تعارض الاتصال والانقطاع
الدكتور ماهر الفحل
تقدم الكلام بأن الاتصال
شرط أساسيٌّ لصحة الحديث النبوي ، وعلى هذا فالمنقطع ضعيف لفقده شرطاً أساسياً من
شروط الصحة ، وقد أولى المحدثون عنايتهم في البحث والتنقير في الأحاديث من أجل
البحث عن توافر هذا الشرط من عدمه ؛ وذلك لما له من أهمية بالغة في التصحيح
والتضعيف والتعليل . وتقدم الكلام أن ليس كل ما ورد فيه التصريح بالسماع فهو متصل
؛ إذ قَدْ يقع الخطأ في ذلك فيصرح بالسماع في غير ما حديث ، ثم يكشف الأئمة النقاد
بأن هذا التصريح خطأ ، أو أن ما ظاهره متصل منقطع، وهذا ليس لكل أحد إنما هو لأولئك
الرجال الذين أفنوا أعمارهم شموعاً أضاءت لنا الطريق من أجل معرفة الصحيح المتصل
من الضعيف المنقطع .
إذن فليس كل ما ظاهره
الاتصال متصلاً ، فقد يكون السند معللاً بالانقطاع .
وعليه فقد يأتي الحديث
مرة بسند ظاهره الاتصال ، ويُروى بسند آخر ظاهره الانقطاع ، فيرجح تارة الانقطاع
وأخرى الاتصال ، ويجري فيه الخلاف الذي مضى في زيادة الثقة . وأمثلة ذلك كثيرة .
منها : ما رواه أحمد بن
منيع ([1])
، قال : حدثنا كثير بن هشام ([2])
، قال : حدثنا جعفر بن برقان ([3])
، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : كنت أنا
وحفصة([4])
صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه ، فجاء رسول الله r
فبدرتني إليه حفصة ، وكانت ابنة أبيها ، فقالت: يا رسول الله ، إنا كنا
صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه ، قال : (( اقضيا يوماً آخر مكانه )) .
أخرجه الترمذي ([5])
، والبغوي ([6])
، وأخرجه غيرهما من طريق جعفر ([7]).
هكذا روى هذا الحديث جعفر
بن برقان، عن الزهري، عن عروة ، عن عائشة، متصلاً .
وقد توبع على روايته ،
تابعه سبعة من أصحاب الزهري على هذه الرواية وهم :
صالح بن أبي الأخضر ([8])
، وهو ضعيف يعتبر به عند المتابعة ([9])
.
سفيان بن حسين ([10])
، وهو ثقة في غير الزهري باتفاق العلماء ([11]) .
إسماعيل بن إبراهيم بن
عقبة ([14])
، وهو ثقة ([15])
.
حجاج بن أرطأة ([16])
، وهو صدوق كثير الخطأ والتدليس ([17])
.
عبد الله بن عمر العمري ([18])
، وهو ضعيف ([19])
.
فهؤلاء منهم الثقة ، ومنهم
من يصلح حديثه للمتابعة ، قَدْ رووا الحديث أجمعهم ، عن الزهري ، عن عروة ، عن
عائشة ، متصلاً ، إلا أنه قَدْ تبين بعد التفتيش والتمحيص والنظر أن رواية الاتصال
خطأ ، والصواب : أنّه منقطع بين الزهري وعائشة ، وذكر عروة في الإسناد خطأ
لذا قال الإمام النسائي
عن الرواية الموصولة : (( هذا خطأ )) ([21])، وقد فسّر المزي مقصد
النسائي فقال : (( يعني أن الصواب حديث الزهري ، عن عائشة وحفصة
مرسل ))([22])
.
وقد نص كذلك الترمذي على
أن رواية الاتصال خطأ ، والصواب أنه منقطع وذكر الدليل القاطع على ذلك ، فقال : ((
روي عن ابن جريج ، قال : سألت الزهري ، قلت له : أَحدَّثَكَ عروة ، عن عائشة ؟ ،
قال : لم أسمع عن عروة في هذا شيئاً ، ولكني سَمِعتُ في خلافة سليمان بن عبد الملك([23])
من ناس عن بعض من سأل عائشة عن هذا الحديث )) ([24]) .
ومن قبل سأل الترمذي شيخه
البخاري فَقَالَ : (( سألت محمد بن إسماعيل
البخاري عن هذا الحديث ، فقال : لا يصح حديث الزهري ، عن عروة ، عن
عائشة ))([25])
.
وحكم أبو زرعة وأبو حاتم
الرازيان بترجيح الرواية المنقطعة على الموصولة ([26]) .
قلت: قَدْ رواه الثقات
الأثبات من أصحاب الزهري منقطعاً ، وهم ثمانية أنفس:
مالك بن أنس ([27])
، وهو ثقة إمام أشهر من أن يعرف .
معمر بن راشد ([28])
، وهو ثقة ثبت فاضل ([29]).
عبيد الله بن عمر العمري ([30])
،وهو ثقة ثبت ([31])
.
يونس بن يزيد الأيلي ([32])
،وهو ثقة أحد الأثبات ([33])
.
سفيان بن عيينة ([34])
، وهو ثقة حافظ فقيه إمام حجة ([35])
.
عبد الملك بن عبد العزيز
بن جريج ([36])
، وهو ثقة ([37])
.
محمد بن الوليد الزبيدي ([38])
، وهو ثقة ثبت ([39])
.
فهؤلاء جميعهم رووه عن
الزهري ، عن عائشة منقطعاً ، وروايتهم هذه هي المحفوظة ، وهي تخالف رواية من رواه
متصلاً . وهذا يدلل أن المحدّثين ليس لهم في مثل هذا حكم مطرد ، بل مرجع ذلك إلى
القرائن والترجيحات المحيطة بالرواية .
وللحديث طريق أخرى ([42])
، فقد أخرجه النسائي ([43])
، والطحاوي ([44])
، وابن حبان ([45])
، وابن حزم في المحلى ([46])
، من طريق جرير بن حازم ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن عمرة ([47])
، عن عائشة .
هكذا الرواية وظاهرها
الصحة ، إلا أن جهابذة المحدّثين قَدْ عدوها غلطاً من
جرير بن حازم ، خطّأه في هذا أحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، والبيهقي ([48])
، قال البيهقي : (( والمحفوظ عن يحيى بن سعيد ، عن الزهري ، عن عائشة ، مرسلاً )) ([49])
.
ثم أسند البيهقي إلى أحمد
بن منصور الرمادي([50])
قال: قلت لعلي بن المديني: يا أبا الحسن تحفظ عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن
عائشة ، قالت : أصبحت أنا وحفصة صائمتين. فقال لي: من روى هذا ؟ قلت: ابن وهب ، عن
جرير بن حازم ، عن يحيى بن سعيد . قال : فضحك ، فقال : مثلك يقول هذا ! ، حدثنا :
حماد بن زيد ، عن يحيى بن سعيد ، عن الزهري : أن عائشة وحفصة أصبحتا صائمتين .
وقد أشار النسائي كذلك
إلى خطأ جرير ([51])
.
فهؤلاء أربعة من أئمة
الحديث أشاروا إلى خطأ جرير بن حازم في هذا الحديث ، وعدم إقامته لإسناده .
ولم يرتض ابن حزم هذه
التخطئة، وأجاب عن ذلك فقال: (( لم يتحقق علينا قول من قال أن جرير بن حازم أخطأ
في هذا الخبر إلا أن هذا ليس بشيء ؛ لأن جريراً ثقة، ودعوى الخطأ باطل إلا أن يقيم
المدعي له برهاناً على صحة دعواه ، وليس انفراد جرير بإسناده علة ؛ لأنه ثقة )) ([52])
.
ويجاب عن كلام ابن حزم :
بأن ليس كل ما رواه الثقة صحيحاً ، بل يكون فيه الصحيح وغير ذلك؛ لذا فإن الشذوذ
والعلة إنما يكونان في حديث الثقة ؛ فالعلة إذن هي معرفة الخطأ في أحاديث الثقات ،
ثم إن اطباق أربعة من أئمة الحديث على خطأ جرير ، لم يكن أمراً اعتباطياً ، وإنما
قالوا هذا بعد النظر الثاقب والتفتيش والموازنة والمقارنة . أما إقامة الدليل على
كل حكم في إعلال الأحاديث، فهذا ربما لا يستطيع الجهبذ الناقد أن يعبر عنه إنما هو
شيء ينقدح في نفسه تعجز عبارته عنه ([53]) .
ثم إن التفرد ليس علة كما
سبق أن فصلنا القول فيه في مبحث التفرد ، وإنما هو مُلقٍ لِلضوءِ على العِلّة ومواقع
الخلل وكوامن الخطأ ، ثم إنا وجدنا الدليل على خطأ جرير ابن حازم ، إذ قَدْ خالفه
الإمام الثقة الثبت حماد بن زيد ([54])
، فرواه عن يحيى بن سعيد ولم يذكر عمرة ([55]) .
وللحديث طريق أخرى فقد
أخرجه الطبراني ([56])
من طريق : يعقوب بن مُحَمَّد الزهري ، قال : حدثنا هشام بن عبد الله بن عكرمة بن
عبد الرحمان ، عن الحارث بن هشام ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة .
قال الطبراني عقب روايته
له : (( لم يرو هذا الحديث عن هشام بن عروة إلا هشام ابن عكرمة . تفرد به يعقوب بن
مُحَمَّد الزهري )) .
قلت : هذه الرواية ضعيفة
لا تصلح للمتابعة ، إذ فيها علتان :
الأولى : يعقوب بن
مُحَمَّد الزهري ، فيه كلام ليس باليسير ، فقد قال فيه الإمام أحمد : (( ليس بشيء ))
، وَقَالَ مرة : (( لا يساوي حديثه شيئاً )) ، وَقَالَ الساجي :
(( منكر الحديث )) ([57])
.
والثانية : هشام بن عبد
الله بن عكرمة،قال ابن حبان: ((ينفرد عن هشام بن عروة بما لا أصل له من حديثه
–كأنه هشام آخر–،لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد ))([58]).
وللحديث طريق أخرى ، فقد
أخرجه ابن أبي شيبة ([59])
من طريق خصيف بن
عبد الرحمان ، عن سعيد بن جبير : أن عائشة وحفصة … الحديث . وهو طريق ضعيف لضعف
خصيف بن عبد الرحمان ، فقد ضعّفه الإمام أحمد ، وأبو حاتم ، ويحيى القطان ، على أن
بعضهم قَدْ قواه ([60])
.
وللحديث طريق أخرى فقد
أخرجه البزار ([61])
، والطبراني ([62])
من طريق حماد بن الوليد ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر … الحديث .
وهو طريق
ضعيف ، قال الهيثمي : (( فيه حماد بن
الوليد ضعفه الأئمة )) ([63])
.
وللحديث طريق أخرى فقد
أخرجه العقيلي([64])،
والطبراني([65])
من طريق مُحَمَّد بن أبي سلمة المكي ، عن مُحَمَّد بن عمرو([66]) ، عن أبي سلمة ، عن
أبي هريرة ، قال : أهديت لعائشة وحفصة … الحديث. وهو طريق ضعيف، قال الهيثمي: ((
فيه مُحَمَّد بن أبي سلمة المكي ، وقد ضُعِّفَ بهذا الحديث )) ([67])
.
خلاصة القول : إن الحديث
لم يصح متصلاً ولم تتوفر فيه شروط الصحة ؛ فهو حديث ضعيف لانقطاعه ؛ ولضعف طرقه
الأخرى ([68])
.
أثر هذا الحديث في اختلاف
الفقهاء ( حكم من أفطر في صيام التطوع )
وما دمنا قَدْ تكلمنا
بإسهاب عن حديث الزهري متصلاً ومنقطعاً ، وذكرنا طرقه وشواهده ، وبيّنا ما يكمن
فيها من ضعف وخلل ، فسأتكلم عن أثر هذا الحديث في اختلاف الفقهاء ، فأقول : من
شَرَعَ في صوم تطوع ، أو صلاة تطوع ولم يتم نفله ، هل يجب عليه القضاء أم لا ؟
اختلف الفقهاء في ذلك على
ثلاثة أقوال :
القول الأول :
ذهب بعض العلماء إلى أن
النفل يجب على المكلف بالشروع فيه ، فإذا أبطل وجب عليه قضاؤه صوماً كان أم صلاةً
أم غيرهما .
وهو مذهب الحنفية ([78])
، والمالكية ([79])،
والظاهرية ([80])
.
والحجة لهذا المذهب :
قوله تَعَالَى : ]
وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [ ([81]) : قال الجصاص الحنفي
: (( يحتج به في أن كل من دخل في قربة لا يجوز له الخروج منها قبل إتمامها ؛ لما
فيه من إبطال عمله نحو الصلاة والصوم والحج وغيره )) ([82]) .
وللشافعي جواب عن هذا
فقال : (( المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض ، فنهي الرجل عن إحباط ثوابه .
فأما ما كان نفلاً فلا ؛ لأنه ليس واجباً عليه ، فإن زعموا أن اللفظ عام فالعام
يجوز تخصيصه ، ووجه تخصيصه أن النفل تطوع ، والتطوع يقتضي تخييراً )) ([83])
.
جعلوا عمدة قولهم حديث
الزهري السابق ، وكأنهم رجحوا الاتصال على الانقطاع ، أو أخذوا بالحديث لما له من
طرق ، وجعل ابن حزم الظاهري عمدة قوله حديث جرير بن حازم ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة
، عن عائشة . ودافع عن زيادة جرير([84])
. وقد تقدم الكلام بأن جريراً مخطئٌ في حديثه ، وقد ذكرنا كلام ابن حزم وأجبنا عنه
.
القول الثاني :
ذهب فريق من الفقهاء إلى
استحباب الإتمام ولا قضاء عليه ، وهو مذهب أكثر أهل العلم، وهو مروي عن : علي ([85])
، وعبد الله بن مسعود ([86])
، وعبد الله بن عمر ([87])
،
وابن عباس ([88])
، وجابر بن عبد الله ([89])
.
وهو مذهب الشافعية ([94])
، والحنابلة ([95])
.
والحجة لهم : وهو أن حديث
الزهري لم يصح ، فهو ضعيف منقطع ، ولم يروا الآية دليلاً لذلك ، فقد احتجوا بجملة
من الأحاديث ، منها :
حديث عائشة بنت طلحة ([96])،
عن عائشة أم المؤمنين ، قالت : دخل عَلَيَّ النبيُّ r ذات يوم ، فقال : هل عندكم شيءٌ ؟ فقلنا
: لا ، قال : فإني إذن صائم . ثم أتانا يوماً آخر ، فقلنا : يا رسول الله ، أهدي
لنا حيس ([97])
، فقال : أَرينيه ، فلقد أصبحت صائماً ، فأكل )) . رواه مسلم ([98])
.
عن أبي جحيفة ([99])
قال : (( آخى النبي r بين سلمان([100])
وأبي الدرداء ، فزار سلمان
أبا الدرداء ، فرآى أم الدرداء([101])
متبذلة ([102])،
فقال لها : ما شأنك ؟ قالت : أخوك أبو الدرداء لَيْسَ لَهُ حاجة في الدنيا . فجاء
أبو الدرداء فصنع لَهُ طعاماً ، فَقَالَ : كُلْ ، قَالَ: فإني صائم ، قَالَ: ما
أنا بآكل حَتَّى تأكل ، قَالَ: فأكل ، فَلَمَّا كَانَ الليل ذهب أبو الدرداء يقوم
، فَقَالَ : نَمْ ، فنام ، ثُمَّ ذهب يقوم ، فَقَالَ: نَمْ ، فَلَمَّا كَانَ من
آخر الليل ، قَالَ سلمان : قم الآن ، فصليا ، فَقَالَ لَهُ سلمان : إن لربك عليك
حقاً ، ولنفسك عليك حقاً ، ولأهلك عليك حقاً ، فاعطِ كُلّ ذي حق حقه ، فأتى
النَّبِيّ r فذكر لَهُ ، فَقَالَ النَّبِيّ r : (( صدق سلمان )) . أخرجه البُخَارِيّ ([103])،
والترمذي ([104])،
وابن خزيمة ([105])
، والبيهقي ([106])
.
فهذه أحاديث صحيحة أجازت
لصائم النفل الإفطار ، ولم تأمره بقضاء .
حديث أم هانئ عن النبي r قال : (( الصائم المتطوع أمين نفسه ، إن شاء صام وإن شاء أفطر )).
أخرجه الإمام أحمد ([107])،
والترمذي ([108])،
والنسائي ([109])،
والدارقطني ([110])،
والبيهقي ([111])
. قال الترمذي : (( في إسناده مقال )) ([112]) .
القول الثالث :
التفصيل وهو مذهب
المالكية ، قالوا : إن أفطر بعذر جاز ، وإن أفطر بغير عذر لزمه القضاء ([113])
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق