومئذ لعمر مثلا معناه: لو أن سيلا سال فخلج من خليج، ثم خلج من ذلك الخليج شعبتان.
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لوجهين: أحدهما: أن كلا من هذين الاسنادين ضعيف، في الاول عيسى بن أبي عيسى الخياط وهو ضعيف، ومع ذلك منقطع لان الشعبي لم يدرك عمر.
والثاني: فيه عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف البتة، فهذا وجه.
والثاني أنهما صحا لما كان فيهما للقياس مدخل بوجه من الوجوه، ولا بمعنى من المعاني، لان السيل لا يستحق ميراثا أصلا، لا سدسا ولا ثلثا وكذلك الغصن، ولا فرق، ومن أنوك النوك أن يظن أحد بمثل علي وزيد رضي الله عنهما.
إن أحدهما قاسم الجد مع الاخوة إلى خمسة وهو سادسهم، ثم له السدس وإن كثروا، وإن الثاني قاسم بالجد الاخوة إلى اثنين هو ثالثهما.
لا ينقضه من الثلث ما بقي أو السدس من رأس المال - قياسا على غصنين تفرعا من غصن شجرة، وأن إدخال أصحاب القياس لهذا في القياس في القحة الظاهرة والاستخفاف البادي.
فإن قال قائل: فما وجه هذين الصاحبين لهذين المثلين في هذه المسألة ؟ فالجواب، وبالله تعالى التوفيق: إن هذا باطل، بلا شك ونحن نبت أنهم رضي الله عنهم ما قالوا قط شيئا من هذا.
ولقد كانوا أرجح عقولا، وأثقب نظرا، وأضبط لكلامهم في الدين، من أن يقولوا شيئا من هذا الاختلاط، ولكن عيسى الخياط وعبد الرحمن بن أبي الزناد غير موثوق بهما، ولعل الشعبي سمعه ممن لا خير فيه، كالحارث الاعور وأمثاله.
ثم لو قال قائل: إن وجه ذلك لو صح بين ظاهر لا خفاء به، وهو أن زيدا وعليا رضي الله عنهما يذهبان من رأيهما، الذي لم يوجباه حتما على أحد، إلى أن الميراث يستحق بالدنو في القرابة، فإذا كان ذلك والاخوة عندهما أقرب من الجد، فإذ هم أقرب من الجد، فلا يجوز أن يمنعوا من الميراث معه، وللجد فرض بإجماع، فلم يجز أن يمنع أيضا من أجلهم، وخالفهما غيرهما في قولهما إن الاخ أقرب من الجد.
فههنا ضربا هذين المثلين، ليريا أن قربى الاخ من الاخ المتولدين من الاب، كقربى الغصن والغصن المتفرعين من غصن واحد ومن شجرة، أو كقربى جدول من جدول تفرعا جميعا من خليج من واد، لكان قولا، وهذا تشبيه حسي عياني ضروري لا شك فيه، إلا أنه ليس من قبل التشبيه بقرب الولادة تستحق الميراث فالعم وابن الاخ أقرب من الجد، ولا خلاف بيننا وبين خصومنا أنهما لا يرثان معه شيئا، وابن البنت أقرب، ابن العم، الذي يلتقي مع المرء إلى الجد العاشر وأكثر، ولا يرث معه شيئا بإجماع الامة.
ونحن لم ننكر الاشتباه، وإنما أنكرنا أن نوجب أحكاما لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله (صلى الله عليه وسلم) من أجل الاشتباه في الصفات، فبطل أن يكون لهذا الخبر مدخل في القياس، أو تعلق به بوجه من الوجوه، ولكن تمويه أصحاب القياس في قياسهم وفيما يحتجون به لقياسهم، متقارب كله في الضعف والسقوط والتمويه على الضعفاء المغترين بهم.
نسأل الله أن يفئ بهم إلى الهدى والتوفيق بمنه.
وأما قول علي، إذ بلغه أن معاوية قال إذ قتل عمار فذكر له قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): تقتل عمارا الفئة الباغية فقال معاوية: إنما قتله من أخرجه فبلغ ذلك عليا فقال - فرسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذن هو قتل حمزة فلا أعجب من تجليح من أدخل هذا القياس وهل هذا إلا الائتساء بالنبي (صلى الله عليه وسلم) في قتل الصالحين بين يديه، ناصرين له ؟ ومن استجاز أن يقول، إن هذا قياس فليقل: إن قول لا إله إلا الله قياس، لانه إذا قيل لنا: لم تقولون ذلك ؟ قلنا: لان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قالها.
وأن الاشتغال بمثل هذا لعناء لولا الرجاء في الاجر الجزيل في بيان تمويه هؤلاء القوم الذين اختدعوا الاغمار بمثل هذه الدعاوى، وإنما هذا من علي رضي الله عنه ليري معاوية تناقض قوله إنه إنما قتل عمارا من أخرجه.
وهذا مثل قول المالكي والحنفي: إن نكاح من اعتق أمته وتزوجها وجعل عتقها صداقها، نكاح فاسد، فيقول لهم أصحابنا والشافعيون: فنكاح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذن صفية فاسد فإن أقدموا على ذلك كفروا وإن كعوا عنه تناقضوا، وكقول الحنفي: إن الحكم باليمين مع الشاهد مخالف للقرآن، فنقول لهم، نحن والشافعيون والمالكيون، فحكم النبي (صلى الله عليه وسلم) بذلك إذن مخالف للقرآن فإن قالوا بذلك كفروا وإن كعوا تناقضوا.
وكقول المالكيين: إن صلاة الصحيح المؤتم بإمام مريض قاعدة فاسدة، فنقول لهم، نحن والشافعيون والحنفيون: فصلاة الناس خلف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مرضه الذي مات فيه كذلك وأمره (صلى الله عليه وسلم) الناس إذا صلى إمامهم قاعدا أن يصلوا قعودا فاسد كل ذلك باطل فإن قالوه كفروا وإن كعوا عنه تناقضوا، وإن من ظن أن هذا قياس لمخذول أعمى القلب.
ومن هذا الباب هو قول علي: فرسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذن هو قتل حمزة إذ أخرجه، وأي قياس ههنا لو عقل هؤلاء القوم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وكذلك قصة علي رضي الله عنه يوم القضية بينه وبين أهل الشام إذ أراد أن يكتب علي أمير المؤمنين فأنكر ذلك عمرو، ومن حضر من أهل الشام وقالوا: اكتب اسمك واسم أبيك، ففعل.
فقالت الخوارج لما محا أمير المؤمنين: قد خلعت نفسك، فاحتج عليهم بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فعل ذلك، إذ أنكر سهيل بن عمرو حين القضية يوم الحديبية أن يكتب في الكتاب محمد رسول الله فمحا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكتب محمد بن عبد الله فقال علي: أترون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) محا نفسه من النبوة إذ محا رسول الله من الصحيفة ؟.
قال أبو محمد: وهذا كالذي في قصة عمار سواء بسواء، ولا مدخل للقياس ههنا، وإنما هو إئتساء بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، وكلا الامرين محو من رق، ليس أحدهما مقيسا على الآخر، وهكذا الامر حديثا وقديما وإلى يوم القيامة، وليس إذا كتبت نار ثم محى امحت النار من الدنيا.
وهذا من جنون الخوارج، وضعف عقولهم، إذ كانوا أعرابا جهالا، بل قولهم في هذا هو القياس المحقق، لانهم قاسوا محو الخلافة عن علي، على محو اسمه من الصحيفة وهذا قياس يشبه عقولهم، وقد علم كل ذي مسكة عقل أنه إذا محيت سورة من لوح فإنها لا تمحى بذلك من الصدور.
ومن ظن أن بين القياس وبين قول علي نسبة، فإنما هو مكابر للعيان، لان القياس إنما هو، تحريم أو إيجاب أو إباحة في شئ غير منصوص تشبيها له بشئ منصوص، وليس في هذه القضية تحريم ولا إيجاب ولا تحليل وبالله تعالى التوفيق.
وأما قول ابن عباس للخوارج، إذ أنكروا تحكيم الحكمين يوم صفين:
إن الله تعالى أمر بالتحكيم بين الزوجين، وفي أرنب قيمتها ربع درهم، فإن هذا الخبر حدثناه أحمد بن محمد الجسور، ثنا وهب بن مسرة، ثنا محمد بن وضاح، ثنا عبد السلام بن سعيد التنوخي، ثنا سحنون، ثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو ابن الحارث، عن بكير بن الاشج، عمن حدثه، عن ابن عباس قال: أرسلني علي إلى الحرورية لاكلمهم، فلما قالوا: لا حكم إلا لله، قلت: أجل صدقتم، لا حكم إلا لله، وإن الله قد حكم في رجل وامرأته، وحكم في قتل الصيد، فالحكم في رجل وامرأته والصيد أفضل، أو الحكم في الامة يرجع بها ويحقن دماؤها ولم شعثها ؟.
قال أبو محمد: وهذا لا يصح البتة،: لانه عمن لم يسم ولا يدري من هو ؟ ثم هبك أنه أصح من كل صحيح، وأننا شهدنا ابن عباس يقول ذلك، فإنه ليس من القياس من ورد ولا صدر بل هو نص جلي.
ومعاذ الله أن يظن ذو عقل بأن عليا ومعاوية ومن معهما من الصحابة حكموا في النظر للمسلمين قياسا على التحكيم في الارنب، وبين الزوجين فما يظن هذا إلا مجنون البتة وهل تحكيم الحكمين إلا نص قول الله عزوجل: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * فنص تعالى على أن كل تنازع في شئ من الدين، فإن الواجب فيه تحكيم كتاب الله عزوجل، وكلام رسوله (صلى الله عليه وسلم)، والتنازع بين علي ومعاوية لا يجهله من له أقل معرفة في بالاخبار، ففرض عليهما تحكيم القرآن كما فعلا، فأي قياس ههنا لو أنصف هؤلاء القوم عقولهم ؟.
فإن كان هذا عندهم قياسا فقد ضيعوه وتركوه، ويلزمهم إن تحاكم إليهم اثنان في بيع أو دين أو غير ذلك، فليبعثوا من أهل كل واحد منهما حكما، وإلا فقد تركوا القياس بزعمهم.
فإن قالوا: فهلا كفاهم حكم واحد حتى احتجوا إلى اثنين، قيل لهم، وبالله تعالى التوفيق: إن أهل العراق لم يرضوا حكما من أهل الشام، ولا رضي أهل الشام حكما من أهل العراق، فلذلك اضطروا إلى حكم من كلتا الطائفتين.
وأما الرواية عن علي وعمر في قتل الجماعة بالواحد فكما حدثنا حمام، نا ابن مفرج، ثنا ابن الاعرابي، نا الدبري، نا عبد الرزاق، نا ابن جريج، أخبرني عمرو قال: قال أخبرني حيي بن يعلى بن أمية أنه سمع أباه يعلى يقول: وذكر قصة الذي قتله امرأة أبيه وخليلها، أن عمر بن الخطاب كتب إلي: اقتلهما فلو اشترك في دمه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم، قال ابن جريج: فأخبرني عبد الكريم وأبو بكر قالا جميعا: إن عمر كان يشك فيها حتى قال له علي: يا أمير المؤمنين أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور، فأخذ هذا عضوا، وأخذ هذا عضوا، كنت قاطعهم ؟ قال: نعم، قال: فذلك حين ليس أحدهما أصلا للآخر، لان النص قد ورد بقتل من قتل، وكما ورد بقطع من سرق ليس أحد النصين في القرآن بأقوى من الآخر، قال تعالى: * (ولكم في القصاص حياة) * وقال تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * وقال تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * ولم يخص تعالى من كلا الامرين منفرد من مشارك، فلو صح لكان علي إنما أنكر على عمر اختلاف حكمه فقط، وتركه أحد النصين وأخذه بالآخر.
وهذا هو الذي ننكره نحن سواء بسواء، فخرج هذا الخبر، لو صح، من أن يكون له في القياس مدخل أو أثر أو معنى، والحمد لله رب العالمين.
ثم قد روينا عن علي: أنه كان لا يرى قتل اثنين بواحد، فلو قاله لكان قد تركه ورجع عنه، ورآه باطلا من الحكم.
فهذا كل ما ذكروه مما روي عن الصحابة، قد بيناه بأوضح بيان، بحول الله تعالى وقوته، أنه ليس لهم في شئ منه متعلق، وهو أنه إما شئ بين الكذب لم يصح، وإما شئ لا مدخل للقياس فيه البتة.
فإذا الامر كما ترون، ولم يصح قط عن أحد من الصحابة القول بالقياس، وأيقنا أنهم لم يعرفوا قط العلل التي لا يصح القياس إلا عليها عند القائل به، فقد صح الاجماع منهم رضي الله عنهم على أنهم لم يعرفوا ما القياس، وبأنه بدعة حدثت في القرن الثاني، ثم فشا وظهر في القرن الثالث، كما ابتدأ التقليد والتعليل للقياس في القرن الرابع، وفشا وظهر في القرن الخامس.
فليتق الله امرؤ على نفسه وليتداركها بالتوبة والنزوع عمن هذه صفته، فحجة الله تعالى قد قامت باتباع القرآن والسنة، وترك ما عدا ذلك من القياس والرأي والتقليد.
ولقد كان من بعض الصحابة نزعات إلى القياس، أبطلها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نذكرها إن شاء الله تعالى في الدلائل على إبطال القياس إذا استوعبنا بحول الله تعالى وقوته كل ما اعترضوا به.
وبقيت أشياء من طريق النظر موهوا بها، ونوردها إن شاء الله تعالى، ونبين بعونه عزوجل بطلان تعلقهم، وأنه لا حجة لهم في شئ منها، كما بينا، بتأييد الله تبارك وتعالى، ما شغبوا به من القرآن، وما موهوا به من كلام النبي (صلى الله عليه وسلم)، وما لبسوا به من الاجماع وما أوهموا به من آثار الصحابة، وبالله تعالى التوفيق.
فمن ذلك: أنهم قالوا: إن القياس هو من باب الاستشهاد على الغائب بالحاضر، فإن لم يستشهد بالحاضر على الغائب فلعل فيما غاب عنا نارا باردة.
قال أبو محمد: هذه شغبية فاسدة، فأول تمويههم ذكرهم الغائب والحاضر في باب الشرائع، وقد علم كل مسلم أنه ليس في شئ من الديانة شئ غائب عن المسلمين، وإنما بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليبين للناس دينهم اللازم لهم، قال تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * فلا يخلو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون لم يبلغ ولا بين للناس، فهذا كفر ممن قاله بإجماع الامة بلا خلاف.
وإما أن يكون (صلى الله عليه وسلم) بلغ كما أمر به، وبين للناس جميعهم دينهم وهذا هو الذي لا شك فيه، فأين الغائب من الدين ههنا لو عقل هؤلاء القوم ؟ إلا أن يكون هؤلاء القوم، وفقنا الله وإياهم، يتعاطون استخراج أحكام في الشريعة لم ينزلها الله تعالى على رسوله (صلى الله عليه وسلم)، فهي غائبة عنا، فهذا كفر ممن أطلقه واعتقده، وتكذيب لقول الله عزوجل: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * ولقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ألا هل بلغت قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد.
وأما تمويههم بذكر النار، ولعل في الغائب نارا باردة، فكلام غث في غاية الغثاثة، لان لفظة نار إنما وقعت في اللغة على كل حار مضئ صعاد، فإن كنتم تريدون أن ههنا مضيئا باردا غير صعاد فنعم وهو البلور وإن كنتم تريدون أن شيئا حارا يكون باردا، فهذا تخليط وعين المحال.
وأما لفظة نار فقد وقعت أيضا في اللغة على ما لا يحرق، فالنار عند العرب اسم الميسم الذي توسم به الابل، فيقولون: ما نارها، بمعنى ما وسمها، فليس الاسم مضطرا إلى وجوده كما هو ولا بد، ولكنه اتفاق أهل اللغة، وليس من قبل أننا شاهدنا النار محرقة صعادة مضيئة، وجب ضرورة أن تسمى نارا ولابد، بل لو سموها باسم آخر ما ضر ذلك شيئا.
وليس أيضا من قبل أننا شاهدنا النار على هذه الهيئة، عرفنا أن ما غاب عنا منها كذلك أيضا، بل قد علمنا أن أهل اللغة لم يوقعوا اسم نار في الغائب والحاضر إلا على الحار المضئ المحرق الصعاد.
فإن قلتم: فلعل في الغائب جسما مضيئا باردا صعادا قلنا لكم: هذا ما لا
دليل عليه، والقول بما لا دليل عليه غير مباح، وقد عرفنا صفات العناصر كلها إلا إن قلتم: لعل الله تعالى عالم بهذه الصفة، فالله تعالى قادر على ذلك، ولكنه تعالى لم يخلق في هذا العالم، مما شاهدنا بالحواس أو بالعقل أو بالمقدمات الراجعة إلى الحواس والعقل، غير ما شاهدنا بذلك، ولعله تعالى قد خلق عوالم بخلاف صفة عالمنا هذا، إلا أن هذا أمر لا نحققه ولا نبطله، ولكنه ممكن والله أعلم، ولا علم لنا إلا ما علمنا الله، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا أيضا فقالوا: إن في النصوص جليا وخفيا، فلو كانت كلها جلية لاستوى العالم والجاهل في فهمها، ولو كانت كلها خفية لم يكن لاحد سبيل إلى فهمها، ولا إلى علم شئ منها، قالوا: فوجب بذلك ضرورة أن نستعمل القياس من الجلي على معرفة الخفي.
قال أبو محمد: وهذه مقدمة فاسدة، والاحكام كلها جلية في ذاتها، لان الله تعالى قال لنبيه (صلى الله عليه وسلم): * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * ولا يحل لمسلم أن يعتقد أن الله تعالى أمر رسوله (صلى الله عليه وسلم) بالبيان في جميع الدين فلم يفعل ولا بين، وهذا ما لا يجوز لمسلم أن يخطره بباله، فإذ لا شك في هذا، ونوقن أنه (صلى الله عليه وسلم) قد بين الدين كله.
فالدين كله بين، وجميع أحكام الشريعة الاسلامية كلها جلية، واضحة، وقد قال عمر رضي الله عنه: تركتم على الواضحة، ليلها كنهارها، أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا، وقال أيضا رضي الله عنه: سننت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، إلا أن يضل رجل عن عمد.
قال أبو محمد: إلا أن من الناس من لا يفهم بعض الالفاظ الواردة في القرآن وكلام النبي (صلى الله عليه وسلم)، لشغل بال أو غفلة أو نحو ذلك، وليس عدم هذا الانسان فهم ما خفي عليه بمانع أن يفهمه غيره من الناس، وهذا أمر مشاهد يقينا، وهكذا عرض لعمر رضي الله عنه إذا لم يفهم آية الكلالة وفهمها غيره، وقال عمر رضي الله عنه: اللهم من فهمته إياها فلم يفهمها عمر.
وقال: ما راجعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في شئ ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي بشئ ما أغلظ لي فيها، إلى أن طعن بأصبعه في صدري وقال لحفصة: ما أراه يفهمها أبدا أو كما قال (صلى الله عليه وسلم)، فصح ما قلناه يقينا، وأخبر (صلى الله عليه وسلم) أن آية الصيف كافية الفهم وأن عمر لم يفهمها، ليس لانها غير كافية، بل هي كافية بينة، ولكن لم ييسر لفهمها.
وكذلك أخبر (صلى الله عليه وسلم): أن الحلال بين، وأن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فلم يقل (صلى الله عليه وسلم): إنها مشتبهات على جميع الناس، وإنما هي مشتبهة على من لا يعلمها، وإذ هذا كذلك فحكم من لا يعلم أن يسأل من يعلم.
كما قال تعالى: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * ولم يقل فارجعوا إلى القياس، فوضع دعوى هؤلاء القوم وصح أن الدين كله بين واضح، وسواء كله في أنه جلي مفهوم إلا أن من الناس من يخفى عليه الشئ منه بعد الشئ لاعراضه عنه، وتركه النظر فيه فقط.
وقد يخفى على العالم الفهم أيضا، إذا نظر في مقدماته وقضاياه بفهم كليل إما لشغل بال، وإما لطلبه في اللفظ ما لا يقتضيه فقط حتى يعلمه إياه العلماء الذين هو عندهم بين جلي، ولو لم يكن الامر هكذا لما عرف الجاهل صحة قول مدعي الفهم أبدا.
فصح أنه لما أمكن العالم إقامة البرهان حتى يفهم الجاهل من القضايا كالذي فهم العالم فإن العلم كله جلي، ممكن فهمه لكل أحد، ولولا ذلك ما فهم الجاهل شيئا، ولا لزم من لا يفهم، العمل بما لا يفهم.
وأيضا فيلزم فيما كان منه خفيا ما ألزموه لو كان كله خفيا، وفي الجلي منه ما يلزم لو كان كله جليا ولا فرق، وليس للقياس ههنا طريق البتة، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا فقالوا: لما رأينا البيضتين إذا تصادمتا تكسرتا، علمنا أن ذلك حكم كل بيضة لم تنكسر، قالوا وهذا قياس.
قال أبو محمد: وهذا خطأ، ولم نعلم ذلك قياسا، ولكن علمنا بأول العقل وضرورة الحس أن كل رخص الملمس فإنه إذا صدمه ما هو أشد اكتنازا منه أثر فيه، إما بتفريق أجزائه، وإما بتبديل شكله، ولم نقل قط، إن البيضة لما أشبهت البيضة وجب أن تنكسر إذا لاقت جرما صليبا، بل هذا خطأ فاحش.
وفي هذا القول إبطال القياس حقا، فبيضة الحنش وبيضة الوزعة وبيضة صغار العصافير لا تشبه بيضة النعام البتة في أغلب صفاتها، إلا أنهما جميعا واقعان تحت نوع البيض وكلاهما ينكسر إذا لاقا جسما صليبا مكتنزا.
ونحن لو خرطنا صفة بيضة من عاج أو من عود البقس حتى تكون أشبه ببيضة النعامة من الماء بالماء، ولم تشبه بيضة الحجلة إلا في الجسمية فقط ثم ضربنا بها الحجر لما انكسرت.
فصح أن الشبه لا معنى له في إيجاب استواء الاحكام البتة، وبطل قولهم: إننا علمنا انكسار ما بأيدينا من البيض لشبهها بما شاهدنا انكساره منها، وصح أنه من أجل الشبه بينهما وجب انكسار هذه كانكسار تلك.
وإنما الذي يصح بهذا فهو قولنا: إن كل ما كان تحت نوع واحد فحكمه مستو وسواء اشتبها أو لم يشتبها.
فقد علمنا أن العنب الاسود الضخم المستطيل أو المستدير أشبه بصغار عيون البقر الاسود منه بالعنب الابيض الصغير، لكن ليس شبهه به موجبا لتساويهما في الطبيعة، ولا بعده عن مشابهة العنب بموجب لاختلافهما في الطبيعة، فبطل حكم التشابه جملة، وصح أن الحكم للاسم الواقع على النوع الجامع لما تحته.
وهكذا قلنا نحن: إن حكمه (صلى الله عليه وسلم) في واحد من النوع حكم منه في جميع النوع، وأما القياس الذي ننكر فهو: أن يحكم لنوع لا نص فيه بمثل الحكم في نوع آخر قد نص فيه، كالحكم في الزيت تقع فيه النجاسة بالحكم في السمن يقع فيه الفأر، وما أشبه هذا، فهذا هو الباطل الذي ننكره، وبالله التوفيق.
ومعرفة المرء بأول طبيعته لا ينكرها إلا جاهل أو مجنون، فنحن نجد الصغير يفر عن الموت، وعن كل شئ ينكره وعن النار، وإن كان لم يحترق قط، ولا رأى محترقا، وعن الاشراف على المهواة ونجده يضرب بيده إذا غضب، وهو لا يعلم أن الضرب يؤلم، ويعض بفمه قبل نبات أسنانه وهو لم يعضه قط أحد فيدري ألم العض.
نعم حتى نجد ذلك في الحيوان غير الناطق، فنجد الصغير من الثيران ينطح برأسه قبل نبات قرنيه، والصغير من الخنازير يشتر بفمه قبل كبر ضرسه، والصغير من الدواب يرمح قبل اشتداد حافره، وهذا كثير جدا.
فبمثل هذا الطبع علمنا أن كل رخص المجسمة فإنه يتغير بانكسار أو تبدل شكل إذا لاقى جسما صليبا، وبه علمنا أن كل نار في الارض وفيما تحت الفلك فهي محرقة، لا بالقياس البارد الفاسد، وليس هذا في شئ من الشرائع البتة بوجه من الوجوه، لانه لم تكن النار قط منذ خلقها الله تعالى إلا محرقة، حاشا نار إبراهيم لابراهيم عليه السلام وحده، لا لغيره بالنص الوارد فيها، ولم يجز أن يقاس عليها غيرها، ولا كانت البيضة قط إلا متهيئة للانكسار إذا لاقت شيئا صلبا، وقد كان البر بالبر حلالا متفاضلا برهة من الدهر، وكذلك كل شئ من الشريعة واجب فقد كان غير واجب، حتى أوجبه النص، وغير حرام حتى حرمه النص، فليست ههنا شئ أن يجب أن يقاس عليه ما لم يأت بإيجابه نص ولا تحريم أصلا، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بأن قالوا: إن علمنا بما في داخل هذه الجوزة والرمانة على صفة ما إنما هو قياس على ما شاهدنا من ذلك، وإلا فلعل داخلهما جوهر أو شئ مخالف لما عهدناه، وكذلك أن في رؤوسنا أدمغة، وفي أجوافنا مصرانا، وأن هذا الصبي لم تلده حمارة، وأن الاحياء يموتون، إنما علمنا ذلك قياسا على ما شاهدنا.
قال أبو محمد: وهذا من أبرد ما موهوا به وما علم قط ذو عقل أن من أجل علمنا بأن ما في داخل هذه الرمانة كالذي في داخل هذه وأن في أجوافنا مصرانا، وفي رؤوسنا أدمغة، وأن الناس لم تلدهم الاتن، وأن الاحياء يموتون، علمنا أن الزيت ينجس إذا مات فيه عصفور، ولا ينجس إذا مات فيه مائة عقرب وأن التمرة بالتمرة حرام والتفاحة بالتفاحة حلال.
وأن البئر إذ مات فيها سنور نزح منها أربعون دلوا فإن سقط فيها نقطة بول نزحت كلها.
وأن من مس دبره انتقض وضوءه، وأن من مس أنثييه لم ينتقض وضوءه وهل بين هذه الوجوه والتي قبلها تشبيه ؟.
وإن المشبه بين هاتين الطريقتين لضعيف التمييز، وتلك أمور طبيعية ضرورية تولى الله عزوجل إيقاعها في القلوب.
لا يدري أحد كيف وقع له علمها.
وهذه الاخر: إما دعاوى لا دليل عليها، وإما سمعية لم تكن لازمة ثم ألزم الله منها بالنص لا بالكهانة ولا بالدعوى.
ونحن نجد الصغير الذي لم يحب بعد، وإنما هو حين هم أن يجلس، إذا رأى رمانة قلق وشره إلى استخراج ما فيها وأكلها.
وكذلك الجوز وسائر ما يأكله الناس، فليت شعري متى تعلم هذا الصبي القياس، بأن ما في هذه الرمانة كالتي أطعمناه عام أول، أو قبل هذا بشهر.
ولقد كان ينبغي لهم أن يعرفوا على هذا أحكام القياس بطبائعهم، دون أن يأخذوها تقليدا عن أسلافهم.
ولو أنهم تدبروا العالم وتفكروا في طبائعه وأجناسه وأنواعه وفصوله وخواصه وأعراضه، لما نطقوا بهذا الهذيان، فإن كانوا يريدون أن يسموا جري الطبائع على ما هي عليه: قياسا، فهذه لغة جديدة، ولم يقصدوا بها وجه الله تعالى، لكن قصدوا الشغب والتخليط، كمن سمى الخنزير أيلا ليستحله، والايل خنزيرا ليحرمه.
وكل هذه حيل ضعيفة لا يتخلصون بها مما نشبوا فيه من الباطل، وإنما تكلمهم عن المعنى، لا على ما بدلوه برأيهم من الاسماء فإذ حققوا معنا المعنى الذي يرمون إثباته ونحن نبطله، فحينئذ يكلف البرهان من ادعى أمرا منا ومنهم، فمن أتى به ظفر، ومن لم يأت به سقط، وليسموه حينئذ بما شاؤوا.
ويكفي من سخف هذا الاحتجاج منهم أن يقال لكل ذي حس: هل نسبة التين من البر كنسبة الجوزة من الجوزة ؟ وكنسبة الرمانة من الرمانة ؟ وكنسبة الانسان من الانسان ؟ فإن وجد في العالم أحمق يقول: نعم، لزمه إخراج البلوط والتين عن زكاة البر كيلا بكيل، وهذا ما لا يقوله مسلم، ولزمه أن يقول فيمن حلف لا يأكل برا فأكل تينا: أن يحنث، ولزمه أكثر من هذا كله، وهو الكذب، إن التين بر، وإن قالوا: لا، تركوا قولهم في تشبيه القياس في الشرائع لمعرفتنا بأن ما في هذه الرمانة كهذه.
والذي لا نشك فيه فهذا الاحتجاج منهم مبطل لقولهم، ومثبت لقولنا، لان الرمانة من الرمانة، والجوزة من الجوزة، والانسان من الانسان، كالسمن من السمن والفأر من الفأر وكل نوع من نوعه والجوز مخالف للرمان كخلاف السنور من الفأر، وخلاف الزيت للسمن.
وهذا هو الذي ينكره ذو عقل، وأنه إذا حكم النبي (صلى الله عليه وسلم) بتحريم البر بالبر متفاضلا لزم ذلك في
كل بر، ولم يجب فيما ليس ببر إلا بنص آخر، وإذا أمر بهرق السمن المائع الذي مات فيه الفأر، وجب ذلك في كل سمن مات فيه فأر، ولم يجب ذلك في غير السمن الذي مات فيه الفأر، وهذا هو الذي لا تعرف العقول غيره وبالله تعالى التوفيق.
وأما تحريم البلوط قياسا على البر وهرقهم الزيت قياسا على السمن، فهو كمن قال: الذي داخل اللوز كالذي داخل الرمان ولا فرق، فبطل قولهم بالبرهان الضروري.
وصح أن القياس إنما هو قياس نوع على نوع آخر وهذا باطل بنفس احتجاجهم وبالله تعالى التوفيق.
ويقال لهم: أمعرفتكم بأنكم تموتون، وهو شئ يستوي في الاقرار به كل ذي حس، هو مثل معرفتكم بالشرائع كالصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك مما يحرم في البيوع والنكاح وما يحل ؟ فإن قالوا: لا، كفونا أنفسهم، وأبطلوا ما استدلوا به ههنا، وإن قالوا: نعم كابروا ولزمهم أن يكونوا مستغنين عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأنهم كانوا يدرون الشريعة بطبائعهم قبل أن يعلموها، وهذا ما لا يقوله ذو عقل.
ويقال لهم هل كان على قشر الرمان قط على لوز: فإن قالوا: نعم، لحقوا بسكان المارستان، وإن قالوا: لا، سألناهم، أكانت الخمر قط حلالا، وكان بيع البر بالبر متفاضلا غير محرم في صدر الاسلام أو لم يزل ذلك والخمر حلالا مذ خلق الله الخمر وللبر بينة الطبع ؟ فإن قالوا كانت الخمر وبيع البر متفاضلا غير حرام برهة من الاسلام، ثم حرم ذلك أقروا بأن ذلك ليس من باب ما في قشر اللوز والرمان في ورد ولا صدر، لان الطبائع قد استقرت مذ خلق الله تعالى العالم على رتبة واحدة، هذا معلوم بأول العقل والحس اللذين يدرك بهما علم الحقائق، وأما الشرائع فغير مستقرة ولم يزل تعالى مذ خلق الخلق ينسخ شريعة بعد شريعة، فيحرم في هذه ما أحل في تلك ويسقط في هذه ما أوجب في تلك ويوجب في هذه ويحل فيها ما أسقط في تلك، وما حرم إلى أن نص الله تعالى أنه لا تبدل هذه الملة أبدا.
فصح أن من شبه الطبائع التي تعلم بالحس والعقل بالشرائع التي لا تعلم إلا بالنص، لا مدخل للعقل ولا للحس في تحريم شئ منها، ولا في إيجاب فرض منها إلا بعد ورود النص بذلك، فهو غافل جاهل، ولو احتج بهذا يهودي لا يرى النسخ، لكان هذا الاحتجاج أشبه بقوله، منه بقول أصحاب القياس.
وأما الموت فهو حكم كل جسم مركب من العناصر إلى نفس حية فقد رتب الله تعالى في العالم هذا اصطحابهما مدة، ثم افتراقهما، ورجوع كل عنصر إلى عنصره، وليس هذا قياسا يوجب موت أهل الجنة والنار فبطل تمويههم، وبالله تعالى التوفيق.
وقالوا: القياس فائدة زائدة على النص.
قال أبو محمد: لا فائدة في الزيادة على ما أمر الله تعالى به، ولا في النقص، منه، بل كل ذلك بلية ومهلكة، وتعد لحدود الله تعالى، وظلم وافتراء، وبالله تعالى نعوذ من ذلك، ولا أعظم جرما ممن يقر على نفسه أنه يزيد على النص الذي أذن الله به، ولم يأذن في تعديه.
وبالله تعالى نعوذ من الخذلان.
واحتج بعضهم فقال لمن سلف من أصحابنا فقهكم في اتباع الظاهر يشبه فعل الغلام الذي قال له سيده: هات الطست والابريق، فأتاه بهما ؟ ولا ماء في الابريق، فقال له: وأين الماء ؟ لم تأمرني، وإنما أمرتني بطست وإبريق فهاهما، وأنا لا أفعل إلا ما أمرتني.
قال أبو محمد: فقال لهم، وبالله تعالى التوفيق: بل فقهكم أنتم يشبه فعل المذكور على الحقيقة إذ قال له سيده، إذا أمرتك بأمر فافعله وما يشبهه، فعلمه سيده القياس حقا على وجهه، وحفظ الغلام ذلك، وقبله قبولا حسنا، فوجد سيده حرارة فقال: سق إلي الطبيب، فإني أجد التياثا، فلم ينشب أن أتاه، بعض إخوانه فزعا، فقال له: يا فلان، من مات لك ؟ فقال: ما مات لي أحد، فقال له: فإن الغاسل والمغتسل والنعش وحفار القبور عند الباب، فدعا غلامه فقال له: ما هذا بالباب ؟ فقال له ألم تأمرني إذا أمرتني بأمر أن أفعله وما يشبهه ؟ قال: نعم، قال: فإنك أمرتني بسوق الطبيب لالتياثك، وليس يشبه العلة وإحضار الطبيب إلا الموت، والموت يوجب حضور الغاسل والنعش والحفار لحفر القبر، فأحضرت كل ذلك، وفعلت ما أمرتني وما يشبهه.
فنحن نقول: إن هذا الغلام أعذر في الائتمار لامر مولاه في الابريق الفارغ، إذ لعله يريد أن يعرضه على جليسه أو يبيعه أو يقبله لمذهب له فيه: منه في جلب الحفار والغاسل والنعش، قياسا على العلة والطبيب، ولقد كان الغلام قوي الفهم في القياس، إذ لا قياس بأيديكم إلا مثل هذا.
وهو أن تشبهوا حالا بحال في الاغلب، فتحكمون لهما بحكم واحد، وهو باب يؤدي إلى الكهانة الكاذبة، والتخرص في علم الغيب، والتحذلق في الاستدراء على الله تعالى، وعلى رسوله (صلى الله عليه وسلم) فيما لم يأذن به عزوجل، وبالله تعالى نعوذ من ذلك.
واحتجوا فقالوا: أنتم تقولون: إذا حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في عين ما، فهو حكم واحد في جميع نوع تلك العين التي يقع عليها اسم نوعها.
وهذا قياس.
قال أبو محمد: هذا تمويه زائف، وقد بينا وجه هذه المسألة وهو أنه عليه السلام بعث إلى كل من يخلق إلى يوم القيامة، من الانس والجن، وليحكم كل نوع من أنواع العالم بحكم ما أمره به ربه تعالى، ولا سبيل إلى أن يخاطب عليه السلام من لم يخلق بعد بأكثر من أن يأمر بالامر، فيلزم النوع كله، إلا أن يخص عليه السلام كما خص أبا بردة بن نيار بقوله: يجزيك ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك.
قالوا: فهلا قلتم في أمره (صلى الله عليه وسلم) فاطمة بنت حبيش بما أمرها به إذا استحيضت - إنه لازم لكل امرأة تسمى فاطمة.
فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق: لم ينص عليه السلام على أن ذلك حكم كل امرأة تسمى فاطمة، وإنما نص (صلى الله عليه وسلم) على أن دم الحيض أسود يعرف، فإذا أقبل فافعلي كذا.
وإذا أدبر فافعلي كذا، فنص (صلى الله عليه وسلم) على صفة الحيض والطهر والاستحاضة، وعلى حكم كل ذلك متى ظهر، فوجب التزام ذلك متى وجد الحيض أو الطهر أو الاستحاضة.
ثم ينعكس هذا السؤال عليهم بعد أن أريناه أنه حجة لنا فنقول لهم، وبالله تعالى التوفيق: أنتم، أهل القياس وتفتيش العلل في الديانة، وتعدي القضايا عما نص الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) إلى ما لم ينصا عليه، وأنتم أهل الكهانة والاستدراك في الديانة ما لم يذكر الله تعالى ولا رسوله (صلى الله عليه وسلم) فاستعملوا مذهبكم في هذا الحديث.
فقد قال عليه السلام في دم الاستحاضة عندكم إنما هو عرق وبين أن دم الحيض أسود يعرف، فكما قستم الحمرة والصفرة والكدرة على الدم الاسود فجعلتموه كله حيضا، فكذلك قيسوا كل عرق يسيل من بدن المرأة من رعاف أو جرح على عرق الاستحاضة، وأحكموا لها حينئذ بحكم الاستحاضة وإلا كنتم متناقضين وتاركين للقياس.
ولا شك عند كل ذي حس - إن كان القياس حقا - إن قياس عرق يدمي عن عرق يدمي أشبه وأولى من قياس الدلاع أو الشاه بلوط على البر والتمر، على أن بعضهم قد فعل ذلك وهم الحنفيون، وأوجبوا أن الوضوء ينتقض بكل عرق دمي، قياسا على عرق المستحاضة عندهم، فيلزمهم أن يوجبوا من ذلك الغسل، كما جاء النص على المستحاضة، وهذا ما لا انفكاك لهم منه، وبالله تعالى التوفيق.
وقالوا: لم نعلم أن أجسام أهل الصين كأجسامنا إلا قياسا منا بالشاهد على الغائب.
قال أبو محمد: وهذا من الجنون المكرر.
وقد بينا آنفا أن علمنا بهذا علم ضروري أولي، يعرف ببديهة العقل، ولم يكن المميز قط من الناس إلا وهو عالم بطبعه أن كل من مضى أو يأتي أو غاب عنه من الناس فعلى هيئتنا بلا شك ولا يتشكل في عقل أحد سوى هذا.
وبالضرورة يعلم كل ذي عقل أن علمنا أن المطلقة ثلاثا لا تحل لمطلقها إلا بعد زواج يطؤها، ليس من علمنا بأن أهل الصين من الناس هم على هيئاتنا، بل كان جائزا أن تحل له بعد ألف طلقة دون زوج ولولا النص.
وهكذا القول في البئر وسائر ما وردت به النصوص، لانه قد كانت هذه الاعيان موجودة آلافا من السنين ليس فيها شئ من هذا التحريم، ولا هذا الايجاب ولم تكن الاجسام قط خالية من حركة أو سكون، ولا كانت أجسام الناس على خلاف هذا الشكل الذي هم عليه والمشبه للشرائع بالطبائع مجنون أو في أسوأ حالا من الجنون لان من سلك سبيل المجانين وهو مميز فالمجنون أعذر منه.
ولو أنصفوا أنفسهم لعلموا أن الذي قالوا حجة عليهم، لان علمنا بأن أجسام الناس في الصين، وفيما يأتي إلى يوم القيامة، على هيئة أجسامنا هو كعلمنا بعد ورود النص، بأن كل بر في الصين والهند وكل بر يحدثه الله تعالى إلى يوم القيامة فحرام بيع بعضه ببعض متفاضلا.
وأما هم فإنه يلزمهم، إذ نقلوا حكم البر المذكور إلى التين والارز، أن ينقلوا حكم أجسام الناس إلى أجسام البغال، فيقولوا: إن بغال الصين على هيئة أجسام الناس، لان نسبة الارز إلى البر، كنسبة البغال إلى الناس ولا فرق وكل ذلك أنواع مختلفة.
ويلزمهم أيضا، إذا قاسوا الغائب على غير نوعه من الشاهد - أن يقولوا: إن الملائكة والحور العين لحم ودم، قياسا على الناس، وأنهم يمرضون ويفيقون ويموتون، وأن فيهم حاكة وملاحين وفلاحين وحجامين وكرباسيين، قياسا على الشاهد، وإلا فقد نقضوا وبطلوا قياسهم للغائب على الشاهد.
والحق من هذا أن لا غائب عن العقل من قسمة العالم التي تدرك بالعقل، ولا غائب عن السمع من الشريعة وبالله تعالى نعتصم وكل ذلك ثابت حاضر معلوم والحمد لله رب العالمين.
وقالوا: إن كل مشتبهين فوجب أن يحكم لهما بحكم واحد من حيث اشتبها.
قال أبو محمد: وهذا تحكم بلا دليل ودعوى موضوعة وضعها غير مستقيم والحقيقة في هذا أن الشيئين إذا اشتبها في صفة ما، فهما جميعا فيها مستويان استواء واحدا، ليس أحدهما أولى بتلك الصفة من الآخر، ولا أحدهما أصل والثاني فرع، ولا أحدهما مردود إلى الآخر، ولا أحدهما أولى بأن يكون قياسا على الآخر، من أن يكون الآخر قياسا كزيد ليس أولى بالآدمية من عمرو، ولا حمار خالد أولى بالحمارية من حمار محمد، والغراب الاسود والسح ليس أحدهما أولى بالسواد من الآخر، وهذا كله باب واحد في جميع ما في العالم.
وكذلك الشرائع ليس بر بغداد بأولى بالتحريم في بيع بعضه ببعض متفاضلا من بر الاندلس، ولا سمن المدينة إذا مات فيه الفأر وهو مائع بأولى أن يهراق من سمن مصر، فهذا هو الذي لا شك فيه.
وأما ما يريدون من دس الباطل ومالا يحل جملة الواجب فلا يجوز لهم بعون الله تعالى إلا على جاهل مغتر بهم، أهلكوه إذ أحسن الظن بهم، وذلك أنهم يريدون أن يأتوا إلى ما ساوى نوعا آخر في بعض صفاته فيلحقونه به فيما لم يستو معه، وهذا هو الباطل المحض الذي لا يجوز البتة.
أول ذلك، أنه تحكم بلا دليل، وما كان هكذا فقط سقط، وقد صح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لعن المؤمن كقتله وكل مسلم يعلم أنه لا تشابه أقوى من تشابه أخبر به (صلى الله عليه وسلم)، فإذا لا شك في هذا، وصح يقينا أن لعن المؤمن كقتله وأجمعت الامة، بلا خلاف، أن لعن المؤمن لا يبيح دم اللاعن كما يبيح القتل دم القاتل، ولا يوجب دية كما يوجب القتل دية فبطل قول من قال إن الاشتباه بين الشيئين يوجب لهما في الشريعة حكما واحدا فيما لم على اشتباههما فيه.
وبعد، فإن البرهان يبطل قولهم من نفس هذه المقدمة التي رتبوا وذلك أنه ليس في العالم شيئان أصلا، بوجه من الوجوه، إلا وهما مشتبهان من بعض الوجوه، وفي بعض الصفات، وفي بعض الحدود لا بد من ذلك، لانهما في محدثان أو مؤلفات، أو جسمان أو عرضان، ثم يكثر وجود التشابه على قدر استواء الشيئين تحت جنس أعلى، ثم تحت نوع فنوع، إلى أن تبلغ نوع الانواع الذي يلي الاشخاص، كقولنا: الناس، أو الجن، أو الخيل، أو البر، أو التمر، وما أشبه ذلك، ذلك فواجب على هذه المقدمة الفاسدة التي قدموا، إذا كانت عين ما مما في العالم حراما، إما أن يكون ما في العالم أوله عن آخره حراما، قياسا عليه، لانه يشبهه ولا بد في بعض الوجوه، إن تمادوا على هذا سخطوا وكفروا، وإن أبوا منه تركوا مذهبهم الفاسد في قياس الحكم فيما لم ينص عليه من الانواع على ما نص عليه منها.
ثم نلزمهم إلزاما آخر وهو: أننا نجد أيضا شيئا آخر حلالا فيلزم أن يكون كل ما في العالم حلالا، قياسا على هذا، لانه أيضا يشبهه من بعض الوجوه،
وهذا إن قالوه، حمقوا وخرجوا عن الاسلام، وإن أبوا منه، تركوا مذهبهم الفاسد، في قياس الحكم فيما لم ينص عليه من الانواع على ما نص عليه منها.
ثم تجمع عليهم هذين الالزامين معا، فيلزمهم أن يجعلوا الاشياء كلها حراما حلالا معا، قياسا على ما حرم وما حلل، وهذا تخليط، ولا شك في فساد كل قول أدى إلى مثل هذا السخف، فإذ لا شك في بطلان هذا الهذيان، فالواجب ضرورة أن يحكم بالتحريم فيما جاء فيه النص بالتحريم، وأن يحكم بالتحليل فيما جاء فيه النص بالتحليل، وأن يحكم بالايجاب فيما جاء فيه النص بالايجاب ولا يتعدى حدود الله تعالى، فلم يبق لهم إلا أن يقولوا: إن النص لا تستوعب كل شئ.
قال أبو محمد: وهذا قول يؤول إلى الكفر، لانه قول بأن الله تعالى لم يكمل لنا ديننا، وأنه أهم أشياء من الشريعة، تعالى الله عن هذا، والله تعالى أصدق منهم حيث يقول: * (ما فرطنا في الكتاب من شئ) * و: * (اليوم أكملت لكم دينكم) *، و: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * فبطل قولهم بالقياس، والحمد لله رب العالمين.
وما نعلم في الارض، بدع السوفسطائية، أشد إبطالا لاحكام العقول من أصحاب القياس، فإنهم يدعون على العقل ما لا يعرفه العقل، من أن الشئ إذا حرم في الشريعة وجب أن يحرم من أجله شئ آخر، ليس من نوعه ولا نص الله تعالى ولا رسوله (صلى الله عليه وسلم) على تحريمه، وهذا ما لا يعرفه العقل ولا أوجب العقل قط تحريم شئ ولا إيجابه، إلا بعد ورود النص، ولا خلاف في شئ من العقول، أنه لا فرق بين الكبش والخنزير.
ولولا أن الله حرم هذا وأحل هذا، فهم يبطلون حجج العقول جهارا، ويضادون حكم العقل صراحا، ثم لا يستحبون أن يصفوا بذلك خصومهم، فهم كما قال الشاعر: ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه مراد لعمري ما أراد قريب
وأيضا: فإنه يقال لهم: إذا قلتم: إن كل شيئين اشتبها في صفة ما، فإنه يجب التسوية بين أحكامهما في الايجاب والتحليل وبالتحريم في الدين، فما الفرق بينكم وبين عكس من عليكم هذا القول بعينه، فقال: بل كل شيئين في العالم إذا افترقا في صفة ما، فإنه يجب أن يفرق أحكامهما في الايجاب والتحليل والتحريم في الدين ؟.
فأجاب بعضهم بأن قال: هذا لا يجب دون أن يأتي بفرق.
قال أبو محمد: وهذا تحكم عاجز عن الفرق، ويقال له: بل قولك هو الذي لا يجب، فما الفرق ؟.
وقال بعضهم: هذا قياس منكم، فإنكم ترومون إبطال القياس بالقياس، فأنتم كالذين يرومون إبطال حجة العقل بحجة العقل.
قال أبو محمد: فيقال لهم، وبالله تعالى التوفيق، لم نحتج عليكم بهذا تصويبا منا له ولا للقياس، لكن أريناكم أن قولكم بالقياس ينهدم بالقياس، ويبطل بعضه بعضا وليس في العالم أفسد من قول من يفسد بعضه بعضا، فأنتم إذا أقررتم بصحة القياس فنحن نلزمكم ما التزمتم به ونحجكم به، لانكم مصوبون له، مصدقون لشهادته، وهو قولكم بالفساد وعلى مذاهبكم بالتناقض، أقررتم به أو أنكرتموه، وأما نحن فلم نصوبه قط، ولا قلنا به، فهو يلزمكم ولا يلزمنا، وكل أحد فإنما يلزمه ما التزم، ولا يلزم خصمه، كما أن أخبار الآحاد المتصلة بنقل الثقات لازم لنا للاحتجاج بها علينا في المناظرة، ولا نلزم من أنكر ها، فمن ناظرنا بها لم ندفعه عما يلزمنا بها، وهذا هو فعلنا بكم في القياس.
وأما تشبيهكم إيانا في ذلك بمن جنح في إبطال حجة العقل بحجة العقل، فتشبيه فاسد، لان المحتج علينا في إبطال حجة العقل لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يصوب ما يحتج به ويحققه فقد تناقض، أو يبطل ما يأتي به فقد كفانا مؤنته، ولسنا نحن كذلك في احتجاجنا عليكم بالقياس، لكنا نقول لكم: إن كان القياس حقا عندكم فإنه يلزمكم منه كذا وكذا، وليس يقول لنا المبطلون لحجج العقول هكذا، لكنهم محققون لما يحتجون به، فيتناقضون إذا حققوا ما أبطلوا، كما تناقضتم أنتم في إبطالكم ما حققتموه من نتائج القياس، فطريقكم هي طريقهم.
ونحن نقول: إن هذا الذي نعارضكم به من القياس أنتم التزمتم حكمه، وهو عندنا باطل، كقولكم سواء بسواء، فإن التزمتموه أفسد قولكم، وإن أبيتموه فكذلك لانكم تقرون حينئذ بإبطال ما قد صوبتموه، ولا فساد أشد من فساد قول أدى إلى التزام الباطل، وليس من يبطل قضايا العقل كذلك، لانه لا يصح شئ أصلا إلا بالعقل أو بالحواس مع العقل، أو ما أنتج من ذلك، فمن أبطل حجة العقل ثم ناظر في ذلك بحجة العقل، فإن صححها رجع إلى الحق ودخل معنا، وإن أبطلها سقط القول معه، لانه يقر أنه يتكلم بلا عقل، وليس القياس هكذا بإقراركم.
ويكفي من هذا: أن من رام إبطال حجة العقل بحجة فقد رام ما لا يجده أبدا، وحجة العقل لا تبطل حجة العقل أصلا، بل توجبها وتصححها، وكذلك من رام إبطال خبر الواحد بخبر الواحد، فإنه لا يجد أبدا خبرا صحيحا يبطل خبر الواحد.
وهكذا كل شئ صحيح، فإنه لا يوجد شئ صحيح يعارضه أبدا، هذا يعلم ضرورة، ولو كان ذلك لكان الحق يبطل الحق، وهذا محال في البنية، وليس كذلك القياس لانه يبطل بالقياس جهارا وبأسهل عمل، فصح أنه باطل، وهكذا كل باطل في العالم فإنه يبطل بعضه بعضا بلا شك.
وقال بعضهم: من الدليل على أن حكم المماثلين حكم واحد أن الله عز وجل قد تحدى العرب بأن يأتوا بمثل هذا القرآن وأعلم أنهم لو أتوا بمثله لكان باطلا، لان مثل الباطل لا يكون إلا باطلا، ومثل الحق لا يكون إلا حقا.
قال أبو محمد: هذا قول صحيح، وهو حجة عليهم، لان المشبه للباطل في أنه باطل
هو بلا شك باطل، وبهذا أبطلنا القياس بالقياس، ورأينا أنه كله باطل، وليس ما أشبه الباطل في أنه مخلوق مثله، وأنه كلام مثله، يكون باطلا بل هذا حكم يؤدي إلى الكفر، لان الكفر كلام، والكذب كلام، والقرآن كلام، والحق كلام.
وليس ذلك بموجب اشتباه كل ذلك في غير ما اشتبه فيه يرومون.
وأيضا فهذا من ذلك التمويه الذي إذا كشف عاد مبطلا لقولهم بعون الله عزوجل، وذلك أننا لم ننكر قط أن ما وقع عليه مع غيره اسم يجمع تلك الاشخاص، فإنها كلها مستحقة لذلك الاسم، بل نحن أهل هذا القول.
ونقول: إن كل ما يوضع من الكلام في غير مواضعه التي وضعها الله تعالى فيها في الشرائع أو في غير المواضع التي وضعه فيها أهل اللغات للتفاهم فهو باطل وتحريف للكلم عن مواضعه، وتبديل له، وهذا محرم بالنص وتدليس بضرورة العقل، وكل ما كان من الكلام موضوعا في مواضعه التي ذكرنا فهو حق.
فإذ لا شك في هذا، فلم نحكم لشئ من الباطل بأنه باطل من أجل شبهه بباطل آخر، بل ليس أحد الباطلين أولى أن يكون باطلا من سائر الاباطيل، بل كل الاباطيل في وقوعها تحت الباطل سواء، ولا أحد الحقين أولى أن يكون حقا من حق آخر، بل كل حق فهو، في أنه حق، سواء مع سائر الحقوق كلها، وليس شئ من ذلك مقيسا على غيره.
والقول مطرد هكذا بضرورة العقل في كل ما في العالم من الشرائع وغيرها فكذلك كل بر فهو بر، وكل تمر فهو تمر، وكل ما أشبه البر مما ليس برا، فليس برا، وكل ما أشبه الذهب مما ليس ذهبا فليس ذهبا، وكل ما أشبه الحرام مما لم ينه النص عنه فليس حراما، وهكذا جميع الاشياء أولها عن آخرها، فهذا الذي أتوا به مبطل للقياس لو عقلوا وأنصفوا أنفسهم، وبالله تعالى التوفيق.
وإنما عول القوم على التمويه والكذب والتلبيس على من اغتر بهم، فقالوا: إن أصحاب الظاهر ينكرون تماثل الاشياء، ثم جعلوا يأتون بآيات وأحاديث ومشاهدات فيها تماثل أشياء.
وهذا خداع منهم لعقولهم وما أنكرنا قط تماثل الاشياء، بل نحن أعرف بوجوه التماثل منهم، لاننا حققنا النظر فيها، فأبانها الله تعالى لنا، وهم خلطوا وجه نظرهم، فاختلط الامر عليهم، وإنما أنكرنا أن نحكم للمتماثلات في صفاتهما من أجل ذلك في الديانة بتحريم أو إيجاب أو تحليل، دون نص من الله تعالى أو رسوله (ص)، أو إجماع من الامة، فهذا الذي أبطلنا، وهو الباطل المحض، والتحكم في دين الله تعالى بغير هدى من الله، نعوذ بالله من ذلك، وقالوا أيضا: إن أصحاب الظاهر يبطلون حجج العقول.
قال أبو محمد: وكذبوا بل نحن المثبتون لحجج العقول على الحقيقة، وهم المبطلون لها حقا، لان العقل يشهد أنه يحرم دون الله تعالى، ولا يوجب دون الله تعالى شريعة، وأنه إنما يفهم ما خطب الله تعالى به حامله، ويعرف الاشياء على ما خلقها الله تعالى عليه فقط، وهم يحرمون بعقولهم ويشرعون الشرائع بعقولهم، بغير نص من الله تعالى، ولا من رسوله (صلى الله عليه وسلم)، ولا إجماع من الامة، فهذا هو إبطال حجج العقول على الحقيقة، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بالموازنة يوم القيامة.
قال أبو محمد: وهذا من أغرب ما أبدوا فيه عن جهلهم، وهل هذا إلا نص جلي ؟ وأي شئ من موازنة أعمال العباد ؟ وجزاء المحسن بإحسانه، والمسئ بإساءته، والعفو عن التائب بعد أن أجرم، والعفو عن الصغائر باجتناب الكبائر، والمؤاخذة بها لمن فعل كبيرة وأصر عليها، مما يحتج به في إيجاب تحريم الارز
بالارز متفاضلا، وهل يعقل وجوب هذا من موازنة الاعمال يوم القيامة، وجزاء الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، وجزاء السيئة بمثلها، إلا مجنون مصاب.
وقالوا: أخبرونا عن قولكم بالدليل: أبنص قلتموه، أم بغير نص ؟ فإن قلتم: قلناه بنص، فأروناه، وإن قلتم: بغير نص، دخلتم فيما عبتم من القياس.
قال أبو محمد: وقد أفردنا فيما خلا من كتابنا هذا بابا لبيان الدليل الذي نقول به فأغني عن ترداده، إلا أننا نقول ههنا جوابا لهم، وبالله تعالى التوفيق، ما لا يستغني هذا المكان عن إيراده وهو أن الدليل نقول: هو المقصود بالنص نفسه وإن كان بغير لفظه، كقول الله تعالى: * (إن إبراهيم لحليم أواه منيب) * فبالضرورة نعلم أنه ليس بسفيه، ومثل قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): كل مسكر خمر وكل خمر حرام فصح ضرورة من هذا اللفظ أن كل مسكر حرام.
فدليلنا هو النص والاجماع نفسه، لا ما سواهما، وبالله تعالى التوفيق.
وقالوا: لا نص في ميراث من بعض حر وبعضه عبد، ولا في حده، ولا في ديته، فما تقولون في ذلك ؟ وكذلك نكاحه وطلاقه والجناية عليه ومنه.
قال أبو محمد: وصاحب هذا الكلام كان أولى به أن يتعلم قبل أن يتكلم، وذلك أن النص ورد بعموم ميراث الابناء والبنات والآباء والامهات، والاخوة والاخوات، والعصبة والازواج، فواجب ألا يخرج عن النص أحد فيمنع الميراث إلا بنص، والنص قد صح من حديث علي، وابن عباس: إن المكاتب إذا أصاب حدا أو دية أو ميراثا، ورث وورث منه، وأقيم عليه الحد، وودي بمقدار ما أدى دية وميراث حر، وبمقدار ما لم يؤده دية عبد وميراث عبد، فصح أن العبد لا يرث.
وقد قال قوم من العلماء: إن لهما من الميراث بمقدار ما فيهما من الحرية، وقال آخرون: لا شئ لهما من الميراث فكان قول هؤلاء مساقطا لمخالفته النص، ولانه دعوى بلا دليل، فلم يبق قول من قال: إن لهما من الميراث بمقدار ما فيهما من الحرية فقلنا به.
فهكذا القول في حده وديته إذ قد بطل قول من قال: إن حده كحد الحر بحديث ابن عباس في المكاتب، إذا في نص ذلك الحديث الفرق بين حد الحر وحد العبد.
وأما نكاحه فإن النص جاء بأن كل عبد نكح بغير إذن مواليه فنكاحه عهر، والمعتق بعضه ليس عبدا كله ولا حرا كله، ولا ينتقل عن حكمه المجمع عليه، والثابت عليه بالنص إلا بنص آخر أو إجماع، فهو غير خارج عن هذا النص فليس له أن ينكح كسائر المسلمين إلا بإذن من له فيه ملك، وطلاقه جائز على عموم النص في المطلقين.
وأما جنايته والجناية عليه وشهادته فكالاحرار، ولا فرق إذ لم يمنع من ذلك نص ولا إجماع هذا مع صحة حديث ابن عباس في ميراث المكاتب وديته وحدوده، وإن ذلك بمقدار ما فيه من الحرية والرق.
وقسموا أنواع القياس فقال بعضهم: من القياس قياس المفهوم، مثل قياس رقبة الظهار على رقبة القتل، قالوا: ومنه قياس العلة، كالعلة الجامعة بين النبيذ والخمر وهي الاسكار والشدة، ومنه قياس الشبه، ثم اختلفوا في هذا النوع من القياس، فقالوا: هو على الصفات الموجودة في العلة، وذلك مثل أن يكون في الشئ خمسة أوصاف من التحليل وأربعة من التحريم، فيغلب الذي فيه خمسة أوصاف على الذي فيه أربعة أوصاف، وقال آخرون منهم: وهو على الصور، كالعبد يشبه البهائم في أنه سلعة متملكة، ويشبه الاحرار في الصور الآدمية، وأنه مأمور منهي بالشريعة.
قال أبو محمد: وكل هذا فاسد باطل متناقض لانه كله دعاوى باردة بلا دليل على صحة شئ منها ثم تسميتهم قياس الرقبة في الظهار على الرقبة في القتل أنه مفهوم، وليت شعري بماذا فهموه حتى علموا أنها لا تجزئ إلا مؤمنة ؟ هذا وقد خالفهم إخوانهم من القائسين في ذلك من أصحاب أبي حنيفة، فلم يفهموا من هذا القياس العجيب ما فهم الشافعي والمالكي، وكل ما فهم من كلام فأهل اللغة متساوون في فهمه بلا شك، فصار دعواهم للفهم كذبا، ثم هلا إذا فهموا أن كلتا الرقبتين سواء، مشوا في قياسهم ففهموا أنه يجب التعويض من الصيام في القتل إطعام ستين مسكينا كالتعويض لذلك من صيام الظهار، كما تساوى التعويض من رقبتي الظهار والقتل، صيام شهرين متتابعين، فما هذا التباين في فهم ما لا تقضيه الآية ولا اللغة ؟.
وأما قولهم: قياس العلة، وأن النبيذ مقيس على الخمر - فكذب مجرد بارد سمج، وجرأة على الله تعالى، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): كل مسكر خمر وكل مسكر حرام فساوى (صلى الله عليه وسلم) بين كل مسكر، ولم يخص من عنب ولا تمر ولا تين ولا عسل ولا غير ذلك، ثم أخبر أن كل مسكر حرام، فليست خمر العنب في ذلك بأولى من خمر التين، ولا خمر العنب أصلا وغيرها فرعا، بل كل ذلك سواء بالنص فظهر برد قولهم وفساده.
فإن قالوا: فهلا كفرتم من استحل نبيذ التين المسكر، كما تكفرون مستحل عصير العنب المسكر ؟.
قيل له، وبالله تعالى التوفيق: إنما كفرنا من استحل عصير العنب المسكر لقيام الحجة بالاجماع، ولو استحله جاهل لم يعرف الاجماع في ذلك ما كفرناه حتى يعرفه بالاجماع، وكذلك لم نكفر مستحل نبيذ التين لجهله بالحجة في ذلك، ولو أنه يصح عنه قول النبي (صلى الله عليه وسلم) في تحريم كل مسكر على عمومه، ثم يستجيز مخالفة النبي (صلى الله عليه وسلم)، لكان كافرا بلا شك وقد أفردنا بعد هذا بابا ضخما في إبطال قولهم في العلل، وبالله تعالى التوفيق.
وأما قولهم في موازنة صفات التحليل وصفات التحريم، فإنا نقول لهم: هبكم، لو سامحناكم في هذا الهذيان المفترى، وماذا تصنعون إذا تساوت عندكم صفات التحريم وصفات التحليل ؟ فإن قالوا: نغلب التحريم احتياطا.
قلنا لهم: ولم لا تغلبوا التحليل تيسيرا ؟ لقول الله تعالى: * (يريد الله بكم اليسر) * وإن قالوا: نغلب التحليل، قيل لهم: وهلا غلبتم التحريم ؟.
ولقول الله تعالى: * (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) * فظهر بطلان قولهم وفساده، وبالجملة فليس تغليب أحد الوجهين أولى من الآخر، وقد قال تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) * فنص تعالى على أن كل محرم ومحلل بغير نص من الله تعالى فهو كاذب ومفتر، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا: فلو كانت صفة شبه التحريم توجب التحريم، وصفة شبه التحليل توجب التحليل، لما وجد كلا الامرين في شئ واحد البتة، لانه كان يجب من ذلك أن يكون الشئ حراما حلالا معا، وهذا حمق محال.
فصح أن الشبه لا يوجب تحريما ولا تحليلا، كثرت الاوصاف بذلك أو قلت.
وقد أقدم بعضهم فقال: إن الله تعالى قال: * (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) * قالوا: غلب تعالى الاثم فحرمها.
قال أبو محمد: هذا من الجرأة على القول على الله تعالى بغير علم، وهذا يوجب إن الله تعالى اعترضه في الخمر والميسر أصلان: أحدهما المنافع، والثاني الاثم، فغلب الاثم، هذا هو نص كلامهم وظاهره ومقتضاه، وليت شعري، من رتب هذا الاثم في الخمر والميسر ؟ وقد كانا برهة قبل التحريم حلالين لا إثم فيهما، وقد شربها أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، وأهديت إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وتنادم الصالحون عليها أزيد من ستة عشر عاما، في الاصل صح ذلك عن عبد الرحمن ابن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وحمزة، وأبي عبيدة بن الجراح، وسهيل بن بيضاء، وأبي بن كعب، وأبي دجانة، وأبي طلحة، وأبي أيوب، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وغيرهم كلهم شربوا الخمر بعد الهجرة، واصطحبها جماعة يوم أحد ممن أكرمهم الله تعالى في ذلك اليوم بالشهادة، فهل أحدث الاثم فيها بعد أن لم يكن إلا الله تعالى ؟ فأين قول هؤلاء النوكى: إن الله تعالى حرمها لاجل الاثم الذي فيها، أو لاجل الشدة والاسكار ؟ وهل هذا إلا كذب بحت ؟ وهل حدث الاثم إلا بعد حدوث التحريم بلا فصل ؟ وهل خلط قط عن الشدة والاسكار مذ خلقها الله تعالى، فبطل قولهم بتجاذب الاوصاف، والحمد لله كثيرا.
وأما قولهم في تغليب الصورة الآدمية في العبيد على شبهة البهائم، إنه سلعة مملوكة، فقول بارد وهلا، إذ فعلوا ذلك، قبلوا شهادته إذ غلبوا شبهة الاحرار على شبهة البهائم ؟ وهل هذا كله إلا لهو ولعب، وشبيه بالخرا فات ؟ نعوذ بالله من الخذلان، ومن تعدي حدوده، ومن القول في الدين بغير نص من الله تعالى أو رسوله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وإذا أبطلوا حكم الشبه من أجل شبه آخر أقوى منه، فقد صاروا إلى قولنا في إبطال حكم التشابه في إيجاب حكم له في الدين لم يأت به نص، ثم تناقضوا في إثباته مرة وإبطاله أخرى بلا برهان.
وشنع بعضهم بأن قال: إن إبطال القياس مذهب النظام، ومحمد بن عبد الله فقول بارد وهلا، إذ فعلوا ذلك، قبلوا شهادته إذ غلبوا شبهة الاحرار على شبهة البهائم ؟ وهل هذا كله إلا لهو ولعب، وشبيه بالخرا فات ؟ نعوذ بالله من الخذلان، ومن تعدي حدوده، ومن القول في الدين بغير نص من الله تعالى أو رسوله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وإذا أبطلوا حكم الشبه من أجل شبه آخر أقوى منه، فقد صاروا إلى قولنا في إبطال حكم التشابه في إيجاب حكم له في الدين لم يأت به نص، ثم تناقضوا في إثباته مرة وإبطاله أخرى بلا برهان.
وشنع بعضهم بأن قال: إن إبطال القياس مذهب النظام، ومحمد بن عبد الله الاسكافي، وجعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، وعيسى المراد، وأبي عفار، وبعض الخوارج، وإن من هؤلاء من يقول: إن بنات البنين حلال، وكذلك الجدات، وكذلك دماغ الخنزير.
قال أبو محمد: ولسنا ننكر أن تقول اليهود لا إله إلا الله، ونقولها أيضا نحن، ولكن إذا ذكروا هؤلاء فلا تنسوا القائلين بقولهم القياس، أبا الهذيل العلاف، وأبا بكر بن كيسان الاصم، وجهم بن صفوان، وبشر بن المعتمر، ومعمرا وبشرا المريسي، والازارقة، وأحمد بن حائط، ومن هؤلاء من يقول بقياس الاطفال على الكبار، وأنهم نسخت أرواحهم في الاطفال، وبالقياس على قوم نوح، فأباحوا قتل الاطفال، وقاسوا فناء الجنة والنار على فناء الدنيا، وغير ذلك من شنيع الاقوال.
فهذا كل ما موهوا به في نص القياس قد تقصيناه والحمد لله، ولم ندع منه بقية، وبينا - بعون الله - أنه لا حجة لهم بوجه من الوجوه، ولا متعلق في شئ منه البتة، وأنه كله عائد عليهم، ومبطل لقولهم في إثبات القياس، وقد كان هذا يكفي من تكلف إبطال القياس، لان كل قول لا يقوم بصحته برهان فهو دعوى ساقطة ولكنا لا نقطع بذلك حتى نورد - بحول الله - البراهين القاطعة على إبطال القياس والقول به.
الاحكام - ابن حزم ج 8
الاحكام
ابن حزم ج 8
الجزء الثامن بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم فصل وهذا حين نأخذ في إبطال القياس بالبراهين الضرورية إن شاء.
قال أبو محمد: ويقال للقائلين بالقياس: أليس قد بعث الله عزوجل محمدا (صلى الله عليه وسلم) رسولا إلى الانس والجن، فأول ما دعاهم إليه فقول لا إله إلا الله ورفض كل معبود دون الله تعالى، ومن وثن وغيره، وأنه رسول الله فقط لم يكن في الدين شريعة غير هذا أصلا، لا إيجاب حكم، ولا تحريم شئ ؟.
فمن قولهم وقول كل مسلم وكافر: نعم، هذا أمر لا شك فيه عند أحد، فإذ هذا لا خلاف فيه ولا شك فيه، ولا ينكره أحد، فقد كان الدين والاسلام لا تحريم فيه، ولا إيجاب، ثم أنزل الله تعالى الشرائع، فما أمر به فهو واجب، وما نهى عنه فهو حرام، وما لم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح مطلق، حلال كما كان، هذا أمر معروف ضرورة بفطرة العقول من كل أحد ففي ماذا يحتاج إلى القياس أو إلى الرأي ؟.
أليس من أقر بما ذكرنا ثم أوجب ما لا نص بإيجابه، أو حرم ما لا نص بالنهي عنه، قد شرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى ؟ وقال ما لا يحل القول به ؟ وهذا برهان لائح واضح وكاف لا معترض فيه.
ثم يقال لهم أيضا وبالله تعالى التوفيق: فماذا يحتاج إلى القياس ؟ أفيما نص عليه الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ؟ أم فيما لم ينص عليه ؟ فإن قالوا: فيما نص عليه، فارقوا الاجماع، وقاربوا الخروج عن الاسلام، لانه لم يقل بهذا أحد، وهو مع ذلك قول لا يمكن أحد أن يقوله، لانه لا قياس إلا على أصل يرد ذلك الفرع إليه، ولا أصل إلا نص أو إجماع، فصح على قولهم أن القياس إنما هو مردود إلى النص.
وإن قالوا: فيما لم ينص عليه، فقلنا وبالله تعالى التوفيق: قال الله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) * وقال تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب من شئ) * وقال تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * وقال (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع: اللهم هل بلغت ؟ قالوا: نعم.
قال: اللهم اشهد...حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا الخشني، ثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن مرة الهمداني قال: قال عبد الله بن مسعود: من أراد العلم فليثر القرآن، فإن فيه علم الاولين والآخرين، هكذا رويناه عن مسروق والزهري، أنه ليس شئ اختلف فيه إلا وهو في القرآن، فصح بنص القرآن أنه لا شئ من الدين وجميع أحكامه إلا وقد نص عليه، فلا حاجة بأحد إلى القياس.
فإن قالوا: إنما نقيس النوازل، من الفروع على الاصول.
قال أبو محمد: وهذا، لانه ليس في الدين إلا واجب أو حرام أو مباح، ولا سبيل إلى قسم رابع البتة، فأي هذه أصل، وأي هذه فرع فبطل قولهم، وصح أن أحكام الدين كلها أصول لا فرع فيها، وكلها منصوص عليه، فلما اختلف الناس قط إلا في الاصول، كالوضوء والصلاة والزكاة والحج، والحرام من البيوع والحلال منها، وعقود النكاح والطلاق وما أشبه ذلك.
فإن قالوا: لسنا ننكر أن الله تعالى لم يفرط في الكتاب من شئ، ولا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) بين، ولكن النص والبيان ينقسم قسمين: أحدهما نص على الشئ باسمه، والثاني نص عليها بالدلالة، وهذا هو الذي نسميه قياسا، وهو التنبيه على علة الحكم، فحيثما وجدت تلك العلة حكم بها.
قالوا: وهذا هو الاختصار وجوامع الكلم التي بعث بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
قيل لهم: وبالله تعالى التوفيق: هذا هو الباطل، لان الذي تذكرون دعوى بلا دليل، وتلك الدلالة تخلو من أن تكون موضوعة في اللغة، التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن، لذلك المعنى بعينه.
فهذا غير قولكم، وهذا هو القسم الاول من النص على الشئ باسمه، فلا تموهوا فتجعلوا النص قسمين، أو تكون تلك الدلالة غير موضوعة في اللغة، التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن، لذلك المعنى، فإن كانت كذلك فهذا هو التلبيس والتخليط الذي تنزه الله تعالى، ونزه رسوله (صلى الله عليه وسلم) عنه، ولا يحل لاحد أن ينسب هذا إلى الله تعالى، ولا إلى رسوله (صلى الله عليه وسلم).
وهذا برهان ضروري، ولا محيد عنه، بين لا إشكال فيه على من له أقل فهم، وليس هذا طريق اختصار، ولا تنبيه ولا بيان، ولكنه خبط وإشكال وإفساد وتدليس.
ولا تنبيه ولا بيان فيمن يريد أن يعلمنا حكم الصداق، فلا يذكر صداقا ويدلنا على ذلك بما نقطع فيه اليد، أيريد الاكل فيذكر الوطئ، أو يريد الجوز فيذكر الملح، أو يريد المخطئ فيذكر المتعمد، وهذا تكليف ما لا يطاق، وإلزام لعلم الغيب والكهانة، وإيجاب للحكم بالظن الكاذب، تعالى الله عن ذلك وتنزه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عنه.
وإنما الاختصار وجوامع الكلم والتنبيه أن يأتي إلى المعنى الذي يعبر عنه بألفاظ كثيرة فيبينه بألفاظ مختصرة جامعة يسيرة، لا يشذ عنها شئ من المراد بها البتة، ولا تقتضي من غير المراد بها شيئا أصلا، فهذا هو حقيقة الاختصار والبيان والتنبيه.
وذلك مثل قول الله تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * فدخل تحت هذا اللفظ مالو تقصى لملئت منه أسفار عظيمة، من ذكر قطع الاعضاء عضوا عضوا، وكسرها عضوا عضوا، والجراحات جرحا جرحا، والضرب هيئة هيئة، وذكر أحد الاحوال وسائر ما يقتضيه هذا المعنى من تولي المجني عليه للاقتصاص، ونفاذ أمره في ذلك.
ومثل قوله (صلى الله عليه وسلم): جرح العجماء جبار وسائر كلامه (صلى الله عليه وسلم).
وأما من إسقاط معاني أرادها، فلم يذكرها بالاسم الموضوع لها في اللغة التي بها خوطبنا، وطمع أن يدل عليها باسم غير موضوع لها في اللغة:، فهذا فعل الشيطان المريد إفساد الدين والتخليط على المسلمين، لا فعل رب العالمين، وخاتم النبيين.
وبالله تعالى نستعين.
فإن قالوا: لسنا نقول: إنه تنزل نازلة لا توجد في القرآن والسنة، لكنا نقول إنه يوجد حكم بعض النوازل نصا وبعضها بالدليل.
قيل لهم، وبالله تعالى التوفيق: إن هذا حق، ولكن إذا كان هذا الدليل الذي تذكرون لا يحتمل إلا وجها واحدا.
فهذا قولنا لا قولكم، وأما إن كان ذلك الدليل يحتمل وجهين فصاعدا فهذا ينقسم على قسمين: إما أن يكون هنالك نص آخر بين مراد الله تعالى من ذينك الوجهين فصاعدا بيانا جليا أو إجماع كذلك، فهذا هو قولنا، والنص بعينه لم نزل عنه، وإما ألا يكون هنالك نص آخر ولا إجماع يبين بأحدهما مراد الله عزوجل من ذلك - فهذا إشكال وتلبيس، تعالى الله عن ذلك، ولا يحل لاحد أن ينسب هذا إلى شئ من دين الله تعالى، الذي قد بينه غاية البيان رسوله (صلى الله عليه وسلم).
فإن قالوا: إن التشابه بين الادلة هو أحد الادلة على مراد الله تعالى.
قيل لهم: هذه دعوى تحتاج إلى دليل يصححها، وما كان هكذا فهو باطل بإجماع، ولا سبيل إلى وجود نص ولا إجماع يصحح هذه الدعوى، ولا فرق بينها وبين من جعل قول إنسان من العلماء بعينه دليلا على مراد الله تعالى في تلك المسألة، وكل هذا باطل وافتراء على الله تعالى.
وأيضا فإنهم في التشابه الموجب للحكم مختلفون، فبعضهم يجعل صفة ما علة لذلك الحكم، وبعضهم يمنع من ذلك ويأتي بعلة أخرى، وهذا كله تحكم بلا دليل.
وقد صحح بعضهم العلة بطردها في معلولاتها، وهذا تخليط تام، لان الطرد إنما يصح بعد صحة العلة، لان الطرد إنما هو فرع يوجبه صحة العلة، وإلا فهو باطل ومن المحال ألا يصح الاصل إلا بصحة الفروع.
وأيضا فإنهم إذا اختلفوا في طرد تلك العلة، فليس من طردها ليصححها بأولى ممن لم يطردها ليبطلها وطرد غيرها، وهذا كله تحكم في الدين لا يجوز، وذلك نحو طرد الشافعي علة الاكل في الربا، ومنع أبي حنيفة ومالك من ذلك، وطرد أبي حنيفة علة الوزن والكيل، ومنع مالك والشافعي من ذلك، وطرد مالك علة الادخار والاكل، ومنع أبي حنيفة والشافعي من ذلك.
فإن قالوا: فأرونا جمع النوازل منصوصا عليها.
قلنا لو عجزنا عن ذلك لما كان عجزنا حجة على الله تعالى، ولا على رسوله (صلى الله عليه وسلم) إذ لم ندع لكم - الواحد فالواحد منه - الاحاطة بجميع السنن، لكن حسبنا أننا نقطع بأن الله تعالى بين لنا كل ما يقع من أحكام الدين إلى يوم القيامة، فكيف ونحن نأتيكم بنص واحد فيه كل نازلة وقعت أو تقع إلى يوم القيامة، وهو الخبر الصحيح الذي ذكرناه قبل بإسناده وهو قوله (صلى الله عليه وسلم): دعوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه فصح نصا أن ما لم يقل فيه النبي (صلى الله عليه وسلم) فليس واجبا، لانه لم يأمر به، وليس حراما لانه لم ينه عنه، فبقي ضرورة أنه مباح، فمن ادعى أنه حرام مكلف أن يأتي فيه بنهي من النبي (صلى الله عليه وسلم)، فإن جاء سمعنا وأطعنا، وإلا فقوله باطل، ومن ادعى
فيه إيجابا كلف أن يأتي فيه بأمر من النبي (صلى الله عليه وسلم) فإن جاء به سمعنا وأطعنا، وإن لم يأت به فقوله باطل، وصح بهذا النص أن كل ما أمر به (صلى الله عليه وسلم) فهو فرض علينا إلا ما لم نستطع من ذلك، وأن كل ما نهانا عنه فحرام حاشا ما بينه (صلى الله عليه وسلم) أنه مكروه أو ندب فقط، فلم يبق في الدين حكم إلا وهو ههنا منصوص جملة.
ثم نعكس عليهم هذا السؤال وهذا القول فنقول لهم: أنتم تقولون: لا نازلة إلا ولها نظير في القرآن أو السنة، فنحن نعكس السؤال عن تلك النوازل التي تريدون سؤالنا عنها، من دينار وقع في محبرة وسائر تلك الحماقات، فأرونا نظائرها في القرآن والسنة، وأنتم تقرون أنه لا نصوص فيها، فخبرونا كيف تصنعون فيها أتحكمون فيها بقولكم ؟ فهذا دينكم لا دين الله ففي هذا ما فيه، فظهر فساد كل سؤال لهم والحمد لله رب العالمين كثيرا.
وقال من سلف من أصحابنا رحمهم الله: يقال لمن قال بالقياس قد أجمعتم - أنتم وجميع المسلمين بلا خلاف من أحد منهم، على أن الاحكام كلها في الديانة جائز أن تؤخذ نصا، واتفقوا كلهم - بلا خلاف من واحد منهم لا من القائلين بالقياس ولا من غيرهم، على أن أحكام الديانة كلها لا يجوز أن تؤخذ قياسا، ولا بد عندهم من نص يقاس عليه، فيقال لاصحاب القياس، عندكم حقا فمن ههنا بدؤوا به فقيسوا ما اختلفنا فيه من المسائل التي جوزتم القياس فيها، ومنعنا نحن منها، على ما اتفقنا عليه من المسائل التي أقررتم أنها لا يجوز أن تؤخذ قياسا، فإن لم تفعلوا فقد تركتم القياس، وإن فعلتم تركتم القياس، ولسنا نقول إن هذا العمل صحيح عندنا ولكن صحيح على أصولكم ولا أبطل من قول نقض بعضه بعضا.
ويقال لهم وجدنا مسائل كثيرة قد أجمعتم وأنتم وجميع الامة على ترك القياس فيها، كقاتل تاب قبل أن يقدر عليه وندم، فلا يسقط عنه القصاص عند أحد، ولم تقيسوا ذلك على محارب تاب قبل أن يقدر عليه، فالحد في الحرابة عنه ساقط، وكذلك اتفقوا على ألا يقاس الغاصب على السارق، وكلاهما أخذ مالا محرما عمدا، أو كترك قياس تعويض الاطعام من الصيام في قتل الخطأ على تعويضه من الصيام في الظهار، ومثل هذا كثير جدا، بل هو أكثر مما قاسوا فيه، فلو كان القياس حقا ما جاز الاجماع على تركه، كما لا يجوز الاجماع على ترك الحق الذي هو القرآن، أو كلام الرسول (صلى الله عليه وسلم) مما صح عنه، فإنه لم يجمع قط على ترك شئ منه إلا لنص آخر ناسخ له فقط، وهذا يوجب بطلان القياس ضرورة.
ويقال لهم أخبرونا عن القياس، أيخلو عندكم أن يحكم للشئ الذي لا نص فيه ولا إجماع بمثل الحكم الذي فيه نص أو إجماع، إما لعلة فيهما معا، هي في المحكوم فيه علامة الحكم، وإما لنوع من الشبه بينهما، وإما مطارفة لا لعلة ولا لشبه ولا سبيل إلى قسم رابع أصلا ؟ فإن قالوا: مطارفة لا لعلة ولا لشبه كفونا مؤنتهم، وصار قائل هذا ضحكة ومهزأة، ولم يكن أيضا أولى بما يحكم به من غيره، يحكم في ذلك الامر بحكم آخر، وهذا ما لا يقوله أحد منهم.
فإن قالوا: بل لنوع من الشبه، قيل لهم: وما دليلكم على أن ذلك النوع من الشبه يجب به ذلك الحكم، ولا سبيل إلى وجود ذلك الدليل، وتعارضون أيضا بشبه آخر يوجب حكما آخر، وهذا أبدا.
فإن قالوا: بل لعلة جامعة بين الحكمين، سألناهم: ما الدليل على أن الذي تجعلونه علة الحكم هي علة الحقيقة ؟ فإن ادعوا نصا فالحكم حينئذ للنص، ونحن لا ننكر هذا إذا وجدناه.
فإن قالوا: غير النص قلنا: هذا الباطل والدعوى التي لا برهان على صحتها وما كان هكذا فهو ساقط بنص القرآن، وبحكم الاجماع والعقول، وإن قالوا: طرد حكم العلة دليل على صحتها، قيل لهم: طردكم أنتم،
أو طرد أهل الاسلام.
فإن قالوا: طرد أهل الاسلام، قيل: هذا إجماع لا خلاف فيه، ولسنا نخالفكم في صحة الاجماع إذا وجد يقينا، وإن قالوا: بل طردنا نحن قيل لهم: ما طردكم أنتم حجة على أحد، فهاتوا برهانكم على صحة دعواكم إن كنتم صادقين، وهذا ما لا مخلص منه أصلا.
والحمد الله رب العالمين.
قال أبو محمد وقال جاءت نصوص بإبطال القياس.
فمن ذلك قول الله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) * وقال تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) * وقال تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب من شئ) * وقال تعالى: * (وما كان ربك نسيا) * وهذه نصوص مبطلة للقياس، وللقول في الدين بغير نص، لان القياس على ما بينا قفو لما لا علم لهم به، وتقدم بين يدي الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) واستدراك على الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ما لم يذكراه.
فإن قال أهل القياس: فلعل إنكاركم للقياس قول بغير علم، وقفو لما لا علم لكم به، وتقدم بين يدي الله ورسوله.
قيل لهم، وبالله تعالى التوفيق: نحن نريكم إنكارنا للقياس أنه قول بعلم وبنص وبيقين، وذلك أن الله عزوجل قال: * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) * فصح يقينا لا شك فيه أن الناس خرجوا إلى الدنيا لا يعلمون شيئا أصلا بنص كلام الله عزوجل.
وقال تعالى: * (كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) * فصح يقينا أن الله أرسل محمدا رسوله (صلى الله عليه وسلم) إلينا ليعلمنا ما لم نعلم.
فصح ضرورة أن ما علمنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) من أمور الدين فهو الحق، وما لم يعلمنا منها فهو الباطل،
وحرام القول به وقال تعالى يعني به إبليس اللعين: * (إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * وقال تعالى: * (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) *.
فصح بنص القرآن أننا خرجنا إلى الدنيا لا نعلم شيئا ثم حرم علينا القول على الله تعالى بما لا نعلم، وأخبرنا تعالى أن إبليس يأمرنا بأن نقول على الله ما لا نعلم، فقد صح بهذه النصوص، ضرورة أن القول بقياس وبغير القياس، كمن أثبت العنقاء والغول والكيميا وكقول الروافض في الامام، وكقول من قال بالالهام
وكل هذا، فالقول به على الله تعالى في الدين حرام.
مقرون بالشرك أمر من أمر إبليس.
إلا ما علمنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
فهو الحق الذي نقوله على الله تعالى.
ولا يحل لنا أن نقول عليه غيره، فإذ لم يأمرنا عليه السلام بالقياس فهو حرام من أمر الشيطان بلا شك، وقد بينا فيما خلا، كل ما شغبوا مما أرادوا التمويه به فيه بالحديث فحرم القول بالقياس البتة.
وبهذا بطل كل قول بلا برهان على صحته، حتى لو لم يقيم برهان بإبطاله، فلو لم يكن لنا برهان على إبطال القياس لكان عدم البرهان على إثباته برهانا في إبطاله، لان الفرض علينا ألا نوجب في الدين شيئا إلا ببرهان، وإذ ذلك كذلك فالفرض علينا أن نبطل كل قول قيل في الدين، حتى يقوم برهان بصحته، وهذا برهان ضروري لا محيد عنه، وبالله تعالى التوفيق.
وقد اعترض بعضهم في قول الله تعالى * (اليوم أكملت لكم دينكم) * بما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم الخميس قبل موته (صلى الله عليه وسلم) بأربعة أيام: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا من بعدي وبما روي عن عائشة رضي الله
عنها قولها: لم يكن الوحي قط أكثر منه قبيل موت النبي (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: هذه أشياء زائدة على ما كان حين قوله تعالى في حجة الوداع: * (اليوم أكملت لكم دينكم) *.
واعترض آخرون من أهل الجهل على الحديث المذكور بالآية المذكورة، وصوبوا فعل عمر وقوله في ذلك اليوم.
قال أبو محمد: وهذان الاعتراضان من هاتين الطائفتين لا يشبهان اعتراض المسلمين، وإنما يشبهان اعتراض أهل الكفر والالحاد، وبعيد عندنا أن يعترض بهما مسلم صحيح الباطن، لان الطائفة الاولى مكذبة لله عزوجل في قوله إنه أكمل ديننا، مدعية أنه كانت هنالك أشياء لم تكمل، والطائفة الثانية مجهلة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) مدعية عليه الكذب في أمر الكتاب الذي أراد أن يكتبه، أو التخطيط في كلامه، وأن قول عمر أصوب من قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكلا هذين القولين كفر مجرد.
وكل هذه النصوص حق لا تعارض بين شئ منها بوجه من الوجوه، لان الآية المذكورة نزلت يوم عرفة في حجة الوداع قبل موته (صلى الله عليه وسلم) بثلاثة أشهر، وحتى لو نزلت بعد ذلك شرائع لما كان نزولها معارضا للآية المذكورة، لان الدين في كل وقت تام كامل، ولله تعالى أن يمحو من الدين ما يشاء، وأن يزيد فيه، وأن يثبت وليس ذلك لغيره، بل قد صح أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) قبيل موته بساعة بإخراج الكفار من جزيرة العرب، وألا يبقى فيها دينان، ولمن يكن هذا الشرع ورد قبل ذلك.
ولو ورد لما أقرهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وإنما غرضنا من هذه الآية أن الله تعالى تولى إكمال الدين، وما أكمله الله تعالى فليس لاحد أن يزيد فيه رأيا ولا قياسا لم يزدهما الله تعالى في الدين، وهذا بين.
وبالله تعالى التوفيق.
وأما أمر الكتاب الذي أراد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يكتبه يوم الخميس قبل وفاته (صلى الله عليه وسلم) بأربعة أيام، فإنما كان في النص على أبي بكر رضي الله عنه، ولقد وهل عمر وكل من ساعده على ذلك، وكان ذلك القول منهم خطأ عظيما، ولكنهم الخير أرادوا، فهم معذورون مأجورون، وإن كانوا قد عوقبوا على ذلك بأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إياهم بالخروج عنه، وإنكاره عليهم التنازع بحضرته.
ولقد ولد الامتناع من ذلك الكتاب من فرقة الانصار يوم السقيفة ما كاد يكون فيه بوار الاسلام، لولا أن الله تداركنا بمنه، وولد من اختلاف الشيعة وخروج طوائف منهم عن الاسلام، أمرا يشجي نفوس أهل الاسلام، فلو كتب ذلك الكتاب لانقطع الاختلاف في الامامة، ولما ضل أحد فيها، لكن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وقد أبى ربك إلا ما ترى.
وهذه زلة عالم، نعني قول عمر رضي الله عنه يومئذ، قد حذرنا من مثلها، وعلى كل حال فنحن نثبت ونقطع ونوقن، ونشهد بشهادة الله تعالى، ونبرأ من كل من لم يشهد، بأن الذي أراد (صلى الله عليه وسلم) أن يمله في ذلك اليوم، في الكتاب الذي أراد أن يكتبه، لو كان شرعا زائدا من تحريم شئ لم يتقدم تحريمه، أو تحليل شئ تقدم تحريمه، أو إيجاب شئ لم يتقدم إيجابه، إو إسقاط إيجاب شئ تقدم إيجابه، لما ترك (صلى الله عليه وسلم) بيانه ولا كتابه لقول عمر، ولا لقول أحد من الناس.
فصح ضرورة أنه فيما قد علم بوحي الله تعالى إليه أنه سيتم من ولاية أبي بكر، وذلك بين قوله (صلى الله عليه وسلم) في حديث عائشة الذي قد ذكرنا قبل: ويأبى الله والمؤمنون وروي أيضا والنبيون إلا أبا بكر فوضح البرهان بصحة قولنا يقينا.
والحمد لله كثيرا.
وأما تتابع الوحي فإنما كان بلا شك تأكيدا في التزام ما نزل من القرآن قبل ذلك.
ومثل ما روي من: * (إذا جاء نصر الله والفتح ئ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) * ونزول: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) * وآية الكلالة التي قد تقدم حكمها.
فصح أنه لا تعارض بين شئ من هذه النصوص.
والحمد لله رب العالمين.
فإن قالوا: فأرونا كل نازلة تنزل على ما تقولون في نص القرآن والسنة.
قلنا لهم: نعم، وبالله تعالى التوفيق، وهذا واجب علينا وأول ذلك: أن نقرر ما الديانة ؟ وهي أن نقول: إن أحكام الشريعة كلها - أولها عن آخرها - تنقسم ثلاثة أقسام لا رابع لها: وهي فرض لا بد من اعتقاده، والعمل به مع ذلك، وحرام لا بد من اجتنابه قولا وعقدا وعملا، وحلال مباح فعله ومباح تركه.
وأما المكروه والمندب إليه فداخلان تحت المباح على ما بينا قبل، لان المكروه لا يأثم فاعله، ولو أثم لكان حراما، ولكن يؤجر فاعله.
والمندوب إليه لا يأثم تاركه، ولو أثم لكان فرضا، ولكن يؤجر فاعله.
فهذه أقسام الشريعة بإجماع من كل مسلم، وبضرورة وجود العقل في القسمة الصحيحة، إلى ورود السمع بها، فإذ لا شك في هذا، فقد قال الله عزوجل: * (خلق لكم ما في الارض جميعا) * وقال تعالى: * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) * فصح بهاتين الآيتين أن كل شئ في الارض، وكمل عمل فمباح حلال، إلا ما فصل الله تعالى لنا تحريمه اسمه نصا عليه في القرآن، وكلام النبي (صلى الله عليه وسلم) المبلغ عن ربه عزوجل والمبين لما أنزل عليه.
وفي إجماع الامة كلها المنصوص على اتباعه في القرآن، وهو راجع إلى النص على ما بينا قبل، فإن وجدنا شيئا حرمه النص بالنهي عنه أو الاجماع باسمه حرمناه، وإن لم نجد شيئا منصوصا على النهي عنه باسمه ولا مجمعا عليه فهو حلال بنص الآية الاولى.
وقد أكد الله تعالى هذا في غير ما موضع من كتابه فقال عزوجل: * (يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات مآ أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) * فبين الله تعالى أن كل شئ حلال لنا إلا ما نص على تحريمه، ونهانا عن اعتداء ما أمرنا تعالى به، فمن حرم شيئا لم ينص الله تعالى ولا رسوله (صلى الله عليه وسلم) على تحريمه والنهي عنه، ولا أجمع على تحريمه، فقد اعتدى وعصى الله تعالى، ثم زادنا تعالى بيانا فقال: * (هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم) * فصح بنص هذه الآية صحة لا مرية فيها أن كل ما لم يأت النهي فيه باسمه من عند الله تعالى على لسان رسوله (صلى الله عليه وسلم) فهو حلال لا يحل لاحد أن يشهد بتحريمه.
وقال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * وقال تعالى: * (يأيها الذين آمنوا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم ئ قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) * فبين الله تعالى أن ما أمرنا به في القرآن أو على لسان نبيه (صلى الله عليه وسلم) فهو واجب طاعته، وضد الطاعة المعصية فمن لم يطع فقد عصى، ومن لم يفعل ما أمر به فلم يطع، ونهانا عن أن نسأل عن شئ جملة البتة ولم يدعنا في لبس أن يقول قائل: إن هذه الآية نزلت في السؤال عن مثل ما سأل عنه عبد الله بن حذافة: من أبى ؟ فأكذب الله ظنونهم لكن قال الله تعالى: * (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) * فصح أن ذلك في الشرائع التي يكفر في جحدها، ويضل من تركها، فصح أن ما لم يأت به نص أو إجماع فليس واجبا علينا.
فأي شئ بقي بعد هذا ؟ وهل في العالم نازلة تخرج من أن يقول قائل: هذا واجب ؟ فنقول له: إن أتيت على إيجابه بنص من القرآن أو بكلام صحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو إجماع، فسمعا وطاعة، وهو واجب، ومن أبى عن إيجابه حينئذ فهو كافر، وإن لم يأت على إيجابه بنص ولا إجماع، فإنه كاذب وذلك القول ليس بواجب أو يقول قال: هذا حرام، فنقول له: إن أتيت على النهي عنه بنص أو إجماع فهو حرام، وسمعا وطاعة، ومن أراد استباحته حينئذ فهو آثم كاذب عاص، وإن تأت على النهي عنه بنص ولا إجماع فأنت كاذب، وذلك الشئ ليس حراما.
فهل في العالم حكم يخرج عن هذا ؟ فصح أن النص مستوعب لكل حكم يقع أو وقع إلى يوم القيامة، ولا سبيل إلى نازلة تخرج عن هذه الاحكام الثلاثة، وبالله تعالى التوفيق.
ثم قد جاءت الاحاديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بمثل ما جاءت به هذه الآيات، كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمذاني، ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد البلخي، ثنا محمد بن يوسف، ثنا محمد باسماعيل، ثنا إسماعيل هو ابن أبي أويس، ثنا مالك ابن أنس، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: دعوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم.
قال أبو محمد: فهذا حديث جامع لكل ما ذكرنا، بين فيه (صلى الله عليه وسلم) أنه إذا نهى عن شئ فواجب أن يجتنب، وأنه إذا أمر بأمر فواجب أن يؤتى منه حيث بلغت الاستطاعة، وأن ما لم ينه عنه، ولا أمر به، فواجب ألا يبحث عنه في حياته عليه السلام، وإذ هذه صفته ففرض على كل مسلم ألا يحرمه ولا يوجبه، وإذا لم يكن حراما، ولا واجبا، فهو مباح ضرورة، إذ لا قسم إلا هذه الاقسام الثلاثة، فإذا بطل منها اثنان وجب الثالث، ولا بد ضرورة، وهذه قضية النص، وقضية السمع، وقضية العقل التي لا يفهم العقل غيرها، إلا الضلال والكهانة والسخافة التي يدعيها أصحاب القياس أنهم يفهمون من الوطئ الاكل ومن الثمر الجلوز ومن قطع السرقة مقدار الصداق، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم نعكس عليهم سؤالهم فنقول لهم: إذا جوزتم وجود نوازل لا حكم لها في قرآن ولا سنة، فقولوا لنا: ماذا تصنعون فيها ؟ فهذا لازم لكم وليس يلزمنا، لان هذا عندنا باطل معدوم لا سبيل إلى وجوده أبدا، فأخبرونا إذا وجدتم تلك النوازل أتتركون الحكم فيها ؟ فليس هذا قولكم، أم تحكمون فيها ؟ ولا سبيل إلى قسم ثالث، فإن حكمتم فيها فأخبرونا عن حكمكم فيها أبحكم الله تعالى وحكم رسوله (صلى الله عليه وسلم) حكمتم فيها ؟ فإن قلتم: نعم، قلنا: قد تناقضتم لانكم قلتم ليس فيها نص بحكم الله تعالى ولا لرسوله (صلى الله عليه وسلم)، وقد كذب آخر قولكم أوله، وإن قلتم: بغير حكم الله تعالى أو بغير حكم رسوله (صلى الله عليه وسلم)، نحن برآء إلى الله تعالى من كل حكم في الدين لم يحكم به الله عزوجل، وفي هذا كفاية لمن عقل فوضح لنا وبطل ما سواه، والحمد لله رب العالمين.
وبهذا جاءت الاحاديث كلها مؤكدة متناصرة، كما ثنا حمام بن أحمد، ثنا عبد الله ابن إبراهيم، ثنا أبو زيد المروزي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا عبد الله بن زيد المقرئ، ثنا سعيد، ثنا عقل، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شئ لم يحرم فحرم من أجل مسألته فنص (صلى الله عليه وسلم) كما تسمع أن كل ما لم يأت به تحريم من الله تعالى فهو غير محرم.
وهكذا أخبر (صلى الله عليه وسلم) في الواجب أيضا، كما ثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد الفقيه الاشقر، ثنا أحمد بن علي القلانسي، ثنا مسلم بن الحجاج، حدثني زهير بن حرب، ثنا يزيد بن هارون، ثنا الربيع بن مسلم القرشي، عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا.
فقال رجل: أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه.
قال أبو محمد: فنص رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أن ما لم يوجبه فهو غير واجب، وما أوجبه بأمره فواجب ما أستطيع منه، وأن ما لم يحرمه فهو حلال، وأن ما نهى عنه فهو حرام، فأين للقياس مدخل ؟ والنصوص قد استوعبت كل ما اختلف الناس فيه، وكل نازلة تنزل إلى يوم القيامة باسمها وبالله تعالى التوفيق.
وقال تعالى: * (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) *.
قال أبو محمد: فصح بالنص أن كل ما لم ينص عليه، فهو شئ لم يأذن به الله تعالى، وهذه صفة القياس، وهذا حرام.
وقال تعالى: * (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله) *.
قال أبو محمد: فكل ما ليس في القرآن والسنة منصوصا باسمه، واجبا مأمورا به أو منهيا عنه، فمن أوجبه أو جرمه، أو خالف لما جاء به النص، فهو من عند غير الله تعالى، والقياس غير منصوص على الامر به فيهما، فهو من عند غير
الله تعالى، وما كان من عند غير الله تعالى فهو باطل.
وقال تعالى: * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) * وقد علمنا ضرورة أن الله تعالى إذا حرم بالنص شيئا فحرم إنسان شيئا غير ذلك، قياسا على ما حرم الله تعالى، أو أحل بعض ما حرم الله قياسا، أو أوجب غير ما أوجب الله تعالى قياسا، أو أسقط بعض ما أوجب الله تعالى قياسا، فقد تعدى حدود الله تعالى، فهو ظالم بشهادة الله تعالى عليه بذلك.
وقد قال تعالى: * (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) *.
قال أبو محمد: وهذه كالتي قبلها سواء بسواء.
وقال تعالى: (قل أأنتم أعلم أم الله) *.
قال أبو محمد: ومن استدرك برأيه وقياسه على ربه تعالى شيئا من الحرام والواجب لم يأت بتحريمها ولا إيجابها نص فقد دخل تحت هذه العظيمة المذكورة في هذه الآية، ونحمد الله تعالى على توفيقه، لا إله إلا هو.
وقال تعالى يصف كلامه: * (تبيانا لكل شئ) * وقال تعالى: * (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) * وقال تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) *.
قال أبو محمد: فنص الله تعالى على أنه لم يكل بيان الشريعة إلى أحد من الناس، ولا إلى رأي ولا إلى قياس، لكن إلى نص القرآن، وإلى رسوله (صلى الله عليه وسلم) فقط، وما عداهما فضلال وباطل ومحال.
وقال تعالى: * (أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم) *.
قال أبو محمد: فصح أن كل ما لم يأتنا به وصية من عند الله عزوجل فهو افتراء على الله كذب، وناسبه إلى الله تعالى ظالم، ولم تأتنا وصية قط من قبله تعالى بالحكم بالقياس، فهو افتراء وباطل، وكذب، بل جاءتنا وصاياه
عزوجل بألا نتعدى كلامه وكلام رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وألا نحرم ولا نوجب إلا ما أوجبا وحرما ونهيا فقط، فبطل كل ما عدا ذلك، والقياس مما عدا ذلك فهو باطل.
وقال تعالى: * (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) * فأوجب تعالى أن يكتفى بتلاوة الكتاب، وهذا هو الاخذ بظاهره، وإبطال كل تأويل لم يأت به نص أو إجماع، وألا نطلب غير ما يقتضيه لفظ القرآن فقط.
وقال تعالى: * (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) * وقال تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * فلم يبح الله تعالى عند التنازع والاختلاف أن يتحاكم أو يرد إلا إلى القرآن وكلام الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقط، لا إلى أحد دون النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولا إلى رأي ولا قياس، فبطل كل هذا بطلانا متيقنا، والحمد لله رب العالمين على توفيقه، هذا مع شدة شرط الله تعالى بقوله: * (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * فلقد يجب على كل مسلم قامت عليه الحجة أن يهاب لحقوق هذه الصفة به، وفرض عليه أن لا يقتدي بمن سلف ممن تأول فخطأ، فليس من قامت عليه الحجة كمن لا ندري أقامت عليه الحجة أم لم تقم ؟ إلا أننا نحسن الظن بهم، كما نحسنه بسائر المؤمنين والله أعلم بحقيقة أمر كل أحد.
وقال تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب) * فحرم تعالى الحكم في الشئ من الدين بتحريم أو تحليل، وسمى من فعل ذلك كاذبا، وفعله كذبا إلا أن يحرمه الله أو يحلله الله في النص أو الاجماع، وقال تعالى: * (قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ء آلله أذن لكم أم على الله تفترون) * فسمى تعالى من حرم بغير إذن من الله تعالى في تحريم ذلك الشئ، أو حلل بغير إذن من الله في تحليله: مفتريا،
وهذه صفة القائسين المحرمين المحللين الموجبين بالقياس بغير إذن من الله تعالى.
وقال تعالى: * (فلا تضربوا لله الامثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) * فنص تعالى على ألا تضرب له الامثال، وهذا نص جلي على إبطال القياس وتحريمه، لان القياس ضرب أمثال للقرآن، وتمثيل ما لا نص فيه بما فيه النص، ومن مثل ما لم ينص الله تعالى على تحريمه أو إيجابه بما حرمه الله تعالى وأوجبه، فقد ضرب له الامثال، وواقع المعصية، نعوذ بالله من ذلك، ونص تعالى على أنه يعلم ونحن لا نعلم، فلو علم تعالى أن الذي لم ينص عليه مثل الذي نص عليه لاعلمنا بذلك وما أغفله وما ضيعه، قال تعالى: * (وما كان ربك نسيا) * وقال تعالى: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء) * فصح أن العربية بها أرسل الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وسلم)، فبهذا بين لنا، وقال تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * فكل ما بينه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فعن الله تعالى بينه، وقد علمنا يقينا وقوع كل اسم في اللغة على مسماه فيها وأن البر لا يسمى تبنا، وأن الملح لا يسمى زبيبا، وأن التمر لا يسمى أرزا، وأن الشعير لا يسمى بلوطا، ولا الواطئ آكلا، ولا الآكل واطئا، ولا القاتل مظاهرا، ولا المظاهر قاتلا، ولا المعرض قاذفا.
فإذ قد أحكم اللسان كل اسم على مسماه لا على غيره، ولم يبعث محمدا (صلى الله عليه وسلم) بالعربية التي ندريها.
فقد علمنا يقينا أنه (صلى الله عليه وسلم) إذا نص في القرآن أو كلامه على اسم ما بحكم ما، فواجب ألا يوقع ذلك الحكم إلا على ما اقتضاه ذلك الاسم فقط، ولا نتعدى به الموضع الذي وضعه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيه، وألا يخرج عن ذلك الحكم شئ مما يقتضيه الاسم ويقع عليه فالزيادة على ذلك في الدين وهو القياس، والنقص منه نقص من الدين، وهو التخصيص، وكل ذلك حرام بالنصوص التي ذكرنا، فسبحان من خص أصحاب القياس بكلا الامرين فمرة يزيدون إلى النص ما ليس فيه، ويقولون هذا قياس، ومرة يخرجون من النص بعض ما يقتضيه ويقولون: هذا خصوص، ومرة يتركونه كله ويقولون: ليس عليه العمل، والعبرة معترضة عليه كما فعل الحنفيون في حديث المصراة والاقراع بين الاعبد، وكما فعل المالكيون في حديث تمام الصوم لمن أكل ناسيا، وحديث الحج على المريض البائس والميت وغير ذلك، وحسبنا الله ونعم الوكيل وقال الله تعالى: * (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن) *.
قال أبو محمد: والقياس اسم في الدين لم يأذن به الله تعالى، ولا أنزل به سلطانا، وهو ظن منهم بلا شك، لتجاذبهم علل القياسات بينهم، كتعليلهم الربا بالاكل، وقال آخرون منهم: بالكيل والوزن، وقال آخرون: بالادخار، وهذه كلها ظنون فاسدة، وتخاليط وأسماء لم يأذن تعالى بها، ولا أنزل بها سلطانا.
وقال تعالى: * (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق )*، وقال تعالى: * (ويحق الله الحق بكلماته) * فنص تعالى على ألا يقال عليه إلا الحق، وأخبر تعالى أنه يحق الحق بكلماته، فما لم يأتنا كلام الله تعالى بأنه حق من الدين فهو باطل، لا حق.
وقال تعالى حكاية عن رسله صلى الله عليهم وسلم: * (إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشآء من عباده وما كان لنآ أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله) *.
قال أبو محمد: فنص الله تعالى عن الانبياء الصادقين أنه ليس لهم أن يأتوا بسلطان إلا بإذن الله تعالى، والسلطان الحجة بلا شك، فكل حجة لم يأذن الله تعالى بها في كلامه فهو باطل، ولم يأذن قط تعالى في القياس فهو باطل.
وقال تعالى: * (ما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبنائكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) * وقال تعالى: * (إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا) *.
فأنكر تعالى غاية الانكار أن يجعل أحد أمه غير التي ولدته، ولا أن يجعل ابنه إلا ولده، وهو تعالى قد جعل أمهاتنا من لم تلدنا، كنساء النبي (صلى الله عليه وسلم) واللواتي أرضعتنا، وجعل أبناءنا من لم تلده، كنحن لنساء النبي (صلى الله عليه وسلم)، وكمن أرضعه نساءنا بألباننا.
فصح بالنص أن الشئ إذا حكم الله تعالى به فقد لزم دون تعليل، وأن من أراد أن يحكم بمثل ذلك بما لا نص فيه فقد قال منكرا من القول وزورا، وأنه ليس لاحد أن يقول بغير ما لم يقل الله تعالى به.
وفي هذا كفاية لمن وجعلنا - نحن وهم - نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) أمهاتنا في التحريم كما جاء النص فقط.
ثم لم نقس على ذلك رؤيتهن كما نرى أمهاتنا، بل حرم ذلك علينا، ولا قسنا إخوتهم وبنيهم على أخوال الولادة وإخوة الولادة.
بل حل لهم نكاح نساء المسلمين، وحل لرجال المسلمين نكاح إخواتهن وبناتهن، فبطل حكم القياس يقينا وصح لزوم النص فقط، وألا يتعدى أصلا.
وفي آية واحدة مما ذكرنا كفاية لمن اتقى الله عزوجل ونصح نفسه، فكيف، وقد تظاهرت الآيات بإبطال ما يدعونه من القياس في دين الله تعالى.
وكذلك أيضا جاءت الاحاديث الصحاح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بإبطال القياس كما حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد ابن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا ابن نمير، ثنا روح بن عبادة، ثنا شعبة، مسلم: وحدثني زهير بن حرب، ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة قال: أخبرني
أبو بكر بن حفص عن سالم بن عمر قال: إن عمر رأى على رجل من آل عطارد قباء من ديباج أو حرير، فقال لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): لو اشتريته فقال: إنما يلبس هذا من لا خلاق له، فأهدي لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حلة سيراء فأرسل بها إلي فقلت: أرسلت بها إلي وقد سمعتك قلت فيها ما قلت ؟ قال: إنما بعثتها إليك لتستمتع بها.
وقال ابن نمير في حديثه: إنما بعثتها إليك لتنتفع بها، ولم أبعث بها إليك لتلبسها.
وبالسند المذكور إلى مسلم قال: حدثنا شيبان بن فروخ، ثنا جرير بن حازم، ثنا نافع عن ابن عمر قال: رأى عمر عطاردا اليمني يقيم بالسوق حلة سيراء، فقال عمر: يا رسول الله، إني رأيت عطاردا يقيم في السوق حلة سيراء، فلو اشتريتها فلبستها لوفود العرب إذ قد مرا عليك ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة فلما كان بعد ذلك أتي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بحلل سيراء، فبعث إلى عمر بحلة، وإلى ابن زيد بحلة، وأعطى علي بن أبي طالب حلة، وقال: اشققها خمرا بين نسائك فذكر أمر عمر قال: وأما أسامة فراح في حلته، فنظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم عرف أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أنكر ما صنع، فقال: يا رسول الله: ما تنظر إلي، فأنت بعثت بها إلي ؟ فقال: إني لم أبعثها إليك لتلبسها، ولكن بعثت بها لتشققها خمرا بين نسائك.
فأنكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على عمر تسويته بين الملك والبيع والانتفاع، وبين اللباس المنهي، وأنكر على أسامة تسويته بين الملك واللباس أيضا، وكل واحد منهما قياس، فأحدهما حرم قياسا، والآخر أحلى قياسا، فأنكر عليه السلام القياسين معا، وهذا هو إبطال القياس نفسه.
ولا بد في هذين الحديثين من أحد مذهبين: إما أن يقول قائل: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) إذ نهى عن لباس الحرير، ثم وهبهما حلل الحرير، أن يكون لبس عليهما وهذا كفر من قائله، أو أنه (صلى الله عليه وسلم) بين عليهم المحرم من الحرير وهو اللباس المنصوص عليه فقط، وبقي ما لم يذكر على أصل الاباحة، فأخطأ رضي الله عنهما إذا قاسا، وهذا هو الحق الذي لا يحل لاحد أن يعتقد غيره.
وبالله تعالى التوفيق.
حدثنا أحمد بن قاسم، ثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم، ثنا جدي قاسم بن أصبغ، ثنا بكر بن حماد، نا حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله (ص): إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان لها - رحمة لكم - فلا تبحثوا عنها.
كتب إلي النمري يوسف بن عبد الله، نا أحمد بن عبد الله بن محمد علي الباجي، ثنا الحسين بن إسماعيل، نا عبد الملك بن يحيى، نا محمد بن إسماعيل، ثنا سنيد بن داود، نا محمد بن فضيل، عن داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها.
وعفا عن أشياء - رحمة لكم لا عن نسيان - فلا تبحثوا عنها.
حدثنا أحمد بن قاسم قال: نا أبي القاسم بن محمد بن قاسم، قال: نا جدي قاسم بن أصبغ، نا محمد بن إسماعيل الترمذي، نا نعيم بن حماد، نا عبد الله بن المبارك، ثنا عيسى ابن يونس، عن جرير - هو ابن عثمان - عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الاشجعي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الامور برأيهم، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال.
قال أبو محمد: حريز بن عثمان ثقة، وقد روينا عنه أنه تبرأ مما أنسب إليه من الانحراف، عن علي رضي الله عنه، ونعيم بن حماد قد روى عن البخاري في الصحيح، وفي الاحاديث التي ذكرنا في هذا الفصل، وفيما قبل هذا، من أمره عليه السلام بأن يتركوا ما تركهم، وأن ينتهوا عما نهاهم، وأن يفعلوا ما أمرهم به ما استطاعوا كفاية في إبطال القياس لمن نصح نفسه.
وقد قال بعض أصحاب القياس: إنما أنكر في هذه الاحاديث من يقيس برأيه، وأما من يقيس على تشابه المنصوص فلم يذم.
قال أبو محمد: فقلنا لهم: من أين فرقتم هذا الفرق ؟ وهل رددتموها على الدعوى المفتراة الكاذبة شيئا ؟ وقولكم هذا من أشد المجاهرة بالباطل.
وقد وجدنا للصحابة فتاوى كثيرة بالرأي يتبرؤون فيها من خطأ، إن كان إلى الله تعالى، ولا يوجدون شيئا منها دينا، ولا يقولون إنه الحق، بل يذمون القول بالرأي في خلال ذلك، خوف أن يظن ظان أنه منهم على سبيل الايجاب والقطع بأنه حق، فمن تعلق بالرأي هكذا فله متعلق.
وأما القياس الذي ذكر هذا القائل على التعديل، واستخراج، علة الشبه، فما نطق بذلك قط أحد من الصحابة، ولا قال به، فالذي فر إليه أشد مما فر عنه.
وبالله تعالى التوفيق.
وقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، وعمن بعدهم إبطال القياس نصا.
كالذي ذكرنا عن أبي هريرة من قوله لابن عباس: إذ أتاك الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلا تضرب له الامثال.
وهذا نص من أبي هريرة على إبطال القياس.
حدثنا عبد الله بن يوسف نامي، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا أحمد بن عبد الله بن يونس، ثنا زهير، ثنا منصور، عن هلال بن يساف، عن ربيع بن عميلة، عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أحب الكلام إلى الله عزوجل أربع فذكر الحديث وفي آخره: لا تسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح، فإنك تقول أثم هو ؟ فيقول لا: إنما هن أربع، فلا تزيدوا علي.
قال أبو محمد: فهذا سمرة بن جندب لم يستجز القياس، وأخبر أنه زيادة في السنة، ولم يستجز أن يقول: ومثل هذا يلزم في خيرة وسعد وفرج، فتقول: أثم سعد أثم فرج، أثم خيرة ؟ فيقول: لا.
هذا وقد نص على السبب المانع من التسمية بالاسماء المذكورة التي يسمون مثلها التي يكذبون في استخراجها علة يقيسون عليها، فقد كان ينبغي، لو اتقوا الله عزوجل، أن يقولوا: إن التي نص عليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أولى أن يقاس عليها ما يشبهها لكن لم يفعلوا ذلك، ولا فعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، إذ خص هذه الاسماء، ولا سمرة بعده، وهذا إبطال صحيح للقياس.
فإن قالوا: لعل هذا الكلام: إنما هن أربع، فلا تزيدون علي هو من لفظ النبي (صلى الله عليه وسلم) قيل لهم: فذلك أشد عليهم وأبطل، لقولكم أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن القياس والتعليل، وأمر بالاقتصار على ما نص عليه فقط.
حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي، نا محمد بن معاوية المرواني، نا أحمد بن شعيب النسائي، نا محمد بن بشار، نا محمد بن جعفر، وأبو داود الطيالسي، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، وأبو الوليد الطيالسي، ومحمد بن أبي عدي قالوا: ثنا شعبة قال: سمعت سليمان بن عبد الرحمن قال: سمعت عبيد بن فيروز قال: قلت للبراء بن عازب: حدثني ما كره أن نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الاضاحي، فقال هكذا بيده، ويده أقصر من يد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أربع لا تجزئ في الاضاحي وذكر الحديث قال: فإني أكره أن يكون نقص في القرن والاذن قال: فما كرهت منه فدعه ولا تحرمه على أحد.
وروينا نحو ذلك عن عتبة ابن عبد السلمي ألا يتعدى ما نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
حدثنا أحمد بن عمر العذري، ثنا عبد الله بن حسين بن عقال الفريسي، نا إبراهيم ابن محمد الدينوري، نا محمد بن أحمد بن الجهم، نا أحمد بن الهيثم، نا محمد بن شريك عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء، ويتركون أشياء تقذرا، فبعث الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وذكر الحديث.
وقال محمد بن أحمد بن الجهم: ثنا أحمد بن الهيثم، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد ابن زيد، نا المعلى بن زياد، عن الحسن قال: بينما عمر بن الخطاب يمشي في بعض طرق المدينة، إذ وطئ رجل من القوم عقبه فقطع نعله، فأهوى له ضربة.
فقال: يا أمير المؤمنين، لطمتني وظلمتني، لا والله ما هذا أردت، فألقى إليه الدرة.
فقال: دونك فاقتص، فقال بعضهم: اغفرها لامير المؤمنين، فقال: لا والله ما أريد مغفرتها، لقد كتبت وحفظت، ولكن إن شئت دللتك على خير من ذلك، * (فمن تصدق به فهو كفارة له) * قال: فإني قد تصدقت، فجاء عمر رقيق فأعطاه خادما وذكر الحديث.
قال أبو محمد: فهذا عمر لم يستجز قياس المغفرة على الصدقة، والعلة عند القائسين واحدة، ولا أرى أن يفارق ظاهر النص.
حدثنا يوسف بن عبد الله النمري، نا عبد الوارث بن جبرون، نا قاسم بن أصبغ، ثنا أبو بكر بن أبي خيثمة، نا أبي - هو زهير بن حرب - نا جرير، عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد: أن عمر بن الخطاب نهى عن المكايلة، قال مجاهد:
يعني المقايسة.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، نا إسماعيل بن إسحاق البصري، ثنا عيسى بن حبيب، نا عبد الرحمن بن عبد الله بن يزيد المقرئ، نا جدي محمد ابن عبد الله بن يزيد، نا سفيان بن عيينة، عن خلف بن حوشب، عن سلمة بن كهيل قال: قال عمر بن الخطاب: وقد وضحت الامور، وسنت السنن، ولم يترك لاحد متكلم إلا أن يضل عبد عن عمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق