تابع لما قبله صفحة 10.
: مَالِك ومعمر و ابن عيينة ، فإذا اجتمع اثنان عَلَى قولٍ أخذنا بِهِ ، وتركنا قَوْل الآخر )) ([1]) .
قَالَ العلائي : (( إن الجماعة إذا اختلفوا في إسناد حَدِيث كَانَ القَوْل فِيْهِمْ للأكثر عدداً أو للأحفظ و الأتقن... ويترجح هَذَا أيضاً من جهة المَعْنَى ، بأن مدار قبول خبر الواحد عَلَى غلبة الظن ، وعند الاختلاف فِيْمَا هُوَ مقتضى لصحة الحَدِيْث أو لتعليله ، يرجع إلى قَوْل الأكثر عدداً لبعدهم عن الغلط و السهو ، وَذَلِكَ عِنْدَ التساوي في الحفظ والإتقان . فإن تفارقوا واستوى العدد فإلى قَوْل الأحفظ و الأكثر إتقاناً ، وهذه قاعدة متفق عَلَى العَمَل بِهَا عِنْدَ أهل الحَدِيْث )) ([2]) .
القَوْل الرابع : يحمل المَوْقُوْف عَلَى مَذْهَب الرَّاوِي ، و المُسْنَد عَلَى أَنَّهُ روايته فَلاَ تعارض([3]). وَقَدْ رجح النَّوَوِيّ من هذِهِ الأقوال القَوْل الأول([4]) ، ومشى عَلَيْهِ في تصانيفه ، و أكثر من القَوْل بِهِ .
والذي ظهر لي – من صنيع جهابذة المُحَدِّثِيْنَ ونقادهم – : أنهم لا يحكمون عَلَى الحَدِيْث الَّذِي اختلف فِيهِ عَلَى هَذَا النحو أول وهلة ، بَلْ يوازنون ويقارنون ثُمَّ يحكمون عَلَى الحَدِيْث بما يليق بِهِ ، فَقَدْ يرجحون الرِّوَايَة المرفوعة ، وَقَدْ يرجحون الرِّوَايَة الموقوفة ، عَلَى حسب المرجحات والقرائن المحيطة بالروايات ؛ فعلى هَذَا فإن حكم المُحَدِّثِيْنَ في مِثْل هَذَا لا يندرج تَحْتَ قاعدة كلية مطردة تقع تحتها جَمِيْع الأحاديث ؛ لِذلِكَ فإن مَا أطلق الإمام النَّوَوِيّ ترجيحه يمكن أن يَكُون مقيداً عَلَى النحو الآتي :
الحكم للرفع – لأن راويه مثبت وغيره ساكت ، وَلَوْ كَانَ نافياً فالمثبت مقدم عَلَى النافي ؛ لأَنَّهُ علم مَا خفي - ، إلا إذَا قام لدى الناقد دليل أو ظهرت قرائن يترجح معها الوقف .
وسأسوق أمثلة لأحاديث اختلف في رفعها ووقفها متفرعة عَلَى حسب ترجيحات المُحَدِّثِيْنَ .
فمثال مَا اختلف في رفعه ووقفه وكانت كلتا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيْحَة :
حَدِيث عَلِيٍّ t : (( ينضح من بول الغلام ، ويغسل بول الجارية )). قَالَ الإمام
التِّرْمِذِي : (( رفع هشام الدستوائي هَذَا الحَدِيْث عن قتادة وأوقفه سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، وَلَمْ يرفعه )) ([5]) .
وَقَالَ الحافظ ابن حجر : (( إسناده صَحِيْح إلا أَنَّهُ اختلف في رفعه ووقفه ، وَفِي وصله وإرساله ، وَقَدْ رجح البُخَارِيّ صحته وكذا الدَّارَقُطْنِيّ )) ([6]) .
والرواية المرفوعة : رواها معاذ بن هشام ([7])، قَالَ: حَدَّثَني أبي([8])، عن قتادة ([9])، عن أبي حرب بن أبي الأسود ([10]) ، عن أبيه ([11]) ، عن عَلِيّ بن أبي طالب ، مرفوعاً ([12]) .
قَالَ البزار : (( هَذَا الحَدِيْث لا نعلمه يروى عن النَّبيّ r ، إلا من هَذَا الوجه بهذا الإسناد ، وإنما أسنده معاذ بن هشام ، عن أبيه ، وَقَدْ رَواهُ غَيْر معاذ بن هشام ، عن قتادة، عن أبي حرب ، عن أبيه ، عن عَلِيّ ، موقوفاً )) ([13]) .
أقول : إطلاق البزار في حكمه عَلَى تفرد معاذ بن هشام بالرفع غَيْر صَحِيْح إِذْ إن معاذاً قَدْ توبع عَلَى ذَلِكَ تابعه عَبْد الصمد بن عَبْد الوارث ([14]) عِنْدَ أحمد ([15]) ، والدارقطني ([16]) ، لذا فإن قَوْل الدَّارَقُطْنِيّ كَانَ أدق حِيْنَ قَالَ : (( يرويه قتادة ، عن أبي حرب بن أبي الأسود ، عن أبيه ، رفعه هشام بن أبي عَبْد الله من رِوَايَة ابنه معاذ وعبدالصمد بن عَبْد الوارث ، عن هشام ، ووقفه غيرهما عن هشام )) ([17]) .
والرواية الموقوفة : رواها يَحْيَى بن سعيد ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أبي حرب بن أبي الأسود ، عن أبيه ، عن عَلِيّ ، فذكره موقوفاً ([18]) .
فالرواية الموقوفة إسنادها صَحِيْح عَلَى أن الحَدِيْث مرفوعٌ صححه جهابذة المُحَدِّثِيْنَ: البُخَارِيّ والدارقطني - كَمَا سبق - وابن خزيمة ([19]) ، وابن حبان ([20]) ، والحاكم([21]) - وَلَمْ يتعقبه الذهبي – ، ونقل صاحب عون المعبود عن المنذري([22]) قَالَ : (( قَالَ البُخَارِيّ : سعيد بن أبي عروبة لا يرفعه وهشام يرفعه ، وَهُوَ حافظ )) ([23]) .
أقول : هكذا صَحّح الأئمة رفع هَذَا الحَدِيْث ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ موقوفاً أيضاً ؛ وهذا يدل عَلَى أن الحَدِيْث إذا صَحَّ رفعه ، ووقفه ، فإن الحكم عندهم للرفع ، وَلاَ تضر الرِّوَايَة الموقوفة إلا إذا قامت قرائن تدل عَلَى أن الرفع خطأ .
أثر هَذَا الحَدِيْث في اختلاف الفُقَهَاء ( كيفية التطهر من بول الأطفال )
وما دمت قَدْ فصلت القَوْل في حَدِيث عَلِيّ t مرفوعاً وموقوفاً فسأذكر اختلاف الفُقَهَاء في كيفية التطهر من بول الأطفال ([24]) .
وقبل أن أذكر آراء الفُقَهَاء، أذكر جملة من الأحاديث المتعلقة بالمسألة لأحيل عَلَيْهَا عِنْدَ الإشارة إلى الأدلة طلباً للاختصار .
فأقول :
صَحَّ عن عائشة زوج النَّبيّ r أَنَّهَا قَالَتْ : (( أتي النَّبيّ r بصبي ، فبال عَلَى ثوبه ، فدعا النَّبيّ r بماء فأتبعه إياه )) . رَواهُ مَالِك ([25]) ، وزاد أحمد وَمُسْلِم وابن ماجه في روايتهم : (( وَلَمْ يغسله )) ([26]) .
صَحَّ عن أم قيس ([27]) بنت محصن (( أَنَّهَا أتت بابن صَغِير لَهَا –لَمْ يأكل الطعام– إلى رَسُوْل الله r ؛ فأجلسه في حجره ، فبال عَلَى ثوبه ؛ فدعا رَسُوْل الله r بماءٍ ، فنضحه وَلَمْ يغسله )) . رَواهُ مَالِك ، والشيخان : البُخَارِيّ وَمُسْلِم ([28]) .
حَدِيث عَلِيّ t وَقَدْ سبق : (( ينضح من بول الغلام ، ويغسل من بول الجارية )) .
صَحَّ عن أبي السمح ([29]) t عن النَّبيّ r قَالَ : (( يغسل من بول الجارية ، ويرش من بول الغلام )) .
أخرجه : أبو دَاوُد ([30]) ، وابن ماجه ([31]) ، وَالنَّسَائِيّ ([32]) ، وابن خزيمة ([33]) ، والدارقطني ([34]) ، والمزي ([35]).
وَقَد اختلف الفُقَهَاء في الأحكام المستفادة من هذِهِ الأحاديث عَلَى مذاهب أشهرها مَا يأتي :
المذهب الأول :
يرى أن التطهير من بول الرضيع – كالتطهير من بول الكبير – إنما يَكُون بغسله ، وَلاَ فرق في ذَلِكَ بَيْنَ بول رضيع أكل الطعام أو لَمْ يأكل ، كَمَا أَنَّهُ لا فرق في ذَلِكَ بَيْنَ الذكر والأنثى . وإلى ذَلِكَ ذهب أبو حَنِيْفَة ، وَهُوَ المشهور عن مَالِك عَلَى خِلاَف بَيْنَهُمَا في كيفية الغسل الَّذِي يجزئ في التطهير من النجاسة ، فإن أبا حَنِيْفَة يشترط لتطهير النجاسة غَيْر المرئية تعدد مرات غسلها – ثلاثاً أو سبعاً والعصر بَعْدَ كُلّ غسلة ([36])، وَلَمْ يشترط مَالِك أكثر من صب الماء عَلَى النجاسة بحيث يغمرها ، ويذهب لونها وطعمها ورائحتها وَلاَ يشترط لإزالة النجاسة إمرار اليد والعصر ، ونحو ذَلِكَ ([37]) .
وَقَدْ حملوا : (( إتباع الماء )) و (( نضحه )) و (( رشه )) ، هذِهِ الألفاظ كلها حملوها عَلَى مَعْنَى الغسل ، وَقَدْ أفاض الطحاوي في إيراد الآثار الدالة عَلَى أن هذِهِ الألفاظ قَدْ تطلق ويراد بِهَا الغسل ([38]) .
لَكِن هَذَا يؤخذ عَلَيْهِ : ان هذِهِ الألفاظ ، وإن كَانَتْ تطلق أحياناً عَلَى الغسل فإن الحال في مسألتنا هذِهِ لا يحتمل ذَلِكَ ؛ لأَنَّهُ يؤدي إِلَى تناقض تتنَزه عَنْهُ نصوص الشريعة ؛ فحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عَنْهَا قَدْ جاء بلفظ : (( فدعا النَّبيّ r بماءٍ فأتبعه وَلَمْ يغسله )) فإذا جَعَلَ أتبعه بمعنى غسله فإن المَعْنَى حينئذ يَكُون فغسله وَلَمْ يغسله .
وَكَذَلِكَ حَدِيث أم قيس بنت محصن قَدْ جاء بلفظ : (( فنضحه وَلَمْ يغسله )) فلو حمل النضح عَلَى مَعْنَى الغسل لكان التقدير : فغسله وَلَمْ يغسله ، وهذا تناقض غَيْر معقول .
وأيضاً فإن النَّبيّ r عطف الغسل عَلَى النضح في حَدِيث عَلِيّ t ، وعطف الرش عَلَى الغسل في حَدِيث أبي السمح t ، والعطف يَقْتَضِي المغايرة . فلو أريد بهما مَعْنَى واحدٌ ، لكان عبثاً يتنَزه عَنْهُ الشارع ([39]) .
المذهب الثَّانِي :
نُسِبَ إلى الشَّافِعيّ قَوْلٌ : بأن بول الصبي الَّذِي لَمْ يأكل الطعام طاهر . ونسبت رِوَايَة إلى الإمام مَالِك : أَنَّهُ لا يغسل بول الجارية وَلاَ الغلام قَبْلَ أن يأكلا الطعام .
لَكِنْ ذكر الباجي([40]) أن هذِهِ الرِّوَايَة عن مَالِك شاذة ([41]). وذكر النَّوَوِيّ أن نقل هَذَا القَوْل عن الشَّافِعيّ باطل([42]) .
لِذلِكَ لا حاجة للتعليق عَلَى هَذَا المذهب .
المذهب الثَّالِث :
ينضح بول الطفل الرضيع الَّذِي لَمْ يأكل الطعام ، فإذا أكل الطعام كَانَ حكم بوله كحكم بول الكبير يغسل .
وَقَدْ فسّر هَذَا المذهب النضح : بأنه غمر مَوْضِع البول ومكاثرته بالماء مكاثرة لا يَبْلُغ جريانه وتردده وتقطره . فَهُوَ بمعنى الغسل الَّذِي سبق ذكره عن مَالِك ([43]) .
وَقَدْ اعتمد هَذَا المذهب حَدِيث أم قيس بنت محصن ، فَقَدْ جاء بلفظ : ((أَنَّهَا أتت بابن لَهَا صَغِير لَمْ يأكل الطعام ... الخ )) .
وَقَد اعترض ابن حزم – القائل : بأن النضح يكفي في التطهير من بول الذكر كبيراً أو صغيراً – : بأن تخصيص ذَلِكَ بالصبي الَّذِي لَمْ يأكل لَيْسَ من كلام النَّبيّ r ، لِذلِكَ فالحديث لا دلالة فِيهِ عَلَى هَذَا التحديد ([44]) .
ويجاب عَلَى ذَلِكَ : بأنه نجاسة الأبوال المستتبعة لوجوب غسلها ، كُلّ ذَلِكَ مستيقن بالأحاديث العامة الدالة عَلَى ذَلِكَ ، كحديث ابن عَبَّاس في القبرين اللذين أخبر رَسُوْل الله r أن صاحبيهما يعذبان ، وَقَالَ : (( أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة ، وأما الآخر فكان لا يستنْزه من البول )) . أخرجه البُخَارِيّ وَمُسْلِم ([45]) .
وحديث أبي هُرَيْرَة مرفوعاً : (( استنْزهوا من البول ؛ فإن عامة عذاب القبر مِنْهُ )). رَواهُ أحمد ([46])، وابن ماجه ([47])، وابن خزيمة ([48])، والدارقطني ([49])، والحاكم ([50])، وصححه البُخَارِيّ ([51]) .
وحديث ابن عَبَّاس مرفوعاً : (( تَنَزهوا من البول ، فإن عامة عذاب القبْر مِنْهُ )) . أخرجه : البزار ([52]) ، والطبراني ([53]) ، والدارقطني ([54]) ، والحاكم ([55]) .
فنجاسة بول الآدمي ووجوب غسله كُلّ ذَلِكَ متيقن بهذه الأحاديث ، وتخصيص بول الصبي الَّذِي لَمْ يأكل الطعام بالنضح متيقن بحديث أم قيس بنت محصن ، وما عدا ذَلِكَ مشكوك فِيهِ ، فَلاَ يترك اليقين للشك .
والاكتفاء بالنضح في التطهير من بول الرضيع خصه أحمد وجمهور الشافعية بالصبي الَّذِي لَمْ يأكل الطعام ، أما بول الصبية فَلاَ يجزئ فِيهِ إلا الغسل ([56]) .
أما الشَّافِعيّ نَفْسه فَقَدْ نَصَّ عَلَى جواز الرش عَلَى بول الصبي مَا لَمْ يأكل الطعام ، واستدل عَلَى ذَلِكَ بالحديث ، ثُمَّ قَالَ : (( وَلاَ يبين لي في بول الصبي والجارية فرق من السُّنَّة الثابتة ، وَلَوْ غسل بول الجارية كَانَ أحب إليَّ احتياطاً ، وإن رش عَلَيْهِ مَا لَمْ تأكل الطعام أجزأ ، إن شاء الله تَعَالَى )) ([57]) .
وَقَدْ ذكر النَّوَوِيّ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى – أَنَّهُ لَمْ يذكر عن الشَّافِعيّ غَيْر هَذَا ([58]) ، وَقَالَ البَيْهَقِيّ: (( والأحاديث المسندة في الفرق بَيْنَ بول الغلام والجارية في هَذَا الباب إذَا ضُمَّ بعضها إلى بَعْض قويت ، وكأنها لَمْ تثبت عِنْدَ الشَّافِعيّ – رَحِمَهُ اللهُ – حِيْنَ قَالَ : (( وَلاَ يتبين لي في بول الصبي والجارية فرق من السُّنَّة الثابتة )) ([59]) .
وقول الشَّافِعيّ هَذَا مرويٌّ عن النخعي ، وَهُوَ رِوَايَة عن الأوزاعي ، ووجه لبعض الشافعية ، ووصفه النَّوَوِيّ : بأنه ضَعِيْف ([60]).
وهنا يأتي دور حَدِيث عَلِيّ t ومثله حَدِيث أبي السمح t خادم النَّبيّ r ، فهي أحاديث ثابتة ، وَقَدْ فرقت بَيْنَ بول الصبي وبين بول الصبية .
وَقَدْ ثبت هَذَا عِنْدَ أحمد ؛ لِذلِكَ أخذ بِهِ وفرق بَيْنَهُمَا في الحكم ، أما الشَّافِعيّ فَقَدْ صرح بأنه لَمْ يثبت عنده من السُّنَّة مَا يفرق بَيْنَهُمَا ؛ لِذلِكَ رأى أن النضح يكفي فِيْهِمَا – وإن كَانَ الأحب إليه غسل بول الصبي احتياطاً – ؛ وَلَوْ ثبت عِنْدَ الشَّافِعيّ هذِهِ الأحاديث لأخذ بِهَا ، فهذا هُوَ شأنه وشأن الفُقَهَاء كافة لا يتخطون السُّنَّة الثابتة عندهم إلى غيرها ، مَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عندهم معارض ؛ ولذلك أطبق أصحاب الشَّافِعيّ عَلَى الفرق في الحكم بَيْنَ بول الصبي والصبية لما ثبتت عندهم هذِهِ الأحاديث ([61]) .
نموذج آخر : وهو مثال لما تترجح فِيهِ الرِّوَايَة الموقوفة
سبق أن ذكرت أن الحكم في اختلاف الرفع والوقف لا يندرج تَحْتَ قاعدة كلية ، فَقَدْ تترجح الرِّوَايَة الموقوفة ، وَقَدْ تترجح الرِّوَايَة المرفوعة ؛ وَذَلِكَ حسب المرجحات والقرائن المحيطة بالرواية ، وهذه المرجحات مختلفة متفاوتة ؛ إِذْ قَدْ تترجح رِوَايَة الأحفظ ، أو الأكثر أو الألزم ([62]) ، وما إلى غَيْر ذَلِكَ من المرجحات الَّتِي يراها نقاد الحَدِيْث وصيارفته ، ومما رجحت فِيهِ الرِّوَايَة الموقوفة :
مَا رَواهُ عائذ بن حبيب ([63]) ، قَالَ : حَدَّثَني عامر بن السِّمْط ([64]) ، عن أبي الغَريف ([65]) ، قَالَ : أُتي عَلِيٌّ بوَضوءٍ ، فمضمض واستنشق ثلاثاً ، وغسل وجهه ثلاثاً وغسل يديه وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ، ثُمَّ مسح برأسه ، ثُمَّ غسل رجليه ، ثُمَّ قَالَ : هكذا رأيت رَسُوْل الله r توضأ ، ثُمَّ قرأ شَيْئاً من القُرْآن ، ثُمَّ قَالَ : (( هَذَا لِمَنْ لَيْسَ بجنب ، فأما الجنب فَلاَ ، وَلاَ آية )) .
رَواهُ : الإِمَام أحمد بن حَنْبَل ([66]) ، والبخاري في " تاريخه " ([67]) ، وَالنَّسَائِيّ في "مُسْنَد عَلِيّ" ([68]) ، وأبو يعلى([69]) ، والضياء ([70]) المقدسي ([71]) ؛ جميعهم من طريق عائذ بن حبيب بهذا الإسناد .
والذي يهمنا من هَذَا الحَدِيْث طرفه الأخير .
وَقَدْ خولف عائذ في هَذَا الحَدِيْث ، فَقَدْ أخرجه ابن أبي شَيْبَة ([72]) من طريق شريك ابن عَبْد الله النخعي . والدارقطني ([73]) ، عن يزيد بن هارون([74]) . والبيهقي ([75]) ، عن الحَسَن بن صالح بن حي . وأخرجه البَيْهَقِيّ ([76]) أيضاً ، عن خالد بن عَبْد الله([77]) ؛ أربعتهم: ( شريك بن عَبْد الله، ويزيد بن هارون، والحسن بن صالح بن حي ، وخالد بن عَبْد الله )، رووه عن عامر بن السمط ([78])، عن أبي الغَريف الهمداني، عن عَلِيّ بن أبي طَالِب ، موقوفاً .
فرواية الجمع أصح وأولى ؛ وَقَدْ صحح الإمام الدَّارَقُطْنِيّ الوقف ، فَقَالَ عقب الرِّوَايَة الموقوفة : (( هُوَ صَحِيْح عن عَلِيّ )) ([79]) .
ومما يؤكد صِحَّة رِوَايَة الجمع أن عَبْد الرزاق ([80]) أخرجه عن سُفْيَان الثَّوْرِيّ ، عن عامر الشَّعْبيّ ، وابن المنذر ([81]) أخرجه عن إسحاق ، عن عامر السعدي ؛ كلاهما ( عامر الشَّعْبيّ وعامر السعدي ) عن أبي الغريف ، عن عَلِيّ بن أبي طالب ، بِهِ موقوفاً .
كُلّ هَذَا يؤكد خطأ عائذ بن حبيب في رفعه الحَدِيْث ؛ ولعل هَذَا مِمَّا أنكر عَلَيْهِ .
أثر هَذَا الحَدِيْث في اختلاف الفُقَهَاء ( حكم قِرَاءة القُرْآن للجنب )
اختلف العُلَمَاء في حكم قِرَاءة القُرْآن للجنب عَلَى قولين :
القَوْل الأول :
يحرم عَلَى الجنب قِرَاءة القُرْآن ، وَهُوَ مَذْهَب عامة عُلَمَاء المسلمين ، وبه قَالَ الحنفية ([82]) ، والمالكية ([83]) ، والشافعية ([84]) ، والحنابلة ([85]) .
الحجة لَهُمْ :
استدلوا بحديث عَلِيّ السابق مرفوعاً إلى النَّبيّ r ؛ قَالَ ابن المنذر : (( احتج الذين كرهوا للجنب قِرَاءة القُرْآن بحديث عَلِيّ )) ([86]) . وكأنهم قدموا الرفع عَلَى الوقف كَمَا هُوَ مَذْهَب جَمَاعَة من المُحَدِّثِيْنَ ؛ أو لما للحديث من شواهد قَدْ يتقوى بِهَا .
مَا رَوَى عَبْد الله بن سلمة ([87])، عن عَلِيّ بن أبي طَالِب ، أنه قَالَ : (( كَانَ رَسُوْل الله r يقرئنا القُرْآن عَلَى كُلّ حالٍ مَا لَمْ يَكُنْ جنباً )) . أخرجه بهذا اللفظ ابن أبي شَيْبَة ([88]) ، والإمام أحمد ([89]) ، والترمذي ([90]) ، وَالنَّسَائِيّ ([91]) ، وأبو يعلى ([92]) ، وأخرجه غيرهم بلفظ مقارب ([93]) .
قَالَ التِّرْمِذِي : (( حَدِيث عَلِيٍّ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ )) ([94]) .هكذا قَالَ الإمام التِّرْمِذِي ([95]) -يرحمه الله- إلا أن جهابذة المُحَدِّثِيْنَ قَدْ ضعّفوا هَذَا الحَدِيْث ، قَالَ الإمام النَّوَوِيّ : (( خالف التِّرْمِذِي الأكثرون فضعفوا هَذَا الحَدِيْث ))([96]) ؛ وَقَالَ البُخَارِيّ : (( قَالَ شُعْبَة عن عُمَرو بن مرة ([97]) قَالَ : كَانَ عَبْد الله يحدثنا فنعرف وننكر، وكَانَ قَدْ كبر ))([98]). وَقَالَ الخَطَّابِيّ : (( كَانَ أحمد يوهن هَذَا الحَدِيْث )) ([99]). وَقَالَ البزار عقب
تخريجه الحَدِيْث : ((ذ وهذا الحَدِيْث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن عَلِيّ ، وَلاَ يروى عن عَلِيّ إلا من حَدِيث عَمْرو بن مرة ، عن عَبْد الله بن سلمة ، عن عَلِيّ ، وَكَانَ عَمْرو بن مرة يحدِّث عن عَبْد الله بن سلمة فَيَقُوْلُ : يعرف في حديثه وينكر )) ([100]).
وَقَالَ البُخَارِيّ : (( عبد الله بن سلمة أبو العالية الكوفي لا يتابع في حديثه ))([101])، وَقَالَ الشَّافِعيّ في (سُنَن حرملة):(( إن كَانَ هَذَا الحَدِيْث ثابتاً ، ففيه دلالة عَلَى تحريم القُرْآن عَلَى الجنب )) ، وَقَالَ في (جماع كِتَاب الطهور) :(( أهل الحَدِيْث لا يثبتونه ))([102]).
قَالَ البَيْهَقِيّ : (( إنما قَالَ ذَلِكَ لأن عَبْد الله بن سلمة راويه كَانَ قَدْ تغير ، وإنما رَوَى هَذَا الحَدِيْث بعدما كبر ، قَالَه شُعْبَة ))([103]). ومع كُلّ هَذَا فَقَدْ قَالَ الحافظ ابن حجر : (( الحق أَنَّهُ من قبيل الحَسَن ، يصلح للحجة ))([104]). وعلى تقدير صلاحيته للاحتجاج ، فَلاَ حجة فِيهِ ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نهيٌّ عن أن يقرأ الجنب القُرْآن ، وإنما هُوَ فعلٌ مِنْهُ عَلَيْهِ السلام لا يلزم ، وَلاَ بيّن u أَنَّهُ إِنَّمَا يمتنع من قِرَاءة القُرْآن من أجل الجنابة ([105]) .
وما روي عن ابن عُمَر عن النَّبيّ r قَالَ : (( لا تقرأ الحائض وَلاَ الجنب شيئاً من القُرْآن )) .
أخرجه التِّرْمِذِي([106])، وابن ماجه([107])، و الدَّارَقُطْنِيّ([108])، والبيهقي([109])، و الخطيب([110]). وَهُوَ حَدِيث ضَعِيْف لضعف إسناده فَهُوَ من رِوَايَة إِسْمَاعِيْل بن عياش ، عن موسى بن عُقْبَة ، عن نافع ، عن ابن عُمَر . و إسماعيل بن عياش منكر الحَدِيْث عن أهل الحجاز وأهل العراق ([111])، وحديثه هَذَا عن أهل الحجاز؛ لأن موسى بن عقبة مدني ([112]).
القَوْل الثَّانِي : يجوز للجنب قِرَاءة القُرْآن . وهذا القَوْل مرويٌّ عن ابن عَبَّاس([113])، وسعيد بن المسيب ([114])، و عكرمة ([115])، وربيعة الرأي ([116])، وسعيد بن جبير ([117]). وَهُوَ قَوْل ابن حزم الظاهري ونقله عن دَاوُد وعامة أصحابهم([118]).
واختاره ابن المنذر([119]). و الحجة لهذا المذهب :
مَا صَحَّ أَنَّهُ عليه الصَّلاَة والسلام : ((كَانَ يذكر الله عَلَى كُلّ أحيانه )). أخرجه مسلم([120])، وغيره([121]).
قالوا : و القُرْآن ذكر.([122])
قَالَ أبو بَكْر بن المنذر : (( فَقَالَ بعضهم: الذكر قَدْ يَكُون بقراءةِ القُرْآن و غيره ، فكلُّ ما وقع عَلَيْهِ اسم ذكر الله فغير جائز أن يمنع مِنْهُ أحدٌ([123]) ، إذا كَانَ النَّبيّ r لا يمتنع من ذكر الله عَلَى أحيانه ))([124]).
وأجاب أصحاب المذهب الأول عن هَذَا : بأن المراد من الذكر غَيْر القُرْآن ، فَهُوَ المفهوم عند الإطلاق([125]) .
ويجاب عن هَذَا : بأن التخصيص لا دليل عَلَيْهِ ، فالأصل العموم حَتَّى يأتي دليل يخصصه . ولذا قَالَ القرطبي([126]) : (( أصل الذكر التنبه بالقلب للمذكور و التيقظ لَهُ ، وسمي الذكر باللسان ذكراً لأَنَّهُ دلالة عَلَى الذكر القلبي ؛ غَيْر أَنَّهُ لما كثر إطلاق الذكر عَلَى القَوْل اللساني صار هُوَ السابق للفهم))([127]). فالتخصيص عرفي لا شرعي .
وقالوا أيضاً: لَمْ يصح دليل في منع المحدِث حدثاً أكبر من قِرَاءة القُرْآن ، و الأصل عدم التحريم . وَقَدْ خالف هذين المذهبين جَمَاعَة من الفُقَهَاء ففرقوا بَيْنَ القليل و الكثير ، و قالوا : تجوز قِرَاءة الآية و الآيتين . روي ذَلِكَ عن : عَبْد الله([128]) بن مغفل([129]) ، ومحمد الباقر([130])، ورواية عن عكرمة([131]) ، وسعيد بن جبير([132]) .
وَقَدْ شدد ابن حزم النكير عَلَى هَذَا القَوْل ، وعدَّها أقوالاً فاسدة لا يعضدها دليل من قرآن أو سنة صَحِيْحَة وَلاَ سقيمة ، ولا من إجماع ، وَلاَ من قَوْل صاحب ، وَلاَ من قياس ، وَلاَ من رأي سديد ؛ لأن بَعْض الآية والآية قرآن بلا شك ، وَلاَ فرق بَيْنَ أن يباح لَهُ آية أو أن يباح لَهُ أخرى ، أو بَيْنَ أن يمنع من آية أو يمنع من أخرى([133]).
ومما تنبغي الإشارة إِليهِ مَذْهَب الإمام مَالِك ، وَهُوَ أَنَّهُ أجاز قِرَاءة القُرْآن للحائض و النفساء دُوْنَ الجنب([134]) .
والحجة للإمام مَالِك في تفريقه بَيْنَ الجنب ، وبين الحائض و النفساء : أن الحيض والنفاس مدتها طويلة ؛ فلو منعناهما من قِرَاءة القُرْآن لتعرضتا لنسيانه([135]).
وَقَدْ أجاب ابن حزم عن هَذَا فَقَالَ : (( هُوَ محال ؛ لأَنَّهُ إن كَانَتْ قراءتها للقرآن حراماً فَلاَ يبيحه لَهَا طول أمرها ، وإن كَانَ ذَلِكَ لَهَا حلالاً فَلاَ مَعْنَى للاحتجاج بطول أمرها ))([136]).
النوع الثالث : تعارض الاتصال والانقطاع
تقدم الكلام بأن الاتصال شرط أساسيٌّ لصحة الحديث النبوي ، وعلى هذا فالمنقطع ضعيف لفقده شرطاً أساسياً من شروط الصحة ، وقد أولى المحدثون عنايتهم في البحث والتنقير في الأحاديث من أجل البحث عن توفر هذا الشرط من عدمه ؛ وذلك لما له من أهمية بالغة في التصحيح والتضعيف والتعليل . وتقدم الكلام أن ليس كل ما ورد فيه التصريح بالسماع فهو متصل ؛ إذ قَدْ يقع الخطأ في ذلك فيصرح بالسماع في غير ما حديث ، ثم يكشف الأئمة النقاد بأن هذا التصريح خطأ ، أو أن ما ظاهره متصل منقطع، وهذا ليس لكل أحد إنما هو لأولئك الرجال الذين أفنوا أعمارهم شموعاً أضاءت لنا الطريق من أجل معرفة الصحيح المتصل من الضعيف المنقطع .
إذن فليس كل ما ظاهره الاتصال متصلاً ، فقد يكون السند معللاً بالانقطاع .
وعليه فقد يأتي الحديث مرة بسند ظاهره الاتصال ، ويُروى بسند آخر ظاهره الانقطاع ، فيرجح تارة الانقطاع وأخرى الاتصال ، ويجري فيه الخلاف الذي مضى في زيادة الثقة . وأمثلة ذلك كثيرة .
منها : ما رواه أحمد بن منيع ([137]) ، قال : حدثنا كثير بن هشام ([138]) ، قال : حدثنا جعفر بن برقان ([139]) ، عن الزهري ([140]) ، عن عروة([141]) ، عن عائشة ، قالت : كنت أنا وحفصة([142]) صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه ، فجاء رسول الله r فبدرتني إليه حفصة ، وكانت ابنة أبيها ، فقالت: يا رسول الله ، إنا كنا صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه ، قال : (( اقضيا يوماً آخر مكانه )) .
أخرجه الترمذي ([143]) ، والبغوي ([144]) ، وأخرجه غيرهما من طريق جعفر ([145]).
هكذا روى هذا الحديث جعفر بن برقان، عن الزهري، عن عروة ، عن عائشة، متصلاً .
وقد توبع على روايته ، تابعه سبعة من أصحاب الزهري على هذه الرواية وهم :
صالح بن أبي الأخضر ([146]) ، وهو ضعيف يعتبر به عند المتابعة ([147]) .
سفيان بن حسين ([148]) ، وهو ثقة في غير الزهري باتفاق العلماء ([149]) .
صالح بن كيسان ([150]) ، وهو ثقة ([151]) .
إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ([152]) ، وهو ثقة ([153]) .
حجاج بن أرطأة ([154]) ، وهو صدوق كثير الخطأ والتدليس ([155]) .
عبد الله بن عمر العمري ([156]) ، وهو ضعيف ([157]) .
يحيى بن سعيد ([158]) .
فهؤلاء منهم الثقة ، ومنهم من يصلح حديثه للمتابعة ، قَدْ رووا الحديث أجمعهم ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، متصلاً ، إلا أنه قَدْ تبين بعد التفتيش والتمحيص والنظر أن رواية الاتصال خطأ ، والصواب : أنّه منقطع بين الزهري وعائشة ، وذكر عروة في الإسناد خطأ .
لذا قال الإمام النسائي عن الرواية الموصولة : (( هذا خطأ )) ([159])، وقد فسّر المزي مقصد النسائي فقال : (( يعني أن الصواب حديث الزهري ، عن عائشة وحفصة مرسل ))([160]) .
وقد نص كذلك الترمذي على أن رواية الاتصال خطأ ، والصواب أنه منقطع وذكر الدليل القاطع على ذلك ، فقال : (( روي عن ابن جريج ، قال : سألت الزهري ، قلت له : أَحدَّثَكَ عروة ، عن عائشة ؟ ، قال : لم أسمع عن عروة في هذا شيئاً ، ولكني سَمِعتُ في خلافة سليمان بن عبد الملك([161]) من ناس عن بعض من سأل عائشة عن هذا الحديث )) ([162]) .
ومن قبل سأل الترمذي شيخه البخاري فَقَالَ : (( سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث ، فقال : لا يصح حديث الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ))([163]) .
وحكم أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان بترجيح الرواية المنقطعة على الموصولة ([164]) .
قلت: قَدْ رواه الثقات الأثبات من أصحاب الزهري منقطعاً ، وهم ثمانية أنفس:
مالك بن أنس ([165]) ، وهو ثقة إمام أشهر من أن يعرف .
معمر بن راشد ([166]) ، وهو ثقة ثبت فاضل ([167]) .
عبيد الله بن عمر العمري ([168]) ، وهو ثقة ثبت ([169]) .
يونس بن يزيد الأيلي ([170]) ، وهو ثقة أحد الأثبات ([171]) .
سفيان بن عيينة ([172]) ، وهو ثقة حافظ فقيه إمام حجة ([173]) .
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ([174]) ، وهو ثقة ([175]) .
محمد بن الوليد الزبيدي ([176]) ، وهو ثقة ثبت ([177]) .
بكر بن وائل ([178]) ، وهو صدوق ([179]) .
فهؤلاء جميعهم رووه عن الزهري ، عن عائشة منقطعاً ، وروايتهم هذه هي المحفوظة ، وهي تخالف رواية من رواه متصلاً . وهذا يدلل أن المحدّثين ليس لهم في مثل هذا حكم مطرد ، بل مرجع ذلك إلى القرائن والترجيحات المحيطة بالرواية .
وللحديث طريق أخرى ([180]) ، فقد أخرجه النسائي ([181]) ، والطحاوي ([182]) ، وابن حبان ([183]) ، وابن حزم في المحلى ([184]) ، من طريق جرير بن حازم ([185]) ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ([186]) ، عن عمرة ([187]) ، عن عائشة .
هكذا الرواية وظاهرها الصحة ، إلا أن جهابذة المحدّثين قَدْ عدوها غلطاً من جرير بن حازم ، خطّأه في هذا أحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، والبيهقي ([188]) ، قال البيهقي : (( والمحفوظ عن يحيى بن سعيد ، عن الزهري ، عن عائشة ، مرسلاً )) ([189]) .
ثم أسند البيهقي إلى أحمد بن منصور الرمادي([190]) قال: قلت لعلي بن المديني: يا أبا الحسن تحفظ عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة ، قالت : أصبحت أنا وحفصة صائمتين. فقال لي: من روى هذا ؟ قلت: ابن وهب ، عن جرير بن حازم ، عن يحيى بن سعيد . قال : فضحك ، فقال : مثلك يقول هذا ! ، حدثنا : حماد بن زيد ، عن يحيى بن سعيد ، عن الزهري : أن عائشة وحفصة أصبحتا صائمتين .
وقد أشار النسائي كذلك إلى خطأ جرير ([191]) .
فهؤلاء أربعة من أئمة الحديث أشاروا إلى خطأ جرير بن حازم في هذا الحديث ، وعدم إقامته لإسناده .
ولم يرتض ابن حزم على هذه التخطئة، وأجاب عن ذلك فقال: (( لم يتحقق علينا قول من قال أن جرير بن حازم أخطأ في هذا الخبر إلا أن هذا ليس بشيء ؛ لأن جريراً ثقة، ودعوى الخطأ باطل إلا أن يقيم المدعي له برهاناً على صحة دعواه ، وليس انفراد جرير بإسناده علة ؛ لأنه ثقة )) ([192]) .
ويجاب على كلام ابن حزم : بأن ليس كل ما رواه الثقة صحيحاً ، بل يكون فيه الصحيح وغير ذلك؛ لذا فإن الشذوذ والعلة إنما يكونان في حديث الثقة ؛ فالعلة إذن هي معرفة الخطأ في أحاديث الثقات ، ثم إن اطباق أربعة من أئمة الحديث على خطأ جرير ، لم يكن أمراً اعتباطياً ، وإنما قالوا هذا بعد النظر الثاقب والتفتيش والموازنة والمقارنة . أما إقامة الدليل على كل حكم في إعلال الأحاديث، فهذا ربما لا يستطيع الجهبذ الناقد أن يعبر عنه إنما هو شيء ينقدح في نفسه تعجز عبارته عنه ([193]) .
ثم إن التفرد ليس علة كما سبق أن فصلنا القول فيه في مبحث التفرد ، وإنما هو مُلقٍ لِلضوءِ على العِلّة ومواقع الخلل وكوامن الخطأ ، ثم إنا وجدنا الدليل على خطأ جرير ابن حازم ، إذ قَدْ خالفه الإمام الثقة الثبت حماد بن زيد ([194]) ، فرواه عن يحيى بن سعيد ولم يذكر عمرة ([195]) .
وللحديث طريق أخرى فقد أخرجه الطبراني ([196]) من طريق : يعقوب بن مُحَمَّد الزهري ، قال : حدثنا هشام بن عبد الله بن عكرمة بن عبد الرحمان ، عن الحارث بن هشام ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة .
قال الطبراني عقب روايته له : (( لم يرو هذا الحديث عن هشام بن عروة إلا هشام ابن عكرمة . تفرد به يعقوب بن مُحَمَّد الزهري )) .
قلت : هذه الرواية ضعيفة لا تصلح للمتابعة ، إذ فيها علتان :
الأولى : يعقوب بن مُحَمَّد الزهري ، فيه كلام ليس باليسير ، فقد قال فيه الإمام أحمد : (( ليس بشيء )) ، وَقَالَ مرة : (( لا يساوي حديثه شيئاً )) ، وَقَالَ الساجي : (( منكر الحديث )) ([197]) .
والثانية : هشام بن عبد الله بن عكرمة ، قال ابن حبان : (( ينفرد عن هشام بن عروة بما لا أصل له من حديثه – كأنه هشام آخر – ، لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد )) ([198]) .
وللحديث طريق أخرى ، فقد أخرجه ابن أبي شيبة ([199]) من طريق خصيف بن عبد الرحمان ، عن سعيد بن جبير : أن عائشة وحفصة … الحديث . وهو طريق ضعيف لضعف خصيف بن عبد الرحمان ، فقد ضعّفه الإمام أحمد ، وأبو حاتم ، ويحيى القطان ، على أن بعضهم قَدْ قواه ([200]) .
وللحديث طريق أخرى فقد أخرجه البزار ([201]) ، والطبراني ([202]) من طريق حماد بن الوليد ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر … الحديث . وهو طريق ضعيف ، قال الهيثمي : (( فيه حماد بن الوليد ضعفه الأئمة )) ([203]) .
وللحديث طريق أخرى فقد أخرجه العقيلي([204])، والطبراني([205]) من طريق مُحَمَّد بن أبي سلمة المكي ، عن مُحَمَّد بن عمرو([206]) ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : أهديت لعائشة وحفصة … الحديث. وهو طريق ضعيف، قال الهيثمي: (( فيه مُحَمَّد بن أبي سلمة المكي ، وقد ضُعِّفَ بهذا الحديث )) ([207]) .
----------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق