↵ تابع هنا ↴
هشام: عِنْدَ
البُخَارِيّ ([1])،
والدارمي ([2])،
وأبي نعيم في "مستخرجه"([3])،
والبيهقي([4]).
همام : عِنْدَ الدارمي
([5])
.
قَالَ الترمذي: ((
سألت محمداً عن هَذَا الْحَدِيْث فَقَالَ : هُوَ حَدِيْث خطأ ، أخطأ فِيْهِ جرير
بن حازم . ذكروا أن الحجاج الصوّاف كَانَ عِنْدَ ثابت البناني ، وجرير بن حازم في
المجلس ، فحدّث الحجاج ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عَبْد الله بن أبي قتادة ، عن
أبيه ، عن النَّبِيّ r قَالَ : (( إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حَتَّى تروني )) ، فوهم
فِيْهِ جرير بن حازم فظن أن ثابتاً حدّثه
عن أنس بهذا )) ([6])
.
أثر القلب في اختلاف
الفقهاء
( المصلي عِنْدَ نزوله
من الركوع إلى السجود ، هل يَكُوْن عَلَى يديه أم ركبتيه ؟ )
اختلاف الفقهاء في
ذَلِكَ عَلَى قولين :
الأول : توضع الركبتان
قَبْلَ اليدين عِنْدَ النّزول إلى السجود .
وبه قَالَ : مُسْلِم([7]) بن يسار ([8])، وسفيان الثوري ([9])
، والشافعي ([10])
، وأحمد في رِوَايَة ([11])
، وإسحاق بن راهويه ([12])
، وَهُوَ مذهب أهل الكوفة مِنْهُمْ : أبو حَنِيْفَة ([13]) ، وإبراهيم
النخعي ([14]).
ونقله الترمذي عن أكثر
أهل العلم ([15])
، وَهُوَ مروي عن عمر بن الخطاب ([16])،
وابنه ([17])
، واختاره ابن القيم وغيره ([18])
.
وحجتهم في ذَلِكَ : ما
رواه يزيد بن هارون ، عن شريك القاضي، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه ، عن وائل بن حجر
، قَالَ : (( رأيت رَسُوْل الله r إذا سجد يضع ركبتيه قَبْلَ يديه ، وإذا نهض رفع يديه قَبْلَ
ركبتيه )) .
الثاني : توضع اليدان
قَبْلَ الركبتين في السجود
وبه قَالَ : الأوزاعي
([32])
، ومالك ([33])،
وأحمد في الرِّوَايَة الأخرى ([34])،
وَهُوَ مذهب أصحاب الْحَدِيْث ([35])
.
وَقَالَ ابن حزم : وضع
اليدين قَبْلَ الركبتين فرض ([36]).
وَهُوَ مذهب العترة ([37]).
واحتجوا : بما رَوَاهُ
عَبْد العزيز بن مُحَمَّد الدراوردي ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عَبْد الله
بن الحسن([38])،
عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُوْل الله r : (( إذا سجد أحدكم فلا
يبرك كَمَا يبرك البعير ، وليضع يديه قَبْلَ ركبتيه )) .
مناقشة الأدلة :
احتج القائلون بالمذهب
الأول بحديث وائل بن حجر ، وأجاب بعضهم ([49]) عن دليل أصحاب
القَوْل الثاني بأن أعله بمجموعة علل مِنْهَا :
إنه معارض ([50])
لحديث وائل بن حجر ، وحديث وائل أثبت ، قَالَهُ الخطابي ([51]) .
إن حَدِيْث أبي
هُرَيْرَة مقلوب ، انقلب لفظه عَلَى بعض الرُّوَاة ، والصواب فِيْهِ : (( وليضع
ركبتيه قَبْلَ يديه )) .
فَقَدْ رَوَى
الْحَدِيْث أبو بكر بن أَبِي شيبة ([52]) فَقَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن فضيل ، عن عَبْد الله بن سعيد([53]) ، عن جده ، عن
أبي هُرَيْرَة ، عن النَّبِيّ r قَالَ : (( إذا سجد أحدكم فليبتدئ بركبتيه قَبْلَ يديه ولا يبرك
بروك الفحل )) .
ثُمَّ إن ما حكاه أبو
هُرَيْرَة عن فعل رَسُوْل الله r يؤيد ما رَوَاهُ ابن أبي شيبة عَنْهُ، فرواه ابن أبي داود ([54])
قَالَ: حَدَّثَنَا يوسف بن عدي([55])
، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن فضيل ، عن عَبْد الله بن سعيد ، عن أبي هُرَيْرَة ، عن
النَّبِيّ r أنه كَانَ إذا سجد بدأ بركبتيه قَبْلَ يديه .
عَلَى فرض التسليم
بكون حَدِيْث أبي هُرَيْرَة محفوظاً ، فهو منسوخ بحديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص ،
عن أبيه بلفظ : (( كنا نضع اليدين قَبْلَ الركبتين ، فأُمرنا بوضع الركبتين قَبْلَ
اليدين )) ([56])
.
حَدِيْث أبي هُرَيْرَة
مضطرب في متنه ؛ لأن من الرُّوَاة من يقول فِيْهِ : وليضع يديه قَبْلَ ركبتيه ،
ومنهم من يقول العكس ، ومنهم من يقول : وليضع يديه عَلَى ركبتيه ، ومنهم من يحذف
هَذِهِ الجملة أصلاً .
إن حَدِيْث أبي
هُرَيْرَة معلٌ ، فَقَدْ تَكَلَّمَ النقاد في رواته ، قَالَ البخاري : (( مُحَمَّد
بن عَبْد الله بن الحسن لا يتابع عليه ، ولا أدري أسمع من أبي الزناد أم لا ؟ )) ([57])
.
إن لحديث وائل بن حجر
شواهد ، وأما حَدِيْث أبي هُرَيْرَة فليس كذلك .
إن ركبة البعير ليست
في يده وإن أطلقوا عَلَى اللتين في اليدين اسم الركبة فإنما هُوَ للتغليب ، أما
القَوْل بأن ركبتي البعير في يديه فلا يعرف عن أهل اللغة .
والجواب عَلَى هَذِهِ
العلل فِيْمَا يأتي :
أما قولهم أنه معارض
لحديث وائل ، فإن حَدِيْث وائل ضعيف ، فإنه ليس يروى في الدنيا بإسناد إلا من طريق
شريك ، وتفرد بِهِ يزيد بن هارون .
قَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ : (( تفرد بِهِ يزيد عن شريك ، وَلَمْ يحدث بِهِ عن عاصم بن كليب
غَيْر شريك ، وشريك ليس بالقوي فِيْمَا يتفرد بِهِ )) ([58]) .
وَقَالَ الترمذي : ((
لا نعرف أحداً رَوَاهُ غَيْر شريك )) ([59]) .
وشريك يخطئ كثيراً([60])
لا يحتج بتفرده فكيف وَقَدْ خالف هماماً، إِذْ رَوَاهُ همام،عن شقيق،
قَالَ:حَدَّثَنِي عاصم بن كليب، عن أبيه، عن النَّبِيّ r بنحو حَدِيْث شريك([61]).
قَالَ البيهقي : ((
قَالَ عفان : هَذَا الْحَدِيْث غريب )) ([62]) .
وشقيق : مجهول لا يعرف
([63])
، سكت عَنْهُ ابن أبي حاتم ([64])
، وَقَالَ ابن حجر : (( مجهول )) ([65])
.
ومع ذَلِكَ نجد هماماً
خالف شريكاً فأرسل الْحَدِيْث ، وأسنده شريك ، قَالَ البيهقي : (( هَذَا حَدِيْث
يُعدُّ في أفراد شريك القاضي ، وإنما تابعه همام من هَذَا الوجه مرسلاً . هكذا
ذكره البخاري وغيره من الحفاظ المتقدمين رحمهم الله تَعَالَى )) ([66])
.
لذا قَالَ الحازمي في
" الاعتبار " : (( والمرسل هُوَ المحفوظ )) ([67]) .
وعليه فحديث وائل
فِيْهِ علتان موجبتان لضعفه : الأولى :
ضعف شريك ، والثانية : مخالفته لهمام في روايته .
أما قوله بأن
الْحَدِيْث مقلوب فما هُوَ إلا من باب التجويز العقلي ، وَلَوْ فتحنا هَذَا الباب
ما سلم لنا شيء من الأخبار ، وَقَدْ رده الشيخ علي القاري فَقَالَ : (( وقول ابن
القيم أن حَدِيْث أبي هُرَيْرَة انقلب متنه عَلَى راويه فِيْهِ نظر ، إِذْ لَوْ فتح هَذَا الباب لَمْ يَبْقَ
اعتماد عَلَى رِوَايَة راوٍ مع كونها صحيحة )) ([68]).
واستدلاله عليه بما
رَوَاهُ ابن أبي شيبة وابن أبي داود لا يصلح سنداً لقوله ، ففي كلا إسنادهما :
عَبْد الله بن سعيد بن أبي شيبة المقبري ، كَانَ القطان وابن مهدي لا يحدّثان
عَنْهُ . وَقَالَ يحيى القطان : جلست إلى عَبْد الله بن سعيد بن أبي سعيد مجلساً
فعرفت فِيْهِ ، يعني : الكذب . وَقَالَ
أحمد : منكر الْحَدِيْث متروك الْحَدِيْث . وَقَالَ أبو أحمد الْحَاكِم : ذاهب
الْحَدِيْث ([69])
.
أما القَوْل بالنسخ
فَقَدْ سبقه إِلَيْهِ ابن خزيمة ([70])،
والخطابي ([71])،
والحديث الَّذِيْ استدلوا بِهِ عَلَى النَّسْخ رَوَاهُ ابن خزيمة والبيهقي من طريق
إِبْرَاهِيْم بن إِسْمَاعِيْل بن يحيى بن سلمة بن كهيل ، عن أبيه ، عن جده ، عن
سلمة ، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه فذكره .
وهذا الْحَدِيْث بهذا
السند لا يصلح لإثبات حكم فضلاً عن نسخ غيره ، إِذْ إن فِيْهِ راويين ضعيفين :
الأول : إِبْرَاهِيْم
بن إِسْمَاعِيْل . قَالَ ابن حبان ([72]) وابن نمير ([73]):
(( في روايته عن أبيه بعض المناكير )) .
الثاني : أبوه
إِسْمَاعِيْل بن يحيى . قَالَ الأزدي والدارقطني : (( متروك )) ([74])
.
قَالَ الحازمي: (( أما
حَدِيْث سعد ففي إسناده مقال ، وَلَوْ كَانَ محفوظاً لدل عَلَى النَّسْخ ، غَيْر
أن المحفوظ عن مصعب ، عن أبيه حَدِيْث نسخ التطبيق )) ([75]) .
وَقَالَ ابن حجر : ((
وهذا لَوْ صح لكان قاطعاً للنّزاع ، ولكنه من أفراد إِبْرَاهِيْم ابن إِسْمَاعِيْل
بن سلمة بن كهيل ، عن أبيه ، وهما ضعيفان )) ([76]) .
وأما قولهم باضطراب
متنه ، فإن الَّذِيْ اتفقت عليه كلمة الْمُحَدِّثِيْنَ أن شرط الاضطراب تساوي أوجه
الرِّوَايَة من غَيْر ترجيح ([77])
، فإن ترجحت إحدى الروايات بوجه من وجوه الترجيح المعتبرة انتفى الاضطراب ([78])
.
وإذا علمنا مِمَّا مضى
أن حَدِيْث مُحَمَّد بن فضيل ، عن عَبْد الله بن سعيد ، عن أبي هُرَيْرَة ، لا
تقوم الحجة بِهِ ، وذلك لضعف عَبْد الله بن سعيد ، فكيف تتساوى وجوه الرِّوَايَة
؟!
أما دعوى إعلال النقاد
لَهُ ، فليس في كلام الإمام البخاري ما يدل عَلَى إعلاله لَهُ ، فغاية مراد الإمام
البخاري من قوله هَذَا تشخيص حالة التفرد ، وذلك لاهتمامهم بناحية التفرد – كَمَا
مضى بنا عِنْدَ كلامنا عن التفرد – .
ومحمد بن عَبْد الله
الملقب بالنفس الزكية ([79])
ثقة ([80])
، لذا قَالَ ابن التركماني : (( وثّقه النسائي وقول البخاري (( لا يتابع عَلَى
حديثه )) ليس بصريح في الجرح فلا يعارض توثيق النسائي )) ([81]) .
وأما قوله : (( لا
أدري أسمع من أبي الزناد أم لا ؟ )) .
فإنما يتأتى الإعلال
بِهِ عَلَى شرط الإمام البخاري رحمه الله من عدم الاكتفاء بالمعاصرة ، أما الجمهور
فعلى مذهب الإمام مُسْلِم من الاكتفاء بالمعاصرة مع إمكان اللقاء ([82])
، وما في أيدينا تطبيق لهذه القاعدة ، فأبو الزناد – عَبْد الله بن ذكوان – مدنيٌّ
عاش في الْمَدِيْنَة ومات فِيْهَا سنة ( 130 ه ) ([83])، ومحمد بن عَبْد
الله مدنيٌّ أَيْضاً عاش في الْمَدِيْنَة ، وخرج بالمدينة عَلَى أبي جعفر المنصور
، واستولى عَلَى الْمَدِيْنَة سنة ( 145 ه ) وفيها قتل ([84]) .
فالمعاصرة موجودة ،
وإمكان اللقاء قريب بَلْ هُوَ شبه المتحقق ، حَتَّى إننا نجد الذهبي في "
السير " ([85])
يقول : (( حدّث عن نافع وأبي الزناد )) .
دعوى وجود الشواهد
لحديث وائل ، فهي دعوى عارية عن المفهوم عِنْدَ التحقيق العلمي ، إِذْ ذكروا لَهُ
أربعة شواهد هِيَ :
الأول : ما روي من
طريق العلاء بن إسماعيل العطار ، عن حفص بن غياث ، عن عاصم الأحول ، عن أنس : ((
رأيت رَسُوْل الله r انحط بالتكبير فسبقت ركبتاه يديه )) .
رَوَاهُ :
الدَّارَقُطْنِيّ ([86])،
وابن حزم ([87])،
والحاكم ([88])
، والبيهقي ([89])
، والحازمي([90]).
قَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ : (( تفرد بِهِ العلاء بن إِسْمَاعِيْل ، عن حفص بهذا الإسناد ))
([91])
وبنحوه قَالَ البيهقي ([92])والعلاء
مجهول لا يعرف ([93])
، قَالَ ابن حجر : (( قَالَ البيهقي في " الْمَعْرِفَة " تفرد بِهِ
العلاء بن إِسْمَاعِيْل العطار وَهُوَ مجهول )) ([94]). وسأل ابن أَبِي
حاتم أباه عن هَذَا الْحَدِيْث فَقَالَ : (( حَدِيْث منكر )) ([95])
.
وأيضاً فَقَدْ خالف
العلاء عمر بن حفص([96])
–وَهُوَ من أثبت الناس في أبيه-([97])،
فرواه عن أبيه ، عن الأعمش ، عن إِبْرَاهِيْم ، عن أصحاب عَبْد الله : علقمة
والأسود قالا: حفظنا عن عمر في صلاته أنه خرَّ بَعْدَ ركوعه عَلَى ركبتيه قَبْلَ
يديه([98]).
فجعله من مسند عمر لا من مسند أنس .
قَالَ ابن حجر : ((
وخالفه عمر بن حفص بن غياث – وَهُوَ من أثبت الناس في أبيه ، فرواه عن أبيه ، عن
الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة وغيره ، عن عمر موقوفاً عليه ، وهذا هُوَ المحفوظ
)) ([99])
.
الثاني : حَدِيْث سعد
بن أبي وقاص ، وَقَدْ قدمنا الكلام عليه ([100]) .
الثالث : ما رواه
البيهقي ([101])
من طريق مُحَمَّد بن حجر ، عن سعيد بن عَبْد الجبار بن وائل ، عن أمه ، عن وائل بن
حجر : (( صليت خلف النَّبِيّ r ثُمَّ سجد فكان أول ما وصل إلى الأرض ركبتاه )) .
وَهُوَ سند ضعيف:
مُحَمَّد بن حجر، قَالَ البخاري: (( فِيْهِ
نظر )) ([102])
، وَقَالَ ابن حبان : (( يروي عن عمه سعيد بن عَبْد الجبار ، عن أبيه – وائل بن
حجر – بنسخة منكرة ، فِيْهَا أشياء لها أصول من حَدِيْث رَسُوْل الله r ، وليس من حَدِيْث وائل بن حجر ، وفيها أشياء من حَدِيْث وائل بن
حجر مختصرة جاء بِهَا عَلَى التقصي وأفرط فِيْهِ، ومنها أشياء موضوعة ليس يشبه
كلام رَسُوْل الله r لا يجوز الاحتجاج بِهِ ))([103]).
وفيه أَيْضاً : سعيد
بن عَبْد الجبار ، قَالَ النسائي : (( ليس بالقوي )) ([104])
.
أما قوله بأن ركبتي
البعير ليست في يديه ، وأنه لا يعرف عن أهل اللغة ذَلِكَ ، فمنقوض بتصريح كبار
أئمة اللغة بأن ركبتي البعير في يديه مِنْهُمْ: الأزهري ([105])
، وابن سيده ([106])
، وابن منظور ([107])
، وغيرهم ([108])
.
المبحث الثامن
الاختلاف بسبب التصحيف
والتحريف
التصحيف والتحريف من
الأمور الطارئة الَّتِيْ تقع في الْحَدِيْث سنداً أو متناً عِنْدَ بعض الرُّوَاة ،
وَهُوَ من الأمور المؤدية إلى الاختلاف في الْحَدِيْث . فيحصل لبعض الرُّوَاة
أوهام تقع في السند أَوْ في الْمَتْن بتغيير النقط أو الشكل أو الحروف .
وهذا النوع من الخطأ
يسمى عِنْدَ الْمُحَدِّثِيْنَ بـ ( التصحيف والتحريف ) .
والتصحيف هُوَ : تغيير
في نقط الحروف أو حركاتها مع بقاء صورة الخط ([109]) .
والتحريف : هُوَ
العدول بالشيء عن جهته ، وحرَّف الكلام تحريفاً عدل بِهِ عن جهته ، وَقَدْ يَكُوْن
بالزيادة فِيْهِ ، أو النقص مِنْهُ ،
وَقَدْ يَكُوْن بتبديل بعض كلماته ، وَقَدْ يَكُوْن بجعله عَلَى غَيْر المراد
مِنْهُ ؛ فالتحريف أعم من التصحيف ([110]) .
ولابد من الإشارة إلى
أن المتقدمين كانوا يطلقون المصحف والمحرف جميعاً عَلَى شيء واحد ، ولكن الحافظ
ابن حجر جعلهما شيئين وخالف بينهما ، فَقَدْ قَالَ : (( إن كانت المخالفة بتغيير
حرف أو حروف مع بقاء صورة الخط في السياق فإن كَانَ ذَلِكَ بالنسبة إلى النقط
فالمصحف ، وإن كَانَ بالنسبة إلى الشكل فالمحرّف )) ([111])
.
وعلى هَذَا فالتصحيف
هُوَ الَّذِيْ يَكُوْن في النقط ؛ أي في الحروف المتشابهة الَّتِيْ تختلف في
قراءتها مثل : الباء والتاء والثاء ، والجيم والحاء المهملة والخاء المعجمة ،
والدال المهملة والذال المعجمة ، والراء والزاي .
ومعرفة هَذَا الفن من
فنون علم الْحَدِيْث لَهُ أهمية كبيرة ([112]) ؛ وذلك لما
فِيْهِ من
تنقية الأحاديث النبوية مِمَّا شابها في بعض الألفاظ سواء كَانَ في متونها أم في
رجال أسانيدها .
وعندما كثر التصحيف
والتحريف بَيْنَ الناس شرع الحفاظ من أهل الْحَدِيْث بتصنيف كتب : ( التصحيف
والتحريف ) وكتب ( المؤتلف والمختلف ) ([113])، وهذا الفن فن
جليل لما يحتاج إِلَيْهِ من الدقة والفهم واليقظة ، وَلَمْ ينهض بِهِ إلا الحفاظ
الحاذقون قَالَ ابن الصَّلاَحِ : (( هَذَا فن جليل إنما ينهض بأعبائه الحذاق من
الحفاظ )) ([114])
.
والسبب في وقوع التصحيف
والإكثار مِنْهُ إنما يحصل غالباً للآخذ من الصحف وبطون الكتب ، دون تلق للحديث عن
أستاذ من ذوي الاختصاص ؛ لِذَلِكَ حذر أئمة الْحَدِيْث من عمل هَذَا شأنه ، قَالَ
سعيد بن عَبْد العزيز التنوخي ([115])
: (( لا تحملوا العلم عن صحفي ، ولا تأخذوا القرآن من مصحفي )) ([116]).
أقسام التصحيف
للتصحيف بحسب وجوده
وتفرعه أقسام . ينقسم إِلَيْهَا وَهِيَ ستة أنواع :
القسم الأول : التصحيف
في الإسناد :
مثاله : حَدِيْث شعبة
، عن العوام بن مراجم ([117])،
عن أبي عثمان النهدي ([118])،
عن عثمان بن عفان، قَالَ: قَالَ رَسُوْل الله r: (( لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها…الْحَدِيْث ))([119]).
وَقَدْ صحف
فِيْهِ يحيى بن معين ، فَقَالَ : (( ابن
مزاحم )) – بالزاي والحاء – وصوابه : (( ابن مراجم )) – بالراء المهملة والجيم – ([120]).
ومنه ما رواه الإمام
أحمد ([121])
، من طريق شعبة ، قَالَ : حَدَّثَنَا مالك بن عرفطة – قَالَ ([122])
: وإنما هُوَ خالد بن علقمة – قَالَ : سَمِعْتُ عَبْد خير يحدّث ، عن عائشة ، عن
النَّبِيّ r : (( أنه نهى عن : الدباء ([123]) ، والحنتم ([124])
، والمزفت ([125])
)) .
وَقَدْ أخطأ الإمام
شعبة بن الحجاج فصحف في هَذَا الاسم فَقَالَ : (( مالك بن عرفطة )) ، وصوابه: (( خالد
بن علقمة )) كَمَا نبه عَلَى ذَلِكَ الإمام أحمد –كَمَا سبق–([126])
وَقَدْ رَوَاهُ أبو عوانة ، عن شعبة ، فأخطأ فِيْهِ كذلك فِيْمَا أخرجه الْخَطِيْب
في موضح أوهام الجمع والتفريق ([127]).
ثُمَّ رجع إلى الصواب
فِيْمَا أخرجه عَنْهُ الْخَطِيْب في " تاريخ بغداد " ([128])
وَقَالَ : (( عن شعبة ، عن خالد بن علقمة ، عن عَبْد خير ، بِهِ )) .
القسم الثاني :
التصحيف في الْمَتْن :
ومثاله حَدِيْث أنس
مرفوعاً: (( ثُمَّ يخرج من النار من قَالَ : لا إله إلا الله ، وَكَانَ في قلبه من
الخير ما يزن ذرة )) ([129]).
قَالَ ابن الصَّلاَحِ
: (( قَالَ فِيْهِ شعبة : (( ذُرَةً )) –
بالضم والتخفيف – ونسب فِيْهِ إلى التصحيف
)) ([130])
ومثّل ابن الصَّلاَحِ
لتصحيف الْمَتْن بمثال آخر فَقَالَ : (( وفي حَدِيْث أبي ذر : (( تعين الصانع )) ،
قَالَ فِيْهِ هشام بن عروة – بالضاء
المعجمة – وَهُوَ تصحيفٌ ، والصواب ما رواه الزهري: (( الصانع )) – بالصاد المهملة
– ([131])
ضد الأخرق ([132])
)) ([133]).
القسم الثالث : تصحيف
البصر :
وَهُوَ سوء القراءة
بسبب تشابه الحروف والكلمات وهذا يحصل في الأعم لِمَنْ يأخذ من الصحف دون تلقٍ .
مثاله: ما رواه ابن
لهيعة عن كتاب موسى بن عقبة إِلَيْهِ بإسناده عن زيد بن ثابت: (( أن رَسُوْل الله r احتجم في المسجد )) قَالَ ابن الصَّلاَحِ: (( إنما هُوَ بالراء:
(( احتجر في المسجد بخص أو حصير حجرة يصلي فِيْهَا )) ([134])
فصحّفه ابن لهيعة ؛ لكونه أخذه من كتاب بغير سَمَاع )) ([135]).
وَقَالَ الإمام
مُسْلِم : (( هَذِهِ رِوَايَة فاسدة من كُلّ جهة . فاحشٌ خطؤها في الْمَتْن
والإسناد ، وابن لهيعة المصحف في متنه ، المغفل في إسناده )) ([136]).
وَقَدْ وصف السخاوي
تصحيف البصر بأنه الأكثر ([137]).
القسم الرابع : تصحيف
السمع :
ويحدث بسبب تشابه
مخارج الكلمات في النطق فيختلط الأمر عَلَى السامع فيقع في التصحيف أَوْ التحريف .
نحو حَدِيْث لـ : ((
عاصم الأحول )) ، رَوَاهُ بعضهم فَقَالَ : (( عن واصل الأحدب )) وَقَدْ ذَكَرَ
الإمام الدَّارَقُطْنِيّ أنَّهُ من تصحيف السمع لا من تصحيف البصر قَالَ ابن الصَّلاَحِ : (( كأنه ذهب – والله
أعلم – إلى أن ذَلِكَ مِمَّا لا يشتبه من حَيْثُ الكتابة ، وإنما أخطأ فِيْهِ سمع من رَوَاهُ )) ([138])
.
القسم الخامس : تصحيف
اللفظ
ومثاله ما ورد عن
الدَّارَقُطْنِيّ : أن أبا بكر الصولي ([139]) أملى في الجامع
حَدِيْث أبي أيوب : (( من صام رمضان وأتبعه ستّاً من شوال )) ([140])
، فَقَالَ فِيْهِ : (( شيئاً )) – بالشين والياء – ([141])
.
قَالَ ابن الصَّلاَحِ
: (( تصحيف اللفظ وَهُوَ الأكثر )) ([142]) .
القسم السادس : تصحيف
المعنى دون اللفظ :
مثاله: قَوْل مُحَمَّد
بن المثنى ([143]):
(( نحن قوم لنا شرف، نحن من عَنَزة )) ([144]) قَالَ ابن
الصَّلاَحِ : (( يريد ما روي : (( أن النَّبِيّ r صلى إلى عنـزة )) ([145]) فتوهم أنه صلى
إلى قبيلتهم ، وإنما العنـزة هاهنا حربة نصبت بَيْنَ يديه فصلى إليها )) ([146])
.
الخاتمة في خلاصة
نتائج البحث
الاختلافات الحديثية
سواء أكَانَتْ في الإسناد أم في الْمَتْن ؟ من القضايا الَّتِي أدلى بِهَا
الْمُحَدِّثُوْنَ لها أهمية كبيرة .
الاختلافات مِنْهَا ما يؤثر في صحة الْحَدِيْث ،
ومنها ما لا يؤثر، ومرجع ذَلِكَ إِلَى نظر النقاد وصيارفة الْحَدِيْث .
بَعْض الاختلافات تؤثر
في حفظ الرَّاوِي وضبطه ، وتقدح في مروياته وصحة الاعتماد عَلَيْهَا والاستدلال
بِهَا .
الاختلاف و الاضطراب
بَيْنَهُمَا عموم وخصوص فكل مضطرب مختلف وَلَيْسَ كُلّ مختلف مضطرب .
يراد بالاضطراب في
الأعم الأغلب الاختلاف القادح .
لا يمكن الحكم في
الاضطراب والاختلاف إلا بجمع الطرق والنظر والموازنة والمقارنة .
إن مَعْرِفَة الخطأ في
حَدِيْث الضعيف يحتاج إِلَى دقة وجهد كبير كَمَا هُوَ الحال في مَعْرِفَة الخطأ في
حَدِيْث الثقة .
التفرد بحد ذاته
لَيْسَ علة ، وإنما يَكُوْن أحياناً سبباً من أسباب العلة ، ويلقي الضوء عَلَى
العلة ويبين ما يكمن في أعماق الراوية من خطأ و وهم .
المجروحون جرحاً
شديداً – كالفساق و المتهمين و المتروكين – لا تنفعهم المتابعات إذ إن تفردهم يؤيد
التهمة عِنْدَ الباحث الناقد الفهم .
مَعْرِفَة الاختلافات
في المتون و الأسانيد داخل في علم العلل الَّذِي هُوَ كالميزان لبيان الخطأ
والصواب و الصَّحِيْح و المعوج .
أولى الفقهاء جانب النقد
الحديثي اهتماماً خاصاً ، وذلك من خلال تتبعهم لأقوال النقاد ، واستعمالها أداة في
تفنيد أدلة الخصوم ، وَهُوَ دليل واضح عَلَى عمق الثقافة الحديثية عندهم ، وعلى
قوة الربط بَيْنَ هذين العلمين الشريفين .
لما تقدم يبدو لي من
المهم جداً تشجيع الدراسات الَّتِي تربط بَيْنَ الفقه ومصادره، وخصوصاً تِلْكَ
الَّتِي تربط بينه وبين علوم الْحَدِيْث المختلفة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق