وذهب بعض الفقهاء إلى جواز المسح عَلَى الجوربين إلا أنهم اشترطوا أن يَكُوْن الجوربان صفيقين .
وَهُوَ مروي عن سعيد بن المسيب ([1])، وإليه ذهب أبو حَنِيْفَة ([2])، والشافعي ([3])، وأحمد ([4]) .
وَقَالَ الإمام مالك بالجواز إذا كَانَ أسفلهما مخرزاً بجلد ([5]) .
المذهب الثاني :
وَهُوَ عدم الجواز ، وَهُوَ مروي عن : مجاهد ، وعمرو بن دينار ([6]) ، والحسن بن مُسْلِم ([7]) ، وعطاء في آخر قوليه ([8]) ، والأوزاعي ([9]) .
وَهُوَ المشهور عن مالك ([10]) .
واحتج من قَالَ بالجواز مطلقاً بحديث أبي قيس السابق ، وَقَدْ تقدم ما فِيْهِ ، واحتجوا كذلك :
بما روي عن أبي موسى الأشعري ؛ أن رَسُوْل الله r توضأ ومسح عَلَى الجوربين والنعلين . رَوَاهُ : ابن ماجه ([11]) ، والطحاوي ([12]) ، والبيهقي ([13]) .
ويجاب عَنْهُ : بأنه ضعيف؛لأن في سنده عيسى بن سنان الحنفي ، وفيه مقال ([14]) ، ثُمَّ إن أبا داود قَدْ حكم عَلَى هَذَا الْحَدِيْث بالانقطاع ([15]) ، وبيّن البيهقي هَذَا الانقطاع وَهُوَ أن الضحاك بن عَبْد الرحمان ([16]) لم يثبت سماعه من أبي موسى ([17]) .
واحتجوا بما ورد عن راشد بن سعد ([18]) ، عن ثوبان قَالَ : بعث رَسُوْل الله r سرية فأصابهم البرد فلما قدموا عَلَى النَّبِيّ r شكوا إِلَيْهِ ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا عَلَى العصائب والتساخين . أخرجه : الإمام أحمد ([19]) ، وأبو داود ([20]) ، والطبراني ([21]) ، وأبو ([22]) عبيد ([23]) ، والحاكم ([24]) ، والبيهقي ([25]) ، والبغوي([26]) .
قَالَ الْحَاكِم : (( هَذَا حَدِيْث صَحِيْح عَلَى شرط مُسْلِم )) ([27]) .
وتعقبه الذهبي في السير بقوله: (( خطأ:فإن الشيخين ما احتجا براشد، ولا ثور([28]) من شرط مُسْلِم )) ([29]) .
إلا أن الذهبي أورد الْحَدِيْث من طريق أبي داود وَقَالَ : (( إسناده قويٌّ )) ([30]) .
لَكِنْ أعلَّ بعض أهل العلم هَذَا الْحَدِيْث بالانقطاع فَقَدْ قَالَ ابن أبي حاتم : (( أنبأنا عَبْد الله بن أحمد بن حَنْبَل ([31]) فِيْمَا كتب إليَّ قَالَ : قَالَ أحمد – يعني ابن حَنْبَل – : راشد ابن سعد لَمْ يَسْمَع من ثوبان )) ([32]) .
وَقَالَ الحافظ ابن حجر : (( قَالَ أبو حاتم : والحربي لَمْ يَسْمَع من ثوبان ، وَقَالَ الخلال ([33])عن أحمد : لا ينبغي أن يَكُوْن سَمِعَ مِنْهُ )) ([34]) .
لَكِنْ يجاب عن هَذَا الحكم بالانقطاع أن الإمام البخاري قَدْ أثبت سَمَاع راشد من ثوبان فَقَالَ : (( سَمِعَ ثوبان )) ([35]).
واعترض عَلَى معنى الْحَدِيْث فإن من احتج بِهِ ذكر أن التساخين عِنْدَ بعض أهل اللغة هِيَ كُلّ ما يسخن بِهِ القدم من خف وجورب ([36]).
ويجاب عن هَذَا بأن المعجمات اللغوية وكتب غريب الْحَدِيْث أوردت للتساخين ثلاثة تفاسير :
الأول : إنها الخفاف وَقَدْ اقتصرت كثير من المعجمات عَلَى ذَلِكَ
الثاني : كُلّ ما يُسَخَّن القدم من خفٍّ وجورب ونحوه .
الثالث : إنها هِيَ تعريب (( تَشْكَن )) وَهُوَ اسم غطاء من أغطية الرأس نقله ابن الأثير عن حمزة الأصفهاني في كتابه " الموازنة " ، ويرى أن تفسيره بالخف وهم من اللغويين العرب حَيْثُ لَمْ يعرفوا فارسيته .
فاللغويون غَيْر متفقين عَلَى تفسير التساخين بالخفاف بَلْ حمزة الأصفهاني يراه وهماً والتفسير الثاني للتساخين عام يدخل فِيْهِ التفسير الأول ([37]) .
فعلى هَذَا يَكُوْن تفسير التساخين بالجواريب بعيد جداً،ولا يوجد ذَلِكَ في معاجم اللغة ، والذين ذكروا ذَلِكَ أدخلوه في عموم التفسير الثاني للتساخين .
3. واحتجوا أَيْضاً بما روي عن أنس بن مالك ، قَالَ : (( رأيت رَسُوْل الله r يمسح عَلَى الجوربين عليهما النعلان )) .
أخرجه الْخَطِيْب ([38]) .
وأجيب : بأن سند هَذَا الْحَدِيْث تالف لأن فِيْهِ موسى بن عَبْد الله الطويل ([39]) ، قَالَ ابن حبان : (( رَوَى عن أنس أشياء موضوعة )) . وَقَالَ ابن عدي : (( رَوَى عن أنس مناكير ، وَهُوَ مجهول )) ([40]) .
لَكِنْ روي مثل هَذَا الْحَدِيْث من فعل أنس ، فَقَدْ رَوَى : عَبْد الرزاق ([41]) ، وابن أبي شيبة ([42])، والدولابي ([43])، والبيهقي ([44])، عن الأزرق بن قيس ([45])، قَالَ : رأيت أنس بن مالك أَحَدَثَ فغسل وجهه ويديه ، ومسح عَلَى جوربين من صوف ، فقلت : أتمسح عليهما ؟ فَقَالَ : إنهما خفان ، ولكنهما من صوف )) ([46]) .
قَالَ العلامة أحمد شاكر : (( هَذَا إسناد صَحِيْح )) ([47]) ، ثُمَّ قَالَ : (( هَذَا الْحَدِيْث موقوف عَلَى أنس ، من فعله وقوله . ولكن وجه الحجة فِيْهِ أنه لَمْ يكتفِ بالفعل ، بَلْ صرح بأن الجوربين: ((خفان،ولكنهما من صوف)).وأنس بن مالك صحابيٌّ من أهل اللغة، قَبْلَ دخول العجمة واختلاط الألسنة ، فهو يبين أن معنى ( الخف ) أعم من أن يَكُوْن من الجلد وحده ، وأنه يشمل كُلّ ما يستر القدم ويمنع وصول الماء إِلَيْهَا ؛ إِذْ إن الخفاف كانت في الأغلب من الجلد،فأبان أنس أن هَذَا الغالب ليس حصراً للخف في أن يَكُوْن من الجلد.وأزال الوهم الَّذِيْ قَدْ يدخل عَلَى الناس من واقع الأمر في الخفاف إِذْ ذاك. وَلَمْ يأت دليل من الشارع يدل عَلَى حصر الخفاف في الَّتِيْ تكون من الجلد فَقَطْ )) ([48]) .
وهذا الفهم المستنبط من فعل أنس t فيه رد عَلَى من اشترط الصفاقة أو التجليد أَوْ التنعيل للجوربين ، وَقَدْ شدد ابن حزم النكير عَلَى من اشترط ذَلِكَ فَقَالَ : (( إنه خطأ لا معنى لَهُ ؛ لأنه لَمْ يأتِ بِهِ قرآن ولا سنة ولا قياس ولا قَوْل صاحب )) ([49]) .
وَقَدْ بوّب ابن أبي شيبة في كتابه " المصنف " ([50]) باباً سماه : (( من قَالَ الجوربان بمنْزلة الخفين )) ، ونقل في ذَلِكَ آثاراً عن ابن عمر وعطاء ونافع والحسن .
ونستخلص مما تقدم : بأن الأصل هُوَ غسل الرجلين كَمَا هُوَ ظاهر القرآن ، والعدول عَنْهُ لا يجوز إلا بأحاديث صحيحة كأحاديث المسح عَلَى الخفين ، لذا جاز عِنْدَ جماهير أهل العلم العدول عن غسل الرجلين إلى المسح عَلَى الخفين ، أما أحاديث المسح عَلَى الجوربين ففي صحتها كلام كَمَا سبق ، فكيف يعدل عن غسل القدمين إلى المسح عَلَى الجوربين مطلقاً ، وإلى هَذَا الفهم ذهب الإمام مُسْلِم بقوله : (( لا يترك ظاهر القرآن بمثل أبي قيس وهزيل )) ([51]) . فلأجل هَذَا فإن عدداً من أهل العلم اشترطوا لجواز المسح عَلَى الجوربين قيوداً ليكونا في معنى الخفين ، ويدخل الجوربان في معنى الخفين ، فرأى بعضهم أن الجوربين إذا كانا مجلدين كانا في معنى الخفين ، ورأى بعضهم أنهما إذا كانا منعلين كانا في معناهما ، وعند بعضهم أنهما إذا كانا صفيقين ثخينين كَانَا في معناهما ([52]) .
والذي أميل إِلَيْهِ أن الجوربين إذا كانا ثخينين فهما في معنى الخفين يجوز المسح عليهما ، أما إذا كانا رقيقين فهما ليسا في معنى الخفين ، وفي جواز المسح عليهما تأمل ، والله أعلم .
الفصل الثاني
الاختلاف في الْمَتْن
وفيه تسعة مباحث :
المبحث الأول : رِوَايَة الْحَدِيْث بالمعنى، وأثر ذَلِكَ في اختلاف الفقهاء .
المبحث الثاني : مخالفة الْحَدِيْث للقرآن، وأثر ذَلِكَ في اختلاف الفقهاء .
المبحث الثالث : مخالفة الْحَدِيْث لحديث أقوى مِنْهُ ، وأثر ذَلِكَ في اختلاف الفقهاء .
المبحث الرابع : مخالفة الْحَدِيْث لفتيا روايه ، وأثر ذَلِكَ في اختلاف الفقهاء .
المبحث الخامس : مخالفة الْحَدِيْث للقياس ، وأثر ذَلِكَ في اختلاف الفقهاء .
المبحث السادس : مخالفة الْحَدِيْث لعمل أهل المدينة ، وأثر ذَلِكَ في اختلاف الفقهاء .
المبحث السابع : مخالفة الْحَدِيْث للقواعد العامة ، وأثر ذَلِكَ في اختلاف الفقهاء .
المبحث الثامن : اختلاف الْحَدِيْث بسبب الاختصار ، وأثر ذَلِكَ في اختلاف الفقهاء .
المبحث التاسع : ورود خبر الآحاد فِيْمَا تعم بِهِ البلوى ، وأثره في اختلاف الفقهاء .
..............................................................
المبحث الأول
رِوَايَة الْحَدِيْث بالمعنى
خلق الله الجنس البشري متفاوتاً في قدراته ، وما وهبه لَهُ بمنّه وفضله ، وَقَدْ أثّر هَذَا التفاوت عَلَى قدرات الناس في الحفظ ، فإنّك تجد الحَافِظ الَّذِي لا يكاد يخطئ إلا قليلاً ، وتجد الرَّاوِي الكثير الخطأ ، ومن ثَمَّ تجد بَيْنَ الرُّوَاة مَنْ يؤدي لفظ الْحَدِيْث كَمَا سمعه ، ومنهم مَنْ يحفظ المضمون ولا يتقيد باللفظ ، وَهُوَ ما نسميه " الرِّوَايَة بالمعنى " وفي جواز أداء الْحَدِيْث بِهَا خلافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاء عَلَى اثني عشر قولاً ([53]) :
الأول : التفرقة بَيْنَ الألفاظ الَّتِي لا مجال فِيْهَا للتأويل وبَيْنَ الألفاظ الَّتِي تحتمل التأويل ، فجوزت الرِّوَايَة بالمعنى في الأول دُوْنَ الثاني . حكاه أبو الْحُسَيْن بن القطان ([54]) عن بَعْض الشافعية ، وَعَلَيْهِ جرى الكِيَا الطبري ([55]) مِنْهُمْ ([56]) .
الثاني : جواز الرِّوَايَة بالمعنى في الأحاديث الَّتِي تشتمل عَلَى الأوامر والنواهي ، وأما إذا كَانَ اللفظ خفي المعنى محتملاً لعدة معانٍ فَلاَ تجوز . ويستوي في هَذَا الحكم الصَّحَابِيّ وغيره ([57]) .
الثَّالث : المنع مطلقاً من الرِّوَايَة بالمعنى ، وتعين أداء لفظ الْحَدِيْث . وبه قَالَ عَبْد الله بن عمر ([58]) ، وابن سيرين ([59]) ، وأبو بكر الرازي([60]) الجصّاص ([61])، وأبو إسحاق([62]) الإسفراييني ([63])، وبه قَالَ الظاهرية ([64])، وثعلب([65]) من النحويين ([66]) ، وَهُوَ الأشهر من مذهب مالك ([67]) .
الرابع : من يحفظ اللفظ والمعنى لا تجوز لَهُ الرِّوَايَة بالمعنى ، ومن كَانَ يستحضر المعنى دُوْنَ اللفظ جازت روايته بالمعنى . وبه جزم الماورديُّ ([68]) ، فَقَالَ : (( والذي أراه : أنَّهُ إن كَانَ يحفظ اللفظ لَمْ يَجُزْ أن يرويه بغير ألفاظه ؛ لأن في كلام رَسُوْل الله r من الفصاحة ما لا يوجد في كلام غيره ، وإن لَمْ يحفظ اللفظ جاز أن يورد معناه بغير لفظه ؛ لأن الرَّاوِي قَدْ تحمّل أمرين : اللفظ والمعنى ، فإن قدر عَلَيْهِمَا لزمه أداؤهما ، وإن عجز عن اللفظ وقدر عَلَى المعنى لزمه أداؤه لئلاّ يَكُوْن مقصراً في نقل ما تحمل )) ([69]) .
الخامس : عكس المذهب الَّذِي قبله ، فإن كَانَ يستحضر اللفظ جاز لَهُ الرِّوَايَة بالمعنى ، وإن لَمْ يَكُنْ حافظاً للفظ لَمْ يَجُزْ لَهُ الاقتصار عَلَى المعنى ، إذ لربما زاد فِيْهِ ما لَيْسَ مِنْهُ .
السادس : جواز الرِّوَايَة بالمعنى بشرط إبدال المترادفات ببعضها مَعَ الإبقاء عَلَى تركيب الكلام ؛ خوفاً من دخول الخلل عِنْدَ تغيير التركيب ([70]) .
السابع : إذا أورد الرَّاوِي الْحَدِيْث قاصداً الاحتجاج أو الفتوى جاز لَهُ الرِّوَايَة بالمعنى ، وإن أورده بقصد الرِّوَايَة لَمْ يَجُزْ لَهُ إلا أداؤه بلفظه ، وبه قَالَ ابن حزم ([71]) .
الثامن : جواز الرِّوَايَة بالمعنى للصحابة حصراً ، ولا تجوز لغيرهم ([72]) ، وإليه مال القرطبي([73]).
التاسع : تجوز الرِّوَايَة بالمعنى للصحابة والتابعين دُوْنَ غيرهم ([74]) . وبه قَالَ أبو بكر الحفيد في كتابه " أدب الرِّوَايَة " ([75]) .
العاشر : تجوز الرِّوَايَة بالمعنى فِيْمَا يوجب العِلْم ، ولا تجوز فِيْمَا يوجب العمل ، وَهُوَ وجه للشافعية ([76]) .
الحادي عشر : تجوز الرِّوَايَة بالمعنى في الأحاديث الطوال ، ولا تجوز في القصار ، حكاه بعضهم عن الْقَاضِي عَبْد الوهاب ([77]) المالكي ([78]) .
الثاني عشر : قَالَ جمهور الْعُلَمَاء من الفقهاء والمحدّثين وأهل الأصول بجواز الرِّوَايَة بالمعنى بشروط وضعوها لِذَلِكَ ([79]) ، وهذا هُوَ القول الراجح – إن شاء الله – .
وبناءً عَلَى ذَلِكَ فإن بَعْض الرُّوَاة قَدْ يسوّغ لنفسه رِوَايَة الْحَدِيْث بالمعنى عَلَى وجه يظن أنَّهُ أدى المطلوب مِنْهُ ، وَلَكِنْ بمقارنة روايات غَيْره يظهر قصوره في تأدية المعنى .
النموذج الأول : حكم الصَّلاَة عَلَى الجنازة في المسجد
اختلف الفقهاء في حكم الصَّلاَة عَلَى الجنازة في المسجد عَلَى أربعة مذاهب :
الأول : الصَّلاَة عَلَى الميت داخل المسجد الَّذِي تقام فِيْهِ الجماعة مكروهة كراهة تحريم سواء كَانَ الميت والمصلين في المسجد ، أو كَانَ الميت خارج المسجد والقوم داخله ، أو كَانَ الميت داخل المسجد والقوم خارجه ، وبه قَالَ الحنفية ([80]) .
وَقَالَ بَعْض فقهائهم : الكراهة للتنـزيه ([81]) .
واستثنى أبو يوسف – رَحِمَهُ اللهُ – المسجد الَّذِي بني أصلاً للصلاة عَلَى الجنائز ، فَلاَ تكره الصَّلاَة فِيْهِ ([82]) .
ولهم رِوَايَة : أن الميت إذا كَانَ خارج المسجد لَمْ تكره ، وهذا راجع لاختلافهم في تعيين علة الكراهية ، هل هِيَ خوف تلويث المسجد أم أن المساجد وجدت لصلاة المكتوبات ([83]) ؟
فمن قَالَ بالثانية –وهم جمهور فقهاء الحنفية- أبقى الكراهة في كُلّ الأحوال، ومن جعل العلة خوف تلوث المسجد نفى الكراهة، إذا كَانَ الميت خارج المسجد، وعلى هَذَا تُخَرَّج هَذِهِ الرِّوَايَة ، وإليه مال في المبسوط ([84]) والمحيط ، قَالَ ابن عابدين ([85]): (( وَعَلَيْهِ العمل وَهُوَ المختار )) ([86]) . وبه قَالَ أيضاً : مالك ([87]) وابن أبي ذئب ([88]) والهادوية من الزيدية ([89]) .
الثاني: أن الكراهة للتنـزيه، ولا بأس في أن يصلي عَلَى الجنازة من في المسجد إذا كَانَ الميت خارجه بصلاة الإمام ، وكذا إذا ضاق خارج المسجد بأهله ، وبه قَالَ مالك في المَشْهُوْر عَنْهُ ([90]) .
الثالث: تسن الصَّلاَة عَلَى الميت داخل المسجد وَهُوَ الأفضل، إذا أمن تلويثه ، فإن خيف حرمت . وبه قَالَ الشافعية ([91]) ، والظاهرية ([92]) .
الرابع : إباحة الصَّلاَة عَلَى الميت في المسجد عِنْدَ أمن المحذور وَهُوَ تلوث المسجد ، وبه قَالَ الحنابلة ([93])، والإمامية ([94])، وَهُوَ رِوَايَة المدنيين عن مالك، وبه قَالَ ابن حبيب([95]) المالكي ([96]) .
واستدل أصحاب المذهبين الأولين بِمَا روي من طريق ابن أبي ذئب، عن صالح بن نبهان ([97]) مولى التوأمة ، عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعاً : (( من صلى عَلَى جنازة في المسجد فَلاَ شيء لَهُ )) .
واختلف عَلَى ابن أبي ذئب في لفظه ، فرواه :
أبو داود الطيالسي([98]) ومعمر([99]) وسفيان الثوري ([100]) وحفص بن غياث ([101]) وعلي
ابن الجعد ([102]) ، ومعن ([103]) بن عيسى ([104]) عَنْهُ بهذا اللفظ .
ورواه وكيع ([105]) عَنْهُ ، بلفظ : (( فليس لَهُ شيء )) .
ورواه يَحْيَى بن سعيد ([106]) عَنْهُ ، بلفظ : (( فَلاَ شيء عَلَيْهِ )) .
ورواه ابن الجعد، عن الثوري([107])، عن ابن أبي ذئب ، بلفظ : (( فليس لَهُ أجر )) .
وهذا كله من تصرف الرُّوَاة بألفاظ الْحَدِيْث وروايتهم بالمعنى ([108]) .
وأعل الْحَدِيْث كَذَلِكَ باختلاط صالح مولى التوأمة ([109]) ، وأجيب : بأن رِوَايَة ابن أبي ذئب عَنْهُ قَبْلَ الاختلاط ([110]) .
النموذج الثاني :
حَدِيْث أبي هُرَيْرَةَ r أنَّ رَسُوْل الله r قَالَ : (( إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلّوا ، وما فاتكم فأتِمّوا )) ([111]) .
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيْث عن أبي هُرَيْرَةَ ستة من التابعين ، وحصل خلاف في لفظه عَلَى النحو الآتي :
عَبْد الرَّحْمَان بن يعقوب الحرقي . ولَمْ يختلف عَلَى ابنه فِيْهِ .
رَوَاهُ عَنْهُ بلفظ (( فأتموا )) ، أخرجه مالك ([112]) ، ومن طريقه الشافعي ([113]) وأحمد ([114]) والبخاري في القراءة خلف الإمام ([115]) والطحاوي ([116]) . وأخرجه من غَيْر طريق مالك : البخاري في القراءة ([117]) ومسلم ([118]) .
مُحَمَّد بن سيرين . وَلَمْ يختلف عَلَيْهِ فِيْهِ ، رَوَاهُ بلفظ : (( فاقضوا )) . وأخرج روايته أحمد ([119]) والبخاري في القراءة ([120]) ومسلم في الصَّحِيْح ([121]) .
أبو رافع ([122]). وَلَمْ يختلف عَلَيْهِ فِيْهِ ، رَوَاهُ بلفظ : (( فاقضوا )) . وروايته عِنْدَ أحمد([123]).
همام بن منبه ([124]) . رَوَاهُ عَنْهُ عَبْد الرزاق ([125]) ومن طريقه مُسْلِم ([126]) وأبو عوانة ([127]) والبيهقي ([128]) بلفظ : (( فأتموا )) .
ورواه أحمد ([129]) عن عَبْد الرزاق بلفظ : (( فاقضوا ))
أبو سلمة بن عَبْد الرَّحْمَان بن عوف . واختلف عَلَيْهِ في لفظه : مِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ بلفظ : (( فأتموا )) ، وممن رَوَاهُ عَلَى هَذَا الوجه :
1. الزهري : ورواه عَنْهُ :
مُحَمَّد بن أبي حفصة ([130]) ، عِنْدَ أحمد ([131]) .
عُقيل بن خالد الأيلي ، عِنْدَ أحمد ([132]) والبخاري في القراءة ([133]) .
شعيب بن أبي حمزة ، وروايته أخرجها البُخَارِيّ ([134]) .
يَحْيَى بن سعيد الأنصاري ([135])، عِنْدَ البُخَارِيّ في القراءة ([136]) .
يزيد بن الهاد ، كَمَا أخرجها البُخَارِيّ في القراءة ([137]) .
يونس بن يزيد الأيلي ، وروايته عِنْدَ مُسْلِم ([138]) وأبي داود ([139]) .
معمر بن راشد الأزدي ، عِنْدَ التِّرْمِذِيّ ([140]) .
2. عمر بن أبي سلمة([141]) ، رَوَاهُ عَنْهُ :
سعد بن إبراهيمO ، عِنْدَ ابن أبي شيبة ([142]) وأحمد ([143]) .
أبو عوانة الوضاح بن عَبْد الله ([144]) ، عِنْدَ أحمد ([145]) .
ومِنْهُمْ من رَوَاهُ عَنْهُ بلفظ : (( فاقضوا )) ، وممن رَوَاهُ عَلَى هَذَا اللفظ :
1. الزهري ، ورواه عَنْهُ :
يونس بن يزيد الأيلي ، عِنْدَ البُخَارِيّ في القراءة ([146]) .
سليمان ([147]) بن كَثِيْر العبدي ، عِنْدَ البخاري في القراءة ([148]) .
2. عمر بن أبي سلمة ، رَوَاهُ عَنْهُ :
سعد بن إبراهيم ، عِنْدَ عَبْد الرزاق ([149]) ومن طريقه أحمد ([150]) .
3. سعد بن إبراهيم ، عِنْدَ الطيالسي ([151]) وأحمد ([152]) وأبي داود ([153]) .
سعيد بن المسيب . واختلف عَلَيْهِ في لفظه ، مِنْهُمْ مَن رَوَاهُ عَنْهُ بلفظ : (( فأتموا )) ، وممن رَوَاهُ عَنْهُ عَلَى هَذَا الوجه :
1. الزهري ، رَوَاهُ عَنْهُ :
معمر بن راشد ، عِنْدَ عَبْد الرزاق ([154]) ومن طريقه أحمد ([155]) والترمذي ([156]) .
سُفْيَان بن عيينة ، في رِوَايَة الدارمي ([157]) من طريق أبي نُعَيْم عَنْهُ .
وروي أيضاً عَنْهُ بلفظ : (( فاقضوا )) ، رَوَاهُ عَنْهُ :
1. الزهري،ورواه عن الزهري سُفْيَان بن عيينة في رِوَايَة جمع من الحفاظ عَنْهُ،وهم:
عَلِيّ بن المديني ، عِنْدَ البُخَارِيّ في القراءة ([158]) .
أبو نُعَيْم الفضل بن دكين ([159])، في رِوَايَة البُخَارِيّ في القراءة ([160]) .
الحميدي عَبْد الله بن الزبير ، كَمَا في مسنده ([161]) .
ابن أبي شيبة ، في مصنفه ([162]) ، ومن طريقه مُسْلِم ([163]) .
أحمد بن حنبل ، في مسنده ([164]) .
ابن أبي عمر العدني ([165]) ، عِنْدَ الترمذي ([166]) .
عَبْد الله بن مُحَمَّد بن عَبْد الرحمان ([167]) عِنْدَ النسائي ([168]).
زهير بن حرب ، عِنْدَ مُسْلِم ([169]) .
عَمْرو الناقد ([170])، عِنْدَ مُسْلِم ([171]) .
أبو سلمة وسعيد بن المسيب مقرونين ، واختلف عَلَيْهِمَا فِيْهِ ، فرواه ابن أبي ذئب عن الزهري ، واختلف فِيْهِ :
فرواه حماد عن ابن أبي ذئب بلفظ : (( فاقضوا )) ، هكذا رَوَاهُ أحمد ([172]) ، وتابع حماداً آدمُ بن أبي إياس ([173]) عِنْدَ البُخَارِيّ في القراءة ([174]) .
ورواه ابن أبي فديك([175]) عن ابن أبي ذئب بلفظ : (( فأتموا )) ، أخرجه الشَّافِعِيّ([176])، وتابع ابن أبي فديك أبو النضر ([177]) عِنْدَ أحمد ([178]) .
وتابع ابن أبي ذئب في روايته الثانية ، إبراهيم بن سعد ، عِنْدَ مُسْلِم ([179]) وابن ماجه ([180]) .
وهكذا نجد أنّ الرِّوَايَة بالمعنى أثرت في صياغة الرُّوَاة لمتن الْحَدِيْث، أو المحافظة عَلَى نصه ، لِذَا نجد الحَافِظ ابن حجر يلجأ إِلَى الترجيح بالكثرة خروجاً من الخلاف الَّذِي ولَّدَتْهُ الرِّوَايَة بالمعنى ، فَقَالَ : (( الحاصل أنّ أكثر الروايات وردت بلفظ : (( فأتموا )) ، وأقلها بلفظ : (( فاقضوا )) … )) ([181]) .
ويمعن أكثر في الترجيح ، فَيَقُوْلُ : (( قوله : وما فاتكم فأتموا ، أي : فاكملوا : هَذَا هُوَ الصَّحِيْح في رِوَايَة الزهري ، ورواه عَنْهُ ابن عيينة بلفظ (( فاقضوا )) ، وحكم مُسْلِم في التمييز ([182]) عَلَيْهِ بالوهم في هَذِهِ اللفظة ، مَعَ أنَّهُ أخرج إسناده في صَحِيْحه ([183]) ؛ لَكِنْ لَمْ يسق لفظه، وكذا رَوَى أحمد([184]) عن عَبْد الرزاق، عن معمر، عن همام ، عن أبي هُرَيْرَةَ ، فَقَالَ: (( فاقضوا )) ، وأخرجه مُسْلِم عن مُحَمَّد بن رافع ([185]) عن عَبْد الرزاق بلفظ : (( فأتموا )) ([186]) .
أثر الْحَدِيْث في اختلاف الفقهاء (حكم المسبوق في الصَّلاَة) :
لا بدَّ لنا قَبْلَ الخوض في تفصيل أحكام المسبوق أن نتعرف عَلَى أحوال المأموم في صلاة ما ، وَهُوَ لا يخلو عن ثلاث أحوال :
المدرك : وَهُوَ من صلَّى جَمِيْع الصَّلاَة مَعَ الإمام .
اللاَّحق : مَن فاتته الركعات كلها أو بعضها مَعَ الإمام عَلَى الرغم من ابتدائه الصَّلاَة مَعَهُ ، كأن عرض لَهُ عذر كالنوم أو الزحمة أو غيرها .
المسبوق : مَن سبقه الإمام بكل الصَّلاَة أو ببعضها ([187]) .
والذي نودّ التعرف عَلَى حكم إدراكه للصلاة : المسبوق ، وَقَد اختلف الفقهاء في أنّ ما أدركه هَلْ هُوَ أول صلاته أم آخر صلاته ، وأنّ ما يأتي بِهِ بَعْدَ سلام الإمام هَلْ هُوَ أول صلاته أم أنَّهُ يبني عَلَى ما صلّى فتكون آخر صلاته ؟ عَلَى ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنّ ما أدركه المسبوق مَعَ الإمام هُوَ أول صلاته حكماً وفعلاً ، وما يقضيه بَعْدَ سلام الإمام آخر صلاته حكماً وفعلاً .
وروي هَذَا عن: عمر ، وعلي ، وأبي الدرداء ([188])، وعطاء ، ومكحول ، وعمر بن عَبْد العزيز ([189])، والزهري، وسعيد بن عَبْد العزيز ([190])، والأوزاعي ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وداود ، وابن المنذر .
وَهُوَ رِوَايَة عن الحسن البصري ، وابن سيرين ، وأبي قلابة ([191]) .
وإليه ذهب الشافعية ([192]) وَهُوَ رِوَايَة عن مالك ([193]) وأحمد ([194]) ، وبه قَالَ الهادوية والقاسمية والمؤيد بالله والزيدية ([195]).
واحتجوا بِمَا ورد في لفظ حَدِيْث أبي هُرَيْرَةَ: (( فأتموا )).
القول الثاني : أنّ ما أدركه المسبوق مَعَ الإمام هُوَ أول صلاته بالنسبة للأفعال ، وآخرها بالنسبة للأقوال ، بمعنى أنَّهُ يَكُوْن قاضياً في القول بانياً في الفعل .
روي هَذَا عن : ابن مسعود ، وابن عمر ، والنخعي ، ومجاهد ، والشعبي ، وعبيد ابن عمير ([196]) ، والثوري ، والحسن بن صالح ([197]).
وَهُوَ الرِّوَايَة الأخرى عن : الحسن البصري ، وابن سيرين ، وأبي ([198])قلابة ([199]). وبه قَالَ الحنفية ([200]) ، والمشهور من مذهب مالك ([201]) ، والأشهر في مذهب أحمد ([202]) ، وظاهر مذهب ابن حزم ([203]) .
واستدلوا بالرواية الأخرى في حَدِيْث أبي هُرَيْرَةَ : (( فاقضوا )) .
القول الثالث : أنّ ما أدركه المسبوق مَعَ أمامه هُوَ آخر صلاته قولاً وفعلاً ، وما بقي أولها .
روي هَذَا عن جندب بن عَبْد الله ([204])، وَهُوَ رِوَايَة عن مالك ([205]) وأحمد ([206]) .
النموذج الثالث
الاختلاف في رِوَايَة حَدِيْث أبي هُرَيْرَةَ في كفارة الإفطار في رَمَضَان
اختُلِفَ عَلَى الزهري في رِوَايَة هَذَا الْحَدِيْث ، إذ رَوَاهُ بعضهم عن الزهري ، عن حميد بن عَبْد الرَّحْمَان ([207])، عن أبي هُرَيْرَةَ ، أنّ رجلاً أفطر في رَمَضَان ، فأمره رَسُوْل الله r أن يكفر بعتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكيناً ، فَقَالَ : لا أجد فأُتِي رَسُوْل الله r بعرق تمر ، فَقَالَ : (( خذ هَذَا فتصدق بِهِ )) ، فَقَالَ : (( يا رَسُوْل الله ! ما أجد أحداً أحوج إِلَيْهِ مني )) فضحك رَسُوْل اللهr حَتَّى بدت أنيابه ، ثُمَّ قَالَ: (( كُلْهُ )) . والذي رَوَاهُ بهذه الرِّوَايَة مالك ([208]) ، ويحيى ابن سعيد([209])، وابن جريج ([210]) ، وأبو([211]) أويس ([212]) ، وعبد الله ([213]) بن أبي بكر ([214])، وفليح ([215]) بن سليمان ([216])، وعمر بن عثمان ([217]) المخزومي ([218])، ويزيد ([219]) بن عِيَاض([220])، و([221]) شبل ([222]) ، وعبيد الله ([223]) بن أبي زياد ([224]) ، والليث بن سعد في رِوَايَة أشهب بن عَبْد العزيز([225]) عَنْهُ ([226]) ، وسفيان بن عيينة في رِوَايَة نعيم بن حماد ([227]) عَنْهُ ([228]) ، وإبراهيم بن سعد في رِوَايَة عمار بن مطر ([229]) عَنْهُ ([230]) ، كلهم عن الزهري ، بِهِ . وروي مِثْل ذَلِكَ من طريق مجاهد ([231]) ومُحَمَّد ([232]) بن كعب ([233]) ، عن أبي هُرَيْرَةَ . وفي هَذِهِ الروايات الكفارة عَلَى التخيير : عتق أو صيام أو إطعام ، وخالفهم من هم أكثر مِنْهُمْ عدداً فرووه ، عن الزهري ، عن حميد بن عَبْد الرَّحْمَان ، عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ : (( جاء رجل إِلَى النَّبِيّ r ، فَقَالَ : هلكت يا رَسُوْل الله ، قَالَ : وما أهلكك ؟ قَالَ : وقعت عَلَى امرأتي في رَمَضَان … )) ، وجعلوا الكفارة فِيْهِ مقيدة بالترتيب، والذي رَوَاهُ بهذا اللفظ سُفْيَان بن عُيَيْنَةَ ([234]) ، والليث بن سعد ([235])، ومعمر ([236])، ومنصور بن المعتمر ([237])، والأوزاعي ([238])، وشعيب([239])، وإبراهيم بنسعد([240])، وعراك ([241]) بن مالك ([242])، وعبد الجبار ([243]) بن عمر ([244])، وعبد الرَّحْمَان ([245])
( السير 17/176 ) فلو أنه وافق الْحَاكِم عَلَى جميع ما سكت عَلَيْهِ لما قَالَ ذَلِكَ . وهذا دليل من مئات بَلْ ألوف من الأدلة عَلَى أن أحكام " التلخيص " بشأن تصحيح الأحاديث ليس كلام الذهبي بَلْ هُوَ كلام الْحَاكِم اختصره الذهبي فإن هَذَا الْحَدِيْث في " التلخيص " 1/169 : (( عَلَى شرط م )) وفي السير ما يخالف هَذَا الحكم . ومن خطأ الشيخ أحمد شاكر في هَذَا الْحَدِيْث أنه قَالَ : (( صححه عَلَى شرط مُسْلِم، ووافقه الذهبي )) المسح عَلَى الجوربين : 5 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق